ألا يجول بخاطرك أيها القارئ أن قائل هذه الأبيات قد استعار براعة السياسي المدرب والسفير الحكيم رسول الصلح؟
إذا سمع الشاعر الحزين غريدا يرسل النغمات العذاب التي يخفق لها القلب خفوق الثوب في مهب الريح، زعم أنه ينوح من أجل شقائه، وإذا رأى الورد يقطر بالندى حسب أنه يبكي عليه، وإذا رأى النهر يتدفق قال: إن خريره من أنينه وماءه من بكائه، وإذا سمع الريح الهوجاء قال: إنها خلست هياجها وقلقها من هياجه وقلقه، وإذا عانق النسيم أوراق الغصن الزاهي حسب أنه استعار حنينه، وإذا رأى السحب ترخي على السماء سترا قال: إنها مقدودة من همومه وأحزانه. أما القطر فهو من آماقه والظلام حداد الليالي عليه، والنجوم جمرات أشجانه وأشواقه، ثم لا يبقي شيئا من أعضاء الطبيعة حتى يجعله من خدامه وأتباعه، مثل ذلك قول الشاعر الأندلسي:
علي وإلا ما بكاء الغمائم
وفي وإلا ما نواح الحمائم
وعني تطير الريح صرخة طالب
لثأر ويبدي البرق صفحة صارم
يا ابن آدم، أكثر أنانيتك وإعلاءك لشأن نفسك وإعجابك بها، وما أكثر غرورك وأنت الضئيل الحقير. إن للطبيعة وأجزائها لشئونا إذا استعرضتها لحق الهزال شأنك. تقول إن الطير يبكي على مصرعك وهو يتغنى بالغزل الرقيق، وتقول إن السحب مقدودة من همومك، وهي تملأ وجه السماء لترضع بناتها الأزهار من لبانها، فإذا شئت رأيت أن أجزاء الطبيعة ملؤها الجلال والحب والحسن والرقة، فكيف ترضى لنفسك أن تكون ملؤها الدناءة والقساوة والطمع، إذا كنت لا تستمد شرف النفس وجلالها من الطبيعة فدع هذه العروس مطمئنة في خدرها، ولا تفسد هواءها بأنفاسك الخبيثة ونظراتك اللئيمة، ولا تدنس أرضها المقدسة بقدمك التي لا تسعى إلا إلى إرضاء شرهك أو بغضك أو دناءة نفسك، فأنت كالحشرات التي ترود في جنباتها.
لقد كان القدماء أصدق منا نظرا في الأمور؛ لأنهم لم تتملكهم الأنانية كما تملكتنا، فزعمنا أن الطبيعة ليس لها حياة مثلنا. ألا يرى المرء في كل ورقة من أوراقها من المعاني أشياء كثيرة؟ أليس ذلك لأن لها حياة أجل من حياتنا التي ليس فيها من المعاني سوى الإحساس بعبثها؟ وسبب ذلك أن حياتها - بالرغم من تغاير أطوارها - مطمئنة، وأما حياتنا فهي أسيرة البغض والحسد واللؤم. انظر إلى الطبيعة ترى الأرض تعانق الضياء، والضياء يغازل الماء، والغصن يميل على الغصن، والموجة تتسرب في خلال الموجة. فهما أولى ببيت إسماعيل باشا صبري:
كأن صديقا في خلال صديقه
تسرب أثناء العناق وغابا
نامعلوم صفحہ