زمانه كثير العناء مغمورًا بالهموم والأوجال، فتراه دائمًا يندب حظه، ويرثي حاله ويشكو من أهل بلدته، وكثيرًا ما كان يعتذر عن الخطأ الذي عساه يقع في مؤلفاته بما كان يعانيه من الهموم والأوصاب، قال صاحب إشارة التعيين: «وكان كثير العتب على الزمان مستحضر الجمل من الأشعار والنوادر» وقد نقل صاحب كتاب «الفلاكة والمفلوكين» عن ابن هشام قوله في ابن الخباز: «وكأنه كان غير منصف من أهل زمانه، وقد وقفت له على عدة تآليف، يشكو فيها حاله، فمن ذلك قوله في خطبة كتابه الذي سماه «الفريدة في شرح القصيدة» وهي قصيدة أبي عثمان سعيد بن المبارك الشهير بابن الدهان: «فإن أصبت فمن فضل الله الرحيم، وإن أخطأت فمن الشيطان الرجيم، ومن علم حقيقة حالي عذرني إذا قصرت بأن عندي من الهموم ما يزع الجنان عن حفظه، ويكف اللسان عن لفظه، ولو أن ما بي بالجبال لهدها، وبالنار أطفأها، وبالماء لم يجز، وبالناس لم يحيوا، وبالدهر لم يكن، وبالشمس لم تطلع، وبالنجم لم يسر».
فيبدو من هذه العبارة أن الهموم قد تزاحمت عليه، وأن المشاكل قد تسابقت إليه، والأوجال تطرق أبوباه والمتاعب تقف على أعتابه، تريد أن تقيم في رحابه وتسير في ركابه، فهو في ظلمات بعضها فوق بعض.
وقال يشكو أهل بلدته: «وأنا مع ذلك بين أهل بلدة تجعل رؤيتهم الذكي بليدًا، ينفرون من الفضائل وأهلها نفور الضب من البحار، والنون من البيد القفار، كلما زاد المرء بينهم فضلًا زاد عندهم نقصًا ... يبتغون الشكر على الأذى وتنوير العيون بالقذى، والموت دون الحكم بذا، واللائق أن تطوى أحوالهم على غرها خوفًا من عدوى عرها».
ولعل فقر هذا الرجل وعماه كانا من الأسباب التي جعلته يعيش حياته مغمورًا منعزلًا، فلم ينل حظه من الترجمة الموسعة، التي توضح لنا جوانب حياته المختلفة، وقد حاولت جهدي في هذا المقام أن أتلمس الخيوط التي تشير من بعيد أو قريب إلى ملامح شخصيته، وأستشف من النصوص التي وردت عنه طرفًا من نشأته وأخلاقه وسيرته.
أخلاقه: لم تنص كتب التراجم على ما يقيد في هذا الموضوع، ولكن يبدو من
1 / 21