تین مرد اور ایک عورت
ثلاثة رجال وامرأة
اصناف
وكان في حديقة البيت جوسق (كشك) سداسي الشكل مصنوع من أعواد الخشب، وقد تعلق به وارتقى فيه وظلله النبات، وفيه مائدة عليها بقية من لحم، وجزلات من رغفان، وقطع من مخلل الخيار واللفت والجزر والباذنجان، وقرص متصدع من جبن حالوم، وزجاجات جعة بعضها نصفان أو دون ذلك، والبعض لا يزال في الثلج وعليه سداده لم ينزع، وقد جلس إلى المائدة ثلاثة أمامهم الأقداح وقد أبطئوا بها بعد أن كادوا يمتلئون من الطعام والشراب.
وأول هؤلاء الثلاثة وأولاهم بالتقديم - وإن لم يكن أحقهم بالتعظيم - عياد وهو شركسي الأصل، يؤمن بالشارب المفتول، والعين الحمراء والبرجمة في الكلام، والزعقة الشديدة حين ينادي خادما أو غيره، وإن كان الجرس قريبا، وزره يتدلى فوق المائدة من سقف الجوسق. ولا نحتاج أن نقول إنه شخيص لحيم، وإنه شديد الوطء على الأرض، وإنه لا خير فيه ولا شر، إلا أن يجيء الخير عفوا، أو يجيء الشر من قلة العقل أو النفخة الكذابة.
والثاني في هذا المجلس: الأستاذ حليم، وهو مدرس قديم ناهز الخمسين، وآثر الراحة، فاعتزل العالم مكتفيا بدخل خاص يسير، ومعاش يقبضه كل شهر من الحكومة وهو قاعد، وهو ضاوي الجسم خفيف اللحم معروق الوجه، دقيق عظام اليدين والرجلين، يأكل كثيرا ولا يرى أثر ذلك عليه في بدنه، وحديثه طويل فلنرجئه إلى أوانه.
والثالث شاب في العقد الثالث، بتع شديد المفاصل، سريع خفيف حسن الصورة، بياض وجهه تعلوه حمرة، وعلى جلده نمش قليل، وهو خطيب محاسن بنت عياد، وقد آثره على غيره لبياض وجهه، زاعما أن هذا يسلكه مع الشراكسة والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغبر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه فلاح ابن فلاح جلا عن قريته بعد أن أضاع أرضه فيها، فشب ابنه حضريا صرفا وقاهريا محضا، وتعلم الهندسة وفاز بوظيفة في الحكومة، واسمه في شهادة الميلاد محمود، ويدلله أهله تدليلا سمجا فيقولون: «حودة»، ومن الإنصاف أن نقول إنه يستسخف هذا الاسم، وكان يثور على من يدعوه به، ثم رأى أن هذه حكاية شرحها طويل فاكتفى بألا يجيب كأن المنادى غيره.
وكان عياد أكولا شريبا، ولم يكن هذا يعني أحدا سواه، ولكنه كان إذا آكل أحدا أو شاربه، لا يزال يحضه ويستحثه، ويزين له الطعام ويغريه به، ويوالي عليه الكأس دراكا، وكان من السهل على محمود أن يسايره؛ فإنه شاب قوي لا يتعذر عليه - بل لعله يباهي بأنه يستطيع - أن يكثر مخلطا من صنوف الطعام مستقصيا لها.
أما الأستاذ حليم فكان رجلا قد كبر ، فهو يؤثر أن يكون زهيدا لا يأكل إلا دون الشبع، ويأبى له ما عودته مهنة التعليم من المحافظة على وقاره واحتشامه، أن يشرب حتى يتطرح، كان إذا ألحف عليه عياد يرفع الكأس ويميلها على فمه، فعل الشارب، ثم يردها وما حسا إلا قطرة أو بلة ريق، على حين يعب عياد العبة الروية ويضع الكأس كأنما يدق بها المائدة ويقول: «اهح» ممطوطة ممدودة، وكان هذا دأبه حين يشرب؛ يعكف على الشراب جزافا غير حافل بالكيل كأنما هو في سباق أو رهان، ولا يرضيه إلا أن يرى غيره عاكفا مثل عكوفه، فإذا استأنوا كبر في ظنه أنه قصر في التحفي والإكرام، وكان واسع الخلق؛ لا يدع عنده شيئا من الجهد في إكرام ضيفه، ويجد في انبساط نفسه بالكرم راحة ولذة وزهوا، ولكنه كان إذا شرب يثقل على ضيفه ويضجره بالإلحاح عليه أن يقبل على ما قدم له.
وعبثا كان الأستاذ حليم يقول لعياد: يا أخي كن منصفا؛ إن معدتي حوصلة دجاجة، فأين تريد أن أدس كل هذا الطعام والشراب؟ وهو لو وضع في كفة ميزان ووضعت أنا كلي بما علي من ثياب في كفة أخرى، لرجح علي.
فيقول عياد وهو يلمس شاربيه المصمغين - أو هكذا يخيل إلى المرء؛ فما كانت شعرة واحدة تنفلت عن محلها في هذين الشاربين المبرمين بل المجدولين، أو تنطفئ لمعتها: كلام فارغ؛ أنا والله رأيت شابا أصغر منك جسما يأتي على قصعة فت ويجرفها جرفا، وكانت لأربعة فسبقهم إليها ومسحها ولحسها.
فيقول الأستاذ حليم: نعم، معدة جيدة قوية تحتمل الكظة، ولكن معدتي طاعنة في السن، فهي أشبه بمخلاة قديمة. هات لي معدة فتية وأنا أريك كيف أقش وأجرف.
ولكن عيادا يأبى أن يقتنع، بل يأبى أن يجعل باله إلى ما يقال، أو يسمح للحجة بأن تدخل رأسه وتكلفه عناء التفكير فيها؛ لأن معدته هو هي المحك، والمقياس حجة، وما دامت هذه دائبة كالعصرين من دهره في غير كلال أو فتور، فلا عذر لمعدة أخرى إذا قصرت أو ونت ، ولو كانت أقدم من هرم خوفو أو جبل المقطم.
نامعلوم صفحہ