الآملون فريقان: فريق أملهم غفلة عن ثقل الحياة وعظمها وبلادة وغباء، وفريق يعدون الأمل واجبا عليهم وفرضا فرضته الطبيعة، وأنا من الفريق الثاني، ومن أجل ذلك لم يكن أملي مستطيلا مستمرا مستأنفا؛ لأن النفوس تعجز عن أن تجعل الفرض كذلك.
يحسب كثير من الناس أنهم يعدون الأمل واجبا، وهم مخطئون، فإن أمل الجمهور غفلة، وهم غافلون عن أن أملهم غفلة لأنهم غافلون عن غفلتهم، ومن أجل ذلك لا يفهمون سبب شكوى الأديب من عظم الحياة، ويحسبون أن ذلك ضعف فيه، ولو أنهم أفاقوا من غفلتهم ورأوا عظم الحياة كانوا كمن أقام طويلا في حجرة مظلمة ثم خرج منها ونظر في عين الشمس فتأذت عينه بتلك النظرة، فالأديب يشكو الضياء لأنه ينظر في عين الشمس، وهم لا يفهمون شكواه لأنهم في حجرة مظلمة، ولكنهم يقولون له: أنت جنيت على نفسك، لم تنظر في عين الشمس؟ ويحهم إذن؛ كيف يعرف سر الحياة إذا بقي في تلك الحجرة المظلمة؟ ولكنهم يقولون: هذا غرور منك، والغرور مدعاة الأذى، إذا كان الطموح إلى منازل العرفان غرورا فلا خير في الحياة.
الحياة مثل حمل ثقيل من الذهب على كتف رجل ضعيف، إذا وضعت هذا الحمل على ظهر حمار من أهل الغفلة والضمير النائم لم يحس عظمه، ولكنك إذا وضعته على كتف الأديب أحس عظمه وجلالته. إن جلالة الحياة هي التي تفزعني وتلجئني إلى اليأس في بعض الأحايين، تلجئني إلى اليأس لأني أرى الناس غافلين عنها، وإنما يلهيهم اهتمامهم بصغيرات الأمور.
ترى الصانع يسيل عرقا من فرط إجهاده قواه، فكأنه قصر من الثلج من قصور الشتاء التي يبنيها الروس، وقد رماها الصيف بلفحات حره، وإنك لتكاد تسمع نبضات عروقه البارزة، فكأنها تريد أن تفتق جلده، فتسعد ذلك العرق السيال الذي يشهد بما يعانيه من الجهد والبلاء، وهو تارة يترنم بأغاني الوله وأشعار الغرام، وتارة يطلق من شفتيه صفيرا يحسبه السامع صادرا من قلب ملأ السرور نواحيه وتملكته القناعة والرضاء بقسمة المقدور، ولو فتح له صدر ذلك العابث بالأغاني لوجد أحزانا تنتاب، وهواجس تعتور، وعواطف تتواثب، فما ميدان القتال بأعظم هياجا من قلب ذلك الصانع.
كذلك الغني ذو الأبهة والجلال؛ تراه في عربته الفاخرة، وعلى لباسه رواء يضارع ذلك البشر الذي يجول في أنحاء وجهه فيحسده الرائي، ولو علم الرائي أن سكينة ذلك المثري مكذوبة، وأن بين جنبيه قلبا يعاني من آلام المعيشة قدر ما يعانيه الفقير في كسر بيته المتهدم، وربما كان الفقير يفضله في أنه لا يبالي النعيم إذا أدبر مثل مبالاته إياه، لو علم الرائي ذلك لخفض من غلواء بغضه وحسده.
إن خاطرا واحدا يمر على ذهن الإنسان قدير على أن يفسد عليه نعيم يومه، وإن حادثا من صروف الدهر لكفيل بإتلاف حلاوة المعيشة، فكيف لا يتمكن اليأس من نفوسنا إذا كانت هذه حياتنا.
على أن الإنسان مودع فيه ميل طبيعي إلى الحزن تغطي عليه الغفلة عن شئون الحياة واختلالها كما يغطي الرماد وجه النار الكامنة، فإذا صحا من تلك الغفلة هاج به اليأس هياج الأسود في أقفاصها، وانتزع منه السكينة والاطمئنان، وكاد يطفئ مصباح الأمل الذي تستضيء به النفس حتى يرى الحياة عبثا، لا مفرقا بين حالات الغنى والفقر، ولا بين المساعي المختلفة والأشغال المتنوعة؛ لأنه يحسب أن كل ما يقضي الوقت في معالجته عبث، ثم يعتريه الملل والضجر راغبا في عيشة أرقى من هذه العيشة التي يطوف ما يطوف في أنحائها ولا يعرف الغاية التي يسعى إليها.
كلما بلغ الإنسان مبلغا من العرفان الصحيح بأحوال هذه الحياة، وكانت عواطفه مهيجة من أجل اختلال شئونها، كان قريبا من منازل اليأس.
استعرض النفوس البشرية وارفع عنها ذلك الحجاب الذي وضعه عليها التحفظ والاحتجاز والنفاق والحياء، تجد فيها من الدناءة والقسوة والقبح ما يجعل الشك في اليقين، والقلق في الاطمئنان، واليأس في الأمل.
هذا كارليل، الفيلسوف الكثير الثقة بالنفس البشرية، ذو الأمل الضخم الذي أخرج إلينا عقيدة «الأمل والعمل»، كان على ذلك ينتفض مذعورا في مجلسه، ثم تثور به السوداء فيقول: لا أدري كيف عشت هذه السنين وأنا لا أعرف ما أنا يريد بقوله «أنا» النفس البشرية. ألا ترى أن الإنسان إذا بحث في دناءة النفس وقسوتها وقبحها، وكيف أن بعض هذه الأوصاف تأخذها بالوراثة وبعضها بتأثير البيئة الفاسدة وبعضها بسبب نظام التربية الفاسدة، فيعترضه في بحثه مسائل منها معنى الحياة والسبب الذي من أجله خلقنا والغاية التي نسعى إليها، كل هذه مسائل لا يقع عليها الإدراك مهما أكثر الناس من القول فيها.
نامعلوم صفحہ