وفضلا عن ذلك فإن «المقال في المنهج» كما كان بين أيديهم كما خرج من مطبعة جان مير بلدين في 5 يناير 1637 كان يختلف عن الكتاب الذي نقرؤه اليوم، أو إن شئتم كان بالإضافة إليهم غير ما هو بالإضافة إلينا.
فبالإضافة إلينا «المقال» كتاب صغير لطيف يحوي بالأخص وقبل كل شيء الترجمة الروحية لديكارت، ثم القواعد الأربعة المشهورة، ولم تعد لنا حاجة بها، وإنما نستبقي منها خاصة المواضع المتعلقة ب «الأفكار الجلية الواضحة » والتي تفرض علينا ألا نعتبر حقا إلا ما نراه كذلك بجلاء، وأن نقود أفكارنا بنظام مبتدئين بأبسط الأشياء وأسهلها، ثم هو يحوي عجالة في الأخلاق عليها مسحة رواقية، وفيها حرص على مجاراة العرف، وبحثا قصيرا في الميتافيزيقا عويصا للغاية، فيه الجملة المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» وبيان - هام جدا للمؤرخ، ولكنه ممل جدا للمثقف من أهل عصرنا - لتجارب علمية أجريت، أو كان يجب أن تجرى، وكلنا يعلم من غير شك أن كان «للمقال» ملحق هو عبارة عن ثلاث رسائل: واحدة في البصريات، وأخرى في الآثار العلوية، وثالثة في الهندسة، لا نقرؤها ولا تثبت في طبعاتنا العامة.
أما معاصرو ديكارت فقد كان الحال عندهم على خلاف ذلك؛ فإن «المقال في المنهج» أو بحسب عنوانه التام «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل، والبحث عن الحقيقة في العلوم»، مضافا إليه علم البصريات والآثار العلوية والهندسة، وهي تطبيقات هذا المنهج، نقول: إن «المقال» كان كتابا ضخما في 527 صفحة بقطع الربع يحوي ثلاث رسائل علمية ذات جدة مدهشة وأهمية عظمى، فرسالة البصريات كانت تشتمل بنوع خاص على نظرية في انكسار الضوء، وعلى دراسة للآلات الجديدة «كلتلسكوب، والمنظار» التي كانت قد غيرت علمنا بالعالم، ورسالة الآثار العلوية؛ أي الظواهر الجوية تتحدث عن السحاب، والمطر، والبرد، وقوس قزح، وانعكاس صورة الشمس في السحاب، مفسرة بأبسط الوسائل، وأكثرها مطابقة للطبيعة، وأكثرها غرابة أيضا بالإضافة لذلك العصر، وعن حركة المادة المالئة للفضاء، وانعكاس الماء في قطرات المطر، وأخيرا رسالة الهندسة أي رسالة في الجبر قلبت الأفكار المتعارفة في الرياضيات بإيجاد مشاركة بين موضوعين مختلفين اختلاف المكان وهو كمية متصلة، والعدد وهو كمية منفصلة، وجاءت هذه الرسالة في «الهندسة» بنظرية عامة للمعادلات، واصطلاح جديد للرمز للكميات، هو الاصطلاح الذي ما نزال نعول عليه، وجاءت أيضا فيما جاءت به بحل لطيف لمسألة بابوس الشهيرة، وفيما عدا ذلك كان الكتاب يحتوي على مقدمة طويلة مطبوعة على حدة، ولصفحاتها ترقيم خاص هو «المقال» بالذات، يقدم للقارئ فضلا عن برنامج لأبحاث علمية منشط للتفكير غاية التنشيط، موجزا في الميتافيزيقا غريبا وجريئا جدا، ورسالة قصيرة في «المنهج»، وأخيرا ترجمة لحياة المؤلف الروحية.
فبالإضافة إلى معاصري ديكارت وإلى ديكارت نفسه «المقال في المنهج» مقدمة لعلم جديد، وإعلان لثورة فكرية ستتلوها ثورة علمية كثمرة لها، ولقد نسينا نحن أنه مقدمة، ولنا في ذلك بعض الحق من غير شك من حيث إن الرسائل العلمية البحتة التي كانت تنطوي عليها دفتا المجلد قد تجاوزها العلم فشاخت وسقطت، بينما «المقال» ما يزال محتفظا بنضارته، على أني مع ذلك أريد أن أذكركم اليوم بأن «المقال» إنما هو مدين بحظه ونفوذه وأثره لتلك الرسائل العلمية.
ولم تكن الكتب في المنهج نادرة لعهد ديكارت، وأحدثها عهدا «المنطق الجديد» لبيكون جاء هو أيضا بمنهج جديد، منهج يؤدي إلى علم جديد؛ إلى علم عملي للعلم النظري القديم، ولقد أعلن ديكارت من ناحيته هذا العلم الجديد الذي كان ينتظر منه تغيير الحياة الإنسانية وإقامة الإنسان «سيدا، ومالكا للطبيعة»، ولكن ديكارت لم يقتصر على إعلانه، بل جاء هو بذلك العلم الجديد وأعطانا نتائج، ولم يكن منهجه مجردا، ولكنه كان يلخص تجربة حقيقية ويصوغها في قانون، وهذه التجربة هي التي كانت تبرهن على قيمته وتسمح بتفهم المعنى الحقيقي العميق للقواعد المبهمة التي نجدها في «المقال».
وفي الواقع من ذا الذي وضع موضع الشك أن الفيلسوف من حيث هو كذلك لا ينبغي أن يذعن إلا لوضوح العقل ليس غير؟ ومن ذا الذي - إلى أيامنا هذه على الأقل - وضع موضع الشك ما للفكرة الجلية على الفكرة الغامضة من قيمة عالية؟ لا أحد، كما أن أحدا لم يضع قط موضع الشك قيمة النظام وضرورة الابتداء بأبسط الأشياء وأسهلها، لا على العكس بأصعب الأشياء وأكثرها تقيدا، هذه أمور متعارفة في الفلسفة، ولكن ما هذا الوضوح الذي ينبغي أن نطلبه؟ ما هذا النظام الذي ينبغي أن نتبعه؟ ما هذه الأشياء البسيطة التي ينبغي أن نبدأ بها.
في الجواب عن هذه الأسئلة يقوم «الإصلاح الديكارتي». وهذا الجواب - وهو ثورة حقا - يجب علينا أن نطلبه لا في «المقال» بل في الرسائل.
ولقد أثار «المقال في المنهج» ضجة غير قليلة بين العلماء؛ وذلك بسبب مضمونه من غير شك، وبسبب المؤلف أيضا، أجل إن اسمه لم يكن مذكورا على الغلاف، فإن ديكارت تقدم للجمهور مخفيا اسمه بكبرياء، ولكن العارفين، وأعني بهم أعضاء جمهورية الآداب، كانوا يعلمون.
لم يكن ديكارت سنة 1637 قد بلغ المنزلة التي سيبلغها بعد ذلك ببضع سنين؛ أي منزلة الفيلسوف الكبير الشهير وزعيم العقل في زمانه، لم يكن الناس يتحدثون بعد في الأزقة عن نظريته في الحركة، ولم يكونوا يتناقشون في الصالونات في المادة اللطيفة، ولكنه لم يكن مجهولا، فقد كان عالم الأدب والعلم أضيق مما هو الآن، وكان رجاله أكثر معرفة بعضهم ببعض، وكان ديكارت قد عاش بباريس واختلف إلى الأوساط العلمية فيها، وكانت هذه الأوساط ما تزال تذكر ذلك الرجل القصير الكريه غريب الأطوار - فإنه لم يكن يطيق المعارضة، وكان ينهض من فراشه متأخرا ويكره الزيارات - ذلك الرجل الذي كان يمكن لقاؤه عند مرسين، أو بريل، أو جيبيف، كان الناس يعلمون أنه غادر باريس فجأة ليختفي في مكان حقير في هولاندا، وكانت المراسلة متصلة بينه وبين مرسين، ذلك الرجل الذي كان بمثابة صندوق البريد في عالم العلم على حد قول ويجنس، ولم يكن يحبه، أو إن فضلتم هذا التعبير: «بمثابة النائب العام في جمهورية الآداب»، كما أسماه هوبس، وكان مدينا له بالشيء الكثير، وكان الأب مرسين آخر من يكتم سرا، وبالأخص إذا كان هذا السر خبرا أو رسالة، فكانت رسائل ديكارت تجوب أنحاء فرنسا من رين إلى تولوز، ومن مرسيليا إلى ديجون، وكان الكل يعرف أن ديكارت عالم كبير وفيلسوف كبير، وأنه يعد كتابا في «العالم» أو في «الضوء»، وأنه يقول بدوران الأرض، وأنه وعد بلزاك أن يقفه على تاريخ فكره، فكان الكل ينتظر هذا التاريخ بفارغ الصبر.
ولم يخيب «المقال في المنهج» ظن المنتظرين؛ القسم العلمي من الكتاب جميل جدا مبتكر جديد، فثار حوله نقاش عنيف، كان فرما، وروبرفال، وفرنييكل، وديزارج ، وبوجران، وميدورج يعترضون، ويجادلون، ويقارنون، ويتراشقون بالمسائل، ويتبادلون التحدي وقوارع الكلم.
نامعلوم صفحہ