ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
وأما توفيق الحكيم، فتكاد كل مسرحية من مسرحياته تفصح عن هذه العقيدة، وهي عقيدة طالما ساقها الكاتب صريحة لا تحتاج منك إلى استدلال وبحث؛ فهو يؤمن أعمق الإيمان بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه عقله المحدود بأنه قادر على فرض إرادته، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة ، فلا مندوحة للإنسان عن حصر معرفته العقلية في حدودها، تاركا لإيمانه ما وراء تلك الحدود، وإنا لنرى الكاتب في «عصفور من الشرق» يخاطب الغرب، الذي أخذه الغرور بعلمه، فيقول: «ماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع ...» ولكنه برغم هذه النبرة اليائسة من العلم وحضارته، لا يريدنا أن نستغني عنه؛ فهو لا يفتأ يذكرنا مسرحية بعد مسرحية، أن على العقل أن يرتاد الكون إلى آخر مستطاعه، ثم يسلم الزمام بعد ذلك لإدراك الوجدان.
وتقرأ العقاد نثرا أو شعرا، فترى العقيدة نفسها؛ فالكون عنده روح نلمسها بيد من المادة؛ أي إن الروح هي حقيقة الوجود، والمادة وسيلتنا إلى معرفتها، وأن هذه الطبيعة بكل ما فيها لهي ألسنة تنطق بالروح الكامنة وراءها؛ ولذلك فليس العقل، وليست الحواس (وهذه هي أدوات العلم) بمستطيعة وحدها أن تدلنا على الحق، وإنما وسيلتنا إلى إدراك الحق هي الوجدان.
6
ومن الأفكار التي ميزت عصرنا، واستجابت لها الثقافة العربية الحديثة بضروب شتى من المواجهة العنيفة التي بلغت حد الثورات الشعبية الجارفة، فكرة «القومية»، وهي فكرة تمتد جذورها إلى أول يوم قامت فيه تجمعات بشرية، لكنها اكتسبت في عصرنا أبعادا جديدة، جعلتها - مع التجوز - تعد من معالم العصر البارزة، فمن أعجب المفارقات أن هذا العصر قد شهد من وسائل الاتصال ما لم يحلم به أي عصر مضى، بحيث باتت أبعد مطارح الأرض رهنا بدفعة صغيرة من إصبع، فإذا أنت هناك، ومع ذلك؛ فقد فرقت بين شعوب هذا العصر فواصل لم يشهدها عصر آخر، فكأنما خشي الناس - من أبناء هذا الوطن أو ذاك - أن تغمرهم موجة التقارب، فإذا هم قد أضاعوا خصائصهم المميزة، فطفقوا يشددون القبضة على كل علائم التمييز: اللغة والعادات والثياب والفنون الشعبية، وغيرها وغيرها، فزاد ذلك من ظهور الفوارق القومية شدة، وكلما كان اللقاء بين الأمم على صعيد دولي أوسع؛ كان الحرص على إبراز الخصائص القومية أشد وأقوى.
ولقد تلازمت فكرة القومية في بلادنا بفكرة الحرية السياسية، وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ لأننا وقد خرجنا من سلطان الأتراك لنقع في قبضات المستعمر الغربي، لم نجد حافزا يجمع قوانا في حركة المقاومة أفعل أثرا من الدعوة إلى ضم صفوفنا تحت راية القومية، وإذن فنستطيع القول بأن صدامنا مع المستعمرين، كان هو الذي ألهب شعورنا بقوميتنا، لكنها لم تكن «قومية» بمعنى واحد على طول الطريق، بل بدأت قوميات إقليمية، وانتهت إلى قومية عربية مشتركة، وتخللت هذه وتلك نداءات إلى قوميات طائفية؛ كالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان.
والذي يهمنا في موضوعنا هذا، هو ما أحدثته هذه الحركة القومية بشتى معانيها وأهدافها، من صلات ثقافية بيننا وبين مصادر الثقافة العصرية، وحسبنا في هذا المجال أن نذكر أن عشرات المؤلفين الذين كتبوا مئات البحوث والكتب في موضوع القومية، يكادون جميعا يكونون ممن استمدوا ثقافتهم من معين الثقافة الغربية، ويندر جدا أن تجد مؤلفا واحدا ذا خطر في هذا الميدان ممن اقتصرت ثقافتهم على تراثنا العربي وحده، فماذا يعني ذلك إلا أن تكون فكرة «القومية» من النقاط المهمة التي حدثت عندها مواجهة ثقافية بيننا وبين عصرنا؟ لقد كنا في هذا الميدان كالمحارب الذي يستمد سلاحه من عدوه ليحاربه به، اقرأ مثلا هذه الفقرة المأخوذة من خطاب لمفكر عربي ألقاه في مؤتمر عربي: «إن الجماعات في نظر علماء السياسية لا تستحق هذا الحق (حق القومية الواحدة) إلا إذا جمعت - على رأي علماء الألمان - وحدة اللغة ووحدة العنصر، وعلى رأي علماء الطليان وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب ساسة الفرنسيس وحدة المطمع السياسي. فإذا نظرنا إلى العرب من هذه الوجوه الثلاثة، علمنا أن العرب تجمعهم: وحدة لغة، ووحدة عنصر، ووحدة تاريخ، ووحدة عادات، ووحدة مطمع سياسي؛ فحق العرب بعد هذا البيان أن يكون لهم - على رأي كل علماء السياسية دون استثناء - حق جماعة، حق شعب، حق أمة.» فلنلحظ هنا كيف يبني المفكر العربي حق العرب في أن يكونوا قومية واحدة، على مذاهب الغرب ، ليكون مفهوما لأبناء الغرب حين يتحدث إليهم بلغتهم.
وإنه لجدير بالذكر هنا أن نقول إنه إذا كانت القومية حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك درجة ثقافتهم، ولم تعد فكرة تقتصر على علية المثقفين، أو حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك هو لرجال الثقافة العربية الحديثة، الذين كتبوا وكتبوا، وشرحوا وشرحوا، حتى بلغت الدعوة كل فرد من أبناء الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلربما وجدت هذه الأمة مختلفة على قادة السياسة، لكنك واجدها على اتفاق يكاد يكون تاما على المثقفين، فالشاعر الكبير، والكاتب المرموق، يتخطى حدود إقليمه ليصبح شاعر الجميع، وكاتب الجميع، بغير تمييز ولا تفرقة، فلا نقول عن أحمد شوقي إنه من مصر، ولا أمين الريحاني إنه من لبنان، ولا معروف الرصافي إنه من العراق، ثم لا نميز بالقومية الإقليمية طه حسين، أو العقاد، أو الزهاوي، إلا على سبيل استيفاء الملامح الفردية لكل منهم، وأما من حيث الواحد منهم شاعر أو كاتب، فهو عربي وكفى.
ولعل فرعين تفرعا من «القومية» بمعناها السياسي، أن يكونا أجدر باهتمامنا في موضوعنا، وهما: اللغة العربية، وهل نأخذ بعامياتها المتنوعة، أو بفصحاها المشتركة؟ ثم اللغة العربية، وهل نكتبها بأحرف عربية أو نكتبها بأحرف لاتينية؟ فهاتان مشكلتان اشتجر حولهما خلاف بين المثقفين، حتى لنراهما تكونان جانبا ملحوظا في تاريخنا الثقافي الحديث، نعم، إن مشكلة الكتابة بأحرف عربية أو لاتينية قد أوشكت على الزوال، بعد أن اشتد صراخها في ثلاثينيات هذا القرن وأربعينياته، لكن مشكلة الفصحى والعامية ما زالت قائمة على أشدها، وربما كان ذلك بسبب النهضة المسرحية، التي استدعت منا تفكيرا جادا في لغة الكتابة المسرحية ماذا تكون، ثم تتسع المشكلة عند نفر قليل، لتشمل الكتابة على إطلاقها.
لقد ارتبطت فكرة «القومية» بالاهتمام باللغة ارتباطا عضويا، لا يجعل إحداهما بمعزل عن الأخرى، مهما يكن موقف الكاتب، لكننا نستطيع المجازفة بشيء من التعميم المقبول، إذا قلنا إنه كلما أحس الكاتب رغبة مخلصة في تدعيم للقومية العربية ؛ أحس بالتالي ضرورة أن تحافظ اللغة الفصحى على مقوماتها، والعكس صحيح، فكلما أراد الكاتب - عن قصد مباشر أو غير مباشر - مناهضة القومية العربية لأي سبب من الأسباب - طائفيا كان السبب أو ثقافيا - أراد بالتالي أن يلتمس وسيلة يتذرع بها إلى التخلص من الفصحى وما يتبعها من أصول وقواعد ومفردات، ولقد رأينا جميع من تناولوا القومية العربية بالبحث العلمي من كتابنا - ساطع الحصري، وأنطون زريق، وحازم نسيبة، وغيرهم كثيرون - يختلفون حول العوامل المكونة لتلك القومية، أيها يتقدم أيها في قوة الأثر، لكنهم يتفقون على أن اللغة لها المكانة الأولى في بناء القومية العربية.
ومجرد الاهتمام باللغة - على أي وجه كان - هو اهتمام بتجديد العلاقة بين حاضرنا وماضينا، لكننا نزيد الأمر تخصيصا فنقول - مع إدوارد سابير في كتابه «اللغة» - إن اللغة من حيث هي أداة للثقافة، تقع في مستويين؛ فهناك المستوى الذي تكون فيه العلاقة بين اللغة والواقع الحسي علاقة مباشرة، أو كالمباشرة، فإذا تحدث المتحدث كان السامع يتابع حديثه وعينه على شئون الواقع، ليطابق بين الرمز اللغوي من جهة، وأوضاع العالم الفعلية من جهة أخرى، لكن هنالك مستوى آخر للغة، وذلك حين يصوغ المتكلم أو الكاتب عبارته، فإذا بها تقع على أذن السامع وكأنها هابطة من مصدر مجهول، وهنا ترانا نصغي، وندرك الحق فيما نسمعه، دون أن يدور في خلدنا أن يكون مصدر هذا الحق ما حولنا من شئون الحياة الجارية، فكأنما أمثال هذه العبارات ليس لها صاحب يحتكرها، أو كأن الوجود كله عندئذ هو الذي يتكلم العربية بهذه العبارات، ليصور بها جوانب من الحقائق الأزلية الأبدية.
نامعلوم صفحہ