الإهداء
تصدير
مقدمة1
الباب الأول: المنهج الظاهرياتي (ملاحظات أولية)
الفصل الأول: اللغة، والقواعد، والحركة1
أولا: لغة الظاهريات1
ثانيا: قواعد المنهج الظاهرياتي1
ثالثا: الظاهريات السكونية، والظاهريات الحركية1
الفصل الثاني: الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية1
أولا: مميزات الظاهريات التطبيقية على الظاهريات النظرية1
ثانيا: الظاهريات النظرية هي نفسها ظاهريات تطبيقية1
الفصل الثالث: التطور الأخير، والحالة الراهنة1
أولا: التطور الأخير1
ثانيا: الحالة الراهنة للظاهريات التطبيقية1
الفصل الرابع: الدراسات الثانوية، والظاهريات النظرية1
أولا: نقاط التطبيق1
ثانيا: طرق التطبيق1
ثالثا: التكوين الجزئي للمنهج1
رابعا: معركة التفاسير1
خامسا: الظاهريات من خلال الأقنعة1
سادسا: عيوب الدراسات المقارنة1
سابعا: الانتقادات الموجهة إلى الظاهريات1
الفصل الخامس: تفسير الظاهريات1
أولا: من اللفظ إلى العمل الكلي1
ثانيا: أفكار موجهة لقواعد التفسير للظاهريات1
الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي
الفصل الأول: فهم الظاهريات1
أولا: الذاتية (الوعي الفردي)1
ثانيا: الذاتية المشتركة (الوعي الجمعي-الأوروبي)1
الفصل الثاني: تكوين الظاهريات1
أولا: المنهج الظاهرياتي كمنهج للإيضاح1
ثانيا: منهج الإيضاح كمنهج للتمييز1
ثالثا: تداخل التمييزات1
رابعا: الأشكال المختلفة للخلط1
خامسا: الدرجات المختلفة للتمييز1
سادسا: التمييز ومستويات الوجود1
سابعا: التمييز وبنية الوجود1
ثامنا: التمييز ووحدة الوجود1
تاسعا: التمييز كمنهج جدلي1
عاشرا: التمييز كحركة إصلاح1
حادي عشر: طرق الإصلاح1
ثاني عشر: الإصلاح في التاريخ1
الفصل الثالث: تأويل الظاهريات1
أولا: البيئة الحضارية1
ثانيا: التأويل الحضاري1
ثالثا: التأويل الديني1
رابعا: التأويل الحضاري والديني في الدراسات الثانوية1
خامسا: التأويل الحضاري والديني في الظاهريات التطبيقية1
سادسا: الظاهريات كاتجاه ديني1
الباب الثالث: ظاهريات الدين
الفصل الأول: فلسفة الدين1
أولا: فلسفة التوسط1
ثانيا: فلسفة التصور1
الفصل الثاني: ظاهريات اللاهوت1
أولا: تبرير اللاهوت العقائدي1
ثانيا: النزعة التاريخية في ظاهريات الموضوع1
ثالثا: حدود ظاهريات الفعل1
رابعا: الجانب النظري في الظاهريات الدينية1
خامسا: من ظاهريات الدين إلى ظاهريات التأويل1
الفصل الثالث: ظاهريات التأويل1
أولا: فلسفة الدين، وظاهريات الدين، وظاهريات التأويل1
ثانيا: الأزمة الحالية للتأويل1
ثالثا: النقد التاريخي ذروة التأويل، ومنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ذروة النقد التاريخي1
رابعا: جدوى تطبيق المنهج الظاهرياتي في التأويل1
خامسا: خصائص ظاهريات التأويل1
سادسا: إشكالات التأويل1
المصادر والمراجع
الإهداء
تصدير
مقدمة1
الباب الأول: المنهج الظاهرياتي (ملاحظات أولية)
الفصل الأول: اللغة، والقواعد، والحركة1
أولا: لغة الظاهريات1
ثانيا: قواعد المنهج الظاهرياتي1
ثالثا: الظاهريات السكونية، والظاهريات الحركية1
الفصل الثاني: الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية1
أولا: مميزات الظاهريات التطبيقية على الظاهريات النظرية1
ثانيا: الظاهريات النظرية هي نفسها ظاهريات تطبيقية1
الفصل الثالث: التطور الأخير، والحالة الراهنة1
أولا: التطور الأخير1
ثانيا: الحالة الراهنة للظاهريات التطبيقية1
الفصل الرابع: الدراسات الثانوية، والظاهريات النظرية1
أولا: نقاط التطبيق1
ثانيا: طرق التطبيق1
ثالثا : التكوين الجزئي للمنهج1
رابعا: معركة التفاسير1
خامسا: الظاهريات من خلال الأقنعة1
سادسا: عيوب الدراسات المقارنة1
سابعا: الانتقادات الموجهة إلى الظاهريات1
الفصل الخامس: تفسير الظاهريات1
أولا: من اللفظ إلى العمل الكلي1
ثانيا: أفكار موجهة لقواعد التفسير للظاهريات1
الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي
الفصل الأول: فهم الظاهريات1
أولا: الذاتية (الوعي الفردي)1
ثانيا: الذاتية المشتركة (الوعي الجمعي-الأوروبي)1
الفصل الثاني: تكوين الظاهريات1
أولا: المنهج الظاهرياتي كمنهج للإيضاح1
ثانيا: منهج الإيضاح كمنهج للتمييز1
ثالثا: تداخل التمييزات1
رابعا: الأشكال المختلفة للخلط1
خامسا: الدرجات المختلفة للتمييز1
سادسا: التمييز ومستويات الوجود1
سابعا: التمييز وبنية الوجود1
ثامنا: التمييز ووحدة الوجود1
تاسعا: التمييز كمنهج جدلي1
عاشرا: التمييز كحركة إصلاح1
حادي عشر: طرق الإصلاح1
ثاني عشر: الإصلاح في التاريخ1
الفصل الثالث: تأويل الظاهريات1
أولا: البيئة الحضارية1
ثانيا: التأويل الحضاري1
ثالثا: التأويل الديني1
رابعا: التأويل الحضاري والديني في الدراسات الثانوية1
خامسا: التأويل الحضاري والديني في الظاهريات التطبيقية1
سادسا: الظاهريات كاتجاه ديني1
الباب الثالث: ظاهريات الدين
الفصل الأول: فلسفة الدين1
أولا: فلسفة التوسط1
ثانيا: فلسفة التصور1
الفصل الثاني: ظاهريات اللاهوت1
أولا: تبرير اللاهوت العقائدي1
ثانيا: النزعة التاريخية في ظاهريات الموضوع1
ثالثا: حدود ظاهريات الفعل1
رابعا: الجانب النظري في الظاهريات الدينية1
خامسا: من ظاهريات الدين إلى ظاهريات التأويل1
الفصل الثالث: ظاهريات التأويل1
أولا: فلسفة الدين، وظاهريات الدين، وظاهريات التأويل1
ثانيا: الأزمة الحالية للتأويل1
ثالثا: النقد التاريخي ذروة التأويل، ومنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ذروة النقد التاريخي1
رابعا: جدوى تطبيق المنهج الظاهرياتي في التأويل1
خامسا: خصائص ظاهريات التأويل1
سادسا: إشكالات التأويل1
المصادر والمراجع
تأويل الظاهريات
تأويل الظاهريات
الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين
الإهداء
إلى الفلاسفة المسلمين المعاصرين، من أجل حوار مع الحضارة الغربية، كما حاور الحكماء القدماء الحضارة اليونانية.
حسن حنفي
مدينة نصر، 25 يناير 2011م
تصدير
كما صدر من «النص إلى الواقع» في جزأين،
1
الأول «تكوين النص» والثاني «بنية النص»، لإعادة كتابة الرسالة الرئيسة لدكتوراه الدولة بعد أربعين عاما تقريبا،
2
تصدر اليوم الرسالة التكميلية أيضا في جزأين؛ الأول «تأويل الظاهريات: الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين»،
3
والثاني «ظاهريات التأويل: محاولة لهرمنيطيقا وجودية للعهد الجديد». فقد صدر الأول عام 1965، والثاني عام 1966. وتمت مناقشة الرسالتين في نفس العام بعد طباعة الأولى طبقا لقانون الجامعة الجديد، ضرورة طبع الرسالة الرئيسية قبل مناقشتها، وكتابة مراجعتين حولهما من متخصصين في المجلات العلمية ، وهو القانون الذي ألغي بعد مظاهرات الشباب في مايو 1968م، ثم ألغيت دكتوراه الدولة كلية بعد ذلك، وانقسمت إلى عدة مراحل دكتوراه السلك الثالث أولا، ثم تغيرت إلى دكتوراه النظام الجديد، كمرحلة أولى، بعدها تأتى مرحلة ثانية، وكلاهما يعادل دكتوراه الدولة القديمة. وهو أشبه بالنظام الشائع، الماجستير أولا ثم الدكتوراه ثانيا تخفيفا على الطلاب من القفز إلى دكتوراه الدولة مباشرة. وقد استغرق الأمر عشر سنوات لإنهاء الرسالة الأولى والرسالة الثانية، وتمت مناقشتهما معا وفي نفس الجلسة، السبت 18 / 6 / 1966م بعد الظهر من الواحدة حتى السابعة مساء، أمام خمسة أعضاء؛
4
اثنان للرسالة التكميلية، وثلاثة للرسالة الرئيسية.
5 «من النص إلى الواقع» ليس ترجمة للرسالة الرئيسية
Les Methodes d’Exégèse ، بل إعادة دراسة للموضوع كلية؛ فما كان متاحا من متون أصولية منذ أربعين عاما كان لا يتجاوز الخمسين، والآن زاد على المائتين. الروح واحدة، والبنية الثلاثية - الوعي التاريخي، الوعي النظري، الوعي العملي - واحدة، والقصد واحد، ولكن لم تحدث ترجمة بالمعنى الدقيق؛ أي نقل العبارة الفرنسية إلى عبارة عربية، بل وضع نص عربي جديد. وتضخم الكم بحيث تحول الأصل الفرنسي «مناهج التأويل» إلى جزأين؛ «تكوين النص» و«بنية النص».
أما في «تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل»، فقد كان النص العربي أقرب إلى النص الفرنسي دون أن تكون ترجمة حرفية، بل إعادة صياغة وتفسير وتأويل، وظل جزأين مثل النص الفرنسي، وبقيت هوامشه باستثناء إضافة فقرة أو فقرتين عندما كان المعنى مركزا للغاية.
والحقيقة أن ثلاثية الشباب، «مناهج التأويل» و«تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل»، هي الجبهات الثلاث في مشروع «التراث والتجديد»، الذي أعلن بعد ذلك في 1980م موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير. «مناهج التأويل» هي موقفنا من التراث القديم لإعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة ابتداء من تحديات العصر، وبداية بعلم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع»، ثم علم أصول الدين في «من العقيدة إلى الثورة»، ثم علوم الحكمة في «من النقل إلى الإبداع»، ثم في علوم التصوف في «من الفناء إلى البقاء»، ثم في العلوم النقلية الخمسة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، في «من النقل إلى العقل».
و«تأويل الظاهريات» هي موقفنا من التراث الغربي بداية بدراسة الوعي الفردي الذي أسسه ديكارت، والوعي الجماعي الذي أكمله هوسرل في «أزمة العلوم الأوروبية»، وصدر بيانها التأسيسي في «مقدمة في علم الاستغراب»، المشروع والتطبيق المبدئي، وتوالت الترجمات والدراسات في الفلسفة الغربية انتظارا لصياغة ثانية لعلم الاستغراب في «الوعي الأوروبي: التطور والبناء».
و«ظاهريات التأويل» هي الجبهة الثالثة، «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير»، بداية بالصلة بين النص والواقع في العهد الجديد باعتباره نصا دينيا مقدسا، يتلوه العهد القديم ثم القرآن في «المنهاج»، حيث يتم عرضه موضوعيا في ثلاث دوائر متداخلة: الوعي الفردي، الوعي الاجتماعي، الوعي بالعالم.
كانت الرسالة في البداية جزءا واحدا «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل»؛ أي دراسة التأويل بمنهج ظاهراتي. كانت الظاهريات هي المنهج، والتأويل هو الموضوع، ثم تضخمت المقدمة التي تتناول المنهج الظاهرياتي حتى أصبحت جزءا مستقلا في تأويل الظاهريات.
وكانت المقدمة تشمل ثلاث مقدمات؛ الأولى: المنهج الظاهرياتي (ملاحظات أولية)، تشمل لغة الظاهريات، وقواعد المنهج الظاهرياتي، والظاهريات الساكنة والظاهريات الحركية، والظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية. والثانية: المنهج الظاهرياتي، محاولة للفهم والتكوين والتفسير. والمقدمة الثالثة: المنهج الظاهرياتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، وتشمل فلسفة الدين، وظاهريات الدين، وظاهريات التأويل.
والآن قسمت الرسالة إلى أبواب وفصول؛ فالمقدمات الثلاث أصبحت أبوبا ثلاثة؛ الأول: المنهج الظاهرياتي (ملاحظات أولية)، ويضم خمسة فصول طبقا لتقسيم كمي خالص. الأول: اللغة، والقواعد، والحركة. والفصل الثاني: الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية. والفصل الثالث: التطور الأخير، والحالة الراهنة. والفصل الرابع: الدراسات الثانوية، والظاهريات النظرية. والفصل الخامس: تفسير الظاهريات.
والباب الثاني: المنهج الظاهرياتي: محاولة للفهم والتكوين والتفسير. ويضم ثلاثة فصول؛ الأول: فهم الظاهريات. والثاني: تكوين الظاهريات. والثالث: تأويل الظاهريات.
والباب الثالث: ظاهريات الدين. ويضم أيضا ثلاثة فصول؛ الأول: فلسفة الدين. والثاني: ظاهريات الدين. والثالث: ظاهريات التأويل.
ويمكن اعتبار «ظاهريات التأويل» الجزء الثاني من «مناهج التأويل»؛ الأول نقطة تطبيق ثانية للتأويل في نصوص العهد الجديد، في حين أن الثاني نقطة تطبيق أولى في النص القرآني ونص الحديث. أما «تأويل الظاهريات» فهي المقدمة المنهجية للاثنين معا، تعرض المنهج الظاهرياتي الذي تم تطبيقه في «مناهج التأويل» على نحو غير مباشر ودون الإعلان عنه؛ حتى يظل الموضوع والمنهج نابعين من حضارة واحدة، هي الحضارة الإسلامية، ثم تطبيقه في «ظاهريات التأويل» على نحو مباشر وبالإعلان عنه؛ حتى يظل الموضوع والمنهج نابعين أيضا من حضارة واحدة، هي الحضارة الغربية.
مقدمة1
(1) ظاهرة «الوعي الأوروبي»
مبهورا بأوروبا، وواقعا تحت إغراء لغتها وألفاظها ومصطلحاتها، ومندهشا لظروفها ومحيطها، قال أحد المفكرين: «هذا انفعال خالص يمكن أن يخضع للتأمل.» وداخل هذا الانفعال يكمن الغرب كموضوع للدراسة؛ إذ يشير هذا اللفظ «أوروبا» إلى وحدة اقتصادية وسياسية. وقد استبدل به تعبير «الوعي الأوروبي»، وهو يشير إلى وحدة فكرية لها صفات خاصة. وبالفعل أصبح «الوعي الأوروبي» منذ فترة موضوعا رئيسيا، ليس فقط في فلسفة التاريخ، بل أيضا في الفلسفة الخالصة.
2
ويستبدل أحيانا بلفظ «أوروبي» لفظ «غربي». يشير لفظ «أوروبي» إلى ميدان الأيديولوجيا، بينما يشير الثاني إلى الميدان المادي. يشير الأول إلى «الحضارة»، بينما يشير الثاني إلى «المدنية». وما زال لفظ «أوروبي» يحتفظ بصفاته، ولم يستعمل على نحو عشوائي كما استعمل لفظ «غربي». ويشير لفظ «أوروبي» الآن إلى أيديولوجيا الوحدة الاقتصادية والسياسية لأوروبا، وقد كان يشير له من قبل إلى «كل روحي» لميراث مشترك له خصوصيته المتميزة.
3
أصبح لفظ «الغرب» يشير إلى بيئة خاصة تنبثق منها موضوعات نظرية ومظاهر عملية للسلوك الإنساني،
4
ويستعمل أحيانا في تقابل مع لفظ «الشرق» في ميادين دفاعية أو عالمية مزيفة.
5
وبعد يقظة العالم الثالث، وتحرر الشرق من الهيمنة الغربية، ظهر شكل جديد من أشكال الهيمنة البطيئة والأكثر حيطة، وهو التقارب بين الغرب والشرق. وتخفي أساليب الدفاع والبلاغة النوايا الحقيقية. هذه الطريقة في التفكير هي التي تتبعها النوادي والمراكز الثقافية، وهي بعيدة كل البعد عن البحث العلمي المستقل النزيه.
وبعد إيثار لفظ «أوروبا»، أيهما أفضل بعد ذلك «الوعي الأوروبي» أو «الحضارة الأوروبية»، مما لا شك فيه أنه لا يوجد «دين أوروبي»؛ فالدين له أصوله القبلية في الوحي، وعلى أقصى تقدير يمكن استعمال تعبيرات «فلسفة أوروبية» و«علم أوروبي»، ومع ذلك الفلسفة والعلم الأوروبي هما مظهران لنشاط «الوعي الأوروبي» مصدر الحضارة «الأوروبية». ويستعمل لفظ «الوعي» للإشارة إلى المصدر المنتج للحضارة، ويستعمل لفظ «حضارة» للإشارة إلى المنتج نفسه الذي يتضمن مجموع الأعمال؛ أي المصنفات الفكرية والأدبية.
أصبح «الوعي الأوروبي» ظاهرة للدراسة، ولوحظ ذلك داخل الحضارة الأوروبية وخارجها. لاحظها عديد من الفلاسفة والباحثين الأوروبيين وغير الأوروبيين، وقد تمت دراستها تحت بعض المؤشرات، مثل: «الأفول» أو «الأزمة» أو «الانتحار».
6
وقد لاحظ الفلاسفة والدارسون ظواهر «أزمة الوعي الأوروبي» و«أفول الغرب» على مدى امتداد الحضارة الغربية كلها، منذ بداية القرن الماضي. وربما أعطت ساعة النهاية الوعي الأوروبي الإحساس بأنه يقوم بحسابه الأخير ويقدم لنفسه كشف الحساب.
لم يدرس الفلاسفة فقط ظاهرة «الوعي الأوروبي» أو بتعبير أدق ظاهرة «أفول» أو «أزمة» الوعي الأوروبي باعتباره موضوعا للتفكير، بل أيضا الباحثون.
7
فإذا حاول الفيلسوف تشخيص أزمة العلوم الأوروبية ووصف أفول الغرب أو إعلان العدمية الشاملة والهدم الكامل لكل القيم، يحاول الباحث اختيار فترة زمنية من تطور الوعي الأوروبي.
8
ولظاهرة «الوعي الأوروبي» سابقتها في فلسفة التاريخ. صحيح أن مفهوم التاريخ مفهوم غربي؛
9
فقد نشأت فلسفة التاريخ بعد عصر النهضة لتحديد صلة فلسفة التنوير بالفلسفات الأخرى السابقة عليها خاصة الفلسفة المدرسية. وبعد عديد من الفلسفات المتتابعة في العصور الحديثة، نشأت فلسفة للتاريخ لتحديد تطور المذاهب الفلسفية، وكان لكل عصر روحه. ومهدت فلسفة التاريخ إلى ظهور مفهوم «الحضارة»؛ فظاهرة «الوعي الأوروبي» نتاج الحضارة الأوروبية.
وخارج الحضارة الأوروبية، وبعد وعي الشعوب بحضارتها المستقلة بعد حركات التحرر الوطني، ظهر مفهوم «الوعي الأوروبي» كموضوع للبحث، إما دفاعا عن استقلال حضارات الأطراف أو لنقد هيمنة حضارة المركز.
10
وقد دفعت الحركة الحالية للتحرر من الاستعمار في العالم الثالث، والتي أصبح لها ثقلها الدولي كحكم لا ينحاز، عديدا من الباحثين للتفكير ليس فقط في الحالة الراهنة للعالم الثالث بل أيضا في المستعمر؛ السبب الرئيسي في مأساته في التاريخ.
11
أصبحت أوروبا مركزا للعالم مشكلة داخل الحضارة الأوروبية ذاتها وانبهار الأذهان بها في الحضارات المجاورة؛ مما أنشأ ظاهرة «الانبهار بأوروبا» خارجها.
12
انبهرت الحضارات الأخرى بتفسير كل شيء من وجهة نظر أوروبا، وسمي استغلال العالم الكشف الجغرافي مع أنه بداية الاستعمار من وجهة نظر الشعوب المستعمرة، وأصبحت ظروف أوروبا هي مقاييس تصنيف العالم؛ فهناك البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة. ومن أجل التخفيف من حدة التصنيف، استبدل بلفظ «المتخلفة» لفظ «النامية» أو «في طريق النمو»، وصنفت أنماط تفكير الشعوب غير الأوروبية على أنها «عقلية بدائية»، بل وصل الأمر إلى درجة تقسيم أجناس البشر إلى آرية وسامية.
وظهر نفس الشيء في الميادين الأكثر مادية للاقتصاد والسياسة؛ فقد اعتبرت البلاد غير الأوروبية كمصادر للمواد الأولية من أجل تصنيع الغرب، ثم كأسواق لبيع المنتجات الأوروبية. وتمت صياغة عدة معاهدات وتحالفات، وأقيمت القواعد العسكرية ومناطق نفوذ في البلاد غير الأوروبية من أجل الدفاع عن أوروبا.
وتجلت داخل كل حضارة خارج أوروبا هذه الظاهرة «الانبهار بأوروبا»، والتي تكونت من نسيان جذور الفرد في حضارته الخاصة ثم الانحياز إلى أوروبا والاغتراب فيها باعتبارها الحضارة الوحيدة التي يجد فيها كل فرد جذورا بديلة، طوعا أو كرها؛ ومن ثم تقع كل حضارة خارج أوروبا في دائرة النسيان. أصبحت الحضارة الأوروبية ممثلة للإنسانية كلها.
أصبحت ظاهرة الوعي الأوروبي مشكلة بالنسبة للدراسات الفلسفية، سواء داخل الحضارة الأوروبية أو خارجها. لم تكتمل الدراسات بعد في الداخل. حصلت نتائج جزئية فحسب خاصة بأزمة العلوم وانهيار الحضارة، ولم يتم دفع هذه النتائج إلى أقصى مداها، وكان من الطبيعي ألا يستطيع الملاحظ الفيلسوف أو الباحث أن يتخلص كلية من الأثر الذهني لحضارته، وباعتباره مسئولا عن بنيتها فإنه لم يكن باستطاعته إصلاحها. ويستطيع ملاحظ غير أوروبي أن يكون مشاهدا منصفا لأنه لا يخضع لتأثير البنية الذهنية للحضارة المدروسة، وفي الخارج تم تناول المشكلة بطريقة دفاعية وخطابية، وتحت أثر حماس التحرر الوطني والثقة الشديدة بالنفس تمت معالجة الوعي الأوروبي عن طريق الهجوم العنيف على القوى الاستعمارية الأوروبية. وكان ذلك طبيعيا نظرا لأن التحرر الوطني لم يكتمل بعد.
13
وفي الحالة الراهنة للدراسات حول الوعي الأوروبي هناك تياران على طرفي نقيض؛ الأول يمثله العلماء الأوروبيون، والثاني الخطباء اللاأوروبيون من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. الأول نتيجة غياب أية مسافة بين الملاحظ وموضوعه؛ لأن الملاحظ أوروبي، وعيه هو نفسه الانطباع الذهني الذي أعطته إياه حضارته. والثاني نتيجة المسافة الشاسعة بين الملاحظ وموضوعه؛ فالملاحظ خطيب، مثقف أو سياسي، يدافع عن وطنه الروحي أكثر مما يدرس موضوعه. ولا تستطيع النظرة القصيرة للأول ولا الطويلة للثاني أن تساعد على تقدم البحث الفلسفي. يستطيع الوعي المحايد وحده أن يتجاوز اغتراب الأول والثاني، وأن تكون له فرصة رؤية أفضل، وحكم أدق. (2) الوعي المحايد والوعي المغترب
ليست الحضارة إلا النتاج المشترك من مجموع الوعي الفردي للجماعة.
14
وبناء الحضارة هو نفسه بناء الوعي الفردي. كذلك يخضع كل تحليل للحضارة يقوم به الوعي الفردي الذي ينتسب إليها إلى هذه الحضارة ذاتها التي تترك انطباعها على ذهن الباحث. وكل تحليل يقوم به باحث لحضارة ينتمي إليها هو في نفس الوقت تحليل لبناء الوعي الفردي للباحث. ولما كان يجد نفسه محددا في وضع معين، فإن تحليله يتم طبقا لهذا الوضع. يتم كل تحليل للحضارة طبقا لوجهة نظر الباحث واضعا نفسه في «زاوية نظر» حضارته. ومن هنا تأتي ضرورة الوعي المحايد ودوره، والذي ينتمي إلى حضارة أخرى، والذي يمكن الحكم عليها دون أي حكم مسبق. الشعور المحايد خال من أي انطباع من الحضارة المدروسة.
15
وهي ميزة لديه على الشعور المغترب أو الملتزم بمذهب ما داخل حضارته.
16
الوعي المحايد موجود بفضل نوع من التربية الذاتية للباحث لنفسه وبنفسه. يوجد وعي الباحث نفسه أولا في حالة من البراءة الأصلية، ويتخلى عن كل الأحكام المسبقة، ثم يبدأ اتباع فهم يبدأ من البراءة الأصلية، والبحث عن بداية جذرية تمنع مرة ثانية من اللجوء إلى أحكام مسبقة. ويستطيع هذا المنهج العودة إلى الأشياء ذاتها عن طريق اتحاد الوعي بالأشياء لإدراك ماهياتها.
17
أليس من الطموح محاولة إيجاد بنية وتطور للوعي الأوروبي؟ هل يمكن إخضاع الوعي الأوروبي بعد أن أصبح ظاهرة كموضوع للدراسة؟
أولا، تكون هذه الملاحظات السابقة المتشعبة حول الوعي الأوروبي العناصر الرئيسية لهذا التخطيط المرجو. ثانيا، لو استطاعت هذه الملاحظات أن تكون جزءا من هذا التخطيط يأتي قانون عام يقوم على هذه العناصر القليلة للمساعدة على توضيح الموقف بقوة التعميم، تستطيع هذه العناصر الخاصة والقانون العام أن تشارك في تكوين هذا التخطيط. ثالثا، الأحكام الجريئة ضرورية، ولو كانت المادة العلمية قليلة وكان القانون العام غير مطابق، إلا أن الأحكام الجريئة تأتي للعون. قوة الحكم تحكم رؤية العناصر، وتجعل عمومية القانون أكثر تطابقا. وطالما استطاعت بعض الأحكام غير المؤسسة تأسيسا كاملا أن تثير الأذهان، فإنه من الممكن إعادة تأسيسها على نحو أتم.
18
ويمكن للشعور المحايد أن يكون شعور الباحث اللاأوروبي الذي استطاع التخلص من الخطابة ومن بيئته الثقافية. والواقع أن وعي الباحث اللاأوروبي له ميزة القدرة على التخلص من الانطباع الذهني الذي تتركه الحضارة الأوروبية على وعي الباحث الأوروبي. يستطيع أن يعطي عدة ملاحظات دقيقة أكثر من الباحث الأوروبي بسبب المسافة الكبيرة بين الباحث وموضوعه. يستطيع رؤيته من أعلى، وعن بعد.
إن الوعي المحايد هو الأمل الوحيد لرؤية الحضارة الأوروبية على حقيقتها؛ لأنه هو الوعي الوحيد المنصف. يكفي النظر إلى طرق معرفة الباحثين الأوروبيين المنتمين إلى نفس الحضارة للتأكد من غياب الحياد الكامل. كيف دون التاريخ؟ فتاريخ الفلسفة الذي يكتبه تجريبي يدور حول التجريبية وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة التجريبية،
19
وتاريخ فلسفة آخر يكتبه مثالي يدور حول الفلسفة المثالية وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة المثالية،
20
وتاريخ ثالث للفلسفة يكتبه وجودي يدور حول فلسفة الوجود وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفات الوجودية. وهكذا يكتب التاريخ دائما من زاوية واحدة. لماذا؟ تم ذلك لأن شعور الباحث شعور منحاز إلى مذهب، ينتسب إلى عقيدة أو يضع قناعا يرى من خلاله العالم. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في كتابة التاريخ من منظور المادية الجدلية، فكل ظاهرة لها أسباب وجودها في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعندما يستطيع الباحث أن يخلع عن وجهه المذهب-القناع، والذي يدون التاريخ من خلاله، فإنه لا يتجاوز مستوى المؤرخ الذي يرى التاريخ باعتباره تاريخ أزياء وأغطية للرأس، مجرد تجاور للمذاهب أو تتابع للنظريات، أو يلجأ إلى الحلول الوسط، وأنصاف الحلول، والانتقائية.
21
ليس الوعي المحايد وعيا لا يهتم بشيء، باهتا أو رخوا، ولكنه وعي ملتزم بطريقته الخاصة. ليس التزامه عن طريق رؤية العالم لصالح نظرية-قناع لأنه لا ينتمي إلى أي منها، التزامه هو الالتزام بالبحث عن الحقيقة. الوعي المحايد ممكن، ولكن ذلك لا يعني غياب كل عنصر قبلي سابق على الإدراك؛ فكل وعي ليس فقط وعيا بشيء، بل وعي مهتم بشيء؛ فالإدراك الذي من خلاله يتجه الوعي إلى العالم مشروط بشعاع ينبثق من الذات إلى الموضوع، من الوعي إلى مضمونه، من العقل إلى الشعور.
22
البحث عن الحقيقة موجه باستمرار بالوعي المسبق بهذه الحقيقة، حتى ولو في صورة انطباع مبدئي أو إحساس مسبق.
23
الوجود في العالم، والوعي بالذات باعتباره وعيا باحثا لديه انفعال بحثي، كل ذلك يمكن أن يكون عنصرا سابقا على التفكير في البحث الموضوعي.
هل يخضع الباحث اللاأوروبي للأثر الذهني القادم من بيئته؟ كل وعي باحث ينتمي إلى حضارة، ووعى الباحث هو وعي حضاري، ومع ذلك هناك حضارة لها أثر بالغ على وعي الباحث مثل الحضارة الأوروبية. وهي نتاج عمل شاق ومستمر، مصدر حقيقة لوعي الباحث الذي ينتمي إليها؛ ففي عصر النهضة رفضت كل حقيقة قبلية، وكان البحث عن الحقيقة هو الضامن لهذه الحقيقة ذاتها، وانضمت كل حقيقة تم اكتشافها بالبحث إلى أخرى؛ ومن ثم اعتبرت الحضارة وحدها هي المصدر الوحيد للحقيقة، وتم الحصول على اكتشافاتها واختراعاتها بجهد مضن ومتواصل، وأصبح تطورها وبنيتها تطور وبنية الإنسانية نفسها، وهو الملاذ الوحيد لوعي الباحث. وقد بلغ حضورها إلى درجة أن تركت أثرها في ذهن الباحث؛ فهو مبدعها، ولكن لم يستطع التخلص منها.
ولم يكن للحضارات الأخرى نفس وضع الحضارة الأوروبية،
24
ولم تمر إحداها بنفس الظروف، وما زالت تنهل من مصدر قبلي للحقيقة المعطاة سلفا، بل إن النهضة الحالية لم تتم عن طريق الرفض القاطع لهذا المصدر، بل على العكس عن طريق الولوج في أعماقه. ولا يتم التخلص من كل الأحكام والمواقف المسبقة، وهو الشرط الرئيسي لكل نهضة، بل على العكس، عن طريق التخلص من ثقل التاريخ من أجل العودة إلى المصادر الأصلية. والإصلاح في الوعي الأوروبي شبيه بذلك مع فارق واحد، هو أن الإصلاح في حضارة لا أوروبية ليس خارج هذه المصادر نفسها، بل داخل فيها. ويمثل الإصلاح والنهضة والعلم في الحضارة الأوروبية ثلاث مراحل متتابعة في البحث عن الحقيقة؛ الإصلاح عن طريق العودة إلى المصادر الأولى، واكتشاف الوعي الفردي داخل معطيات الوحي،
25
والنهضة عن طريق الرفض الجذري لكل مصادر المعرفة المسبقة؛ فالبحث عن الحقيقة بالعقل الإنساني هو وحده القادر على ذلك، والعلم عن طريق اللجوء إلى الواقع ذاته هو الضامن الأول والأخير للحقيقة مع تجنب المجردات والافتراضات النظرية الخالصة. وفي الحضارة اللاغربية موضوع التفكير هنا، الإصلاح والنهضة والعلم موجود داخل المصدر القبلي للحقائق المعطاة سلفا، والوعي مركز معطيات الوحي. العقل الإنساني بذرته، والواقع حامله. وبالدخول في أعماق هذا المصدر القبلي يستطيع وعي الباحث الذي ينتمي إلى هذه الحضارة أن يتخلص من تاريخ الحضارة؛ فالتاريخ نفسه لا يكون مصدرا لأية حقيقة؛ ومن ثم فإن وعي الباحث وحده الذي ينتمي إلى حضارة أخرى غير الحضارة الأوروبية هو الذي يستطيع أن يكون وعيا محايدا. (3) موضوع هذا العمل
26
يمكن تحديد موضوع هذا العمل عن طريق وصف نشوئه وتكوينه أولا، ثم اختيار بناء الوعي الأوروبي وتطوره كموضوع رئيسي، ثم اكتشاف الوحي كمعطى في نمط من الحضارة سواء في الوعي الفردي أو الوعي الجمعي.
27
طبقا لمقتضيات الوعي بالحضارات الأخرى بنفسها والرغبة في دراسة الوعي الأوروبي بوعي محايد، نشأ موضوع «بناء الوعي الأوروبي وتطوره»، وبحث عن تسجيل له في الأكاديمية (الجامعة). ونشأت مشكلة: كيف يمكن دراسة مشروع حياة في عمل جامعي محدد؟ كيف يمكن دراسة حضارة خمسة قرون بالإضافة إلى مصادرها والتنبؤات بمستقبلها ؟ وتم الاقتناع باختيار نقطة محددة، وكانت المقارنة بين لحظتين في الوعي الأوروبي، فلسفة التنوير وفلسفة الوجود، اختيارا محتملا.
28
والواقع أن الوعي الأوروبي بناء على ملاحظة أولية قد انبثق في لحظة النهضة، ثم فلسفة التنوير التي اتسعت وأصبحت فلسفة العقل، ثم انتهت إلى فلسفة الوجود. ونقدت فلسفة الوجود فلسفة التنوير والوعي الأوروبي، يصحح مواقفه بأن يستبدل بالعقل الوجود. كان يمكن إذن مقارنة هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي.
29
وبعد ملاحظة هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي تمت ملاحظة شيء آخر. فإذا كانت الملاحظة الأولى تتعلق بتطور الوعي الأوروبي، فإن الملاحظة الثانية تتعلق ببنيته. وظهر كل موضوع داخل الوعي الأوروبي في أشكال عديدة. كانت لغة التعبير ومستوى الفهم هما اللذان يحددان الشكل الذي يظهر الموضوع من خلاله. مثلا تعبر الألفاظ الثلاثة: الفضل الإلهي، الحرية الإنسانية، اللاتحدد في قوانين الطبيعة؛ عن نفس الشيء على ثلاثة مستويات مختلفة. الفضل الإلهي مفهوم ديني، ويظهر أحيانا في الحرية الإنسانية، وهو مفهوم فلسفي، وأحيانا ثالثة في اللاتحدد في قوانين الطبيعة في ميدان العلم.
30
فكل مفهوم فلسفي أو علمي له مصادره في المفاهيم الدينية؛ فالدين مصدر الفلسفة والعلم؛ ومن ثم كان من اللازم اختيار مشكلة دينية للمقارنة بين هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي. وبحثا عن أقصى درجة ممكنة من الدقة، كان من اللازم اختيار مثلين، عقلاني لفلسفة التنوير، ووجودي لفلسفة الوجود. وكان هذا هو السبب في تسميته الخطة الأولى «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد».
وبعد الوعي بظاهرة «الوعي الأوروبي» في مجموعها ظهرت لحظة ثالثة؛ فقد أتت فلسفة الوجود بعد فلسفة التنوير، وكانت فلسفة التنوير قد أتت بعد فلسفة الطبيعة.
31
كان لزاما إذن مقارنة ليس فقط لحظتين في الوعي الأوروبي، والتي تمت ملاحظتهما، بل أيضا ثلاث مراحل لتطوره، والتي تمت ملاحظتها بعد ذلك. وعلاوة على ذلك ساعد تحليل فلسفة الطبيعة على اكتشاف مصادر الوعي الأوروبي: (أ)
المصدر اليهودي المسيحي بعد قرن الإنجيل بالتوراة.
32 (ب)
المصدر اليوناني الروماني بعد أن ورثت الحضارة الرومانية الحضارة اليونانية. (ج)
البيئة الأوروبية ذاتها والظروف التاريخية لأوروبا.
وهكذا اكتمل تقريبا مخطط بناء الوعي الأوروبي وتطوره: فلسفة الوجود، فلسفة التنوير، فلسفة الطبيعة؛ ومصادرها الثلاثة: اليهودي المسيحي، واليوناني الروماني، والبيئة الأوروبية فيما يتعلق بالتطور. والدين والفلسفة والعلم ثلاثة أشكال لنفس الشيء فيما يتعلق بالبنية.
33
وتؤسس كل حضارة رؤيتها إما على الوحي أو على الأمة أو عليهما معا.
34
ويتوجه نقد الحضارة في الحالة الأولى إلى تصور العالم، في حين يتوجه نقد الحضارة في الحالة الثانية إلى القوى المادية. أما نقد الحضارة الذي يقوم على الاثنين معا فإنه يتوجه أيضا نحو تصورات العالم والقوى المادية في آن واحد. وبتعبير آخر هناك نوعان من الحضارة؛ حضارة مركزية تدور حول تجربة ومصدر، وهو الوحي، وحضارة طردية تدور حول نفسها خارج الوحي.
35
وكانت الحضارة الأوروبية حضارة مركزية لها مصدر وتجربة في المصدر اليهودي الروماني، ثم أصبحت حضارة طردية في العصور الحديثة عندما حدث رد فعل على المركز بقوة دفع خارجة نحو العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، في حين أن الحضارة اليهودية والحضارة الإسلامية ما زالت كل منهما حضارة مركزية تدور حول مصدر وتجربة كنواة أولى لم يحدث رد فعل عليه بعد. وحركات الإصلاح هي إعادة تفسير للنواة وليس استبعادا لها.
وبعد دراسة المشكلة الدينية لتحليل تحولها الفلسفي والعلمي، مشكلة البنية، ظهر الوعي الفردي باعتباره محل هذا التحول. وكان التطور يتعلق بالوعي الجمعي، الحضارة، والبنية تتعلق بالوعي الفردي تجاه المشكلة الدينية، وبوجه خاص بالنص المقدس؛ مما أدى في النهاية إلى مشكلة التأويل.
36
الباب الأول: المنهج الظاهرياتي (ملاحظات
أولية)
الفصل الأول: اللغة، والقواعد، والحركة1
أولا: لغة الظاهريات1
يحتاج المنهج الظاهرياتي في مرحلته الراهنة إلى بعض التعديلات فيما يتعلق بلغة الظاهريات، وقواعد المنهج، واكتمال النظرة للعالم التي يرتبط بها هذا المنهج.
2
وبقدر ما أصبحت الظاهريات تقريبا كلمة السر على لسان الباحثين حقا أم باطلا لإغرائها، فإنها أبعدت باحثين آخرين جادين عنها بسبب لغتها.
3
نعم، أصبح من المسلم به أن لغة الظاهريات لا يمكن فهمها؛ فقد سال حبر كثير لتقال أشياء قليلة، بل أصبحت هي السمة الجوهرية في الفلسفة المعاصرة التي تنتسب إلى الظاهريات.
4
وقد جعلت مأساة لغة الظاهريات مشكلة الاتصال بين الباحثين ومؤلفات الظاهراتيين أو بين الظاهراتيين والباحثين من علوم أخرى مشكلة عاجلة. يكفي أخذ رأي الظاهراتيين في أعمال مؤسس المنهج، ويكفي أيضا سماع الاتهام بالتلاعب اللفظي الموجه من غير الظاهراتيين إلى الظاهراتيين.
5
ويكفي أيضا مراجعة الدراسات النظرية حول الظاهريات لمعرفة سيادة اللغة التي تضاعف ثقلها، اللفظ فوق اللفظ، والمفهوم فوق المفهوم، دون أي جهد للتخلص من هذه اللغة المعملية وحجرة العمل التي منها خرجت الظاهريات أثناء التكوين. ويستطيع لفظ واحد أن يخلق عدة خلافات في التفسير. ويوجد في الظاهريات حاليا السلفيون والحدثيون. هناك توضيح لأعمال مؤسس الظاهريات، وهناك تفسير شخصي لها. صحيح أن تطور الظاهريات لا يمكن تجنبه إن لم يكن ضروريا بشرط ألا يكون هذا التطور خديعة المشكلات الناشئة عن لغة الظاهريات.
6
الظاهريات الآن مثقلة بلغتها؛ غمضت مقاصدها، وقل وضوحها؛ بسبب تعقد مصطلحاتها. وطويت بداهة اختياراتها داخل جهاز اصطلاحي مثقل. الظاهريات ما زالت في المعمل، وما زالت تصنع، دون أن تخرج بمنهج واضح ومتميز. وقد ساعدت البيئة الثقافية التي أغرتها دائما المصطلحات الجديدة على زيادة الحمل اللغوي المثقل. ويقترح كل ظاهراتي إضافة مصطلح بدلا من التخلص من مصطلحات سابقة، مع أنه يمكن ممارسة تحليل الخبرات الحية بسهولة ويسر باستعمال أسلوب أقل تعالما، ومصطلحات أقل غلظة. يمكن التعبير عنها بلغة عادية يفهمها الجميع. لا ترجع عظمة الظاهريات في المخزون الهائل من المصطلحات المستعملة بل في بداهات مقاصدها، وفي سهولة التعبير عنها وإيصالها. فلا يرهب القارئ هذه الكيمياء للفكر، بل على العكس يطمئن إلى بداهاتها ومقاصدها الخاصة التي تعطيها له الظاهريات بتحليلاتها. ولا ينال الأسلوب العادي من الظاهريات باعتبارها علما ظاهراتيا رفيعا، بل على العكس يجعلها أقل ادعاء علميا في الظاهر، وأكثر مباشرة نحو الواقع. تستطيع كل ظاهريات أن تخلق لغة خاصة قادرة على التعبير عن الخبرات الخاضعة للتحليل. لكل موضوع طبيعته يعبر عن نفسه في لغة اصطلاحية من نفس الطبيعة.
7
والمصطلحات الرئيسية يمكن الإبقاء عليها مثل : المعيش، صورة الشعور، مضمون الشعور، قصدية، حدس، بداهة، معطى، ماهية، دلالة.
8
وقد أصبحت عادية في الاستعمال. إنما هي التفريعات اللغوية التي تزيد غموضا من المصطلحات الرئيسية، وخطوطها العامة هي التي يمكن تجنبها. فلا ينخدع الظاهرياتي بعديد من المصطلحات، لا تشير ولا تعبر إلا عن شيء واحد. والدقيقات في التحليل بالبحث لكل همسة عن لفظ مستعار من التراث الفلسفي يتم تركيبه عن طريق ضم بضعة مقاطع أمر لا ينتهي.
وتجديد لغة الظاهريات ممكن عن طريق دلالة اللغة المورثة، ومع التخلص من الجهاز المفاهيمي الرياضي المنطقي أو النفسي الفلسفي الذي استعملته الظاهريات من أجل خلق ألفاظ مستمدة من اللغة العادية للتعبير عن بداهات الخبرات اليومية. وهذا ما أرادته الظاهريات نفسها وما تنبأت به.
9
إذن لا يتعلق الأمر هنا بالتطهير الفعلي للغة الظاهريات، بل فقط بإبداء بعض الملاحظات الأولية النافعة للظاهراتيين. وتطهير اللغة عمل ضروري قبل وضع الظاهريات موضع التطبيق.
ثانيا: قواعد المنهج الظاهرياتي1
في حين أن لفظ «منهج» لم يستعمل للإشارة إلى الظاهريات، بل استعملت تعبيرات «الظاهريات الخالصة»، «الفلسفة الظاهراتية»، فإن الظاهريات هي أساسا منهج.
2
لم يظهر لفظ «منهج» كما حدث إبان نشأة الفلسفة الحديثة عند ديكارت في «مقال في المنهج»،
3
أو في نهايتها «ضد المنهج» عند فايرآبند. ويتضح ذلك من الدراسات التي تمت حول المشاكل الفلسفية. كل منها يحاول تطبيق المنهج الظاهرياتي.
4
الظاهريات إذن منهج للبحث أكثر منها عقيدة فلسفية، هي منهج تحليل للخبرات الحية أكثر منها مذهبا حول النسق الهندسي للعقل.
5
وقواعد المنهج الظاهرياتي مغلفة داخل الظاهريات نفسها التي خرجت لتوها من مكتب مؤسسها. وما زالت في شكلها الخام في كل عمل في صياغته الأولى. ما زالت تحت البحوث الفاحصة التي خرجت منها.
6
من الضروري إذن ضبط هذه القواعد ووضعها في نظام وفي ترتيب واضح من أجل إمكانية تطبيقها، بل إنه من اللازم تبسيطها في عدد قليل من القواعد يمكن تطبيقها بطريقة واضحة بسيطة.
7
وكل منهج له قواعد، ولا يكفي إعطاء «أفكار موجهة» حتى يمكن تطبيق المنهج، فمن الضروري تحويل هذه الأفكار الموجهة إلى قواعد محكمة يمكن تطبيقها على نحو رياضي تماما. لا يكفي إعطاء البنية الداخلية للمنهج والمعروضة في «الرد» و«التكوين»، بل من اللازم تفصيل «الرد» في بنيات أخرى أكثر تحديدا، ومن الضروري أيضا تحويل عمليات «التكوين» في هذه البنية أو تلك إلى قواعد علمية مرتبة من أجل التطبيق. وهكذا يصبح المنهج الظاهرياتي منهجا للاستعمال.
8
ومن المعروف أن المنهج الظاهرياتي يتكون من لحظتين: «الرد» و«التكوين». ومع ذلك تحتاج كل مرحلة إلى بيان؛ فالرد ليس وضعا بين قوسين مرة واحدة بل عدة مرات. لا يمارس التقويس مرة واحدة وإلى الأبد، بل مرات عديدة كلما استدعى الأمر.
9
في كل مرة يتخلص التقويس من عنصر مادي من مضمون الشعور، يقلل الرد الظاهرياتي أو الترنسندنتالي الموضوع المادي في الاتجاه الطبيعي من أجل إدراك هذا الموضوع داخل الذات.
10
ويقلل الرد النظري المضمون النفسي، وهو أيضا مادي، للموضوع الحي من أجل إدراك دلالته وماهيته.
11
ولو ظلت الماهية مشابة بمضمون نفسي يحددها في الظروف المكانية والزمانية، للفرد أو للحضارة، فإنه يمكن ممارسة الرد مرة ثالثة من أجل إدراك الماهية الخالصة؛ أي حقيقة إنسانية.
يمارس الرد عدة مرات حتى الوصول إلى الأنطولوجيا الشاملة، ولكن دون المخاطرة بالوقوع في الصورية التي تنكر تدريجيا سمات الظاهرة الإنسانية؛ فقد يكون ثمن الحصول على العمومية التضحية بفردية الوجود وخصوصيته، ينجح الرد عندما يحافظ في نفس الوقت على الضروري والحادث، والواقع والممكن، والعام والخاص، والشامل والفردي.
12
وليس للتقويس اتجاه واحد بل عدة اتجاهات؛ فهو ليس موجها فقط ضد الاتجاه الطبيعي، الواقعة، بل هو موجه أيضا ضد الاتجاه الصوري، المجرد. فكل موضوع للدراسة، سواء كان ماديا أو صوريا، موضوع بين قوسين من أجل إدراك الموضوع حالا في الشعور؛ ومن ثم فإن التصور في أي فلسفة تصورية والأولية في الرياضيات، بل وأيضا «الله» في اللاهوت، موضوعات صورية توضع بين قوسين.
13
يمكن إدراكها فقط كخبرات حية في الشعور الإنساني؛ فالتعالي هو عالم الوقائع المادية وعالم التصورات المجردة.
وعالم الحياة في حاجة إلى بيان؛
14
فهو ميدان واسع للغاية للاستكشاف، يتضمن كل محتوى الشعور؛ الواقع والخيالي، الحقيقي والمتوهم، العاطفي والعقلي ... إلخ. كل ما يتعلق بالشعور ينتمي إلى عالم الحياة دون أي تمييز بين الأنواع المختلفة للموضوع الحي. وهذا التمييز بين الواقعي واللاواقعي ضروري من أجل حسن التحكم في الاتجاه، الواقعي أو الخيالي، للظاهريات؛ إذ يمكن وصف العالم كواقع أو كصورة؛ ومن ثم يمكن تصنيف الموضوعات طبقا لدرجتها في الواقعية؛ موضوع واقعي، موضوع أقل واقعية، موضوع خيالي، موضوع لا واقعي ... إلخ. وبالتالي يصبح كل موضوع في العلوم الإنسانية موضوعا معيشا، سواء كان أخلاقيا أو فلسفيا أو جماليا ... إلخ، وفي مستواه الخاص بين الواقعي والخيالي.
15
الموضوع إذن هو إيجاد قواعد للمنهج الظاهرياتي؛ فبالإضافة إلى الخط العام بقي بيان القواعد والميادين. «الرد» و«التكوين» قاعدتان، في حين أن «الذاتية» و«الذاتية المشتركة أو المتبادلة» ميدانان.
16
ثالثا: الظاهريات السكونية،
والظاهريات الحركية1
بقيت الظاهريات في مؤلفات مؤسسيها وحتى في تطورها المتأخر سكونية، تعرض فيها الحياة كمنظر أو فرجة وليست كدراما للمشاركة، وتم تحليل العالم في دقيقاته وليس في حركته،
2
بل تم تكوين عالم الرغبة والإرادة داخل نظرية المعرفة أكثر منها داخل الفعل. صحيح أن الحضارة تنشأ وتتطور وتنتهي، ولكن تم تحليل تطورها من أجل رؤية بنيتها الداخلية، بوصفه في الذاتية كأزمة علوم، وهو أقرب إلى المعرفة منه إلى الوجود. وباختصار ما زالت الظاهريات داخلة في دائرة «اللوجوس»، وخارجة عن دائرة «البراكيس». ويكفي القليل حتى تتحول ظاهريات الفعل، كما تسميها فلسفة الموضوع، إلى فلسفة العمل. يمكن لفعل المعرفة أن يمتد، سواء بطريقة متصلة أم منقطعة، كي يصبح عملا فعليا في العالم.
3 (1) الحركية في الظاهريات
4
تسري بعض الحركية في الظاهريات؛ فالتمييز بين صورة الشعور ومضمون الشعور لا ينطبق فقط على ميدان الحكم، بل أيضا على الدائرة الوجدانية والإرادية،
5
ولكن يظل تحليل القيمة والقرار، وهما الموضوعان المأخوذان كمثلين للميدانين، على المستوى النظري، وكأن العقل العملي جزء من العقل النظري؛ فقد تم تنظير العقل العملي مثل العقل النظري. وباختصار، أعطيت الأولوية للعقل النظري على العقل العملي أو رد العقل العملي كلية إلى العقل النظري، على عكس الفلاسفة بعد كانط الذين ردوا العقل النظري إلى العقل العملي خاصة فشته.
6
وإن قيمة ظاهريات الشعور العاطفي والإرادي هي في نفس الوقت بحث في إيضاح مشكلة تكوين القيم.
7
وتظهر أولوية العقل النظري على العقل العملي أيضا في بحث التركيبات العقائدية، وهو الميدان النظري، في الدائرة العاطفية والإرادية.
8
فقد تم تحليل «الحب» كظاهرة يمكن تركيبها عن طريق حرف العطف «و» أو حرف البدل «أو»، وتم تحليل أفعال دائرة العواطف من أجل معرفة إلى أي حد يمكن التعبير عن أحكام قائمة عليها! فتحولت مشكلة الفعل الوجداني إلى مشكلة الحكم النظري.
9
والحقائق النظرية والقيمية والعملية هي أنماط عقلية مختلفة ومتشابكة؛
10
فالحقائق العملية تلحق بالحقائق النظرية، ثم تنتقل إلى مستوى التعبير والمعرفة في صورة حقائق اعتقادية. وهي حقائق منطقية على وجه التخصيص. وتحل مشكلة العقل كما هي موضوعة في دائرة الاعتقاد قبل حل مشكلة العقل الأخلاقي والعملي.
11
وتجمع نظرية الأفعال التركيبية في نفس الوقت التركيبات التي تمت طبقا لأشكال الأنطولوجيا الصورية مع الأفعال القيمية الوجدانية والإرادية. هنا توضع كل الأفعال النظرية في نفس المجموعة. وللأفعال العملية شروطها في الأشكال القيمية الخالصة. وفي هذه الأشكال التركيبية المتعلقة بهذه الدوائر يكمن بالفعل شرط إمكانية الحقيقة القيمية والعلمية. وتنقلب كل العقلانية القيمية والعملية الحقيقة القيمية والعملية إلى عقلانية اعتقادية؛ ومن ثم يتحول العمل إلى نظر. وتكون حقيقة «البراكسيس» في «اللوجوس».
12
وفي تكوين الطبيعة المادية ثم تحليل الموضوع المادي في مخطط الحركة والتغير في إطار وصفي نظري خالص من أجل الانتهاء إلى استقلال الأشياء بالنسبة إلى ظروفها،
13
وفي تكوين الطبيعة الحية (المتحركة) ثم الإثبات السريع لوحدة «الأنا» الخالص في تغيره.
14
واستقطب الفعل بين «الأنا» من ناحية والموضوع من ناحية أخرى.
وفي تكوين عالم الروح، تم التعرض للمشكلة العملية بطريقة أوضح في أثناء تحليل الباعث باعتباره القانون الأساسي لعالم الروح،
15
وتم تحليل «الأنا أقدر» تحت عنوان «الشخص» كذات وكملكة العقل، وباعتبارها «ذاتا حرة». وما تم تكوينه هي فقط الأشياء باعتبارها أشياء منزوعة من أي صفة عملية أو قيمية. اعتبرت «الأنا أقدر» فقط كإمكانية منطقية أو كاستحالة منطقية عملية، كشعور أصلي للقدرات (قوة ذاتية، ملكة، مقاومة).
16
وتتجلى الإمكانية العملية في الفعل الإرادي، ويمكن تجاوز العقبة أمام الفعل أو لا يمكن. والمثل المضروب لتحليل الحركة هو رفع اليد لإثبات إمكانية العمل؛
17
فإذا وضعت الطبيعة أولا كموضوع عملي ثم كطرف للبواعث التكوينية، فإنها تضع في نهاية الأمر ميدان العمل.
18
ومع ذلك فإن التمييز بين الإمكانية المنطقية، الحكم، والإمكانية العملية، الفعل، أو بين الحركة المباشرة، حركة اليد، والحركة المتوسطة، حركة المائدة تظل تأملية خالصة. فهل تحليل الحركة هي لحركة اليد؟ فضلا عن ذلك فإن تغييرات الحياد في فعل عملي تضع صورة الشعور ومضمون الشعور كفعلين متقابلين، كما اعتبر الفعل العملي مشابها للفعل الاعتقادي، و«البراكسيس» في موازاة «اللوجوس». وأخيرا استعمل «الأنا أقدر» كدليل على تقدير الذات لنفسها وللبداهة، «أنا أقدر فأنا إذن موجود». وبعد إثبات بداهة وجودي بواسطة «الأنا أقدر» أستطيع أن أعرف أسس البواعث واتجاهاتها وقواها، أستطيع أن أوضح أحدها، وأقوي الأخرى، وأثبت الثالثة.
19
وينتهي تحليل «الأنا أقدر» إلى وصف الحركة، حركة اليد، والانتهاء إلى فعل الاعتقاد أو إثبات وجودي، بداهته وبواعثه. فإذا أثبتت الذات الفاعلة والذات الوجدانية الحرية فقد تم التعرض لهما فقط في تحليل نظري للخبرة اليومية. وبسرعة تم تغليف تطور الأنا المتحرك إلى الأنا الإنساني في تحليل الذات كمعطى.
20
وقد تم تحليل الجسد باعتباره عضو الإرادة أثناء وصف مجموعة من الحساسية، حساسية الحركة. صحيح أن حركة الشيء المادي متميزة عن حركة الشيء المتحرك؛ إذ تعتبر هذه الحركة الأخيرة فعلا؛ فالجسد له دوره في التعبير بالحركة عن حرية الذات في العالم.
21
ومع ذلك يظل هذا التحليل على مستوى الوصف النظري الخالص لحركة الجسد في العالم.
وقد استبعد العمل من المنطق كوصف معياري،
22
وترك جانبا كل تصور نمائي يعتمد على مبدأ التطور.
23
ظهرت الحركية في التمييز بين الوحدة السكونية بين الفكر الذي يعبر والحدس المعبر عنه أي المعرفة من ناحية والوحدة الحركية بين التعبير والحدس وهو الوعي بالملاء وبالهوية من ناحية أخرى.
24
وتوجد علاقة الوحدة السكونية عندما يتأسس الفكر الذي يعطي الدلالة على الحدس، ويتعلق بهذه الطريقة مع موضوعه. وبصرف النظر عن هذا التوافق السكوني اللاحركي بين الدلالة والحدس يوجد أيضا توافق حركي، وهو الشعور بالامتلاء، ويوجد كنتيجة متواصلة تتحقق في الزمان، بينما توجد العلاقة السكونية كنتيجة دائمة من هذه العملية الزمانية؛ فالحركية في الظاهريات تظل أيضا امتلاء؛ أي في علاقة بالمعرفة، وحتى على الرغم من وجود تدرج في الامتلاء «الخرساني» أو امتلاء كامل في المادة القصدية يظل ذلك دائما بالنسبة للوظيفة المعرفية للقصدية.
25
وإذا تم التعرض للحرية فإنها حرية تكوين المقولات للمواد المعطاة سلفا؛
26
ومن ثم فإنه أثناء الفترة الأولى ما قبل تكوين المنهج الظاهرياتي كانت حركية الفعل لها مكانها في سكونية المعرفة.
وإذا أراد مبحث القيم، باعتباره علما محكما، التخلص من سيطرة النزعة الطبيعية فهو ليس الوحيد الذي عليه ذلك، بل على كل علم أن يفعل ذلك، وقد نسب العمل إلى النزعة الطبيعية التي على مبحث القيم التخلص منها. والبرجماتية والوضعية كلاهما ينتميان إلى الفلسفة الطبيعية.
27
وبعد تكوين المنهج الظاهرياتي وفي تطبيقاته المثالية في المنطق الصوري، ظهرت الحركية كنشاط أصلي للحكم بالنسبة لتغيراته الثانوية؛
28
فالحكم أساسا حكم فعال، ويمكن أن يولد أحكاما أخرى. والحكم بطريقة فعالة هو توليد «موضوعات فكر»، وتشكيلات للمقولات. وهذا هو معنى «أنا أقدر». ويمكن أن يتكرر ذلك باطراد وإلى ما لا نهاية، ليس الحكم الفعال هو الشكل الوحيد للحكم، إنما هو الشكل الأصلي، والأنماط الأخرى إنما هي تغيرات قصدية. للقصدية إذن تفسير سكوني، تفسير «الفكرة» والقصد، وتفسير نشوئي تكويني موجه إلى المجموع العياني كله يوجد فيه كل شعور وموضوعه القصدي من حيث هو كذلك، والتكوين الزماني للقصدية هو تاريخها.
وتوجد أيضا آثار نشوئية مزدوجة؛ إعادة التذكر وإعادة الإدراك، كتنويعات قصدية على النمط الأصلي، إعادة التذكر السلبي له أثره على تكوين الحكم كوحدة تفرض نفسها، وظهور فكرة كانبثاق لإعادة الإدراك مثل انبثاق إعادة التذكر السلبي. هذان المظهران يكونان أنماطا غير أصلية للأحكام؛ ومن ثم يمكن أن تتحول الأنماط السلبية للمعطى إلى إيجابية بطريقة إرادية أو لا إرادية. يمكن إعادة تنشيط الحكم؛ فالحكم أصلا منتج بنشاطه الأصلي أو بتنشيطه أحكاما تم الحصول عليها من قبل، واللغة كنشاط ارتباطي يقابلها النشاط المنتج للحكم.
29
وتظل هذه الحركية التي تظهر في النشاط وفي إعادة النشاط على المستوى النظري،
30
ولا يكون عملا فعليا في العالم، بل مجرد نشاط للوعي القصدي.
وتتطلب العودة إلى الأشياء ذاتها من الذات مسارا من الاتجاه السلبي إلى الاتجاه الإيجابي، من السلبية إلى الإيجابية، وموازاة لذلك مسارا آخر للموضوع من حالة الإمكان إلى حالة الفعل. العودة إلى الأشياء ذاتها هي عود إلى الواقع، وإعادة تنشيط للذات في علاقتها بالواقع.
31
وتظهر من جديد مواضيع إمكانية الحياة القصدية، للاسترجاع والاستباق أو إمكانية الدائرة الأصلية، لحركة الجسد، بنفس الطريقة التي ظهرت بها بعد تكوين المنهج الظاهرياتي.
32
وتعود الحركية للظهور أيضا في نفس موضوع النشوء بالتعارض مع السكونية، والفعال بالتعارض مع السلبي.
33
والحالات الحية توجد معا في آن واحد أو على التوالي، والزمان هو الشكل الشامل لكل تكوين يتعلق بالذات، ولا تسيطر العلية على التكوين بل يحركه الباعث الذي يعطيه وحدته وتاريخه؛ فالظاهريات إما سكونية أو حركية، تصاغ الظاهريات السكونية أولا، ووصفها مماثل لوصف التاريخ الطبيعي الذي يدرس الأنماط الخاصة وينظمها بطريقة نسقية، أما الظاهريات الحركية فإنها تتعرض لمشاكل تكوين الأنا متجاوزة الشكل البسيط للزمان، وهكذا يكون من الملائم التمييز بين الفكرة السكونية والفكرة الحركية، الفكرة السكونية هي الماهية في حين أن الفكرة الحركية هي الوجود، بناء حياة النشاط أو الصيرورة.
34
وتمر الزمانية الداخلية بخمس مراحل: التذكر، والاسترجاع، والحضور، والاستباق، والانتظار.
35
ويؤدي التمييز بين التكوين الإيجابي والإيجاب السلبي إلى تمييز آخر بين العقل العملي والعقل المنطقي.
36
في التكوين الإيجابي تتدخل الذات كاحتواء، وهي وظائف العقل العملي بالمعنى العام والمحتواة فيه،
37
وبهذا المعنى يكون العقل المنطقي هو أيضا العقل العملي؛ ومن ثم فإن العمل ليس خاصا بالسلوك بل يحتوي على كل نشاط الشعور.
38
وفي معرض البحث عن الظاهريات كفلسفة أولى يتم استعراض تاريخ الفلسفة. هناك تقدم في الشعور المشترك بين الذوات؛
39
إذ يكشف كل عصر عن أحد جوانب الفلسفة الترنسندنتالية،
40
والتطور له اكتماله في البنية، وتتكون الفلسفة الأولى أولا من تاريخ نقدي للأفكار حتى يظهر اكتماله التدريجي من خلال التاريخ،
41
وبعد ذلك تتكون من نظرية في الرد الظاهرياتي يضع تاريخ الأفكار بين قوسين لإدراك البنية المستقلة لصيرورته.
42
وفي نظرية الرد الظاهرياتي لا تكاد الحركية تظهر؛ إذ يتم البحث عن الفلسفة كباعث.
43
الحاضر حياة للاستكشاف، تجد هويتها في الأنا.
44
والوعي بالذات نشاط من أجل تأسيس علم شامل، وكلا النظر والعمل ينتميان إلى هذا النشاط؛ الأول لتأسيس علم شامل، والثاني من أجل إقامة نتاج حضاري. الأولى غاية أبدية، في حين أن الثانية غاية زمنية (أرضية).
45
ويسمح الرد الظاهرياتي بمسارات دائمة من أجل تجليات مضامين القصدية.
46
وفي الفلسفة الترنسندنتالية لا يوجد تحليل نهائي، بل توجد دائما بدايات ثم بدايات جديدة.
وفي دراسة «علم النفس الظاهرياتي» تعود إلى الظهور نفس الموضوعات التي تشير إلى بعض الحركية. الشعور له خاصية التوجه والإرشاد.
47
ويتم تحليل الشيء طبقا لتنويعاته وتغيراته بالنسبة للفكرة كعامل متغير.
48
وتستطيع الأنا أن تجد نفسها ككلام في حالة نشاط أو في حالة عادية.
49
والقليل من الحركية تم تقليصها كتكوين زماني من أجل إدراك بنية نظرية لا زمانية.
وأخيرا تظهر الحركية بوضوح في وصف تطور الحضارة؛ فالتاريخ أساسا تاريخ غائي،
50
له غاية لتحقيقها. وتكشف كل مرحلة من التاريخ أحد جوانب المثال. التطور تشييد للمعنى.
51
ويتأسس العلم تدريجيا في الذاتية المشتركة.
52
ويولد كل موروث قديم بواسطة إنتاج إنساني ينمو على نحو نسقي حتى تنكشف البنية الشاملة للماهية.
53
وتمت دراسة تطور الحضارة من أجل الوصول إلى بنية التجربة المشتركة الترستندنتالية. كان الهدف من البحث عن بواعث الحضارة اكتشاف الأسباب الداخلية لتكوين العلوم أو الطبيعة أو الروح،
54
ومن أجل فهم أنماط البنية التاريخية من الضروري إدراك البواعث وراء الوحدة، والتي تسيطر على التطور.
55
وقد وجد حل أزمة العلوم الأوروبية في حركة تحول أي عملية عود إلى المعيش،
56
وكل الفلسفة في العصور الحديثة ليست إلا نضالا من أجل الإنسان.
وقد نسبت إلى الحضارة الأوروبية صفة خاصة هي الاتجاه النظري، وفي مقابل ذلك نسب الاتجاه العملي إلى المجتمعات التي تجري وراء همومها المادية! الفلسفة، ميزة أوروبا على غيرها، ليست لها أي غاية عملية.
57
صحيح أن المعرفة على علاقة بالعمل، بل ويجب أن تكون كذلك، وإلا انقسمت الحضارة إلى ميدانين متباعدين، ومع ذلك العلاقة بينهما علاقة الأنواع. النظرية نوع أرفع في حين أن العمل نوع أدنى. لا تنفصل النظرية عن العمل، بل هناك مركب بين الشمول النظري وفوائد العمل.
58
ومع ذلك تظل السيادة للمستوى النظري في حالة إذا تسلطت التقنية النظرية كما تسعى إلى ذلك النزعة الطبيعية؛ ومن ثم تراجع العمل إلى الدرجة الثانية في الظاهريات، وناضلت ضده باعتباره نزعة طبيعية، ونسبت إلى المجتمعات اللاأوروبية كمجموع عملي أسطوري ديني غايته الرئيسية المصالحة بين الإنسان والقوى الخارجية من خلال الجهد الصوفي. لا توجد «نظرية» إلا في أوروبا.
ويوضع نسيان الذات في نظام النشاط العملي والنشاط الوجداني مثل عديد من القيم الأخرى. الحب الخالص، الحب الشامل للجار ، الحب المطلق.
59
وليس الكمال من ينازع فيه، بل رؤية رسالة. ليس «الله» فعلا، بل هو دائما في صيرورة. لا يكون إلا عملية تتحقق فيها الألوهية بذاتها.
60
وقد تمت دراسة العقل العملي في البحوث الأخلاقية فيما يتعلق بميدان الوجدان؛ ونظرية القيم، والجمال، والأخلاق.
61
وتسود كل هذه البحوث الموازاة بين المنطق والأخلاق، أو بين العقل النظري والعقل العملي. وتقدم البحوث المنطقية النموذج للبحوث الأخلاقية، ثم بحث علم الأخلاق كعلم قبلي داخل أنطولوجيا صورية؛ ومن ثم فإما أن تحال المشكلة الخلقية إلى المنطق أو إلى القبلي. هذا بالإضافة إلى أنه لم تتم دراسة المشكلة الخلقية على نحو نسقي كما هو الحال في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» أو في «اللازمة». وهذا يعني أن الأخلاق لم تكن إلا نقطة تطبيق لنتائج تم الحصول عليها من قبل في «بحوث منطقية». ومع ذلك يقدم مجموع المخطوطات مخططا ثلاثيا للمشكلة الخلقية؛ أولا وضع الأخلاق داخل الظاهريات، ثانيا فكرة أخلاق خالصة، ثالثا مخطط الأخلاق التي تقترحه الظاهريات.
أولا:
بعد تحول الفلسفة إلى ظاهريات، وبعد تأسيس الظاهريات كمنهج، أحيلت الأخلاق إلى المنطق دون أن تكون ميدان تطبيق، مثل المنطق، للمنهج الظاهرياتي الذي تم تكوينه من قبل. وبتعبير آخر، امتد المنطق على الأخلاق دون دراسة المشكلة الخلقية في حد ذاتها. وقد رفضت النزعة النفسية في المنطق وفي الأخلاق على حد سواء، كما تم رد الطبيعة المادية في المنطق وفي الأخلاق معا، وتم تفنيد النزعة الصورية في العلمين معا. وباختصار كتبت «بحوث منطقية» مرة ثانية في الأخلاق دون معرفة عما إذا كانت الموازاة المنطقية الأخلاقية ممكنة.
62
ثانيا:
توجد الموازاة الأخلاقية المنطقية أيضا في البحث عن أخلاق خالصة كعلم قبلي. وإذا كان المنطق تقنية المعرفة، فإن الأخلاق تقنية السلوك. توجد العمومية والشمول والموضوعية في الأخلاق، ونموذجها عمومية الرياضيات وشمولها. وبالرغم من رفض كل موازاة بين الأخلاق والرياضة، وبين الأخلاق والطبيعة، وبين الأخلاق واللاهوت، إلا أن هذه الموازاة قد قبلت في النهاية بين الأخلاق والمنطق. فإذا رفضت العقلانية والصورية من الأخلاق، فكيف تصبح الموازاة الأخلاقية المنطقية ممكنة دون الرجوع إلى العقلانية والصورية المستبعدتين؟ وطبقا لهذه الموازاة منطق العواطف له نموذجه في منطق الأحكام. وأخيرا، الأخلاق الخالصة علم معياري يتخذ المنطق معيارا.
63
ثالثا:
يطبق المخطط المنطقي إذن في الأخلاق. وكما ينقسم المنطق إلى منطق نظري، وهو علم معياري، ومنطق عملي، وهو تقنية المعرفة، كذلك تنقسم الأخلاق إلى مبحث القيم النظري والعمل الخالص. وكما ينقسم المنطق إلى منطق صوري ومنطق مادي، كذلك ينقسم مبحث القيم الصوري إلى مبحث القيم الصوري ومبحث القيم المادي. وكما ينقسم المنطق العملي ينقسم إلى صوري ومادي، كذلك ينقسم العمل الخالص إلى عمل صوري وعمل مادي. وهكذا تطبق مبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع في القيم، وأخذت هذه القضايا من المنطق الصوري كنماذج لقضايا مبحث القيم الصوري. وهكذا أصبح مبحث القيم مبحث المصادرات! وأخذت القضايا الشرطية المتصلة والمنفصلة كنمط علاقات قبلي للقيم؛ كبير وصغير، كثير وقليل، كل وجزء. ويتبع أيضا اختيار القيم قوانين كمية على التفضيل.
64
وتم أيضا تحليل العمل الصوري طبقا لقياس مسبق بين حقيقة الإرادة وحقيقة الأحكام.
65
قد يكون في هذا المخطط المقترح تطبيق للمنهج الظاهرياتي من أجل الكشف عن القصدية في الأخلاق؛ فمبحث القيم هو صورة الشعور، والعمل هو مضمونه. وفي مبحث القيم، مبحث القيم الصوري هو صورة الشعور، ومبحث القيم المادي هو مضمون الشعور. وفي العمل، العمل الصوري هو صورة الشعور، والعمل المادي مضمون الشعور. والحقيقة أن هذه القسمة إلى صوري ومادي مستمدة من المنطق كنموذج للأخلاق. وهكذا فإن الموازاة الأخلاقية المنطقية، وليست القصدية الأخلاقية، هي أساس هذا المخطط المقترح للأخلاق.
وكل مصادرات للأخلاق هو «رد» لمستوى إلى مستوى آخر بالرغم من أن المستويين متمايزان. بين العقل والواقع هناك اختلاف في النوع. وكل قسمة عقلية، مهما كانت جامعة مانعة، لا تغطي كل جوانب الواقع. الواقع أكثر اتساعا من كل قسمة عقلية. تقدم كل قسمة عقلية حلولا آلية تماما، في حين أن الواقع له طبيعة حركية تهرب من كل اختيار آلي. تضم القسمة العقلية إمكانيات محدودة للحلول، في حين أن الواقع يقدم دائما حلولا جديدة.
الأخلاق علم إنساني، ينتمي إلى منطق الظاهرة الإنسانية، لها مستواها الخاص، ولا يمكن ردها إلى الرياضيات أو إلى المنطق. يأخذ منطق الظاهرة الإنسانية في الاعتبار: الانقطاع، عدم القدرة على التنبؤ، وعدم الرد، وأحيانا عدم القدرة على الفهم للظاهرة الإنسانية، ويقتضي الانتقال من مستوى إلى آخر قفزة؛ إذ يهرب مسار تطور الظاهرة من حتمية قانون ما حتى ولو كان ساكنا أو محتملا، طبيعة مضمونه مخالفة لطبيعة التصورات. الظاهرة الإنسانية تجلت للوجود الذي يهرب من المعرفة؛ فالحياة أحيانا غير الفهم.
وتبلغ ذروة إنكار الحركة في أعمال هوسرل في كتاب «الأرض لا تتحرك»، يقلب فيه الثورة الكوبرنيقية في دوران الأرض إلى ثوره مضادة في ثبات الأرض، ويتعرض لمفاهيم المكان والجسد والكرسي والأرض من أجل تحويل مفاهيم علم الطبيعة إلى نظرة مثالية للعالم، وهو أشبه بمحاضرات «التحليل الداخلي للزمان» لعام 1905م. وعلى منواله نسج هيدجر «نشأة العمل الفني»؛ فنحن نسير على البسيطة، ولكن الأرض هي كوكب مثل باقي الكواكب، لها فلك ثابت يجعل معنى الحركة والسكون ممكنا. ونسير في المكان حيث تختلط حركة الجسد وسكونه بالكرسي الذي أجلس عليه، ولا يتكون المكان من أنماط متعددة لتجسدي ولميادين مختلفة لحساسيتي، نحن نسير وسط الأشياء، فكيف تتكون إذن طبقا للأساس الحاضر لإدراك العالم المحيط الخارج عني؟ وكان قد تعرض هوسرل لنفس الموضوع في مخطوط سابق (نشأة العالم) عن نشأة العالم في الشعور لحظة الوعي به، وليس خلقه كما هو الحال في اللاهوت الطبيعي وفي علم الكونيات.
66
ينشأ المكان في الشعور، وتنشأ الحركة فيه. فأنا الذي أتحرك وليس الأرض، وأول صلة بالعالم هو الكرسي الذي أجلس عليه.
67
الحركة والسكون بعدان للجسد في المكان، وكلاهما قصد للتوجه في العالم. وليس العامل هو الذي يتحرك في الجسم، ولو قفز الجسم فوق العالم فإنه أيضا يتحرك فيه وليس خارجه. العالم ميدان للتوجه وميدان لحركة الجسم. العالم صفة للجسم، والحركة والسكون صفتان للجسم. المكان البصري خداع ناتج عن الإدراك، المكان الخارجي بين قوسين، ولا يوجد إلا المكان كبعد للجسد.
الحاضر الحي هو الوحدة التصورية لمعطيات الإدراك الحسي، هو العالم الأول قبل العالم الثاني خارج الشعور، ثم يأتي تكوين الآخرين والكرسي كأول موضوع للعالم المحيط خارج مكان الجلوس.
68 (2) الحركية في التطور اللاحق للظاهريات وتحولها إلى أنطولوجيا ظاهراتية
69
يوجد في الظاهريات تيار أخذ الحركة كمخطط «دينامي» رئيسي، وهو تيار فلسفي أكثر منه تيارا منهجيا.
70
ويظل «العالم المعيش» الذي بدأت منه الظاهريات في كل قوته كدافع وانبثاق وتقدم نحو المستقبل، إلا أنه يتحول إلى الطرف الآخر رافضا أي عملية تقوم على مخطط وكل بطء منهجي.
71
ولم يتم تحليل العواطف والانفعالات أو القيم دائما تحت عنوان الظاهريات،
72
بل يستعمل هذا اللفظ أحيانا داخل التحليل ملحقا بلفظ آخر أو بمفرده،
73
ويتم على العموم تحليل الحياة العاطفية مباشرة دون تطبيق بالمعنى الدقيق للمنهج الظاهرياتي. وقد تم وصف الحقد، الحياء ، الألم، الحب، المأساوي ... إلخ دون الاستعانة بأي مصطلحات ظاهرياتية. يأخذ المؤلف على عاتقه مسئولية تطوير الظاهريات وتفسيرها بطريقته الخاصة.
74
وتتطور الظاهريات مرة أخرى كي تصبح أنطولوجيا وجدانية،
75
وتتسم باتجاه موضوعي وواقعي طبقا للطبيعة العيانية للمشاكل المعروضة، وهي المشاكل الأخلاقية والدينية، تعطي الأولوية للوجود على المعرفة، وصنف مؤسس الظاهريات بين المفكرين الذين انشغلوا بالمشكلة الأساسية لكل نظرية في معرفة العلوم الأخلاقية؛
76
فهو أخلاقي أكثر منه إبستمولوجي، وفي المعرفة اعتبر مناصرا للمثالية الغنوصية.
77
ومن ثم أصبحت القصدية العقلية قصدية وجدانية، والقيمة موضوع الوجدان الذي يتجه إليها. وإذا كان عالم الماهيات المنطقية دائما في علاقة تضايف مع المسارات العقلية التي تسمح لها بالظهور، كذلك يظهر عالم القيم كإجابة على كل المسارات القصدية.
78
ليس الرد الظاهرياتي فقط عملية منطقية بل قلب داخلي للوجود، ليس مجرد توقف عن الحكم بل مشاركة فعلية في تكوين الموضوع، هو اتساع وتعميق لهذا الزهد الذي يبدأ المعرفة الفلسفية ويصاحبها؛ ومن ثم فإن مؤسس الظاهريات لم يعمق بما فيه الكفاية طبيعة «لحظة الواقع»، وتصور الرد على نحو منطقي خالص تماما؛ فإذا أصبحت الأشياء ظواهر عند مؤسس الظاهريات، فإن الظواهر تصبح أشياء في الظاهريات الوجدانية؛
79
لذلك اعتبر الرد الظاهرياتي «لا» قوية تعارض الواقع. الواقع ليس شيئا ميتا أعطى في حساسية خاصة، بل هو إحساس بالمقاومة بالنسبة لدافع أو ميل أو دفعة حيوية تحرك الشعور. رد العالم ليس فقط التوقف عن الحكم على الوجود، بل محاولة القضاء على صفة الواقع ذاته وإعدامه. الرد هو استبعاد هذا الهم الأرضي عن طريق تحويل العالم إلى مثال، والذي هو في الحقيقة زهد.
80
وكما تميز الظاهريات بين المستوى الصوري والمستوى المادي، فإنها تميز أيضا بين الإحساس الوجداني والحالة الانفعالية في الحدس الوجداني.
81
وفي نظرية الإدراك الحسي الخارجي تعتبر لحظة التخارج عصية على الرد وعلى التفسير بمجرد إسقاط الإحساسات.
82
وفي الظاهريات العقلية تركت مشكلة الواقع بلا حل، وفي الظاهريات الوجدانية معرفة الواقع مختلفة تماما عن معرفة الماهيات، المعرفة تأمل نزيه وقائمة على الدهشة والتواضع والمحبة، في حين أن الإدراك الحسي للواقع والذي يقوم على الرغبة في السيطرة له طابع عملي، ومرتبط بالعمل وبالتطلعات وبالإرادة؛ فالواقع يقاوم الإرادة. وهكذا تتحول الظاهريات العقلية إلى نوع من المثالية تعزو إلى معرفة الدافع الطابع المنزه والتأملي الذي تتميز به المعرفة الفلسفية للماهيات. إدراك الواقع مباشر وحدسي للموضوع كله، ويظهر في أربع دوائر للوجود عصية على الرد النفسي، والعالم الخارجي، والعالم الإنساني، والمطلق.
83
ليست الماهيات دلالات خالصة بل موجودات موضوعية، ليست فقط معقولة بل أيضا لا منطقية. والأفعال التي تطابقها أفعال وجدانية ترتبط بالجانب الوجداني للروح.
84
لم يعد الحدس، كما هو الحال في الظاهريات، تطابقا كاملا بين الدلالة ومدلولها؛ لأنه يوجد مضامين ليس لها دلالات مباشرة ومع ذلك هي أفعال قصدية محددة، وهناك ماهيات ليست مرتبطة ارتباطا مباشرا بالدلالات، ماهيات لا منطقية ولا عقلية خارج المعقولات. ظاهريات القيم ميدان للبحث مستقل تماما، ولا يعتمد على ما يؤسس المنطق. هناك إذن قصدية عاطفية لا يمكن الوصول إليها، وعصية على القصدية العقلية.
85
وفي الظاهريات كل الماهيات تتصف بالعمومية، ومضامينها عامة دائما، وفي الظاهريات العاطفية مضامن الماهيات اللاعقلية فردية تماما على نحو فردي كامل.
86
وتمتلئ الرموز تماما بالحضور الشخصي للشيء.
وتوظف حدوس الماهيات بتحولها إلى معايير تنظم استعمال الذهن المتجه نحو الوقائع الحادثة. وتوجد هذه الظاهرة في الوظائف العاطفية وأيضا في الإرادة.
87
ويمكن تمثيل التحول من الظاهريات العقلية إلى الظاهريات الوجدانية بالتحول من الشعور إلى الشخص؛ فالشعور القصدي ليس هو شعور الأفعال الخالصة بل شعور الأفعال الوجدانية. هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شخص على العموم، كما يوجد شعور شامل، بل يوجد فقط أشخاص عيانية وفردية.
88
ولا يكفي التحول من الظاهريات العقلية إلى الظاهريات الوجدانية لتحويل الظاهريات السكونية إلى ظاهريات حركية؛ ففي الظاهريات الوجدانية، الحب، ولا شك، حركة إلا أنه ليس خالقا، بل فعل قصدي كما هو الحال في الظاهريات العقلية؛ ومن ثم يستبعد كل نشاط خلاق في سكون عالم الماهيات. ويظل المنهج الظاهرياتي في الحدس الوجداني منهج تحليل معزولا، يمنع من أي تضارب للماهيات . ويتجلى غياب النشاط الخلاق في الشخصية، وفي الفعل، وفي الماهية، وفي الإرادة. صحيح أن الشخصية يمكن أن تتغير ولكنها لا تخلق نفسها بنفسها بالفعل. والفعل في الظاهريات فعل الشعور أو فعل الوجدان، ليس فعلا حقيقيا؛ فالشخص ليس جوهرا ثابتا بل مركز ممكن للنشاط الخلاق، تنفتح أمامه دائما إمكانيات جديدة، ويظل الفعل التركيبي بين الاستقلال والتبعية فعلا تأمليا من متفرج أكثر منه فعلا مباطنا لرسالة الإنسان. ليست الماهية كيانا ساكنا بل هي خلق مستمر ينتجه نشاط خلاق. وأخيرا للإرادة أيضا قصديتها في «الحدس-الفعل»، وليس في مجرد حدس لا عاطفي. وباختصار لو كانت القيم الساكنة في مواجهة الحدس الوجداني، فإن القيم الخلاقة تكون في مواجهة «الحدس-الفعل».
89
ويغيب أيضا النشاط الخلاق في الظاهريات الوجدانية من وصف القيم التي ما زالت منفصلة عن الحدس الإرادي، وغياب النشاط الخلاق هو أيضا غياب للحرية؛ فالحرية للفعل دائما وليست إلا للفعل. وأخيرا يغيب النشاط الخلاق في الظاهريات الوجدانية في ازدواجية بين القيم الشخصية والقيم اللاشخصية. توجد القيم الخلاقة في القيم بين الشخصية.
90
ومع أن التحول من الظاهريات العقلية إلى الظاهريات الوجدانية خطوة كبيرة نحو الظاهريات الحركية، إلا أن النشاط الخلاق ما زال بعيد المنال.
91
وحتى لو تضمنت الفلسفات المتولدة عن الظاهريات بعض الحركية واقتربت من الحياة الفعلية، فإنها تقدم أساسا اكتشافا للوجود تظهر فيها الحركية في الزمانية،
92
وقد تظهر في الفعل،
93
وقد تظهر في حركة الجسد،
94
ومن اللازم للظاهريات قبل أن تكون بحثا في الوجود أن تكتشف العالم في جانبه الحركي. وتصبح كل هذه الحركات تدريجيا فلسفات مستقلة أكثر منها بحوثا ظاهراتية بمعنى الكلمة، ومن الصعب إيجاد صلة بين مناهجها وأساليبها ونتائجها والظاهريات. كان كل باحث ظاهراتيا في البداية، ثم أصبح فيلسوفا كامل المسئولية في النهاية.
وفي التحليل الوصفي للوجود توجد الحركية في التاريخانية كبعد في الوجود الإنساني.
95
والتحليل الوصفي للوجود، طبقا للمعنى الاشتقاقي للفظ، تحليل هو بالضرورة تفكيك نظري لكل شامل. والعنصر الوحيد الذي يمكن اعتباره حركيا هو التاريخانية؛ أي تحديد الوجود الإنساني بالميلاد والموت،
96
ويتحقق استمرار الحياة في الزمان بين البداية والنهاية، ومن خلال التغير المستمر للحالات المعيشة تظل الأنا في نوع من الهوية. ليست حركية الوجود هي مجرد حركة الدافع البسيطة؛ أي الشيء المعطى؛ إذ تتحدد هذه الحركية بامتداد الوجود الإنساني، هذه الحركية هي التاريخي.
97
ولا يقوم المشروع الوجودي لتاريخانية الوجود الإنساني أكثر مما كان موجودا من قبل مطويا في «تزمين الزمانية».
98
الموجود في وجوده هو وحده الذي له مستقبل في الموت، وظواهر النقل والتكرار متجذرة في المستقبل.
وهكذا تظهر الحركية في تاريخية الوجود الإنساني. حركيته، من الميلاد إلى الموت، نهائيته. ومع ذلك حركية الفعل الخلاق والتخليد غائبة تماما، ليست التاريخانية والزمانية مكونين للوجود الإنساني، بل هما أيضا عاملان للتأبيد.
99
وإذا أخذت ماهية الفعل كمركز للتحليل، لأنه من المستبعد تحديدها، فإنها تؤخذ كنقطة بداية لاكتشاف الوجود وراءه؛ ومن ثم فإن ماهية الفعل ليست منفعتها في الواقع، ماهية الفعل في إنجازه. والإنجاز ليس مجرد التحقيق، بل تجلي الشيء في امتلاء ماهيته.
100
ويقتضي الإنجاز ما ينجز، وهو الوجود أولا وقبل كل شيء.
101
والقدرة عنصر الفكر، رغبة الماهية أي رغبة الوجود. وقدرة الفكر إمكانية الوجود أي واقعه ، هي قدرة الوجود أي وجوده،
102
حتى الصيرورة فإنها صيرورة الوجود.
ومن ناحية أخرى يحقق الفكر العلاقة بين الوجود وماهية الإنسان،
103
ليس الفكر فقط التزاما بالفعل بل أيضا بالحقيقة،
104
والإنسان هو حيوان ناطق.
105
والتقنية، التي تعبر عن نشاط الإنسان، طريقة الكشف عن الوجود.
106
ويعني فعل «عمل» «فعل».
107
لا يشير الفعل فقط إلى النشاط الإنساني بل أيضا إلى الطبيعة، طاقتها وتحققها؛
108
ومن ثم ينتهي الفعل إلى الوجود. والانهيار خراب عندما يوضع إنسان الميتافيزيقا، الحيوان الناطق، كنحلة شغالة.
109
وتعتبر ميتافيزيقا الإرادة ميتافيزيقا الموجود وليس الوجود. ولن يغير الفعل وحده حالة العالم.
110
ويعني البناء الذي يشير إلى الفعل السكن، ويعني الوجود الفكر.
111
والشعر هو القوة الرئيسية في السكن.
112
وتظهر الظاهريات الحركية في تحليل الفعل الذي يتحقق مرة مع الوجود ومرة أخرى مع الملكية. الوجود والفعل يصنعان مسألة الحرية. الفعل هو تغيير شكل العالم.
113
والحرية الفاعلة للوجود الفاعل أساس كل عمل. الفعل هو الذي يحدد غاياته ودوافعه. الفعل تعبير عن الحرية. ليست للحرية ماهية، بل على العكس الحرية أساس كل الماهيات. ليست الحرية شيئا آخر إلا الإعدام. إنها العدم نفسه داخل قلب الإنسان. إلى هذا الحد ينتهي تحليل الفعل: الحرية العادمة ماهية الوجود.
ثم توجد فلسفة المشروع. الإنسان هو ما يفعل. الإنسان أولا مشروع ذاتي.
114
الإنسان يختار بنفسه. والفعل الفردي يلزم نفسه بالإنسانية كلها. وتتكون العاطفة بالأفعال، والفعل بلا أمل.
الظاهريات تكوينية بالأساس، تبحث عن نشأة الماهية العيانية.
115
ومع ذلك، يظهر الجانب الحركي كحركية في ظاهريات الإدراك الحسي.
116
صحيح أن مكانية الموضع ليست مثل مكانية الموقف مما يسمح بالتمييز بين حركة الشيء، ويتم إدراكه بالنقاط والأشكال، وحركة الجسد. وتدرك بالمخطط الجسدي، وهو تمييز في علم النفس. ويظل تمييزا علميا، والفعل أكثر من مجرد طريق إلى مكانية الجسم، بل هو تجل للنشاط الخلاق كله، ويثبت تحليل الحركية ميزة الحركات العيانية الضرورية للحياة؛ أي ليس فقط ظهور المكان الجسدي دون قصد معرفي بل نشأة العالم.
117
صحيح أن التمييز بين الدلالة العقلية والدلالة الحركية، بين قصدية نظرية وقصدية حركية، تدل مرة أخرى على أن الجسد هو قوة في عالم ما، ويمكن وضع هذا التمييز خطوة أبعد بحيث تؤدي إلى الشخص كرسالة، وإلى الحياة كخلق، وإلى الوجود الإنساني كمركز لنشاط ممكن. وإذا كان للحركية أساس وجودي، وإذا كان لها وحدتها في «القوس القصدي» الذي يعبر عن الوجود في كل علاقاته تتجاوز الحركية بنيتها كحركة بسيطة، تكشف عن الوجود في نشاطه. وهكذا تظل الحركية كقصدية للجسد على مستوى الواقعة، موضوعة بين قوسين؛ ماهية الحركية هي النشاط، وماهية الجسد هي الشعور. والفرد أو الشخص هو موقع انبثاق هذا النشاط. يظل المكان اتجاها طبيعيا. المكان هو العالم كميدان للفعل، والعادة باعتبارها حصيلة حركية لدلالة جديدة قد تكون دلالة، وتستطيع أن تعبر عن النشاط الخلاق للذات.
118
وإذا اصطدمت حركية الجسد بمسألة النشاط الخلاق بسبب التحليل العلمي، تصطدم الحرية أيضا بنفس المسألة بسبب التحليل النظري،
119
صحيح أن الحرية نقل النشاط الخلاق إلى المستوى النظري الخالص، وكل تفكيك للسلوك إلى باعث، ودافع، وقرار، واختيار، وإرادة، وموقف ... إلخ، امتداد للروح العلمية التحليلية على بداهة الوجود الإنساني، والبرهان لا يثبت ولا ينفي واقعة ما. الواقعة من حيث هي كذلك لا تحتاج إلى إثبات أو نفي. توجد نفسها بنفسها، تمتد أو تنكمش، تنكشف أو تستتر، تقوى أو تضعف. إذن التحليل العقلي للحرية، سواء كانت موجودة أو معدومة، للأنا وللآخر، نقل لواقعة على المستوى العقلي الخالص، ولن يتوقف العقل عن إسقاط تفكيكاته وتجزئاته على الواقع.
120 (3) الحركية في الظاهريات التطبيقية
121
إن غياب الحركية في الظاهريات تم استدراكه في الظاهريات التطبيقية مثل «فلسفة الإرادة»، ونقلت الحركية على المستوى التجريبي اعتمادا على المعطيات النفسية، ومرة أخرى على المستوى العقلي اعتمادا على المعطيات الأسطورية. وبتعبير آخر، أدخلت الحركية مرة في الاتجاه الطبيعي ومرة أخرى في الاتجاه الأسطوري الديني، ويستبعد كلا الاتجاهين بفضل الرد الظاهرياتي. صحيح أنه تم الرد في الحالة الأولى من أجل اكتشاف قصدية ذات بنية ثلاثية: القرار، الموت، الموافقة. والحقيقة أن الرد الظاهرياتي وحده الذي ينكر «الواقعة» التي بين قوسين ليس كافيا، ولا بد من إكماله بالرد النظري الذي يستبعد كل اتجاه نفسي في بحث الماهية؛ لذلك فإن النتيجة التي تم الحصول عليها، العلاقة المتبادلة بين الإرادي واللاإرادي، تتماس مع ماهية النشاط الإنساني دون القبض عليها؛ ولذلك تم اقتراح الحرية الخلاقة كمركز للأفكار المحددة لحرية ليست خلاقة، لحرية تقوم على الباعث وحرية متجسدة تعتبر في حد ذاتها «يوتوبيا» الحرية.
122
الإرادي هو اختراع خالص من الغرور أو المذلة، يدعي الفعل الخالق أنه إرادي، ويبرر غيابه باللاإرادي في حين أن الفعل الخلاق لا إرادي باستمرار، تستدعيه الطبيعة. كل فعل ينبثق من الطبيعة مركزة على الرسالة.
123
وهكذا قسم عقل مفرق حركية الإرادة بين التجريبي والشعري، يقترب التجريبي من الحسي بل ومن المادي، في حين يقترب الشعرى من العقلي وأحيانا من الصوري. يوجد الحركي تماما بين هذين الطريقين؛ أي في الإنساني. ويظل العالم المعيش فوق التجريبي وتحت الصوري.
وقد نقلت شاعرية الإرادة الحركي على مستوى عقلي خالص، وخضع لتحليل ميكروسكوبي على مستوى التصورات: تحديد، اختلال النسبة، خلط؛ ونسق ثلاثي جزئي: واقع، نفي، حد؛ أو: إثبات أصلي، اختلاف وجودي، توسط إنساني.
124
ينتمي الحركي إلى الواقع الحي، ويتجلى بداهة. والحركي كواقع حي يتجاوز كل ميتافيزيقا عقلية ميكروسكوبية.
125
وإن ترجمة الظاهرة الإنسانية إلى قضية عقلية مثل ترجمتها إلى لغة رياضية؛ الأولى تستعمل اللغة، والثانية تستعمل الرمز. من اللازم إذن رد شعر الإرادة من الصوري إلى الترنسندنتالي.
والتناهي شرط اللاتناهي. ويصبح تناهي الوجود الإنساني لا تناهيا بنشاطه الخلاق الذي يعطيه حضورا دائما في التجربة المشتركة. والعمل الذي يتم في التناهي يجعل الوجود الإنساني لا متناهيا في حضوره في شعور الآخرين؛ ومن ثم فإن الإحساس بالذنب هو غياب أو وعي بالوجود الإنساني برسالته الخاصة. الذنب هو جحد الطبيعة؛ فالطبيعة رسالة. الذنب إذن هو جحد بالرسالة. ورسالة الوجود الإنساني هي بالضبط التحول من النهائي إلى اللانهائي. الإنسان المخطئ هو هذا الذي ولد مرة ويموت مرة وانتهى الأمر. ولا توجد خطيئة أولى ولا ذنب أول. الإنسان بريء بطبيعته،
126
يكسب أفعاله، ويحرر «ناره » الداخلية من أجل تحقيق رسالته.
وليس للشر وجود جذري. هو تفسير عقلي، مثل اللاإرادي، يقوم على الغرور أو المذلة، وهزيمة الشر افتراض من الغرور، ويقبل الشر بالمذلة. هناك فقط مستويات للوجود.
127
والفشل مؤقت من أجل نجاح قريب، والعقبة قيمة، وخيبة الأمل يقين قادم، الشر انطباع وقتي خالص.
128
وقد أمكن العثور على الحركة في الظاهريات التطبيقية، ومع المكان والزمان يمكن كتابة تاريخها الأنطولوجي القديم،
129
وبالرغم من ربط الحركة بالحركية والطاقة إلا أنها لم تتجاوز مستوى تاريخها القديم.
130
ولم تستطع الدخول في المنهج الظاهرياتي نفسه من أجل خلق ظاهريات حركية.
وقد شعرت الظاهريات التطبيقية بضرورة الظاهريات الحركية، ووضع تدرج مفهوم الوجود سؤال السكوني والحركي لمشاكل الوجود.
131
وقد منعت التأملات الأنطولوجية حول الحركة في الوجود من رؤية نسق الحركة والمنهجية الحركية لظاهريات الفعل.
في الظاهريات التطبيقية، استدعى البراكس بين الحين والآخر دون أن يصبح فكرة موجهة.
132
كانت موجهة نحو دراسة نظرية لموضوعات للاستعمال أو موضوعات حضارية دون أن تؤدي إلى فلسفة مشروع أو فلسفة فعل.
ويمثل «التركيب العملي» مقاربة إلى فلسفة الفعل.
133
والانتقال من النظري إلى العملي انتقال تأملي خالص. ويصب التركيب العملي في أخلاق للسعادة والاحترام. ومع ذلك هل يكفي ذلك؟ يمكن استبدال بنقد النظريات المختلفة حول الإرادة رؤية تركيبية من هذه الجوانب كلها، وتكشف كل نظرية عن جانب من الإرادة.
134
ويتم اكتشافها طبقا لمزاج مؤلفها.
وأخيرا لوحظ غياب الحركية في الظاهريات في الدراسات الثانوية لحد القول إن الظاهريات قد تكسرت على حدود البراكيس.
135
وسواء كانت الظاهريات من الروح أو من الشعور فإنها في كلتا الحالتين تأملية خالصة.
136
وقد نقدت الظاهريات باعتبارها تفسيرا ساكنا للخبرة الحية، وكنظرية لا شأن لها بالعمل، كمثالية يتجاوزها العمل وتحليل الخبرة الحية.
137
ويدل غياب الحركية في الظاهريات على ضرورة وجود ظاهريات للفعل؛ فتتحول حياة الظاهرياتي إلى معمل متنقل يعيش الظاهرة، وتخضع لتحليله النظري لإدراك ماهيتها. وبتعبير آخر تتبخر الخبرة الحية، وهي ليست إلا شحن طاقة بالتفكير دون أن تتجلى في صورة فعل حقيقي.
138
كما يوجد نوع معين من التجارب الثقيلة للغاية لدرجة أنها تعصى على التحليل النظري من أجل التوجه إلى العمل. وأحيانا يتطلب العمل قفزة من الفكر إلى العمل دون أن يكون العمل انبثاقا من أي تحليل نظري.
لقد تمت دراسة مشكلة العمل في كل مكان ولا في مكان؛ فقد تمت دراستها في كل العلوم الإنسانية؛ في الفلسفة، في علاقة الفكر والفعل، وفي العلم في مشكلة العلم والعمل، وفي الدين في دراسة المشكلة الخلقية. درسها كل فلاسفة العصور الحديثة بالإضافة إلى الفلاسفة القدماء.
139
وحتى الآن لم تتم صياغة ظاهريات للفعل.
140
الفصل الثاني: الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية1
ما زالت الظاهريات في الحالة الراهنة فلسفة نظرية دون تطبيقها على نحو دائم في البحوث الفلسفية، والدراسات على الظاهريات النظرية أكثر من الدراسات على المشاكل العملية. الظاهريات النظرية مرتبطة أشد الارتباط بالظاهريات السكونية، وغياب التطبيق نتيجة طبيعية لغياب الحركية .
وقد لاحظت الدراسات الثانوية نفس الشيء؛ فقد قامت دعوات عديدة من أجل القيام بدراسات تطبيقية حتى لا تصبح الظاهريات أي شيء.
2
وكل فكرة لها علاقة بالعمل حتى الوجود.
3
أولا: مميزات الظاهريات التطبيقية على الظاهريات النظرية1
للظاهريات التطبيقية عدة مميزات على الظاهريات النظرية. أهمها ثلاثة؛ أولا: الظاهريات التطبيقية ذات اتجاه واقعي خاصة إذا كان موضوع الدراسة لا يرد إلى المبادئ المنطقية.
2
ويكون مضمون الشعور خاليا من أي حقائق لا واقعية وخيالية ما زالت تسود الظاهريات النظرية. صحيح أن المخيلة يمكن دراستها كجانب من الواقع، ولا تكون الدراسة على المخيلة في ذاتها، ولكن المخيلة كوظيفة للشعور.
3
ثانيا: لا تتعامل الظاهريات التطبيقية مع كل الموضوعات أيا كانت، بل تتعامل فقط مع الموضوعات الدالة. وبتعبير آخر كما اختارت الظاهريات التطبيقية من قبل الموضوعات الواقعية أكثر من الموضوعات الخيالية فإنها تختار هذه المرة الموضوعات الواقعية الدالة وليس أي موضوع «دنيوي»؛
4
إذ يضم الواقع وقائع مصمتة ووقائع دالة. والوقائع المصمتة أقل حملا للدلالات.
5
ثالثا: تتجه الظاهريات التطبيقية دائما إلى غاية عملية، في حين أن الظاهريات النظرية ليست لها أي غاية عملية محددة. الظاهريات العملية أساسا ظاهريات غائية ، في حين أن الظاهريات النظرية يتم فيها التحليل من أجل التحليل.
6
وبالرغم من أن التحليل دقيق إلا أنه لا ينتهي إلى أي غاية عملية. في الظاهريات النظرية العلم من أجل العلم، وفي الظاهريات العملية العلم من أجل الحياة.
7
وبالإضافة إلى هذه المميزات السابقة تجد كثير من المشاكل في الظاهريات النظرية حلولها في الظاهريات التطبيقية؛ فالواقع أنه في الظاهريات النظرية يظل الشعور عالما أكثر اتساعا من العالم الواقعي. يحتوي تصورات ومقولات وميادين يتكون فيها الموضوع. لا يكفي وضع الموضوع المادي بين قوسين، الرد الظاهرياتي. ولا يكفي أن ينتزع من الموضوع الحي كل الآثار النفسية، الرد النظري، لأن ما تبقى يظل محاطا ومغلفا بالمؤلف نفسه بتصورات ومقولات وميادين أو مركباتها، مثل: تصورات ميدانية، مقولات تصورية، ميادين أنطولوجية، أنطولوجيات ميدانية ... إلخ. ولا يهم إذا كانت عوامل الشعور هذه واقعية أم لا واقعية، ما يهم هو ما يتبقى من الموضوع بعد أن تم رده مرتين ثم تغليفه مرات عديدة. هذه الملاحظة ليست موجهة من إمكانية قيام أنطولوجيا كعلم شامل، بل هي فقط تذكير بمبدأ «العود إلى الأشياء ذاتها». في الظاهريات التطبيقية، يظهر الموضوع في واقعيته الخاصة دون أي تغليف عقلي. التطبيق يبغي الواقع، ويتجه نحوه؛ فالواقع أغنى وأكثر دسامة من التصورات والمقولات.
ما زالت الظاهريات النظرية ملجأ يؤكد أهمية شرعية القبلي، طبقا للميراث الفلسفي الذي منه خرجت.
8
من أين يأتي هذا القبلي؟ تحاول الفلسفة التطبيقية حل هذا الإشكال عن طريق إيجاد معطى أساسي كمصدر للقبلي.
9
هذا القبلي هو معيار عدة أحكام جزئية.
أصدرت الظاهريات النظرية عدة أحكام. كل حركة فكر هي تقريبا حركة سابقة؛ فاللجوء إلى الاتجاه النفسي هو حكم على الاتجاه الصوري، واللجوء إلى المثالية المنطقية هو حكم على الاتجاه النفسي.
10
والرد هو حكم ضد علوم الوقائع.
11
الموضوع الواقعي هو حكم ضد الشك والنسبية والوضعية، ويعيد كل حكم بناء الواقع مع التمييز بين عدة مستويات مختلفة، فهو ليس حكم واقعة جزئية ولا حكم قيمة افتراضية، بل هو حكم واقع كلي؛ فالواقعة موضوعة بين قوسين، والقيمة موجودة في حلول الشيء في الشعور. الظاهريات التطبيقية هي القدرة المستمرة على إصدار الأحكام الجزئية من أجل تصحيح العلاقات بين مستويات عديدة للوجود. كل حكم هو تصحيح علاقة تقوم على الخلط أو الفصل.
12
هذا الحكم الجريء القائم على معيار قبلي يتجنب أن تصبح الظاهريات تبريرا للأمر الواقع.
13
وتضمن للظاهريات تصحيح العلاقة بين مختلف المستويات دون الوقوع في تبرير أحدها أو الدفاع عن الآخر، يساعد على تحديد العالم الحي وإعطاء أكبر قدر ممكن من الواقع، وأقل قدر من الخيال. وباختصار الحكم الجريء هو حكم امتلاء، يتجه نحو الوجود من أجل تصحيح الواقع. والتوقف عن الحكم على الوقائع يمهد الطريق نحو الحكم الجريء.
وقد فتحت الظاهريات النظرية الطريق من أجل إدراك الواقع دون تأطيرها في تصور ممكن للعالم ونسق شامل، وتحاول الدراسات الثانوية تقديم الظاهريات كفلسفة مستقلة بالنسبة إلى الميراث الفلسفي أو معتمدة عليه، وعلى النقيض من ذلك تعطي الظاهريات التطبيقية دائما إلى الظاهريات النظرية دوافع حيوية جديدة باكتشاف ميادين جديدة للتحليل، وكل تجربة جديدة في ميدان ما تمد الظاهريات بأحد جوانب الواقع. الظاهريات التطبيقية هي الضامن للغنى الدائم للظاهريات النظرية.
وأخيرا تتعهد الظاهريات التطبيقية بتحويل الظاهريات إلى منهج للتطبيق؛ لأنها في علاقة مباشرة مع الواقع، وتستطيع أن تحكم على مدى أهمية هذا المشروع، ولا تستطيع الظاهريات النظرية أن تشعر بهذه الضرورة لأن لديها أسباب وجودها في ذاتها، وتبحث عن وسائل تطويرها في ذاتها. وهكذا فإن الظاهريات التطبيقية لا تقوم فقط بدور إعادة تصحيح العلاقة بين التصورات الظاهراتية وصياغة منهج ظاهراتي على قد الواقع، وقادر على التكيف مع الميادين التي يتم تطبيقه فيها. وإذا كانت الظاهريات الحالية في حاجة إلى إصلاح، فإن طريق الإصلاح العاجل يكون في هذا الاتجاه.
ثانيا: الظاهريات النظرية هي نفسها ظاهريات تطبيقية1
ومما يدعو إلى الدهشة أن الظاهريات في مصادرها ومحيطها وكتاباتها الأولى وتطورها التالي وتطبيقاتها الحالية، كان العمل باستمرار محور كل البحوث.
2 (1) المصادر
مصادر المنهج الظاهرياتي في البحوث في ميادين خاصة للعلوم الإنسانية. قدمت فلسفة الحياة كما قدم علم النفس الوصفي للظاهريات العالم الحي والقصدية.
3
ليس المقصود هنا القضاء على استقلال الظاهريات باستعمال منهج الأثر والتأثر لإرجاعها إلى أصولها التاريخية؛ لأن الظاهريات لها ماهيتها الذاتية المستقلة،
4
إنما المقصود فقط بيان كيف نشأت الظاهريات من بحوث تطبيقية في العلوم الإنسانية خاصة في علم النفس.
5 (أ) فلسفة الحياة
6
أصبح مفهوم «العالم الحي» الذي أبرزته فلسفة الحياة هو بالفعل محور الظاهريات، وإحالة الظاهريات إلى فلسفة الحياة دائمة.
7
وقد تم استعارة تمييز «فلسفة الحياة» بين «علوم الطبيعة» و«علوم الروح»، أي العلوم الإنسانية، في بداية «تكوين عالم الحياة»،
8
وهو تمييز ضمني أيضا في بداية «الرد» الظاهرياتي بين «علوم الوقائع» و«علوم الماهيات».
9
وإذا تم الإبقاء على مفهوم «العالم الحي» إلا أن كل فلسفة تصورات العالم تم نقدها باعتبارها فلسفة ممثلة للنزعة التاريخية،
10
ومع أن فلسفة تصورات العالم قد فندت نزعة الشك التاريخي إلا أنها ظلت مرتبطة بها، ومع ذلك ظلت الظاهريات باعتبارها علم الماهيات ضد النزعة الطبيعية والشك في إطار قصد فلسفة تصورات العالم.
11
وقد رفضت فلسفة تصورات العالم من قبل كل ميتافيزيقا لا تنبع من الحياة، كما رفضت الظاهريات كل ميتافيزيقا الشيء في ذاته أو ميتافيزيقا الوجود،
12
ويتفق كلاهما على ضرورة وجود نظرية صحيحة شاملة، ومع ذلك لا تريد فلسفة «تصورات العالم» إنكار القيمة الموضوعية للوقائع التاريخية، وتحكم على الظاهريات بأنها مثالية مطلقة كما تحكم الظاهريات على فلسفات تصورات العالم بأنها نزعة تاريخية؛ أي فلسفة نسبية وشك.
13
وفي المقابل أبرزت فلسفة الحياة نقد العقل التاريخي الذي أهملته الفلسفة النقدية.
14
وتؤسس «فلسفة الحياة» علم نفس وصفيا ضد علم النفس «الطبيعي». وهي المهمة التي استأنفتها الظاهريات وطورتها إلى تأسيس علم خالص.
15
كما أبرزت «فلسفة الحياة» علم نفس تحليليا ووصفيا في مواجهة علم النفس «الطبيعي».
16
وبسبب نقص التنظير العلمي الدقيق، ووضع المشاكل والحلول المنهجية اليقينية لم تستطع مقاومة نقد علم النفس «الطبيعي» وتقدمه.
17
ومع ذلك استأنفت كثير من البحوث «فلسفة الحياة» التي شنها مؤسسها من أجل إعطائها توضيحا أخيرا وتأسيسها تأسيسا علميا دقيقا، أو على الأقل في حدود معينة، حتى اكتمال الظاهريات.
18
وهكذا تستمر الظاهريات في النهل من منبع «فلسفة الحياة»، وفي نفس الوقت تنقدها وتتجاوزها. «فلسفة الحياة» فلسفة حدسية، تريد تأسيس العلوم الإنسانية «علوم الروح» خاصة علم النفس على تجربة باطنية شاملة خالصة، دون تأسيس هذه التجربة على تنظير تحليلي مجرد. ونقصت نظرية التجربة الباطنية نظرية في العقل. فإذا كانت «فلسفة الحياة» تمثل التجربة الخالصة في مواجهة علم النفس «الطبيعي»، فإنها تهمل التحليل المنطقي الرياضي، وهي الإضافة الأساسية للظاهريات. وإذا استطاعت «فلسفة الحياة» أن تبلور حدسا عيانيا، فإنها ظلت مرتبطة بالفردي والجزئي، في حين تضع الظاهريات الفردي في علم رياضي شامل وموضوعي.
19
وإذا كانت «فلسفة الحياة» تطورية، فإن الظاهريات تريد الوصول إلى ماهيات ثابتة. وإذا كانت «فلسفة الحياة» متجذرة في الحياة، فإن الظاهريات تريد تأطيرها في الفعل؛ لذلك لم تستطع «الفلسفة الأولى» أن تتخلص كلية من الاتجاه الطبيعي، ولم يكن كافيا التوضيح المنهجي. والمتطلبات الاستقرائية في حاجة إلى أسس عقلية. «فلسفة الحياة» تحليل نسقي ل «الروح» في حين أن الظاهريات تحليل نسقي للماهية؛ لذلك لم تكن لفلسفة الحياة أثر مباشر على فلسفة العصر بالرغم من أثرها المبطن غير المباشر.
20
ويبين بوضوح نقد الظاهريات لفلسفة الحياة المشكلة العملية موضع النقاش، وهو تأسيس العلوم الإنسانية خاصة علم النفس. وإذا ارتبطت فلسفة الحياة بالفردي والجزئي والحياة الباطنية وبالحي، أي بالظاهرة الإنسانية، فذلك لا يعني أنها فلسفة طبيعية ونسبية وشك. تريد الظاهريات أن تقيم موازاة بين الرياضيات، وهي المثل الأعلى للعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، والظاهرة الإنسانية.
21
ولا يمكن الحصول على العام والشامل عن طريق تحويل العلوم الإنسانية إلى رياضيات كما تم في العلوم الطبيعية، ولكن على العكس بالإيغال في أعمق أعماق الفردي والجزئي. وإذا ما نقدت الظاهريات كثيرا الموازاة بين «العلوم الإنسانية» و«العلوم الطبيعية» كما تظهر النزعة النفسية والوضعية والبرجماتية والنزعة التاريخية ... إلخ، فإنها وقعت في موازاة أخرى بين العلوم الإنسانية والعلوم الرياضية. فإن لم تكن «الروح» شيئا فإنها ليست «صورة». للعلوم الإنسانية مستواها الخاص، لا هو مستوى المادة ولا مستوى الصورة، بل مستوى الحياة.
22 (ب) علم النفس الوصفي
23
لقد مهد تمييز علم النفس الوصفي بين الظاهرة الفيزيقية والظاهرة النفسية الطريق لتطور الظاهريات، وكان لها الفضل في جذب انتباه المعاصرين للظاهرة النفسية في صفتها الأساسية وهي القصدية،
24
وأعطت الدافع فيما يتعلق بمكانة العقل في الدوائر الوجدانية والإرادية.
25
ويمكن اعتبار الظاهريات كنوع من إحكام علم النفس الوصفي؛
26
فهي جزء من ميراثه.
27
وعلم النفس الوصفي هو الأساس التحتي ل «التكوين» في علم النفس الذي يقوم على العلية الفعلية. هذا الوصف لا شان له بوصف علوم الطبيعة.
28
هو وصف التجارب الباطنية التي سميت فيما بعد التجارب الظاهراتية. لقد أعطى علم النفس الوصفي دافعا للبحث عن التجارب الحية القصدية عن طريق الوصف التحليلي.
29
وتعيب الظاهريات على علم النفس الوصفي عدم التمييز بين التجريبي في العلوم الفيزيقية وعلم النفس ، بالإضافة إلى أنه لم يعثر على مفهوم «اللحظة المادية»، ولم ينتبه إلى الرابطة بين الظواهر الفيزيقية كلحظات مادية (المادة الحسية) والظواهر الفيزيقية كظواهر موضوعية، يحصل عليها التحليل العقلي للظواهر الأولى.
30
كما أنها تستعمل لغة اصطلاحية غير ملائمة.
31
يظل علم النفس الوصفي بعيدا عن الظاهريات، ولم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وساد وصفه للقصدية، حدوس ليست هي حدوس الماهيات؛ لذلك لم يصل علم النفس الوصفي بعد إلى التحليل القصدي للماهية.
32
وظلت القصدية ملوثة بالاتجاه الطبيعي الذي حاول علم النفس الوصفي التخلص منه.
33
ولا يكفي تصنيف الظواهر النفسية في علم النفس الوصفي إلى تمثلات وأحكام، وظواهر المحبة والكراهية لتحليل الشعور القصدي، في حين تقترح الظاهريات أيضا مختلف مقولات الموضوعات كإمكانيات خالصة للشعور، مرتبطة ارتباطا تركيبيا في نظرية «الكثرة».
34
وهذه هي وظيفة التكوين الظاهرياتي؛ لذلك توضع الذاتية الترنسندنتالية في مواجهة علم النفس. ليست الظاهريات الترنسندنتالية علم نفس، وليست أيضا علم نفس ظاهرياتيا.
35
إذ ينقض علم النفس الوصفي نظرية في المعرفة تعطيه أساسه النظري كي يصبح تحليلا للماهيات. وينسى في نفس الوقت «الرد»، نظرا لبقاء الاتجاه الطبيعي. كما ينسى إشكالات التكوين لغياب منطق أو نظرية في المعرفة.
36
وفي علم النفس الوصفي أدت ضرورة التعامل مع الجانب النحوي للمعطيات الحية المنطقية إلى إدانة اتجاه جذري مغلق يحدد من الوصول إلى دائرة الأشكال المنطقية، مع استبعاد كم كبير من الاختلافات المهمة من وجهة النظر المنطقية. ومع افتراض أنها ذات طبيعة نحوية فقط لم يعد يبقى إلا عدد قليل يكاد يكفي من أجل ترك بعض المحتويات للتحليل النحوي التقليدي.
37
الظاهريات وحدها بتحليلها العلاقة بين التعبير والدلالة تستطيع المحافظة على التوازن بين التحليل النحوي وتحليل الدلالات.
في علم النفس الوصفي يتماثل الإدراك الداخلي مع الإدراك الخارجي من منظور نظرية المعرفة. هناك ظواهر نفسية مجمعة تحت اسم «ظواهر فيزيقية»، وهناك ظواهر فيزيقية مجمعة تحت اسم «ظواهر نفسية»، والاتجاه الظاهرياتي وحده هو القادر على إعطاء الوحدة الباطنية للمعطيات الحية؛
38
لذلك لم يكن التمييز بين الظواهر الفيزيقية والظواهر النفسية حاسما. وتحت عنوان «الظواهر الفيزيقية» وضعت ظواهر نفسية عديدة. وبالإضافة إلى ذلك، الموضوعات الواقعية معطيات حية حسية خالصة وليست موجودات نفسية، ودورها ليس فقط في علم النفس، بل أيضا في المنطق والأخلاق والجمال. وتم تجميع الظواهر النفسية في ثلاث مجموعات، كل مجموعة لها خاصيتها الخاصة.
39
ولفظ «ظاهرة» متشابه، وتعبير «التجربة الحية القصدية» أفضل منه. وهي ليست شيئين، موضوع وتجربة حية، بل شيء واحد. وهو ليس حالا ولا ذهنيا ولا واقعيا. وهكذا تعيب الظاهريات على علم النفس الوصفي افتراض وجود علاقة فعلية بين الظاهرة الذهنية والظاهرة الفيزيقية من ناحية والعلاقة الداخلية مع الشعور من ناحية أخرى.
40
ويتجه نقد علم النفس الوصفي إلى الغياب الرئيسي لكل تمييز بين مفهومين للشعور، الشعور الباطني والشعور كوحدة ظاهراتية فعلية لتجارب الذات الحية.
41
وهذا هو السبب، بالرغم من اكتشاف القصدية، في عدم التعرف على التاريخ التراكمي لهذه القصدية.
42
نقصه فحص التضايف الناتج عن علاقة صورة الشعور بمضمون الشعور.
43
وباختصار، كل الانتقادات التي تم توجيهها إلى علم النفس التجريبي من علم النفس الوصفي تم توجيهها من جديد من علم النفس الظاهرياتي إلى علم النفس الوصفي. مصاعبه وغموضه كثيرة : بقاء الاتجاه الطبيعي، عدم فاعلية نقد الاتجاه الطبيعي، بقاء النزعة التجريبية في علم النفس، غياب علم النفس كفلسفة وصفية خالصة، غياب الفلسفة الترنسندنتالية، إهمال الأسس النظرية للذاتية، عدم التعرف على المعنى الحقيقي للقصدية، العجز عن تحقيق مشروع الفلسفة الحديثة، وهو علم الذاتية الترنسندنتالية.
44
وباختصار العيب الرئيسي في علم النفس الوصفي أنه لم يصبح ظاهريات بعد. (ج) المنطق الرياضي
45
ليست مصادر الظاهريات وحدها «فلسفة الحياة» و«علم النفس الوصفي»، بل أيضا المنطق الرياضي.
46
لم يسر المنطق الرياضي في طريق الظاهريات؛
47
فالمنطق ما زال بعيدا عن البحث عن الماهية بالحدس الذي يعبر عن نفسه في القبلي وتأسيس الفلسفة وعلم النفس على معرفة الماهية.
48
وفي مقابل ذلك، بدأت الظاهريات من «الرياضيات الشاملة» قبل أن تبدأ من المنطق.
49
ولم يفهم المنطق الرياضي إلا الرياضيات الشاملة، ولم يكن المنطق الخالص للتمثلات المثل الأعلى لحدس الماهيات في الظاهريات، بل على العكس دفع الظاهريات نحو علم النفس. وظل المنطق صوريا، تدين له الظاهريات فقط بنقد العقل.
وللظاهريات دور متميز فيما يتعلق بالمنطق الرياضي، تدفع كل علم للأشكال المنطقية الخالصة حتى الأنطولوجيا الصورية كعلم شامل.
50
بل إن الظاهريات تعتبر كل المحاولات التي تمت حول العلوم الشاملة علوما مادية.
51
بل وتميز الظاهريات أكثر من ذلك بين الصورة الفارغة للشيء على العموم والمنطقة الشاملة للوجود من أجل إحالة الأنطولوجيا الصورية السابقة أيضا إلى الأنطولوجيا المادية.
وأخيرا في المنطق الرياضي يختلط المنطق والرياضة.
52
فإذا كان يقدم نظرية جديدة فإنه يتركها دون أن يقدر قيمتها وأهميتها. مهمة الظاهريات تطويرها من أجل إعطائها قيمتها الصحيحة، توضح كل غموض، وتحكم كل تشابه،
53
تقيمها وتكملها لو كانت ذات اتجاه واحد.
54
وتنقلها من مصدرها الرياضي أو المنطقي إلى الظاهريات والتحليل النظري للمفاهيم خطوة نحو الظاهريات.
55
لو تضمن المنطق الرياضي نظرية في العلم فإنها تكون نظرية رياضية؛ وبالتالي تنقصه نظرية معرفية أكثر من نظرية منطقية.
56
وهذا لا يمنع من أخذ الظاهريات في بعض موضوعات المنطق الرياضي.
57
الظاهريات إذن حركة في إطار تاريخ الفكر، تعتبر نفسها الاكتمال الأخير لقصدية التجربة المشتركة الترنسندنتالية في التاريخ. تاريخ الفكر بالنسبة للظاهريات هو تاريخ الرياضة والمنطق وعلم النفس والفلسفة، والظاهريات على وعي بتحديد نفسها بالنسبة للميراث الإنساني الفلسفي كله.
58
والمسائل التي بحثتها الظاهريات يسيطر عليها المنطق الرياضي.
59
ولو لم تجد هذه المسائل توضيحاتها الظاهراتية المباشرة فإنها تظل قابلة للتوضيح فيما بعد.
60
وبتعبير آخر، يظل المنطق الرياضي بالنسبة للظاهريات مصدر إلهام كلما صعدت أكثر نحو الأنطولوجيا الصورية كعلم شامل. (د) المنطق الفلسفي
61
بالإضافة إلى المنطق الرياضي هناك أيضا المنطق الفلسفي، ينقصه حس البحث الجذري حول المبادئ. لا يذهب إلى الجذور والأسس النظرية للأفكار، ولا يصل إلى توضيح تشعيبات المشاكل. ينشغل دائما بالمصالحة بين الذهن والإحساس دون الوصول إلى بحث جذري، ولا يستفيد من تفسيره العبقري لنظرية المثل. وتظل نظرية المعرفة مملوءة بالمتناقضات، وما يقدمه من ظاهريات لا تتجاوز أحكام العلاقات القبلية بين المحتويات الحسية . ينقصه التصور الحقيقي لحدس الماهيات، ومعيار مطلق للحقيقة.
62
لذلك فإن تصوره للقبلي ليس له قيمة كبيرة. الظاهريات وحدها يمكنها أن تقدم نظرية في الشعور بوجه عام، نظرية في مضمون الشعور، وتكوين الموضوعات ... إلخ.
63
في المنطق الفلسفي يظل القبلي في صفات الإحساسات الحالة؛ لذلك يظل منطق صورة الشعور ومضمونه منطقا غامضا.
64
وفي المنطق الفلسفي إذا كانت الرياضيات فرعا من المنطق والنزعة النفسية تسود المنطق، فإن الرياضيات نفسها تصبح فرعا من علم النفس.
65
وتظهر تعبيرات المنطق الفلسفي من جديد في الظاهريات،
66
وتستعمل على مستوى صوري،
67
وتؤخذ أيضا تعريفاتها للفلسفة كمادة للتحليل.
68
وهكذا كانت فلسفة الحياة وعلم النفس الوصفي والمنطق الرياضي والمنطق الفلسفي، وهي مصادر الظاهريات، علوما تطبيقية حول نقاط معينة في العلوم الإنسانية. الظاهريات نفسها تعاود استئناف مشاريعها. (2) البيئة الفلسفية
69
ساهمت البيئة الفلسفية التي نشأت الظاهريات فيها في تكوينها دون القدرة على الفصل بين الظاهريات النظرية والظاهريات المتطورة والظاهريات التطبيقية في نظرية المعرفة. ليست الظاهريات إلا أكثر التيارات الفلسفية إحكاما كمنهج مستقل عن العلوم الفلسفية الأخرى، وتكتمل في الظاهريات كل الإشكالات الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية لتيارات أخرى معاصرة.
70
كانت كلها بحوثا حول موضوعات معينة في العلوم الإنسانية، وكان لكل علم أزمته يحاول حلها: النزعة الصورية، النزعة النفسية، النزعة الطبيعية، النسبية، الشك ... إلخ. ويسود هذه البيئة الفلسفية تيار مميز هو علم النفس النظري.
71
أما الباقي فهو خليط من علم النفس والمنطق والرياضيات، وهو ما يمكن أن يطلق عليه تعبير الظاهريات الموازية.
72
وتقال بالمعنى العام على مجموع البحوث التي ساهمت في نشأة الظاهريات. ويطلق ثالثا على مجموع البحوث التي طبق فيها المنهج الظاهرياتي بعد اكتماله في ميادين عدة خاصة في العلوم الإنسانية.
73
وهي الظاهريات الموازية في البيئة الفلسفية التي تكونت فيها الظاهريات. (أ) علم النفس النظري
74
تجمع الظاهريات داخلها عدة اتجاهات في علم النفس يمكن تسميتها كلها «علم النفس النظري»؛
75
فقد تحول التمييز في علم النفس النظري بين الوظيفة و«المظهر» إلى تمييز بين «المضمون الأولي» و«الفعل» في الظاهريات، وأخذت كل مصطلحات علم النفس النظري معاني مختلفة في الظاهريات. وإذا كان علم النفس النظري ظاهريات فإنها ظاهريات تحليل مضمون الشعور.
76
وإذا كان لفظ «وظيفة» يعني في علم النفس النظري تكوين الموضوعية بالشعور فإنه يعني فقط لحظة صورة الشعور في التجربة الحية في الظاهريات.
77
ظهر تمييز علم النفس النظري بين «المضامين التابعة» و«المضامين المستقلة» في الظاهريات في التمييز بين «المضامين المجردة» و«المضامين العيانية»، وبين «الدلالات التابعة» و«الدلالات المستقلة».
78
وبحوثه في عدم الفصل بين المضامين التابعة وفصل المضامين المستقلة استأنفتها الظاهريات لتحديد معاني هذه المفاهيم ذاتها.
79
ومن ناحية أخرى استأنفت الظاهريات تحليل وقائع «الذوبان» من علم النفس النظري في تحليل نفس الظواهر؛ فالذوبان بالمعنى الدقيق، وهو العلاقة بين الصفات المتزامنة التي تظهر كأجزاء في كل، قد ذهب إلى أبعد مداه وبمعناه الأوسع في التواصل.
80
ولعلم النفس النظري فضله في نقد علم النفس التجريبي من ناحية وفي وضع نظرية في المعرفة مستقلة عن علم النفس من ناحية أخرى.
81
تكمل الظاهريات إذن كل علم نفس بعد نقد علم النفس القائم على النزعة الطبيعية.
82
ويستخدم التمثيل العام كإجراء اقتصاد للفكر، النظريات القديمة والحديثة في نفس الوقت، كأساس للبحوث الظاهراتية حول الوحدة المثالية للأجناس.
83
والخلاصة أن هذا العرض المتنوع للبحوث في البيئة الفلسفية التي نشأت فيها الظاهريات مقصود من أجل بيان تعدد المصادر؛ فقد كان مؤسس الظاهريات يقرأ كل ما تقع عليه يداه، ثم تدخل هذه القراءات في عالم الظاهريات، من المنطق إلى الرياضيات إلى علم النفس إلى الفلسفة. ولا يهم إذا كان الترتيب عكسيا ما دامت كل مساهمة على الأقل قد أعطت مادة علمية تعبر الظاهريات عن نفسها من خلالها. (ب) الظاهريات الموازية
84
إذا كان الظاهريات قد أطلقت «علم النفس النظري» على نوع واحد من علم النفس، فإن هذا لا يمنع من إطلاق التسمية كي تستعمل كل أنواع علم النفس المشابهة ويطلق عليها اسم «الظاهريات الموازية». وتشمل بحوثا نفسية ومنطقية ورياضية وفلسفية كونت الظاهريات.
85
كانت الظاهريات على وعي بموضوعات محددة في البحوث الفلسفية النفسية المنطقية الرياضية.
86
ولم تصل إلى الظاهريات النفسية للشعور إلا بعد عمل مضن؛ فقد تمت مراجعة كل عمل سابق بالتفصيل من أجل إبراز جانب منها دون جانب آخر؛ ومن ثم فقد وضع بعناية حد فاصل بين الظاهريات والظاهريات الموازية، بحيث أصبحت تقنيات الظاهريات الموازية نظرية الظاهريات المكتملة.
87
وقد أخذت الظاهريات التمييز بين الفعل والمضمون والموضوع من الظاهريات الموازية وحولتها إلى تمييز أبسط بين المضمون والموضوع. أخذت الظاهريات النسقية المكتملة للشعور هذا التمييز الذي تم تجاوزه بنتائج الفلاسفة السابقين.
88
وهكذا تضم الظاهريات كحركة تركيبية تجميعية كل البحوث حول الموضوعات المشابهة لموضوعاتها. وإثبات وجود الموضوعات العامة، ضد النزعة التجريبية، بالرغم من إنكار كل وجود فعلي لها قد تم الحصول عليه من قبل من علم النفس اللاتجريبي.
تعتمد الظاهريات إذن على بحوث أخرى من الظاهريات الموازية من أجل إثراء بحوثها الخاصة ومضافا إليها تمييزيات أخرى ضرورية من أجل تفادي أي خلط ممكن.
89
كما تتدخل الظاهريات في الجدل الدائر بين البحوث في الظاهريات الموازية، تساهم في الإيضاح أو باختبار هذا الرأي أو ذاك.
90
ودخلت الظاهريات في البحوث النفسية للعصر،
91
واستعملت انتقاداتها ضد علم النفس التجريبي .
92
ثم انتقدتها باعتبارها بحوثا ما زالت مشوبة بالنزعة النفسية، ولم تصل بعد إلى مرحلة الظاهريات الخالصة.
93
كانت تمثل البحوث الموازية قبل إعطائها التوضيحات اللازمة. وهذا لا يمنع من الاعتراف بالخطوة المتقدمة التي قام بها علم نفس البداهة ضد علم النفس التجريبي.
94
واستمرت عدة بحوث في الظهور من نفس النوع الذي تقوم به الظاهريات، وهي في سبيل التكوين، وتتحدد بالنسبة إليها.
95
واستعيرت مصطلحاتها كأشكال مشابهة للتعبير.
96
وتعتبر الظاهريات نفسها دائما مساهمة حاسمة في علم النفس الحديث ضد علم النفس التجريبي، وتقيم نفسها بالنسبة للبحوث الأخرى التي لها نفس المهمة. تمثلها باعتبارها اكتمال كل هذه التيارات في علم النفس النظري، وتقيمها تقييما دقيقا. ومن بينها تلك التي ساهمت بالفعل في اكتمال الظاهريات، وتلك التي ما زالت تضم بعض الخلط، وتلك التي ما زالت مشوبة بالنزعة التجريبية والاتجاه الطبيعي موضوع النقد.
97
وأحيانا تساعد بحوث الظاهريات الموازية على اكتشاف البحوث الأولى في الظاهريات عند مؤسسها.
98
كانت الظاهريات الموازية هي المنبه للظاهريات نفسها.
وكانت الظاهريات تدافع أحيانا عن الشك المنهجي الموازي لعلم النفس التجريبي، ضد الظاهريات الموازية، منبع الظاهريات.
99
وفي نفس الوقت تغير الظاهريات مواقفها وهي في سبيل التكوين.
100
وكانت الظاهريات حريصة على تطورها الصحيح، وكانت تقوم بمراجعة البحوث أولا بأول بمجرد ظهورها بالضم أو الاستبعاد.
101
وتعتمد على الظاهريات الموازية كنتائج تم الحصول عليها، والتي يمكن للظاهريات أن تؤسس عليها بحوثها الخاصة.
102
وتوافق على مصطلحاتها في البحوث المشابهة.
103
وأخذت الظاهريات أثناء تكوينها أولا بأول كل الانتقادات السابقة في الاعتبار.
104
ونظرا لأهمية بعض المفاهيم الأساسية، مثل مفهوم الأنا الخالص كعنصر رئيسي، فقد أخذت هذه الانتقادات لمراجعتها بالزيادة أو النقصان. ولم تنكر الظاهريات فائدة التحليل السجالي مع كتابات الظاهريات الموازية.
105
فقد أخذت الظاهريات في التمييز بين الأنا الخالص ومضامينه كتمييز بين الأنا الخالص وامتلاك الوعي.
106
ومن نقد إلى نقد، استعملت الظاهريات كل نقد ضد الآخر ثم احتواء الجميع.
107
وكل حجة ضد النزعة النفسية في المنطق غير كافية.
108
وفي كل مرة يوجد موقف صوري قدر الإمكان تم الوصول إليه من قبل سرعان ما تؤكده الظاهريات بكل ارتياح.
109
لقد تأملت الظاهريات طويلا في البحوث المنطقية في الظاهريات الموازية حتى من أجل تكوين مفاهيمها الرئيسية. وتجد هذه البحوث توضيحاتها في المقاربات الظاهراتية.
110
وإذا كان علم النفس الوصفي أو النظري أو أي علم نفس آخر، هو الجانب السائد في الظاهريات الموازية، فللرياضيات أيضا مكانها.
111
فالبحوث الرياضية أحد مصادر الظاهريات، وأخذت مكانها داخل الظاهريات منذ نشأتها وتطورها حتى اكتمالها.
ومن ذلك لم يكن التحليل النظري للمفاهيم الرياضية كافيا لاعتبارها ظاهريات.
112
فقد كانت إما مغالية في الصورية أو في المادية. الظاهريات وحدها هي التي تعطي الوسط المتناسب، وفي هذا الوسط المتناسب هناك خطر النزعة النفسية. (ج) نقد الظاهريات
113
دخلت الظاهريات إذن في تيارات العصر، وكما نقدتها كانت هي أيضا عرضة للنقد لأنها ترفض جزءا كبيرا من علم النفس السائد.
114
وتتوج تيارا يسمي نفسه تيارا مثاليا.
115
لم تكن الظاهريات خرساء صماء تجاه ما وجه إليها من انتقادات، سواء من علم النفس التجريبي أو من الشك المنهجي الذي يريد إما إنكار التجربة الباطنية أو التخفيف من قيمتها.
116
بل إنها تقوم بتحليلات خاصة، وهو استطراد نقدي، يحسم الأمر في الصعوبات التي أثارها النقد مثل إحالة الظاهريات الخبرة الحية إلى التحليل النظري وليس إلى التجربة الفعلية للموضوعات الحية، كما يريد الشك المنهجي. ولا يقوم الاستبطان، وهو ما تعتمد عليه الظاهريات، على منهج استقرائي لعلم نفس، يبدأ بتفكيك صوري، كما يفعل الشك المنهجي، بل يقوم على التفكير الذي لا يشوه الخبرة الحية الأصلية، وهو تفكير على مستوى التفكير المطلق.
117
كانت الظاهريات عبر تطورها على وعي بالانتقادات التي وجهتها لها التيارات الأخرى في نظرية المعرفة.
118
وكانت تحرص على فهمها الفهم الصحيح من أجل السماح بأي نقد بناء.
119
وإذا كانت الظاهريات حريصة على أي نقد جاد لها، فإنها لم تكن أقل حرصا على النقد شبه الأدبي الذي كان يوجه لها.
120
وعلم النفس علم محكم وليس مجرد تأملات فلسفية تقوم به الظاهريات.
وقد وجهت انتقادات عدة للظاهريات من التحليل اللغوي، وهو أقرب إلى اللفظيات التي لا معنى لها.
121
وهذا يدل على أنه بين الظاهريات ومحيطها الفلسفي كان هناك فعل ورد فعل، واستمرت في نقد بعض جوانب النزعتين الصورية والمادية، كما أصبحت هي أيضا موضع نقد منها. (3) الكتابات الأولى
122
نشأت الظاهريات عند مؤسسها من بحوث حول موضوعات معينة في الرياضيات واللغة وعلم النفس والفلسفة. (أ) الرياضيات
123
كانت البحوث الرياضية نقطة البداية في الظاهريات.
124
فمشاكل الرياضيات في العصر والمعارك بين الاتجاهات المختلفة في الفلسفة الرياضية؛ النفسي، والصوري، والحدسي ... إلخ؛ كانت العناصر الأولى التي كونتها فيما بعد. كان المنطق الرياضي منذ البداية أحد المصادر التاريخية للظاهريات، أثناء تكوينها وبعد اكتمالها وتطبيقها في مختلف فروع العلوم الإنسانية. ظلت البحوث الرياضية تستخدم كأساس سواء لاستعمالها المباشر أو من أجل إدخالها فيما بعد بالرغم من تغير المنظور عند هوسرل من «فلسفة الحساب» إلى «بحوث منطقية». الأول ضد النزعة المعادية للاتجاه النفساني، والثاني مع الاتجاه المعادي للنزعة النفسانية.
125
وقد استعيرت بعض جوانب الفكر الرمزي الحسابي مع التأكيد على أهميته.
126
وتعود البحوث الرياضية - المرحلة الأولى في تكوين الظاهريات - إلى الظهور في البحوث المنطقية التي تحيل مباشرة إلى البحوث الرياضية السابقة.
127
واستمر استعمال التعبيرات الرياضية للعصر.
128
وتستخدم البحوث الرياضية كمرجعيات للبحوث المنطقية
129
وتوجه من أجل الحصول على تصور دقيق للظاهريات نفسها. وقد تم تناول نظرية الكل والأجزاء من قبل في البحوث الرياضية قبل أن تتحول إلى مبحث منطقي خاص. وقد أخذت نتائج البحوث الرياضية التي تتعلق بالخصائص الحسية لوحدة علامات حية للكثرة من أجل توضيح ظاهريات المعرفة.
130
وبعد اكتمال الظاهريات كمنهج استمرت البحوث الرياضية؛ فقد استأنفت مشكلة الكميات الخيالية في البحوث الرياضية ثم في البحوث المنطقية.
131
وكان مفهوم المضمون الأصلي حاضرا من قبل في البحوث الرياضية وأيضا في البحوث المنطقية.
132
وكان يحال في عديد من موضوعات الظاهريات إلى البحوث الرياضية وعلى نحو دائم،
133
بل إن التمييز بين «الوصف النفسي للظاهرة» و«رصيد دلالتها» من أجل الوصول إلى «مضمون منطقي» للمضمون النفسي هو أساس علم النفس الظاهرياتي.
134
واستمرت البحوث الرياضية في الظهور بعد اكتمال المنهج الظاهرياتي وتطبيقه في المنطق فيما يتعلق بالموضوع بوجه عام والحكم والعدد؛
135
فقد ذكرت بوضوح فيما يتعلق بموضوعية المقولات.
136
وقد تم الحصول من قبل على الوجود الفعلي للموضوعات الرياضية والمقولات الصورية من البحوث الرياضية.
137 (ب) المنطق
138
المنطق هو النوع الثاني من الدراسات التطبيقية التي منها نشأت الظاهريات، ويظهر ذلك من عدد التقارير والمقالات في المنطق وتاريخه، والذي ما زال يرتبط بالرياضيات ويعد للأعمال النفسية،
139
ثم يأتي العمل الرئيسي «بحوث منطقية» حيث تظهر الظاهريات خاصة في المبحث السادس، وهي ما زالت تتلمس طريقها.
140
كانت الظاهريات وهي في طريق الاكتمال اتجاها مضادا للنزعة النفسانية في تصورها للمنطق،
141
وكانت ضد النزعة الأنثروبولوجية المعاصرة باعتبارها نسبية فيما يتعلق بإمكانية تغيير قوانين الفكر.
142
ومع ذلك تستعمل بعض التحليلات التفصيلية للنزعة النفسانية مصطلحاتها وتعبيراتها وربما أيضا أحكامها.
143
وتنتمي النزعة التطورية، مثل النزعة الأنثروبولوجية، إلى النزعة النفسانية في المنطق.
144
ويعبر المنطق عن عصر الحضارة ودرجتها في الرقي، بل إنه مرتبط بتطور المخ!
ونقدت أيضا النزعة الأنثروبولوجية بسبب تفسيرها لمبدأ عدم التناقض أو مبدأ الهوية، وهي مبادئ معيارية في الظاهريات كقانون طبيعي.
145
بل إن كل القوانين المنطقية، طبقا للنزعة الأنثروبولوجية، ليست لها أي علاقة مع أي مثل منطقي أيا كان. والمنطق بأجزائه الثلاثة، التحليلية والتشريعية والتقنية، ليس إلا بحثا في الوظائف الرئيسية لهذه القوانين. المبادئ المنطقية مبادئ وظيفية للأشكال التركيبية للفكر. المنطق الأنثروبولوجي عند الظاهريات أراد إنقاذ موضوعية الحقيقة فوقع في خلط بين المثال والواقع، بين أساس الحقيقة وأساس الحكم، بين حقيقة العقل وحقيقة الواقعة.
146
ومن ناحية أخرى وضع تحليل خصب للدلالة، وهو ما تم في علم النفس دون أن ينال من استقلالها، في إطار المنطق الخالص.
147
ومن بين التيارات النفسانية في المنطق هناك تيار يريد إعطاء المنطق أساسا بيولوجيا طبقا لمبدأ «أقل الجهد» أو مبدأ «اقتصاد الفكر»؛
148
ومن ثم يتأسس المنطق على مبدأ التكيف الغائي. وهو أساس الأنثروبولوجيا النفسانية والأبستمولوجيا العملية. ويخلط بين المضمون القصدي بالمعنى المثالي والموضوع القصدي بالمعنى الواقعي. وينكر الوحدة المثالية للخبرة الحية القصدية وكأنها مجرد اسم يجمع بين الموضوعات المتشابهة.
149
و«بحوث منطقية» على وعي تام ليس فقط بالنظريات التقليدية القديمة حول تكوين المنطق، بل أيضا بالعلوم المنطقية أو التفسيرات الحديثة.
150
وفي نقد النزعة النفسانية تعتمد «بحوث منطقية» على اعتراضات المنطق الخالص والرياضيات عليه.
151
وأعيدت نفس التمييزيات مع إعطائها أبعادا أكبر.
152
ولم تغب البحوث اللغوية للعصر داخل «بحوث منطقية»، وما اقترحته هذه البحوث اللغوية من تمييزيات ظهرت فيها بعبارات أخرى.
153
كانت «بحوث منطقية» إذن على صلة مباشرة مع البحوث المعاصرة الأخرى، فلم تتحاور فقط مع أكثر البحوث تمثيلا لها بل أيضا مع البحوث المساعدة.
154
وتصنف عادة ابتداء من أكثر الاتجاهات معارضة لأقرب الاتجاهات له. الأول مثل المنطق كتقنية لأي نشاط وكتقنية للمعرفة العلمية، والثاني مثل المنطق كنظرية في العلوم.
155
والمبدأ الرئيسي في علم النفس التطبيقي هو القانون الأساسي للاعتماد المتبادل بين أفعال الفكر.
156
يجعل للبواعث النفسية مساحة أكبر في المنطق النفساني.
157
ويمكن رد كل القوانين المنطقية إلى القوانين النفسية وبالتالي إلى نظرية البداهة النفسية، والتي تعود إليها نظرية الصدق للقوانين المنطقية.
158
تتأسس البداهة في علاقة علية خالصة لمدلولات سابقة.
159
وهذا لا يمنع من استعمال بعض مصطلحات علم النفس موضوع الانتقاد.
160
كان البحث المنطقي أيضا، المرحلة الأولى للظاهريات، حركة مناهضة للخلط بين المنطق وعلم النفس.
161
وتدخل البحوث المنطقية في إطار بحوث معاصرة أخرى؛ فقد قيل نفس الشيء بتعبيرات مختلفة.
162
كانت بحوثا مثل غيرها، وكانت تكون مرجعا للمسائل المثارة في البحوث الأخرى، كما تستخدم أطرا نظرية للبحوث الأخرى.
163
ويستعيد المنطق، وهو الصورة الأولية للظاهريات، كل الانتقادات التي وجهها المنطق ضد النزعة النفسانية، وإعطاءها صورة نظرية في المنطق كعلم معياري ويدفع الجانب الصوري عندما ينقص منها، ويقلل من البعض الآخر الذي يصل إلى الصورية الخالصة. واعتبرت نظرية ازدواجية المبادئ المنطقية كقوانين معيارية وقوانين طبيعية، مكسبا نسبيا للمثالية المنطقية.
164
وعلى افتراض التركيز على الجانب الصوري للقوانين المنطقية فإنها يمكن استنباطها، مثل الهندسة، من حدس المكان. المنطق الذي ما زال يسلم بوجود ملكات فطرية للمعرفة أو مصادر للمعرفة، حتى ولو كانت تنتمي إلى علم النفس الترنسندنتالي، يظل أيضا نفسانيا. ومع ذلك تظل أيضا المحاولة نفسانية؛ إذ إنها ترد الجانب المعياري إلى الجانب التجريبي، وتخلط الاثنين معها أو تضمهما معا في نظرية مزدوجة. توجد الوحدة المثالية في المنطق في هذا البحث المنطقي الذي يعلن من قبل عن نشأة الظاهريات.
165
والمنطق القائم على علم النفس الترنسندنتالي هو الصورة الأولى للمنطق المعياري الذي يتنبأ منذ البداية بميلاد الظاهريات كعلم مستقل عن المنطق وعلم النفس والرياضيات.
166
وفي تطورها الأخير فإنها تنتهي إلى فكرة الصدق المطلق للضرورة المنطقية.
تبدأ الظاهريات إذن من بحث في المنطق كعلم معياري.
167
وكانت بحثا مثل عديد من البحوث في نفس المعنى بداية بالتمييز بين علم النفس والمنطق. كان للتصور موضوعيته الخاصة خارج الزمان. وبالرغم من الإصرار على الطابع المثالي للتصور ظل هذا المنطق، طبقا للظاهريات، مجرد افتراضات بسيطة ومتفرقة وغير ناضجة وغير كاملة، ويحتوي أحيانا على أفكار خاطئة وتعبيرات متشابهة. كان الخطأ الرئيسي هو رؤية مثالية التصور في معيارين، والخلط بين الصدق النوعي والمثالية المعيارية، والفصل بين المثال والواقع.
168
ويبدو البحث المنطقي موجها في نفس الوقت ضد النزعة النفسانية والنزعة الصورية من أجل شق الطريق نحو الظاهريات.
وبعد كل هذه الانتقادات ضد النزعة النفسانية انضمت البحوث المنطقية التي تنبئ بالظاهريات إلى تيارات العصر التي ترى المنطق كعلم «قانوني» على النقيض من العلوم العيانية التي تسمى العلوم الأنطولوجية.
169
وقد امتدت مثالية المنطق، وهو الحل الذي تبنته في النهاية «بحوث منطقية»، إلى نظرية «الكثرة» في الرياضيات الصورية.
170
وظلت العلاقة بين الرياضيات والمنطق الموضوع الرئيسي في الظاهريات المكتملة.
171
وهذا لم يمنع من نقد بحوثها في حالة التعارض مع منطلقات الظاهريات.
172
وبعد ظهور البحوث الرياضية داخل البحوث المنطقية، ظهرت البحوث المنطقية داخل الظاهريات المكتملة والظاهريات التطبيقية وفي المنطق وفي علم النفس الظاهرياتي.
173
وتظهر «بحوث منطقية» بالفعل كتمهيدات للظاهريات.
174
وتعتبر أول اختبار للظاهريات؛
175
فقد استعيدت تصوراتها،
176
كما ظهرت موضوعات مثل: الرياضيات الشاملة، قسمة المقولات المنطقية إلى مقولات دلالية ومقولات صورية أنطولوجية، النحو القبلي للشك، الموضوع المثالي، المضمون القصدي، العلاقة بين الحدوس البسيطة والحدوس المتوسطة، باعث فعل المضمون الأول ... إلخ. وأحيانا تذكر «بحوث منطقية» كإحالات بسيطة دون استعادة الموضوعات.
وفي «علم النفس الظاهرياتي» تستعاد «بحوث منطقية» بعد اكتمال الظاهريات.
177
وتستمر «بحوث منطقية» في الظهور في تطبيق المنهج الظاهرياتي في المنطق، وتستمر اللغة والموضوعات والمشروع كله.
178 (ج) علم النفس
179
بالرغم من هجوم «بحوث منطقية» ضد النزعة النفسانية، يمكن اعتبار «محاضرات في الشعور بالزمان الداخلي» كدراسة عملية لمشكلة الزمان تنتمي إلى علم النفس الظاهرياتي المتميز عن علم النفس كعلم طبيعي،
180
وتبدو الظاهريات سلفا كدراسة عملية لمشكلة محددة، مشكلة الزمان، وقد أغنى منهج التحليل النظري عن استعمال المراجع الكثيرة على خلاف علم النفس الوصفي الذي تسيطر عليه النزعة النفسانية. (د) الفلسفة
181
وأخيرا، خرجت الظاهريات من دراسة تطبيقية للعلوم الإنسانية، خاصة العلوم التاريخية، من أجل العثور على الفلسفة كعلم محكم.
182
وأول بيان للظاهريات كفلسفة في التاريخ أو كفلسفة للحضارة توجد من قبل في «الفلسفة كعلم محكم»، ضد الفلسفة ذات النزعة الطبيعية و«فلسفة تصورات العالم».
وعلى طريق الظاهريات كان من الواضح صلتها بالتيارات الفلسفية للعصر،
183
وفضلا عن ذلك، تبدو الظاهريات في هذه الفترة كحركة ضمن حركات أخرى ضد النزعة النفسية والنزعة الأنثروبولوجية والنسبية والشك، وكحركة مثالية ضد النزعة الطبيعية، ويظل نقد الفلسفة الطبيعية هي المرحلة قبل الظهور الأول للمنهج الظاهرياتي.
184 (4) الكتابات الأخيرة
185
وهكذا نشأت الظاهريات في دراسة بعض الموضوعات العملية في الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة، وبعد تكوينها كمنهج أصبحت عدة بحوث تطبيقية في المنطق والفلسفة وعلم النفس والحضارة، وما بين البداية والنهاية المنطق وعلم النفس والفلسفة لم تستطع الظاهريات أن تظل نظرية في الشعور دون الاستكشاف الفعلي للمناطق التي ينتمي إليها، وإذا كانت مصادر الظاهريات في الرياضيات وعلم النفس وأخيرا في الفلسفة، فإن ميادين التطبيق للمنهج الظاهرياتي بعد اكتماله كانت أيضا الفلسفة وعلم النفس والمنطق والحضارة في ترتيب معاكس للأول، فإذا كانت الرياضيات نقطة البداية فإن الحضارة أصبحت نقطة النهاية. (أ) الفلسفة
186 «الفلسفة الأولى » هو التطبيق الأول للمنهج الظاهرياتي بعد اكتماله في تاريخ الفلسفة، هي البحث عن الظاهريات من خلال تاريخ الفلسفة.
187 (ب) علم النفس
188 «علم النفس الظاهرياتي» هو التطبيق الثاني للمنهج الظاهرياتي الذي اكتمل من قبل في علم النفس، والذي لم يتوقف عن إغراء الظاهريات سواء في مصدرها أو في تطورها اللاحق، وهو إعادة بناء كامل لعلم النفس التاريخي بواسطة الظاهريات.
189 (ج) المنطق
190
تم تطبيق المنهج الظاهرياتي في ميدان المنطق في «المنطق الصوري، المنطق الترنسندنتالي»؛ فقد تم تحليل بنيات وميادين المنطق الصوري الموضوعي من أجل التحول من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي، في الجزء الأول تم توضيح الطريق الذي يبدأ من التصور التقليدي إلى الفكرة الكاملة للمنطق الصوري الذي يمر من خلال تحليل القضايا إلى القضايا الصورية والرياضيات الصورية، للوصول في النهاية إلى نظرية الأنساق وإلى نظرية الكثرة ظاهراتيا، واكتشاف الصفة المزدوجة للمنطق الصوري باعتباره مبحثا صوريا للقضايا وأنطولوجيا صورية ذات اتجاه مزدوج؛ الأول تجاه الموضوعات، والثاني تجاه الأحكام؛ الأول كنظرية في المعنى، والثاني كمنطق للحقيقة؛ ومن ثم تم تجميع كل تاريخ المنطق الصوري حول مبحث القضايا والرياضيات والأنساق الاستنباطية من أجل الإعلان في النهاية عن اكتشاف القضايا كأنطولوجيا، وهكذا أصبح المنطق أنطولوجيا.
191
ويتم التحول من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي، بعيدا عن كل نزعة نفسانية، بتحليل المشاكل الخاصة بالتصورات الأساسية مع التأكيد على أهمية القضايا المثالية في المنطق، وبعد نقد بداهة المبادئ المنطقية ثم نقد بداهة التجربة بالتأسيس الذاتي للمنطق كمشكلة الفلسفة الترنسندنتالية التي تؤدي إلى الظاهريات التي يوجد المنطق الموضوعي فيها.
و«التجربة والحكم» موضوع تطبيقي آخر للمنهج الظاهرياتي وكما يدل على ذلك العنوان الفرعي «بحوث في جينيالوجيا المنطق».
192
في المقدمة يعود المنطق إلى وضوح الموضوعات أكثر من وضوح الأحكام، وهذه الأحكام هي تغييرات قصدية. وبالعودة إلى المعرفة المباشرة ولبداهة التجربة والعالم الحي، يمكن اكتشاف التجربة السابقة على الحمل المنطقي باعتبارها استقبالا له بنيات عامة، وبعد ذلك يأتي دور المنهج والشرح للإدراك بحثا عن علاقاته في السلبية.
193
والآن يمكن تحليل الفكر الحملي كموضوعية للذهن، ويتم تحليل البنيات العامة للعملية ولتكوين صور المقولات المهمة قبل الوصول إلى موضوعات الذهن ومصادره في الإنتاج الحملي للوصول في النهاية إلى أصل موجهات الأحكام، فإذا حدث ذلك فإن الموضوعيات العامة وأشكال الأحكام بوجه عام يمكن تكوينها جميعها بتكوين العموميات التجريبية للحصول في نهاية المطاف على العموميات الخالصة بواسطة منهج «رؤية الماهية». (د) الحضارة
194
الحضارة هي الميدان الأخير الذي طبق فيه المنهج الظاهرياتي، وذلك في «أزمة العلوم الأوروبية»؛
195
فقد تم تحليلها كقصدية مشتركة لها بنيتها وتطورها، وقد تم تطبيق الرد الترنسندنتالي والمونادي
196
على العالم الاجتماعي؛ من أجل قيام علم اجتماع نظري ابتداء من الخبرة مع الآخر، والتي تنتهي إلى التمييز بين المجتمع النهائي والمجتمع الترنسندنتالي، وهذه تمثلها الجماعة الأوروبية ودفعها نحو الجماعة الخلقية وإلى كل المونادات.
197
وقد طبق المنهج الظاهرياتي أثناء حياة مؤسسه في عديد من المشاكل المنطقية والنفسية،
198
وقد اكتسب المنهج أرضية واسعة، بل إنه من الصعب التمييز بين التحليلات التي ساهمت في تكوين الظاهريات وتطبيقاتها المباشرة، ومن الصعب أيضا تتبع المسار من علم النفس الوضعي وعلم النفس الظاهرياتي، بين الفلسفة الترنسندنتالية والفلسفة الظاهرياتية، بين علم الاجتماع الذي يقوم على الفهم وعلم الاجتماع النظري.
199
الفصل الثالث: التطور الأخير، والحالة الراهنة1
أولا: التطور الأخير1
تطورت الظاهريات النظرية في اتجاه النظريات التطبيقية، فقد اكتملت ظاهريات الفعل كما تركها مؤسسها لظاهريات الموضوع أو أنطولوجيا الوجود الإنساني أو الأنطولوجيا النقدية.
رفع الرد الظاهرياتي، ويمكن الآن الوصف دون ممارسة التقويس مسبقا،
2
ومع ذلك تظل ظاهريات الموضوع فرعا من الظاهريات أكثر منها أنطولوجيا جذرية، وقد اعتبرت من قبل ظاهريات الحدس الوجداني كظاهريات حركية.
3
كان التطبيق باستمرار هو مصير كل علم نظري جديد، وفي بداية العصور الحديثة وضعت المسائل اللاهوتية والدينية بين قوسين بالرغم من تسربها من أسفل إلى باقي العلوم، ثم أتت بعض العلوم الأخرى لرفع القوسين؛ لتغرق إلى الأذقان في المسائل اللاهوتية والدينية مطبقة المنهج الجديد المكتشف حديثا.
4
ومرة أخرى وضع «الشيء في ذاته» بين قوسين من أجل الإبقاء على الظاهرة ، ثم أتت علوم لترفع القوسين وتحاول الإبقاء على الظاهر، ثم أتت علوم أخرى لترفع القوسين وتحاول تحديد الشيء في ذاته، كإرادة أو ذات مطلقة أو روح مطلق،
5
وأخيرا أتت الظاهريات كعلم نظري لتضع العالم بين قوسين، ثم رفع القوسان وأصدرت أحكام على الوجود، بالعدم أو الوجود من أجل الموت أو الوجود في العالم.
6
وفي كل هذه الاتجاهات لم تطبق الظاهريات كمنهج، بل دفعت إلى أقصى مداها، وأصبحت أنطولوجيا ظاهراتية، واسعة للغاية بحيث امتدت جذورها إلى الفلسفة وعلم النفس والأنطولوجيا النقدية.
7
وقد تحددت بوضوح العلاقة بين الظاهريات والأنطولوجيا في الجزء الثالث من «الأفكار»،
8
تظهر الأنطولوجيا داخل الشعور كما يبين ذلك «أصل العالم»، الأنطولوجيا ممكنة عن طريق تطبيق قاعدتي المنهج الظاهرياتي؛ الرد والتكوين، ثم تضمن الأنطولوجيا موضوعية التصور الذي يشير ليس فقط إلى مقولات فارغة، بل إلى مناطق للشعور، وقد سميت هذه الأنطولوجيا من قبل أنطولوجيا المناطق، وأول ظهور لأنطولوجيا الشعور هو مضمون الشعور ومضمون الماهية.
9
مضمون الشعور هو الموضوع الحي في الشعور، ضد الاتجاه الطبيعي. والماهية حقيقة موضوعية لها وجودها الفعلي، وليس فقط المثالي كما هو الحال في «نظرية المثل»، وبتعبير آخر، هناك ثلاثة أنواع من الأنطولوجيا؛ الأول الأنطولوجيا المادية، وهي أنطولوجيا الموضوعات الخارجية التي لم توضع بعد بين قوسين، والثاني الأنطولوجيا «الهيولانية» التي يتم الحصول عليها بعد وضع الأنطولوجيا الأولى بين قوسين، والثالث الأنطولوجيا الصورية التي تضمن موضوعية الأشياء باستقلالها الذاتي وشمولها. هذه الأنطولوجيا الثالثة هي الضامن لصدق المعطي الحي، بل وتستطيع تصحيح أخطاء الإدراك الحسي وتقويمه.
والأنطولوجيا هي تقريبا اسم مرادف للرياضيات الشاملة التي تم البحث عنها بإصرار.
10
والأنطولوجيا الترنسندنتالية التي تطورت على نحو نسق كامل هي في نفس الوقت أنطولوجيا أصيلة وشاملة، وليست أنطولوجيا صورية فارغة، أنطولوجيا شاملة عيانية تتضمن كل إمكانيات مناطق الوجود طبق علاقات التضايف التي تتضمنها.
11
أنطولوجيا المناطق أنطولوجيا نظرية، وما زالت تبحث عن إقامة نظرية في المعرفة.
12
لقد أعطت الظاهريات إمكانية تأسيس الأنطولوجيا عن طريق اكتشاف أنطولوجيا المناطق في الشعور، والأنطولوجيا كعلم شامل للوجود ، وقد قامت أنواع الأنطولوجيا التي خرجت من الظاهريات على أسس وجدانية وشعرية ومعرفية،
13
هي الأنطولوجيا المستمدة من الظاهريات، والتي وجدت فيها الظاهريات اكتمالها، وتنهي كل أنواع الأنطولوجيا التي تقوم على أسس فلسفية ونفسية أو على تأملات شخصية إلى أنطولوجيا واحدة، والأنطولوجيا العيانية.
الأنطولوجيا العيانية هي التي تكشف ماهيات الوجود ابتداء من الخبرات الحية للوجود الإنساني،
14
هي العلم الإنساني الوحيد الممكن للوجود الإنساني؛ فالظاهرة الإنسانية، النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ... إلخ، خبرة حية للوجود الإنساني، ولها مستواها الخاص في التحليل، لا تخضع لا للمصادرات الصورية ولا للقوانين الطبيعية، لها منطقها الخاص في الأنطولوجيا العيانية.
وربما لم يكن لفظ «الظاهريات» أفضل تسمية تطلق على العلم الذي تشير إليه؛ فاللفظ يحيل إلى الظاهر، وقد شعرت الظاهريات الأنطولوجية بهذا التطابق بين الاسم والشيء المشار إليه، والتأكيد على أن الظاهرة ليس مظهرا بل ظهور بفضل المعنى الاشتقاقي لفعل «ظهر » ومنه «ظاهرة». الأنطولوجيا هي إذن المعنى النهائي للظاهريات، والتحليل الوجودي للكيان الإنساني هو حتما أنطولوجيا، ولكنها ليست أنطولوجيا عيانية؛ إذ تستطيع خبرات الحياة اليومية إثبات نقيضها أو تفسير الخبرات التي تم تحليلها تفسيرا آخر، الأنطولوجيا العيانية هي التي يتم تأسيسها في هذا العمل.
وقد وجدت الأنطولوجيا الظاهراتية، أو بتعبير أكثر دقة الأنطولوجيا الوجودية، بفضل عدد من القراءات المتعددة، ومن أجل أن تظهر كفلسفة فقد تأسست على بعض عبارات مستعارة من الفلسفة الرسمية، وهي تكون الآن فلسفة خاصة بعد نسيان نقطة البداية في الظاهريات النظرية، وقد تم رد المنهج الظاهرياتي إلى محوره الرئيسي، التحليل النظري للخبرات اليومية، وقبل تحليل الخبرة توضع الأشياء المادية بين قوسين، ثم يرفع القوسان بسرعة من أجل إصدار أحكام على الوجود، دلالة الخبرة شيء، والحكم الصادر على الوجود شيء آخر، والخبرات موضوع التحليل من نوع واحد، وهي الخبرات السلبية؛ الموت، العدم، النفي، الكذب، سوء النية، الثرثرة، الانهيار، الاضطراب النفسي، الهم، القلق، الحصر ... إلخ. أما خبرات الفرح والسعادة والأمل والإخلاص والتضحية ... إلخ، فلا وجود لها تقريبا، وأحيانا يتم تحليلها من أجل التوجه نحو العدم، الرغبة عن طريق الاشمئزاز، والمحبة بالكراهية ... إلخ. ويمكن لتحليل الخبرات السلبية أن ينتهي أيضا إلى الوجود وليس إلى العدم، من الموت إلى الخلود، ومن الهم إلى الفعل، ومن الضيق إلى الخلق ... إلخ. (1) الأنطولوجيا الشعرية
15
في «الوجود والزمان» يتم البحث عن الأشياء ذاتها، كما هو الحال في الظاهريات التي مهدت الطريق لإمكانية البحث أكثر من البحث الذي اكتمل من قبل.
16
وخرج تحليل الشخصية من ميدان الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأحياء كي يصبح تحليلا أنطولوجيا للوجود الإنساني.
17
وقد استعمل عديد من الموضوعات الظاهراتية باستفاضة، مثل: فهم التجريبي وضرورته لتحليل العلامة والدلالة، التفسير كتعرف، التمييز بين الكل والمجموع، التحضير كصفة للإدراك الحسي من أجل الانتهاء إلى التحليل الأساسي للوجود الإنساني كوجود في العالم، وكوجود مع الآخرين، وكوجود مهموم، وكوجود من أجل الموت ... إلخ.
18
ويقبع المنهج الظاهرياتي في البحث كمنهج أساسي في «الوجود والزمان».
19
وتكون المنهج الأنطولوجي من أجل الوصول إلى الأشياء ذاتها، ويخرج من الظاهريات؛ فالظاهريات ليست وجهة نظر ولا اتجاها، بل هي تصور منهج، ويتكون اللفظ من مقطعين «ظاهرة» و«لوجوس»، ولا يعني لفظ ظاهرة فقط المظهر، بل أيضا الظهور، ومنه فعل «يشير إلى»؛ فالظاهرة هي الكشف، والانفتاح، وينتمي الفعل إلى الجذر
φαί ، ومنها لفظ «فوس» الذي يعني الضوء.
20 (2) الأنطولوجيا الفلسفية
21
يقوم «الوجود والعدم» أنطولوجيا مجاورة لأنطولوجيا «الوجود والزمان»، ويبين العنوان الفرعي «محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية» تحول الظاهريات إلى أنطولوجيا بدأها من قبل «الوجود والزمان»،
22
وقد أخذت فكرة الظاهرة أو العلاقة بين النسبي والمطلق كنقطة بداية للتحليل، واستعمل «الرد» الظاهرياتي من أجل تجاوز الظاهرة الحسية بالرؤية الحدسية لماهيتها، وبعد الرد اعتبر «الشيء في ذاته» لا واقعيا، وأن وجوده هو المدرك، وأن كل معرفة هي معرفة بشيء، وتم التأكيد على ضرورة الواقعة من أجل إثبات استحالة رد الوجود إلى ما هو أقل منه في معرض نقد الدليل الأنطولوجي، لم تستمر الحدوس الأولى لمؤسس الظاهريات إلى نهاياتها، وظلت الأنطولوجيا على أرضية الظاهريات، وربط العدم بسلبية صورة الشعور. ولم تنجح الطبقة الهيولانية لصورة الشعور في تجاوز الذاتي إلى الموضوعي، ولا يكفي تحريك النواة الهيولانية بالقصديات وحدها التي تملؤها هذه الهيولى في الخروج من الذاتية، الشعور تجاوز وتعال ومفارقة، وهو عدم إخلاص للمبادئ الأولى، ومع ذلك يظل لتحليل القصدية ما يبرره تماما، هذه هي الموضوعات الظاهراتية في مقدمة «الوجود والعدم» بحثا عن الوجود لتأسيس الأنطولوجيا الظاهراتية.
23
وتم استعمال التحليل الظاهرياتي في وصف العدم؛ فالأحمر مجرد لأن اللون لا يوجد دون الشكل، ورد العالم إلى حالة التضايف مع مضمون الشعور بداية بالمجرد عن قصد، فهل اللاوجود نمط من وجود مضمون الشعور؟ والقصدية لها طابع انتزاع الذات، والقصديات الفارغة تكون إلى حد كبير الإدراك، أليس هذا وقوعا في الإدراك الخاطئ الشيئي؟ يظهر الوعي أساسا كغياب، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي تبدأ منها معالجة مشكلة العدم.
24
وقد انتهى استكشاف الوجود إلى الوجود لذاته، ولتجنب الوقوع في خطأ النزعة الجوهرية تظل الظاهريات على مستوى الوصف الوظيفي، ومن ناحية أخرى صحيح أن «الوجود المرئي» يجلب معه لكل «تجربة حية» تغييرا كليا، ومع ذلك يظل الكوجيتو سابقا على التفكير، الشعور المتأمل وحده يستطيع أن ينفصل عن الشعور المتأمل فيه، وعلى مستوى التفكير يمكن رفض العمل المشترك. وتساعد ضرورة الواقعة باعتبارها مكونا على إدراك بداهة الكوجيتو،
25 «أنا أفكر» مصيدة للطيور، مبهر وجذاب، وقد أعطى للشعور على نحو مفتعل استباقات من البنية التحتية، ليست القصدية إلا كاريكاتير للمفارقة المرجوة، واللحظة المتناهية في الصغر ليست إلا الحد المثالي لقرار دفع إلى حد اللانهائي، ويقوم المفكر فيه نفسه وكأنه كان موجودا قبل التفكير، والحدس هو حضور الشيء بشخصه للشعور، وتستبعد الضرورة التي توجد بطريقة لا مشروطة اللون والشكل، والملاء يترك مكانه للخلاء، وليست المقولات إلا المرات المثالية للأشياء التي تتركها كلية دون المساس بها، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي يستعملها سارتر في وصف الوجود لذاته.
26
وقد تميز وجود الآخر بتحليل مفصل للنظرة،
27
ولا مكان للأنا وحدية؛ لأن اللجوء إلى الآخر شرط مسبق لتكوين العالم؛ فالعالم الذي يبدو للشعور هو عالم بين المونادات تحت مطرقة «الرد» الظاهرياتي، يبدو الآخر ضروريا حتى لتكوين الذات، الأنا ترنسندنتالي، يكون الآخر، وينكشف في تجربتنا العيانية كغياب، باختصار، يتحول الآخر إلى سلسلة من الدلالات، والعلاقة الوحيدة بين وجودي ووجود الآخر هي علاقة المعرفة،
28
والآخر أكثر من ذلك، أكثر من وصف البنية الأنطولوجية لعالمي الذي يدعى أيضا أنه عالم الآخرين.
29
ولا تكفي الحساسية كمادة هيولانية يحركها القصد ل «عامل التعاند» للموضوع،
30
تستطيع القصدية الوجدانية ولا شك أن تحدد العلاقات العيانية لوجود الآخرين، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي يبدأ فيها سارتر لاستكشاف الوجود من أجل الآخرين.
31
وأخيرا يأتي تحليل المقولات الثلاث؛ الملكية، والفعل، والوجود. يقدم الكوجيتو حقيقة الماهية مع أن الوجود يسبق الماهية، ويقوم الفكر الإرادي البسيط، ببنيته الانعكاسية، يستعمل التقويس بالنسبة للباعث، ويعلقه ويضعه بين قوسين، وهذا إعدام للباعث، ويظل الشعور لحظيا، ولا تستطيع الظاهريات إخراجه منها، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي تستخدم من أجل استكشاف الجزء الأخير من «الوجود والعدم». الأنطولوجيا الظاهراتية هي إذن فلسفة عدم أكثر منها فلسفة وجود، تسودها رؤية سلبية للعالم.
32
وهكذا لم يطبق فقط المنهج الظاهرياتي، ولكن الظاهريات نفسها قد تغيرت تماما، صحيح أن الأنطولوجيا تحتوي على ثراء لغوي وتحليلي، ولكنها تقترب من الأدب، وتبتعد تدريجيا عن الفلسفة كعلم دقيق كما تصورتها الظاهريات، وكانت الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات هي أشكال التعبير المفضلة، وفي الأنطولوجيا الظاهراتية العلمية يغيب هذا الجانب الأدبي. (3) الأنطولوجيا العلمية (النفسية)
33
وتبدأ الأنطولوجيا الظاهراتية القائمة على أساس علمي بتطبيق المنهج الظاهرياتي في موضوع خاص مثل: الإدراك الحسي، السلوك، الانفعال، الخيال، الخيالي ... إلخ. ويطبق المنهج على نحو غير مباشر بنقد النظريات النفسانية في الاتجاه الطبيعي، ولا يتلاءم علم النفسي التجريبي ولا علم النفس العقلي مع الظاهرة النفسية؛
34
ومن ثم تستعمل الظاهريات كأساس شعوري لنقد علم النفس الحالي، وإذا كان علم النفس الوصفي أساس الظاهريات فقد أدت الظاهريات خدمة جليلة لعلم النفس الوصفي، كما أدى علم النفس الوصفي نفس الخدمة لعلم النفس، كل في عصره؛ فقد ساعدت الظاهريات على نشأة تيار جديد في علم النفس هو علم النفس الظاهرياتي.
ولا ينفصل علم النفس عن الأنطولوجيا؛ فالأنطولوجيا أساس كل علم تجريبي بما في ذلك علم النفس، يتحدد كل علم في علاقته بالأنطولوجيا قبل أن يكون معرفة، وقد تحددت بوضوح العلاقة بين الظاهريات وعلم النفس في «الأفكار» الجزء الثالث، وهو العمل الذي تظهر فيه الظاهريات كعلم مكتمل،
35
وأعيد تناول الموضوع فيما بعد في «الظاهريات النفسية» كنموذج،
36
والسؤال المطروح هو: كيف تقوم الظاهريات على علم النفس الوصفي وتنفصل عنه؟ وكيف تقدم له ولعلم النفس بوجه عام خدمات جليلة؟
و«علم نفس السلوك» تطبيق من نوع آخر للمنهج الظاهرياتي،
37
يضع السلوك الانعكاس الشرطي بين قوسين من أجل تكوين السلوك الأسمى، كما يضع النظام الفيزيقي والنظام البيولوجي بين قوسين من أجل تكوين النظام الإنساني في الشعور الإدراكي كحل جديد للمشكلة القديمة، صلة النفس بالبدن.
وتعتبر «ظاهريات الإدراك الحسي» ضمن أكثر التطبيقات إحكاما للمنهج الظاهرياتي،
38
لم تعرض الظاهريات فقط في جوانبها المنهجية، رفض الأحكام المسبقة القديمة، والعود إلى الأشياء ذاتها، ولكن أيضا في نتائجها، مثل اكتشاف جسد العالم المرئي للوجود لذاته وللوجود في العالم كميادين للاستكشاف، واستعملت بعض التحليلات الظاهرياتية مثل: الظاهريات كوصف وليس كتفسير أو مجرد تحليل، الرد الظاهرياتي كاكتشاف للعالم، إدراك ماهيات العالم الحي، اكتشاف القصدية كتقاطع بين الذاتية المتطرفة والموضوعية المتطرفة.
39
ويبين «المرئي واللامرئي» بوضوح تجاوز الظاهريات إلى الأنطولوجيا، لم يعد المنهج الظاهرياتي يطبق في ميدان نفسي، سلوكا أو إدراكا حسيا، بل تم نقده باعتباره منهجا حدسيا ما زال ينتمي إلى نظرية المعرفة.
40
وتم تجاوز التمييز التقليدي بين الواقعة والماهية في المنهج الظاهرياتي، لم تعد الماهية موجودا فعليا ثابتا يمكن البحث عنه بفعل الشعور بتحويله من واقع إلى مثال، والتمييز بين الزمان والمحل ما زال ينتمي إلى ثنائية نظرية المعرفة، في حين أن التعشيق ثنائية،
41
ويمكن فكه في الوجود في العالم.
42
ويتبع «مخطط نظرية الانفعالات» نفس مسار «الخيال»؛ فهي دراسة نفسية ظاهراتية؛
43
إذ يقع، أي علم النفس، إما في النزعة العقلية أو النزعة التجريبية، وتعتبر النظريات التقليدية الانفعال مجموعة من الظواهر الفيزيولوجية أو النفسية للشعور، بل إن النظريات التي تقوم على الغائية تظل على المستوى الآلي، كما أن نظرية السلوك الانفعالي أيضا غير كافية، وكل هذه النظريات الفيزيولوجية والسلوكية والانفعالية الوظيفية تحيل إلى الشعور.
44
ودون اللجوء إلى نظرية التحليل النفسي يبدأ تأسيس نظرية ظاهراتية، الشعور الانفعالي هو أولا شعور بالعالم؛ فالعالم هو الطرف الموضوعي للانفعال.
45
أما «الخيالي» فهو دراسة في علم النفس الظاهرياتي للخيال كما يصرح العنوان الفرعي،
46
ويتطلب المنهج الظاهرياتي تحليل الموضوع كصورة ذهنية وليست الصورة الذهنية كموضوع، ويستبعد خطأين: المفارقة في النزعة العقلية، والحلول في النزعة التجريبية. الصورة الذهنية شعور؛ هي ظاهرة تخضع تقريبا للملاحظة، يضع الشعور الخيالي موضوعه كعدم، ويعطي نفسه كتلقائية تنتج وتحفظ الموضوع كصورة ذهنية، وتوصف هذه الصورة الذهنية في مجموعات: صورة شخصية، صورة كاريكاتيرية، علامة. ويتعلق كل هذا الوصف القصدي للصورة الذهنية باليقيني؛ أي بالموضوع الخارجي كصورة ذهنية، وهناك نوع آخر من الصور الذهنية، وهو المحتمل الذي يقدمه الموضوع الداخلي للشعور مثل: المعرفة، التعاطف، الحركة، الصورة الذهنية؛ ومكوناتها: الكلمة والشيء. وتلعب الصورة دورا في الحياة النفسية عن طريق الرمز والمخططات الرمزية والتصوير الذي يتطلب نوعا خاصا من السلوك، صحيح تستطيع الصورة أن تظهر في إطار مرضي أو في الحلم كما تظهر في الشعور وفي العمل الفني.
وقد طبق المنهج الظاهرياتي أيضا في ميادين نفسية أخرى، الخيال والخيالي والانفعالات.
ففي «الخيال» تم تحليل الصورة كنمط لوجود الأشياء،
47
فلا يستطيع المنهج العقلي، وهو أساس كل المذاهب الميتافيزيقية الكبرى،
48
ولا المنهج الوضعي وهو أساس كل النظريات النفسية،
49
أن يدرك ماهية الصورة، المنهج الظاهرياتي وحده، وهو أساسا منهج استنباطي، هو الذي يستطيع ذلك، ليس كموضوع عقلي وليس كموضوع مادي بل كقصد متبادل.
50
وظاهريات اللغة مقاربة لوصف ماهية اللغة ابتداء من العالم الحي في حركتين، من المثال إلى الواقع، ومن الواقع إلى المثال. الأولى تكون اللغة في المعية الزمانية، والثانية تكون اللغة في المتوالية الزمانية،
51
وتوجد علاقة الدال بالمدلول في «الترسيب»؛ أي في التراكم الدلالي.
52
والأنطولوجيا الظاهراتية التي تقوم على أساس علمي ترد الظاهريات إلى مصادرها، خاصة مصدرها النفسي، وتظل الأنطولوجيا العيانية التي تحيل إلى أطر إنسانية أكثر إخلاصا للظاهريات من الأنطولوجيا العلمية التي تستمر في أداء مهمة إصلاح علم النفس الراهن. (4) الأنطولوجيا النقدية
53
استعمل المنهج الظاهرياتي من أجل وصف واقع المعرفة، وهي المهمة الرئيسية لنظرية المعرفة، وتوصف الأشياء ذاتها قبل أي نقاش بين المثالية والواقعية. إن مجرد وصف كل جوانب الظواهر الميتافيزيقية والنفسية والمنطقية لا يقدم إلا المعرفة الساذجة، وهي أقل أهمية من المعرفة العلمية، ومما لا شك فيه أن السمات التي يمكن الحصول عليها تعبر عن البنية المثالية الجوهرية والقبلية للظاهرة، والظاهريات لا تتعامل مع ظواهر فعل الشعور الترنسندنتالي بل ظواهر الموضوع،
54
وظاهريات ظواهر الأفعال ترتبط أيضا بتصور حلولي للمعرفة، وخاضعة للحكم المسبق المثالي؛ ومن ثم من الضروري فتح القوسين، ويمكن تصور وصف للماهيات لا يفترض هذا الرد الترنسندنتالي.
55
ولا يمنع المنهج الظاهرياتي من وصف نفسي مواز للوصف الظاهرياتي دون افتراض رد مبدئي، بل على العكس يتوجه الوصف إلى موضوع الشعور، ويتوجه أيضا إلى موضوع موجود بالفعل في الزمان والمكان حتى بعد ممارسة «الرد الظاهرياتي».
56
وإذا كان للظاهرة معنى إيجابي في الظاهريات فهي كل ما يتجلى، إنها الوجود ذاته، بل هي في الأنطولوجيا النقدية مجرد طريق للوصول إلى الوجود، الظاهرة ليست كل شيء، وتختلط الظاهريات بالفلسفة، يقينا إن وصف الميدان الترنسندنتالي ليس إلا الخطوة الأولى لنقد التجربة الترنسندنتالية والمعرفة الترنسندنتالية بوجه عام، وهي المرحلة الثانية، ومع ذلك ليست الظاهريات إلا خطوة نحو الأنطولوجيا النقدية.
57
وإذا كانت القصدية في قلب الظاهريات فليس لها هذه الأهمية في الأنطولوجيا النقدية، فهي لا تعبر إلا عن الجانب النفسي للظاهرة وليس الجانب الميتافيزيقي، ليس الموضوع قصديا فحسب، ولكنه له وجود في ذاته ومستقل عن المعرفة.
58
ليست الأنطولوجيا النقدية توجها ظاهراتيا جديدا فقط، ظاهريات الموضوع، بل هي أيضا رد فعل على الكانطية الجديدة؛
59
فقد كان مفهومها للموضوع تشويها لمشكلة المفارقة وخلطا في رؤيتها للقيم في مشكلة المعرفة،
60
هذا بالإضافة إلى أن المنطق فيها لم يكن يقوم على شيء؛
61
فليس الحكم هو المشكلة الكبرى في نظرية المعرفة، ولم يكن في الكانطية الجديدة تمييز كاف بين موضوع المعرفة وخلقها العقلي.
62
صحيح أن الكانطية الجديدة رد فعل نقدي بعد الرومانسية الدينية للفلاسفة بعد كانط، ومع ذلك ترفض الأنطولوجيا النقدية التوحيد بين الميتافيزيقا والنقد. المعرفة إدراك الوجود، والذات والموضوع من الوجود، والميتافيزيقا علم يتوجه نحو الوجود، وتتضمن مشكلة المعرفة ميتافيزيقا الوجود، بل إن الميتافيزيقا هو علم الوجود ذاته.
وطبقا للأنطولوجيا النقدية تتضمن المعرفة جانبا ميتافيزيقيا؛ لأن المعرفة أساسا إدراك للوجود، تخضع الذات إلى وجود سابق سلفا، ولا يوجد استقلال للروح بالنسبة لكل مادة موجودة سلفا كما تفترض الكانطية الجديدة.
63
تتضمن مشكلة المعرفة جوانب نفسية وميتافيزيقية ومنطقية، في حين أن الكانطية الجديدة لا تتعامل إلا مع الجانب المنطقي، والمنطق ليس منطقا صوريا بل منطق وجود.
وما زالت الأنطولوجيا النقدية مرتبطة بالتراث الفلسفي بالمعنى الدقيق ، ومتميزة عن الأنطولوجيا الوجودية، وتكون حركة مستقلة عن الظاهريات وعن الأنطولوجيا الظاهراتية بالمعنى الدقيق.
64
ثانيا: الحالة الراهنة للظاهريات التطبيقية1
ظهرت الفلسفة التطبيقية في جزء كبير من الدراسات الثانوية التي تجاوزت مرحلة الظاهريات النظرية كي تتجه إلى التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي في ميدان محدد أو فقط من أجل الاستفادة منه، وهي تمثل تقدما بالنسبة للظاهريات النظرية؛ لأنها توضح كل الثراء الداخلي للمنهج الظاهرياتي، وفي نفس الوقت تساهم في تقدم العلوم الإنسانية.
ليس المقصود هنا إعطاء إحصاء شامل لكل التطبيقات التي أجريت من قبل للمنهج الظاهرياتي في الميادين المختلفة، بل اختيار عينة ممثلة لهذا النوع من الدراسة لبيان نقائصها فيما يتعلق بالمنهج الظاهرياتي ذاته في تكوينه النظري أو تطبيقه العملي.
وفي بحوث الظاهريات التطبيقية من الصعب التمييز بين التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي في دراسة مشكلة محددة وأثر الظاهريات على بحث معين تأثر بها،
2
كذلك من الصعب التمييز بينها وبين العلوم الموازية في العلوم الإنسانية. مثلا، علم الاجتماع الذي يقوم على الفهم من أجل فهم دلالات الظواهر، هو علم مواز للظاهريات بالرغم من استقلاله عنها.
3
ليست الظاهريات المستعملة في الظاهريات التطبيقية هي نفسها ظاهريات الأصول الأولى في مؤلفات هوسرل، بل أحيانا ظاهريات الأتباع، الظاهراتيين الفلاسفة أو الفلاسفة الظاهراتيين؛
4
لذلك أخذت الأنطولوجيا الظاهراتية دائما مع الظاهريات.
5 (1) الفلسفة والأنطولوجيا
6
إذا كانت المبادئ المباشرة لمؤسس الظاهريات مسئولة جزئيا عن الظاهريات النظرية، فقد ساعدت أيضا على نشأة هذا النوع من التأملات الفلسفية الشخصية، وأخذ بعض جوانب المنهج الظاهرياتي كنقطة بداية، والبحث عما وراء السؤال أو ما قبله توصية ظاهراتية.
7
ويكون مقطع
Vor ، أي ما قبل، الموقع الأول الذي يوجد فيه الشيء. لقد حاولت الظاهريات نفسها من قبل تطبيق هذه التوصية في «التجربة والحكم» بالبحث عن التجارب السابقة على الحمل المنطقي حيث تدور العمليات المنطقة. وقد وصف «العالم الحي» السابق على العلم الذي اكتشفته الظاهريات بأنه عالم غامض،
8
فلم تؤد تحليل
Vor
فقط إلى استكشاف عالم «ما قبل»، نتيجة الاتصال المباشر بالعالم، ولكنه أدى إلى سبر بنية الوجود الإنساني نفسه كوجود في العالم، وقد اعتبرت الظاهريات أنها لم تصل بعد إلى مستوى الفلسفة؛ فالفلسفة هي أساسا تساؤل حول الوجود.
9
وباختصار تنتمي التأملات الأنطولوجية التي تبدأ من الظاهريات إلى الأنطولوجيا الجذرية أكثر مما تنتمي إلى الظاهريات الترنسندنتالية، وساهمت إلى حد كبير في تحويل الظاهريات إلى أنطولوجيا.
والموضوعات التي تمت معالجتها في هذا الجزء من الظاهريات التطبيقية في معظمها موضوعات فلسفية، وتعني الفلسفة هنا المعنى الحديث؛ أي التأمل الشخصي في خبرة أو أكثر في الحياة اليومية. وتأرجحت الظاهريات التطبيقية بين الأنطولوجيا العيانية وأنطولوجيا الوجود الإنساني، ومع ذلك امتد جزء كبير من الظاهريات التطبيقية إلى العلوم الإنسانية، علم الجمال، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وفلسفة التاريخ.
والتأملات الفلسفية الظاهراتية كلها تأملات شخصية،
10
وهي مرتبطة بأغراض الظاهرياتي والأتباع والفلاسفة والباحثين، كما أنها مرتبطة بأمزجتهم، هذا النوع من التأملات الفلسفية الشخصية ليست على وجه الدقة تطبيقا مباشرا وصريحا للمنهج الظاهرياتي في شموله وكليته، بل يؤخذ فقط عندما يسمح له بتطوير هذه التأملات الشخصية.
وإذا أخذت الخبرات الجمالية كتجارب أصلية للتحليلات الظاهرية،
11
فقد أخذت أيضا الخبرات الطبيعية، أي التجارب غير الفلسفية، كنقطة بداية لتأمل فلسفي ظاهراتي،
12
ويتشابهان في أن قدر الفلسفة أعظم بكثير من قدر الظاهريات، وتبدو الظاهريات على نحو غير مباشر في الاعتماد على بعض الموضوعات الظاهراتية وتطويرها، واستخدمت الخبرات غير الفلسفية ضد الفلسفة الرسمية والمذهبية التي تم قدها خارج المقياس الإنساني والواقع العملي، أصبح المنهج الظاهرياتي فلسفة غير مذهبية، وقد أدى غياب «التمذهب» إلى العيب النقيض وهي الأفكار المتناثرة، واختلطت الفلسفة بباقي العلوم الإنسانية خاصة علم النفس، واستعمل تاريخ الفلسفة كمناسبة للتأمل في النظريات الماضية.
وقد أصبح لفظ «ظاهريات» شائعا للغاية بحيث أصبح يطلق على أي تأمل فلسفي مستقل يند عن البحوث التاريخية في تاريخ الفلسفة كعقائد ومذاهب.
13
كانت التأملات في الحقيقة تأملات فلسفية خالصة، ودون أن تذكر الظاهريات لا كموضوع ولا كمذهب ولا حتى كأفكار رئيسية موجهة كما أرادها صاحبها في مجموعة «الأفكار»، بل تغيب الإحالات إليها تماما، ولو يلمس عرضا التأمل من بعيد بعض الموضوعات الظاهراتية، فإنه يتم التعامل معها دون أن يكون لها أي أولوية على التعامل مع أي موضوعات أخرى.
وقد استعملت الظاهريات بوضوح كفلسفة أكثر منها كمنهج، وتتصارع مع النظريات والمذاهب الفلسفية السابقة ودون تصدرها كمنهج للبحث عن الحقيقة،
14
وتجابه النظريات والأنساق الفلسفية في التاريخ دون ملاحظة أن الظاهريات هي اكتمال الحقيقة التي طالما كانت موضوعا للبحث منذ عصر النهضة.
15
وقدر الفلسفة أكبر بكثير من قدر الظاهريات، و«محاولة في البرانية» أقرب إلى الفلسفة منها إلى التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي، ويرجع الجانب التقدمي إلى جدل النهائي واللانهائي أكثر مما يرجع إلى المنهج الظاهرياتي، ويتم تطبيق المنهج الظاهرياتي في المساهمة في نقد الأوثان الفلسفية السابقة، الكلية التي تنكر الحضور الفعلي والتمثل الذي ينكر الخبرة الحية.
16
وفي مقابل التأملات الفلسفية الظاهراتية، والتي ما زالت متناثرة، اتجهت تأملات أخرى نحو النسقية، وهي الطابع الغالب على الفلسفة المدرسية التي منها خرجت هذه التأملات، وتعبر عن نفسها في لوحة ذات جانبين ومداخل متعددة.
17
وبالإضافة إلى التأملات الظاهراتية الشخصية طبقت الظاهريات في تاريخ الفلسفة، واستعملت كمنهج للبحث من أجل إعادة كتابة تاريخ الفلسفة وإعادة تفسيرها طبقا للمعطيات الفلسفية الحالية، وأحد التيارات الأكثر شيوعا في الفلسفة المعاصرة هو إعادة تفسير كل تاريخ الفلسفة، وبفضل الحاضر يعاد اكتشاف الماضي، وطبقا للأنطولوجيا السائدة في الظاهريات التطبيقية، أعيد اكتشاف تاريخ الفلسفة كأنطولوجيا، وأعيد كتابة تاريخ الأنطولوجيا القديمة للمكان والزمان والحركة.
18
واستعملت من جديد نفس الموضوعات الظاهراتية التي تم الحصول عليها بعد اكتمال المثالية الترنسندنتالية من أجل نقد هذه الموضوعات نفسها؛ فالكوجيتو متشابه، ولكن ينقصه مضمون الشعور، الكوجيتاتوم.
19
والجسد ليس شيئا، ولكنه طريق إلى الأشياء.
20
والعالم الآخر والزمانية كلها موضوعات ظاهراتية أخذت كموضوعات فلسفية، وليست كنتائج غير مباشرة لتطبيق المنهج الظاهرياتي.
21
وإذا كانت الظاهريات تبحث أولا عن الخبرة الحية، فقد أعيد تفسير تاريخ الفلسفة على هذا النحو؛ ففي كل نسق فلسفي تم البحث عن الخبرات الطبيعية كأساس لتفسير هذه الأنساق نفسها؛ الأيديولوجيا أساس «الوجود والعدم»، والفيزيقا أساس المثالية النقدية، والوحي أساس المثالية المطلقة، والرياضة أساس الظاهريات.
22
ومن الناحية التاريخية لم تكن معرفة مؤسس الظاهريات كاملة خاصة فيما يتعلق بالفلسفة المدرسية، كانت القصدية عنصرا رئيسيا في علم النفس الوصفي، وكانت لها وظيفة مختلفة عن وظيفتها في الفلسفة المدرسية، كانت تستخدم كمفهوم فرعي لتبرير العقائد، في حين أنها في علم النفس الوصفي مفهوم رئيسي لحل الأزمة الحالية في مناهج العلوم الإنسانية خاصة علم النفس، وهي أزمة التوازي «السيكوفيزيقي»، ثم أصبحت القصدية في الظاهريات مركزها من أجل البحث الخالص عن الحقيقة.
23
ومنهج الأثر والتأثر قاصر في حد ذاته خاصة في الظاهريات التي تعتبر ذاتها الحقيقة المكتملة في التاريخ، وفي نفس الوقت في الذهن، مستقلة عن التاريخ.
واستعادت الظاهريات النقدية نقد الظاهريات لمختلف الاتجاهات الفلسفية عودا إلى المشاكل المبدئية التي عالجتها الظاهريات،
24
فأعيدت الظاهريات النظرية في بيئتها الفلسفية الخاصة.
25
وبالرغم من أن الظاهريات حقيقة مستقلة إلا أنها كانت في صراع مع معظم الاتجاهات الفلسفية داخل الحضارة، وأعيد تأطيرها داخل البيئة الفلسفية في الظاهريات الموازية لبيان الجبهات المشتركة لعديد من الحركات الفلسفية في نفس العصر.
26
ولم يحدث تمييز بين الظاهريات الترنسندنتالية والأنطولوجيا الظاهراتية ؛ لأن التأملات الفلسفية الظاهراتية كانت تتجه نحو الأنطولوجيا، وكان الاعتماد على الثانية أكثر من الاعتماد على الأولى، كانت التأملات الظاهراتية تكون فهما للوجود وليست نتائج يتم الحصول عليها من تطبيق المنهج الظاهرياتي.
27
وكان استعمال الأنطولوجيا أكثر من استعمال الظاهريات عندما يتعلق الأمر بالنقد. والأنطولوجيا الحالية أكثر عرضة للنقد من الظاهريات الترنسندنتالية.
28
وتبدأ الظاهريات التطبيقية من موضوع فلسفي كي تنتهي إلى أنطولوجيا، وطبقا للمنهج الظاهرياتي الذي يبدأ بتمييزات رئيسية، تابعت الموضوعات الفلسفية التي أخذت كنقطة بداية نفس الطريق.
29
ففي «الكل واللانهائي» تم نفي الأول وإثبات الثاني.
30
وبالرغم من أن البداية كانت التحليل الظاهرياتي ساد جدل آخر يتلخص في العبارة الشهيرة «الأشياء الدانية توجد في الأشياء العالية على نحو أفضل مما توجد في ذاتها»، أو عبارة «من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى أعلى»؛
31
ومن ثم تم نفي التماهي مع الذاتي من أجل إثبات الاختلاف مع الآخر؛ فالداخل محل الخارج الذي يتم تجاوزه إلى ما يعلو على الوجه.
32
وإذا قبلت الظاهريات تحليل الظاهريات الترنسندنتالية فإنها ترفض الجوانب الميتافيزيقية للأنطولوجيا الظاهراتية، وتنقد نظريات العدم والحرية.
33
في هذه التأملات الأنطولوجية فإن ظاهريات الفعل تم تجاوزها بظاهريات الموضوع، وتتخلى الظاهريات الترنسندنتالية عن مكانها عن طيب خاطر إلى الأنطولوجيا الظاهراتية. وتستمر البواعث الظاهراتية في النوعين من الظاهريات.
وتقترب الظاهريات التطبيقية أحيانا من الرسالة الفلسفية.
34
وطبقا لتوجه الفلسفة المعاصرة نحو الأنطولوجيا، كان للرسائل الفلسفية أيضا توجه نحو الأنطولوجيا. وينجح تطبيق المنهج الظاهرياتي بطريقة أفضل عندما يتم في نقطة خاصة توجد فيها أزمة أو خلط بعد إعادة تصميم المنهج في قواعد للتطبيق.
35 (2) علم الجمال وعلم النفس
36
وقد اتجه علم النفس الظاهرياتي أيضا نحو ميدان الفن منتهيا إلى «ظاهريات الخبرة الجمالية»؛
37
فقد وصف الموضوع الجمالي كوجود في العالم،
38
كقصدية توصف فيها العلاقة التبادلية بين صورة الشعور ومضمون الشعور.
39
وقد استعملت عدة موضوعات كظاهريات مثل الشعور الواضع الخيالي، نتيجة الحياد، صفات نتائج رد الاتجاه الطبيعي للأنماط المثالية، التكوين، ملء القصدية الفارغة ... إلخ، لتحليل العمل الفني وتنفيذه، وجمهوره، والموضوعات الأخرى التي تحيط به، وتحليل العمل الفني في الزمان، مثل الموسيقى، أو المكان مثل التصوير والفن التشكيلي.
40
ويستعمل المدخل الظاهرياتي للإدراك الحسي الجمالي موضوعات الخبرة السلبية، وملء تجربة الآخرين، وتحليل التمثل والخيال والوجدان.
41
ومع ذلك في ظاهريات الخبرة الجمالية دور الظاهريات قليل للغاية بالنسبة للجمال، لم تتحول الموضوعات الظاهراتية المستعملة إلى منهج ذي قواعد محددة قابلة للتطبيق، استعملت فقط بعد المفاهيم الظاهراتية المتناثرة طبقا للحاجة في التحليل الإيجابي أو في الحجاج النقدي.
وإذا بدأ المنهج الظاهرياتي من التجربة فقد أخذت الخبرة الجمالية كنقطة بداية نحو ميتافيزيقا مرورا بفلسفة في اللغة.
42
وكان يتم اللجوء باستمرار إلى العودة إلى الأشياء ذاتها، واستعملت عدة مفاهيم ظاهراتية مثل: حامل المعنى، واهب المعنى ... إلخ.
43
واستطاع الرد الظاهرياتي استبعاد الاتجاه الطبيعي للإبقاء على الاتجاه الظاهرياتي وحده،
44
كما استعملت إلى حد كبير البحوث اللغوية التي تقدمها الظاهريات من أجل صياغة فلسفة اللغة.
45
وتم تفصيل «الرد» الظاهرياتي على نحو خاص، واستعمل على أربع لحظات: الغاية، والمحل، والأثر، والنتيجة.
46
لم يعد للرد لحظتان فقط، «الرد الترنسندنتالي» و«الرد النظري» كما هو الحال في الظاهريات النظرية، وقد تم ذلك بواسطة الخبرات الجمالية عن طريق الحدس، وقد وضع طريق التحول من الجمال إلى الميتافيزيقا على نحو مرهق ومبالغ فيه دون الدخول في تحليل عقلي أو علمي دقيق، وكل خطوة مرتبطة بالأخرى بدقة وتلقائية، ومع ذلك ساد التحليل التوثيقي المرهق المبالغ فيه، وذكر العديد من أسماء الأعلام من خلال الدراسة والتحليل، كما تم تشريح الموضوع إلى حد كبير بقسمة عقلية محكمة، والجداول والرسوم عن الرؤية التأملية، والرؤية الخلاقة، والفن والجمال، والموقف الأولي، ومستويات «التقويس» والأنماط المختلفة للغة تفيد حتما في التوضيح، وتحدد الوحدة الداخلية للموضوع المعيش.
47
وازدهر اتجاه آخر في علم النفس الظاهرياتي في «فلسفة الإرادة»،
48
وقد تمت صياغتها أولا بمنهج وصفي للإرادي واللاإرادي واستبعاد الخطيئة والمفارقة.
49
وبعد «الرد النظري» جذب الإنسان حول واقعة أساسية، التبادل بين الإرادي واللاإرادي في قصدية ذات بنية ثلاثية: القرار، والحركة، والموافقة. واعتمادا على المعطيات التجريبية التي تم وصفها في الظاهريات، وارتباطا في نفس الوقت بمطلب وجودي، سر التجسد، وجدت فلسفة الإرادة طريقها بين العلم من ناحية واللاهوت من ناحية أخرى، ثم أعيدت صياغتها في «التناهي والذنب»،
50
ثم رفع القوسان، وظهرت شاعرية الإرادة المقصودة أولا في أسطورة عيانية بلغة الاعتراف، وكانت الهرمنيطيقا ضرورية لفك رموز الشر من أجل التقريب بين الأساطير والخطابات الفلسفية، ومن أجل اكتشاف المحل الإنساني للشر وولوجه في الوجود الإنساني، انتهت فلسفة الإرادة أخيرا إلى أنثروبولوجيا فلسفية تنتهي هي الأخرى بدورها إلى فلسفة في الحرية.
51
الظاهريات التي استعملت أولا كمصدر للنظريات النفسية تم تفصيلها بعد ذلك في أدق تفصيلاتها، وتم استخلاص موضوعات المملوء والفارغ، الأنا الخالص وتحليل الخبرات في الشخص الأول من المتون الظاهرياتية.
52
وأخذت الموضوعات الظاهرياتية مثل «الاستباق»، ووضعت في إطار التحليل النفسي للانتباه،
53
واعتبر قلب النظرة من الخارج إلى الداخل واستعمال الاستبطان كطريقة للإحساس.
54
وضد كل الكونيات استعيرت النظرية الظاهراتية لموضوع الفكر على العموم، وكذلك فكرة المنطقة في أنطولوجيا المناطق.
55
وطبقا للحاجة استعملت نظرية الخبرة الحية الخالصة كتيار للشعور للحصول على درجة عالية من التحول بين الفاعلية والإمكان.
56
ووضع الشيء كموضوع قصدية في مواجهة الشيء كموضوع فيزيقي، ثم أوجب هذا الموضوع القصدي الخالص التمييز بينه وبين المادة الهيولانية، ولنفس السبب لا يعطي عالم الحياة عن طريق التخطيط الذهني.
57
والنقد الوحيد الذي وجه إلى الظاهريات، الفصل بين مشاكل العلم ومشاكل الحكمة، راجع إلى الأهمية القصوى المعطاة إلى التحليل العلمي للمشاكل النفسية.
58
وطبقا للظاهريات، الحكمة وحدها هي العلم المحكم، العلم بالأصالة.
وفي اللحظة الأولى، لحظة وضع الأشياء بين قوسين، استعملت الظاهريات وكأنها علم نفس خالص، وذكر مؤسس الظاهريات كعالم نفس مثل آخرين، وبالرغم من هذه النزعة النفسية استعيرت عدة نتائج أخرى من الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، بل أيضا من الأدب، وبالرغم من غياب أي نسق للعالم يكون المجموع عددا لا نهائيا من النظريات الصغيرة نتيجة رؤية الظاهرة موضوع الدراسة بعين المجهر، يقينا الدقة والضبط مطلوبان، ولكن ثقل التحليل الدقيق يند عن الفهم، والظاهريات أولا وقبل كل شيء نظرية في البداهة.
وعندما رفع القوسان، ترك التحليل العلمي للظواهر النفسية مكانه للتحليل العقلي للمفاهيم الفلسفية، وللتحليلين عنصر مشترك، الضبط والدقة لدرجة المتناهي في الصغير تحت المجهر، ولا تفهم الظاهريات في هذا المستوى، بل هي توجه عام يضع الأشياء في مستواها الخاص، وقبل رفع القوسين، استعملت الظاهريات كعلم نفس، واعتبرت نظرياتها نظريات نفسية مع باقي النظريات، وبعد رفع القوسين استعملت الظاهريات كفلسفة، واستعملت بعض المفاهيم الظاهراتية بين الحين والآخر كنظريات فلسفية صغيرة. وبين النزعة النفسية في «الإرادي واللاإرادي» والنزعة العقلية في «التناهي والذنب»، يتأسس المنهج الظاهرياتي مرة في التحليل النفسي، ومرة أخرى في التحليل الفلسفي، بل إنه من الممكن السؤال حينئذ: أين المنهج الظاهرياتي؟
ووضعت الظاهريات في إطار تاريخ الفلسفة، ووضعت أعمالها في مواجهات مع باقي الأعمال في التحليلات اللغوية والظاهراتية، وخضعت نظرية التعبير والدلالة ل «التحليل الدقيق».
59
وتم تحييد «وجهة النظر» بالفعل ،
60
ووضع القوسان على موضوع صغير وعلى نحو مباشر،
61
وتم تحليل قصدية الوجدان دون بيان كيف ساعد المنهج الظاهرياتي على ظهورها.
62
واستعمل تعبير «مؤسس الظاهريات» مرتين مع استعمال مصطلحاته.
63
وتتكرر أسماء كثير من الفلاسفة الآخرين، واستعمل اسم المؤسس كنسبة «هوسرلي» للإشارة إلى أسلوبه النظري.
64
وفي التحليل المجهري الدقيق يدور العقل حول ذاته، ويلتهم نفسه؛ لأنه لا يتغذى باستمرار بخبرات الحياة اليومية، وتكون النتائج الدقيقة، والتي تم الوصول إليها بعناية فائقة، نسقا وجدانيا صغيرا للوجود الإنساني، وتم التعبير عن التجربة الإنسانية في قضايا عقلية، كما عبر عنها من قبل في العلوم الصورية في معادلات رياضية، الفرق الوحيد أن الأولى تستعمل اللغة في حين أن الثانية تستخدم الرمز. والحياة أكثر من كونها مجرد ميتافيزيقا عقلية، وقد خنقت الدقة والضبط والتركيز والتحليل المجهري الحياة بكل امتداداتها.
ولم تطبق أي قاعدة من قواعد المنهج الظاهرياتي تطبيقا مباشرا، و«وضع الرد» على الإرادي واللاإرادي بطريقة الاسترجاع.
65
وكان رفع القوسين تفسيرا للتطور الروحي، من علم النفس إلى الفلسفة، ومن الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا.
واستعملت الظاهريات في «رمزية الشر»، وتم المرور مر الكرام على الظاهريات التطبيقية في الأخلاق وفي اللاهوت.
66
وتقوم ظاهريات الاعتراف على تأملات دون الإحالة إلى أي مفهوم أو قاعدة من الظاهريات إلا مرة واحدة ذكرت فيها نظرية الدلالة.
67
وأحيانا يتم نقد الظاهريات نقدا مباشرا وعابرا، ويرفض الموضوع الحال في الذات لصالح الموضوع في مواجهة الذات.
68
ويظل السؤال: كيف تستطيع الظاهريات العودة إلى الاتجاه الطبيعي التي وضعته من قبل خارج دائرة الانتباه، الاتجاه الطبيعي الشعري وليس بالضرورة عالم الأشياء؟
وقد درست موضوعات فلسفية بحق، وتثار مشاكلها في الحياة الوجدانية العملية، ومع ذلك النتائج الحاصلة علمية للغاية أكثر منها إنسانية، تخطئ الدلالة أكثر مما تكشف عنها، تتعلق الموضوعات المدروسة بالوجود الإنساني، ولكنها مثقلة بحمل التحليل العلمي العقلي، وأحيانا يترك تاريخ الفلسفة مكانه للموضوعات الفلسفية التي يتم تحليلها، وأحيانا تترك هذه مكانها لصالح تاريخ الفلسفة، هذا التردد الدائم بين الاثنين يوقعهما معا في الغموض. ولم يرتبط تاريخ الفلسفة الأوروبية ببيئته، حيث توجد القصدية في الخبرة الذاتية المشتركة لمعرفة غائية الحضارة كما حاولت الظاهريات من قبل، ولم يكن للموضوعات الفلسفية موضوع الدراسة أي إحالات إنسانية في الحياة اليومية، سادت الأعمال الفلسفية الموضوعات بالرغم من أن الظاهريات عود إلى الأشياء ذاتها.
69
وتاريخ الفلسفة الأوروبية له ظروفه الخاصة، وبالرغم من أنها تتضمن مقاربات للحقائق المستقلة، ولكنها تظل مرتبطة ارتباطا كاملا بالظروف التي نشأت فيها، ولم يتم التمييز بين مراحلها المختلفة؛ فدخلت الفلسفة المدرسية على نفس مستوى الفلسفة في العصور الحديثة.
70
كانت الأولى ملحقا للعقائد دون أن يكون لها استقلالها الداخلي، في حين كانت الثانية بحثا عن الحقيقة بطريق إنساني مستقل للحصول على حقائق مستقلة قائمة بذاتها، كما لم يتم التمييز بين مصادر الوعي الأوروبي وبنيته وتطوره.
71
كان يمكن ل «فلسفة الإرادة» أن تتجنب هذا النقد الموجه إليها لو قامت بالعودة إلى الأشياء ذاتها كما يقتضي بذلك المنهج الظاهرياتي، وذلك بالتمييز بين الشيء ذاته والأعمال الفلسفية في التاريخ؛ فالأشياء ذاتها لها إحالاتها في التجارب الإنسانية، في حين أن الأعمال الفلسفية لها إحالاتها في بيئاتها الفلسفية الخاصة.
فإذا وقع «الإرادي واللاإرادي» في النزعة النفسانية، وإذا وقع «الإنسان المخطئ» في النزعة الصورية، فإن «رمزية الشر» وقعت في النزعة التاريخية، إن الدنس والخطيئة والذنب أو أساطير البداية والنهاية مستمدة إما من اللاهوت العقائدي أو من الأساطير الدينية.
72
وكلا المصدرين بنيات تاريخية مرتبطة ارتباطا وثيقا بظروف نشأتها، الخطيئة عقيدة تاريخية في التراث اليهودي المسيحي، وكذلك الله «الشرير» في ظروف الطرد. وتنشأ النزعة التاريخية لعدم وضع المصادر التاريخية التي تشير إليها هذه العقائد، فللخطيئة والطرد ... إلخ دلالات إنسانية، ربما تشير إلى حوادث معينة، ولكن هذه الحوادث التاريخية إذا ما طبق المنهج الظاهرياتي تصبح بين قوسين.
وإذا بدأت فلسفة الإرادة من «الإرادي واللاإرادي» فلماذا تنتهي بالضرورة إلى «التناهي والذنب» دون اللاتناهي والبراءة؟ ولماذا ينتهي تحليل الفعل بالضرورة إلى فلسفة الخطأ وليس إلى فلسفة في الاجتهاد والمنظور؟ لماذا يكون الإنسان بالضرورة مخطئا وليس على صواب؟ ولماذا توجد رمزية للشر دون الخير؟ كل هذه التساؤلات في حاجة إلى إجابات. وإن الإحساس المأساوي بالبؤس قد يؤدي إلى إحساس مأساوي بالعظمة.
73
وقد تؤدي الهشاشة الوجدانية إلى «الفكرة-القوة» والفعل الخلاق، والخطأ تجربة إنسانية في تأنيب الضمير، ذاتية خالصة دون وجود موضوعي حقيقي، وقد يكون الإنسان كاملا بلا خطأ، يكفيه أنه يعمل، ويعمل فحسب.
74
وكان لتحقيب الوحي في مراحل سابقة مع استبعاد المرحلة الأخيرة عواقب وخيمة في الوعي الأوروبي، ظلت خطيئة آدم واقعا فعليا كمصدر للخطيئة الأولى، في حين أنه في آخر مرحلة من مراحل تطور الوحي تاب آدم، وغفر له، ويولد الإنسان على الفطرة وعلى البراءة الأصلية، ويكون مسئولا عن أفعاله وحدها مسئولية فردية.
وفي علم النفس تم تطبيق المنهج الظاهرياتي بطريقة رائعة في «نظرية ميدان الشعور»؛ فالعمل هو «دراسة ظاهراتية أكثر منه عملا في الظاهريات».
75
وتدخل الظاهريات هنا في صراع مع الاتجاهات النفسية المعاصرة، موضوعة في بيئتها الثقافية، وتشارك مع باقي العلوم في صياغة علم إنساني مستقل، وهي الظاهريات الموازية، علم النفس الوصفي، علم النفس «الجشطلتي»، علم النفس البرجماتي، وعلم النفس الحدسي، من أجل عمل مشترك، وهو استكشاف الشعور؛
76
لذلك كان التحليل المقارن لموضوع ما بين هذه الفروع العديدة من علم النفس تحليلا خصبا.
77
والحقيقة أن الظاهريات في حاجة إلى أن تعود إلى هذه الحركات المعاصرة المشابهة التي تهدف إلى نفس الغاية، كل منها بوسائلها الخاصة.
وذكرت عدة آراء ظاهراتية في معرض تحليل ميدان مشترك، وذلك مثل نظرية «العوامل التصويرية» التي تمت مناقشتها مع باقي النظريات حول تجميع المعطيات الحسية وتنظيمها،
78
كما تم تحليل مفهوم الكوجيتو في الظاهريات في معرض تحليل ميدان مضمون الشعور،
79
وبالإضافة إلى ذلك يظهر المنهج الظاهرياتي في عدة مفاهيم أساسية في الظاهريات التكوينية،
80
وقاعدتيها الرئيسيتين «الرد» و«التكوين». ويظهر ميدان المنهج الظاهرياتي في النظرية الظاهراتية للإدراك الحسي؛
81
فهي علاقة بين الشعور والعالم الإنساني والعالم الطبيعي وليس فقط موضوعا لعلم النفس الظاهرياتي. وباختصار، ومع الفائدة الكبرى التي يقدمها المنهج الظاهرياتي لعلم النفس، تخاطر نظرية ميدان الشعور بإدخال الظاهريات الترنسندنتالية في النزعة النفسية بسبب قرابتها مع النظريات النفسية المعاصرة، ومما لا شك فيه أن علم النفس أحد مصادر الظاهريات، ولكن الظاهريات اكتملت فيما بعد كعلم محكم مستقل.
وقد أدى تطبيق المنهج الظاهرياتي في علم النفس إلى نشأة علم النفس الوجودي، فابتداء من نظرية الدلالة في البحوث اللغوية في الظاهريات تم تفسير الأحلام بحيث أصبحت استكشافا للوجود الإنساني؛
82
لذلك استعمل المنهج الظاهرياتي في تأسيس هرمنيطيقا الرموز.
83
ووجد اتجاه نفسي آخر في علم دراسة الشخصية الذي أصبح هو الآخر ميدانا جديدا للاستكشاف الظاهرياتي، أخذت «الانتماءات» كمكونات للشخصية.
84
كما تم استكشاف الشخص في نهاية الأمر كذات ترنسندنتالية يتم الحصول عليها عن طريق «الرد» الظاهرياتي، وحللت الشخصية على مستويات مختلفة من الأعماق.
85 (3) علم الاجتماع وفلسفة التاريخ
86
وتمثل «محاولة في البرانية» نوعا من علم الاجتماع القائم على الفهم للآخر، ومع ذلك كان يميل نحو الأنطولوجيا أكثر من ميله نحو علم الاجتماع. الحياة الاجتماعية قصدية،
87
وقد طبق المنهج الظاهرياتي مباشرة في علم الاجتماع في «الوقائع الاجتماعية ليست أشياء»،
88
وشقت الظاهريات الاجتماعية طريقا ثالثا ضد المدرسة الاجتماعية وضد كل العلوم التفسيرية بوجه عام ، بداية بالوجود الإنساني. واعتمادا في نفس الوقت على الفلسفة وعلم النفس حاول علم الاجتماع الظاهرياتي وضع المجتمع الإنساني في الزمان والمكان بين قوسين من أجل إدراك دلالتها، وتميل ظاهريات المناطق إلى وصف عالم الحياة الاجتماعي.
89
لا يوجد مجتمع بل حالات حية للمجتمع،
90
واستطاع نظام العموم أن يمايز بين المستويات المتعددة للظاهرة الاجتماعية، وقد وضعت تاريخية الوجود الإنساني في قلب الظاهرة الاجتماعية، وبعد التمييز بين المجتمع والجماعة وضع الأول بين قوسين خارج دائرة الانتباه من أجل إدراك ماهية الثانية.
إن علم الاجتماع الظاهرياتي هو استكشاف لميدان الخبرة المشتركة، غايته الآخر باعتباره متضايفا مع الشعور، الشعور مركز دائرة حولها دائرتان؛ دائرة الآخر في علم الاجتماع، ودائرة الشيء دائرة الأنطولوجيا.
وفي جمال ميتافيزيقي مشهور وضعت التجارب الإنسانية كمعطيات أصلية قبل أن تتحول إلى اصطناع في أي علم إنساني خاصة علم النفس، واستدعت الباطنية.
91
والخيرية والسلام محاولات «العدل الإلهي» والتأملات الصوفية، ومع ذلك ليست تجربة الآخر باستمرار تجربة مثالية، بل هي أيضا تجربة الكراهية والصراع والنضال.
92
واكتسبت الظاهريات الاجتماعية أرضية جديدة، سواء عن طريق علماء الاجتماع أنفسهم أو عن طريق الفلاسفة، ودرست التجربة الذاتية المشتركة مرة أخرى كظاهريات المقابلة، ليست المقابلة فقط مقابلة الشعور مع الآخرين بل أيضا مقابلة الشعور مع «الله» من خلال الشعائر؛
93
لذلك يمكن اعتبار «ظاهريات المقابلة» ظاهريات دينية، ومع ذلك يظل الجانب النفسي طاغيا،
94
وأخذت الظاهريات في تطورها الأخير، وتغيب الإحالات الظاهراتية الرئيسية تماما.
وقد طبق المنهج الظاهرياتي أيضا في فلسفة التاريخ، «نحن نستعمل منهجا وصفيا أو إن شئنا ظاهراتيا»،
95
واعتبر مجرد وصف للمعطيات التاريخية دون أن يكون تطبيقا حرفيا لقواعد المنهج الظاهرياتي بالمعنى المعروف؛ لذلك لم يستعمل أي مفهوم، ولم تستخدم أي قاعدة من المنهج الظاهرياتي. استعمل المنهج الوصفي عن حق طبقا للتعارض المعاصر بين العلم الشارح والعلم الفاهم،
96
وينتمي المنهج الوصفي إلى المناهج التي تقوم على الفهم، ومع ذلك تغيب الإحالات إلى المصادر أو المراجع الظاهراتية.
97
وحتى على افتراض أن المنهج الوصفي تقريبا قريب من المنهج الظاهرياتي، تظل دراسة التاريخ نظرية وفلسفية، تتحقق من كل نظريات التاريخ، معرفة وحادثة، مع نقد موضوع الصدفة أو التوازي بين التاريخ الإنساني والتاريخ الطبيعي،
98
وفي مواجهة هذه النظريات الطبيعية يكشف فهم التاريخ حضور الآخر، ويصبح التاريخ بعدا للإنسان.
وفلسفة التاريخ كما هي الآن في الحضارة الأوروبية مادة خصبة لكل بحث عن الحقيقة؛ فبعد رفض أي مصدر قبلي للحقائق المعطاة سلفا في بدايات العصور الحديثة، أصبح البحث عن الحقيقة بالطريق الإنساني وحده هو المصدر الوحيد، لكل عصر حقيقته، وروح العصر نتيجة للعمل الحضاري، وباكتشاف مفاهيم الفكر، الفكرة، العقل، البداهة، الحدس ... إلخ، والتي أنقذت حرية الوعي الأوروبي، انتهت قوة الاكتشاف إلى المبالغة. ولما كان لكل فعل رد فعل، وقع الفكر في الصورية، والعقل في التجريد، ثم أتى اكتشاف حديث؛ الحياة، الوجدان، الشعور، الوجود، كرد فعل على رد الفعل السابق؛ فلسفة التاريخ إذن هي محاولة لاكتشاف مسار تطور الحقيقة التي تتكشف وهي تبحث عن نفسها، وتتبع توالي العصور، ونكوصها، وظهور الأفكار واختفائها ... إلخ. تكشف فلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية إلى حد كبير عن القصدية الحضارية، وهي غائية الحقيقة.
وبسبب هذه الظروف كانت لفلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية أهميتها؛ ففي العصر الوسيط لعب التاريخ من قبل دورا في تكوين العقائد، واعتبر التاريخ عاملا إيجابيا، منبعا للتراث الحي، وبعد عصر النهضة لعب التاريخ نفس الدور كمصدر للحقائق، موضوع البحث، بالطريق الإنساني. وتستطيع فلسفة التاريخ في الغرب أن تبين مصادر الوعي الأوروبي وبنيته وتطوره، وتستطيع أن تحدد بدايته ونهايته، وتعتبر الظاهريات نفسها اكتمال القصدية المشتركة للحضارة الأوروبية، لم يعد للتاريخ هذا الدور الإيجابي الذي أعطاه إياه اللاهوت العقائدي أو فلسفة التاريخ، في الظاهريات اكتملت الحقيقة، وأصبحت مستقلة عن التاريخ، وموجودة بذاتها، ومن ناحية أخرى للتاريخ دور في تطور الوحي؛ فقد تجلى الوحي في التاريخ، مرحلة بعد مرحلة، والتاريخ هو مجموع هذه المراحل السابقة حتى المرحلة الأخيرة، فقد اكتمل الوحي أيضا، لم يعد للتاريخ إذن دور بهذا المعنى، يظل مجرد ذكريات، باكتمال الوحي يستقل الوعي، ويبقى التاريخ كنماذج سابقة يحتوي على تجارب النجاح والفشل في الماضي وكميدان للفعل في الحاضر، ومساهمة في تحقيق مساره في المستقبل. لمشاكل التاريخ إذن حلها في تاريخ تطور الوحي. (4) حدود الظاهريات التطبيقية
99
لقد تم دائما نقد الظاهريات أثناء تطبيقها، ولم يكن النقد داخليا من أجل تطوير الظاهريات إلى علم محكم كما أرادت هي لنفسها، بل خارجيا طبقا للافتراضات الفلسفية أو العقائدية المسبقة، قيل مثلا إن التوقف عن الحكم غير قادر على اكتشاف جذرية القصدية.
100
وتعني الجذرية هنا خطوة تمهيدية من أجل الهروب من «الرد» لإعادة تأكيد الواقعية المدرسية، وقيل نفس الشيء ضد مفهوم «الحامل الأخير»، فهو غير كاف لأنه منفصل عن سياقه الواقعي الخام.
101
وقد نقدت الظاهريات بأنها غامضة في «الرد»، ينقصها التمييز بين المستويات. وكيف ينقص الظاهريات التمييز مع أنها تبدأ بتمييزات أصلية؟ والمستوى المطلوب هو مستوى المفارقة الذي يدافع عنه اللاهوت العقائدي أو الفلسفة المدرسية،
102
ويوصف المسار من العالم - الأفق إلى العالم - الحامل الأخير بأنه غامض لأنه طبقا للواقعية الخام (الساذجة) للفلسفة المدرسية العالم - الحامل موجود هنا. وهل هذا العالم واضح؟
103
واعتبر التمييز بين العلوم النظرية ونموذجها الظاهريات، والعلوم الاستنباطية ونموذجها الرياضيات، كمطلب للعقل الخالص للمطالبة بعلوم وقائع وضعتها الظاهريات سلفا بين قوسين، ويمهد هذا النقد للواقعية السابقة في الفلسفة المدرسية.
104
ونقد التطور المتأخر للظاهريات ممكن من أجل الإظهار المستمر للظاهريات الترنسندنتالية الخالصة،
105
واستبعد التكامل بين الظاهريات والمنطق في الأنطولوجيا الظاهراتية دفاعا عن التكامل بين الظاهريات والفلسفة الوجودية.
ولم تضع الظاهريات اللغة الطبيعية بين قوسين، خارج دائرة الاهتمام؛ فاللغة مثل الكوجيتو بداهة أولى،
106
وهي ضرورية إما للتعبير أو للإيصال.
وظلت الظاهريات الترنسندنتالية ظاهريات فعل أكثر منها ظاهريات موضوع، ولا يمكن تطبيق الظاهريات كعود إلى المعطى الأصلي في البحث في تاريخ الأنطولوجيا القديم،
107
ولم يعد الشعور مصدرا للمعطى، وترك مكانه للتاريخ، وترك العود إلى الأصيل في المنهج الظاهرياتي ب «اشمئزاز مستهجن» لأنه يضيق مضمون الظاهرة،
108
ولم تعد البداية الجذرية المطلقة مقبولة كمنهج للبحث،
109
الأشياء وحدها هي نقطة البداية.
وتعيد الظاهريات التطبيقية من حين لآخر تفسير الظاهريات نفسها.
110
ولا يعني إعادة تفسير التعبير عن الشيء بطريقة أخرى، ولكن الغوص في الأعماق حتى المقاصد غير المعلنة للعلم، وتصل الظاهريات التطبيقية إلى حد تفسير الظاهريات الترنسندنتالية لإعداد الموقف، ولا يؤدي تفسير الظاهريات إلى الرجوع إلى الوراء بل يدفع إلى الأمام. وليس المقصود العثور في الظاهريات على بقايا الماضي خاصة ما يتعلق بالفلسفة المدرسية، بل رؤية الظاهريات كاكتمال لتاريخ الفلسفة، وليس تمييز الظاهريات بين التكويني والتتابعي استرجاعا للتمييز المدرسي بين الماهية والصفة الضرورية، بل هو تمييز خاص يهدف إلى توضيح الخلط في ميدان محدد.
111
ويطبق المنهج الظاهرياتي كتفسير حقائق متضمنة فيها،
112
وقد استرجعت النتائج التي حصلت عليها الظاهريات من قبل وطورتها كي تصبح ظاهريات أوضح.
113
واستعملت المصطلحات الظاهراتية،
114
وأحيانا تترك المصطلحات القديمة مكانها للمصطلحات الجديدة دون تغيير في جوهر الأشياء، وتستعمل اللغة الظاهرية بطريقة تعسفية لأنها ملائمة، وتختلط بلغة الفلسفات المدرسية دون مراعاة لاستقلالها وتوجهها،
115
واستعارة لفظ هي استعارة معنى، والباعث المعارض للعلية الفيزيقية ليس فقط مجرد لفظ بل أيضا معنى وشيء.
116
ويظهر باستمرار البحث عن السابق الذي يرمز له المقطع
Vor
في الظاهريات التطبيقية، وتبدأ بفهم مسبق للموضوع ابتداء من معطياته الأصلية.
117
وتلحق أحيانا التمييزات التي يصل إليها الباحث بجهده الخاص بالتمييزات الموازية والمشابهة في المنهج الظاهرياتي،
118
وأحيانا يستعار لفظ ظاهريات مباشرة من الظاهريات للتعبير عن شيء وجده الباحث بنفسه،
119
وتستعمل التمييزات الظاهراتية وقت الحاجة وعندما تقدم بعض النفع،
120
وتستعمل كل المراحل الثلاثة في كل فلسفة، علمية أو شعرية-دينية أو ظاهراتية؛ لأن البحث الشخصي في حاجة إليها.
121
وكان يمكن انتقاء بعض الأفكار الأخرى لو كان البحث في حاجة إليها، لم يتم إذن استعمال المفاهيم الظاهراتية عن اقتناع داخلي للباحثين بل من أجل دافع نفعي خالص، واستعمل تعبير «الملاء من أجل عدم التطابق» لتبرير دور عامل خارجي للشعور،
122
واستعمل تحليل آخر في اتفاق مع مقاصد الباحث دون أي نقد؛
123
فتعبير «أفق الألفة» تعبير مرض في الظاهريات يمكن الاستفادة منه.
124
ولا يعني تطبيق المنهج الظاهرياتي اختيار نقطة خاصة جدا في أحد جوانب الظاهريات من أجل الاستفادة منها.
125
وفي الظاهريات التطبيقية تستخدم أحيانا مقولة تسمح باكتشاف عالم بأكمله، مثلا استعمل لفظ «أفق» للعثور على شيء يشار إليه،
126
وكذلك استخدم تعبير «الحالة الأصلية» عرضا كنمط في التعبير.
127
فلم تكن الموضوعات الأساسية المستعملة كافية للقول بأن المنهج الظاهرياتي قد تم تطبيقه،
128
صحيح أن تعبير «الزمان الحي» تعبير رئيسي، ولكنه ليس وحده، فإن لم تؤخذ الموضوعات كلها فإن اختيار بعضها يكون اختيارا تعسفيا يمكن توجيهه بواسطة الافتراضات المسبقة للظاهراتي الباحث.
وأحيانا يتم تحليل لفظ ثم يحدث اتفاق عرضي أو مقصود بين نتيجة التحليل والتحليل الظاهرياتي، وبسرعة تستعمل الظاهريات كنمط للتعبير، ويعبر دائما عن هذه الطريقة في التطبيق بعبارة «وهذا ما يسميه مؤسس الظاهريات».
129
ويتفق لفظ «تحضير» عرضا بين البحث الشخصي والتحليل الظاهرياتي،
130
أما «التطور اللامحدود» للمكانية كما تبين الظاهريات فإنه مطلب الرياضيات الشاملة التي يراد تأسيسها بإصرار، واللانهائي الذي يريده الباحث يجده في المفهوم السابق تأييدا أو تبريرا.
131
وأحيانا تكون القاعدة المطبقة متسعة للغاية تقول كل شيء في نفس الوقت، مثلا يعني تعبير «الاعتبار الشارح» كل شيء،
132
وعلى أقصى تقدير يمكن اعتبار «منهج الإيضاح» كلحظة ثالثة بعد «الرد» أو «التكوين».
وقد استعمل «الرد» الظاهرياتي دائما،
133
وكذلك استعمل مفهوم «الأفق»؛
134
فالقاعدة المطبقة هي دائما فكرة. «الحامل الأقصى» مفهوم أكثر منه قاعدة،
135
وتعيين العالم كحامل أقصى هو التعبير عن نفس الشيء بلفظ آخر دون تطبيق أي قاعدة للمنهج في ميدان خاص.
وتطبيق المنهج الظاهرياتي شيء واستلهام شيء فيه شيء آخر؛
136
فالتطبيق يعني أخذ المنهج الظاهرياتي في مجموعه ودون أي تغيير لحل أزمة منهجية في ميدان الدراسة، وعلى العكس استلهام شيء منه يعني أخذ جزء من المنهج الظاهرياتي، قاعدة أو مفهوما أو تغيير فكرة أو حتى قلبها من أجل تبرير عيب في ميدان الدراسة، في الظاهريات التطبيقية هناك باستمرار خلط بين موضوع ومقولة وتصور ومفهوم وفكرة وميدان وقاعدة ... إلخ، وتستعمل كل دراسة تطبيقية إحدى تصورات الظاهريات النظرية دون تحديد سابق لوضعها في المنهج الظاهرياتي الشامل .
137
وخطورة الظاهريات التطبيقية هو اختفاء المنهج الظاهرياتي نفسه. صحيح أن الأنطولوجيا العيانية نتيجة ضرورية للظاهريات، ولكنها تحافظ على الظاهريات الترنسندنتالية كنقطة بداية، ليس من الضروري البداية بالموضوع للوصول إلى الموضوع أو البداية بالفعل للوصول إلى الفعل، تستطيع الظاهريات الترنسندنتالية كظاهريات للفعل الوصول إلى ظاهريات للموضوع دون أن تصبح كذلك، وقد يؤدي البحث عن ظاهريات مفارقة إلى إخراج المنهج الظاهرياتي نفسه عن الطريق باعتباره منهجا حالا، وإن القيام بظاهريات الحدث المادي يرفع القوسين، وينتهي «الرد».
والخطر الذي يهدد صحة التفسير هو دائما تبرير الافتراضات المسبقة مثل: اللاعقلي، المفارقة، المطلق، بحيث يختفي المنهج الظاهرياتي نفسه فيما يتعلق بالحلول، والبداية الجذرية أو التحليل العقلي،
138
يصبح العقلي تبريرا لو كان قائما على إيمان ديني مقنع، ويصبح حقيقة لو تم العثور عليه في الحياة اليومية كانفصال بين الفكر والوجود أو كقفزة معرفية إلى الأنطولوجيا، وكذلك المفارقة تبرير لوجود «الله » لو كانت مفروضة من الخارج على حساب الحلول الظاهرياتي، أما إذا أمكن التصديق بالمفارقة داخل الحلول كتقدم مستمر نحو الأفضل يستبعد خطر التبرير، ومن ثم اختفاء المنهج الظاهرياتي.
139
إن الحاجة إلى المفارقة مطلب ديني خالص. وتصور المفارقة كنزعة خارجية محضة تبرير للاهوت العقائدي، في حين أن تصور المفارقة كنزعة داخلية صرفة مطلب للوحي ذاته،
140
والرغبة في تبرير المفارقة في اللاهوت العقائدي بنقد الحلول في المنهج الظاهرياتي أقل ذكاء من محاولة فهم الحلول في الوحي عن طريق الحلول في المنهج الظاهرياتي، فماذا يعني «المتعالي»؟
141
يمكن التأكد من الانفتاح والحرية في الحياة اليومية وليس المفارقة كنزعة خارجية،
142
وإذا استعملت الظاهريات لفظ «المفارقة» بمعنى حلول المطلق في الشعور الذاتي أو الذاتي المشترك، يستبعد هذا المعنى بسرعة لإفساح المجال للنزعة الخارجية.
143
ومن الصعب وجود خط فاصل فصلا تاما بين الظاهريات التطبيقية كتطور طبيعي للظاهريات الترنسندنتالية والظاهريات التطبيقية التي يقوم بها الباحثون في رسائلهم الجامعية مستفيدين مما تستطيع الظاهريات، نظرية أو منهجا، أن تقدم لهم، تمتد الظاهريات التطبيقية نفسها إلى تطور الظاهريات الترنسندنتالية نفسها في تطبيقها الجزئي في البحوث الفلسفية.
وقد تصل الدراسات الثانوية على عتبة الظاهريات التطبيقية، كما هو الحال في تحليل الفلسفة وبنيتها،
144
وتستعمل الظاهريات كنظرية فلسفية في التاريخ مثل باقي النظريات، وتضيع الظاهريات داخل مجموع النظريات حتى يصعب رؤيتها.
145
صحيح أنه تم تأويل الظاهريات كحل في الفلسفة العامة، وهو أفضل من تصورها مجرد نظرية في تاريخ الفلسفة، ومع ذلك هذا لا يكفي، الفلسفة العامة هي التي تجد حلولها في الظاهريات كتحقق لغائية التاريخ واكتمال له، وتشمل الظاهريات المستعملة كل الاتجاهات الظاهراتية؛ الترنسندنتالية، والأنطولوجية، والنفسية ... إلخ؛ حتى يسهل نقدها، تعطي الظاهريات التطبيقية نتائج عيانية يتحقق من صدقها.
وبعيدا عن نظرية المعرفة استعملت الظاهريات كحل في نظرية العلم،
146
وكانت أهميتها بإحالتها إلى الفعل وبإثباتها الصور الخالصة. ومع ذلك، الظاهريات هي علم العلم، هي فلسفة للعلوم لفلسفة العلوم، وأحيانا تخرج الظاهريات في مساهمتها في فلسفة العلم من إطارها وتصبح شيئا آخر، وإذا كانت الظاهريات الترنسندنتالية حدسية، فكيف تصبح ظاهريات للمعرفة الاستنباطية؟
147
قد تمثل تواصلا بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ومع ذلك، التفكير في المادة غير التفكير في الإنسان؛ الأول صوري، والثاني حي.
وأقل طموحا من الفلسفة وبنيتها استخدمت الظاهريات كحل لمشكلة فلسفية واحدة هي مشكلة المعرفة،
148
واستعير الوصف الظاهرياتي من ظاهريات الموضوع في فلسفة «الوجود الروحي»،
149
وانتقل المستوى القصدي بسرعة من الظاهريات الترنسندنتالية إلى الأنطولوجيا الظاهراتية، مرورا بكل فلسفات الوجود اليونانية والمدرسية،
150
وهكذا خرجت الظاهريات عن مسارها الطبيعي بإسقاط ذاتها خارجها، وبتأثيرها داخل نظرية ممكنة للمعرفة، دون أن تكون نظرية النظرية كما أرادت أن تكون.
وقد ساهمت إلى حد كبير حلول الظاهريات لمشكلة فلسفية ما في دراستها كمشكلة فلسفية وكحقيقة أكثر منها كتاريخ للفلسفة؛ فقد تم تحليل مفهوم «القبلي» في بنية لا تاريخية، القبلي الموضوعي، والقبلي الذاتي، والإنسان، والعالم.
151
وهكذا تؤدي المعرفة إلى الوجود، و«الإبستمولوجيا» إلى «الأنطولوجيا»، والمسار من الظاهريات إلى الأنطولوجيا هو نفسه مسار «القبلي» الموضوعي. يوجد «القبلي» الصوري في المنطق الصوري وفي المنطق الترنسندنتالي كأنطولوجيا شاملة،
152
ويوجد «القبلي» المادي في القيم وفي ظاهريات الحدس الوجداني، ويوجد «القبلي» المدرك في الإدراك الحسي وفي الظاهريات الأنطولوجية، وأخيرا «القبلي» كعنصر مكون هو نقطة التقاء الإنسان والعالم. ويظهر نفس المسار في تطور «القبلي» الذاتي، بل وفي الجدل الداخلي بين «القبلي» الموضوعي و«القبلي» الذاتي، والإنسان والعالم، أليست الظاهريات وحدة الذات والموضوع في الشعور وفي الوجود في العالم؟ لم تؤخذ فقط الحلول الظاهراتية، ولكن توجد الظاهريات نفسها في الخلفية كتوجه في وعي الباحث.
ومع ذلك فإن الظاهريات أكثر من مشكلة «القبلي»، صحيح أن مفهوم «القبلي» يلعب دورا في الظاهريات خاصة في المنطق الصوري، ولكنه ليس المفهوم الوحيد، وصحيح أيضا أن الظاهريات التطبيقية مضطرة دائما لاختيار نقطة محددة لتطبيق المنهج الظاهرياتي، ولكن من الأفضل اختيار نقطة تطبيق تسمح باستثمار كل جوانب المنهج. والموضوع التطبيقي الوحيد الذي يوجد على نفس المستوى الرفيع للمنهج هو القصد المسكوت عنه في هذا المنهج بعينه، ونقطة البداية التي نشأت منها.
الفصل الرابع: الدراسات الثانوية، والظاهريات النظرية1
وإذا اقتربت مصادر الظاهريات، وبيئتها الفلسفية، وكتاباتها الأولى، وكتاباتها المتأخرة، وتطورها الأخير، وتطبيقها من الظاهريات التطبيقية بدرجات متفاوتة، فعلى من تقع مسئولية الظاهريات النظرية؟ إن المسئول الأول عن الظاهريات النظرية هو التفسير الحالي للظاهريات والدراسات الثانوية.
يمكن تلخيص المشاكل الحالية للظاهريات في واحدة فقط هي مشكلة تفسير الظاهريات مع مشكلة الدراسات الثانوية؛ فمنذ أن عرفت الظاهريات تمت دراسات نظرية أو تطبيقية عديدة دون إحداث تقدم كبير، سواء في فهمها من الداخل أو في تحويلها إلى ظاهريات تطبيقية، ودفعا للمشاكل إلى حدها الأقصى تجد الظاهريات نفسها وبطبيعة الحال في أزمة تفسير، ومظهر هذه الأزمة في الدراسات الثانوية حول الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية على حد سواء.
إن الدراسات الثانوية مشكلة منفصلة، وتكون ميدانا للدراسة أكثر منها مجموعة من البحوث في ميدان معين للدراسة،
2
وهي مسئولة عن كل التعقيدات في فهم الظاهريات وتركها على المستوى النظري، ومن الواضح أنها تمنع كل اتصال مباشر بين الباحث ومؤلفات مؤسس الظاهريات، وتتوسط بينهما كستار كثيف بين الباحث ومصادره الأولى. وتذهب من هذه الصادر طابعها «الطازج» وحيوتها، وقد يستطيع باحث بعلاقته المباشرة مع العمل الرئيسي إدراك ماهية أكثر من باحث مستعد لإدراك ماهية العمل عن طريق توسط باحث آخر، تنتمي الدراسات الثانوية إلى الباحث، مزاجه واحتياجاته وثقافته بالإضافة إلى عمل المؤلف، وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على كل الدراسات الثانوية، ويطلق اسم الدراسات الثانوية على كل البحوث التي أجريت حول الظاهريات من أجل التعريف بها للجمهور، كما تطلق على كل بحث فلسفي بعد ظهور أعماله الرئيسية التكوينية، أما الأعمال التي يقوم بها الفلاسفة على غيرهم فإنها تستبعد من الدراسات الثانوية؛ فهي تعطي تأويلا عن طريق قراءة الحاضر في الماضي، وقراءة الماضي في الحاضر للمذاهب الفلسفية.
3
وكل دراسة ثانوية تعتمد على غيرها إلى ما لا نهاية، والاعتماد على الدراسة السابقة لا يخلو من خطأ مهما كانت سلطتها وتخصص صاحبها، والخطأ الأول في فهم النص ينتشر بسرعة من دراسة إلى أخرى حتى يكتشف بالعودة إلى المصادر الأولى؛ أي إلى المؤلفات الظاهراتية نفسها عند مؤسسها.
ولكل الدراسات الثانوية على الظاهريات خصائص مشتركة واحدة، وكل نوع منها له خصائصه المتميزة، وكل دراسة عليها لها وضعها الخاص، ومع ذلك تعي الدراسات الثانوية مشكلتها الخاصة إذا ما قام بها فيلسوف ظاهراتي.
4
والهدف من التحقق من صدق الدراسات الثانوية بيان المسافة بينها وبين النصوص الأصلية، وفي نفس الوقت يدل استعمال بعض هذه الملاحظات الدقيقة والدالة أحيانا والاعتماد عليها وأخذ شهاداتها على اتفاق عديد منها على نفس النتائج.
ولا تتضمن الدراسات الثانوية التي تم تحليلها كل الدراسات حول الظاهريات منذ نشأتها، بل مجرد عينات ممثلة تسمح ببيان المسافة بينها وبين الأعمال الرئيسية في الظاهريات، لا تمثل إحصاء شاملا لها، وهو ما يتجاوز قدرات باحث واحد، بالإضافة إلى خروج ذلك عن إطار هذا العمل، تكفي عينة ممثلة؛ لأن عديدا من هذه الدراسات تعطي نفس النتائج، وإضافة دراسة أخرى لن تغيرها، والغاية من هذه النظرة العامة على هذه العينة الممثلة ليس النقد، وقد أجراها عديد من كبار الظاهراتيين والباحثين، بل هي مجرد ملاحظات بسيطة وشائعة عند كل باحث، بعد اتصاله المباشر مع المصادر الأولى للظاهريات، بعد أن يتحقق من هذا الاختلاف بين ظاهريات الظاهراتيين والظاهريات في أعمال مؤسسها.
5
أولا: نقاط التطبيق1
ويمكن تصنيف كل الدراسات الثانوية في ثماني نقاط: (أ)
إدخال الظاهريات كنظرية فلسفية في تاريخ الفلسفة. (ب)
عرض الظاهريات كنظرية فلسفية مستقلة عن تاريخ الفلسفة. (ج)
تفكيك الظاهريات في جوانب عدة، وعرضها في أعمال المؤتمرات. (د)
عرض الظاهريات ابتداء من موضوع مركزي كنقطة بداية أو كمحور رئيسي في الظاهريات. (ه)
دراسة موضوع واحد في الظاهريات دون عرض شامل لكل العلم. (و)
مقارنة الظاهريات، جزئيا أو كليا، مع مذاهب فلسفية أخرى معاصرة أو متأخرة. (ز)
إسقاط وجهة نظر خارجية على الظاهريات ورؤيتها من خلال أقنعة فلسفية. (ح)
تبني حلول الظاهريات في دراسة في موضوع خاص.
وعلى نحو مجمل سرعان ما أطرت الظاهريات في تاريخ الفلسفة كنظرية فلسفية مثل باقي الفلسفات في زمن يعد بالقرون أو أنصاف القرون أو أرباع القرون، بالرغم من أن الظاهريات نفسها تاريخ للوعي الأوروبي؛
2
ومن ثم قلبت الظاهريات بدلا من أن تكون تاريخا للفلسفة أصبحت فلسفة في تاريخ الفلسفة.
3
فقدت استقلالها كمنهج لا يكتمل فيه فقط تاريخ الفلسفة، بل أيضا ينتهي كل تطور الحضارة إليه، قد يكون العرض كاملا ولكنه داخل في دائرة التاريخ. وقد تساعد مثل هذه العروض على التعريف بالظاهريات للجمهور، ولكنها في نفس الوقت تقضي عليها بتحويلها إلى تاريخ خالص، ونادرا ما عرضت الظاهريات النظرية في كليتها مع شرح محكم وتفسير لمقاصدها الدفينة، كان الهدف من العروض المتكاملة التي تمت من قبل هو تقديم الظاهريات من أجل التعريف بها للجمهور دون التعرف على المقاصد الدفينة للظاهريات أو تصورها كمنهج للتطبيق.
4
وقد تمت العروض المتكاملة للظاهريات مرات عديدة في عدة مؤتمرات،
5
وقطعت الظاهريات إلى جوانب عديدة، وركز كل مشارك على الجانب الذي رآه الأكثر أهمية أو أصالة، ضاعت وحدة الظاهريات، وتم النظر إليها من وجهات نظر المؤتمرين، وأصبحت موضوعا خلافيا بين عديد من التأويلات، اختفى الموضوع كلية، وأصبح موضوعا تائها لا يكاد يرى وسط حماس المتأولين وعبقرياتهم وقدراتهم على النفاذ إلى الموضوع الذي لم يعد له وجود.
عرضت الظاهريات على أنحاء عديدة في الدراسات الثانوية، عرضت في شمولها كنظرية أو علم ابتداء من موضوع مركزي؛ فقد عرضت ابتداء من تكوين القصدية،
6
كما قدمت ابتداء من فكرة العلم،
7
وخطر مثل هذه الدراسات هو انحراف محور الظاهريات والاقتراب منها من جانب غير جوهري فيها.
وبدلا من عرض الظاهريات ابتداء من موضوع جوهري، يمكن عرض موضوع جوهري من أجل إعطاء صورة للظاهريات؛ فقد عرضت موضوعات مثل «الكوجيتو»، الشعور، القصدية، المجتمع، من أجل عرض الموضوعات الرئيسية في الظاهريات،
8
وخطر هذا النوع من الدراسات هو رد الظاهريات إلى أحد أجزائها، طبقا لمغالطة منطقية في رد الكل إلى الجزء.
وقدمت عدة عروض مقارنة بين الظاهريات وبعض العلوم الأخرى القريبة أو البعيدة، المتشابهة أو المختلفة، المعاصرة أو القديمة، ولكن دون الوصول إلى نتائج مهمة، كما تمت مقارنة بين الظاهريات والأنطولوجيا الظاهراتية بالرغم من أن الثانية مجرد تطور متأخر للأولى،
9
ولم تتم مقارنات حتى الآن أكثر خصوبة بين الظاهريات وبعض العلوم المعاصرة الموازية التي تشارك مع الظاهريات في نفس الغاية مع اختلاف في الوسائل.
10
عرضت الظاهريات حتى الآن من المؤرخين والباحثين والظاهراتيين من أجل معرفتها من داخلها ولكن من خلال النظريات الفلسفية، ولم ينظر إليها أحد في ذاتها، في مقاصدها الأصيلة، ولكن فقط من وراء أقنعة النظريات السابقة التي كانت تمثل الظاهريات خطرا مستمرا عليها، وأشهر الأقنعة المعروفة اللاهوت العقائدي والمادية الجدلية.
11
كما وضعت الظاهريات في إطار مشكلة فلسفية، وعرضت كمقاربة محتملة لهذه المشكلة، وهكذا اعتبرت الظاهريات كاتجاه فلسفي ممكن مثل الاتجاهات الأخرى بالرغم من أن الظاهريات تعتبر نفسها هي الاتجاه الفلسفي بالأصالة، وتقترب من فلسفة البنية ومن المعرفة الإنسانية ومن فلسفة العلوم.
12
ثانيا: طرق التطبيق1
بالرغم من أن الدراسات الثانوية تقترب من الظاهريات بعدة طرق إلا أنها تتميز بصفات عامة مشتركة تجمع بينها.
لقد أدت الدراسات الثانوية منذ نشأتها دورها، وهو تعريف الظاهريات للجمهور، وقدمتها وكأنها اكتشاف لميدان ما زال مجهولا، ميدان الوجود،
2
وتم تناول الظاهريات الترنسندنتالية والأنطولوجيا الظاهراتية بنفس الطريقة كاكتشاف للوجود، وأعيدت نفس المحاولة مع مشكلة الحقيقة مع تتبع تطور مفهوم الحقيقة من الظاهريات الترنسندنتالية إلى الأنطولوجيا الظاهراتية.
3
وميزة المعلومات العامة أنها أيضا مفيدة على وجه العموم،
4
تساعد على فهم البيئة الفلسفية التي نشأت فيها الظاهريات، ويحيي التلاميذ ذكريات الأستاذ، ويعطون صورة حية لشخصه وللدافع الذي أعطاه للإبداع الفلسفي،
5
وتتم رؤية المنهج الظاهرياتي من خلال شخص مؤلفه، وسمع التلاميذ صداه،
6
وانتشرت الظاهريات بين التلاميذ لأنها لمست أكثر المستويات إنسانية للشخص، وأصبحت محررة لكل التراث الفلسفي السابق.
7
ويوجد قسم لا بأس به من الدراسات الثانوية في أعمال المؤتمرات التي تضم مجموعة من البحوث في مختلف الجوانب التي تمت معالجتها وفيها، المعلومات العامة، عروض حول بعض الموضوعات الأساسية في الظاهريات، مساهمتها في تطوير العلوم الإنسانية في مرحلتها الراهنة، حلول المشاكل الفلسفية في التاريخ بمساعدة الظاهريات، مقارنات مع المذاهب الفلسفية السابقة، تأملات فلسفية خاصة بواسطة الظاهريات، وأخيرا دلالتها في العصر الحاضر أو داخل الحضارة الأوروبية.
8
وقد تساعد بعض الذكريات المعاصرة على فهم المراحل المختلفة المتتابعة في تطور الظاهريات؛ لأن أصحاب هذه الذكريات عاشوها ساعة بساعة مع مؤسسها؛
9
فالظاهريات في الحقيقة خبرة معاشة عند صاحبها، لا تنفصل عن شخصه، كما تؤكد على ذلك ذكريات أتباعه،
10
ويساعد الكم الهائل من الرسائل، وأيضا الاعترافات الشخصية من الأستاذ إلى تلاميذه، بشكل كبير، على التفسير الأخلاقي الديني للظاهريات.
11
وهذا ما تشهد به المخطوطات.
تستطيع عروض الدراسات الثانوية أن تعطي مخططا عاما للعمل الضخم لمؤسس الظاهريات، والذي يصعب على القراء استيعابه، يستطيع عرضه أن يعطي بيانا دقيقا ونافعا أو ملاحظة وجيهة، ويكون العرض أحيانا مملوءا بالمعلومات الدالة على حياة المؤلف وعمله.
ومع ذلك هناك قسم كبير ناجم للغاية من الدراسات الثانوية التي قام بها الفلاسفة الظاهراتيون؛ إذ طبق المنهج الظاهرياتي مباشرة بروح العمل وليس بحرفه. مثلا، لم تدرس العاطفة لا على مستوى الذهن ولا على مستوى الانفعال، بل على المستوى الظاهرياتي؛ أي على مستوى الخبرة الحية،
12
والنتيجة ببساطة فلسفة مجهرية ترى المتناهي في الصغر داخل الحقيقة، مع أن الحقيقة تتطلب رؤية المتناهي في الكبر،
13
وتبين الدراسات الثانوية القريبة من الظاهريات التطبيقية التقدم في العلوم الإنسانية التي يطبق فيها المنهج الظاهرياتي،
14
يكفي شق الطريق بين المنهج العقلي الخالص والمنهج التجريبي الصرف للعثور على مستوى الخبرة الحية؛ أي المستوى الإنساني.
وتقع الدراسات الثانوية أحيانا في التكرار، تشرح أكثر مما تؤول،
15
وتشبه الشروح اللاتينية في الفلسفة المدرسية للأعمال الرئيسية للفلسفة اليونانية؛
16
ففي ذهن المؤلف ليس المنطق الصوري موضوعا مستقلا، ولكن نقطة بداية نحو المنطق الترنسندنتالي، والمنطق عند مؤسس الظاهريات ليس كتابا واحدا بل مجموعة من الأعمال الظاهراتية،
17
هو نقطة تطبيق للمنهج الظاهرياتي بعد اكتماله، ليس هو الظاهريات بل مصدرها ونقطة تطبيقها، والمنهج الظاهرياتي أكثر من نطاق، والصور المسقطة الثابتة على الظاهريات تحولها إلى منطق صوري، إلى فكرة علوم أو علم اجتماع، للظاهريات وحدتها العضوية التي لا يمكن تفكيكها بوجهات نظر مسقطة عليها، وأخطاء هذا الفهم لمثل هذا المشروع ليست مستحيلة، وليس للمشاكل المتناولة هذه الأهمية التي يعطيها الشارح، هي مشاكل عند الشارح أكثر منها عند المؤلف الرئيسي للعمل، تفهم الظاهريات بالروح وليس بالحرف، بالعمل المتكامل وليس بصورة ثابتة مسقطة عليه. الظاهريات كما تبدو في الدراسات الثانوية مجرد تكرار منظم لبعض المفاهيم الرئيسية أو الهامشية في الأعمال الرئيسية دون تحديد هدف واضح باستثناء العرض، يعرض الباحث دون تقييم أو نفي أو إثبات أو برهان، الفهم أولا هو بحث عن المقاصد الدقيقة في العلم، وليس ما يريد الباحث العثور عليه، وإسقاط وجهات نظر خارجية على الظاهريات ليس فهما، وكلا الطريقتين على طرفي نقيض، عدم قول أي شيء أو قول شيء آخر. وتستطيع المقاصد الدفينة للعلم وحاجة الباحث إخراج الظاهريات من التكرار غير النافع، فقد تكررت أشياء عديدة دون إدراك دلالتها العميقة؛ مثلا تم عرض «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» دون إدراك علاقته الداخلية في الحركة النازلة من الصوري إلى الترنسندنتالي.
18
وإذا تضمنت الظاهريات بعض المشاكل فإنها ليست في الداخل بل في الخارج؛ فلكل فلسفة مشاكلها النقدية، وقد لا يمكن الدفاع عنها، وهذا لا يطعن في العلم نفسه كقصد، ليست المشكلة إذن هذه النقطة الخاصة أو تلك، والتي لا دلالة لها في مجموع العمل الظاهرياتي، بل التوجهات العامة، بل التوجه العام للعالم ذاته مثلا، الظاهريات التطبيقية في مواجهة الظاهريات النظرية أو الظاهريات الحركية في مواجهة الظاهريات السكونية.
19
وتحاول الدراسات الثانوية أحيانا رؤية ما لم تستطع الظاهريات رؤيته إلا على نحو غامض، وذلك مثل مشكلة اللاشعور،
20
ربما مست الظاهريات المشكلة، ولكن ليس على نفس الدرجة ونفس الأهمية في «فلسفة اللاشعور» بالمعنى الدقيق أو في التحليل النفسي،
21
وبوجه عام تترك الدراسات الثانوية المضمون ولا تأخذ إلا الصورة، وتنتمي اللغة وربما أيضا المفهوم إلى الصورة، الشيء وحده هو الذي ينتمي إلى المضمون، تترك الدراسات الثانوية الحدس الأساسي ولا تأخذ إلا الشذرات، مهمتها إثارة مشاكل ثم محاولة حلها.
22
وتعود الدراسات الثانوية إلى المشاكل التي تريد الظاهريات نفسها تجاوزها مثل مشكلة المثالية والواقعية؛
23
ومن ثم تعوق التقدم الذي أرادت الظاهريات القيام به بل وتؤخره. صحيح يمكن تناول مشكلة المثالية والواقعية لبيان إلى أي حد أمكن حلها أو حتى إلغاؤها في الظاهريات،
24
ليس الهدف هو تحويل القديم إلى الجديد، بل كيف تحول القديم في الجديد،
25
وقامت البداية الجذرية بخطوة واسعة للابتعاد مرة واحدة وإلى الأبد عن العقلية المفرقة التي تبدأ بقسمة الشيء إلى جزأين، ووضع كل جزء في عالم مختلف عن الآخر.
26
وعيب وضع الظاهريات في تاريخ الفلسفة مثل غيرها هو تحويلها إلى تاريخ، وهي تعلن عن نفسها أنها مستقلة عنه بعد أن اكتملت الحقيقة فيه. الظاهريات، عند مؤسسها الأول، ليست إلا في البداية، ولن تصبح أبدا تصورا للعالم أو مذهبا مغلقا، يمكن أن تدخل في التاريخ كعلم يساهم في تطور الحضارة، صحيح أن الظاهريات ليست مذهبا في تاريخ الفلسفة إلا أن لها دلالة حضارية مهمة، بل أخذ التاريخ وفلسفة الحضارة على أنهما نقطتا تطبيق للمنهج الظاهرياتي الذي اكتمل من قبل، ومن بين أهم التأويلات للظاهريات التأويل الحضاري.
27
وأحيانا تكون الدراسات الثانوية سببا في انحراف المحور في الظاهريات، سواء في المصطلحات أو في المفاهيم أو في الأشياء ذاتها،
28
وتتحول اللغة الاصطلاحية التي هي مجرد أدوات للتعبير في أعمال هوسرل إلى نظرية كاملة في الدراسات الثانوية، ويصبح مفهوم مساعد لمفهوم رئيسي آخر أكثر أهمية مفهوما رئيسيا، ويصبح الشيء الذي هو مجرد جانب من منطقة بأكملها عالما بأكمله، كل دراسة ثانوية هي انحراف عن المحور الرئيسي في أعمال هوسرل، تعطي أقل مما يعطيه العمل الرئيسي، تخفي المشاكل الرئيسية، وتتناول المسائل الفرعية، تثير مشاكل مزيفة فتنحرف الرؤية عن العمل الرئيسي، وتفقد الفكر اتجاهه، وتحول المنهج إلى نظرية، والفكرة الموجهة إلى فلسفة، والمفهوم إلى تصور مغلق للعالم.
لقد أبرزت كثير من الدراسات الثانوية بعض جوانب الظاهريات، ولا توجد دراسة واحدة حتى الآن حللت كل جوانبها محاولة تنظيمها في منهج، صحيح أن التفكير الظاهرياتي تفكير جذري خاصة فيما يتعلق بالاتجاه الطبيعي، ولكن هذا التفكير الجذري ليس إلا خطوة تمهيدية في تكوين المنهج الظاهرياتي ذاته.
29
ولا يكفي تطوير النزعة الجذرية في نقاط عديدة: اللغة، النزعة الطبيعية المعتادة، الرد، الوحدة، الاستقلال والغياب لكل افتراضات مسبقة وكل ميتافيزيقا. والنزعة الجذرية في التفكير الظاهرياتي مثل خلوده، الأولى تبين استقلاله بالنسبة إلى التاريخ، والثاني استقلاله كحقيقة.
30
وقد أبرزت مؤتمرات أخرى بعض جوانب الظاهريات أكثر من جوانب أخرى،
31
مثال ذلك الترتيب الزماني للظاهريات في تاريخ الفلسفة أو ظهور كل عمل داخل الظاهريات، ويساعد الترتيب الزماني على فهم أكثر للظاهريات التي تتكون تدريجيا، وبالرغم من تعدد مصادرها، الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية، فإن لها قصدها المتجانس، ومع أن للظاهريات تطورها فإنها تحتفظ أيضا بوحدتها، كما تبرز قضية أخرى وهي فهم كل عمل باعتباره قصدا، وعولجت موضوعات أخرى مثل القضايا الرئيسية في الظاهريات أو التأملات الفلسفية ابتداء منها.
ويحتوي تحليل موضوع رئيسي في الظاهريات في الدراسات الثانوية عناصر كثيرة متناثرة، لكل منها تطوره الخاص، ويختلط عرض الظاهريات بنقدها، فقد وصفت الظاهريات الترنسندنتالية كظاهريات للفعل وليست كظاهريات للموضوع، كما اختلطت الظاهريات بتأويلاتها المختلفة، ونقدت اللغة نقدا عابرا مثل عدم قدرتها على التعبير، دون أن يتطور هذا النقد أكثر فأكثر، سواء فيما يتعلق بلغة الظاهريات أو فيما ينطلق باللغة على العموم. وأهملت مقارنات عديدة بين مختلف المناطق الحضارية.
32
وقد عرضت الظاهريات بمنهج تحليلي يشرح المفاهيم أكثر من منهج تركيبي يضم المفاهيم في قاعدة منهجية، وبسبب نقص الوعي بالظاهريات كمنهج تطبيقي أكثر منها نظرية أو فلسفية، عرضت من خلال عدة مفاهيم خاصة، ولو تمت محاولة عرض تركيبي فإنه لا يتعدى تجاور المفاهيم التي تم تحليلها من قبل، ويمكن تتبع نشأة الظاهريات وهي في سبيل التكوين دون الوقوع في تجزئة مصادرها مع المحافظة على حركتها الصاعدة نحو الظاهريات المكتملة.
33
وأحيانا تثير الدراسات الثانوية في الظاهريات مشاكل لا يستطيع حلها إلا المتخصصون وأهل الخبرة، ويسود الاتجاه العلمي جزءا لرؤية كل منها تحت المجهر مع الرغبة في استنباط نظريات نفسية وعلمية بالمعنى الدقيق وكأن الظاهريات معمل لعلم النفس. وقامت التحليلات الظاهراتية بالتأمل البسيط في الخبرات اليومية بمساعدة البداهة والحدس، وتنطبق الصرامة الظاهراتية على التأمل وقلب النظرة أكثر منها على التجربة العلمية.
وتستحق التقنية الظاهراتية بعض الانتباه،
34
ولا تعني التقنية هنا قواعد المنهج وتوضيحها، بل تشير إلى لغة الظاهريات ومجموع «الجهاز المفاهيمي»، ويضم إلى هذه التقنية أيضا مناهج الاستدلال وطرق البرهان، وكل ما يتعلق بالتركيب الخارجي للعمل فهو أيضا من التقنية، وأحيانا تريد الدراسات الثانوية أن تبين أهميتها باستعمال عدة ألفاظ، وتركيبها على نحو مصطنع للتعبير عن أشياء بسيطة للغاية.
وكانت كل محاولة لعرض المنهج الظاهرياتي دائما غير كاملة، وكان ذلك طبيعيا؛ لأنه كان من الضروري البحث عن نقطة بداية في موضوع محدد يظن أنه الموضوع الرئيسي، وعن نقطة نهاية تتوجه نحوها كل الظاهريات. وقد وجهت الظاهريات نحو المنطق الترنسندنتالي عن طريق فكرة العلم،
35
أما المحاولة عن طريق تنظير التجربة وتعقيلها فوجهت الظاهريات نحو الظاهريات العقل الشاملة،
36
ويكون عملا عبقريا محاولة أن تكون نقطة البداية متعددة، وإذا كانت نقطة النهاية الظاهريات المتكاملة نفسها.
وهناك علاقة وثيقة بين الظاهريات والعلوم الإنسانية، الظاهريات منطق كل علم خاصة العلوم الإنسانية، وعلم النفس أحد المراحل التي مرت بها الظاهريات، ويبين نقد النزعة النفسانية حركة صاعدة نحو الخالص، وقد رفض في نفس الوقت علم النفس التجريبي وعلم النفس العقلي، وقد كانت لثنائية النفس والبدن، وهو ميراث العصور الحديثة خاصة فلسفة الكوجيتو، آثار وخيمة على تطور الحضارة، الصورية والتجريد من ناحية، والمادية والشيئية من ناحية أخرى، وقد أدى القضاء على الصورية الأولى والمادية الثانية إلى التقابل في «الأنا الخالص»، وتتعدى دلالة علم النفس الظاهرياتي بالنسبة لعلم النفس الحالي التحليل البنيوي للموضوع إلى كل الحضارة،
37
والتفسير الحضاري للظاهريات من بين أكثر التفسيرات إحكاما.
وقد دفعت الدراسات الثانوية إلى حد كبير نحو الظاهريات النظرية؛ إذ تحاول كل دراسة عن الظاهريات إدراك موضوعاتها الأساسية، ويؤدي هذا العمل «الثقافي» إلى تحويل الظاهريات إلى مجموعة من الأفكار والنظريات داخل إطار تاريخ الفلسفة،
38
مع أن غاية الظاهريات القصوى هو العود إلى الأشياء ذاتها، يريد كل اتجاه تنظير كل موضوع مقدما في التصور-المفتاح؛
39
ومن ثم نقدت الظاهريات مضمونها الأصلي وهي تتكيف مع هذا التصور أو ذاك،
40
يحاول كل اتجاه ربط مجموع الموضوعات في مذهب متسق مثل باقي المذاهب، ففقدت الظاهريات صفتها كمنهج للبحث له نفس الخاصية التي للظاهرة الإنسانية.
والخطر الداهم هو عرض الظاهريات كمذهب مغلق، الظاهريات قادرة ولا شك على تقديم نفسها فعليا وعلى نحو ملموس ودون أن تكون مذهبا، وأقل من عقيدة، ولكن فقط كمنهج للتطبيق له قواعد محددة، ويمكن عرض هذا المنهج تدريجيا ودون فرضه كمجموع واحد يؤخذ كلية أو يترك كلية، وهناك خطر آخر وهو الدخول إلى المنهج، ولكن من جانب واحد، يستبعد كل الجوانب الأخرى، مضيفا المنهج العام، وموجها له نحو أحد اتجاهاته.
41
صحيح أن فكرة العلم مدخل وطريق؛ فالظاهريات علم دقيق، ولكن المنطق الترنسندنتالي نتيجة نقطة تطبيق للمنهج الظاهرياتي المكتمل دون أن تكون نقطة النهاية للمنهج الظاهرياتي نفسه،
42
وصحيح أن فكرة الظاهريات طريق آخر للاقتراب من المنهج الظاهرياتي وهو في طريق التكوين دون أن يكون المنطق الترنسندنتالي هو نهاية المطاف في الظاهريات،
43
كانت أبواب الدخول دقيقة، ولكن نقاط الوصول كانت أجزاء من الظاهريات، وليست الظاهريات نفسها.
وتحاول الظاهريات النظرية التي تعرضها الدراسات الثانوية أن تصوغ الظاهريات كمذهب مكتمل وتعرض بنيتها الداخلية، تحاول تجميع أكبر قدر ممكن من العناصر المتفرقة التي يمكن بواسطته تشييد المعمار الظاهرياتي، والظاهريات التطبيقية هي عملية فلسفية لا تنتهي ولا تكتمل ولكن تعاد باستمرار، تبدأ حتى المنتصف ثم تبدأ من جديد ثم ينتهي كل شيء،
44
وتظل الظاهريات، بالرغم من أنها علم محكم، مفتوحة دائما، تعطيها كل دراسة خبرة جديدة أو ميدانا جديدا للاستكشاف.
تحليل الظاهريات عملا عملا أمر ممكن لو تمت المحافظة على الوحدة القصدية لكل عمل في إطار من القصدية العامة للأعمال، «الفلسفة كعلم محكم» حقيقة مستقلة وليست مجرد محاولة تاريخية تحمل هذا الاسم، صحيح أنه قبل الظاهريات كانت هناك محاولات لتحقيق هذا المشروع ولكنها ظلت دائما محدودة،
45
ويظهر بوضوح تحليل عمل عمل في الشروح.
46
صحيح أن الظاهريات تصدر أحكاما على النظريات الفلسفية السابقة؛ أي رؤية الحاضر في الماضي، والماضي في الحاضر، ولكنها ليست أحكام واقع بل أحكام قيمة، وأصدرت على نحو استرجاعي،
47
وهذا هو المعنى الحقيقي للتقدم في تاريخ الفلسفة،
48
وإذا لم تكن الأحكام صائبة لمؤرخ الفلسفة، فإنها صائبة بالنسبة للفيلسوف. صحيح أن الدفاع عن الحقائق التاريخية ممكن، ولكن اكتشاف حقيقة أخرى أكثر اتساعا وأكثر رحابة يمكن إسقاطها على حقيقة الماضي ورؤيتها على أنها جزئية من وجهة نظر هذا العصر مع أنها كانت كلية في عصرها.
49
وفي العمل الفلسفي والحضاري لا يوجد تاريخ صحيح للفلسفة، ولكن هناك عملية غائية لاكتشاف الحقيقة، ولا تهم «الحقيقة» التاريخية؛ إذ إنها لا توجد في ذاتها لأنها مقروءة من المؤرخ وخاضعة لتفسيره، وعلى أقصى تقدير، الدراسة المقارنة ممكنة بين الظاهريات والمذاهب الفلسفية السابقة من منظور تقدم الحقيقة في التاريخ.
ويمكن تحليل الرسالة التحررية للظاهريات دون إرجاعها إلى المشاكل التاريخية الصغيرة، صحيح أن الظاهريات تغير جذري لمسار الوعي الأوروبي الذي ما زالت تسوده النتائج السلبية لفلسفة الروح؛ النفسية ، العقلية، الصورية ... إلخ. فالعالم لم يعد موضوعا للتمثل بل للحياة،
50
ويكفي الاحتفاظ بالدافع الحيوي الذي أعطته الظاهريات في مختلف العلوم الإنسانية لاستعماله لتقدمها ولحل كل المشاكل المنهجية الحالية.
51
وأحيانا تكون النتائج خارجة تماما عن الظاهريات، وأحيانا تكون ضئيلة للغاية بالنسبة لها، وأحيانا تتضمن ملاحظات مهمة دون تطويرها ودون أخذها إلى نتائج الأخيرة. والنتائج الخارجية هي تلك التي تحيل الظاهريات إلى المشاكل الفلسفية التي تريد الظاهريات تجاوزها أو التي وضعتها بين قوسين. والنتائج الضئيلة هي تلك التي تعود إلى بعض المفاهيم الجزئية خاصة في المنطق أو الفلسفة دون أن تعطي الظاهريات نفسها مرة واحدة وإلى الأبد مقصدها الدفين. والنتائج المضبوطة هي الملاحظات الصائبة التي كان يمكن أن تؤدي إلى تطوير الظاهريات النظرية إلى ظاهريات تطبيقية. وكان يمكن استخدام النموذج «الواقعة-الفكرة» إلى اكتشاف الحالة الممثلة أو الحالة المثالية لمنهج يقوم على الشامل العياني،
52
وكان يمكن أن تؤدي وحدة الوجود والصيرورة إلى ضرورة إبراز ظاهريات حركية بجوار الظاهريات السكونية، وهو المشروع الذي كانت الظاهريات نفسها تأمل في تحقيقه.
53
وما تقدمه الظاهريات من فائدة للعلم مستقلة عما تقدمه لشخص بعينه،
54
وأهمية الظاهريات التاريخية هي الإلغاء الكلي للتاريخ الذي اكتمل فيها، وأهميتها المنهجية هي صياغة منهج يكون هو تحقيق لمشروع الوعي الأوروبي منذ عصر النهضة، وأهميتها الإنسانية في الأمل الذي تعطيه للوعي الأوروبي وهو في نهايته.
وقد استخدم اسم «هوسرل» مرات عديدة كصفة «هوسرلي»، ولحسن الحظ لم يتم استخدامه حتى الآن اسم «الهوسرلية»، وربما يأتي ذلك لسوء الحظ عن قريب، صحيح أن هوسرل هو مؤسس الظاهريات ولكنها علم مستقل عنه، هي بحث دائم من جماعة بحثية مقاربة للحقيقة بالعودة إلى الأشياء ذاتها، ولا تنتمي الحقيقة ولا الأشياء ذاتها إلى «هوسرل»، فقد جرت العادة في الوعي الأوروبي ارتباط الحقيقة باسم مكتشفها، والفلسفة باسم واضعها؛ الديكارتية، الكانطية، الهيجلية، البرجسونية ... إلخ. ولا يرتبط العلم باسم مؤسسه فيقال كبلر وليس الكبلرية، ونيوتن وليس النيوتنية، وجاليليو وليس الجاليلية. بل إن الدين أيضا ارتبط باسم نبيه مثل: المسيحية، والبوذية، والكونفوشوسية ؛ وكأن الشخص هو الذي يخترع الفلسفة أو الدين، ولا يكتشف حقيقة معطاة سلفا مستقلة عن الشخص الذي أعلنها باستثناء الإسلام الذي لا يسمى «محمدية» إلا عند بعض المستشرقين، ومن بين مزايا الظاهريات أنها قضت على التشخيص المستمر للفلسفة، وهذا ما يوضح غياب الإحالة الدائمة للأعمال التي تستلهمها الظاهريات، وتثبت الظاهريات نفسها موضوعا مستقلا عن كل مضمون مادي، والشخص أحد جوانبه،
55
ومع ذلك تعرض كل الظاهريات أحيانا تحت صفة «هوسرلي» اشتقاقا من اسم مؤسسها «هوسرل».
56
ثالثا: التكوين الجزئي للمنهج1
وتظل الظاهريات، في الدراسات الثانوية، أيضا نظرية عصية على التطبيق مع أنها تبين أثناء تكوينها وبعد تطبيقها في نقاط معينة المنطق والفلسفة والحضارة طابعها العملي، وتبين الظاهريات المكتملة أيضا أنها أصبحت منهجا وليس مجرد فلسفة، في الدراسات الثانوية لم تؤخذ هاتان الملاحظتان بعين الاعتبار؛ إذ يتردد عرض الظاهريات بين النظريات الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية دون أن ينخرط الكل في منهج تطبيقي، فقد تحول المنهج إلى مذهب، والقاعدة إلى نظرية، والظاهريات إلى فلسفة.
2
ومع ذلك من الصعب في الظاهريات النظرية، وإن كان ضروريا، التمييز بين ميدان الأنا الخالص والتجربة المشتركة من ناحية، وقاعدتي المنهج، الرد والتكوين، من ناحية أخرى؛ فالمنهج الظاهرياتي في داخل الشعور الذي هو في عالم الآخرين «المحيط الإنساني» وعالم الأشياء، البيئة الطبيعية، ومن أجل صياغة منهج ظاهرياتي من الضروري أولا إيجاد بنية الشعور في العالم، والذي يمكن تصويره بثلاث دوائر متداخلة تشارك في مركز واحد، وتضم الأنا الخالص كدائرة صغرى، والمحيط الإنساني كدائرة وسطى إلى البيئة الطبيعية كدائرة كبرى، لا يكفي إذن تحليل الخبرة المشتركة دون وضعها في بدايتها الأولى في الأنا الخالص أي في الذاتية،
3
وبعد وصف بناء الشعور يصبح تأسيس المنهج ممكنا، ولا يكفي تحليل «الرد» دون «التكوين».
4
ولا يبرر التمييز بين مستويات عديدة في «الرد» نسيان «التكوين»، وهو الغاية النهائية من الرد ذاته.
وأحيانا تعرض الظاهريات دون أي منهج أو باستعمال منهج مناقض لها، يبغي العرض الأول الحياد ولكن ينتهي إلى التكرار بلا دلالة، والثاني يبغى الأصالة والتقدم العلمي ولكنه ينتهي إلى القضاء على جوهر الظاهريات، وأحيانا يكون عرض الظاهريات خليطا من النظرية والمنهج. «الأنا الخالص» نظرية في حين أن «الرد» منهج، وهناك خلط آخر أقل شيوعا بين الظاهريات في طريق التكوين والظاهريات المكتملة؛ فالتصورات الرياضية والمنطقية والنفسية تنتمي إلى الظاهريات في سبيل التكوين، في حين أن القصدية تنتمي إلى الظاهريات المكتملة، وهناك خلط ثالث بين النفي والإثبات الظاهرياتي؛ النفي موجه ضد الشك النفساني، والإثبات للمثالية الترنسندنتالية.
5
وهناك خلط رابع بين الظاهريات الترنسندنتالية وتطورها إلى ظاهريات أنطولوجية، ومع أن الظاهريات هي أساس الأنطولوجيا فإنها تظل مستقلة عن الاتجاهات الأنطولوجية الحالية، وهناك خلط خامس بين الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية في العلوم الإنسانية، صحيح أن المنهج الظاهرياتي ساهم في تقدم الفهم المنهجي للعلوم الإنسانية، ومع ذلك يظل مستقلا كمنهج، ولا يمكن رده إلى تطبيقاته في العلوم الإنسانية؛ النفسية والاجتماعية أو في فلسفة التاريخ، لقد ساهمت هذه العلوم من قبل في اكتمال الظاهريات، ثم شاركت الظاهريات بدورها في تقدمها المنهجي، ومع ذلك تظل الظاهريات علما مستقلا وكاملا، يمكن تطبيق المنهج الظاهرياتي في العلوم الإنسانية دون أن يرد إليها.
6
ولا يكفي تتبع عمل عمل كي يؤسس المنهج بطريقة خصبة، وإذا أمكن تحليل كل عمل على حدة وإبراز مفاهيمه وتصوراته ومصطلحاته، فإنه لا يكفي لرؤية تكوين الظاهريات خطوة خطوة، فلا يتضمن كل عمل ظاهراتي مفاهيم عشوائية، بل تمثل اتجاها أو حركة مستقطبة نحو اتجاه محدد،
7
ولكل مجموعة من الأعمال أيضا توجهها مثل المجموعة المنطقية، والمجموعة الفلسفية، والمجموعة الحضارية.
8
وتحليل الموضوعات الرئيسية في الظاهريات أكثر فائدة إذا ما تجاوزت مستوى الظاهريات النظرية إلى ظاهريات تطبيقية، يجد موضوع الزمان في الظاهريات تطبيقات عديدة في علم النفس والجمال والدين،
9
كما يصبح التكوين وأنواعه المختلفة أكثر نفعا لو أدى هذا التمييز إلى توضيح ميدان يسوده الخلط بين المستويات في العلوم الإنسانية.
10
ومعظم الموضوعات في الدراسات الثانوية هي جوانب متعددة للمنهج الظاهرياتي، قواعده وميادينه، وتكون ذاتية الموضوعية بنية الشعور ذاته داخلا في العالم.
11
والتجربة المباشرة موضوع آخر في الظاهريات،
12
وهي وضوح أولي دون أن تكون فلسفة تمت صياغتها بجهد جهيد. صحيح أن هذا الوضوح يمكن أن يساهم في تقدم البحوث في العلوم الإنسانية، ويمكن أيضا أن يصبح حقيقة مستقلة مرتبطة بمنهجها، وصحيح أيضا أنه يمكن عرض الظاهريات ابتداء من موضوع رئيسي مثل: «الكوجيتو»، «الشعور»، «القصدية». ومع ذلك يتناول هذا العرض الظاهريات كفلسفة أكثر منها كمنهج؛
13
لذلك يتأرجح التحليل كله بين النظرية والمنهج، بين الميدان والقاعدة، بين تطور الظاهريات كطريق يبحث عن نفسه واكتمالها كمنهج، ويشير الوضع الرئيسي للكوجيتو والأنا الترنسندنتالي وحياته الخاصة إلى نفس الشيء؛ أي إلى الأنا الخالص، مركز العالم الإنساني والعالم الطبيعي،
14
و«الرد» هو أولى خطوات المنهج،
15
والبداهة هي نقطة البداية في تحليل صورة الشعور ومضمونه.
16
ولا يكفي التمييز بين موضوعات عديدة في الظاهريات لإيجاد المنهج الظاهرياتي؛
17
فداخل هذه الموضوعات هناك تمييز ضروري بين النظرية والميدان والمنهج، بين قضية في ذاتها ونظرية ، الخبرة المشتركة بين الذوات ميدان للاستكشاف، في حين أن «الرد» و«التكوين» وتحليل صورة الشعور ومضمونه يتعلق بالمنهج، ولم يتجاوز عرض الظاهريات كنظرية مذهبا فلسفيا يقوم على أسس أربعة: الرد، والدلالة، والماهية، والقصدية. ولا تكفي هذه اللحظات الأربع في الظاهريات لتتحول إلى قواعد في المنهج الظاهرياتي.
18
وقد تفترض خمس لحظات لعرض الظاهريات: تنظير الخبرة، اكتشاف القصدية، التحليل الموضوعي، تكوين المنطق، الظاهريات الشاملة. ولا تكون هذه اللحظات الخمس منهجا محكما، بل تتلخص فقط بعض جوانب المؤلفات الظاهراتية دون تنظيمها في حركاتها داخلها.
وهناك عديد من المحاولات في الدراسات الثانوية لتحويل الظاهريات إلى منهج تطبيقي، قامت إحداها لإيجاد منهج ظاهرياتي وتطبيقه في العلوم الاجتماعية،
19
ووضع للمنهج سبع قواعد؛ كل فعل هو سلوك باعثه مشروع مدرك سلفا، إشارة كل فعل إلى خبرة، كل الأفعال تتضمن اختيارا، العلاقات مباشرة بين الأشخاص من خلال الجسد، إدراك الآخر في تيار الشعور، الآخر مجرد طريقة للحضور، كل عالم اجتماعي له أبعاده التقريبية، ويلاحظ أن هذه القواعد السبع تشير فقط إلى ميدان واحد للظاهريات هو الخبرة المشتركة بين الذوات، كما أنها تخلط بين ميادين والقواعد بالمعنى الدقيق، تتأرجح القواعد بين الاثنين.
والشعور القصدي هو بلا شك الرابطة بين الميادين وقواعد المنهج الظاهرياتي؛ فالشعور هو مركز العالم الإنساني والعالم الطبيعي، وتمثل القصدية العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، ويصبح التحليل القصدي ممكنا عن طريق تطبيق قواعد المنهج؛ «الرد» ثم «التكوين»، وصورة الشعور، ومضمون الشعور، والبناء الصوري المادي للشعور، والقصدية التكوينية والقصدية الترنسندنتالية، كل ذلك يدخل ضمن التحليل القصدي.
20
يكون المنهج الظاهرياتي العقدة الرئيسية في الظاهريات، وفي كل مرة يتم الاقتراب منه يضيع وسط السجال حول تفسير الظاهريات نفسها خاصة بين التيارين المثالي والواقعي في تفسيرها.
21
ظلت محاولات الاقتراب من المنهج الظاهرياتي محدودة إلى حد ما، صحيح أن الحدس في صلب المنهج، ويستطيع الجدل، وهو لفظ غير ظاهرياتي، التعبير عن المراحل المختلفة للرد،
22
وبالرغم من بناء الحدس على خمسة جوانب؛ الشيء المعطى بالضرورة، حضوره في الزمان والمكان، التوقع الفارغ لتنويعاته، تغليف الشيء بأشياء أخرى، والدور البرجماتي الاجتماعي والتاريخي في الإدراك؛ فإنها لا تكفي لتوضيح الدور الذي يلعبه في المنهج الظاهرياتي، وبالرغم من أن جدل رد الاتجاه الطبيعي، والتفكير الطبيعي أو النفسي حتى التفكير الظاهرياتي الترنسندنتالي يشير بوضوح إلى المراحل المختلفة للرد الظاهرياتي فإنه ليس الجانب الوحيد للمنهج، بل هو مرتبط بالتكوين كلحظة ثانية وبميادين المنهج، الأنا الخالص، والعالم الإنساني، والعالم الطبيعي.
وتوحي الظاهريات النظرية التي عرضتها الدراسات الثانوية بأن المنهج الظاهرياتي قد تمت صياغته طبقا لموضوع محدد كما يحدث في باقي المناهج، تعرضه كصنعة مكتبية يمكن ربط عناصره أو فكها بطريقة أخرى، وتفترضه كنتيجة لتأمل رفيع في ذروة العلوم الإنسانية، الرياضيات، والمنطق، والميتافيزيقا، والأنطولوجيا ... إلخ. في الظاهريات التطبيقية يبدو المنهج الظاهرياتي كمنهج طبيعي ينبثق من الطبيعة الإنسانية على نقيض المناهج المصطنعة، الصورية أو المادية؛ لأنه يترك للظاهرة الإنسانية كل فسحتها دون قسمتها إلى جزأين وأخذ واحد وترك الآخر، ويتركها أيضا في مستواها الخاص دون زحزحته إلى مستوى آخر، ولا تنزع من الظاهرة الإنسانية أيا من خصائصها العيانية، مثل: الانقطاع، وعدم القدرة على التنبؤ ، والفردية ... إلخ.
والمنهج الظاهرياتي منهج تلقائي لا يحتاج إلى تعلم في تطبيقه، بل إن «جهازه المفاهيمي» يمكن استبداله بلغة مرئية وعادية؛ لذلك تم استعماله قبل صياغته بوضوح في تصورات أو قواعد أو أفكار موجهة تؤكده الحياة اليومية التي تند عن التنظير العقلي والتحليل العملي،
23
يشعر كل فرد بعالم الحياة، وباختصار يتم لكل فرد تطبيق المنهج الظاهرياتي على نحو لا شعوري؛ لأنه ينبع من الطبيعة الإنسانية.
لم ينجح هذا النوع من الدراسات الثانوية في تحويل الظاهريات إلى منهج تطبيقي على طريقة «مقال في المنهج» أو «قواعد لهداية الذهن»، بل ولم تنجح أيضا محاولة عرض الظاهريات كمنهج للتطبيق.
24
رابعا: معركة التفاسير1
وإذا كانت معاصرة التلميذ المباشر للمعلم، وهو التلميذ من الدرجة الأولى، ميزة له، فإنها لا تعطيه حق التفسير للظاهريات واحتكاره لها بدعوى المعاصرة، صحيح أن التردد على المعلم ومصاحبته يفتح المجال للتراث الشفاهي الحي، خاصة إذا لم ينشر المعلم كثيرا في حياته، ولكنه لا يعطي التلميذ أي إحساس بالعظمة والتفوق وربما والغرور بالنسبة للتابعين، بل على العكس يجعلهم أكثر تواضعا وأقل غرورا،
2
ومهما بلغ شأن إنقاذ كتابات المعلم فإنه عمل فلسفي وأخلاقي نزيه دون أي طلب للمدح أو الثناء.
3
وقد أعطت الظاهريات النظرية من خلال الدراسات الثانوية الفرصة للتفسيرات الشخصية لكل ظاهراتي؛ فهناك الآن الظاهريات السلفية التقليدية، الحرفية أو حتى «الأصولية»، في مقابل الظاهريات التأويلية التحديثية التجديدية «التحريفية»،
4
والظاهريات الأصلية في مقابل الظاهريات الشخصية. وحدثت معارك بين التفسيرات المختلفة تراجعت فيها الظاهريات نفسها إلى الوراء،
5
وذهبت ظاهريات الظاهراتيين، نتيجة للتفسيرات المختلفة للظاهريات، إلى الحد الأقصى، وأصبحت تأملات شخصية للحساب الشخصي للظاهراتي. وبالرغم من سمو هذه التأملات وعمقها فإنها تظل فلسفات أكثر منها ظاهريات، خاصة الظاهريات الترنسندنتالية. المنظور ممكن بشرط ألا يتغير المنهج الظاهرياتي نفسه تغييرا جذريا، ويمكن للقصدية أن تتحول إلى وجود في العالم ولكنها لا تستطيع أن تتحول إلى مفارقة أيا كانت، المفارقة الوحيدة الممكنة هي الحلول التي تشبه المطلب نحو الأكمل والأفضل، ولا يمكن أن تتحول القصدية إلى سر أيا كان؛ لأنها تبدأ من البداهة.
6
وتبين بوضوح المعارك بين التلاميذ تطور المنهج الظاهرياتي؛ فالدفاع عن تكامل ظاهريات المعلم، الرد الترنسندنتالي والرد النظري، ونقد أولوية الشعور، كل ذلك يجعل هذا الموقع للمعاصرة حيا ومليئا بالإمكانيات الجديدة.
7
صحيح أنه في كل مرحلة من تطور المعلم كان هناك منظور، ومع ذلك ظلت الوحدة القصدية لحياته ولعمله مستمرة،
8
وتفسر المرحلة الأخيرة للظاهريات المرحلتين السابقتين،
9
وهذا ليس كل شيء، هناك أيضا الظاهريات كما تكشف عنها المخطوطات، بل هناك أيضا الظاهريات كما تكشف عنها يوميات المعلم.
وتسقط الظاهريات الظاهراتيين أحيانا مخططات غريبة على الظاهريات كي تصبح تفسيرا ممكنا، لا تعترض الظاهريات على وضع فلسفة للتصورات الإجرائية في مواجهة تصورات موضوعية،
10
أما إذا أسقطت التصورات الإجرائية على الظاهريات فإن هذا مناقض لقاعدة بسيطة من قواعد التفسير،
11
قد تكون هذه التصورات الإجرائية مصدرا للظاهريات، ولكنها ليست من الموضوعات الرئيسية التي تكون مركز العلم، والصلة بين «الإجرائي » و«الموضوعي» هي نفسها بين «صورة الشعور» و«مضمون الشعور».
12
فلماذا الابتعاد عن الطريق المباشر والانحراف به من أجل أصالة موضع الشك؟ من الممكن توضيح الظاهريات، ولكن أن تصبح نقطة بداية لنظريات فلسفية تعزى إليها، فإن ذلك يخرج عن مهمة الدراسات الثانوية، والآن يقوم كل ظاهراتي بتأسيس ظاهرياته وفلسفته الخاصة، وهذا حقه الطبيعي، أما أن يسمى ذلك تأويلا للظاهريات فهذا ما يخرج عن حدود التأويل، وبالإضافة إلى ذلك أزيحت كثير من موضوعات الظاهريات عن مستوياتها الخاصة؛ فمثلا «البراءة» في الظاهريات من جهة الشيء المعيش، ولكنها في فلسفة التصورات الإجرائية من جهة التأمل والتفكير.
13
ومن الصعب وضع حدود فاصلة بين تطور الظاهريات على يد فلاسفة الظاهريات أي تأويلها على يد مفسريها، وهم المساعدون السابقون لهوسرل، وتطبيق الباحثين للمنهج الظاهرياتي والذين يتابعون الظاهريات الترنسندنتالية نفسها أو إحدى تنويعاتها، إن لم يسمحوا هم أنفسهم بتنويعات شخصية صغيرة، ومع ذلك يمكن إدراك الاتجاهات المختلفة التي ساهمت في تطور الظاهريات مثل: الظاهريات الترنسندنتالية، ظاهريات الموضوع، أو الظاهريات الأنطولوجية داخل الظاهريات نفسها.
14
فالموضوع والفعل متكاملان، ومسألة أيهما له الأولوية على الآخر متاهة فلسفية وفصل فلسفي تعسفي، والتحليل الوصفي للوجود الإنساني ليس بعيدا عن ميادين الظاهريات؛ الأنا الخالص، العالم الإنساني، العالم الطبيعي. لقد شعرت الدراسات الثانوية بمشكلة تفسيرات الظاهريات دون أن تحاول إيجاد قواعد لتفسيرها يضمن تفسيرا صحيحا لها،
15
ليس التفسير فقط تصحيح فهم تصور أو أكثر على وجه التحديد، بل وضع مشكلة الأساس؛ أي كيف يمكن تفسير مجموع العمل الظاهرياتي.
16
خامسا: الظاهريات من خلال الأقنعة1
وقد خصص جزء لا بأس به من الدراسات الثانوية لرؤية الظاهريات من خلال الأقنعة، ولا تبرر على الإطلاق العلاقة بين الظاهريات والفلسفة المدرسية لرؤية الظاهريات من خلال قناعها؛ فقد كانت المفاهيم الفلسفية المدرسية، مثل القصد والماهية، وسائل عقلية لخدمة غرض ديني، في حين أن القصدية في الظاهريات ونظرية المعنى في الأنطولوجيا الظاهراتية مفاهيم فلسفية مستقلة تبحث عن الحقيقة المجردة، ورؤية الظاهريات من خلال قناع الفلسفة المدرسية في حد ذاته ضد الظاهريات التي ترى نفسها اكتمالا للفلسفة في الوعي الأوروبي،
2
ومن خلال هذا القناع تعود الظاهريات إلى الفلسفة المدرسية تبريرا للدين، واستبعاد العقلي، وترك المجال مفتوحا للسر وليس للوضوح، ولما يفوق الطبيعة وليس للطبيعة، وللمفارقة وليس للحلول، وللأحكام المسبقة وليس للتوقف عن الحكم والرمز وللشكل، مع أن الظاهريات هي طريقة في فك الرموز.
3
ومن الغريب أن الظاهريات حدس ديني أصيل؛ فالمثالية دين عقلي، والعقلانية دين مثالي، ولكنها ليست تبريرا خارجيا للعقائد التاريخية كما كان الحال في الفلسفة المدرسية. الظاهريات حدس ديني عميق بقصدها، وبحثها عن المطلق، وكان لكل الفلسفة منذ عصر النهضة نفس المشروع الذي حققته الظاهريات في النهاية وعلى الوجه الأكمل، ولا تمثل الظاهريات أي خطر في أن تصبح الفلسفة بديلا عن الدين، بل تطهر معطى الوحي عن أغلفته العقائدية والتاريخية.
4
وبالإضافة إلى العقائدية اللاهوتية هناك المادية الجدلية كقناع ثان لرؤية الظاهريات من خلاله، وتأويلها من ورائه،
5
ومن البداية تعلن المادية الجدلية عن نفسها أنها هي الفلسفة الوحيدة الصحيحة في مواجهة الفلسفات الأخرى بما في تلك الظاهريات المليئة بالتناقضات الداخلية. وعلى نقيض المثالية الظاهراتية تقف الواقعية المادية الجدلية. وفي مقابل النظرية «اللوجوس» يقف العمل «البراكسيس».
6
تستطيع الظاهريات أن تطور نفسها بنفسها دونما حاجة إلى تطعيم خارجي من نظريات أخرى، وإن لم يدخل الفعل في إطار الفلسفة المثالية فإن المادية الجدلية تقوم على افتراضات مناهضة،
7
و«الرد» ليس افتراضا مسبقا، بل الوضع الطبيعي للشعور في العالم، ولا يكون البحث عن «البراكسيس» بقول خطابي بل بتحليل أنماط السلوك.
8
وأحيانا تعرض الدراسات الثانوية الظاهريات من خلال وجهات نظر خارجية عنها، وتدرس بمناهج غريبة عليها، دون استعمال المنهج الظاهرياتي نفسه أو على الأقل استعمال منهج مقارب. مثلا تم تحليل العلاقة بين الفكرة والواقع لاستخدامها في تحليل العلاقة بين صورة الفكرة ومضمونها، ولفظ «جدل» غريب على الظاهريات لأنها ليست فكرا أو منهجا جدليا، واستعمال لفظ غريب على الظاهريات، وقريب من نظرية فلسفية أخرى سابقة تحيل الظاهريات إلى إشكالات غريبة عنها، ورؤيتها من منظور مذاهب فلسفية أخرى تريد الظاهريات تجاوزها.
9
والدراسات الثانوية تجعل الظاهريات المعروضة فيها تقول ما لا تريد أن تقوله، وتنتقي لحظة من تطور الظاهريات وتخرجها من ديمومتها، مثلا أن الظاهريات لا تضمن منطقا صوريا، بل إنها، بعد اكتمالها كمنهج، أخذت المنطق الصوري كنقطة تطبيق لتحويله إلى منطق ترنسندنتالي، مرادف للظاهريات.
10
وهكذا تم «رد» الظاهريات مرات عديدة إلى شيء آخر غيرها، وردت إلى مشاكل خارجية تركتها الظاهريات وراءها، مشاكل أرادت الظاهريات تجاوزها، وموضوعات جزئية لا تعبر عن الظاهريات في شمولها واكتمالها، ومراحل ولحظات سابقة تجاوزتها الظاهريات مع تطورها، وتيارات وتوجهات فيها جوانب منها وليس كلها. صحيح أن الظاهريات هي كل هذا، ولكن تتجاوزها إلى وحدة شاملة متكاملة.
وتبدو الدراسات الثانوية أحيانا أكثر صعوبة في قراءتها من مؤلفات الظاهريات نفسها، تسودها النعرة العلمية عند الباحث من أجل بيان قدراته على احتواء الموضوع، الظاهريات هي مجرد وسيلة لإثبات موقفه الخاص، ودليل على مهارته، ووسيلة للدفاع عن الذات. وينظر إلى القارئ من عل، فيخاف من الظاهريات باعتبارها معرفة رفيعة تتجاوزه، وترهب الباحث الذي استطاع أن يرتفع بمستواه للوصول إلى فهمها.
انتقلت الظاهريات النظرية، بواسطة الدراسات الثانوية، إلى مستوى آخر غير مستوى الظاهريات، فإذا استطاعت الظاهريات تجاوز مشكلة المثالية والواقعية عن طريق القصدية تحاول الظاهريات النظرية تأطير الظاهريات، باعتبارها فلسفة متشابهة، في هذا أو ذلك الاتجاه المعرفي،
11
أصبحت مجرد مناسبة لكل ظاهراتي كي يتفلسف، ويعني التفلسف إيجاد الصعوبات أو الإشارة إلى أوجه النقص فيها حتى يكون له شرف التوضيح والإكمال، كيف يوضع السؤال من جديد وبشكل مخالف من أجل تجاوز الثنائية التقليدية التي لم يلاحظها أحد؟ كيف كانت طريقة وضع السؤال تحتوي على الإجابة من قبل؟ كيف أن إلغاء المشكلة هو أحد طرق حلها وهو ما لم يوضحه أحد؟
12
تبتعد الظاهريات النظرية تدريجيا، بمساعدة الدراسات الثانوية، عن حدسها الرئيسي، مقتربة شيئا فشيئا من الجهاز المفاهيمي واستعماله كوسائل للتعبير. ففي إحدى عروض الظاهريات النظرية اختلط الحدس الرئيسي بعديد من الأفكار الفرعية التي كانت تستخدم في الأصل فقط كوسائل مساعدة للوصول إلى الحدس الرئيسي، وحتى إذا كانت هذه المفاهيم المساعدة صحيحة نسبيا وأقل إسهابا، تتبعها انتقادات وحوادث عديدة، فإنها تزيح الحدس الرئيسي جانبا، ويوضع في المرتبة الثانية. وباختصار تستبدل الظاهريات النظرية، في الدراسات الثانوية، العرضي بالجوهري، والشكل بالمضمون، والوسيلة بالغاية، وتستبدل بالفكر اللغة، وبقوة بالحدس ضعف البرهان.
سادسا: عيوب الدراسات المقارنة1
أدخلت الدراسات المقارنة بقوة الظاهريات في مصادرها، مثل المثالية الألمانية، والتي تعتبر الظاهريات اكتمالها، ولم تتم حتى الآن دراسات مقارنة كثيرة بينها وبين التيارات الفكرية الأخرى، والظاهريات إحداها،
2
وإذا كان لفظ «الظاهريات» قد تكون داخل ثقافة معينة وهي الثقافة الألمانية، فإنها الآن تيار فلسفي داخل ثقافات وطنية عديدة داخل الحضارة الأوروبية، وربما أيضا خارجها.
3
فالظاهريات تيار معرفي وحياتي إنسانيا يظهر في كل حضارة،
4
يبدأ من الخبرات الحية للأفراد وللجماعات، وكما تتجلى في الأفعال العامية والآداب الشعبية وحكمة الشعوب، بل وفي الممارسات الصوفية.
وكل مقارنة بين الظاهريات والعلوم الفلسفية السابقة مقارنة لها ما يبررها، ففي الظاهريات اكتملت المثالية الألمانية، ووجدت مشكلة الثنائية القديمة بين الذات والموضوع، المجرد والعياني، الروح والطبيعة، المثال والواقع ، حلها الأخير في القصدية. وأصبح المنهج المقارن، بعد تطبيقه في الظاهريات، تحليل نتاج التجربة الذاتية الترنسندنتالية المشتركة في التاريخ، وهي جزء من الظاهريات ذاتها، والحقيقة أن كل الأعمال الحضارية في الظاهريات هي نوع من الدراسات المقارنة، وتبين الحقيقة باعتبارها قصدية تاريخية، وتتكشف الروح تدريجيا في الأعمال الحضارية، وبالتالي يصبح المنهج التطبيقي المقارن في الظاهريات منهجا «تقدميا» يكشف عن غائية التاريخ، ومساره نحو الحقيقة، وهو أيضا منهج بنيوي يحكم على الحقيقة الجزئية التي تجلت في كل عصر مسترجعا إياها داخل الحقيقة المكتملة، المقارنة إذن هي اكتمال الحقيقة في تاريخ الظاهريات، وهي الحقيقة المكتملة، الحقيقة هي مقارنة بنيوية بين الحقيقة الجزئية والحقيقة الكلية مرة، ومقارنة تطورية تبين اكتمال الحقيقة الجزئية في الحقيقة الكلية مرة أخرى؛ ومن ثم فإن المقارنة بين الظاهريات وحقيقة تاريخية عن طريق تجاور الاثنين كمذهبين مستقلين لا تنتهي إلى شيء؛ لأنها تجهل دور الظاهريات في التاريخ.
5
ويمكن للظاهريات الترنسندنتالية أن تكون أكثر خصوبة إذا تم إدراجها ضمن الفلسفات المعاصرة إلى أن تسعى لتحقيق نفس الهدف بنفس الوسائل أو بمناهج مختلفة، وإن لم تكن هناك نفس النتائج فإنها لا تعارض نتائج الظاهريات بالضرورة، بل على العكس يفسر بعضها بالبعض الآخر. وإذا اكتشفت الظاهريات الترنسندنتالية الزمان كنسيج تكوين الظواهر، وإذا اكتشف الزمان كديمومة وإبداع دائم وكانبثاق متجدد باستمرار، فإن النتيجتين تتكاملان ولا تتعارضان؛ فالزمان في نفس نسيج الظواهر وخلق مستمر، وكلا النتيجتين تصارعان الزمان النفسي أو النفسي الجسمي (السيكوفيزيقي).
6
وتتجاوز المقارنة بين الظاهريات والنظريات الفلسفية الأخرى إطار ملاحظة حول هوسرل مؤسس الظاهريات وهيجل مؤسس المثالية المطلقة؛
7
إذ تتبع الدراسات المقارنة منطق الموازاة، ومنهج الأثر والتأثر شيء والمقارنة بين نمطين مثاليين شيء آخر، يكفي وضع الظاهريات في ثقافاتها حتى تتجه كل دراسة مقارنة حول اكتمال الفلسفة التي بدأتها العصور الحديثة في الظاهريات، يتكامل «الكوجيتو» مع «الكوجيتاتوم»، الشعور مع مضمون الشعور، المثالية النقدية والمثالية المطلقة في المثالية الترنسندنتالية؛ أي في الظاهريات.
ولا يكفي في الدراسات المقارنة القيام بموازاة بين العلوم الفلسفية داخل كل منطقة حضارية؛
8
فالمقارنة بين الظاهريات وفلسفة الكوجيتو أكثر خصوبة من المقارنة بين الظاهريات والمثالية النقدية أو المثالية المطلقة، وكذلك المقارنة بين الظاهريات وفلسفة الحدس أكثر فائدة من المقارنة بين الظاهريات وفلسفة تصورات العالم! الظاهريات حاجة في كل منطقة حضارية،
9
ومحل الالتقاء بين هاتين الحاجتين هو موضوع خصب للمقارنة.
10
في كل منطقة حضارية يظهر نفس المشروع، الظاهريات الضمنية. يقع أحيانا في الصورية، وأحيانا أخرى في المادية، وأحيانا ثالثة في النزعة النفسية، في كل منطقة حضارية توجد هذه الاتجاهات الثلاثة، واستمرت نظرية العلم منذ المثالية النقدية مرورا بالمثالية المطلقة حتى المثالية الترنسندنتالية.
11
والانتباه ضروري في الدراسات المقارنة بين مستويات الأشياء المقارنة، مثلا ليست مشكلة اللاشعور في نفس مستوى ولا في نفس الأهمية في الظاهريات والمثالية المطلقة وفي التحليل النفسي.
12
اللاشعور في الظاهريات هو الخبرة الحية الضمنية في المثالية المطلقة، وإمكانية دفينة في التصور وفي علم النفس الوقائع الاجتماعية المركبة. صحيح أن التفكير في أشكال اللاشعور لا غبار عليه مع الاستفادة بما تقدمه هذه العلوم الثلاثة وربما أكثر كمادة للتفكير، ولكن ما لا يجوز هو تسمية ذلك أشكال الظاهريات، وبوجه أخص الظاهريات الترنسندنتالية.
وفي مقارنة الظاهريات مع باقي العلوم الفلسفية، سواء داخل المنطقة الحضارية التي نشأت فيها الظاهريات أو المناطق الحضارية الأخرى، يركز الانتباه على اكتمال المثالية الألمانية، وبالرغم من أن الظاهريات تبدأ من فلسفة الكوجيتو، فإنها تصحح وتكمل المثالية النقدية والمثالية المطلقة، فقد اكتمل «الكوجيتو» في «الكوجيتاتوم»، عقل الشعور في مضمون الشعور، لم يعد الأنا علبة فارغة للمقولات. وتقدم الحقيقة قصدية، وليس عملية تاريخية عالمية، وبتعبير آخر كل مقارنة تأخذ بعين الاعتبار فكرة البداية والنهاية للوعي الأوروبي ومد التاريخ بينهما.
13
وفي الدراسات المقارنة يوجد تمييز ضروري بين المراحل المختلفة لتطور الحضارة، يمكن مقارنة الظاهريات مع الفلسفة اليونانية في موضوع «اللوجوس»، ومع الفلسفة المدرسية في موضوع القصد أو مع الفلسفة الحديثة في موضوع «الكوجيتو»، وفي كل مرحلة وضع الفلسفة ليس هو نفس الوضع، في الفلسفة اليونانية كان هناك استقلال للفلسفة بالنسبة للدين والعلم وكل تجليات «الروح» في الحضارة، وكانت «الفكرة» تقوم بدور الماهية؛
14
ومن ثم يمكن مقارنة «اللوجوس» في الفلسفة اليونانية و«الماهية» في الظاهريات لأن موضوعي المقارنة مستقلان، وهما موضوعان مثاليان.
وفي الفلسفة المدرسية لم تكن الفلسفة مستقلة ولا قائمة بذاتها، كانت ملحقة بالدين،
15
ومهما كانت أهم الاكتشافات قد تمت في الفلسفة، مثل التوتر، فإنها ظلت هامشية؛ لأن الغاية لم تكن البحث عن الحقيقة الفلسفية بل تبرير الحقائق الدينية؛
16
ومن ثم فإن المقارنة بين التوتر المدرسي والقصدية في الظاهريات لا تكون على نفس المستوى، الأول ليس موضوعا مستقلا في حين أن الثاني موضوع مستقل.
17
والفلسفة في العصور الحديثة هي تحول لبعض جوانب الدين مع بحث طبيعي عن الحقيقة، ويتحد الموضوع المدرسي والمنهج اليوناني والقصدية في علم النفس الوصفي محاولة للإصلاح ضد علم النفس التجريبي نتيجة علم النفس العقلاني الخارج من الفلسفة، ويمثل تقدما نحو البحث عن المستوى الإنساني بعد رده إما إلى الصوري أو إلى المادي. وظيفة القصدية في العصور الحديثة ليست وظيفتها في الفلسفة المدرسية،
18
تمثل القصدية في الظاهريات خطوة إلى الأمام نحو المستوى الصحيح للظاهرة الإنسانية بعد التخلص من النزعة النفسية في القصدية في علم النفس الوصفي.
في الدراسات المقارنة محاولات للجمع بين بعض جوانب الظاهريات والنظريات الفلسفية السابقة، على نقيض الظاهريات نفسها التي تعتبر نفسها المجموع المكتمل للقصدية الغائية للتاريخ، وخطورة المركب هو تقييم نظرية ينتسب إليها الباحث على حساب نظرية أخرى يعارضها، فعند الباحث اللاهوتي بطبيعة الحال تسود القصدية المدرسية ولا شك، وعند الباحث عالم النفس تكون الأولوية للقصدية في علم النفس الوصفي، وللظاهرياتي القصدية في الظاهريات الترنسندنتالية وحدة كلية في ذاتها، يستبعد كل عنصر يدخل فيه أو يخرج منه في أي محاولة للتركيب.
19
وفي الدراسات المقارنة تمت مقارنة الظاهريات المختلطة بتطوراتها اللاحقة في الفلسفة الوجودية مع المادية الجدلية، ومع أن المقارنة تقوم على منطق محكم للموازاة إلا أنها أخذت المادية الجدلية كقناع ترى من خلاله الظاهريات،
20
ومن شروط المقارنة الحياد، فلا ينتسب المقارن إلى أي نظرية مسبقة بحيث لا تقوم المقارنة على الهوى والميل الشخصي، يستطيع أن ينتسب إلى نظرية فلسفية دون أن تؤثر عقائده الخاصة على رؤيته للأشياء، ويمكن وجود شعور محايد خال من أي افتراض مسبق. ولم تكن كذلك حال كثير من الدراسات المقارنة، كانت المقارنة بديلا عن اختيار تم مسبقا، وكانت الظاهريات المعروضة هي ظاهريات الشراح،
21
اختلطت بتطوراتها اللاحقة وكأن نقد الفلسفة الوجودية خاصة أسطورة العدم نقد للظاهريات.
22
سابعا: الانتقادات الموجهة إلى الظاهريات1
كان يمكن أن تؤدي الانتقادات التي وجهت إلى الظاهريات إلى تطورها لو كانت قد انتهت إلى أقصى نتائجها، مثلا أن الظاهريات تريد أن تصبح فلسفة دون افتراضات مسبقة، وصحيح هذا ممكن. الفلسفة كعلم محكم ليست افتراضا مسبقا، بل هو تمن ومثل أعلى، ومطلب مشروع.
2
الفلسفة بداهة أولى لا تحتاج إلى كل هذه التحليلات والافتراضات الخيالية المناقضة، والتوحيد بين الفلسفة والعلم المطلق ليس أيضا افتراضا مسبقا، وإن لم تكن الفلسفة كذلك فماذا تكون؟ واستقلال العقل ليس على الإطلاق افتراضا مسبقا، بل هو مكسب تم الحصول عليه بعد معركة قاسية منذ يقظة الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة، وقد أعلن العقل استقلاله ضد القطعية في اللاهوت والميتافيزيقا وضد الشك في العلوم المادية، ودخل في نسيج الوجود الإنساني؛ فالظاهريات تقريبا وللمرة الأولى في تاريخ الفلسفة الغربية فلسفة دون افتراضات مسبقة، وتستطيع ظاهريات الدين مرة واحدة وإلى الأبد رفع الشك واضعة معطى الوحي كقبلي تعتمد عليه دون افتراض مسبق.
وتتضمن الظاهريات في نفسها عوامل موضوعيتها، وذلك عن طريق القصدية، التركيز على الشعور الذي يخلق موضوعه، الحقيقة في بداهتها والواقع تحققه الإمكانية نسيج الشعور، ولا تعني الموضوعية أكثر من الوعي بها.
3
ولم تهمل الظاهريات الترنسندنتالية تماما مشكلة التاريخ، ويبين نقد فلسفة تصورات العالم والنزعة التاريخية الأهمية التي توليها الظاهريات للتاريخ، بل يمكن اعتبار الظاهريات باعتبارها فلسفة للحضارة أساسا فلسفة في التاريخ، صحيح أن التاريخ محل النماذج الحية للتحقق التدريجي للحقيقة، ومع ذلك انتهى دور التاريخ، ينقص فقط النظر إلى غائيته لرؤية المراحل المختلفة لتجلي الحقيقة التي اكتملت من قبل، ويحل منهج التحليل النظري للخبرات اليومية محل منهج البحث عن الحقيقة عبر التاريخ،
4
وفي هذه البداية الجذرية وفي هذه «البراءة» التاريخية تكمن الحقيقة،
5
فإذا كانت الظاهريات قد أهملت التاريخ إلا أنها أدركت قيمته الحقيقية.
6
ويمكن التحقق من فكرة وجود مطلق حال في التجربة، ما قبل الحمل المنطقي، في الخبرة اليومية.
7
الوجود الإنساني مسكون بمطالب البحث عن الأفضل، وهذا هو المعنى الفعلي للتعالي أو المفارقة، المطلق النسبي إحساس إنساني ينبثق منه المطلق؛ أي من الذاتية الإنسانية، وتجد ظاهريات الدين خاصة ظاهريات الفعل أساسها في هذا المطلب، الظاهريات ليست إذن مثالية ترنسندنتالية ترد الوجود إلى المعرفة بل مطلب وجود،
8
والمطلب لا يخطئ؛ فاللاوجود وجود، والإمكانية واقع، والذاتية موضوعية، والروح طبيعة. الخطأ اختراع منطقي نفسي، لا يوجد في أفضل العوالم الممكنة.
9
والانتقادات الموجهة للظاهريات في الدراسات الثانوية من أتباع هوسرل أكثر دقة، ويمكن استخدامها لتطوير المنهج الظاهرياتي، مثال ذلك غياب التمييز بين الموضوع الواقعي والموضوع الخيالي في الظاهريات، والذي يقبل تحليل كل مضمون الشعور يسمح ابتداء بتقوية المنهج الظاهرياتي؛ وذلك بأن يقدم له فقط الموضوع الواقعي،
10
ومعطى الوحي وحده يمكن اعتباره نموذج الموضوع الواقعي، هذا الإصلاح للظاهريات النظرية يمكن أن يؤدي إلى ظاهريات الدين، المعطى المادي أقل يقينا لأنه في حاجة إلى تنظير ظاهراتي سابق من أجل التخلص من مضمونه المادي، والمعطى الصوري أيضا أقل يقينا لأنه في حاجة إلى أن يتحول قبل ذلك إلى معطى ترنسندنتالي. المعطى الحي هو الأكثر يقينا لأنه يكون المادة الأولى في التحليل القصدي. المعطى الحي القبلي وحده هو القادر على إعطاء يقين واقع الموضوع، ويمكن لمعطى الوحي أن يقوم بدور هذا الموضوع الواقعي.
ونقد «الأنا الخالص» أيضا نقد وجيه؛ فليس «الأنا» كنشاط مطلق خلاق هو الأنا الظاهرياتي الخالص،
11
يمكن استخدام هذا النقد من أجل وضع ظاهريات حركية تبدأ من «الأنا» كفاعل، كمركز للحركة وكفعل مستمر. كان يمكن لنقد الطابع العقلي للظاهريات أن يؤدي إلى الحركية المرجوة، وإذا كانت الماهيات في الظاهريات معقولة فإن ظاهريات الدين قادرة على التعامل مع الماهيات المادية،
12
الفصل الخامس: تفسير الظاهريات1
أسيئت قراءة الظاهريات لسبب بسيط هو أنها في حاجة إلى قواعد للتفسير، وكل عمل فلسفي له قواعد لتفسيره بل وله مفسره.
2
القواعد منهج لفهم النص، والتفسير تطبيق له، ويصبح الأمر أكثر إلحاحا بالنسبة للنص الديني؛ فالتفسير منطق النص، فهل يمكن وضع قواعد لتفسير النص الظاهرياتي؟
أولا: من اللفظ إلى العمل الكلي1
إنه من السابق لأوانه وضع قواعد لتفسير الظاهريات أو لأي عمل فلسفي أو أدبي أو حتى ديني، ومع ذلك يمكن لبعض الأفكار الموجهة أن تستخدم كنواة لهذه القواعد بناء على الأشكال الكمية للنص وليس الأشكال الصورية، الأفكار الموجهة اختارها هوسرل للتعبير عن «ثلاثية الأفكار».
2
والأشكال الكمية هي وحدات التعبير من اللفظ والعبارة حتى العمل كله، المطبوع والمخطوط، والأشكال الكيفية هي الوحدات الأدبية من تحليلات ونقد وحوار، والشخص الأول وكما هو معروف في «تاريخ الأشكال الأدبية» هذه الوحدات الكمية الأولى هي: اللفظ، العبارة ، الفقرة، مجموع الفقرات في موضوع أو تحت عنوان واحد، الفصل، القسم، الجزء، المجلد، المجموعة، المطبوع، المخطوط، اليوميات، العمل ... إلخ.
3 (1) اللفظ
4
هناك كلمات-مفتاح، وكلمات-تعبير.
5
الكلمات-المفتاح هي الكلمات الرئيسية والمصطلحات والمفاهيم المميزة لكل مذهب فلسفي، مثل: «الكوجيتو» عند ديكارت، و«النقد» عند كانط، و«الجدل» أو «المطلق» عند هيجل، و«الديمومة» عند برجسون، و«العدم» عند سارتر، و«الموت» عند هيدجر ... إلخ. ومن هذه الكلمات المفتاح في الظاهريات: قصدية، خبرة حية أو معطى حي، صور الشعور، مضمون الشعور، منطقة، خبرة ذاتية مشتركة ... إلخ.
6
هذه هي الكلمات التي تكون مجموع المصطلحات الظاهراتية. ويشير كل لفظ إلى شيء دون المرور على المفهوم، يشير لفظ الحي إلى الموضوع الحي، وتشير القصدية إلى بنية عيانية للشعور، والخبرة الذاتية المشتركة بين الشعور والآخرين، ومن أجل الفهم الانتقال ضروري من اللفظ إلى الشيء دون المرور بالمفهوم، وإن إدخال المفهوم بين اللفظ والشيء يغمض الشيء ويجعله يتوه في ظاهرة التفريعات والتقسيمات العقلية، حيث يدور العقل حول ذاته بعد هروب الموضوع، وهذه وظيفة تلك القاعدة «من اللفظ إلى الشيء».
وكلمات التعبير هي ألفاظ من اللغة العادية التي لا تشير إلى معان خاصة أو إلى أشياء معينة، تهدف فقط إلى الكتابة عن الشيء وتحويله إلى خطاب وتنتهي بالحديث عن شيء آخر، هي ألفاظ - وسائل وليست ألفاظ - غايات. ليس المطلوب إذن فهم أي شيء منها أو إعطاءها أي معنى، هي مجرد وسيلة للتخاطب وليس لفهم المعنى أو كشف الشيء. (2) العبارة
7
كل عبارة بمفردها في النص الظاهرياتي ليس لها معنى، ولا يظهر المعنى إلا إذا دخل في القصد الكلي للعمل، هناك عبارات لا معنى لها لأنها مجرد عبارات ربط أو طرق في الكلام، هي مثل كلمات-التعبير الضرورية للربط بين الألفاظ والمعاني، هي عبارات الوصل بين الجمل مثل حروف العطف بين الكلمات.
وإذا كانت كل عبارة تكمل الأخرى؛ ومن ثم لا تتعارض النصوص مع بعضها البعض من أجل حل تعارض ظاهر، كل عبارة في سياقها، وتدخل في قصديته النصية، ليست كل السياقات على نفس المستوى، ولا تكشف كل «القصديات» عن الموضوع الحي من نفس الجانب، أنطولوجيا لا توجد تناقضات، بناء الوجود وحده هو الضامن لحقيقة كل تحليل لأحد هذه الجوانب.
ولا تفسر كل عبارة في النص الظاهرياتي بمعزل عن العبارة الأخرى، وتتكاتف كل العبارات للتعبير عن القصد الذي يشع منها، لا تعطي كل عبارة معنى بذاتها ولكنها تدل في مجموعها على معان، ولا تستقل كل فقرة عن الأخرى بل تتداخل الفقرات فيما بينها لتدل على قصد أكثر عمومية، ويمهد كل فصل وكل باب، وكل قسم وكل كتاب، بل وكل مجلد أو جزء أو مجموعة، للفصل أو الباب أو القسم أو المجلد أو الجزء أو المجموعة القادمة، كل عمل يشرح الآخر؛ ومن ثم يستحيل عمل «شريحة» ظاهراتية أي مقطع في أي مكان لرؤية نسيجه الداخلي خارج العضو كله، لا يوجد متناه في الصغر؛ أي «جينات» تدل على متناه في العظم. صحيح أن الدراسة التكوينية للظاهريات ممكنة، ولكن دون تفكيكها في عبارات ثم إعادة تركيبها من جديد، ويمكن رؤية نشأة الظاهريات وتطورها واكتمالها في قصديتها العامة الموجودة في العمل كله، ويساعد فهم هذه القصدية على فهم العمل كله، بل وتصحيح الفهم الخاطئ له، ومع ذلك، لكل عبارة استقلالها إذا فهم قصدها، وتكشف كل فقرة جانبا من الواقع لو أمكن رؤيته مستقلا عن الآخر، الكل ما هو إلا صورة مكبرة من الجزء، والجزء ما هو إلا صورة مصغرة من الكل؛ لذلك يكفي في الظاهريات التطبيقية أخذ عبارة لتطبيق نظرية بأكملها مثل: «الشعور ينطلق نحو»، «كل شعور هو شعور بشيء»، «وضع الأشياء بين قوسين» ... إلخ.
8
واستقلال العبارة والفقرة ومجموعة التحليل مطلب للبداية الجذرية، كان مؤسس الظاهريات يبدأ كل يوم بداية جديدة، يبدأ من لا شيء لينتهي إلى كل شيء، وليس كالتفكيكيين المعاصرين، البداية من شيء والانتهاء إلى لا شيء أو العدميين، البداية من لا شيء والانتهاء إلى لا شيء. (3) الفقرة
9
كل فقرة في النص الظاهرياتي وصف لأحد جوانب الشيء، لها استقلالها ووحدتها، وكل فقرة مستقلة عن الأخرى في قصديتها الجزئية، ومرتبطة بباقي الفقرات بالقصدية الكلية لمجموع الفقرات.
وتقع الظاهريات أحيانا في تفسير حرفي، فلا يهم أي نص له هذا المعنى أو ذاك لو كان هذا النص أو هذا المعنى هامشيا للغاية بحيث لا يغير شيئا في جوهر التحليل، وفي هذا الإطار، يحاول كل ظاهرياتي أن يبين قدرته على احتواء النصوص حتى الجهاز النقدي في الهامش الخاص بتغيرات المخطوطات كما هو وارد في تحقيق النصوص القديمة أو نشر الكتب المقدسة، وينسى الأهم وهو صلب النص، وضد هذا المنهج الحرفي ذاته تثور الظاهريات؛ فالكل ليس مركبا من عدة أجزاء، الكل له وحدته المثالية.
10
كل تفكيك للظاهريات إلى المتناهي في الصغر وغير الدال هو منهج مضاد للظاهريات، الفقرة هي وحدة معنى، ووحدة قصد، ووحدة رؤية. ولا يمكن تجزئتها إلى عبارات، كما أن العبارة وحدة معنى، لا يمكن تجزيئها إلى كلمات، كما أن الكلمة تصور، لا يمكن تجزئتها إلى حروف. (4) مجموع الفقرات
11
تتكون مجموعة الفقرات من فقرات مرقمة مع عنوان يبين فكرتها الأساسية، وعادة ما يواجه العنوان ضد اتجاه موضوع تحت النقد. وأحيانا يكشف عن الخلط السائد فيه عن طريق التمييز بين لفظين متجاورين، وأحيانا يضع العنوان حقيقة خاصة بالظاهريات، العنوان هو نواة المعنى لكل مجموعة من الفقرات، وعن طريق الاتصال المباشر بالعنوان، وإدراك مباشر لمعناه، يظهر القصد الكلي لمجموع الفقرات، وقد يغني الفهم المباشر لعنوان مجموع الفقرات عن قراءته كله؛ ففهم الكل سابق على فهم الأجزاء، كما أن معرفة النفس سابقة على معرفة البدن؛ فالواقع أن الظاهريات تتكون من مجموعة من الأفكار الثابتة تظهر لأول وهلة في هذه العناوين، وربما يكون تدوينها والتعبير عنها قد تم على نحو غير ملائم، فبعد التعبير عن الفكرة الثابتة على رأس مجموعة الفقرات في عنوان يدل عليها جميعها قد لا ينجح عرض هذه الفكرة الثابتة؛ فالحدس عادة أوضح من البرهان وأكثر مباشرة منه، والرؤية أدل من العرض، وعادة ما يستخدم العرض خليطا من المصطلحات الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية طبقا لما هو سائد في البيئة الفلسفية، أو التي تعبر أحيانا عن بعض التأملات الشخصية مستعملة أيضا لغة علوم العصر، وأحيانا أخرى عن بعض الخبرات الحية بأسلوب الحياة اليومية مما يفقد الظاهريات اصطلاحاتها وعالمها الخاص، ومن ثم بين العنوان المرقم وتحليله هناك هذه المسافة بين نجاح أحدها وفشل الآخر، نجاح حدس العنوان وفشل أسلوب العرض وطريقة البرهان.
وأحيانا يفشل عنوان مجموع الفقرات عندما تسوده بعض مفاهيم الفلسفة الرسمية؛ مما يمنع الصلة المباشرة معه لغياب بداهته، مثال ذلك «الحامل الأقصى» أو «هذا»، فهي ليست من الألفاظ العادية التي تسمح بإدراك معانيها المباشرة، ليست وظيفة المصطلح الاستغلاق بل التركيز على المعنى بأقل قدر ممكن من الألفاظ كما يدل الاسم على المسمى، والرأس على البدن.
12 (5) الفصل
13
وكل فصل في عمل يكشف جانبا من موضوع البحث، ليس الفصل مجرد قسمة إجرائية للعمل بل منطقة وجود، له وحدته كقصدية مستقلة، وفي نفس الوقت يتكامل مع باقي الفصول التي تشير إلى مناطق وجود أخرى، الفصل منظور الشيء، ورؤية لبعض جوانبه، ليس مجرد تجميع مادة من هنا أو هناك؛ فالأجزاء لا تكون كلا واحدا، بل هو جزء من بناء، له استقلاله في ذاته، وله تداخله مع باقي الفصل في مجموع البناء المعماري. الفصل كل في ذاته، وجزء بالنسبة إلى غيره، عدد الفصول إذن محكم سلفا بجوانب الموضوع وأسس البناء، وليس مجرد عدد إجرائي لتقسيم المادة العلمية عليها بالتساوي، وعلى التبادل، وعلى نحو كمي خالص. (6) القسم
14
ويشير القسم إلى أحد جوانب القصدية الكلية في الظاهريات كفلسفة ومنهج وقد يتكون من مجموعة من الفصول؛ فالقسم أكبر من الفصل، وهو ما يعادل الباب في التصنيف الحديث. هي خطوة من مجموع خطوات، وطابق من طوابق البناء. القسم هو الموضوع بعد أن بدأ يتشكل في أحد جوانبه، هو مقطع في الوجود أو مستوى فيه، وهو ما يدل عليه الاشتقاق في اللفظ الألماني.
15
وقد قسم الجزء الثاني من «الأفكار» عن «التكوين» على هذا النحو: تكوين الطبيعة المادية، وتكوين الطبيعة الحية، وتكوين عالم الروح. (7) المجلد
16
المجلد هو عمل واحد ضمن مجموع الأعمال التي تكون مجموع الأعمال الظاهراتية كما تركها مؤسسها، يعطي باسمه الفكرة الرئيسية مثل «فكرة الظاهريات»، وهي تبين انكشاف الظاهريات فجأة كحدس أو فكرة أو مشروع أو كعلم رائع،
17
مثال ذلك أيضا «أزمة العلوم الأوروبية» والظاهريات الترنسندنتالية، وهو لا يعلن فقط الأزمة الحالية في الوعي الأوروبي، بل يدينها ويقترح حلا لها في الظاهريات الترنسندنتالية، وأيضا يشير «التجربة والحكم» مباشرة وبوضوح إلى جانبي المنطق الظاهرياتي، وكذلك يعلن «علم النفس الوصفي» منذ البداية عن وجود علم نفس مستقل عن علم النفس التقريبي، وعلم النفس العقلي أو حتى علم النفس الوصفي، وهو الذي خرجت الظاهريات منه. المجلد طابق في معمار الظاهريات، ولبنائها الهندسي، وهيكلها العظمي، المجلد هو «القائم» العمود الفقري أو الجهاز العصبي أو المخ أو القلب. (8) الجزء
18
وهو لفظ غير ملائم للتعبير عن مضمونه، واستعمل من أجل التمييز بينه وبين الكل، وللإشارة إلى مجموعة من المجلدات تكون وحدة واحدة وعملا واحدا، مثال ذلك «بحوث منطقية» عمل واحد مكون من ثلاثة أجزاء، وكذلك «الأفكار» عمل واحد مكون من ثلاثة أجزاء،
19
الجزء هنا مفهوم كمي يتكون من عدة أجزاء بالمعنى العام وليس بالمعنى الاصطلاحي، تتكون الظاهريات من عدة أجزاء، أي من عدة مؤلفات، أشهرها «دراسات منطقية» أو «الأفكار»، والباقي تطبيقات في المنطق «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي»، أو في الفلسفة «الفلسفة كعلم محكم»، أو في علم النفس «علم النفس الظاهرياتي»، أو في الحضارة «أزمة العلوم الأوروبية». (9) المجموعة
20
تتكون المجموعة من عدد من الأجزاء كما يتكون الجزء من عدد من المجلدات؛ فهناك أولا المجموعة الرياضية من «فلسفة الحساب» و«مفهوم العدد» و«مساهمة في حساب المتغيرات»، وهناك ثانيا المجموعة المنطقية التي تتكون من «بحوث منطقية» (ثلاثة أجزاء)؛ «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» «التجربة والحكم»، وهناك ثالثا المجموعة المنهجية تضم «الأفكار الموجهة» (ثلاثة أجزاء)؛ «تأملات ديكارتية» و«فكرة الظاهريات»، وهناك رابعا المجموعة النفسية مثل «محاضرات في الوعي الداخلي بالزمان»، «علم النفس الظاهرياتي»، وهناك خامسا المجموعة الفلسفية الحضارية وتضم «الفلسفة الأولى» (جزءان)، «أزمة العلوم الأوروبية » و«الظاهريات الترنسندنتالية».
وفائدة هذه القسمة إلى مجموعة رياضية ومنطقية ومنهجية ونفسية وفلسفية حضارية، أنها تسمح بتتبع المسار الفلسفي للظاهريات، والذي تابع كل هذه المراحل مجتمعة، فلم تدرك الظاهريات كعلم ثم التعبير عنها مرة واحدة، ولكنها خرجت من البحوث الرياضية والمنطقية والنفسية والمنهجية والفلسفية والتاريخية الحضارية، ثم اكتملت في علم مستقل في مجموعة «الأفكار»، ثم عادت بعد ذلك إلى ميادينها السابقة التي نشأت منها، وهي الرياضة والمنطق وعلم النفس والفلسفة والحضارة، لتصبح ظاهريات تطبيقية.
ويمكن لقسمة النص الظاهرياتي بالمجموعة أن توضح جوانب عديدة للظاهريات التي اكتملت في منهج، فقد ساهم التصور الرياضي، والمقولة المنطقية، والخبرة الحية النفسية، والوعي التاريخي، في اكتمال الظاهريات كعلم مستقل، وفي صيغة منهجية ظلت «الرياضيات الشاملة» نموذجا للظاهريات كعلم شامل.
21
والأنطولوجيا الصورية التي تعطي الموضوعية للظواهر الحية هي إعادة تفسير لمنطق القضايا الذي لا يتكون من قضايا الفكر أو اللغة بل من مناطق الوجود. (10) المطبوع
22
العمل المطبوع كله الذي لا ينقسم هو الوحدة الكلية للنص الظاهرياتي، وإطلاق اسم «الظاهريات الترنسندنتالية» يبين دلالته ويكشف عن ماهيته كعلم لظواهر الشعور، لقد كان مؤسس العلم الجديد متخوفا من النشر، وما نشر في حياته أقل بكثير مما تركه لينشر بعد وفاته، ليس السبب خارجيا، ما قد تتعرض له حياة الباحث لظروف سياسية خارجة عن إرادته، بل لأسباب داخلة محضة؛ إذ كان يتشكك في إمكانية قيام مثل هذا العلم؛ فلم ينشر في حياته إلا الجزء الأول من مجموعة «الأفكار» و«الفلسفة كعلم محكم» في الكتاب السنوي الذي أسسه للظاهريات، و«المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي»، وبعض المقالات الأخرى لدوافع النشر، مثل: مقال دائرة المعارف عن «الظاهريات»، ونشرت الترجمة الفرنسية لمحاضرات باريس «تأملات ديكارتية» قبل النص الألماني. وكل ذلك له دلالته؛ فالظاهريات علم لا يكتمل، هو مسار الشعور في العالم وهو يحلل نفسه في علاقته بعالم الآخرين وبعالم الأشياء، وكما وضح بعد ذلك في الجزأين الثاني والثالث من مجموعة «الأفكار» هو عود للمعطى الحي الأصلي الذي ينتهي بمجرد التدوين، ويعود من جديد بعده ، النشر في عمل مكتمل إيقاف لتيار الشعور، وموت للمعطى الحي؛ لذلك يحتاج العمل بعد تدوينه إلى إحيائه من جديد عن طريق القراءة والتأويل، صحيح أن هناك سمة التكرار، وهذا طبيعي لأن الحدوس الفلسفية قليلة، بل ترجع كلها إلى حدس واحد، وباقي الأعمال هي مجرد محاولات للبرهان؛ فالتكرار سمة المذاهب الفلسفية في تطبيق الحدس الرئيسي، مثل: «التفكير» أو «النقد» أو «القصد». (11) المخطوط
23
ما زال العمل غير المطبوع سرا كبيرا، وكل مرة يظهر للعالم ويخرج من دائرة الخفاء إلى دائرة التجلي فإنه يلقي بأضواء جديدة على مجموعات أعمال الظاهريات، خاصة فيما يتعلق بتأويلاتها المقصودة، ولم تقل بعد كلمتها الأخيرة، فإذا استمر قدر لا بأس به من الأعمال غير المنشورة في إخضاع ظواهر الحياة الأخلاقية للمصادرات المنطقية، بل وأيضا المعادلات الرياضية، يحاول قدر آخر أن يعثر على حياة عالم التجربة والزمانية كصور أصلية. هذا بالإضافة إلى أن الجزء المتبقي من العمل غير المنشور، والذي تتم فيه معالجة الخبرة الذاتية المشتركة كجماعة إنسانية تجعل الظاهريات تقترب للغاية من التصوف والجماعة الروحية بل والطرقية.
ما زال النص الظاهرياتي المخطوط أكبر بكثير من المطبوع، فقد تجاوزت «الأعمال الكاملة» لهوسرل التي تنشر تباعا بعد وفاته العشرين مجلدا ولم تنته بعد،
24
بل وتوقف مشروع النشر للنص الظاهرياتي بأكمله، المؤلفات الباقية، والمحاضرات والتقارير والرسائل واليوميات نظرا؛ لأنها لم تعد تضيف جديدا بالنسبة لما هو معروف في المجموعات المتكاملة عن الظاهريات تطورا وبنية، مسارا واكتمالا.
25 (12) اليوميات
26
ويوميات مؤسس الظاهريات التي يعبر فيها عن نفسه ويحلل فيها شعوره تظل ربما أهم جزء من العمل المخطوط، هي المرآة التي تكشف عن حقيقة صاحبها وصورته أمام نفسه، يصف فيها مساره الفكري يوما بيوم وربما ساعة بساعة. وقد دونت اليوميات متزامنة مع الأعمال الرئيسية الأخرى الأجزاء والمجلدات والمجموعات، فقد توزع الفكر على مسارين؛ الأول الموضوعي للعمل الرئيسي، والثاني الشخصي في اليوميات، وقد يجد العمل الرئيسي تأويله الحقيقي في اليوميات.
27
الظاهريات استبطان يتطلب قلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ورؤية الماهيات في الشعور من خلال تحليل الخبرات الحية في الحياة اليومية، والظاهرياتي معمل متنقل، وشعوره شعور يقظ، يقتنص الدلالات من عالم الوقائع بعد أن يضعه بين قوسين، هو علم تأملي خالص يعتبر ديكارت مؤسسها الفعلي في «التأملات»، وربما قبله عند أوغسطين في «الاعترافات»، «والسير الذاتية» عن الفلاسفة والصوفية، والأعمال الأدبية التي تقوم على وصف تيار الشعور.
28
ونظرا لأن سرعة تيار الشعور أكبر بكثير من سرعة القلم، اخترع مؤسس الظاهريات طريقة خاصة به في «الاختزال» غير ما هو معروف به في «طريقة الاختزال» كي تتماهى السرعتان، وتلحق سرعة القلم بسرعة التيار؛ لأن اللغة الألمانية لا تسعف؛ فالظاهريات ظاهرة معملية تتحقق في «ورشات العمل» والوصف المشترك لخبرات الحياة اليومية؛ لذلك تحولت بعد وفاة مؤسسها إلى دوائر بحثية لمجموعات من الباحثين داخل أروقة الجامعات.
29
ثانيا: أفكار موجهة لقواعد التفسير للظاهريات1
وقد تم استنباط هذه الأفكار الموجهة الاثنتي عشرة من النص الظاهرياتي نفسه، تعتمد الثلاثة الأولى على المعاني المختلفة للفظ «لوجوس»؛ الكلام، والتفكير، والشيء المفكر فيه،
2
والرابعة قاعدة تأويلية، ومن الخامسة حتى الثامنة قواعد مستنبطة من نفس المبدأ الذي تقوم عليه الخامسة، والتاسعة خاصة بالدراسات المقارنة، والعاشرة بالظاهريات التطبيقية، والاثنتان الأخيرتان يتعلقان ببنية الظاهريات وتطورها كمنهج مكتمل.
وهي قواعد تنطبق على كل عمل فلسفي، وليس على النص الظاهرياتي وحده إذا كان متشعبا بين التطور والبنية، والنشأة والاكتمال، والنظرية والتطبيق، والفلسفة والمنهج، والرؤية والتاريخ. وظيفتها جمع المادة العلمية في آليات منهجية واحدة من أجل القراءة الدالة، والنتائج العامة بدلا من التقسيم والتجزيء والتفتيت بدعوى التحليل العلمي ومعرفة الجزئيات.
كما تنطبق على النصوص الدينية التي تتسم بنفس طابع الشتات والتشعيب من أجل إعادة جمعها في منظور كلي واحد، وتنطبق أيضا على النصوص القانونية خاصة في بعض حالاتها، مثل: القاعدة الرابعة عن الحرف والروح في القانون، وتنطبق كذلك على النص الأدبي لتفسير وحدة العمل الروائي أو الشعري خاصة في الدراسات البنيوية والوصفية، وقد تنطبق أخيرا على النص التاريخي من أجل تحليل رؤية المؤرخ التي تحدد نصه؛ فالتاريخ تدوين، والتدوين رؤية وتعبير. (1) من اللفظ إلى الشيء، ومن الشيء إلى اللفظ
3
يتم فهم الظاهريات عن طريق الانتقال من اللفظ إلى الشيء دون المرور بالمعنى أو المفهوم، وبعد تطور الظاهريات إلى الأنطولوجيا الظاهراتية فيما بعد بانت اللغة على أنها «منزل الوجود»، لقد استعارت لغة الظاهريات مصادرها الأولى من الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة، ولكنها تشير إلى أشياء بسيطة في الحياة اليومية، ثم أصبحت علمية تقنية اصطلاحية للغاية يصعب استعمالها في الخبرات البسيطة في الحياة اليومية، فإذا حدث انتقال من اللفظ العلمي إلى الشيء البسيط من خلال المعنى العلمي للفظ فإنه من الصعب إدراك الشيء. ويغطي المفهوم المعتمد الشيء، ويغلفه في عديد من النظريات المستخرجة من اللفظ، وإذا توسط المفهوم بين اللفظ والشيء فإنه لن يتم الانتقال من واحد إلى آخر.
وإذا كانت الظاهريات عودا إلى الأشياء ذاتها، فإنه لا يمكن فهمها إلا بالعود إلى نفس المبدأ، فكل عبارة ظاهراتية تصف شيئا، ولفهم هذه العبارة يرى الشيء،
4
والانتقال من عبارة إلى أخرى لا يعطي أي معنى، في حين أن الانتقال من العبارة إلى الشيء، موضوع الوصف، يؤدي إلى فهم الشيء بتسليط اللغة عليه عن طريق الإشارة والعلاقة وليس بالضرورة عن طريق المفهوم أو المعنى؛ فالمنطوق بديل عن المفهوم، ويساعد العود إلى الأشياء على التخفيف من ثقل هذه اللغة الاصطلاحية التي تئن الظاهريات تحتها، بل وتساعد على توجيه المقاصد الرئيسية للظاهريات نحو اتجاهاتها المرجوة؛
5
ومن ثم يستخدم العود إلى الأشياء ذاتها الذي تريده الظاهريات كقاعدة لتفسير النص الظاهرياتي نفسه،
6
وراء اللفظ وتحت المفهوم يقبع الشيء، وبمجرد ما يلمس النص الظاهرياتي الشعور يظهر الشيء، وكل قراءة، خاصة الظاهراتية، مرتبطة بهذا اللقاء الشعوري مع النص؛ ومن ثم ينشأ الشيء في الوجدان، يكفي توضيحه حتى يظهر الشيء ذاته؛ أي الحقيقة والواقع معا.
ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ في الفهم التلقائي للشيء الذي تصفه الظاهريات، فإذا كانت الظاهريات، في الواقع، عودا إلى الأشياء ذاتها، يكون من الأسهل الاتصال بالأشياء ذاتها مباشرة لإدراك ماهياتها دون المرور بالتحليل المحدد الذي قامت به الظاهريات من قبل، وبتعبير آخر يكفي لفهم الظاهريات العود إلى الأشياء ذاتها التي تتحدث عنها دون المرور بالرطانة الظاهراتية، وبعد هذا الاتصال المباشر مع الأشياء ذاتها يمكن التعبير عن الماهيات المدركة تلقائيا بلغة عادية مطابقة لبساطة الأشياء الموصوفة. ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ تلقائيا وحتى دون المرور بالوصف الظاهرياتي للشيء أو باللغة التي استعملتها الظاهريات للتعبير عنه.
في الظاهر تبدو الظاهريات منهجا معقدا للغاية، خاصة فيما يتعلق ب «الجهاز المفاهيمي»، في حين أن الظاهريات في الواقع منهج بسيط للغاية، وإذا جذب هذا التعقيد المفاهيمي عديدا من الباحثين عن وعي، فإن بساطتها تجذبهم أيضا عن لا وعي، فلا يوجد أبسط من الإدراك الحدسي لواقع عياني ينكشف داخل الخبرة الحية، الإغراء العقلي للأكاديميين هو إذن المسئول عن هذه الحالة من التعقيد الذي يجد فيها المنهج الظاهرياتي نفسه الآن.
وعن طريق الفهم المباشر العميق تترك اللغة ويترك المفهوم جانبا من أجل الذهاب إلى الأشياء ذاتها، ويمكن للغة خاصة، وهي لغة الظاهريات، أن توقع في الخطأ لو أخذ كل لفظ على أنه مفهوم أو شيء، فليست المفاهيم في الظاهريات إلا الأشياء ذاتها التي يحياها الشعور، هي دلالات تحيل إلى الأشياء ذاتها، ومن أجل اختصار الطريق، يعني الفهم ترك اللغة والمفاهيم للوصول إلى الأشياء ذاتها، يعني أخذ موقف المؤلف وهو يحفر في الأشياء ذاتها، ثم يحولها إلى دلالات، ثم يعبر عنها باللغة، يعني إذن التحول من الشيء إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللغة، وتأخذ الدراسات الثانوية الطريق الثاني، من اللفظ إلى المعنى، ومن المعنى إلى الشيء، صحيح أن اللغة منزل الوجود ولكن بعد بالتأمل في نواتها في الاشتقاق، وتصبح نزعة خارجية لو زعمت أنها تدرك الشيء ذاته عن طريق تجميع العبارات. (2) من اللفظ إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللفظ
7
إذا تم الانتقال من اللفظ إلى الشيء أو من الشيء إلى اللفظ مباشرة دون توسط المفهوم، فما هو دور المفهوم أو المعنى أو الفكر أو الماهية؟ ما هو دور العقل نفسه كصلة بين اللغة والمواقع؟
الفكرة أو المعنى أو النظرية في الظاهريات، والتي منها تشتق، منها صفة «نظري» ليست من عمل الفعل، أي مفهوم غير مطابق للواقع؛ لأنها أكبر أو أصغر منه بل هي ماهية الواقع،
8
ويمكن إدراكها عن طريق التحليل النظري للخبرات الحية في الحياة اليومية، وبعد رد الموضوع المادي يبقى الموضوع الحي وحده هو مادة التحليل، والفكرة هي دلالة الموضوع الحي، والمفهوم هو الواقع نفسه الحال في الشعور، ويند عن عمل العقل: الثنائية، الصورية، الخارجية، التفريع والتقسيم ... إلخ.
9
العقل والواقع شيء واحد؛
10
لذلك يستبعد العقل قدر الإمكان من قراءة الظاهريات، ليس من الضروري أن يكون لكل فصلة معنى في النص الظاهرياتي، كل آليات الظاهريات في التفسير، مثل اللغة والجهاز المفاهيمي ... إلخ، ليس لها معنى في حد ذاتها، بل تعبر عن معنى يعطيه القصد العام للنص. لا يبحث إذن عن معنى لكل لفظ، بل يكفي إدراك القصد الساري عبر الألفاظ، وبتعبير آخر من أجل فهم الظاهريات يطبق منهج التمييز بين العلامة والدلالة.
11
اللفظ علامة، والقصد دلالته. اللفظ حامل المعنى دون أن يكون هو نفسه معنى.
12
يستطيع العقل أن يبرر كل شيء، يستطيع أن ينسب أي معنى إلى أي نص سواء كان دالا أم غير دال، كما يستطيع نقد كل شيء، وليس عليه أي ضابط لو ترك على سجيته، وما يقلل من حدة العقل هذه هو الحدس؛ إذ يعطي المناسبة لصلة مباشرة مع الواقع الذي يعمل ك «فرملة» لتجوال العقل، وتستطيع القصدية السارية في النص من أوله إلى آخره للتخفيف من آثار العقل باكتشاف المعنى الحال في النص وليس المعنى الذي يسقطه العقل عليه.
يستطيع العقل أن ينقد كل شيء، هو مجرد آلة للتشريح وتقليب المسألة من كل جوانبها، بل يستطيع أن يقول الشيء ونقيضه وإسقاطه على النص الظاهرياتي، يحول هذا النص إلى مادة صماء، تتغير في كل الاتجاهات الممكنة. (3) من المفهوم إلى الشيء، ومن الشيء إلى المفهوم
13
وبمجرد الحصول على الفكرة فإنها تستطيع الإشارة مباشرة إلى الشيء؛ لأن الفكرة والشيء، العقل والواقع واجهتان لشيء واحد ، يتم الفهم إذن قبل أي استعمال للغة؛ فالظاهريات بعد قلب النظرة، معمل متنقل حي وصامت يستمع إلى صوته الداخلي، وينصت إلى شعوره التأملي وهو يحلل مضامين ويدرك دلالات؛ ومن ثم تستبعد لغة الظاهريات مؤقتا للتحقق من مطابقة المفهوم للواقع، وأكبر عمل للظاهريات هو أن يتم بينه وبين نفسه أي بين الفكر والواقع كما يتحقق منه، فإذا استطاع أن يجد التطابق بينهما، أي إنه إذا استطاع أن يدرك دلالات الخبرات الحية وماهيات الأشياء ليرى الحقيقة في الواقع، في هذه الحالة تكتمل الظاهريات وتتحقق غايتها.
فكل محاولة لفهم الظاهريات دون إدراك مسبق للماهيات من ناحية، ودون إحالات إنسانية في الحياة اليومية من ناحية أخرى، يظل النص الظاهرياتي، كما هو الحال الآن، منطويا على ذاته، وسجين مذهب مغلق من مصطلحات تعالمية وأفكار مركبة. (4) من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح
14
وتخص هذه القاعدة كل تفسير وليس فقط تفسير الظاهريات، وتحتاج الظاهريات خاصة إلى هذه القاعدة بسبب عيوب لغتها كأداة للتعبير، يمكن فهم الظاهريات بالروح لا بالحرف؛ فهي قصد أكثر منها إيماء، هي تأهيل لطريق أكثر منها استنباطا لنتيجة، ونتيجة للتأمل المستمر في النص الظاهرياتي يكفي روحه من أجل توضيح حرفه، يعطي الحرف الروح أدوات تعبيره الأكثر مطابقة، ولكنه لا يعود ضروريا، بعد فهم الروح أن يتم التعبير عنه بنفس الحروف، يستطيع الظاهرياتي استعمال ألفاظه الخاصة للتعبير عن روح الظاهريات،
15
الوحي قصد واحد إلا أن طرق تعبيره ووسائله في المخاطبة تختلف من ثقافة إلى ثقافة، ومن عصر إلى عصر.
هذه القاعدة، من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح، هي قاعدة انتقالية بين القواعد السابقة الخاصة باللفظ والمعنى والشيء والقواعد التالية الخاصة بالكل والجزء، الحرف هو اللفظ، والروح هي المعنى الذي يحيل إلى الشيء، الحرف هو الجزء، والروح هي الكل؛ فالقواعد تتداخل فيما بينها، وربما ترد جميعا إلى قاعدة واحدة، الإدراك بالحدس الكلي وبالروح السابق على الأجزاء والحروف. (5) من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل
16
كانت هذه الرؤية التدريجية للنص الظاهرياتي من اللفظ حتى مجموع الأعمال كلها، ومن مجموع الأعمال كلها حتى اللفظ، ضرورية من أجل وضع فكرة موجهة رئيسية للتفسير، الكل ينير الأجزاء، والأجزاء تشير إلى الكل،
17
والواقع أن كل عبارة في الظاهريات ليس لها أي دلالة إلا في مجموع أعمال الظاهريات، والتقسيم التدريجي للنص الظاهرياتي كان يهدف إلى وضع سلم للقيمة الكمية؛ أي للمقدار، حيث يظهر الكل والأجزاء على مستويات عديدة، اللفظ جزء بالنسبة إلى العبارة ككل، والعبارة جزء داخل الفقرة ككل، والفقرة جزء داخل مجموعة الفقرات أو الشريحة ككل ... إلخ. يعطي الكل اتجاه الحركة للأجزاء، وتعطي الأجزاء الحوامل الحسية لاتجاه حركة المعنى، لا تستطيع الأجزاء أن تكون الكل، والكل يظل فارغا بلا أجزاء، الجزء بدون الكل أعمى، والكل بدون الجزء فارغ.
وتفسير الظاهريات بناء على هذه الفكرة الموجهة ليس غريبا عليها؛ إذ إن لديها نظرية مشابهة حول علاقة الكل بالأجزاء، وهي نظرية في سياق منطقي أكثر منها في سياق تأويلي،
18
تمت صياغتها للتأكيد على استقلال الموضوعات المنطقية، ومع ذلك تساهم نظرية الكل والأجزاء إلى حد كبير في صياغة قواعد لتفسير الظاهريات، وتمنع من تشتتها في نقاط متشعبة كما حدث في الدراسات الثانوية. (6) من المركز إلى المحيط، ومن المحيط إلى المركز
19
النص الظاهرياتي نص متضخم وثري، والثراء الزائد يؤدي إلى التشتت، ومع ذلك فإن له مركز، وتركيز الانتباه على المركز يمنع من التشتت، ولفهم الظاهريات ينتقل الذهن من المركز إلى المحيطة، ومن المحيط إلى المركز، وفي كل مرة يضيع الظاهرياتي في شتات المحيط فإنه سرعان ما يعود إلى وحدة المركز، يجمع الشتات، ويوحد القصد. وفي كل مرة يشعر الظاهرياتي بضيق المركز فإنه سرعان ما يعود إلى رحابة المحيط، وهي نفس القواعد السابقة ولكن بصورة أخرى؛ فالمركز هو الكل، والمحيط الأجزاء؛ المركز هو الروح، والمحيط الحرف؛ المركز هو المعنى، والمحيط اللفظ.
ومن أجل صياغة منهج ظاهرياتي تظهر القاعدتان الرد والتكوين كقاعدتين رئيسيتين في المنهج، هذا مركز أول. وبعد تطبيق هاتين القاعدتين للمنهج تظهر القصدية كبنية عامة للشعور، وهذا مركز ثان. وللقصدية بناؤها الخاص، صورة الشعور ومضمون الشعور، وهذا مركز ثالث. وأخيرا فإن لصورة الشعور ومضمون الشعور بنية مشتركة على التبادل في التحليل الصوري المادي،
20
وهذا مركز رابع يقترب أكثر فأكثر من المحيط، والذي عليه ينتشر عديد من المفاهيم والتصورات الأخرى. (7) من الوحدة إلى الكثرة، ومن الكثرة إلى الوحدة
21
وهذه القاعدة مثل السابقة تريد إرجاع الظاهريات إلى وحدتها الجوهرية ابتداء من الكلمات والمفاتيح أو المفاهيم الأساسية؛ فالواقع أنه بالرغم من كثرة المفاهيم في الظاهريات فإنها مرتبطة فيما بينها بوحدة القصد، يقال دائما نفس الشيء ولكن بطرق متعددة.
22
لذلك لا ينخدع أحد بالمصطلحات والآليات الظاهراتية، فيقال نفس الشيء بطرق متعددة، مرة بلغة الرياضيات، وأخرى بلغة المنطق، وثالثة بلغة علم النفس، ورابعة بلغة الفلسفة ... إلخ. لا يتم التوقف إذن عند اللغة وأساليب التعبير وألفاظه، كانت بضاعة العصر، كما أن الجهاز المفاهيمي في الظاهريات كان عادة العصر؛ لذلك لا يشير تعدد وسائل التعبير إلى تعدد أشياء مقابلة، وهذا يفسر ظاهر التكرار في مجموع النص الظاهرياتي؛ إذ تتطلب كثرة المصطلحات استعمالها في مواطن عديدة.
الظاهريات مليئة بعدد ضخم من المفاهيم والتصورات، فكيف يمكن تذكرها؟ يستحيل إبقاؤها في الذهن بكل دقيقاتها واختلافاتها المتشعبة، مع ذلك يسهل ردها إلى مفاهيم رئيسية، وتصورات مفاتيح، فترد التقسيمات الفرعية إلى التقسيمات الرئيسية، وترد التقسيمات إلى الأشياء المقسمة، والأشياء المقسمة إلى مصادرها، ودون ذلك، تظل الظاهريات أفكارا متناثرة، من الصعب تجميعها في منهج عام. (8) من التركيب إلى التحليل، ومن التحليل إلى التركيب
23
هذه القاعدة هي آخر صيغة لقاعدة من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل؛ إذ لا يمكن تحليل الجوانب المختلفة للظاهريات دون الحفاظ على اكتمال العلم، وإلا تشعبت الظاهريات إلى رياضيات ومنطق وعلم نفس وعلم اجتماع وفلسفة ... إلخ. إن مجموع العلم هو الذي يسمح بفهمه في أحد جوانبه، كما أن التحليل يسمح ببناء العلم في كل جوانبه، وإن تحليل الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة داخل الظاهريات يسمح بوضع قواعد المنهج الظاهرياتي المتكامل.
وإذا كانت الظاهريات استكشافا بطيئا وشاقا لمضامين الشعور والتعبير عنها بأسلوب دقيق فسيفسائي، فإن فهمها يتطلب الاتجاه المعاكس، وهو تجاوز الأسلوب لإدراك الشيء إدراكا مباشرا ثم التعبير عنه، وبتعبير آخر لا تتطلب قراءة الظاهريات التصاق الظاهرياتي شبه الكامل لدرجة التماهي بينه وبين النص، بل على العكس تتطلب بعض المسافة من أجل رؤية النص عن بعد، وتتبع النص كله عبارة عبارة، ولفظا لفظا، وحرفا حرفا، ونقطة نقطة، وفصلة فصلة وكأنه نص مقدس تجنبا للخطأ في الفهم والتأويل، نوع من حفريات الفكر الذي تريد الظاهريات الهرب منه،
24
تتطلب قراءة الظاهريات تطبيق منهجها الخاص؛ أي إدراك حدسي لمقاصدها دون المرور بإجراءات العقل والتفكيك.
المنهج الظاهرياتي منهج ينكشف تدريجيا خطوة خطوة، لا يعطى مسبقا مرة واحدة وإلى الأبد، بل يتشكل طبقا لمدى استكشاف ميدان الشعور،
25
وهو ما يدل عليه أسلوب التقطيع والتشريح،
26
فكل فصل أو قطع أو اجتزاء داخل التحليل يخرج جانبا من المنهج عن المنهج الكلي، ويسقط رؤية ساكنة للعقل على ديمومة حية، يفهم المنهج الظاهرياتي إذن بغايته وهدفه، وببواعثه وبقصديته،
27
المنهج الظاهرياتي تشييد رؤية كلية للعالم، وليست بحثا خاصا في ميدان محدد، صحيح من اللازم وجود مواد للبحث، ونقاط تطبيق، والدخول في التاريخ طبقا لمتطلبات التعليم الأكاديمي، ولكن المنهج الظاهرياتي دائما هو رؤية للعالم مستقلة عن مواد البحث ونقاط التطبيق وعن المحاضرات الجامعية. (9) من الأعمال المعاصرة إلى أعمال الظاهريات، ومن أعمال الظاهريات إلى الأعمال المعاصرة
28
والظاهريات، كما تم تحليلها من قبل، هي الحركة الفلسفية المعاصرة الأكثر إحكاما التي استطاعت أن تقدم شيئا إيجابيا، ومع ذلك، محاولاتها ومشاريعها وآمالها ليست حكرا عليها؛ فهي حركة فلسفية مثل باقي الحركات التي حاولت نفس الشيء مع نفس الدرجة من النجاح، أكثر أو أقل؛ فهناك أوثان مشتركة يتم الصراع ضدها: الصورية نتيجة المثالية الترنسندنتالية، والتجريبية ميراث الاتجاه الحسي القديم، والنزعة النفسية، وخلط العصر الحاضر، وفي مواجهة هؤلاء الأعداد نشأت حركات مشابهة في مناطق مختلفة في الحضارة الأوروبية لنفس الأسباب، ولمناهضة نفس العيوب، ولها نفس الأغراض.
29
وكان للظاهريات نجاح أكبر من الحركات الأخرى؛ لأن مصادرها ممتدة في مختلف مناطق الحضارة، تنشأ من المثالية الترنسندنتالية، النقدية أو المطلقة، وهي اكتمال لها، كما أنها مرتبطة بالكوجيتو في العصر الحديث، والظاهريات تحقيق لمشروعها من «الكوجيتو» إلى «الكوجيتوتوم»، من «الأنا أفكر» إلى «الأنا المفكر فيه»، كما أنها تبدأ بالتجربة كما أرادت النزعة التجريبية القديمة.
30
والظاهريات هي آخر مكسب للوعي الأوروبي، وليست مستقلة عن المكاسب المعاصرة الأخرى التي لها نفس رسالة الظاهريات؛ فالمنهج المقارن ضروري من أجل تأطير الظاهريات في التاريخ المعاصر، وانفتاحها على كل العلوم المشابهة، وهو ما يفيد الظاهريات خاصة فيما يتعلق بالمصطلحات، وأثقلت اللغة المستعملة كأداة للتعبير بالميراث المنطقي الرياضي، وهو ما كان غريبا على اللغة الفلسفية، وفي مقابل ذلك لم يكن للفلسفات المعاصرة هذا القلق في اللغة الاصطلاحية بالرغم من أنها كانت تعبر عن نفس حدوس الظاهريات،
31
وما تجده الظاهريات صعبا في التعبير نجده فلسفة أخرى مشابهة أسهل في التعبير وبلغة أكثر سهولة ويسرا، وتحليل الزمان كوعي داخلي أو ديمومة، وتحليل بواعث الخبرة الذاتية المشتركة وتقدم الوعي، وتحليل المعطى الحي أو الخبرة الذاتية تتبع نفس المتطلبات ضد الاتجاهات المشتركة المعارضة، بالرغم من الاختلافات الجزئية بين الجوانب المتعددة للظواهر موضوع التحليل.
وتستطيع الفلسفات المعاصرة أن تساعد على فهم الظاهريات؛ لأنها استطاعت أن تتجنب إلى حد ما عيوب التعبير في الظاهريات؛ فالحدس في فلسفة الحدس أوضح من الحدس في الظاهريات، والخبرة في البرجماتية أكثر وضوحا من الخبرة في الظاهريات، كما تستطيع الظاهريات أن تساعد على فهم أفضل للفلسفات المعاصرة تستطيع أن تحول فلسفة الحدس أو فلسفة الخبرة إلى منهج، وتستطيع أن تخلصها من بقايا النزعات النفسية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية؛ فالفهم المتبادل بين الظاهريات والفلسفات المعاصرة يساعد على فهم كل منهما بالآخر.
32 (10) من الحاجة إلى العمل، ومن العمل إلى الحاجة
33
ليس من الضروري أن يكون لكل كلمة ولكل عبارة معنى في النص الظاهرياتي؛ فالمعنى لا يخرج قسرا من النص بل إنه يعطي نفسه تلقائيا إلى شعور الظاهرياتي؛ ويعتمد فهم معنى النص دائما على حاجة المفسر وعلى النص الذي يستقبل فيه شعور الظاهرياتي انفعالا خالصا؛ فيتم التوقف عنده لتحليل انفعاله، ويكون هو معنى النص؛ فالمعنى علاقة متبادلة بين الشعور والنص، بين الذات والموضوع، بين الشعاع الخارج من الشعور إلى النص والشعاع المقابل الداخل من النص إلى الشعور.
يتم الفهم إذن طبقا لما يريد الشعور فهمه، الفهم مشروط بحاجات الشعور المفسر، لا يعطي النص معنى قسرا، بل إن النص نفسه هو الذي يرسب معناه من خلال قراءته، والشرح أسوأ فهم لأنه يريد طوعا أو قسرا إعطاء معنى لنص دون أن تدعو حاجة إلى ذلك.
ولا يأتي فهم لمعنى عبارة على نحو خارجي بل على نحو داخلي؛ فالفهم مشروط بالحاجة لفهم النص، يسد حاجة في الشعور المولع بالفهم رغبة في المعرفة، فإذا ما كان الشعور في مواجهة نص دون أي توجه مسبق تكون النتيجة مجرد تكرار، وهذا لا يمنع على الإطلاق من ضرورة وجود شعور محايد أمام النص، وأقل قدرة من اليقظة ضروري للفهم، ليس الشعور فارغا تماما أمام النص، إن مجرد الاهتمام بالنص الظاهرياتي يكفي لهذا الحد الأدنى ، ويكفي أن يغوص الباحث في أعماق ذاته كي يرى الأشياء نفسها التي يعبر النص عنها، وفي التطبيق ما يهم هو معرفة أين يوجد الخلط في أي علم إنساني، ثم البحث عن التمييز الجوهري في الظاهريات الذي يمكنه توضيح هذا الخلط، والخلط بين علوم الوقائع وعلوم الماهيات خلط شائع في كل العلوم، علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ، ويسود أيضا العلوم الدينية خاصة اللاهوت المتحدث الرسمي باسمها جميعا، وفي اللاهوت العقائدي هناك أيضا خلط بين التاريخ والعقيدة. وتقدم الظاهريات تمييزا بين الواقع والماهية، بين علم الوقائع وعلم الماهيات. العقيدة هي الماهية، والتاريخ هو الوقائع. من الضروري إذن وضع التاريخ كعلم وقائع بين قوسين حتى لا تبقى إلا العقائد كعلم للماهيات، تجد الظاهريات إذن تفسيرها في تطبيقها طبقا للحاجات. (11) من النهاية إلى البداية، ومن البداية إلى النهاية
34
ليست الظاهريات علما تم اكتشافه لأول وهلة، بل هي نتيجة لبحث طويل ينتهي باكتمالها كعلم مستقل للرياضيات والمنطق وعلم النفس بل والفلسفة في التاريخ التي تكون مصادرها الأولى، الظاهريات نفسها بعد اكتمالها تتطور من جديد نحو ميادين التطبيق، ثم تتطور بعد ذلك نحو البحوث الأخلاقية والاجتماعية والدينية كما تعبر عن ذلك المخطوطات؛ فالمقاصد العميقة للظاهريات توجد في النهاية؛ أي في البحوث الأخلاقية الدينية،
35
وفهم النهاية تلقي على نحو تراجعي ضوءا كثيرا على التطور السابق؛ فالفهم الاستباقي للبداية كبحث خالص يساعد على معرفة وحدة القصد في الظاهريات، والتفسير الزماني يمهد سلفا للتفسير البنيوي، فهم البداية يؤدي إلى النهاية في التطور التقدمي، وفهم النهاية يؤدي إلى البداية في الفهم التراجعي، والظاهريات هي هذا المنهج التقدمي التراجعي لتاريخ الوعي الأوروبي.
36
تفسر الظاهريات المكتملة في النهاية الظاهريات الناشئة في البداية، فهم النهاية بالبداية، وفهم البداية بالنهاية، كما هو الحال في تسلسل الأنبياء بين آدم والمسيح أو بين إبراهيم ومحمد، لقد تجلت الظاهريات أولا بأول، فلا تحتوي الأعمال الأولى على ظاهريات ضمنية بل على العكس، يمكن تفسيرها عن طريق فهم الأعمال الأخيرة، الظاهريات في مرحلتها الأخيرة تفسر مرحلتها الأولى، المنهج التراجعي هو وحده القادر على تفسير الظاهريات، والرؤية التقدمية وحدها تستطيع أن تعطيها معناها الدقيق، وفهم النهاية يساعد أكثر على فهم كل الوسائل المستخدمة للوصول إلى هذه النهاية. (12) من التاريخ إلى البنية، ومن البنية إلى التاريخ
37
الظاهريات تحقق للمثالية الألمانية واكتمال لها، وهي أيضا اكتمال للحقيقة وتجل نهائي لها، والتي طالما بحث عنها الوعي الأوروبي منذ العصور الحديثة، تعتبر نفسها علما مستقلا بذاته وعن التاريخ، وقد لعب التاريخ دورا في اكتمال الحقيقة في الظاهريات؛ ومن ثم يترك التفسير الزماني مكانه إلى التفسير البنيوي، المهم إذن هو عرض المنهج الظاهرياتي كحقيقة مكتملة بوحدة قصد كل عمل أو بوحدة قصد مجموع الأعمال، والمهم أيضا إيجاد تأويل للظاهريات طبقا لهذه القواعد. البنية بلا تاريخ فارغة، والتاريخ بلا نية أعمى، والتطور بلا اكتمال نزعة تاريخية، والاكتمال بلا تطور نزعة صورية. الحقيقة المطلقة تكتمل في التاريخ، والتاريخ تحقق لها. لا فرق إذن بين العقل والتاريخ؛ ففي كليهما تتكشف الحقيقة وتكتمل.
الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي
محاولات في الفهم، والتكوين، والتأويل
الفصل الأول: فهم الظاهريات1
كانت الدراسة التي تمت حتى الآن حول المنهج الظاهرياتي نقدية خالصة، ولم تتعد كشف حساب حالته الراهنة، وهذه الدراسة محاولة لفهم الظاهريات عن طريق تقديم مجموع مؤسسها في مخطط متسق،
2
وبعد ذلك يتم استنباط روح هذا المخطط من أجل تكوين منهج ظاهرياتي صالح للتطبيق،
3
وبعد ذلك يتم تأويل الظاهريات في العمق، وهو التأويل الديني والحضاري.
4
ومن الصعب للغاية إيجاد مخطط متسق لمجموع أعمال مؤسس الظاهريات نظرا لاستحالة التمييز بين الأعمال التي تعرض فيها الظاهريات كنظرية والأعمال الأخرى التي طبقت فيها الظاهريات في عدة ميادين؛
5
فالأعمال النظرية تكوين مكتمل لعدة نقاط تطبيقية خاصة،
6
وعادة ما تنتهي الأعمال التطبيقية بإعلان الظاهريات كحقيقة مكتملة في التاريخ؛ ومن ثم فإن تقسيم مجموع أعمال الظاهريات إلى أعمال نظرية وأخرى تطبيقية تقسيم غير ملائم؛ لأن النظرية مجموع تطبيقي، والتطبيق هو النظرية مكتملة.
وتقسيم أعمال مؤسس الظاهريات إلى أعمال منهجية وأخرى حضارية تقسيم أيضا ممكن؛ فقد عرض المنهج الظاهرياتي في ثلاثية «الأفكار»
Ideen ، ثم طبقت في «الأزمة». وعيب هذا المخطط هو أن الأعمال المنهجية تتضمن الأفكار الموجهة للمنهج الظاهرياتي، وأيضا غائية حالة في التاريخ عن طريق الإحالات إلى المذاهب والأنساق الفلسفية الموجودة سلفا في التاريخ.
ومن ثم يصعب التمييز في أعمال مؤسس الظاهريات بين الأعمال الحضارية بالمعنى الدقيق والأعمال الظاهراتية الخالصة؛ إذ يبدأ كل عمل بالحضارة وينتهي بالظاهريات حتى في ثلاثية «الأفكار» التي أعلن فيها عن اكتمال المنهج الظاهرياتي، والتمييز السابق بين الأعمال الظاهراتية في طريق الاكتمال والأعمال الظاهراتية أو الظاهريات المكتملة، والأعمال التي طبق فيها المنهج تمييز تعليمي خالص؛ فقد كانت مهمة «بحوث منطقية» تحويل المنطق إلى مثال أو معيار ضد النزعة النفسية كتيار حضاري، وكانت مهمة الجزء الثالث من «الأفكار» وضع الظاهريات بين علوم حضارية عديدة مثل علم النفس والأنطولوجيا، وغاية «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» هي إعادة بناء المنطق الصوري على مستوى ظاهرياتي؛ أي تحويل المسار الصوري إلى الداخل، وغاية «علم النفس الظاهرياتي» نفس الغاية، بيان انتهاء كل علم النفس كما ظهر في الحضارة في الظاهريات، وإذا رد التطور إلى البنية، و«الغاية» إلى «الفكرة»، ففي كل عمل في المنهج حضور «الفكرة» أكثر من حضور الغاية.
7
والبحث عن مخطط متسق يمكن أن يؤطر مجموع الأعمال لمؤسس الظاهريات يساعد على فهم مجموع هذه الأعمال، وبالرغم من صعوبة وجود مثل هذا المخطط لها ويكون دعامة لفهمها، فإن المحاولات السابقة للتمييز بين النظري والتطبيقي، والسكوني والحركي، والمنهجي والحضاري تقترح المخطط الآتي؛ المنهج الظاهرياتي نظرية في الذاتية وفي الذاتية المشتركة،
8
تمثل الذاتية بوجه عام النظري والسكوني والمنهجي، في حين تمثل الذاتية المشتركة العملي والحركي والحضاري، ولكل منهما بنية وتطور. وتمثل البنية أيضا النظري والسكوني والمنهجي، في حين يمثل التطور التطبيقي والحركي والحضاري.
9
ويبدو المنهج الظاهرياتي مباشرة في الذاتية كبنية وفي الذاتية المشتركة كتطور،
10
ويتجلى في الذاتية كتطور وفي الذاتية المشتركة كبنية،
11
ومن ثم يتكون المنهج الظاهرياتي على النحو الآتي:
ومن الصعب التمييز بين البنية والتطور، كل بنية تطور بنيوي، وكل تطور بنية تطورية في طريق والاكتمال، وتتحقق بنية الشعور في «الأفكار» تدريجيا، ويكشف تطور الوعي الأوروبي البنية العامة للذاتية المشتركة الترنسندنتالية، وإذا أمكن التمييز بسهولة بين البنية والتطور في الذاتية فإنهما لا يفترقان في الذاتية المشتركة.
أولا: الذاتية (الوعي الفردي)1
(1) بنية الذاتية
2
اكتشاف بنية الذاتية هو الفرض الرئيسي لكل التحليلات الظاهراتية. وسواء في الذاتية أو في الذاتية المشتركة، البنية هي الغاية الرئيسية للتطور؛ مما يؤدي إلى القول بأن الظاهريات هي فلسفة بنية أكثر منها فلسفة تطور، وتظهر بنية الذاتية بعد تطبيق حركتي المنهج الظاهرياتي؛ الرد والتكوين، بالاستعانة بالحركة الثالثة؛ منهج الإيضاح، ظلت الظاهريات سكونية أكثر منها حركية؛ لأنها تهتم بالبنية أكثر من اهتمامها بالتطور،
3
ومن المعروف في الظاهريات أن الغاية أحد جوانب الفكرة. (أ) بنية الرد (الأفكار)
4
وبالرغم من عدم اتساق الجزء الأول من «الأفكار»، وتردد القسمة العقلية، تستطيع المقدمة العامة للظاهريات الخالصة أن تقدم مخططا لبنية الشعور؛
5
صورة الشعور ومضمون الشعور في بنية صورية مادية .
6
صورة الشعور من جانب العقل، ومضمون الشعور من جانب الواقع. العقل له ظاهرياته، والواقع له معناه المادي؛ أي العلاقة بالموضوع، وبين الاثنين هناك مستويات للعموم، ومنطقة الشعور الخالص ممكنة بعد «الرد» لوضع الواقع الطبيعي «بين قوسين» وتكوين الشعور، ولا يكون ذلك ممكنا إلا بعد تمييز سابق بين علوم الوقائع وعلوم الماهيات.
7
والشعور نفسه منطقة في مركز منطقتين أخريين؛ منطقة الموجودات الحية (المتحركة) المكونة من الآخر، والذي يشارك في تحقيق الخبرة الذاتية المشتركة، ومنطقة الأشياء التي تكون العالم الطبيعي. وهذه المناطق الثلاثة ليست مستقلة بعضها عن البعض، والحقيقة هناك منطقة واحدة توجد في الواقع هي منطقة الشعور الخالص، والمنطقتان الأخريان موجودتان بالتضايف مع الشعور؛ فالآخر، أي العالم الإنساني، في علاقة تضايف مع الشعور الخالص. والعالم الطبيعي هو العالم الذي يوجد فيه الشعور كوجود في العالم، في الواقع لا يوجد إلا الشعور متسعا نحو العالمين الآخرين، العالم الإنساني والعالم الطبيعي، ويوجدان كعالمين وجدانيين داخل الشعور.
8
وتمتد هذه المناطق الثلاث بين قطبين؛ الماهية والواقعة، الأولى لمعرفة الماهيات ، والثانية لمعرفة الوقائع.
9
هذه الثنائية «الماهية-الواقعة» في صلب المخطط، وتأخذ أشكالا أخرى عديدة.
والوعي والواقع الطبيعي صورة أخرى للثنائية الأولى «الماهية-الواقعة».
10
ويتأكد الوعي بعد إخراج الواقع الطبيعي خارج دائرة الانتباه، ويبدو الشعور كمركز أولي في كل البحث، ويصبح منطقة خالصة في تجانس مع الوعي المطلق.
11
وتتألف البنية العامة للوعي الخالص من جزأين؛ صورة الشعور ومضمون الشعور، والعلاقة بينهما،
12
ويكونان مجموع مناهج الظاهريات الخالصة ومسائلها؛
13
فالشعور هو نسيج العالم.
والعقل والواقع مكونان آخران في المخطط،
14
وهي نفس الثنائية السابقة بين الماهية والواقعة أو بين الشعور والعالم الطبيعي، ثنائية العقل والواقع لها طابع منطقي؛ فالعالم يمتد في سلم العموم بين هذين القطبين، يوضع العالم الطبيعي أولا خارج دائرة الانتباه، وما يبقى هو معنى مضمون الشعور وعلاقته بالموضوع،
15
لم يعد المضمون موضوعا بل معنى، وبعد ذلك تبدأ ظاهريات العقل في البحث عن بداهة معنى المضمون.
16
وتكون إما بداهة ملائمة أو غير ملائمة، مباشرة أو غير مباشرة، أو تبريرا دون بداهة،
17
وأخيرا تصنف مستويات العموم من قضية العقل النظري مختلف الموضوعات في المناطق المطابقة للشعور.
18
وقد استخرج هذا المخطط من «الرد» في «الأفكار» (1). (ب) بنية التكوين «الأفكار» (2)
ويوجد مخطط مشابه تقريبا في «الأفكار» (2)؛ فالواقع أن «التكوين» طبقا للتفسير بالمجموع،
19
بنية ثلاثية للواقع: تكوين الطبيعة المادية، تكوين الطبيعة الحية، وتكوين عالم الروح.
20
وبتعبير آخر، بنية الواقع ثلاث دوائر متداخلة: المادة، والحياة، والروح.
ولكل جانب من الواقع بنية ثلاثية كذلك في درجات؛ الأولى الطبيعة المادية أي الطبيعة على العموم، والثانية تتخصص في المستويات الأنطولوجية لمعاني الأشياء المرئية، والثالثة تظهر من خلال إحساسات الجسد؛ فالطبيعة تمر تدريجا من الطبيعة الميتة إلى الطبيعة الحية من أجل التمهيد لتكوينها.
وتتكون الطبيعة الحية من ثلاث درجات؛ الأولى الطبيعة الحية، والثانية ظهورها من خلال الجسد، والثالثة تكوينها في الاستبطان. وهو تطور منطقي للتكوين، وهو نتيجة تكوين الجانب الأول للواقع، الطبيعة المادية، ما يدعو للدهشة هو ظهور الأنا الخالص في بداية تكوين الواقع الحي؛ إذ يكتمل تكوين الواقع الحي طبقا لمخطط رباعي؛ فالمخطط الثلاثي الموصوف سابقا مسبوق بظهور فجائي للأنا الخالص في بداية التكوين، وهنا يبرز سؤال: هل الأنا الخالص شرط مسبق لتكون الطبيعة الحية، بسبب ظهورها المباغت خارج أي سياق منطقي، أو إنها نتيجة للتكوين الذي يظهر أخيرا، والذي يمهد لقدوم تكوين عالم الروح؟ يدعم الافتراض الأول نظام المخطط الرباعي لتكوين الطبيعة الحية، بينما يدعم الافتراض الثاني الاستنتاج المنطقي.
وتكوين عالم الروح ثلاثي أيضا مستبدلا بلفظ «طبيعة» المستعمل في تكوين الجانبين الأوليين للواقع، المادي والحي، لفظ «عالم»، وهذا يبين الانقطاع الجذري بين الطبيعة المادية أو الحية من ناحية وعالم الروح من ناحية أخرى، ويبدو هذا الانقطاع على ثلاث درجات؛ الأولى: التعارض بين العالم الطبيعي والعالم الشخصي، والثانية: الباعث هو المحرك الأول في عالم الروح، والثالثة: الصدارة على العالم الطبيعي.
ومخطط بنية الشعور في «الأفكار» (2) تطابق بنية الشعور في «الأفكار» (1)، ولكن في الطريق العكسي؛ فإذا بدأ الجزء الثاني بالطبيعة المادية ثم الطبيعة الحية وأخيرا عالم الروح ، فإن الجزء الأول يبدأ بمنطقة الشعور الخالص ثم عالم الموجودات الحية (العالم الإنساني)، وأخيرا عالم الأشياء (العالم الطبيعي). (ج) بنية منهج الإيضاح «الأفكار» (3)
وبعد «الرد» و«التكوين» هناك أيضا «منهج الإيضاح». ودفعا للأشياء قليلا تحتوي «الأفكار» (3) على قسمة ثلاثية: الظاهريات، وعلم النفس، والأنطولوجيا. ويطابق هذا المخطط المخططين السابقين في «الأفكار» (1) و«الأفكار» (2). تطابق الظاهريات منطقة الشعور الخالص، ويطابق علم النفس منطقة عالم الموجودات الحية، وتطابق الأنطولوجيا عالم الأشياء.
ويكون الشيء والجسد والنفس ثلاث مناطق للواقع،
21
الشيء منطقة الطبيعة التي تظهر في الإدراك المادي وفي علم الطبيعة المادي، والجسد منطقة علم الجسد،
22
فإذا درس علم الجسد كشيء فإن علم النفس يدرسه كنفس، والظاهريات تدرسه كروح، كل منطقة من الواقع علم؛ الشيء للأنطولوجيا، والجسد لعلم النفس، والنفس للظاهريات.
ومهمة منهج الإيضاح إدراك العلاقة الصحيحة بين المناطق الثلاث المختلفة للواقع من ناحية والعلوم الخاصة بها داخل الحضارة، ويتحقق الإيضاح بالبحث عن البداهة الحدسية أو بالبحوث اللغوية من أجل وضع مناطق الواقع في مستوياتها الخاصة من العموم؛ التصور المنطقي الصوري والتصور المناطقي، والتصور المادي.
23
ويكون الإيضاح والتمييز أهم إجراءات المنهج، وينتهيان إلى أنواع المنطق الثلاثة؛ منطق القضايا الخالص، منطق الاستنتاج، ومنطق الحقيقة. الأول أشبه بالمنطق الرياضي، والثاني بالمنطق الاستنباطي، والثالث بالمنطق الاستقرائي.
24
أما «تأملات ديكارتية» فهو عمل يتماس مع العمل المنهجي «الأفكار»، والعمل الحضاري «الأزمة»، ويقدم عرضا بنيويا للظاهريات أكثر منه عرضا تاريخيا ربطا لها بالكوجيتو في العصور الحديثة. عرضت الظاهريات كمنهج مكتمل في ذاته وكحقيقة اكتملت في التاريخ، وتعلن بداية الوعي الأوروبي بالكوجيتو ونهايته فيها، تلخص «تأملات ديكارتية» بنية الذاتية، ويعني التوجه نحو الأنا الترنسندنتالي اكتشاف منطقة الشعور الخالص،
25
ويقدم ميدان الخبرة الترنسندنتالية تحليلا داخليا للشعور ذاته بين الحقيقة من جانب والواقع من جانب آخر،
26
وتطور التجربة الذاتية المشتركة بطريقة أخص عالم الموجودات الحية؛ أي العالم الإنساني.
27 (2) تطور الذاتية
28
يظهر تطور الذاتية أساسا في مجموع الأعمال المنطقية، وتتضمن «بحوث منطقية» حركة صاعدة من النزعة النفسية إلى المعطى الحي القصدي، ويشير «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» إلى معركة هابطة من الصوري إلى الترنسندنتالي، ومهمة «التجربة والحكم» تأسيس الحكم ابتداء من العالم ما قبل الحمل المنطقي؛ ومن ثم تكون الثلاثية المنطقية على النحو التالي:
ويبين هذا المخطط الصلة بين الأعمال المنطقية الثلاثة، للحركة الرأسية اتجاهان يدلان على الانتقال من الصوري إلى المادي، ومن المادي إلى الترنسندنتالي، وتؤدي إجراءات التمييز في الميدان الترنسندنتالي إلى بنية الشعور؛ أي إلى الذاتية الترنسندنتالية، وتبين الحركة الرأسية حضور الأنا الترنسندنتالي بين عالمين، عالم الصورة وعالم المادة، ولما كان المنهج الظاهرياتي منهجا ترنسندنتاليا فإنه ينزل الصورة الخالصة إلى الشعور ثم يصعد المادة إلى المضمون الحي، وتصبح الصورة الخالصة منطقة للشعور، تكون الأنطولوجيا الصورية، وتصبح المادة المضمون القصدي للشعور، وتخلق هذه الحركة المزدوجة النازلة والصاعدة وحدة الشعور في بنيته الصورية والمادية.
29 (أ) الحركة الصاعدة «بحوث منطقية»
30 «بحوث منطقية» كلها موجهة ضد الاتجاه الطبيعي في كل صوره ونظرياته، تظهر فيها الحركة الصاعدة من المادة نحو الصورة، ولما كانت الصورة قد أصبحت حالة في التحول من الصوري إلى الترنسندنتالي ، تتقابل الحركتان، النازلة كنقطة تطبيق للمنهج الظاهرياتي في «الأفكار»، والصاعدة أثناء نشأة الظاهريات، وبالرغم من أن «بحوث منطقية» كعنوان لا تقترح أي قاعدة محددة، فإن بحث المضمون سرعان ما يعطي واحدة، فضد النزعات الطبيعية والنفسية والأنثروبولوجية التي تبقى على المادة دون الصورة، تأخذ الظاهريات الموقف العكسي، الإبقاء على الصورة المستقلة عن المادة.
31
وللدلالة وحدة مثالية ضد علم اللسانيات المادي،
32
وللنوع وحدة مثالية ضد نظريات التجريد المعاصرة،
33
والكل ليس مجموع الأجزاء مرة ثانية ضد النزعة التجريبية والمنطقية النفسانية،
34
وقد تكون الدلالة مستقلة أو تابعة.
35
ومضمون الشعور ليس مجرد ظاهرة نفسية ولكن له بنية قصدية؛
36
من أجل الوصول في النهاية إلى الإيضاح الظاهرياتي للمعرفة.
37 (ب) الحركة النازلة «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي»
38
يشير العنوان «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» إلى هذه الحركة النازلة من الصورة الخالصة إلى الشعور الحي، كما يبين تحول المنطق الصوري إلى منطق شعوري، وتحول الموضوعية الصورية إلى موضوعية واقعية، العنوان إذن يشير سلفا إلى قاعدة في المنهج الظاهرياتي وهي التحول من الصوري إلى الترنسندنتالي.
وتدل الحركة النازلة على الانتقال من الصوري إلى الترنسندنتالي. وحرف العطف «و» في العنوان «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» تعني «إلى». والواقع أنه بعد تحليل بنيات ميدان المنطق الصوري الموضوعي يتم الانتقال من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي، وإذا كان المنطق الصوري قد انتقل من تحليل القضايا إلى الرياضيات الصورية حتى نظرية الأنساق الاستنباطية ونظرية الكثرة، فإن الظاهريات تمد هذا الانتقال إلى الأنطولوجيا الصورية؛
39
وبهذا المعنى ينتقل المنطق التقليدي من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي. (ج) التطور البنيوي (التجربة والحكم)
40
وقد حدث التقابل بين الحركتين، الصاعدة في «بحوث منطقية»، من النزعة النفسية حتى المعطى الحي القصدي، والنازلة في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» في الشعور الترنسندنتالي الذي يفرض منطقه في «التجربة والحكم». الحركتان السابقتان هما إذن حركتان للتطهير ولإعداد المنطق الترنسندنتالي بالمعنى الدقيق، وهو المتجذر في التجربة السابقة على الحمل المنطقي القابلة، قبل أي صياغة لفكر حملي منطقي من أجل موضوعية الذهن الذي يسمح بعد ذلك بتكوين الموضوعية العامة وإصدار أحكام عامة.
41
ثانيا: الذاتية المشتركة (الوعي الجمعي-الأوروبي)1
تأتي الذاتية المشتركة بعد الذاتية، فالآخر طرف للأنا،
2
وبتكرار هذه التجربة المشتركة بين الشعور وأطرافه تصبح الذاتية المشتركة مجموع تجارب جماعة إنسانية معينة مرادفة لتاريخها.
وللذاتية المشتركة معنيان؛ الأول معنى معرفي خالص أقرب إلى التجربة الذاتية المشتركة أو المعرفة الذاتية المشتركة أو العلاقة بين الذوات، عندما يشارك الآخر في نفس تجربة الذات، وينتهي إلى نفس النتيجة، ويكون هذا الاشتراك أي التطابق بين تجربة الذات وتجربة الآخر أحد معاني الموضوعية، تطابق تجربة الأنا مع تجربة الآخر، وليس المعنى الاستنباطي الرياضي، تطابق النتائج مع المقدمات أو المعنى الاستقرائي العلمي، تطابق الفرض مع التجربة كي يصبح قانونا؛ فالتطابق الرياضي المنطقي صوري، والتطابق التجريبي العملي مادي، وتحول كلاهما من قبل إلى ترنسندنتالي في المجموعة المنطقية «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» و«بحوث منطقية» و«التجربة والحكم»، وهو المعنى الذي ورد في «تأملات ديكارتية»، التأمل الخامس، واستمر لدى الوجوديين كعلاقة بين الذوات ، بين المعرفة والوجود، خاصة علاقات المحبة والكراهية، والوحدة والمفارقة.
والمعنى الثاني هو المعنى الحضاري، عندما تتحول الذاتية المشتركة إلى خبرات جماعية متراكمة عبر التاريخ، وتصبح حضارة؛ أي شعورا جماعيا له أيضا تطوره وبناؤه، المعنى المعرفي الأول خارج التاريخ، فالواقع بين قوسين إنما يتم فقط في «الشعور الداخلي بالزمان» وليس في «المكان»، في حين أن المعنى الحضاري في الزمان والمكان، ليسا بالمعنى الطبيعي؛ فالتاريخ بمعنى النزعة التاريخية أيضا بين قوسين، ولكن بمعنى الخبرات الجمعية المتراكمة عبر التاريخ، ثم استقلت عنه، وهو المعنى المقصود في المجموعة الحضارية خاصة «أزمة العلوم الأوروبية»، وقبلها «الفلسفة كعلم محكم»، «الفلسفة الأولى» (جزءان)، «علم النفس الظاهرياتي».
وإذا كانت الذاتية تمثل المحور الرأسي في الذاتية فإن الذاتية المشتركة تمثل المحور الأفقي؛ أي التاريخ، وهنا تتحول الظاهريات من فلسفة ترنسندنتالية إلى فلسفة في التاريخ، والواقع أن للذاتية المشتركة الترنسندنتالية دورا معرفيا في مشاركة تجربة الأنا مع الغير، ومع ذلك فإن لها دورا آخر في الاكتشاف التدريجي للظاهريات في تطور الحضارة وهي في طريقها إلى اكتمال الحقيقة، وإذا اتجهت الذاتية في حركة رأسية ذات اتجاهين، من الصوري إلى الترنسندنتالي، ومن المادي إلى الترنسندنتالي، فإن الذاتية المشتركة تتجه أيضا في حركة أفقية ذات اتجاهين كذلك، تقدمي وتراجعي، إلى الأمام وإلى الخلف؛ للاستبصار؛ أي قراءة الحاضر في المستقبل والمستقبل في الحاضر، وللاسترجاع؛ أي قراءة الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر.
3
وتظهر هذه الحركة التقدمية في دراسة البواعث التاريخية في نشأة الحضارة وتطورها، والباعث بالأصالة هو مشروع العلم الشامل الذي طالما كان موضوعا للبحث، حركة التاريخ حركة غائية؛
4
إذ تكشف الذاتية المشتركة الترنسندنتالية تدريجيا أحد جوانب هذا العلم الشامل حتى تحققه الأخير.
5
وتظهر الحركة التراجعية في التفسير التراجعي للمذاهب الفلسفية السابقة وكأنها كانت في بحث مستمر، شعوري أو لا شعوري، عن الظاهريات؛ لذلك عرضت كل فلسفة في ذاتها ثم أدخلت في إطار غائية التاريخ،
6
وأحيانا يكون عرض الفلسفة مستقلا محايدا، وأحيانا أخرى يكون متضمنا ومقروءا في الظاهريات، وأحيانا يكون العرض التاريخي، باعتباره الإلهام الضمني لكل فلسفة مع الفلسفة السابقة، وأحيانا أخرى مع الفلسفة اللاحقة.
7
وبتعبير آخر ليس تاريخ الفلسفة مجرد تاريخ المذاهب والنظريات المتجاورة، بل يهدف إلى التعرف على المشروع الحال في كل الفلسفات السابقة؛ فتاريخ الفلسفة لا يدونه المؤرخ بل الفيلسوف.
ومن الصعب في الذاتية المشتركة التمييز بين البنية والتطور كما هو الحال في الذاتية، كما أنه من الصعب إيجاد مخطط للاثنين؛ فالذاتية المشتركة ما زالت على مستوى التدوين وليس التقنين، كما أن بنية الوعي الأوروبي بنية تاريخية، نشأت في التاريخ، ثم تكلست، وأصبحت بنية لا يمكن فهمها إلا بعد تفكيكها والعودة إلى التاريخ وإرجاعها إليه، البنية هي اكتمال التاريخ، والتاريخ هو تحقيق البنية. ومع ذلك، وبمزيد من الإحكام، يمكن إيجاد مخطط لبنية الوعي الأوروبي وتطوره باعتباره نموذجا متميزا للذاتية المشتركة، يمكن إيجاد مخطط واحد يصور البنية والتاريخ في وقت واحد. ولما كان نموذج الذاتية المشتركة هو الوعي الأوروبي، فإن وصف بنيتها وتطورها هو في نفس الوقت وصف بنية الوعي الأوروبي وتطوره.
8
يمكن رؤية البنية عبر التاريخ، وهي بنية ثلاثية، تتمثل في اتجاهات ثلاثة تخرج من الذاتية، اتجاه إلى أعلى نحو الصورية والتجريد مثل معظم الفلسفات المثالية والأفلاطونية، نموذجها الفريد والدائم، واتجاه آخر إلى أسفل نحو المادية والتجريبية والحسية، والوضعية نموذجها المعاصر، واتجاه ثالث إلى الأمام أو إلى الداخل نحو النفس وتمثله كل فلسفات الحياة والوجود، والظاهريات نموذجها المكتمل،
9
يتجه النظر إلى «السماء» أو إلى «الأرض» أو إلى «النفس» أو «القلب». الأول هو اتجاه المفارقة، والثاني اتجاه الحلول، والثالث هو الاتجاه الترنسندنتالي. الأول يقوم على الفصل، والثاني على الخلط، والثالث على التمييز. (1) بنية الوعي الأوروبي (البنية-المصدر)
10
لما صعب تمييز بنية الوعي الأوروبي عن تطوره، لأن البنية بنت التطور ومن صنعه، فإنه يمكن عرض البنية من داخل التطور، واعتبار المصادر على أنها البنية في مرحلتها الأولى اليونانية المسيحية أو القديمة والوسطى قبل تكشفها من جديد في العصور الحديثة؛ ومن ثم تكون البنية المصدر أو المصدر البنية، ونظرا لتراكم المعارف الحديثة، وبلوغ الوعي الأوروبي مركز الصدارة في العصور الحديثة، وهو ما عرف فيما بعد باسم «المركزية الأوروبية»، فقد تضخم التطور على حساب البنية-المصدر، وأصبح للخمسة قرون الأخيرة في الوعي الأوروبي الأولوية على الخمسة عشر قرنا الأولى.
11
وتتعادل المرحلة الثالثة مع الحديثة، المرحلتان الأولى والثانية، القديمة والوسطى، ويتشعب المصدر إلى ثلاثة: المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها. أما التطور، وهو أيضا البنية-التطور، فقد امتد من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، من ديكارت إلى هوسرل، من الكوجيتو إلى «الكوجيتاتوم»، من «الأنا أفكر» إلى «الأنا موجود»، وما بينهما انبعاج في مسار الحضارة الأوروبية بين الأعلى والأدنى، بين الصورية والمادية، انفراج من «الأنا أفكر» وضم في «الأنا موجود».
12
ولا تعتبر مصادر الوعي الأوروبي حضارة مستقلة بل مرحلة فيه، ممثلة للإنسانية جمعاء؛ فكل حضارة تعتبر نفسها حضارة مركزية لها قوة جذب كنموذج لغيرها في الشرق والغرب على السواء،
13
فكانت حضارة الصين، والهند، وفارس، وما بين النهرين، ومصر القديمة، وكنعان، وأخيرا اليونان حضارات جذب للحضارتين الآسيوية والأوروبية ثم الحضارة العربية الإسلامية، قبل أن ينتقل المسار إلى الحضارة الأوروبية الحديثة.
والإحالة في الظاهريات إلى مصادر الوعي الأوروبي قليلة إلى حد ما، وكان ذلك طبيعيا لأن الظاهريات تتحدد بالنسبة إلى عصر النهضة وليس بالنسبة إلى العصر المدرسي، ويحلل المصدر اليوناني الروماني نسبيا، في حين أن المصدر اليهودي المسيحي غائب تماما على الأقل في الإحالات المباشرة، وإن ذكر فإنه يكون منقطعا عن المصادر البيئية الأولى للوحي، والبيئة الأوروبية نفسها وظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية لا وجود لها، وكان الوعي الأوروبي وعيا مثاليا بلا تاريخ، ومع ذلك تكفي الإحالات القليلة للمصادر لتبين إلى أي حد يعتبر الوعي الأوروبي نموذجا مثاليا كاملا، وإلى أي حد يكشف عن مصادره الأوروبية أو غير الأوروبية (الأفريقية الآسيوية) ضد مؤامرة الصمت عليها حتى يبدو وكأنه خلق عبقري على غير منوال. (أ) المصدر
ويشمل ثلاثة مصادر: المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها. (أ-أ) المصدر اليوناني الروماني
14
وقد استعمل المصدر اليوناني أكثر من المصدر الروماني طبقا للوهم الشائع أن اليونان هم أهل «اللوجوس»، والرومان هم أهل «الليجوس»؛ أي القانون،
15
والظاهريات هي اكتمال اللوجوس.
16
صحيح أنه من الصعب الحديث عن الحضارة الرومانية لأنها إعادة قراءة للفلسفة اليونانية، ومع ذلك من الصحيح أيضا أن لكل حضارة بؤرة اهتمام مخالفة للأخرى؛ فإذا كانت الحضارة اليونانية تبحث عن «الفكرة»، والتي اشتقت منها الظاهريات «الرد النظري»، فإن الحضارة الرومانية أعطت القانون.
وتمثل الفلسفة اليونانية المصدر اليوناني بالأصالة، أما الأساطير اليونانية والأدب اليوناني والعمارة اليونانية والعلم اليوناني، فكان كل ذلك غائبا، وظهرت الفلسفة اليونانية في كل أشكالها؛ فلسفة الحياة (سقراط)، فلسفة العقل (أفلاطون)، فلسفة المادة (أرسطو). وبتعبير آخر استنفدت الفلسفة اليونانية الأنواع الثلاثة الممكنة للفلسفة في أي حضارة، هذه الفلسفات الثلاث هي التي ظهرت فيما بعد في الوعي الأوروبي كفلسفة وجود، وفلسفة روح، وفلسفة طبيعة، بصرف النظر عن البداية والوسط والنهاية، بدأت الفلسفة اليونانية بالوجود عند سقراط، ثم بالروح من أفلاطون، ثم بالطبيعة عند أرسطو. وبدأت العصور الحديثة بالعقل عند ديكارت وكانط وهيجل، ثم بالطبيعة عند ماركس والوضعية، ثم بالوجود عند فلاسفة الوجود. فما ظهر في البداية عند اليونان ظهر في النهاية في العصور الحديثة، وما ظهر في النهاية في العصور الحديثة ظهر في البداية عند اليونان.
17 (أ-أ-أ) فلسفة الحياة
ولم يذكر مؤسس الفلسفة اليونانية، سقراط، إلا نادرا، واعتبره إصلاحيا للحياة العملية ضد شك السوفسطائيين دون أن يستطيع أن يضع المسألة على مستوى العلم النظري، كانت تأملاته تدور حول المسألة العقلية، ومع ذلك كان منهجه منهج الإيضاح معتمدا على البداهة.
18
وتحول حوار الأستاذ سقراط بعد ذلك إلى جدل عند تلميذه أفلاطون، ثم إلى منطق عند تلميذه أرسطو،
19
وفسر منهج الإيضاح كحدس للماهيات.
20
انحرف طريق سقراط لأنه لم يهتم بالنظرية؛
21
أخذ الطريق العملي، وعارض البداهة بالغموض لغاية عملية خالصة، واعترف بضرورة وجود علم شامل كنقد حدسي وقبلي للعقل، مرتبط بمنهج وعي بالبداهة كمصدر لشرعية التعريف، وقد أعطى هذا المنهج ثماره في تحويل الحياة العملية والظواهر الخلقية إلى قواعد صورية، ومع ذلك لم تتحول هذه البنية النظرية إلى منهج، بل تحققت فيما بعد على نحو كامل في نظرية «المثل».
22
وتعزى فكرة علم حقيقي لسقراط وأفلاطون،
23
والقيمة الوحيدة لهذه الفلسفة الخلقية هو التأكيد على موضوعية القيمة ضد الشك السوفسطائي، والتي ستصبح فيما بعد موضوعية العلم العقلي.
24
وإذا كان الطريق السقراطي لم يبلغ بعد درجة العلم العقلي الخالص إلا أنه استمر كأكثر النماذج كمالا في فلسفة الوجود القديمة، وفي كل مرة يئن الإنسان فيه تحت ثقل العلوم التي وضعها يظهر الطريق السقراطي ليرد إلى الإنسان اعتباره كذات وليس كموضوع؛ فالذاتية في فلسفة الوجود والديمومة في فلسفة الحدس كان نموذجهما فلسفة الوجود في العصر القديم الذي كان يمثله الطريق السقراطي.
25 (أ-أ-ب) فلسفة العقل
26
وتمثل نظرية «المثل» فلسفة العقل في العصر القديم، وهو أول عنصر في فلسفة العلوم، وتمثل التمييزات بين الحسي والعقلي، والمادي والصوري، والعملي والنظري، الأسس الأولى لنظرية خالصة في العلم؛ بل إنه في ميدان الأفكار هناك تمييز بين فكرة الأفكار ومجموع الأفكار، وهو ما يقترب من النظريات الرياضية الحديثة في الكثرة والمجموعات.
27
وقد أطلق اسم «أفلاطوني» على كل حركة في العصور الحديثة مع لفظ منطقي، وفي مواجهة النزعة النفسية، فكان لوجود الأفكار والماهيات المستقلة نموذجها السابق في «الأفلاطونية»،
28
وقد اعتبرت النزعة التجريبية نزعة أفلاطونية مضادة،
29
ووضعت الموضوعات المثالية في ميدان «أفلاطوني» واسع،
30
وقد ترك العلم الحديث نموذج العلم الصحيح الذي بدأه أفلاطون في العصر القديم،
31
وسميت كل حركة مثالية في الوعي الأوروبي «أفلاطونية»،
32
ولم تكن فقط في العصور الحديثة، بل استمرت في كل لحظة تسود فيها نزعات وشك والنسبية،
33
كان اللجوء إلى الروح الأفلاطونية هو الضامن لكل عقلانية تقنية،
34
في حين كان شعار النسبية في العصر القديم «الإنسان معيار كل شيء».
35
وبمنهج تراجعي، أي قراءة الحاضر في الماضي، فسرت نظرية العلم في العصر القديم كنظرية قبلية خاصة بفكرة العلم، والتي تقوم على حدس نظري خلاق،
36
وتستمر العقلانية اليونانية التي تعطي الفكرة للعصور الحديثة في تفسيرها الجديد طبقا لحاجات الوعي الأوروبي ومقتضياته.
37
ويمكن الإمساك بالفكرة عن طريق الجدل باعتباره بداية لا تنسى للمنطق كنظرية في العلم،
38
وهو إعادة قراءة للحوار عند أستاذه سقراط ووضعه على مستوى النظرية الخالصة، وقد تم التمييز بين الفلسفة الأولى كمنهجية شاملة، وهي الجدل، والفلسفة الثانية، وهي العلوم الفلسفية العملية.
39
كان الجدل أول منهجية ذاتية تخلصت من الجانب التجريبي ليصبح بعد ذلك هندسة خالصة أو حسابا خالصا،
40
وكان أول محاولة لنظرية في العلم ضد السوفسطائيين.
41
استطاع المنهج في العصر القديم أن يصل إلى الفكرة أو الذاتية، وهي الاكتشاف الأصيل في العصور الحديثة، ولكن لم تصل إلى درجة العقلانية كما كان الحال في العصر القديم،
42
ومع ذلك كان اكتشاف الذاتية أول تحقيق لقصد نظرية العلم في العصر القديم،
43
وكانت «الروح ذات الريش» تشير إلى البحث عن رؤية ترنسندنتالية،
44
فتحولت الأسطورة «الميثوس» إلى عقل «لوجوس»، والخيال إلى علم، والصورة إلى فكرة، والمجاز إلى حقيقة.
وتكرر وضع الحضارة اليونانية في الوعي الأوروبي، وتصدى المنطق الخالص لشك السوفسطائيين، تكرر نفس الشيء من جديد في العصور الحديثة؛ ففكرة علم أصيل في الكوجيتو هي نفس الفكرة الأفلاطونية القديمة،
45
ومع شك السوفسطائية التي تضع فكرة العقل موضع الشك عرفت الفلسفة اليونانية انقطاعا نسبيا، وتكرر نفس الموقف في حركتي الحضارة، العقلانية ضد الشك؛ ومن ثم فإن معركة العصر الحديث ضد النزعات الطبيعة والتجريبية النفسية هي عود إلى الفكرة-المشروع للعصر القديم.
46
وكانت للنزعتين الطبيعية والنفسية نماذجهما القديمة في فلسفة ما بعد أفلاطون،
47
والنزعة التجريبية في العصر الحديث عمياء أمام فكرة قانون مثالي بالمعنى الأفلاطوني.
48
وتستأنف الظاهريات نظرية العلم في العصر القديم، وبالإضافة إلى نظرية «المثل» استعيد علم النفس القديم كذلك،
49
وتم تفسيره باعتباره خطاب النفس لذاتها؛ أي باعتباره توجها للأفكار؛
50
فعلم النفس القديم بناء على تفسير تراجعي ليس بعيدا عن الفكرة؛ لأن علم النفس القصدي علم الفكرة.
51
كانت العقلانية القديمة مرتبطة أيضا بعلم النفس العقلي الذي كان يتميز بأنه لم يكن علم نفس تجريبيا؛ فالتجربة في نظرية «المثل» مجرد اعتقاد، هي قصد يتم ملؤه كل يوم؛
52
ومن ثم تأخذ التجربة مكانها في الظاهريات كمصدر للملأ، وفي العصر القديم وضع الإنسان من حيث هو إنسان في المجتمع؛ مما يؤذن بالتجربة المشتركة في الظاهريات،
53
كان الإنسان منتظما في العالم الموضوعي.
54
ولو كان للتجربة المشتركة القديمة طابع اجتماعي، فإن للتجربة المشتركة الترنسندنتالية طابعا معرفيا خالصا.
ومع ذلك تصحح الظاهريات المواقف وتكملها؛ فالواقعة الأفلاطونية التي تعزو إلى الماهيات وجودا واقعيا أي طبيعيا تناقض؛ فهناك فرق بين الموضوع الشعوري والموضوع الطبيعي، بين الواقع كبعد للشعور والواقعة الطبيعية،
55
والواقعة الأفلاطونية اعتمادا على المذهب الاسمي القديم، الجذري أو التصوري، افتراض ميتافيزيقي يثبت وجودا واقعيا للنوع خارج الفكر،
56
في مواجهة هذا الافتراض ينشأ افتراض نفسي آخر يثبت وجودا فعليا للنوع في الفكر،
57
وخوفا من الأفلاطونية فإن الافتراضين السابقين لم يدركا أهمية الجانب النظري فيها.
58
وبسبب الروح الجذرية لتأسيس منطق، لم تستطع نظرية العلم أن تنفذ إلى البدايات وإلى المناهج الضرورية،
59
كانت مرتبطة بالمقتضيات الأسطورية العملية، وليس بالمطالب النظرية بالمعنى الدقيق، كانت الفلسفة مجرد دهشة أكثر منها بحثا نظريا عن الحقيقة.
60
ورسالة الظاهريات التاريخية هي إعطاء مضمون تطوري للفلسفة الأولى، وللفلسفة الأوروبية جذورها في فكرة العلم الحقيقي الصحيح،
61
وتصبح الظاهريات فكرة فلسفية مصاغة في الفلسفة الأوروبية طبقا للعقلانية القديمة،
62
كانت الفلسفة كعلم دقيق ثورة سقراطية أفلاطونية في الفلسفة ورد فعل على الفلسفة المدرسية قبل بدايات العصور الحديثة.
63 (أ-أ-ج) فلسفة المادة
64
وقد عرضت لأول مرة نظرية نسقية للعلوم المنطقية والأخلاقية والسياسية في العصر القديم،
65
كان العمل الرئيسي هو تأسيس المنطق الصوري، وبوجه خاص نظرية القضايا (القياس).
66
وبالرغم من تفضيل نظرية العقل على نظرية المادة، فإن منطق النظرية الأولى هو أول يقظة فكرية في التاريخ،
67
ويعتبر التحليل في المنطق الصوري أول تجل لمنطق التكوينات النظرية، كانت أول مرة تبرز فيها فكرة الشكل في ميدان القضايا، وبالإضافة إلى الشكل ظهرت أيضا مقولات الواقع في ألفاظ متغيرة،
68
هذه السمة الصورية هي التي كانت توجه المنطق في العصور الحديثة.
69
ومع ذلك، كان للمنطق الصوري حدوده، كان «الأورجانون» بدايات تفكير ذاتي لعلم مثالي.
70
هو مجرد منطق للتطابق أو التناقض، موضوعاته الرئيسية: التطابق، عدم التطابق، والتكيف، كان ينقصه التمييز بين عملية الحدس كبرهان والتمييز التحليلي، المنطق الصوري مجرد الأساس الحامل لمنطق الحقيقة،
71
ولا يصبح المنطق علما إلا بعد ظهور «الرياضيات الشاملة».
72
كانت نظرية فيثاغورس حالة سابقة جيدة،
73
وكانت نقطة أرشميدس كذلك أيضا،
74
وكان هذا الربط بين المنطق والرياضيات من بين المكاسب التي تعتز بها العصور الحديثة، وعلى هذا النحو تحرر المنطق الصوري من الفلسفة المدرسية، ولم يعد علما مغلقا مثل المنطق الأرسطي المدرسي، وهو ليس أكثر من تصنيف لأشكال للقياس،
75
كانت حدوده ضيقة للغاية،
76
المنطق الخالص إذن ليس بعثا للمنطق الأرسطي المدرسي بل استمرار لروح عصر النهضة،
77
لا تعادل سذاجة المنطق الأول عظمة المنطق الثاني.
78
لقد تكبل المنطق بسلاسل من القضايا، ترد كل منها إلى الأخرى،
79
في حين استطاع المنطق الحديث الوصول إلى اللانهائي ذاته، ومع ذلك، إن البحوث اللغوية في المنطق الصوري أكثر تقدما فيما يتعلق بالنقاش حول تفسير الأشكال النحوية الخاصة للتعبير عن أفعال لا يمكن موضعتها.
80
يرفض المنطق الصوري التوحيد بين القضية والمنطوق، الأولى تشير إلى شيء خاص، ويمكن وصفها بالصواب أو الخطأ، بينما لا تثبت الثانية شيئا، وطبقا لهذا التمييز ترى الظاهريات في الشكل النحوي للقضية-المنطوق تعبيرا عن الحكم من حيث هو كذلك. إن التعبيرات المزعومة للأفعال التي لا تموضع هي تخصيصات مهمة للغاية في العمل خاصة في التواصل، ولكنها في مواضع أخرى هي ممكنة أو منطوق أو تعبيرات أخرى ل «أفعال تموضع».
81
وكالعادة تستأنف الظاهريات مساهمة القدماء وإعطاءها شكلا جديدا، ويستخدم التمييز بين النوع والجنس في المنطق الصوري كمنهج للتمييز بين «الفرعي» و«المستغرق» للوصول إلى أعلى درجة من الصورية،
82
واللجوء دائما إلى الشكل من أجل رد كل مضمون مادي يكون ماهية المنهج الظاهرياتي،
83
وإذا أمكن اكتشاف الأنطولوجيا الواقعية عند القدماء عن طريق خلق منطق صوري، فإن الأنطولوجيا الصورية ما زالت تنقصه،
84
وقد تم توسيع مبحث القضايا من أجل تصور مناطقي للأنطولوجيا الشاملة،
85
وبلغت نظرية الوجود عند القدماء الذروة في اللاهوت؛ وهو ما منعها من أن تصبح أنطولوجيا صورية كعلم شامل.
86
وقد أخذت بعض تصورات فلسفة الطبيعة في أكثر معانيها عمومية، وذلك مثل تصور الحركة؛
87
فقد تطورت بعض البحوث اللغوية لوقت طويل، وتم التعبير عنها بألفاظ جديدة، مثل: «المقولات المتزامنة»، وهي نوع من الكلمات منفصلة عن التأويل،
88
واستخدمت بعض أنماط التعبير، مثل: «الأول في ذاته» لو كانت خارج كل نقد.
89
ولم تكن الفلسفة الأولى إلا هذه الفروض لفلسفة الوجود حول نظرية المعرفة،
90
كانت مرادفة للميتافيزيقا، والتي لم تكن قد أصبحت صورية بعد،
91
في فلسفة الوجود بدأت النزعة الطبيعية في الظهور،
92
وبدأ اختفاء النزعة الجذرية في النزعة النفسانية السائدة سواء في المنطق أو في الأخلاق، ولم يكن بالإمكان هزيمة الشك القديم.
93
كانت نظرية المثل هي ذروة الحضارة اليونانية على حساب اتجاه آخر وهي فلسفة الوجود، واستعير «هذا المشار إليه» من فلسفة الوجود للتعبير عن فردية الماهية، ومن ثم ساهمت الفلسفتان القديمتان في إعطاء نموذج للظاهريات، واعتبر أيضا علم النفس القديم كمنطق وعلم عقلي، كانت محاولات أولى لتأسيس علم شامل للذاتية،
94
ومع ذلك لم تكتشف الذاتية بالمعنى الدقيق إلا في العصور الحديثة. (أ-أ-د) اكتمال الفلسفة اليونانية
95
ليست فكرة العلم الخالص فقط جزءا من الفلسفة اليونانية، ولكنها التعبير الأكمل عن حضارتها؛ فالفلسفة روح الحضارة، وفكرة العلم ذروة الفلسفة؛ ومن ثم الغاية القصوى للحضارة،
96
وأول اتجاه في الفلسفة الأوروبية يأتي من هذا المشروع القديم، فقد تبلور الجدل الأفلاطوني في التحليل الأرسطي، وأصبح نظرية نسقية في هندسة إقليدس؛
97
ومن ثم يمكن تحليل الحضارة اليونانية من خلال وحدة قصدها، وعادة ما تؤخذ فلسفة الروح وفلسفة الوجود كبحث حول التكوين المثالي؛ أي حول مشكلة ضرورة علم للفكرة،
98
وقد وجدت الفلسفة الحضارية لأول مرة في الفلسفة اليونانية.
99
كانت نظرية العلم عند القدماء أول محاولة لتشكيل علم شامل،
100
وكانت تمثل العلم العقلي الموضوعي والشامل، وكانت تعادل تقريبا الحقيقة ذاتها، وتصبح فيما بعد نموذجا لعقلانية العصور الحديثة .
والفلسفة بعد أفلاطون فلسفة رياضية،
101
فكتاب «المبادئ» للهندسة لإقليدس هو أول محاولة لوضع الرياضيات التقليدية في نسق يتجه نحو الصورية،
102
الهندسة «الإقليدية» نظرية في المكان، ويعطى طابعها الاستنباطي درجة عالية في الصورية،
103
ومنذ العصر القديم ظل النموذج «الإقليدي» قائما، ووجد تحققه في النظرية الحديثة للكثرة،
104
الهندسة «الإقليدية» معجزة حقيقية في عالم العقلانية؛
105
فهي إحدى أصول العلوم الرياضية الطبيعية مع علم الفلك النظري.
106
وبفضل منهجها الذي لا يمكن مقاومته، والذي كان يدفع إلى خطوات جديدة، فقد أيقظت مملكة المعرفة في قيمتها ولانهائيتها.
107
كانت الهندسة في بداية العصور الحديثة ضمن العلوم العقلية للطبيعة، وكان لها نموذجها في العصر القديم في تطبيقها الخصب في الفيزيقا،
108
كانت ذات نزعة أفلاطونية، وهي أول صورة لعلم الطبيعة الدقيق.
109
وتبلغ فلسفة الوجود الذروة في إثبات اللاوجود كنمط للوجود؛ فالظواهر ليست هي النمط الوحيد للوجود، فضلا عن أنها تعطي قيمة مطلقة للذهن ضد الشك،
110
ولأول مرة يسير فكر الوجود في اتجاهين.
111
وفي «فكرة حضارة فلسفية»، كانت السمة الرئيسية في العلم اليوناني هي الفلسفة كاهتمام نظري خالص للبحث عن الحقيقة،
112
وظلت هذه السمة في البحث عن الحقيقة في الوعي الأوروبي.
فكرة العلم إذن هي ذروة الحضارة اليونانية قبل أن تنهار، ومع ذلك لم تعط نظرية العلم نتائجها المرجوة، تحولت إلى علوم خاصة، وتركت المشروع الأول؛
113
لذلك كتب تاريخ الفلسفة اليونانية ونظرية العلم في ذروته، مهدت له الفترة السابقة، ولكن لم تحافظ عليه الفترة اللاحقة، يمكن إذن تمثيل تطور الحضارة اليونانية بمنحنى «جاوس».
وعرفت نظرية العلم، ذروة الحضارة اليونانية، لحظات انهيار في الشك والاتجاه الطبيعي والنزعة العملية، يمثل السوفسطائيون الاتجاه الأول، وفلاسفة الطبيعة الاتجاه الثاني، والمدارس الأخلاقية في نهاية الحضارة اليونانية الاتجاه الثالث.
أولا:
لم يكن الجدل السوفسطائي جدلا إيجابيا بل كان جدلا سلبيا، لم يؤكد وحدة الفكر والوجود، بل أنكر قيمة الذهن بإثبات وجود العدم؛ فالعدم مصدر الحقيقة.
114
الذاتية جوهر الشك.
115
والمعرفة غير ممكنة إلا من خلال التجربة، والمعرفة نوع متميز عن الاعتقاد.
116
ومع ذلك لا يهم إذا كان للأول أو الثاني ضرورة في الفكر أم لا طالما أنهما يوجدان من خلال الحدوس الحسية، ينتهي الشك إذن إلى الأنا وحدية؛ لأنه لا توجد إلا إمكانية واحدة للمعرفة الموضوعية،
117
والتناقض ممكن طالما أنه حسي،
118
لا يوجد شيء، وإذا وجد فإنه لا يمكن معرفته، هذه هي خلاصة الشك،
119
وإذا كان الشك نسبية فهو أيضا نزعة سلبية.
120
كان مذهب الشك اليوناني نوعا من الأنا وحدية، والأنا وحدية نوع من الانقطاع في تطور الفلسفة اليونانية، وأحط من شأن فكرة العقل من خلال الحجاج، ولا توجد حقيقة في ذاتها، لم يكن بالإمكان إقامة علم معياري،
121
منع الشك الشامل من إمكانية تأسيس علم حقيقي وموضوعي، كان غرض التفكير تبريريا، نقدا فكريا للتجارب؛
122
لذلك كان علم النفس وعلم الأخلاق هما العلمان الماديان دون أي علم نظري، كان العلم علما خاصا دون أي إمكانية لتأسيس علم شامل؛
123
لذلك حدث رد فعل جدير بالثناء لإمكانية تأسيس علم حقيقي وموضوعي،
124
وهو غير الجدل الأفلاطوني الذي كان في مواجهة الحجاج السوفسطائي.
125
ثانيا:
اقترب تيار الشعور من تيار هراقليطس،
126
واعتبرت نظريته في الصلة بين الحساسية والذهن كوسيلة للشك والسلب.
127
وفي الفلسفة الذرية لم تكن الذرات موضوعات للإدراك الحسي بل موضوعات عقلية؛ فللذة جانبان، جانب ذاتي وجانب موضوعي،
128
تمثل الفلسفة الذرية المادية والحتمية القديمة،
129
واعتبر الطب التجريبي علما وصفيا كنظرية تجريبية للطبيعة وكنظرية في الفن.
130
ثالثا:
في الفلسفة بعد أفلاطون كانت العودة إلى المسائل الخلقية انحرافا عن نظرية العلم، وتم إنكار مبدأ عدم التناقص؛ ومن ثم قوانين الفكر ذاته،
131
وفي نظرية «اللكتون» الرواقية كان هناك جهد للاقتراب من موضوعية مثالية، والتي لم يتم العثور عليها إلا في العصور الحديثة،
132
وسار التحليل في المنطق الصوري خطوة أخرى إلى الأمام بفضل المنطق الرواقي نحو علم مثالي صوري.
133
ومن ثم فإن رفع قدر التأسيس الأفلاطوني للمنطق أدى إلى إدانة الفلسفات السابقة على أفلاطون الوثيقة الصلة بالحضارات الأخرى الأسطورية الدينية المجاورة، العلم بالمعنى الأفلاطوني وحده كان يقوم على الاهتمام النظري الخالص كبحث عن مبدأ المنطق،
134
وهكذا فسرت الحضارة اليونانية كمحاولة للاقتراب من الظاهريات. (أ-ب) المصدر اليهودي المسيحي
135
لم يذكر المصدر اليهودي المسيحي صراحة، ولم تظهر اليهودية ولا المسيحية بوضوح وعلى نحو بديهي، على أكثر تقدير ظهر لفظ «مدرسي» من وقت إلى آخر في معرض الحديث عن بعض آباء الكنيسة اللاتين وفلاسفة العصر الهلينستي وبعض فلاسفة العصر الوسيط،
136
وقد ذكر المصدران للوعي الأوروبي مرة واحدة في «المخطوطات»: الفلسفة اليونانية والتوحيد اليهودي المسيحي؛ فأوروبا تركيب قصدي من اليهودية والمسيحية والهلينستية العامة،
137
ويشار إلى المؤلفات المدرسية أحيانا مع موقف رافض، وتحت أثر المنطق الأرسطي المدرسي، لم تظهر «الرياضيات الشاملة» إلا متأخرا،
138
والواقع أنه في العصر المدرسي اختزل العمل في المنطق الأرسطي المدرسي، وهو علم مغلق يقوم على القسمة المدرسة لأشكال القياس.
139
تذكر الفلسفة المدرسية أحيانا دون إحالة إلى فلسفة محددة، بل كمصدر لبعض التصورات في العصر الحاضر،
140
ولم يتم تحليل الأوجه الوظيفية بين الفلسفة اليونانية من المصدر اليوناني الروماني والفلسفة المدرسية من الأصل اليهودي المسيحي، وإذا استطاعت الفلسفة اليونانية تصور عالم الفكرة فإن الفلسفة المدرسية لم يكن لديها هذه القدرة، وإذا كانت فلسفة الروح خير ممثل للفلسفة اليونانية فإن فلسفة الطبيعة خير ممثل للفلسفة المدرسية، ولم يتم شرح كيفية التحول من الأولى إلى الثانية، وأهمل تماما المصدر الجديد، نشأة المسيحية، كعامل مكون لتاريخ الفلسفة.
وفي العصر القديم ذكرت فلسفة الواحد دون أي نقد، وذكرت مستويات الوجود والفكر والوجود والواحد أو معرفة الوجود أو الحساسية أو المعقولية والرؤية وفعل الواحد في العالم لهدف تاريخي خالص، وأحيانا تنقد المصادر التاريخية دون عرضها، وأحيانا أخرى يتم عرضها دون نقدها،
141
ومع ذلك كانت فلسفة الواحد مواضع إغراء للظاهريات بسبب ما تتضمنه من أنطولوجيا.
142
ويحال مرات عديدة إلى العصور الوسطى وبوجه خاص إلى الزمانية؛ أي إلى الكوجيتو وإلى القصدية ونظرية الدلالة.
143
أولا: ارتبطت الزمانية بالذاتية لأنا أفكر،
144
وكان اكتشاف الذاتية قد تم من قبل في العصور الوسطى بفضل شيئين؛ الوجود الإنساني والوحي. ثانيا: لا تأتي القصدية مباشرة من العصور الوسطى، بل من علم النفس الوصفي الذي يحيل هو نفسه إلى الفلسفة المدرسية،
145
وكانت موضوعية على المستوى العقلي، وليس على مستوى المعطى الحي. ثالثا: نظرية «أنماط الدلالات» في العصر الوسيط نموذج سابق لمنطق صوري خالص، وتستأنف مسار نظرية العلم القديمة، وتمهد الطريق إلى العقلانية الحديثة.
146
كانت المعرفة العقلية توضيحا عقليا للطبيعة، ولا يتفق تماما عالم الأعداد والصور الذي يخلقه روح الإنسان مع الواقع الطبيعي، ومع ذلك هو عالم لا نهائي، ويقترب من المعرفة اللانهائية، وتتشابه هذه المعرفة العقلية، صورة المعرفة الإلهية، مع عالم الماهيات الواقعية، وفوقها توجد المعرفة العقلية كرؤية مباشرة للماهية.
147 (أ-ج) البيئة الأوروبية نفسها
148
وهي المصدر الثالث للوعي الأوروبي. وتقال البيئة على مجموع الظروف الواقعية التي نشأت فيها الحضارة الأوروبية، صحيح أن الحوادث التاريخية والبنيات الاقتصادية والنظم السياسية قد تم وضعها بين قوسين طبقا للقاعدة الأولى في المنهج الظاهرياتي، ومع ذلك ظلت آثارها قوية في الوعي الجمعي للحضارة، بل وفي الوعي الفردي ورؤيته للعالم، وتعبر البيئة الأوروبية عن نفسها في ضمير المتكلم الجمع في «حضارتنا »، «فلسفتنا» التي تدل على العلاقة الوطيدة بين الفكر والبيئة.
149
ويقال مثلا: «حاضرنا»، «أيامنا»، «زماننا»، «أزماننا»، «علومنا»، «ضرورات حياتنا»، «أزمتنا»، «زماننا القدري»، «مصيرنا»، «علمنا الوضعي»، «علمنا الإنساني»، «تمثلنا». وتدل كل هذه التعبيرات على مدى ارتباط الحضارة ببيئتها، وتدل الطريقة التي تحال بها الأفكار إلى التاريخ الأوروبي على مدى الارتباط بين الحضارة وبيئتها،
150
وفكرة «العصور الحديثة» أو «العصر الحاضر» بالنسبة إلى التاريخ الأوروبي، وقد تم التمييز بين الحديث والقديم بالنسبة إلى الحديث، كذلك تتم الإحالة إلى الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط بالنسبة إلى الحديث، وتظهر البيئة الأوروبية في ارتباط كل اتجاه للفكر بمنطقته الحضارية؛ فهناك المثالية الألمانية، والتجريبية الإنجليزية، والنزعة النفسانية الفرنسية، والبرجماتية الأمريكية، وتتميز البيئة الأوروبية عن البيئة الشرقية، الصينية أو الهندية.
وظهور العلم والتقنية مرتبط أيضا أشد الارتباط بالبيئة الأوروبية بعد رفض كل الافتراضات المسبقة من مصدر مسبق من أي معرفة كانت، أصبح الواقع عاريا من كل تنظير، وأتت الرياضة لتقوم بهذا الدور فخلقت الفيزيقا، هذا الرفض لكل مصدر قبلي للمعرفة فعل ظرفي خالص؛ فالعلم القبلي في هذا العصر الأوروبي لم يقدم علما دقيقا. (2) تطور الذاتية المشتركة
151
وللوعي الأوروبي بداية ونهاية، البداية في «الكوجيتو» عند ديكارت، والنهاية في «الكوجيتاتوم» عند هوسرل، «الأنا أفكر» و«موضوع التفكير»،
152
وفي الواقع يمتد تطور الذاتية المشتركة بين هاتين النقطتين، الكوجيتو في العصور الحديثة والأنا الترنسندنتالي في الظاهريات، نقطة بداية ونقطة نهاية، نقطة قيام ونقطة وصول، ومن الدلالة بمكان ارتباط الظاهريات بعصر النهضة، ويتبادل الباعثان في الحركتين في أعماق الوعي الأوروبي.
153
والكوجيتو الديكارتي (القرن السابع عشر) قريب العهد من عصر النهضة (القرن السادس عشر). ولعصر النهضة واجهتان؛ الأولى منفتحة على العصر الوسيط وبالتالي على القديم، والأخرى منفتحة على العصر الحديث وبالتالي على تطور الوعي الأوروبي. الأولى إلى الوراء، والثانية إلى الأمام، في الواجهة الأولى كانت العقلانية الجديدة في العصور الحديثة موجهة ضد كل التصورات المدرسية.
154
وما أنتج عصر النهضة هو التحرر من السيطرة التقليدية للفلسفة المدرسية وتصورها اللاهوتي الغائي للعالم، الصراع ضد الأحكام المسبقة والرغبة في تأسيس علم وفلسفة للعقل المستقل،
155
كيف تم هذا التحرير؟ وجد أصل الفكرة الجديدة لإقامة علم شامل في الرياضيات،
156
كان تحويل الطبيعة إلى رياضة هو الإنجاز الرئيسي للعصور الحديثة، وكانت الهندسة الخالصة نموذج الدقة والصرامة، وكانت الطبيعة عالما رياضيا،
157
وكان الباعث على هذا التحول للطبيعة إلى رياضة هو إيجاد علم شامل وموضوعي، وكانت البراهين تدل على ذلك،
158
وكان نموذج المعرفة نقطة أرشميدس، الموضوع المثالي بالأصالة،
159
واستمرت تفرقة القدماء بين الاعتقاد والمعرفة في العصور الحديثة الذي كان يقتفي أثر المعرفة؛ أي المعرفة العقلية.
160
وقد اكتشفت الفكرة عند القدماء كعلم دقيق، وكان اللجوء إلى البداهة موجودا سلفا في الطريق السقراطي، وتم الاقتراب من الفكر المنطقي في نظرية المثل، كان لتحول الطبيعة إلى رياضة في العصر الحديث نموذجه السابق عند القدماء في علم الواقع المتحول إلى مثال،
161
ومع اليونان ولدت إنسانية جديدة، تلك التي تتجه نحو الحقيقة الموضوعية،
162
وتأسس استقلال الإنسانية الأوروبية مع التصور الجديد لفكرة الفلسفة في عصر النهضة، واستمر الأصل في إعطاء المصادر، ولكن تطور الوعي الأوروبي تابع مقتضياته الخاصة، وبالرغم من أن الحضارة الأوروبية ميراث الحضارة اليونانية إلا أن هناك قصدية عامة تخترق الاثنين.
163
وهكذا فإن الفلسفة اليونانية منبع كل غائية في التاريخ الأوروبي،
164
وأصبحت بنيتها نفس بنية الحضارة الأوروبية، واستعملت نظرية «المثل» كمعين لا ينضب لعقلانية العصور الحديثة، واستمرت نزعة الشك القديمة أساسا للنزعة التجريبية الحديثة، الذاتية في العصور الحديثة وحدها هي الاكتشاف الأصيل، وكل تاريخ الفلسفة الحديثة هو صراع من أصل الإنسان.
165 (أ) البداية: الكوجيتو الديكارتي
166
نقص «الكوجيتو» في العصور الحديثة التوجه الترنسندنتالي، وهي مصادرة قطعية يستنبط منها العالم،
167
ولم يلاحظ دور الآخر متضايفا مع الشعور في التجربة الذاتية المشتركة، ولم يستطع علم النفس، كنتيجة طبيعية للكوجيتو، اكتشاف المسألة الترنسندنتالية.
168
تم وضع الوعي الخالص فقط إلى الأمام منفصلا عن الواقع الطبيعي، وعالم الآخرين، وعالم الأشياء.
169
وبالرغم من أن الكوجيتو هو أكبر كشف للوعي الأوروبي، نقصته كل الأشكال الترنسندنتالية.
لقد وقع الكوجيتو كذاتية ترنسندنتالية في تفسير خاطئ للأنا الخالص ، وهو التزييف النفساني حتى بعد «الرد»، وهو ما يعادل الشك، فتحدد الكوجيتو على أنه «الذهن بدون النفس بدون العقل».
170
وساد أيضا تحول الطبيعة إلى رياضة تصور الجسد؛ فاعتبر الجسد منطقة في الطبيعة، وكان دفن الذاتية الترنسندنتالية في الموضوعية سبب هذا التفسير الخاطئ،
171
وباختصار ظل الكوجيتو ذاتا نفسية أكثر منه ذاتا ترنسندنتالية،
172
وساهم في نشأة علم النفس في العصور الحديثة،
173
ولم يستطع علم النفس هذا استئناف الطريق الذي شقه الكوجيتو، بل اتبع فقط نتائجه الوخيمة،
174
وترك التفكير من حيث هو «تفكير».
175
وفي هذا الاتجاه سار كل علم النفس التجريبي. رسالة الظاهريات إذن هي تخليص الميدان اللانهائي للتجربة الترنسندنتالية؛ ففي فلسفة العصور الحديثة وضعت هذه التجربة موضع النقد،
176
وكانت عرضة لإمكانية الخطأ أو الخداع، وأهمل المعنى الأساسي للتجربة كعطاء أصيل للأشياء ذاتها.
177
وبتعبير آخر، لم يأخذ الاكتشاف العظيم للعصور الحديثة مكان الصدارة، أزيح جانبا، وترك في الظلام، وأهملت المسألة الرئيسية لتأسيس الفلسفة، ويعود هذا إلى أن نقد الشك لم يكن كافيا، ووقع الكوجيتو نفسه في النسبية، سواء فيما يتعلق بافتراض وجود العالم أو ما يتعلق بضمان الموضوعية بالصدق الإلهي،
178
قامت الموضوعية أيضا على أساس النفسانية اللاهوتية.
179
واستكمل نقص البداهة ببنيات ميتافيزيقية، ولم تكن التأملات جوانب لموضوعات مماثلة للجوانب الموضوعية المطابقة، بل كانت معطيات مطلقة؛
180
لذلك تستعيد الظاهريات تحليل الكوجيتو لتبين أولا السمة الشاملة للأنا، ولتبين ثانيا أن البداهة لا شأن لها بالموضوع الواقعي، ولتبين ثالثا أن مضامين الشعور تقوم على بنيات قصدية.
181
ولم يتم تطوير الانفصال عن الاتجاه الطبيعي، واكتشاف دائرة المعطى الحي حتى النهاية في الكوجيتو،
182
ووضعت مواضيع التأملات بين قوسين (الرد) من أجل استبقاء الظواهر الخالصة وحدها،
183
وكان يمكن للشك أن ينتهي إلى نتائج أكثر أهمية، صحيح أن التأملات كانت حقائق أولية، ولكنها ظلت ظواهر نفسية، ويضع «الرد» الظواهر بين قوسين حتى لا تبقى إلا الرؤى الخالصة كمعطيات مطلقة.
184
لم يستطع مشروع العصور الحديثة تخليص الدائرة الترنسندنتالية من الاتجاه الطبيعي،
185
والعالم الخارجي الذي ظل موضع الشك في الكوجيتو بديهي،
186
وبالرغم من اكتشاف الذاتية ظلت منغلقة على نفسها دون أن تضع نفسها في العالم،
187
هذه الأنا وحدية للأنا الترنسندنتالي ليست غريبة عن الأنا وحدية للأنا النفسي.
ووضع الأشياء بين قوسين في الظاهريات هو عود إلى موضوع الشك، وضع الاتجاه الطبيعي خارج دائرة الانتباه، وهو موجه نحو الواقعة من أجل الإبقاء على الماهية، وظيفة الشك تخليص منطقة أنطولوجية في الوجود خارج الشك.
188
يبدو الشك محاولة سلب شامل، في حين أن الوضع بين قوسين هو مجرد تعليق حكم يقوم على اقتناع بالحقيقة اليقينية التي لا يمكن الشك فيها خاصة إذا كانت بديهية؛
189
فالأنا الخالص خارج الشك،
190
ويظل التفكير أيضا خارج الشك، ومعطيات الشعور معطيات أصلية ومطلقة،
191
يحقق الوضع بين قوسين في الظاهريات عودة ثانية إلى الذات المتأملة الخالصة،
192
فمن الضروري تطهير تأملات الفلسفة في العصور الحديثة من بقايا الاتجاه الطبيعي، نقص الكوجيتو المعنى الترنسندنتالي للرد الذي تقوم به الأنا بسبب واقعيتها الجذرية، والتي كانت السبب فيما بعد لنشأة الاتجاه الطبيعي،
193
وباختصار اكتشف «الرد» ثم ترك جانبا دون الاستفادة بنتائجه النهائية.
194
وكل أفعال الشعور التي تشكل الكوجيتو؛ الإدراك، التذكر، التخيل، الحكم، الرغبة، التمني ... إلخ، تكون في الظاهريات سلسلة من المعطيات الحية،
195
وغاب التفسير القصدي للتجارب في الفلسفة في العصور الحديثة، وظلت التجربة قريبة من نسبية العالم الذي يضمنه الصدق الإلهي،
196
وكل ما قدمه الكوجيتو كاكتشاف لعالم الذاتية كان ملحقا ببداهة الصدق الإلهي،
197
ولا تتجلى بداهة الكوجيتو في الشعور إلا بمساندة الصدق الإلهي،
198
فهي مضمونة بشيء آخر سوى ذاتها، في حين أن البداهة في الظاهريات حالة في المعطى الحي، يميز بداهة الكوجيتو الوضوح والتمييز بين الأشياء، في حين تنتمي البداهة في الظاهريات إلى المعطى الحي المطلق،
199
وهي من جانب الشعور أكثر منها من جانب الموضوع.
الوضوح هو طريق حضور الشيء في الشعور، وهي بداهة سابقة على العمل وبداهة بعد العمل، البداهة هي فكرة العلم الحقيقي؛ فالقاعدة الأولى في «مقال في المنهج» هي البحث عن بداهة أولية، والكوجيتو هو أول واقعة واضحة أولية.
200
البداهة يقين مطلق ، لا يتطرق إليها الشك،
201
وبداهة وجود العالم بالرغم من أنها ليست قطعية داخلة ضمن البداهة الأولى،
202
أما بداهة العصور الحديثة فقد ظلت عقيمة؛ نقصها شيئان: الأول إيضاح المعنى المنهجي الخالص للوضع بين قوسين في الظاهريات، والثاني التفسير النسقي لكل ميدان البحث،
203
فلم تتعد مستوى ثقة ساذجة في العقل دون توضيحه ببحوث وفحوص منهجية، كان تطورها ساذجا وغليظا، ولم تؤخذ من هذا الكشف نتائجه القصوى. كانت غامضة، سطحية، تتضمن نظرية الجوهرين (الحركة والامتداد)؛ مما ساعد على الفهم الخاطئ للمعنى الصحيح للمشروع، وانتهت إلى أقل قدر ممكن من الترنسندنتالية، وأكبر قدر ممكن من الأحكام المسبقة الوضعية، وكان للعالم الطبيعي، ضد الشك، نموذجه في الرياضيات.
204
وإذا ضمن الصدق الإلهي الذي تم اكتشافه داخل الشعور الخالص موضوعية العلم؛ وبالتالي موضوعية العالم الخارجي في الفلسفة الناشئة في العصور الحديثة تجد الظاهريات الضامن للموضوعية في التجربة المشتركة، وإذا كان المطلق هو الضامن للموضوعية في العصور الحديثة فإن الآخر في الظاهريات هو الذي يقوم بدور المطلق،
205
وإذا كان الصدق الإلهي هو الضامن لبداهة التجربة يكون الوجود الإلهي هو الضامن لوجود العالم.
206
والكوجيتو هو أيضا المسئول عن نشأة المادية في الوعي الأوروبي، وإذا كان البحث عن أساس مطلق للمعرفة، وهو مشروع العصور الحديثة، موجودا في الأنا الترنسندنتالي، فإن هذا الأنا لم يسمح بوصف البنيات القصدية للمعطيات الحية للشعور؛
207
فالواقع أن الموضوعات الحالة في الشعور ليست موضوعات طبيعية، بل تظهر في الشعور كمعطيات حية، كانت دائرة الحلول التي اكتشفها الكوجيتو ناقصة، فلم يظهر الموضوع كمعطى أصلي،
208
الكوجيتو إذن هو المسئول عن الموضوعية الوضعية لعلوم الطبيعة.
209
ويرد على الاعتراض على الظاهريات بالأنا وحدية دائما باعتبارها فلسفة ترنسندنتالية، تبدأ من الأنا الترنسندنتالي وعدم القدرة على الوصول إلى الموضوعية إلا عن طريق ميتافيزيقا عقائدية بحضور الآخر وإمكانية التجربة الذاتية المشتركة،
210
تستعيد إذن الظاهريات مشروع النهضة وتخلصه من كل الشوائب، ميتافيزيقية غائية أو دينية.
وينكشف المعنى الأخير للعلم بجهد الحياة كظاهرة تتعلق بمضمون الشعور،
211
هنا يكتمل «الكوجيتو» و«الكوجيتاتوم»، صورة الشعور بمضمون الشعور ، الأنا أفكر بالأنا المفكر فيه، فكل شعور هو شعور بشيء،
212
وقد تأسست كل الفلسفة الأولى في العصور الحديثة على «الأشياء المفكر فيها»،
213
ويظل تحديد الموضوع الفيزيقي باعتباره «امتدادا» مرتبطا بالفرد، موجودا في الزمان والمكان دون درجة عالية من التجريد،
214
لم يتعد الكوجيتو مستوى الحكمة الشاملة دون الوصول إلى الرياضيات الشاملة.
215
كان من الطبيعي ألا تهتم فلسفة العصور الحديثة كثيرا بالعلوم الوضعية، فقد تطورت هذه العلوم فيما بعد حتى قدوم الظاهريات، لم يكن هدفها فقط استئناف مشروع العصور الحديثة؛ أي البحث عن أسس علم شامل في الذاتية، بل أرادت إعطاء أساس مطلق للعلوم الوضعية التي ورثتها،
216
وأخذ العمل المنهجي للعلم الطبيعي كنموذج لعلوم الروح العيانية (العلوم الإنسانية).
217
ويرجع فشل الكوجيتو أساسا إلى التمييز بين الطبيعة والروح، بين الجسد والنفس في بداية الفلسفة الحديثة، وهو تمييز أدى إلى مادية الأول وصورية الثاني،
218
وانقسم الكوجيتو إلى «جوهر مفكر» و«عقل دون نفس»،
219
وتطورت الفلسفة الحديثة منقسمة إلى موضوعية ساذجة من ناحية، وذاتية ترنسندنتالية من ناحية أخرى،
220
كانت هناك من ناحية الروح المنهجية، ومن ناحية أخرى الجسد الذي ينتمي إلى الواقع الطبيعي.
221
وبطبيعة الحال ميزت الفلسفة الحديثة منذ نشأتها بين الشيء المادي والطبيعة الحية، ونسبت إلى الأول الامتداد وليس إلى الثاني، ويعرف الأول بوضع الشيء في المكان والزمان، في حين يعرف الثاني قبليا،
222
فضلا عن ذلك كانت الأرض ممهدة لبلورة ثنائية العصور الحديثة.
وبعد فشل تحويل الطبيعة إلى رياضة مباشرة، ظهرت الذاتية الترنسندنتالية تشق طريقا جديرا بالثناء بين المادي من ناحية، والصوري من ناحية أخرى، وهو ما بقي من المحاولة السابقة،
223
وكانت حجر العثرة الثنائية التي تركتها وراءها، وظل مشروع الرياضيات الشاملة ذاته قائما، ولكن الثنائية التي خرجت منه كانت أحد أسباب سوء فهم مسألة الفعل، والافتراض المسبق الخاص بالتخصص الدقيق لعلوم الطبيعة، وتأسيس علم النفس الطبيعي.
كان الوعي الأوروبي الذي تمثله الذاتية الترنسندنتالية أشبه بالفك المفتوح بين الموضوعية والترنسندنتالية، وبهذا الانفراج يبدأ كل تاريخ العصور الحديثة.
224
والبادئ بالفلسفة هو مؤسس الفكرة الجديدة للعقلانية الموضوعية، وظهور الباعث الترنسندنتالي. كانت الموضوعية العقلية متجسدة من قبل في تحويل الطبيعة إلى رياضية، والتي استمرت في الرياضيات الشاملة، والذاتية الترنسندنتالية هي المخرج لخطى التطور، العقلانية من ناحية، والتجريبية من ناحية أخرى،
225
وأدت الثنائية إلى التمييز بين علوم الروح (العلوم الإنسانية) وعلوم الطبيعة، وكانت فرصة للتجريبية أن تؤسس علم النفس التجريبي،
226
وقد ساهمت حركتان معاصرتان للكوجيتو في تحديد تطور الوعي الأوروبي؛ الأولى حركة تحويل الطبيعة إلى رياضة، والثانية حركة إكمال علوم الطبيعة،
227
وقد ساهم كلاهما في النهضة، مكسبا أو خسارة. والواقع أن بين هاتين الحركتين يوجد الكوجيتو بثنائيته بين البدن والنفس، وقد قوى تحويل الطبيعة إلى رياضة مخطط النفس، وعلم الطبيعة كنموذج لمخطط البدن، تريد الظاهريات إذن تصحيح هذه النتائج الوخيمة للكوجيتو على أعتاب العصور الحديثة، العلاقة بين الظاهريات والذاتية بديهية،
228
الظاهريات هي استرجاع لمشروع العصور الحديثة؛ أي الذاتية كأساس لكل علم إنساني.
229
ويصبح الكوجيتو في الظاهريات أول دائرة لشعور فعلي تحيط بها دائرة ثابتة من البيئة الطبيعية، وتحيط بها دائرة ثالثة من البيئات المثالية.
230
وترفض الظاهريات باعتبارها اكتمالا للفلسفة في العصور الحديثة كل الجانب الاعتقادي فيها من أجل الإبقاء فقط على الدافع المنهجي،
231
وتترك كل الجوانب اللاهوتية والدينية،
232
وتعاود البداية الجذرية كضرورة فلسفية علمية في العصور الحديثة لتبدو في الظاهريات.
233
واعتبرت الأفكار كنوع من التأملات كما كان الحال من قبل مع الكوجيتو، وقد عرضت الظاهريات كلها باعتبارها «تأملات ديكارتية»،
234
ومع ذلك ليست الظاهريات الترنسندنتالية ديكارتية فيما يتعلق بالاستنباط، الأولى إيضاح في حين أن الثانية استنباط،
235
واسترجاعا للماضي، أي قراءة للحاضر في الماضي، فسر الكوجيتو كقصدية،
236
وقد أوضح الكوجيتو وحدة كل الأنساق النظرية،
237
ويطابق المعطى الحدسي في الظاهريات مستوى الخيال في الكوجيتو.
238
وبداية الظاهريات المكتملة كالعادة توجد فيها الموضوعات الكبرى في الفلسفة القديمة؛ فالظاهريات لا تخلق مشاكل ولا تضع مشاكل أخرى جديدة، تحاول حل كل المشاكل التي وضعتها الفلسفة الحديثة مثل الذاتية، والفلسفة الترنسندنتالية، والتجربة ... إلخ.
239
الظاهريات هي الإلهام الباطني لكل الفلسفة الحديثة،
240
وتوجه تطور الفلسفة إلى الداخل كتوتر وكباعث،
241
وأصبح التاريخ ضرورة داخلية،
242
فلسفة العصور الحديثة هي عود إلى ذاتها، فلسفة موجهة نحو الذات،
243
والفلسفة، ميلاد العصور الحديثة، هي نموذج هذه العودة.
244
ويتحقق مشروع الفلسفة في العصور الحديثة ابتداء من أحكام مسبقة معينة، أولا يقوم على مجموعة من نظريات العلم والأنساق المنطقية دون البداية ببساطة بفكرة علم شامل إن لم يكن قد ظهر بعد علم شامل محدد، ثانيا أخذ المشروع الهندسة أو الفيزيقا الرياضية كنموذج مقبول دون أي نقد مسبق، وكان للأفكار الفطرية نماذجها في المصادرات الهندسية، وهكذا رفضت الظاهريات كل نموذج لعلم معياري مقترح مسبقا دون أن ينشأ تدريجيا، ويتأسس أولا.
245
وفي العصور الحديثة، سبق المنطق العلوم، ثم قبلت العلاقة بعد ذلك حتى قدوم الظاهريات،
246
وقد حافظت الحكمة الشاملة التي تم البحث عنها في بدايات العصور الحديثة على الوحدة الأساسية لكل العلوم،
247
وسقطت أول محاولة، محاولة الكوجيتو، بسبب الأحكام المسبقة غير المرئية في «التأملات»، والتي استطاعت أخيرا الظاهريات التخلص منها إلى الأبد.
248
الظاهريات الترنسندنتالية إذن توسيع آفاق «للتأملات» في لحظتين؛ الأولى فحص التجربة الترنسندنتالية للأنا في وضوح خاص، والثانية نقد التجربة الترنسندنتالية ذاتها؛
249
لذلك استعمل لفظ «الكوجيتو» في معناه الأوسع قدر الإمكان من أجل احتواء كل التأملات المتعددة، والواقع أن نقد التجربة في الكوجيتو انتهى إلى النتيجة الآتية: نقصت البداهة المطلقة من التجربة، ونفي وجود العالم، وتأسيس كل معرفة في الأنا الكوجيتو؛ أي الأنا أفكر،
250
وقد ثبت الأنا داخل الكوجيتو كجزء من العالم، وثبت العالم استنباطا من الكوجيتو، ووضع قبلي ساذج بجوار قبلي عال، وبداهة سذاجة بجوار بداهة المرئي، يفقد المعنى الترنسندنتالي الخاص للأنا، وظل هذا النقص في الوضوح حتى قدوم الظاهريات التي استعادت نقطة البداية المطلقة، ولم يمنع هذا الاسترجاع المتأخر للظاهريات لنتائج الكوجيتو ثنائية العصور الحديثة من الاتساع أكثر فأكثر في خطين؛ الأول صاعد والآخر نازل. (أ-أ) الخط الصاعد: العقلانية
251
بعد فشل الكوجيتو الديكارتي، استأنف الديكارتيون مشروع النهضة بعد أن ورثوا الثنائية التي جعلت الوعي فكا مفتوحا،
252
استمر الخط الصاعد نظرية العلم القديمة في تحويل الطبيعة إلى رياضة في العصور الحديثة والعقلانية الخارجة من الكوجيتو، يمثله أساسا الواحدية الميتافيزيقية، والرياضيات الشاملة، وفلسفة المناسبة.
253
استمرت الواحدية الميتافيزيقية في الخط الصاعد خارجة من الثنائية الديكارتية في تعارض مع الخط النازل؛ فالواقع أن ثنائية البدن والنفس نتج عنها شيئان متضادان؛ الأول رد البدن إلى النفس في الوحدانية الميتافيزيقية، والثاني رد النفس إلى البدن في علم النفس التجريبي، وبدلا من تقليل المسافة بين خطى الثنائية الخارجة من الكوجيتو، على العكس اتسعت المسافة، وزاد انفتاح الفك الذي يمثل الوعي الأوروبي، وإذا استطاعت الميتافيزيقا السيطرة على الفيزيقا فقد اتبعت النفس الطريق ذاته، وعلى منوال تحويل الطبيعة إلى رياضة تحولت النفس أيضا إلى رياضة،
254
وكانت النتائج أكثر ضررا؛ وقوع الروح في النزعة الصورية، ونسيان المعطى الحي.
255
وعرضت «الأخلاق» طبقا للروح الهندسية، واستطاعت أن تبقى بعيدة عن المقتضيات الدينية واللاهوتية، ووصف الوجود غير اللاهوتي كمصادرات دقيقة، والله كماهية رياضية،
256
ليست «الأخلاق» فقط نظرية وجود أو كونيات أو لاهوتا عقليا أو ميتافيزيقا، بل أيضا أنطولوجيا، وتمثل على هذا النحو أول محاولة لتأسيس أنطولوجيات شاملة.
257
وبتحليل البواعث في الظاهريات يمكن التعرف على نماذجها السابقة في نظرية الانفعالات في العصور الحديثة،
258
وقد استكملت البواعث الوجدانية ببواعث عقلية،
259
في حين أن الباعث في الظاهريات ليس فقط باعث الذاتية، بل هو أيضا باعث الذاتية المشتركة، وتوجد فيها غائية التاريخ.
والجوهر في الظاهريات واقع موضوعي، وليس مجرد وجود في ذاته،
260
ودون الوقوع في «تموضع» علوم الطبيعة أصبحت الذاتية، بدلا من أن تظل وحدة عقلية، الفردي نفسه «المشار إليه».
261
وبالإضافة إلى الوحدة الميتافيزيقية يستمر الخط الصاعد، ويبلغ الذروة في «الرياضيات الشاملة»؛ فالواقع أن كل علم تجريبي ليس مجرد حادث نفساني بل يقوم على معيار مثالي،
262
وقد أعطى هذا التأكيد دافعا لتأسيس العلم كمعيار، ووجد العلم المعياري نموذجه في المنطق، وكان المنطق القديم ناقصا حتى ظهرت «الرياضيات الشاملة» لوضع منطق صوري شامل، يقابل أنطولوجيا صورية بربط المنطق بالحساب كما ارتبط بالفيزيقا والسياسة،
263
وقد بدأ إصلاح المنطق الصوري في الفلسفة الحديثة ،
264
وجوهر هذا الإصلاح البحث عن «الرياضيات الشاملة» في نظرية الأشكال القياسية التي أصبحت النظرية العامة للحجاج الصوري،
265
وفضلا عن ذلك أضيفت إلى المنطق نظرية حساب الاحتمالات،
266
واستأنفت الظاهريات مشروع النهضة في البحث عن علم شامل نموذجه «الرياضيات الشاملة»، ولم تكن فقط تقنية للمنطق ولكن كانت لها أهمية نظرية خالصة، وهي توضح نسق المبادئ الترنسندنتالية.
267
واستكشفت الظاهريات ميدان المنطق الرياضي كميراث للعصور الحديثة،
268
وعادت فكرة الشكل التي أبرزها القدماء في منطق القضايا في «الرياضيات الشاملة»،
269
كتحليل متسع، جامعا تقنية منهجية القياس القديم مع الرياضيات الصورية،
270
تستعيد الظاهريات المشروع لتبين أن اهتماماتها ليست فقط منطقية أو رياضية بل أيضا فلسفية، ولم يؤد هذا المشروع بعد دافع الرياضيات الشاملة إلى نتائجه المرجوة، بسبب الصورة الفارغة الخالصة بسبب سيطرة التراث الحدسي،
271
ومع ذلك لم تستطع الرياضيات الشاملة الوصول إلى الإشكال الترنسندنتالي؛ إذ إن عصر الظاهريات لم يكن قد أتى بعد.
272
وما زالت فكرة «منطق الاكتشاف» على المستوى المعرفي العملي دون الوصول إلى المستوى المنطقي الخالص باعتباره علما معياريا،
273
وللرياضيات الشاملة، بالرغم من كل مميزاتها مثل الانفصال عن النزعة النفسانية والتأسيس القبلي للمعرفة، رسالة التنظيم العملي للمعرفة.
274
تريد الظاهريات دفع «الرياضيات الشاملة» كي تصبح أنطولوجيا شاملة، صحيح أن الأنطولوجيا الصورية كعلم شامل كان لها أول صياغة رياضية في الرياضيات الشاملة، ولكنها وجدت صياغة أخرى ميتافيزيقية في «المونادولوجيا»، والتمييز بين الشعور اليقظ والشعور الخامل، وصورة العالم التي تتجاوز التطور الخارجي للوصول إلى النضج الداخلي، والتي تصبح فعلا أسمى للشعور؛ أي روحا، هذه الصورة كلها مستعارة من العصور الحديثة،
275
كل أنا جوهر فرد «موناد»، ويكون مع الآخر عالم الجواهر الفردة «المونادي»، وتكثر العوالم إما إمكانية مشتركة، أو إمكانية مستحيلة، ويحدد وجود الأنا منذ البداية أنماط وجود الجواهر الفردة «المونادات» الأخرى،
276
وعلى مستوى علم الأنا الخالص، تعتبر الأنا في ملائها المعياري جوهرا فردا «مونادا»، الجوهر الفرد «الموناد» إذن هو الأنا-القطب المتطابق مع نفسه، بالنسبة إلى نفسه، وبالنسبة إلى آخر. هو أيضا أنا-قطب في الحياة القصدية،
277
وترد نظرية الجواهر الفردة «المونادات» كل وجود إلى الجوهر الفرد «الموناد»؛ أي إلى الأنا،
278
وهي أهم نظرية كنموذج سابق في التاريخ،
279
ومع ذلك لم تستطع نظرية الجواهر الفردة «المونادولوجيا» أن تصبح نظرية ترنسندنتالية؛ لذلك لم تنهزم التجريبية تماما،
280
ولم يكن افتراض «العقل المستقل بذاته» كافيا.
281
نظرية الجواهر الفردة «المونادولوجيا» هي الدلالة الميتافيزيقية، نظرية لعلم الطبيعة كعلم رياضي في مصالحة مع الحقيقة الدينية واللاهوتية، وهناك نظرية جواهر فردة «مونادولوجيا» أخرى لها أهمية لاهوتية وليست أهمية رياضية، وتظل «المونادولوجيا» الأولى بعيدة عن الفكرة النسقية والعلم المحكم لميدان الشعور الخالص ومعطياته الحالة فيه.
282
ولم يظل الخط الصاعد للعقلانية ساكنا تجاه الخط النازل للتجريبية، فقد أتت الرياضيات الشاملة لسد الطريق أمام التجريبية ولتوحيد الهندسة والحساب، وتأسيس أنطولوجيا صورية،
283
وكان التمييز بين حقيقة العقل وحقيقة الواقعة في العصور الحديثة موجهة ضد النزعة النفسانية التي اختارت الضرورة الذاتية النفسية تاركة الضرورة الموضوعية المثالية،
284
وكان التمييز بين الحقيقة المثالية وحقيقة الوقائع مصدر القطيعة بين الخطين المتعارضين في العصور الحديثة،
285
ويكون «الأنا» غريبا في الإحساس في حين أنه يكون قريبا إلى نفسه في الفكر.
286
وتوضع فلسفة المصادفة أيضا في الخط العقلاني،
287
وهي الأقل دراسة في الفلسفة الصادرة من الكوجيتو ربما بسبب غياب الاهتمام النظري فيها، فلسفة المصادفة بصراحة ووضوح لاهوت عقلاني أكثر من الواحدية الميتافيزيقية والرياضيات الشاملة، ولو تطلب كوجيتو علمين، الأول للروح والثاني للطبيعة، فإن فلسفة المصادفة ترتبط بعلم الروح وبالدين تاركة جانبا علم الطبيعة.
288 (أ-ب) الخط النازل: التجريبية
289
والخط الثاني في الوعي الأوروبي في مواجهة بل في معارضة التيار الأول هو التجريبية، وله أسماء عديدة: الموضوعية، التجريبية، النزعة الطبيعية، الاتجاه الطبيعي، النزعة النفسانية ... إلخ.
290
وتشير هذه التسميات إلى نفس التوجه النازل،
291
ويتمثل في ثنائية عصر النهضة خاصة من الكوجيتو، فما هو مصدر هذا الخط؟
أولا، يوجد المثل الأعلى للعلم في قانون الجاذبية، في بساطته، كمثل لتحويل الطبيعة إلى رياضة، وهو صادق في الميدان التجريبي وكقانون نظري، وهو جزء من عدد لا نهائي من القوانين المماثلة، ويشهد بوجود مثالي للقانون ضد كل نزعة أنثروبولوجية، وما كان للحكم الذي يعبر عن صيغة الجاذبية أن يكون صحيحا قبل أن يتحول إلى قانون للجاذبية والتحقق من صدقه.
292
وكان لتحويل الطبيعة إلى رياضة نتيجة معاكسة، أراد الحصول على الموضوعية ولكنه أصبح نظرية في الذاتية الخالصة للصفات الحسية الخاصة، وقد أعيد فهم هذه النظرية فيما بعد كنظرية في الذاتية لمجموع الظواهر العيانية للطبيعة المرئية المحسوسة وللعالم بوجه عام،
293
وهكذا يتحدد الخط النازل في مقابل الخط الصاعد وبالتفاعل معه، يبحث عن العالم العياني ضد رده إلى قانون، ويجد هذا العالم في ذاتية التمثل الخالصة.
وفي نفس اللحظة، وبالرغم من تحويل الطبيعة إلى رياضة، بدأ المعنى الصوري لعلم الطبيعة يصبح مشكلة، فقد وجد من قبل في رحم الجبر،
294
ثم دفع إلى الحد الأقصى في الرياضيات الشاملة، ثم انتهى إلى تفريغ المعنى من العلم الرياضي للطبيعة في التقنية، وقد زاد هذا التفريغ حتى أصبح نسيان المعطى الحي، وهو المعنى الأساسي لعلم الطبيعة، ونسي العالم الحي واختفى تماما المعطى الشعوري، وحدث سوء فهم قاتل لنتائج معنى الرياضة، وتوجد هذه النتيجة العكسية في الذاتية كرابطة بين الصفات الحسية؛ مما أدى فيما بعد إلى النزعة التجريبية،
295
كانت هذه النزعة التجريبية إذن رد فعل ضد نسيان العالم الحي في عملية تحويل الطبيعة إلى رياضة،
296
وأغلق الطريق البعدي الطريق القبلي، وأسس إثبات العالم العياني كعالم مدرك.
إن تشبيه النزعة التجريبية بخط نازل له مبررات عديدة؛ إذ ينتهي تطور النزعة التجريبية إلى تواز بين التجربة الداخلية والتجربة الخارجية،
297
وقد تم تجاوز هذه الثنائية بنوع من المثالية الحالة التي وقعت هي نفسها في الاتجاه الطبيعي؛ وبالتالي في علم النفس الثنائي وفي الخيال، وتبلغ ذروة النزعة التجريبية في نظرية معرفة ميتافيزيقية خاصة في نظرية «النظرية المزدوجة» التي أعطت بعدا نظريا للتجربة العامة في تجريد مزدوج، ومع ذلك لم تستطع هذه النظرية تجاوز ثنائية علم النفس التي كانت تهدف إليها، وهكذا ظلت الثنائية الحالة في الكوجيتو عقبة لا يمكن تجاوزها، بل إنها قويت يوما بعد يوم، وبعد ثنائية النفس والبدن في الكوجيتو، رد البدن إلى النفس في عملية تحويل الطبيعة إلى رياضة، ثم وضعت النفس في موازاة البدن، ثم رد إليه في الاتجاه الطبيعي.
298
والنزعة التجريبية شك،
299
وأهميتها الكبرى في تحويلها إلى علم نفس ونظرية معرفة، في صورة نقد للذهن، فقد أخذت النزعة التجريبية في تطورها أشكالا عديدة؛ النزعة الفيزيقية والنزعة الطبيعية، والمثالية الذاتية، وعلم النفس التجريبي.
300
أولا:
أرادت النزعة الفيزيقية أن تثبت نفسها كنسق فيزيقي، وكان لديها العقلانية الفيزيقية كنموذج، واعتبرت النفس كمنطقة مغلقة للطبيعة، تحتوي على الأجساد الحية والأجساد البشرية، وكان نموذج علم الطبيعة ومنهجها هو الذي يتحكم في هذه المنطقة،
301
وتبنى علم النفس منهجا استقرائيا خالصا، كان علما طبيعيا للنفس،
302
وأخذ علم الطبيعة كنموذج كامل لعلم النفس، وإذا فهم كوجيتو العصور الحديثة كجوهر روحي فإنه قد تحول إلى مجرد مظهر ذاتي يسوده التوازي النفسي، وتجد مادية العصور الحديثة جذورها في علم النفس المادي هذا،
303
النزعة التجريبية الحديثة هو ميراث الشك والاسمية المادية في العصر القديم.
304
وتوحد النزعة الفيزيقية بين الشيء المدرك مع مادة الإدراك بالرغم من وجود فرق كبير بينهما؛ الأول وصف للشيء كمعطى كلي في البداهة، بينما الثاني مجرد مركب من انطباعات حية فردية وجماعية؛
305
فلم يكن للفكرة وجود فعلي، ولا العالم كان له وجود فعلي، كان هناك تدمير مزدوج للعقل والواقع على السواء.
ومع ذلك تتأسس النزعة التجريبية على مستوى البواعث، وهو القانون الأساسي لعالم الروح، وهو من هذه الناحية قريب من النزعة العقلية،
306
وفي الإدراك الباطني - التفكير - لمادة الإدراك، يعتبر كمعطى أصلي،
307
يعطي في الاستبطان كرؤى في حضور الآخرين، في الذكريات الحالية أو باستدعاء الذكريات القديمة، ومع ذلك النزعة التجريبية هي أول تخطيط لعلم نفسي في العصور الحديثة،
308
كان ينقصه فقط التوجه النظري كي يصبح فلسفة ترنسندنتالية.
ثانيا:
يعتبر الاتجاه الطبيعي النفس صفحة بيضاء تنقش عليها المادة الحسية، وتنظم على أي نحو كانت مثل الحوادث الجسدية في الطبيعة، كانت النزعة الحسية الوضعية النتيجة الحتمية لهذه النزعة الفيزيقية ذات التوجه الطبيعي.
309
كانت النفس أشبه بمكان أو غرفة مظلمة تتضح فيها نواة مادة حسية جديدة،
310
ويعتبر «مقال في الذهن الإنساني» حتى الآن العمل الرئيسي للنزعة الحسية في العصور الحديثة معتمدة على التجربة الداخلية وعلى نظرية المعرفة النفسية، كان الخطاب الفلسفي نفسه مستحيلا، وبسبب التوحيد بين التجربة الداخلية والتجربة الخارجية تم رد الثانية إلى الأولى، ووضع التوازي النفسي قانون الإحساس، ودون تاريخ علم النفس في علم النفس التكويني (النشوئي)، وألحق منهج الإيضاح بالمنهج التاريخي النشوئي، وتم تصور علم الأخلاق بالمثل على أنه علم نفس.
311
وهكذا منذ علم النفس التجريبي، يوجد خلط في المادة الحسية بين «المادة الحسية» و«الفكرة الحسية»،
312
الأولى ذات طابع حسي، بينما الثانية صفة للشيء،
313
لم ينشغل علم النفس إلا بسلبية الشعور السلبي،
314
وخلطت نظرية الإحساس في علم النفس التجريبي الصفة الحسية مع المادة الحسية رادة الأولى إلى الثانية،
315
ويخضع كلاهما لقوانين العلم الآلي «الميكانيكا».
316
اتخذ علم النفس التجريبي نموذجه من علم الطبيعة،
317
ووجد موضوعاته في ذاتية ظاهرية لظواهر الطبيعة، وقد اتسم بالسطحية وبنزعة طبيعية لا منهجية ومختلطة؛ مما أدى في النهاية إلى علم النفس الخيالي، كان لديه تمثل غامض للفيزيقا والرياضة، وتكمن أهميته في العالم الاجتماعي والتاريخي الذي تلعب فيه المعرفة على طريقة علم الطبيعة دورا ثانويا.
318
وضد الأقنوم النفسي، وبالرغم من رد ظواهر الطبيعة إلى مجرد إحساسات، مثلت نظرية الأفكار المجردة قبسا من العقلانية، ومع ذلك كانت ترفض الموضوعات العامة، وتخلط في الفكرة بين الإدراك والتمثل والإحساس والمعطى الحي والموضوع، فلم يكن باستطاعة المثلث على وجه العموم أو الصورة النوعية أن تكون موضوعا مثاليا،
319
وبالرغم من التمييز بين الإحساس والتفكير طبقا للتميز بين البدن والنفس غاب الموضوع المثالي،
320
وغاب التمييز بين التمثل التصوري المستنبط من التجارب السابقة والتمثلات التصورية التي لها أسسها في التجارب السابقة.
321
وقد أدت نظرية الأفكار المجردة، مثل مجموع النزعة التجريبية، إلى إمكانية قيام علم عقلي إلى درجة جعله نوعا جديدا من اللاأدرية. لم يكن الشك عاما كما كان الحال في العصر القديم ، إنكار إمكانية العلم، بل اقتصر على إقامة العلم الإنساني على التمثل وتكوين التصورات.
322
وقد فشل علم نفس المعرفة تماما منذ نظرية الأفكار العامة بسبب نزعتها الحسية المتناقضة؛ إذ لم تستطع التمييز بين البحث النفسي والبحث الترنسندنتالي، وهبطت المسائل الرئيسية على مستوى علم النفس الأنثروبولوجي، وتبنت النزعة الحسية مادة بسيطة تختلط فيها الحساسية الداخلية والحساسية الخارجية،
323
هذا النوع من المثالية ليس أقل تناقضا من الواقعية المرفوضة،
324
تأسس علم النفس كنظرية طبيعية للمعرفة على الفيزيقي وعلى النفسي الفيزيقي،
325
كان نوعا جديدا من علم النفس قائما على علم الطبيعة نتيجة الثنائية السابقة، اختفى الأنا الخالص تماما، وترك البدن في الذاتية الترنسندنتالية في الطبيعة؛ مما سمح للنزعة التجريبية لرد النفس إلى البدن، وأدى التوحيد بين علم النفس ونظرية المعرفة إلى اعتبار النزعة التجريبية نظرية نفسية في المعرفة.
326
واستمرت النزعة الطبيعية الحالة في الكوجيتو أيضا في الخط النازل أكثر فأكثر، رفع علم النفس التجريبي القوسين في فلسفة الكوجيتو، وأخذ الأنا فقط وببساطة كنفس مكتفية بذاتها في أفعالها وملكاتها، وكونت الأفكار مضامين النفس، وأصبح العالم الخارجي مغلقا تماما،
327
وتم تحليل الأفكار في نشأتها وتكوينها بالنسبة لقوى النفس، ولم تكن تشكل كل هذه العوالم من المادة الحسية التي تند عن نشأتها وتكوينها، العواطف والأبدان الطبيعية، أي مشكلة. كان كل إدراك في الشعور، دون أن يكون الشعور أولا، هو الإدراك نفسه، ثم ظهر علم النفس القصدي فيما بعد، «الأفكار من حيث هي أفكار»، ليمثل عودة إلى فلسفة الكوجيتو.
328
وقد وصف الجوهر، ميراث الكوجيتو، في علم النفس الحسي باعتباره «لا أدري ما هو»،
329
فحدث انقطاع في التراث العقلاني ثم الوقوع في أنا وحدية الإحساسات الداخلية،
330
ووضع الكوجيتو في العالم الموضوعي، وإذا أراد الكوجيتو أيضا البحث عن الشامل الموضوعي، فعلت النزعة التجريبية أيضا نفس الشيء، ناقلة المسألة إلى مستوى الشعور الخالص، ثم انتزعت منه خصائصه: البداهة، الحدس، المعطى، الأصلي ... إلخ.
331
ثم تصبح النظرية النفسية للمعرفة فيما بعد سبب نشأة الفلسفة النقدية،
332
وقد أثار علم نفس التجربة الداخلية نوعا آخر من علم النفس العقلي،
333
ومع ذلك استمر التوازي بين التجربة الخارجية والتجربة الداخلية، وجعلت الذاتية الفاعلة العالم يدور في دائرة مغلقة.
334
ومع ذلك، تتضمن النزعة التجريبية أول محاولة لنظرية في المعرفة ما زالت مشوبة باللاهوت والميتافيزيقا كما هو الحال في الكوجيتو، ظلت قطعية (دوجماطيقية) ساذجة، تدور في دائرة مفرغة.
335
ثالثا:
للمثالية الذاتية القريبة من النزعة التجريبية الحسية قوتها في إثباتها الصفات الثانية، واعترضت على «الحقيقة الفيزيقية» المدعاة في العلم «بأن الامتداد، وهو البذرة الفكرية للطبيعة الجسمية ولكل الصفات الأولى، لا يمكن التفكير فيها دون الصفات الثانية».
336
وقد تم رد الأشياء الجسمية التي تظهر في التجربة الطبيعية إلى المادة الحسية المركبة، واعتبر الاستقراء المنهج القادر على إعطاء نتائج شبيهة بهذه المادة التي تكونت عن طريق تداعي الأفكار؛ ومن ثم تكونت تصورات العلم العقلي داخل نقد المعرفة الحسية،
337
ومن منظور المثالية الذاتية، النزعة الحسية تناقض؛
338
لذلك تم إعادة التوازن لنظرية التجريد بنظرية الرؤية،
339
ومن ثم فإن المثالية التي تتأسس على التجربة (الإحساس) أو الإدراك (الرؤية) تنتمي إلى النزعة التجريبية؛
340
إذ تعتبر التجريبية عالم الأجسام مادة حسية، في حين أن المثالية تعتبر النفس من الانطباعات الحسية، وكانت المثالية النقدية رد فعل على النوعين من المثالية التجريبية،
341
ووجد كل علم النفس الحسي فيما بعد أساسه في تأويلات المثالية التجريبية.
342
وقد حولت المثالية الذاتية العالم كله إلى خداع حواس ذاتي بالرغم من أن وجود العالم وجود شرعي تماما، لا يوجد إلا ب «عطاء المعنى»،
343
في المثالية الذاتية الوجود مدرك، في حين لا توجد واقعة واحدة كعطاء للمعنى،
344
المثالية الذاتية نوع من التجريبية القارة في الإحساسات.
345
وبذل جهد كبير للاقتراب من نظرية مثالية، ولكن ضاع الجهد هباء؛ إذ تنكر نظرية التمثل التمثيلي أيضا الموضوع المثالي بالخلط بين العلامة والدلالة،
346
وكان للحجج الهندسية المقدمة طابع تجريبي، ومع أن الموضوع المثالي موضوع مستقل في كل أشكال التجريبية إلا أنه فقد مثاليته،
347
وكانت للمثالية الذاتية «مونادولوجيا»،
348
كل شيء ينظم مع الشيء الآخر بقوانين استقرائية ارتباطية، وقد خلق «الله» هذا النظام ، وبالتالي فهمت المفارقة على أنها حلول.
كانت نتائج المثالية الذاتية وعلم النفس التجريبي متشابهة، وهي الفلسفة الحالة التي تكون العالم المادي، وردت العلية في الطبيعة إلى مجرد لحظات انتظار عادية،
349
وكانت أول صعوبة في النزعة الطبيعية الفيزيقية في علم النفس هي سوء فهم الذاتية الفاعلة،
350
وظل علم النفس التجريبي كله أقل من علم النفس الوصفي،
351
تحول علم النفس التجريبي فيما بعد إلى نظرية وظيفية للمعرفة، وأصبح إفلاسا حقيقيا للفلسفة،
352
وكان تناقض الشك يخفي باعثا فلسفيا صحيحا للوصول إلى الموضوعية، وزعمت قوانين الارتباط الموازية لقوانين الجاذبية أنها تقدم هذا العالم.
353
رابعا:
علم النفس التجريبي نظرية خيالية في المعرفة، إفلاس للفلسفة والعلم، وكل مقولات الموضوعية خيالية لها أصلها في قانون الارتباط الحال وتداعي الأفكار؛ فالعالم كله في «المقال» مجرد خيال، وبالتالي فإن العقل والمعرفة والقيمة والنموذج الخالص مجرد خيالات،
354
وهو إفلاس للمعرفة الموضوعية، إنها الأنا وحدية الخالصة، وكل اتجاه لا عقلي أو شك يخرج من التجريبية، ومع ذلك في الاتجاه المناقض للشك يوجد الدافع الخفي لفلسفة أصلية لإدراك الموضوعية.
355
ترد التجريبية كل موضوعية ترنسندنتالية إلى خيال يوضحه علم النفس، دون أن يتم تبريره عقليا. حلول التجريبية هي مفارقة خالصة؛ لأنها تتم بالعادة، بالطبيعة الإنسانية، بالمنبه، وبعضو الحس، فهبط مستوى الموجودات المفارقة إلى الانطباعات الحسية، وهبط مستوى الأفكار إلى الخيالات.
356
صحيح توجد بداهة في إثبات المظهر، ولكنه اعتبر من قبل كمجموع علي من الإحساسات مما يؤدي إلى الشك.
357
ونظرية التجريد من بين النظريات المنقوضة في «بحوث منطقية».
358
وبالرغم من الاختلاف الذي قد يوجد بين الأشكال المتعددة لهذه النظرية فإن الجوهر واحد، يوجد العموم في التمثل التمثيلي، وهي نظرية وضعت في مواجهة الأفكار العامة،
359
ولم يتجاوز نقد الأفكار المجردة تعميقا نفسيا معينا قائما على الارتباط، وقد حل التحليل النشوئي التكويني للأفكار محل تحليل الدلالة، بل ردها إلى سؤالين؛ وظيفي يحل بالعادة، وانتقائي يحل بالارتباط. وباختصار، يضع نفي الموضوع المثالي للمعرفة كل النظريات التجريبية على نفس الخط النازل، والدليل على ذلك التوحيد بين الموضوع والانطباعات الحسية، ثم رد الأول إلى الثاني.
360
وتعتبر الظاهريات الارتباط مبدأ التكوين السلبي، والارتباط رئيسي في الظاهريات الترنسندنتالية، والقوانين الارتباطية في التجريبية ليست إلا تشويها طبيعيا للتصورات القصدية والصحيحة المطابقة، يشير الارتباط إلى منطقة قبلية فطرية بدونها يستحيل وجود الأنا.
361
وتحت شعار مبدأ اقتصاد الفكر المنطقي تتحدث النزعة التجريبية عن مبدأ «الانسجام المسبق بين مسار الطبيعة وتتابع أفكارنا»؛ ولهذا الانسجام أساس نفسي، وينتهي التمييز بين «علاقات الأفكار» و«مواد الوقائع» إلى رد أحدهما إلى الآخر.
362
والتجريبية تناقض وخلف في المعنى، وليست شكا جذريا، ثم تتجه بعد ذلك ضد «رحم» العقلانية، وهي الرياضيات والفيزيقا، ومحاولة اتهامها بأنها خيالات؛ ومن ثم نزع مثال العلم من جذوره إلى الأبد،
363
ونفي العقل، وهو تناقض لأنه يقر بتبرير قبلي للمعرفة القائمة مع ذلك على النزعة النفسانية؛ لذلك يمكن اعتباره تجريبية معتدلة، والدليل على ذلك التمييز بين «علاقات الأفكار» و«أمور الوقائع»،
364
ودليل ثان هو الانسجام المسبق القائم بين مسار الطبيعة وتتابع الأفكار ،
365
وتضع التجريبية نفسها على مستوى علوم الوقائع،
366
حتى إذا ما وضعت نفسها على مستوى عالم المعطى الحي، فإنها تنسى الأساس الترنسندنتالي لهذا العالم،
367
وتدعي أنها تجعل «مادة الوقائع» أكثر فهما كتكوينات نفسية،
368
وتحل علاقات الأفكار محل العلاقات والقوانين المثالية، تقدم التجريبية أيضا موضوعية تجريبية استقرائية دون أي اعتبار للجانب النظري الضروري لعلم المعرفة،
369
ويمثل «المقال» ذروة علم النفس الحسي، ميزته أنه بحث له اهتمام نظري خالص في حين أن للبحوث الأخرى اهتمامات سياسية دينية،
370
وأخيرا تظهر النفسانية الأكثر جذرية كنزعة طبيعية حالة، وتقوم برد أسمى لكل فرد، وتبقى كانطباع حسي خالص.
371
وينكر المنهج التجريبي الاستقرائي كل أساس نظري ضروري كعلم للمعرفة.
وترتبط النزعة التجريبية أحيانا بالمثالية الترنسندنتالية كفهم بديهي لبواعث العصور الحديثة؛
372
إذ لم تعد المشكلة هي معرفة إمكانية المعرفة الترنسندنتالية، بل كيفية توضيح الأحكام المسبقة، واقتضاء المعرفة توجها ترنسندنتاليا، وبتعبير آخر المشكلة هي النزعة التجريبية؛
373
لذلك تتمايز المثالية النفسانية عن المثالية الترنسندنتالية.
374
الظاهريات إذن هي الإلهام الضمني لكل الفلسفة الحديثة، وإذا شق الكوجيتو في العصور الحديثة الطريق فإن النزعة النفسانية كانت على وشك العبور، ولكن عميت عيناها.
375
احتوى «المقال» لأول مرة أول مشروع نسقي لظاهريات منغلقة للمعرفة، وليست لظاهريات نظرية، وانقلبت الظاهريات الترنسندنتالية في «المقال» إلى نزعة حسية،
376
واستبعدت المسألة الترنسندنتالية، واعتبرت النفس الخالصة كومة من المواد المتزامنة أو المتتابعة تحكمها قوانين سيكوفيزيقية،
377
ثم يأتي علم النفس الظاهرياتي كعلم نفس خالص في مواجهة علم النفس التجريبي،
378
ثم يصبح فيما بعد ظاهريات ترنسندنتالية.
379
ومع ذلك يعلو صوت بعض المفكرين المحدثين كأنماط للتعبير بأن «الاعتقادات الحقيقية للبشر إنما تظهر في الأفعال أكثر مما تظهر في الأقوال»، وهو تعبير مستعار للتعبير عن التناقض بين نظريات التجريبيين وتفسيراتهم للوقائع،
380
ومع ذلك تظل الفلسفة الطبيعية الأكثر تمثيلا للخط النازل.
381
كانت النزعة التجريبية الأصل الجذري في نشأة الفلسفة النقدية،
382
فإذا كانت الأولى فلسفة سلبية، الشك، فإن الثانية فلسفة ترنسندنتالية أصلية باعتبارها علما محكما.
383
ألم يوقظ هذا الشك التجريبي مؤسس الفلسفة النقدية من سباته؟
384 (أ-ج ) وحدة الخطين المتجاورين: المثالية النقدية
385
بدأت المثالية الألمانية بالمثالية النقدية، وهي ليست فقط استعادة للخط الصاعد للعقلانية ضد الخط النازل للتجريبية أو عقلانية جديدة ضد شكل جديد للتجريبية، بل كانت معارضة للقطعية (الدوجماطيقية) والشك في آن واحد، كانت القطعية نتيجة للعقلانية بعد ديكارت،
386
وكانت النفسانية أيضا نتيجة لثنائية النفس والبدن، لم تتجاوز الفلسفة الترنسندنتالية معرفة عملية ونظرية في فن الحياة، وكان المنطق نظرية معيارية ونظرية في فن الحياة في آن واحد، وظل مشروع «الرياضيات الشاملة» و«الأنطولوجيا العامة» بعيد المنال، تمثل المثالية النقدية إذن أبعد مسافة بين الخطين المتباعدين؛ العقلانية وهي الخط الصاعد، والتجريبية وهي الخط النازل. فكيف أصبحت المثالية النقدية وحدة تجاورية بين الخطين؟
أولا:
هناك في العقلانية باعث ترنسندنتالي، هذا ما استطاعت الفلسفة النقدية اكتشافه،
387
وبعد أن أوقظ مؤسس الفلسفة النقدية من سباته، قام بجولة كبيرة في تاريخ الفكر خاصة المثالية الترنسندنتالية، وبالتالي قدمت العقلانية القبلي، وهي مقولة فارغة في الأنا أفكر.
ثانيا:
التجريبية هو المقابل للفلسفة النقدية، ويكونان معا ثنائية سعيدة ؛
388
فقد انتهت المثالية الصورية أو الفلسفة النقدية إلى نوع من علم النفس العقلي في مستوى أعلى من علم النفس التجريبي،
389
فقد سار تحليل القوى النفسية كمصدر للمعرفة شوطا أبعد من علم النفس، وقدمت التجريبية إلى المثالية النقدية الحساسية كمضمون للمعرفة.
أثارت المثالية النقدية مشكلة؛ كيف يمكن إقامة حكم تركيبي قبلي؟ وحاولت توحيد المشروع الأولي للعلم العقلي ورد الفعل عليه في التجريبية،
390
وبفضله ظهر خطأ نظرية العلم كنظرية موضوعية.
391
وقد لعب غموض معنى الرياضة دورا كبيرا في الأحكام التركيبية القبلية وفي التمييز بين الأحكام التركيبية في الرياضيات وتلك التي في علوم الطبيعة.
392
تجاورت العقلانية والتجريبية، الأولى فوق الثانية دون وحدة حقيقية بينهما.
وهكذا أصبحت العقلانية نقدا للعقل، وهو ما يمثل انقلابا تاما للمسألة، بدلا من البداية بالجواهر المتناهية واللامتناهية بدئ بنقد العقل نفسه؛
393
فأصبح العالم التجريبي عالم ظواهر، أتت المثالية النقدية لتؤكد مظاهر الأشياء، ولكن من خلال صور قبلية، وشكلت خطوة نحو تكوين علم موضوعي في الذاتية ، فقد كانت الموضوعية التي تقوم على الشك موضوعية ساذجة، وبفضل الفلسفة النقدية ظهرت الذاتية الترنسندنتالية للمرة الثانية.
394
وتمثل الفلسفة النقدية كمشروع محاولة لإعادة صياغة العلم الشامل والموضوعي بعد اكتشاف الذاتية في بدايات العصور الحديثة،
395
أرادت تقوية المطلب العلمي بعد أن ضعف في الفلسفة.
396
يرتبط الأنا الخالص والوعي بالفلسفة النقدية، ويضع شعار «أن يحيا الإنسان الذاتي» علاقة الشعور بذاته.
397
وبفضل الفلسفة النقدية، وأيضا التجريبية، تم توضيح البواعث الغامضة للعلم.
398
ومع ذلك، للفلسفة النقدية حدودها؛ فقد سادتها عدة افتراضات مسبقة ضمنية؛ أولا اعتبر عالم المعطى الحي واضحا بذاته،
399
واعتبرت الظواهر الخارجية وكأنها هي التي تكون عالم المعطى الحي، ويتم إدراك موضوعيته بالتفكير، وليس عن طريق المقولات القبلية، ولا تستطيع الحساسية ولا الصور القبلية أن تكون عالم المعطى الحي؛ لذلك يمكن تأويل الفلسفة النقدية بسهولة كوضعية من نفس نوع التجريبية،
400
والواقع أن عالم المعطى الحي ليس مجموع مادة حسية، مملكة مجهولة للظواهر الذاتية، بل هو ميدان مستقل، له علم موضوعي.
401
وضعت الفلسفة الترنسندنتالية نفسها في مواجهة علم النفس في عصره، ولكن سادها الغموض فيما يتعلق بالتمييز بين الذاتية الترنسندنتالية والنفس.
402
فضلا عن ذلك، أوقفها علم النفس الحديث خاصة علم النفس التجريبي، بحيث فقدت الفلسفة الترنسندنتالية الطريق الذي شقته من قبل، وظلت معتمدة على التجريبية في نفس الوقت التي هي رد فعل عليها، وكان ذلك طبيعيا؛ لأنها لم تنقد النزعة الحسية نقدا جذريا.
403
ولم تتم الاستفادة إلى النهاية من التمييز بين علم النفس الخالص والظاهريات الترنسندنتالية، ولم يتم توضيح المشكلة الترنسندنتالية في النزعة النفسانية، ومع ذلك تم تأسيس نظرية مركب القوى الترنسندنتالية من زاوية قصدية دون الحصول على القصدي كعنصر رئيسي أو على منهج جذري للبحث.
404
وفي داخل الفلسفة الترنسندنتالية كانت هناك إمكانية للعثور على حقيقة ضمنية، بعد جديد ينتج عن التقابل بين الحياة السطحية والحياة العميقة.
405
ظلت الفلسفة الترنسندنتالية على مستوى الحياة السطحية، مستوى الحساسية وعلم النفس التجريبي، وهكذا سادت التجريبية المثالية النقدية التي أتت من أجل إيقاف انتشارها.
406
وفي العقلانية في الخط الصاعد، اكتشفت الفلسفة النقدية المشاكل الترنسندنتالية للمنطق الصوري، ولكنها ظلت منغلقة في سياج صورتها النسقية، ووضعت هذه المشاكل على مستوى عال للغاية بالنسبة للمنطق، وباختصار لم تعرف الفلسفة النقدية المشكلة الترنسندنتالية للمنطق كمشكلة سابقة على هذا المجموع من المشاكل؛
407
فالواقع أن الفلسفة النقدية رفضت أن تعزو إلى المنطق صفة التقنية، وإذا اعترفت بمنطق تطبيقي فإنها تعتبره كنوع مختلف عن المنطق النظري والقبلي،
408
وإذا كانت التفرقة بين المنطق الخالص والمنطق التطبيقي صحيحة، فإن قوى النفس مفاهيم أسطورية تقود إلى الضلال؛ أي مفاهيم الذهن والعقل،
409
وإذا كان المنطق الخالص قصيرا وجافا، فإنه يكون ولا شك تافها مثل المنطق المدرسي، بالرغم من تفوق الأول على الثاني بفضل عادة البحث التلقائي والدقيق التي حصل عليها في دائرته الضيقة.
410
في الفلسفة النقدية تتماثل وحدة التجربة مع وحدة القانون الموضوعي؛ ومن ثم تكون شروط إمكانية التجربة في القانون العقلي،
411
وهكذا تأرجحت التجربة بين الحساسية التجريبية والقانون الصوري.
وقد حددت المثالية النقدية ذاتها في مواجهة اتجاهين؛ الشك من ناحية والقطعية من ناحية أخرى، وهما نفس الاتجاهين اللذين تحدد الظاهريات نفسها في مواجهتهما؛
412
فقد وضع الاتجاه الظاهرياتي نفسه في مواجهة الاتجاه القطعي وفي تناقض رئيسي معه،
413
وبهذا المعنى تضع المثالية النقدية الخطين، النازل والصاعد، على نحو متجاور في وحدة اصطناعية ومصطنعة، وكان غياب منهج حدسي ومنتج سبب البناء الأسطوري للفلسفة النقدية.
414
نعم، كان المنهج المستعمل هو المنهج التراجعي الذي يبحث عن إمكانيات المعرفة في قوى النفس، ويأتي البناء الأسطوري من تجميع للكوجيتو من المحاولة الأولى ونتائجه في علم النفس وفي علم النفس الفيزيقي، كانت النفس أسطورة كبيرة عصية على الفهم.
415
والآن، إلى أي حد استطاعت المثالية النقدية الاستمرار في مشروع النهضة؟ كانت الفلسفة النقدية في طريق البحث عن معرفة شاملة وموضوعية في شكل علم قبلي وبرهاني تماما، ولم يتم حتى الآن تصور هذا العلم وتحديده لا في مادته ولا في فهمه؛
416
فإذا وضع العلم الموضوعي نفسه في الكوجيتو على مستوى الجوهر، فقد وضع في الفلسفة النقدية على مستوى العقل،
417
وهو يمثل الذات المفكرة، الفلسفة النقدية مرحلة جديدة بعد عقلانية الذاتية،
418
أخذت النفس كفكرة متميزة عن الشيء في الطبيعة.
419
وقد أخذت الفكرة في الفلسفة النقدية على أنها نموذج للقانون المثالي الشامل والموضوعي،
420
ومثلت نموذج العقل الخالص، فهي تقريبا قيمة، وبالفعل ليس العلم المعياري حكرا على المنطق، بل يمتد أيضا إلى الأخلاق، الأمر المطلق نموذج للمعيار، وهو أساس في الأخلاق كعلم معياري.
421
وفي الأخلاق التي خرجت من الفلسفة النقدية، هناك خلط بين التشابه والهوية؛ فالعلاقة بين إرادة الغاية وإرادة الوسائل علاقة هوية وليست علاقة تشابه، علاقة التشابه علاقة تحليلية. تميز بين مستوى المركب الحملي للاعتقاد ومستوى المركب الوجداني والإرادي،
422
والتشابه أقل توحيدية من الهوية، يحقق التشابه دون أن يحقق الوحدة الوجدانية.
كيف تتمثل الظاهريات المثالية النقدية؟ وفي الظاهريات الترنسندنتالية ذاتية الكوجيتو، والفلسفة النقدية غايتها القصوى.
423
وقد أخذ «التحليل الترنسندنتالي» بالمعنى الواسع لتحليلاته للزمان والمكان كصور قبلية لمادة الحدس الحسي، توسع الظاهريات هذا القبلي العياني للطبيعة الحدسية، ويضع التحليل الترنسندنتالي سؤال القبلي التكويني، وتضع الظاهريات لنفسها مسألة تجربة الآخر، ليس للتكوين فقط مصدر نفسي كما هو الحال في النقد،
424
وإذا كان للحساسية الترنسندنتالية في الفلسفة النقدية حدودها الضيقة، فهي موضوعة في الظاهريات كمشكلة أساسية لتكوين عالم التجربة الخالصة.
425
وقد أعيد تقديم الإدراك الداخلي والإدراك الخارجي في المثالية النقدية في الظاهريات كإدراك حال وإدراك مفارق من أجل تجنب النزعتين النفسانية من جانب، والحسية من جانب آخر،
426
في الظاهريات يدخل مركب الحساسية في مستوى أعلى في تكوين الشيء، وفي الفلسفة النقدية يظل على مستوى الحساسية تحكمها العلية،
427
ولم يستطع تمييز الفلسفة النقدية بين الإدراك وأحكام التجربة تخليص النقد من النزعتين النفسانية والأنثروبولوجية، كان ينقصها الرد الظاهرياتي الذي يخرج الأحكام التجريبية خارج دائرة الانتباه، ولا يبقى إلا الأحكام الموضوعية لذات على العموم لها صدق شامل.
428
الفلسفة النقدية، كمرحلة في الفلسفة الحديثة، أقرب الفلسفات إلى الظاهريات، تطور الاستنباط الترنسندنتالي في «نقد العقل الخالص» على المستوى الظاهرياتي، وفسر ببساطة على أنه نزعة نفسانية.
429
كما استنتج الاستنباط الترنسندنتالي بمنهج تراجعي من المصادرات، في حين أنه في الظاهريات، التصورات العامة ومفاهيم النوع أفكار معطاة حدسا، يجدها الشعور تدريجيا، وأول التمييز بين الحساسية والتحليل الترنسندنتالي كتمييز بين المادي والصوري؛ الأول لظواهر الطبيعة والثاني للتصورات العامة.
430
وتميز الظاهريات بين التصور الغامض اللاتحليلي والتصور الواضح الخاص بالأحكام التحليلية في الفلسفة النقدية التي تخلط بين الموضوع المادي للأول والتصور للآخر.
431
وتستأنف الظاهريات تأكيدها أنها تطوير للفلسفة النقدية ومشابهة لها في نفس الوقت، فقد أولت المعرفة التركيبية القبلية، وهو موضوع رئيسي في الفلسفة النقدية، كمصادرات عامة في الظاهريات،
432
و«بحوث منطقية» هي ذاتها صورة جديدة لفكرة الأنطولوجيا القبلية سواء في التجريبية أو في الفلسفة النقدية.
433
وقد غالت الفلسفة النقدية في صفة الاكتمال في المنطق القديم: الجدل، والتحليل، والهندسة.
434
في حين تريد الظاهريات إكمالها بالاستعانة بالمنطق الحديث، وفائدة هذا الاتجاه للفلسفة النقدية بالنسبة للمنطق الصوري في البواعث التي سدت الطريق أمام الفلسفة الترنسندنتالية الظاهراتية، كان للفلسفة النقدية نصف نجاح، فلا تعتبر المنطق الصوري من بقايا الفلسفة المدرسية، وهو موقف الفلسفة الإنجليزية، بل وضعت مسائل ترنسندنتالية بتوجيه المنطق الصوري، باعتبارها منطقا قبليا نحو الذاتية.
435
ومع ذلك، لم يتم إدراك السمة الخاصة بمثالية المنطق الصوري، الظاهريات وحدها هي التي أوضحت مثالية التكوينات المنطقية، واستكشاف أسسها الذاتية كمسائل شاملة.
436
وظهرت المشاكل القديمة للفلسفة النقدية في صور أخرى وبمصطلحات أخرى في الظاهريات، فسؤال: كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة؟ سؤال رئيسي في الفلسفة النقدية، يعود في الظاهريات كتطبيق للتمييز بين المنطقة والمقولة في الدائرة المادية؛ فالمنطقة تقابل القبلي، والمقولة تقابل البعدي.
437
وهو المعنى النهائي للتحليلات المنطقية في الماهيات، ومعرفة الماهيات،
438
وفي الظاهريات، ليست المتضايفات الموضوعية لصور المقولات لحظات واقعية، ومن ثم فإن قضية الفلسفة النقدية «ليس الوجود محمولا واقعيا» تجد في الظاهريات دلالتها العميقة،
439
وفي الفلسفة النقدية وفي التجريبية للخيال دوره في ظهور الموضوع، في حين أن الظاهريات تهدف إلى إدراك ماهية الشيء، دون المرور بالصور أو العلامات.
440
و«الشيء في ذاته» الذي تركته الفلسفة النقدية في الطبيعة ظهر في الظاهريات كماهية،
441
الظاهريات إذن ليست مثالية نقدية تثبت وجود «الشيء في ذاته» حتى كفكرة محددة بل مثالية ترنسندنتالية أي شرح «الأنا» كذات لمعارف ممكنة.
442
وتشبه الماهيات في الظاهريات الأفكار في الفلسفة النقدية،
443
ولا تدرك وحدة المعطى الحي كمعطى حي فردي، بل كفكرة ترنسندنتالية، وتحويل الواقع إلى مثال حدسي للفكرة في الفلسفة النقدية،
444
والمعطى المطابق لشيء هو أيضا فكرة من نفس النوع،
445
وتم تصور النحو الخالص في الظاهريات قياسا على العلم الخالص للطبيعة في الفلسفة النقدية،
446
وقد استعلمت الظاهريات على نحو تراجعي، تأكيد الفلسفة النقدية على القبلي؛ أي أولوية الفكرة على الواقعة من أجل نقد النزعة التاريخية في فلسفة تصورات العالم.
447
وقد استعيرت اللغة الكانطية في تخليص الأنا الخالص من القوسين؛ إذ يجب على «الأنا أفكر» أن يصاحب كل تمثلاته،
448
وتستطيع الفلسفة أن تقدم نفسها كعلم للتعبير عن قصد الظاهريات كإعادة صياغة لمشروع العصور الحديثة؛
449
إذ لم تكن هناك إضافة بل تشويه للعلوم عندما تتداخل حدودها للتعبير عن ضرورة وضع الأسئلة الرئيسية.
450
الفلسفة مشروع يبدأ دائما من جديد،
451 «لا يستطيع الإنسان أن يتعلم الفلسفة بل أن يتفلسف.» وقد ظهرت هذه الحقيقة التي وضعتها الفلسفة النقدية في منهج البداية الجذرية في الظاهريات. ومع أن الفلسفة النقدية تضم مقاصد هامة، فإنها تظل أقل من العلم المحكم فيما يتعلق بتكوين القبلي الشامل،
452
وحتى في المقدمة العامة للظاهريات الخالصة فإنها تشق طريقها من قبل بين التجريبية باعتبارها شكا والمثالية الغامضة.
453 (أ-د) الوحدة العضوية: المثالية المطلقة
454
ويمثل تطور المثالية النقدية إلى مثالية مطلقة تقدما في غائية التاريخ، ومع ذلك تحتوي المثالية المطلقة في داخلها أسباب فشلها،
455
كانت ضد كل أشكال التجريبية، ولكن دون أن تنجح في صياغة فلسفة محكمة،
456
الفلسفة وعي بالإنسانية، وتحقيق ذاتي للعقل،
457
ونقد العقل اكتشاف عظيم مثل اكتشاف الذاتية في أعقاب العصور الحديثة،
458
وبعد الكوجيتو سادت النزعات التجريبية (الوضعية والبيولوجية والبرجماتية) نظرية المعرفة، وفي مقابل هذا الخط وضعت نظرية أخرى محكمة للمعرفة لها أسس نظرية مخالفة.
459
والواقع أن الفلسفة بعد كانط لم يكن لها حظ أفضل، سادها أسلوب التصورات الأسطوري والتأويل الميتافيزيقي للعالم دون أن تكون محكمة على الإطلاق في التصور أو المنهج،
460
ومع ذلك لم يكن الفلاسفة شعراء تصورات، ولم تنقصهم الإرادة الجادة لتأسيس النسق كعلم، كان لكل فلسفة تصورها للفلسفة الترنسندنتالية وذاتية الشعور، وظل علم النفس التجريبي قائما دون أن يقهر، بل على العكس، ظهر في صور جديدة، وارتبط كل نسق بذاتية مؤلفه، ولم يكن هناك أي ميل إلى الموضوعية سواء بمنهج الإيضاح أو بالتجربة الذاتية المشتركة، وبعد الفلسفة بعد كانط أصبحت أزمة العلوم الأوروبية أكثر حدة.
وقد وقعت الظاهريات تحت إغراء الفلسفة بعد كانط، وتبين مذكرات محاضرات عام 1914م الاهتمام الكبير الذي أولته الظاهريات لهذه الفلسفة، ربما لم يكن عند مؤسس الظاهريات الوقت الكافي لدراستها على وجه خاص، وربما أبعدته المثالية المطلقة عنها لطابعها الأسطوري الغامض، ومما يسترعي الانتباه أن تكون مذكرات المحاضرات حول الفلسفة بعد كانط قد دونت بأسلوب تلغرافي في العصر الحاضر، وتوحي بأن مؤسس الظاهريات لم يكن لديه الوقت الكافي لتعميمها، ومع ذلك توجد بعد الانتقادات المتناثرة داخل بعض العبارات المنفصلة.
لقد حاولت جاهدة الفلسفة بعد كانط أن تصوغ نظرية في العلم ومنهجا جدليا،
461
وكانت تشارك بكل صورها في نفس الخصائص التي منعت من الوصول إلى نظرية محكمة في العلم.
ارتبطت الفلسفة بالعقيدة، ولم تكن العقيدة في مستوى أقل من المعرفة، وما يعتقد لا يحتاج إلى برهان،
462
كان الاعتقاد وسيلة للمعرفة، يعطي نفس اليقين الذي تعطيه المعرفة، مضمونه عالم المثل،
463
وكان ينقل الاعتقاد أحيانا إلى المستوى الفلسفي كي يصبح معرفة تفوق الحس،
464
والعقل نفسه أداة للتساؤل عن عالم ما فوق الحس، هو القدرة على افتراض حقائق «في ذاتها» الخير، الجميل ... إلخ، مع التأكيد بأن لها صدقا موضوعيا، لا تساعد في التوضيح، ولكن تكشف عن نفسها موضوعيا، وتقرر على نحو غير مشروط، والرؤية العقلية من خلال العقل مرادفة للنبوة، وفي هذه الرؤية لا يعطي الفكر فقط من خلال الذهن بل أيضا من خلال العاطفة، وقوى العاطفة والعقل شيء واحد، في حين أن الفلسفة كعلم محكم منفصلة تماما عن كل اهتمام مغاير للاهتمام النظري الخالص، وهذا لم يكن وضع المثالية المطلقة.
واستؤنف البحث عن فلسفة جذرية بعد الفلسفة النقدية، ولكن سادتها الأحكام المسبقة، ووقعت في الأساطير الحالة أو في أبنية قوية لغائيات حالة دون أي أساس وضعي،
465
ومع ذلك تناولت مثالية الأنا المطلق بعض الموضوعات الظاهراتية مثل: الرؤية العقلية، الرؤية الداخلية لمادة الفكرة خاصة أفعال فكر الذات نفسها، وتأتي هذه الرؤى العقلية من حرية الإرادة، كانت الحرية إيحاء داخليا، لم تكن قدرة إنسانية عامة بل توجد فقط عند بعض الأفراد كقوى لرؤى داخلية، وقدمت نظرية المعرفة موضوع حياة وفعل يومي بمعرفة؛ وبالتالي يؤدي إلى فلسفة.
466
كان للفلسفة الرومانسية طابع شامل، وكانت تدعي قدرتها على تصور كل العلوم الخاصة. وطبقا لمثالية الأنا، كان أساس نظرية العلم هو أساس كل علم، وكل معرفة، وكل مضمون ممكن، المضمون البسيط، والمضمون المطلق حاضر فيها، وكان على الفلسفة الرومانسية أن تغطي تماما كل ميادين المعرفة الإنسانية، وكانت أساسا لفلسفة المضمون الأصلي والصورة الأصلية لكل معرفة.
467
ولا تضع نظرية العلم كعلم أسئلة حول التجربة ولا تلتفت إليها على الإطلاق؛ فهي حقيقية بعيدة عن كل تجربة، وتصورها ل «الواقعة» هو أنها «ما يجب التفكير فيه ضرورة».
وفي أي مثالية تامة ليس القبلي والبعدي شيئين مختلفين، بل شيء واحد له واجهتان مختلفتان، وترجع هذه الثنائية إلى طريقة رؤية السؤال، فإذا تقدم شيء على أنه قبلي فليس من الضروري أن يكون في نفس الوقت بعديا، وإذا تقدم شيء على أنه بعدي فليس من الضروري أن يكون قبليا، فإذا نظر إلى السؤال من زاوية الكشف، فكل شيء بعدي، أما إذا نظر إليه من زاوية الضرورة، فكل شيء قبلي.
وقد ذكرت هذه الموضوعات المتفرقة في مثالية الأنا دون أي تطوير لها، مثلا لا يوجد زمان إلا في قوة الخيال، في حين يتساوى كل شيء في العقل الخالص، وأيضا يتطلب نوع المعرفة الابتعاد كلية عن قانون العلية وعالمه الذي يوجد فيه،
468
وهكذا وقعت الظاهريات تحت إغراء نظرية العلم لشمولها، وابتعدت عنها لرومنسيتها، ومن الصعب بمكان تحديد العلاقة بين نظرية المعرفة والظاهريات، ومع ذلك تبين بوضوح هذه الإشارات المتفرقة كيف ترى الظاهريات نظرية المعرفة.
والمثالية تطور لخط الفلسفة الترنسندنتالية ورد فعل عليها،
469
وتحديدها لرسالة الفلسفة كبناء للمطلق في الوعي، وتحديدها للفلسفة ذاتها كعلم للمطلق، تبرر تسميتها «المثالية المطلقة»،
470
والواقع أن الخط الصاعد من العقلانية يصب في المثالية المطلقة،
471
وقد حاولت «ظاهريات الروح» أن تعرض كيف سار الروح الإنساني من وجهة النظر الساذجة للعالم وتصور الحياة إلى وجود تناقضات داخلية فيه من وجهة نظر الفلسفة،
472
وقد دخلت المثالية المطلقة أيضا في قوة الباعث واستحال عليها التراجع،
473
وتتسم بالتعبير عن هذا الباعث في نسق شامخ للروح، وهو ما لم يحدث في المثالية التجريبية أو في التجريبية الطبيعية، وأصبحت قوة الباعث قوة النسق.
474
وقد ارتبطت المثالية المطلقة بالحركة الرومانسية، نقصها نقد العقل؛ ومن ثم ضعف مطلب إقامة فلسفة محكمة، وبالإضافة إلى ذلك سببت رد فعل عنيفا على النزعات الطبيعية والشك والتاريخية، وأصبح تصورها للفلسفة كتعبير عن روح العصر، أساس النزعة التاريخية.
475
وتبدأ المثالية المطلقة من مثالية الأنا، وقد أصيب كلاهما بعدوى المنهج الجدلي الذي يعتبر مهمة العقل توحيد القضايا المتناقضة،
476
والتناقض هو الذي يدفع العالم نحو الحركة، ومن المضحك القول بأنه لا يمكن التفكير في التناقض أو أنه لا يمكن التعبير عن الحقيقة في قضية واحدة، ومن الضروري قضيتان متناقضتان؛ الأولى تعبر عن الهوية، والثانية عن الاختلاف. والجدل، وهو بناء قبلي لعملية العالم، حركة التصورات في الوعي الفردي، وليست الفلسفة إلا الناظر إلى هذا المسار الموضوعي للعقل، وقد ضل الفكر الفلسفي التحليلي الطريق بمقدار ما يتحد الموضوع، أي الفكرة، مع حركته وتطوره، وفي هذه الحالة يصبح التفلسف فعلا سلبيا خالصا، لم يكن الجدل فقط الفعل الخارجي لفكر ذاتي بل هو مضمون النفس، فروعها وثمارها، هذا التطور للفكرة كفعل خاص للعقل يعطي للعقل هذه السمة الذاتية دون الوقوع فيها. الجدل أيضا خالق، هو الفكر الإلهي الرائي دون افتراضات مسبقة، وهو فكر مطلق، هو لحظة جذب، ولا يمكن للعقل تصوره، ويسميه واضع المثالية المطلقة تصوفا، يتوقف الوعي في الفعل التأملي، في حين أن التأمل يتطلب في نسقه الشعوري الأسمى إعدام الوعي ذاته.
477
وهكذا تعرض الظاهريات المنهج الجدلي وكأنه هو المشروع الذي تريد تحقيقه، وبسبب هذا الطابع الجدلي وربما الأسطوري لم تجرؤ أن تواجه المثالية المطلقة كما واجهت الكوجيتو والمثالية النقدية؛ فالواقع أن المثالية المطلقة تنكر قانون التناقض، ومنطقها ليس منطقا معياريا،
478
هو نسق فلسفي يضم فلسفة الطبيعة، ومع ذلك طبق المنهج الجدلي للفكر الخالص والمستنبط من المثالية المطلقة في المنطق، ولا يتطلب أكثر من أن يكون آلة جديدة وسامية للمعرفة الإنسانية،
479
ومن أجل الحصول على شيء من العقل في المثالية المطلقة يجب أن يكون الإنسان مفضلا عند الله،
480
ومع ذلك وصفت «بحوث منطقية» بأنها أقل خصوبة من نسق المنطق الاستقرائي الاستنباطي،
481
والنقد الذي وجهه مؤلفه إلى «العلم الشامل» و«الحساب العقلي» نقد سطحي.
482
وفي المنهج الجدلي، الرؤية التأملية ، «الرؤية في النور» ضرورية لإقامة ميتافيزيقا أو أنطولوجيا،
483
ويقع كل نسق ميتافيزيقي في الاشتباه بين تصور العالم والحكمة الشاملة وخلط المقاصد الحقيقية لنظرية العلم،
484
وتختلط الفلسفة والرياضيات والعلم الخاص، تصبح الفلسفة دون افتراضات مسبقة بقدر ما يعطي الفكر موضوعه.
485
المثالية المطلقة إذن نوع من الأنا وحدية، والرياضيات استنباطية، وضروري أن تحيل فلسفة الطبيعة إمكانية الطبيعة، أي مجموع تجارب العالم، إلى المبادئ. وتتشابه الرياضيات والفلسفة تشابها كاملا في طريقة رؤية نوع المعرفة، والمنهج الحقيقي للفلسفة منهج برهاني،
486
والعلاقة بين العلم التأملي والعلوم الأخرى علاقة متبادلة بين التمثل والأفكار في العلوم التجريبية وبين الأفكار والتمثل في الفلسفة،
487
كانت الظاهريات تستطيع أن تنظم هذه العلاقة لو أنها كانت أكثر صبرا في مواجهتها مع الفلسفة الرومانسية، ويستمر مشروع النهضة مع مساهمة جديدة يظهر فيما بعد في فلسفة الوجود.
وبالإضافة إلى نظرية العلم والمنهج الجدلي، الأول حصيلة مثالية الأنا، والثاني نتاج المثالية المطلقة، تقوم فلسفة الهوية أيضا على رؤية عقلية؛
488
إذ تسكن فينا قوى سرية رائعة، وكل تغيير في الزمان علاقة خارج ذاتيتنا، وكل ما يأتي من الخارج ينكشف ثم يعود من جديد إلى الداخل للحفاظ على الخالد كرؤية فينا، هذه الرؤية هي تجربتنا الداخلية الوحيدة التي يعتمد عليها كل شيء آخر، هي منبع كل معرفة وكل اعتقاد في عالم يفوق الحس،
489
والحرية افتراض مسبق لها، وتتميز عن كل حدس حسي بقدر ما يتحقق هذا الحدس على العموم بالحرية، وهي معرفة خارج الزمان، فيها يختفي الزمان والديمومة. نحن لسنا في الزمان ولكن الخالد فينا، وهي قوة خالقة. الحدس العقلي معرفة تنتج موضوعا، قوة نوع من أفعال الروح، ينتج ويدرك إدراكا حدسيا، ومن هذا العرض الموجز تستنتج الظاهريات بطريقتها نظرية في العلم، وتستأنف مشروع النهضة.
ويرجع عدم فهم الفلسفة إلى نقص في آلات فهمها؛ إذ تنشأ الفلسفة من الطبيعة، وتقدم إلى الإنسان على أنها هبة إلهية، وهي تقوم على أساس مطلق كشرط لها؛ كي تصبح فلسفة بلا افتراضات مسبقة، نقطة البداية للمطلق توجد في المثالية الألمانية ولكن المطلق ليس موضوعا للتفكير، له سمة قبلية، نسق المثالية الألمانية مساو لنسق مجموع المعرفة،
490
ويستمر هذا المشروع نفسه في الظاهريات وعلى نحو خفي حول المنبع المطلق، وقد ذكر تحديد الفلسفة كعلم مطلق أو علم المطلق مع تعريفات أخرى تتبناها الظاهريات عن طيب خاطر وترتبط بها.
491
ولا تنتمي المثالية المطلقة للهوية إلى نشاط الفلاسفة بل إلى إنتاج ما يفوق الفرد في الإنسان،
492
وقد ماتت الميتافيزيقا القبلية إلى الأبد ولن تبعث من جديد، وهو برهان لا يمكن دحضه من أجل النقد التاريخي للفلسفة، وتجد الظاهريات هذا المصدر للمعرفة المطلقة في الحلول؛ أي في الشعور.
الفلسفة هي التماهي بين فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح، والفيزيقا التأملية معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، والمعرفة أساسا معرفة قبلية، في الطبيعة كل شيء قبلي، تحدده فكرة الطبيعة على وجه العموم، والتجريبي الخالص ليس علما، وتصور علم للتجربة لا يمكن التفكير فيه، النظرية الحقيقية هي وحدها القبلية، واتجاه البحوث الفلسفية اتجاه جديد تماما في مواجهة العلوم الجزئية، وللفيزيقا والكيمياء لغتهما الخاصة، تنتهي بالضرورة إلى علم أسمى آخر، وتعطي فلسفة الطبيعة رؤية مغايرة تماما للطبيعة، ولا يمكن إدراك هذا العلم السامي عن طريق تطور العلوم الجزئية ولكنه نوع آخر من المعرفة، خطاب جديد تماما موضوعه العالم، يعطي مرة واحدة، الفلسفة أساس كل علم آخر، وأساس الفلسفة هو صورة كل معرفة أصلية ومضمونها،
493
ويطور منهج فلسفة الطبيعة بداهة خاصة متميزة عن كل منهما، وتقفز فوق المقارنة بين الوقائع وفي البحث عن الفردي، وهذه البداهة لا زمانية؛ فالمعرفة تحت نوع الخلود،
494
وهكذا تستعد فلسفة الطبيعة للالتحاق بفلسفة الروح، وإن لم يكن التمييز بين القضايا القبلية والبعدية موجودا من قبل في هذه القضايا نفسها، بل في معرفتنا ونوع معرفتنا المكونة من هذه القضايا نفسها تجد فلسفة الطبيعة شريكا في الروح المطابقة لها.
495
في الفلسفة الرومانسية، المفاهيم الصورية نوع من الأقنوم، هي تصورات يتكون عليها التجريبي، وبالإضافة إلى ذلك لها وجود واقعي، ويتم التفكير فيها كماهيات وقوى، ولا تعطى عن طريق التوضيح العلي بين الوقائع أو المحسوسات أو امتداد الواقع لأن الماهيات لها تأويلها المثالي، إنها الفكرة التي تجعل المادة ممكنة كظاهرة، ويقل هذا النشاط في الظاهريات بالرغم من محاولات إقامة ظاهريات حركية.
496
وأخيرا لا تذكر مثالية الإرادة إلا نادرا، وقد أخذ تصورها للأخلاق كعلم معياري كحجة لإثبات المنطق المعياري ضد المنطق كتقنية،
497
ومع ذلك أخذت قضية «العالم المثالي» كنموذج لمعنى ثالث للفظ ظاهرة، وهو المكونات الواقعية للظاهرة؛ أي الإحساسات.
498
ويبين هذا العرض المتناثر للفلسفة بعد كانط بوضوح الصورة التي رسمتها الظاهريات لهذه الفلسفة التي تقرب من المطلق ولكن ضلت طريقها بسبب الرومانسية. (ب) النهاية: الظاهريات
499
ليس الهدف من هذا التحليل المفصل للمصادر التاريخية للظاهريات نفي أصالتها، بل على العكس تأكيدها مرة أخرى؛ فالظاهريات مرة ثانية بحث في الذاتية التي تم اكتشافها في عصر النهضة، ثم عثر عليها من جديد في الظاهريات. الظاهريات إذن نهضة ثانية تهدف إلى إقالة النهضة الأولى من عثراتها.
500
كان المثل الأعلى للنهضة، المشروع الخفي للعصور الحديثة ، والرسالة الرئيسية للحضارة الأوروبية، هو العثور على المثالي العياني. وقد تجاور العنصران في الكوجيتو، ومنه خرج الخطان المنفرجان؛ المثالية والواقعية، ثم تجاورا من جديد، واحد فوق الآخر، في المثالية النقدية بطريقة التعشيق للمضمون في الصورة، وبعد ذلك أصبحا نتيجة عملية تاريخية بقوة النفي، وأخيرا أتت الظاهريات باكتشافها عالم المعطى الحي، ومن ثم تجد كل المحاولات السابقة منذ بدايات العصور الحديثة تحققها النهائي في الظاهريات.
ومنذ العصور الحديثة، نشأ تعارض بين الموضوعية الفيزيقية والذاتية الترتسنتدنتالية، وأصبح الوعي الأوروبي فكا مفتوحا، فك إلى أعلى وفك إلى أسفل، وشق إلى أفقين؛ المثالية الترنسندنتالية والموضوعية التجريبية.
501
وفي الظاهريات يتقابل الأفقان من جديد في الذاتية الترنسندنتالية،
502
ثم تظهر مأساة علم النفس الحديث؛
503
ومن ثم شقت الفلسفة الترنسندنتالية الظاهراتية طريقها بالعودة إلى عالم المعطى الحي سلفا على النحو الآتي.
بدأ الخطان الناتجان عن ثنائية العصور الحديثة في الالتقاء على أعتاب العصر الحاضر؛ فقد حدث إصلاح نفسي لشرح خالص للشعور من حيث هو كذلك، وبوجه خاص للمسألة الشاملة للقصدية،
504
ويتكون هذا الإصلاح من العودة إلى الكوجيتو مع تجنب نتائجه الوخيمة مع التخلص من كل الأحكام المسبقة الطبيعية، وقام علم النفس الظاهرياتي بالرد الظاهرياتي ليسمح للقصدية بالظهور للحصول على مستويات للوصف النفسي ولتكوين المشاهد المنصف؛ ومن ثم كان للتجريد النفسي مشاكله بل وتناقضاته بالتأكيد على وجود موضوعات واقعية للقصدية،
505
ويوجد خطر آخر هو سوء فهم شمولية علم النفس الظاهرياتي.
506
ومع ذلك، تؤدي الصلة بين علم النفس الظاهرياتي والظاهريات الترنسندنتالية إلى الدخول مباشرة إلى المعرفة الخالصة للذات؛ وبالتالي استبعاد النموذج الموضوعي لعلم النفس إلى الأبد.
507
وبتعبير آخر، وبعد الفلسفة النقدية، يتلخص تاريخ الفلسفة في الصراع بين الموضوعية الفيزيقية والباعث الترنسندنتالي اللذين اختلطا دائما،
508
واستمر التطور دائما في الذاتية الترنسندنتالية والتجريبية، وكان الفصل بين الفلسفة الترنسندنتالية وعلم النفس قاتلا. وبالرغم من الاختلاف الجذري بينهما، توجد أيضا مؤاخاة قوية بينهما، ميدان علم النفس هو القرارات؛ فالواقع أن علم النفس لم ينجح حتى الآن في بلورة مصادرات نظرية،
509
وتستطيع الفلسفة الترنسندنتالية أن تمد إليه يد العون فيما يتعلق بالتجارب الداخلية، وهذا يتطلب نقل علم النفس إلى مستوى الفلسفة الترنسندنتالية، وبعد الرد الظاهرياتي، يصبح علم النفس علم التيار الحي للشعور.
وأخيرا فشل علم النفس بسبب الافتراضات المسبقة الثنائية والفيزيقية،
510
وظل منقسما بين فكرة علم موضوعي فلسفي وطريق التجريبية الخاطئ،
511
وتخاطر كل محاولة للتوحيد بين الاتجاهين بالوقوع في السيكوفيزيقا أو في علم نفس التجربة الباطنية، وكل تسوية في الاتجاه بين النفس والبدن كواقعتين طبيعيتين فإنها تشكك في الاختلاف الجذري فيما يتعلق بالزمانية والعلية والتفرد بين الشيء الطبيعي والنفسي، وتصور التجربة الخارجية والتجربة الداخلية مشكوك فيه، ولم تؤخذ تجربة «البدن الشيء» كتجربة للذاتي الخالص حتى الآن كموضوع لعلم النفس، وعلى أساس هذا التوازي، توجد الثنائية «الديكارتية» واضعة فكرة علم وصفي وحيد ومنير تجد مبرراتها في التعميم الصوري.
512
ويوجد أصل التجريبية في حياة عالم النفس خاصة عالم النفس الذي يسير في طريق خاطئ ومزيف،
513
فمثلا لعالم التجربة العام نمطه في المنطقة وتجريده الشامل الممكن الذي تكون الطبيعة متضايفة معه ،
514
وفي التجريد الذي يقوم على التجربة، توجد أيضا ثنائية بين التجربة الداخلية والتجربة الخارجية، ورد الأولى إلى الثانية،
515
وهكذا فإن الرؤية الثنائية للعالم عند عالم النفس لها ما يقابلها في الرؤية التوحيدية عند الظاهراتي، وقد أدت النزعات الطبيعية والثنائية والسيكوفيزيقية إلى التمييز بين علوم الطبيعة وعلوم الروح.
516
ومن أجل القضاء على هذا الخلط في العلوم الإنسانية، تقدم الظاهريات منهجها الذي يبدأ بتمييزات أساسية.
517
والفيزيقا الحديثة مقاربة جديدة لتحويل الطبيعة إلى مثال،
518
ومع ذلك تترك المكان والزمان كحامل للعالم الحي واضعة الزمان داخل النسق الفيزيقي، الظاهريات وحدها هي التي تأتي أخيرا لإكمال مشروع النهضة، واضعة مشكلة المعطى الحي، والواقع أن المعطى الحي مشكلة جزئية في مشكلة عامة وهي قضية العلم الموضوعي.
519
ومع ذلك، هناك فرق بين العلم الموضوعي بالمعنى الدقيق والمعنى العام، يتعامل الثاني مع ما قبل العلم للأول؛ لذلك للتجربة الذاتية فائدة كبيرة لهذا العلم الموضوعي، لعلم ما قبل العلم.
520
هذا العالم للمعطى الحي ليس موضوعا على الإطلاق لعلم النفس، هو عالم حدس رئيسي بالتعارض مع العالم الواقعي موضوع بناء منطقي لا حدسي، وهذا العالم هو الذي يتحول من طبيعة إلى رياضة، هذا العالم الموضوعي هو نفسه تكوين ذاتي كممارسة منطقية نظرية تنتمي إلى عالم المعطى الحي العياني في مجموعه،
521
وتلخص العلاقة بين هذين العالمين كل بواعث الفلسفة الأوروبية في مصدرها وفي بدايتها،
522
وباختصار، بدلا من أن تكون مشكلة عالم المعطى الحي مشكلة جزئية تصبح مشكلة فلسفية شاملة.
وللحصول على هذا العالم للمعطى الحي تعرض نظرية «الرد» مرة أخرى كتحليل للتقويس الظاهرياتي.
523
أولا هو تقويس العلم الموضوعي؛ فالقبلي المنطقي الموضوعي هو بعدي بالنسبة إلى القبلي ما قبل المنطقي لعالم المعطى الحي، ويصبح الشيء في العالم الطبيعي الشيء في الشعور. هناك إمكانيتان لوجود بناء صوري لعالم المعطى الحي؛ الأولى إمكانية الموقف الطبيعي الساذج، والثانية إمكانية الموقف التأملي بالنسبة للمعطيات الذاتية والموضوعات الحية،
524
وخاصية التقويس الترنسندنتالي هو التغير الكلي في الاتجاه الطبيعي، وصعوبة تقويس كلي صحيح هو حماية النفس من أي سوء فهم، والتقويس الحقيقي الترنسندنتالي يجعل «الرد» ممكنا؛ مما يسمح باكتشاف التضايف الترنسندنتالي بين العالم وعالم الشعور، ويرتبط هذا الطريق الجديد بطريق الذاتية الترنسندنتالية.
525
وعالم المعطى الحي موضوع ذو أهمية نظرية يظهر بعد التقويس الشامل الذي يطلق على الواقع الطبيعي لهذا المعطى الحي، هو تيار المعطى الحي.
526
وتفسر الحدوس الحسية الخالصة كما هي عليه، وتوجد بينها علاقات تضايف قبلي وشامل. وبالإضافة إلى ظواهر الإدراك، هناك أيضا ظواهر الحركة، وتغير التطور، وآفاق الشعور، وجماعة التجربة. وفضلا عن ذلك، كل وجود حسي وكل منطقة هو مؤشر على نسق ذاتي للتضايف.
527
والتكوين الترنسندنتالي أول تكوين للمعنى، ويعطي كل عمل للتكوين في ثلاثة موضوعات: الأنا، والأنا أفكر «الكوجيتو»، والأنا موضوع التفكير «الكوجيتاتوم». وتكون هذه الموضوعات المادة الأولى لأنطولوجيا المعطى الحي، ويظهر سوء فهم متناقص وهو الذاتية الإنسانية؛ فالوجود الذاتي للعالم هو في نفس الوقت وجود موضوعي في العالم، ولا يستطيع المنطق كلعبة حجاج حل هذه المعضلة،
528
ويوجد حل التناقض في «نحن» الإنساني باعتباره الذات الأخيرة، العامل الفعال، ومن ناحية أخرى في «الأنا» كأنا أصلي يكون أفقيا للآخرين الترنسندنتاليين باعتبارهم ذوات مشاركة تكون الخبرة الذاتية المشتركة الترنسندنتالية؛
529
فالمكسب الرئيسي للتقويس هو الأنا الفعال المطلق.
وتنتهي الظاهريات بالإعلان عن أزمة طاحنة في العصور الحديثة، ويبين العنوان وحده «أزمة العلوم الأوروبية والظاهريات الترنسندنتالية» وبوضوح شيئين؛ الأول وجود أزمة في العلوم الأوروبية، والثاني حل هذه الأزمة في الظاهريات الترنسندنتالية. وبالرغم من أن «الأزمة» تاريخ للفلسفة الأوروبية، فإنها منقسمة مباشرة إلى قسمين؛ الأول تاريخ نقدي للأفكار، والثاني عرض الظاهريات كعلم للمعطى الحي.
530
وبهذا المعنى تنقسم «الأزمة»، مثل «الفلسفة الأولى» نفسها، بوضوح إلى قسمين؛ الأول تاريخ نقدي للأفكار، والثاني نظرية «الرد» أزمة العلوم الأوروبية منهجية تاريخية أكثر منها تاريخا للفلسفة، تبين تجارب النجاح والفشل لمشروع واحد هو العلم الشامل،
531
أزمة العلوم تعبير عن أزمة جذرية لحياة الإنسانية الأوروبية،
532
وهكذا أحيلت العلوم إلى الوعي الأوروبي نفسه،
533
أزمتها ليس في بنياتها الداخلية، بل في مصادرها في الوعي الأوروبي، العلوم ظواهر شعورية قبل أن تكون ظواهر خارجية.
وتذكر ملحمة الوعي الأوروبي كثيرا بملحمة التطور الخالق؛ فقد انقلب الدافع الحيوي نحو المثل الأعلى إلى ثقل، ينطلق من جديد ثم يعود إلى الهبوط وهكذا باستمرار. الانقلاب الأول نسيان المعطى الحي بسبب الصوري أو التجريبي، والانقلاب الثاني ثقل المادة. الشعوب الأوروبية مريضة، أوروبا نفسها في أزمة، ويتجلى أفول أوروبا في الانحراف عن حياتها العقلية الخاصة، وسقوطها في الموضوعية والنزعة النفسانية،
534
والظاهريات أملها الوحيد، إلا إذا استمر الوعي الأوروبي في تطوره المحتوم في ثنائيته وخلطه وكأنه يسير بالرغم من كل شيء نحو مصيره، مدفوعا من القدر.
الفصل الثاني: تكوين الظاهريات1
انتهى فهم الظاهريات إلى مخطط متعدد لنظرية في الذاتية، وما يهم الآن هو تكوين المقصد الأخير للظاهريات ومحركها الداخلي في صورة منهج، صحيح أنه من المعروف أن المنهج الظاهرياتي يتكون أساسا من لحظتين، «الردود» و«التكوين»، وعادة ما تنسى اللحظة الثالثة «منهج الإيضاح»، وهو بالفعل نادرا ما يذكر في مجموع أعمال الظاهريات، ومع ذلك فإنه يكون المقصد الداخلي للحظتين السابقتين.
وطبقا للعنوان «أفكار موجهة لظاهريات وفلسفة ترنسندنتالية خالصة» تبدو الظاهريات في أول مراحل تكوينها وكما أرادها مؤسسها تتكون من مجرد أفكار موجهة دون أن تصبح بعد «مقالا في المنهج» أو «قواعد لهداية الذهن»، الظاهريات الخالصة نفسها لم تصبح بعد فلسفة محكمة؛ لأنه يوجد بجوارها فلسفة ظاهراتية، وهي الفلسفة الكلاسيكية، في طريقها إلى الاكتمال في الظاهريات. وتمثل الفكرة الموجهة حلا للمشاكل مثل مشكلة ملء صور الدلالة الخاصة بالمقولات.
2
ومع ذلك تكون المنهج الظاهرياتي أساسا في مجموعة «الأفكار»، الجزء الأول «مقدمة في الظاهريات الخالصة»، الجزء الثاني «بحوث ظاهراتية للتكوين»، والجزء الثالث «الظاهريات وأسس العلوم».
3
أولا: المنهج الظاهرياتي كمنهج للإيضاح1
لقد تم عرض المنهج الظاهرياتي حتى الآن في لحظتين كبيرتين، «الرد» و«التكوين»، ونسي تماما منهج «الإيضاح»، والمنهج الظاهرياتي هو أساسا منهج للإيضاح، وهو أساس التكوين، ويظهر في أقوى أشكاله في «الرد». ليس ترتيب «الأفكار» إذن هو الترتيب التصاعدي؛ الجزء الأول فالثاني فالثالث، بل الترتيب التنازلي؛ الثالث فالثاني فالأول. ويتابع منهج الإيضاح بدقة درجات تكوين الموضوعات المرئية،
2
ولا يكون «التكوين» نفسه ممكنا إلا بعد «الرد»؛
3
ومن ثم فإن المنهج الاسترجاعي أو التراجعي هو أفضل طريقة لتكوين المنهج الظاهرياتي،
4
وبالتالي فإن اللحظات الثلاث للمنهج الظاهرياتي هي: أولا «منهج الإيضاح»، ثانيا «التكوين»، ثالثا «الرد». ومنهج الإيضاح هو المقصد الداخلي للمجموع، وهو الوحيد الذي سمي منهجا.
وفي الجزء الثالث من «الأفكار» بعنوان «الظاهريات وأسس العلوم»، الفكرة الوحيدة التي سميت منهجا هي فكرة «الإيضاح»، و«منهج الإيضاح» هو آخر فصل فيه؛ ومن ثم في كل الأجزاء الثلاثة، والواقع هو الفصل الأول في تكوين المنهج الظاهرياتي، ويمكن تفسير الجزء الثالث بطريقة تراجعية؛ فقد وضع منهج الإيضاح خاصة لتحديد الصلة بين الظاهريات والأنطولوجيا والعلاقة بين علم النفس والظاهريات؛ فالواقع مكون من عدة مناطق، وطبقا للترتيب الطبيعي للفصول وضع منهج الإيضاح في النهاية باعتباره الحل الأخير؛ إذ يتكون الواقع من مناطق عدة متضمنة في العلوم الثلاثة: علم النفس، والظاهريات، والأنطولوجيا. غاية منهج الإيضاح تحديد العلاقة بين هذه المناطق الثلاث للواقع، والعلاقة بين علومها المقابلة.
5
وعلاوة على ذلك، ومن أجل تجنب كل سوء في فهم للمنهج الظاهرياتي، من الضروري أخذ «منهج الإيضاح» كمرشد؛
6
فقد أعلن صراحة أن «منهج الإيضاح» وحده يمكن أن يكون نقطة البداية لكل تكوين ممكن للمنهج الظاهرياتي، وهو الذي يعطي الظاهريات حركاتها الفكرية وتمفصلاتها الداخلية.
ويظهر «منهج الإيضاح» الحاجة إلى توضيح العلوم الدوجماطيقية، بل كل العلوم داخل الحضارة، والتي أنتجها خليط من الغريزة والحدس، وهو موجه ضد أحادية الطرف في العلوم التجريبية، ويقترح توجهات جديدة للفكر: التعميم، الرفع، التوسيع؛ من أجل إقامة المثال، كما يقترح توجهات في التاريخ، وقلب النظرة ضد قلب علوم الطبيعة، العود إلى الأصلي ضد الانحراف نحو التجريبية ... إلخ. وبتعبير آخر يتضمن «منهج الإيضاح» كل عمليات التوجه في الفكر أو في الذاتية المشتركة.
7
والواقع أن «منهج الإيضاح» هو منهج للتمييز، وقد تم الإعلان عن ذلك بوضوح في «إيضاح وتوضيح» كفقرة أخيرة في الجزء الثالث من «الأفكار»؛ وبالتالي آخر تفكير في الأجزاء الثلاثة في مجموع «الأفكار»،
8
ويتم الإيضاح بين التصورات في حين ينشغل التوضيح بمضامين التصورات. يتعامل الإيضاح مع اللغة واللفظ والمعنى، في حين يذكر التوضيح حول الشيء ذاته. وباختصار ليس منهج الإيضاح فقط منهجا للتوضيح، بل هو أيضا منهج للتمييز، هو منهج للتمييز بين المعطيات المتوسطة.
9
ولا يكون التمييز فقط بين مستويين، بل قد يكون أيضا بين ثلاثة مستويات أو أكثر، ومرة أخرى تشير التصورات التي يقوم «منهج الإيضاح» بتوضيحها إلى حضور الوعي بين عالمين. فتوجد ثلاثة أنواع من التصورات لتوضيحها؛ التصور الصوري، وتصور المنطقة (التصور الجهوي)، والتصور المادي.
10
التصور الصوري مستقل تماما عن مضمونه المادي، في حين أن التصور الجهوي يلامس مضمونه كمنطقة أو جهة وليس كمادة، ليس التصور المادي إلا السمات الخاصة بالمضمون المادي.
11
وبإرجاع هذه المستويات للتصورات إلى العلوم الثلاثة: علم النفس، والظاهريات، والأنطولوجيا؛ يقابل كل تصور كل علم خاص. التصور المادي لعلم النفس، والتصور الجهوي للظاهريات، والتصور المنطقي الصوري للأنطولوجيا.
وقد تم تصور المناطق المختلفة للواقع طبقا لتمييز بين ثلاثة مستويات: الشيء المادي، موضوع علم الطبيعة خاصة الفيزيقا، والبدن موضوع علم البدن «السوماتولوجيا»، وأخيرا النفس. موضوع علم النفس الذي يماس «السوماتولوجيا» ومع ذلك مستقل عنه؛ ومن ثم يكون الشيء والجسد والنفس ثلاث مناطق للواقع،
12
وفي إيضاح العلاقة بين علم النفس والظاهريات، تستخدم الظاهريات لرفع علم النفس التجريبي بإعطائه أساسا أنطولوجيا، وخفض علم النفس العقلي بتحويل تصور النوع إلى تصور جهوي مع تمييز جذري بين الفيزيقا وعلم النفس بالنسبة للأنطولوجيا.
13
وتتحدد العلاقة بين الظاهريات والأنطولوجيا بالعلاقة بين الماهية ومضمون الشعور. وإذا كانت الظاهريات علم الماهيات، فإن الأنطولوجيا علم مضمون الشعور الصوري؛
14
ومن ثم يبين تحليل الجزء الثالث من «الأفكار» أن فكرة الإيضاح هي فقط التي أطلق عليها اسم المنهج، ومنهج الإيضاح هو أساسا منهج للتمييز، ولا يكون التمييز فقط بين مستويين بل قد يكون بين ثلاثة أو أكثر، وقد انتهى منهج الإيضاح إلى تكوين مناطق الوجود؛ مما يؤدي أيضا إلى التكوين بالمعنى الدقيق.
وفي الجزء الثاني من «الأفكار» بعنوان «بحوث ظاهراتية للتكوين»، التكوين ممكن بفضل إيضاح الشيء المكون، ويتم طبقا لمنطق العلاقة بين المستويات المختلفة للوجود. وبالرغم من قلة ظهور لفظ «تمييز» في التكوين، تتم أغلب التحليلات ابتداء من الواجهتين اللتين يكونان الشيء موضوع التحليل، وينتهي إيضاح «الروحي» من منظور نفسي إلى التمييز بين تصورين للطبيعة: «الطبيعة كمادة، والطبيعة كروح»،
15
ويظهر الإيضاح مرة أخرى كمنهج للتمييز.
ويظهر لفظ «منهج» في «التكوين» كوعي منهجي ل «الرد» المفروض على الواقع الطبيعي من قلب النظرة من الاتجاه الطبيعي إلى الاتجاه الشخصاني،
16
وإذا أدى «منهج الإيضاح» إلى تكوين مناطق الآخر، فإن التكوين بالمعنى الدقيق يقود أيضا إلى «الرد». وبتعبير آخر، التكوين «إنجاز عملي» يستعمل «منهج الإيضاح» كمنهج للتمييز.
ومن ثم يعطي الجزء الأول من «الأفكار» بعنوان «مقدمة عامة للظاهريات الخالصة» تعريفا أوليا ل «الرد»؛ لأنه موضوعه الرئيسي، وهو أول لحظة في المنهج. وهي أفكار ما زالت مترددة على طريق الظاهريات، ويبدو هذا التردد في الأقسام والفصول ذات العناوين العامة، مثل: «اعتبارات ظاهراتية أساسية »، «مناهج الظاهريات ومشاكلها»، «اعتبارات أولية للمنهج».
17
أما العناوين، مثل: «الماهيات ومعرفة الماهيات» و«العقل والواقع»، فهي وحدها التي تكون المقاربات المباشرة للظاهريات كعلم ومنهج.
18
ولم يبرز موضوع «المنهج الظاهرياتي» كثيرا، بل تم التعرض له مرة واحدة في «مناهج الظاهريات ومشاكلها»؛
19
ومن ثم فالمنهج عدة مناهج، والمنهج والمشكلة لا ينفصلان، ولا تتجاوز «الاعتبارات الأولية للمنهج» «الاعتبارات الأولية» كما يدل العنوان.
20
وإذا ما ترك لفظ «المشاكل» جانبا وضمت «المناهج» في منهج واحد، يبدو المنهج الظاهرياتي كبنية عامة للوعي الخالص، صورة الشعور ومضمون الشعور في تحليل صوري مادي،
21
ويبدو بوضوح أن منهج الإيضاح هو الوحيد المنهج بالمعنى الدقيق، بل يطبق في المعطى كي يعرف مدى قربه أو ابتعاده عنه. يقترب المعطى عندما يتم إدراكه بحدس واضح، ويكون القرب كاملا عندما يدرك المعطى في صفاته، على وجه التمام والكمال، وكما هو عليه، ويكون بعيدا عندما لا يتم إدراكه حدسيا، وفي هذه الحالة يكون غامضا، والدرجات الصحيحة للوضوح هي درجات كيفية في النصاعة، والدرجات الخاطئة هي درجات الكثافة الكمية، ويتضمن الإيضاح نفسه حركات؛ واحدة تجعله حدسيا، وأخرى تزيد من وضوح عناصره المدركة حدسيا من قبل. الإيضاح مسار يتقدم باطراد، ينزع الأغلفة عن المعطيات المتوسطة مفككا إياها في سلاسل متعددة من التمثلات، وللإدراك دوره في منهج الإيضاح كإدراك أصلي واهب للمعاني، والخيال عنصر حيوي في الظاهريات كما هو الحال في كل العلوم النظرية،
22
وهكذا يبدو «منهج الإيضاح» مسبقا على أنه نظرية في البداهة.
وينطبق «منهج الإيضاح» على اللغة، ولا تحتاج التعبيرات الصادقة المطابقة للمعطيات الواضحة إلى إيضاح، الألفاظ المتشابهة وحدها هي التي تحتاج إلى إيضاح،
23
ويتأكد من جديد التمييز بين الإيضاح والتوضيح؛ الأول للغة، والثاني للتجارب، في هذه الميادين.
24
ومنهج التوضيح، مثل المنطوق، عنصر حيوي في العلم،
25
وهو بالضرورة منهج تمييز في المعرفة الغامضة، ويتكون أولا من نقل كل الأفعال المنطقية التي ما زالت غامضة إلى نمط الواقع الأصلي التلقائي وفي تحويل على المستوى الضمني اللاحي إلى حي، واللاحدسي إلى حدسي.
26
وهكذا تقدم الأجزاء الثلاثة لمجموعة «الأفكار» المنهج الظاهرياتي كمنهج للإيضاح يقوم على عمليات للتمييز.
وبالإضافة إلى هذه المجموعة يظهر لفظ «منهج» مباشرة كتحليل نظري للتجارب، كما يظهر لفظ «إيضاح» ومشتقاته «توضيح» خاصة «تفسيري» و«شرح» أيضا كتحليل نظري للتجارب، يقوم على التمييز دون أن يطلق على نفسه لفظ «منهج» بالمعنى الدقيق. وهذا يدل على أنه حتى في مجموع الأعمال الظاهراتية، المنهج الظاهرياتي هو أساسا منهج للإيضاح، بالرغم من التمييز بين هذين اللفظين؛ «منهج» و«إيضاح».
وتبين كل استعمالات لفظ «منهج» معنى التمييز؛ إذ يظهر لفظ «منهج» من وقت إلى آخر أثناء معركة الظاهريات ضد النزعة النفسانية؛ ومن ثم يتم التحقق من صدق الإجراءات المنهجية في العلوم. المناهج اللوغارتمية والمناهج الآلية إجراءات منهجية للحصول على أحكام تجريبية،
27
ومن المعروف أن معركة الظاهريات ضد النزعة النفسانية تقوم على خلط هذه الأخيرة بين مستويين متمايزين تماما، واستعمال لفظ «منهج» للإشارة إلى هذه المعركة يدل على دوره كمنهج للتمييز. وللمنهج الظاهرياتي مبادئه التي تتركز حول التحليل الترنسندنتالي باعتباره تحليلا نظريا ،
28
ويبدأ التحليل النظري ذاته بتمييزات أساسية، كما يظهر لفظ «منهج» على استحياء من وقت إلى آخر مثلا: منهج توحيد التكوين الذي يقوم به الشعور في الدلالة الفلسفية الشاملة،
29
ويتم التكوين نفسه بإجراءات تمييز، وأيضا يشير استعمال لفظ «منهج» إلى «التكوين» و«الرد» في نفس الوقت. وعندما يقع المرئي والمفكر فيه تحت «الرد» الظاهرياتي الأكثر إحكاما، فإنهما يكشفان عن سماتهما الخاصة، وهذا هو جوهر منهج فلسفي خاص بقدر ما ينتمي هذا المنهج أساسا إلى نقد المعرفة ونقد العقل بوجه عام.
30
ويعتبر «الرد» الظاهرياتي انفتاحا على الحلول،
31
ويكون «الرد» الظاهرياتي النفسي والتحليل النظري لحظتي منهج علم النفس الخالص، وله عنصران: الرؤية والتفكير.
32
وهكذا يتأسس كل من «الرد» و«التكوين» على التمييزات.
ويطلق أيضا لفظ «منهج» لتوضيح الخبرات، وتعتبر رؤية الماهيات كمنهج عام لإدراك القبلي،
33
والتنوع خطوة حاسمة للتحرر من المصطنع من خلال الخيال، الفكرة وحدها هي الثابت، وليس التنوع هو التغير، يقوم إذن منهج رؤية الماهيات على التمييز بين التنوع والتغير ، وبين فصل التعميم التجريبي وتحويل الواقع إلى مثال، وتستخدم لحظة تحويل الواقع إلى مثال كنموذج بعد استبعاد عدد لا نهائي من التنوعات، ويوجد أيضا منهج مشابه وهو منهج التعميم الحدسي وتحويل الواقع إلى مثال، كآلة للحصول على تصورات عامة لبنية عالم بسيط ابتداء من عالم التجربة، ويشير أيضا منهج رؤية الماهية إلى مضمون منهج الإيضاح القائم على التمييز.
ومنهج توضيح التجارب هو منهج رؤية الماهية أولا وقبل كل شيء، وهو منهج قادر على الحصول على العمومية الخالصة، ويضع التنوعات الحرة كأساس لرؤية الماهية، وتوجد صورة الحياد كأساس لتكوين التنوعات، في حين أن إدراك مجموع الكثرة للتنوعات أساس رؤية الماهية، ولهذه علاقة مع التجربة والفردي، ونظرية التجريد خطأ.
34
وهكذا توصف رؤية الماهية هنا كمنهج للحصول على العمومية الخالصة من خلال التنوعات والتغيرات في التجربة، ويبدأ المنهج بالتمييز بين عموم تجريبي وضرورة قبلية، بين فروق الواقع وفروق الإمكانية ... إلخ. ويؤدي التمييز إلى التراتبية في بناء درجات العموم والحصول على الأجناس العليا العيانية،
35
ويطلق لفظ «المنهج أيضا» لإقامة نماذج متعددة بالنسبة لصعوبة الحصول على أجناس عليا مثل منطقة «الشيء».
36
مهمة المنهج هنا تجاوز المتحول إلى الثابت، والمتغير إلى الدائم، والكثير إلى الواحد، والنسبي إلى المطلق. ويفيد لفظ «منهج» هنا دور الإيضاح دون التعبير عنه بوضوح، والمقصود هنا التوضيح أكثر من الإيضاح لأنه يتعلق بمضمون التجارب، وبفضل المنهج يظهر التمييز بين الثابت والمتغير، بين الواحد والكثير، بين الوحدة المثالية والتغطية الجزئية، المنهج الظاهرياتي بوضوح منهج تمييز دون المرور بالإيضاح العلني.
ويتضمن لفظ «إيضاح» في نفس الوقت ألفاظ «إلقاء الضوء» أو «الإنارة» أو «الشرح» أو «التوضيح»، وتظهر الإنارة وحدها في العنوان «عناصر لإنارة ظاهريات المعرفة»،
37
وتساعد الإنارة على إدراك التمييز وإنارة معنى الموضوعية في المنطق الموضوعي على بيان إشارة المنطق التقليدي إلى عالم واقعي، تساعد الإنارة على الاكتشاف والاستكشاف، ويبدو أنها درجة في الإيضاح قبل الشرح والتوضيح.
38
وتؤدي الإنارة إلى الشرح، ويظهر الشرح في تعارض مع الإدراك البسيط الذي هو في تعارض مع الاعتبار، وفي الاعتبار هناك تمييز بين الاعتبار الشارح والتركيب الشارح، وهذا الأخير هو المكان الأصلي ل «الحامل» وتحديد المقولات، هناك أيضا استدراك شارح كطريقة خاصة لتركيب مراوغ. ويتميز الشرح عن التعدد، ويقع الشرح عادة وينخفض ويصبح انطباعا حسيا تاركا وظيفته كتمييز بين التوقعات طبقا للآفاق في مواجهة التمييز التحليلي، وهناك أنماط للتنفيذ أصلية وغير أصلية للشرح، مثل: شرح التوقع والتذكر ... إلخ. وللشرح أيضا نظرات متعددة؛ لذلك يتميز عن الاستدراك.
39
ويعتبر الشرح كتمييز بين آفاق التوقع في مواجهة التمييز التحليلي،
40
وهو نفس التمييز السابق بين التوضيح والإيضاح؛ في الأول الشعور مملوء، وفي الثاني الشعور فارغ. وقد أعطت نسبة التمييز بين الحامل والتحديد الفرصة لتقديم مفهوم الشرح «المتعدد النظر»، فالتمييز بين الحامل المطلق والتحديد المطلق له ثلاثة معان: الحامل كالطبيعة كلها، والحامل كموضوعات فردية في الحساسية الداخلية، والحامل كموضوعية بعد التأسيس. وبعد أن يتم الشرح يبدأ منهج التوضيح في العمل.
والتوضيح بحث تكويني للأصلي، يدرك انحراف الرؤى القصدية المتشابهة، وتوضيح التصورات المختلفة الأساسية في العلوم المنطقية تعرية للمنهج الذاتي المستور الذي يكون التصورات وفي نفس الوقت نقد لهذا المنهج، وتتركز كل مشاكل العلوم في البحث التكويني للأصلي الذي يكون ممكنا بفضل التوضيح،
41
ويظهر التوضيح بجلاء من حين لآخر كمنهج للتمييز؛ إذ يتم التمييز بين الاتجاه الصوري في القضايا المنطقية والاتجاه الأنطولوجي أثناء تحليل مهمة التوضيح، وتنحصر هذه المهمة في منهج المسار، لا يتوجه فعل الحكم نحو الحكم ولكن نحو موضوعية الموضوعات في الشعور؛ فالموضوع الموضوعي في الشعور مماثل لتنوع العمليات التركيبية اللغوية، هنا تبدو الظاهريات وكأنها بحث عن الهوية، وأنماط صور التركيب اللغوي للموضوع هي أنماط موجهات شيء ما، ويبدو التمييز مباشرة كتفريع لعمليات تركيبية لغوية ذات وظيفة مزدوجة، خلق الصور وحامل لموضوعية المناطق، ثم تلتقي هذه الوظيفة المزدوجة في تأسيس توافق الحكم على وحدة الموضوعية الحامل، إلا أن تكوينات المقولات امتلاكات ذاتية فردية وذاتية مشتركة، وهكذا يعود التشعب لينتهي كتمييز فعلي بفضل الإنارة. وهكذا يبدأ التوضيح، وتنتهي الإنارة، وبينهما يتم التمييز عدة مرات كاتجاه مزدوج، يتشعب ثم يتوحد من جديد.
42
إن «الإنارة» و«الشرح» و«التوضيح» كل ذلك إجراءات للفكر تشير بعدة طرق إلى منهج الإيضاح، وللشرح الأنطولوجي مكانه في مجموع الظاهريات التكوينية الترنسندنتالية، كما تستدعي تجربة الآخر الشرح، ويتطلب المصدر النفسي الإيضاح الظاهرياتي، وتمهد «الإنارة» و«الشرح» و«التوضيح» لوضع منهج توضيح الخبرات.
43
ثانيا: منهج الإيضاح كمنهج للتمييز1
ويظهر منهج التمييز في بعض عناوين الأقسام والفصول والمقاطع (مجموعة فقرات في موضوع واحد)، والفقرات في ثنائية لفظية أو ألفاظ مزدوجة تعبر عن شيئين مختلطين؛ «الواقعة والماهية»، «الشعور والواقع المادي»، «صورة الشعور ومضمون الشعور»، «العقل والواقع». يشير اللفظ الأول إلى الشيء المثبت، والثاني إلى الشيء المنفي، باستثناء «الواقعة والماهية» فالأول منفي، والثاني مثبت،
2
وتشير التمييزات الثلاثة إلى نفس الشيء، والتعبير عنه بطرق مختلفة؛ إذ تنتمي الماهية والشعور وصورة الشعور أو العقل إلى الروح، في حين تنتمي الواقعة والواقع الطبيعي ومضمون الشعور أو الواقع إلى الطبيعة، ويقوم التمييز هنا ضد الخلط، تبين العناوين الكبرى أن الحقيقة لها جانبان؛ جانب مثالي، وجانب واقعى: ماهية وواقعة،
3
شعور وواقع طبيعي،
4
صورة الشعور ومضمون الشعور،
5
العقل والواقع.
6
والطبيعي أن يسبق الجانب المثالي الجانب الواقعي طبقا لنظام الأوليات.
7
غاية التمييز هنا إعادة بناء الواقع من جديد، ويظهر التمييز تباعا على أنه فلسفة للربط أو العلاقة، وأحيانا لا يتضمن العنوان إلا طرفا واحدا من الشيء الذي يقع فيه التمييز؛ إذ يبين عنوان «الماهيات ومعرفة الماهيات» جانبا واحدا، جانب الماهية،
8
ويبين عنوان «منطقة الشعور الخالص» أيضا نفس الاتجاه،
9
وقد تبين العناوين الأخرى الجانب الآخر من الشيء، ويبين «التفسير الخاطئ للنزعة الطبيعية» جانب الواقعية،
10
ويشير عنوان «دعوى الاتجاه الطبيعي ووضعه خارج الدائرة» إلى نفس الواجهة،
11
وفي هذه الحالة يتم تحليل كل طرف في الشيء الذي يتم التمييز فيه على حدة، وأحيانا يتم التعبير عن مضمون لفظ في الثنائية بعبارة شارحة تدل على حذفها إذا كانت من جهة الطبيعة، أو على الإبقاء عليها إذا كانت من جهة الروح. ويبين عنوان «التأويلات الخاطئة للنزعة الطبيعية» عيوب علوم الوقائع، ثم تستبعد في عنوان «وضع دعوى النزعة الطبيعية خارج الدائرة».
12
وفي مقابل ذلك يعبر عنوانا «منطقة الشعور الخالص» و«ظاهريات العقل» عن مضمون اللفظ من جانب الروح، وكذلك «الماهيات ومعرفة الماهيات» من جانب الروح.
13
وفي الجزء الثاني من «الأفكار» تشير القسمة الثلاثية التي يقدمها «التكوين» إلى التمييز كمنهج جدلي: الدعوى تكوين الطبيعة المادية، ونقيض الدعوى تكوين الطبيعة الحية، ومركب الدعوى تكوين عالم الروح؛ فعالم الروح هي وحدة الطبيعة؛ أي العالم والروح.
وبعد هذه القسمة الثلاثية، ومما يسترعي الانتباه، ملاحظة القسمة الثنائية كقسمة فرعية مع استثناءات نادرة؛ فالواقع أنه في تكوين الطبيعة المادية فكرة الطبيعة على العموم هي وحدها المستثناة من القسمة الثنائية إن لم تبد وكأنها بين الفكرة والطبيعة،
14
إلا أن المستويات الوجودية للمعنى مع الأشياء المرئية تكون ثنائية.
15
والحركة بالنسبة للجسد المتحرك ثنائية كذلك،
16
وفي تكوين الطبيعة الحية، الأنا الخالص وحده هو الذي يند عن القسمة الثنائية؛
17
إذ يحتوي الواقع النفسي على ثنائية بين الواقع والنفس،
18
كما يتضمن تكوين الواقع النفسي من خلال ثنائية أيضا بين الواقع النفسي والبدن.
19
ويقدم تكوين الواقع النفسي من خلال الاستبطان أيضا شيئين: الواقع النفسي والاستبطان.
20
وأخيرا يبين تكوين عالم الروح بوضوح التعارض بين العالم الطبيعي والعالم الشخصاني.
21
ويتميز الباعث عن عالم الروح؛ فالأول هو القانون الأساسي للثاني،
22
وأخيرا تنتهي القسمة الثنائية بالأولوية الأنطولوجية لعالم الروح في مواجهة العالم الطبيعي.
23
وكل تحليل هو دائما تحليل مزدوج؛ إذ يتم تحديد التصورات أحيانا، تصورات الطبيعة والتجربة في آن واحد مع استبعاد مسألة محمول الدلالة، ويوضع اتجاه العلم الطبيعي في مواجهة الاتجاه النظري الذي تمتد جذوره إلى الاهتمام النظري الخالص، ووضع الفعل النظري أيضا في مواجهة المعطى الحي القصدي، وتشير أيضا التلقائية والسلبية والواقعية واللاواقعية للشعور إلى التحليل ذي المعنى المزدوج.
24
ويظهر لفظ «تمييز» بين الحين والآخر، ولكن على نحو أقل في لحظة «الرد»؛ فهناك اختلاف في المسار إلى الاتجاه النظري وإلى التأمل، كما يظهر أيضا لفظ «متضايف» للإشارة إلى نمط علاقة كما هو الحال في تحليل الفعل المموضع والفعل غير المموضع،
25
وتحال موضوعات المعنى إلى الموضوعات الأصلية، ويترك التحليل المزدوج أحيانا مكانه إلى التركيب كما هو الحال في مركب الحساسية والمقولات، ويمتد أحيانا للتعبير عن التصور التراتبي للعالم مثل الشيء الشبح للمكان والمادة الحساسية، وينتهي بالإعلان عن البسيط؛ فالطبيعة هي مجرد دائرة بسيطة للأشياء.
26
ويستمر التحليل المزدوج، ويعبر عن نفسه في مئات من المعادلات ذات المستويين؛ المثالي والواقعي. الطبيعة الحية فوق الطبيعة المادية، وماهية المادية في الحركة والامتداد، وماهية المادية جوهرها، وتعبر النقلة والتغير عن الحركة؛ ومن ثم تعتمد ماهية الشيء على ظروفه، وتكون الصفات مخطط الشيء الذي هو في نفس الوقت تحديده الواقعي، ويظهر الشيء من خلال تجربة الشيء كتحديد قريب أو تحديد كامل أو رفع، وهكذا يؤدي التحليل المزدوج إلى تصور تراتبي يسمح بتكوين خصائص الشيء في تعدد علاقات التبعية.
27
وبمجرد ظهور التجربة، تظهر أيضا العوامل الذاتية التي تحدد تكوين الشيء، ويترك التحليل المزدوج الجزء السفلي للمعادلة يعتمد على الجزء العلوي، وهكذا تعتمد الصفات المرئية للشيء المادي على جسد الذات التي تجرب، وعلى الإدراك الطبيعي أحيانا وغير الطبيعي أحيانا أخرى، وعلى الشروط النفسية الجسمية (السيكوفيزيقية)، من الممكن إذن تكوين الطبيعة الموضوعية على درجة من التجربة الأنا وحدية ثم المشتركة، وهكذا يتم تكامل المعادلة الرأسية للشيء المادي والتجربة الذاتية في معادلة أفقية بين الأنا والآخر.
28
ويضع ظهور التجربة المشتركة مسألة الطبيعة الحية بوضوح أكثر في مواجهة الطبيعة المادية؛ لأن التجربة الذاتية تخاطر باعتمادها على البدن وهو على حافة الطبيعة المادية والطبيعة الحية، لم تعد الذات ملحقة بالمادة في البدن، بل بالإنسان في تصور «الذات-الإنسان»، والذي يسمح فجأة بظهور «الأنا الخالص»،
29
هذا الأنا الخالص هو الأنا القطب، ويبين تصور «الأنا الخالص» مرة أخرى ثنائية بين شيئين، الواحد أمام الآخر. وتظهر في استقطاب الفعل الذي يوجد بين الذات وموضوعه، وينقسم الأنا الخالص أيضا إلى شعور يقظ وشعور خامل، أما الأنا الشخص فإنه لا يختفي لأنه جزء لا يتجزأ، وفي دائرة الحلول يحدث تكوين وحدات الوقائع في الأنا الخالص مع الأفكار التي توجد مترسبة فيها.
30
الذات إذن نفسية وواقعية في نفس الوقت، ويحلل الشيء في اتجاهين، ويتحول إلى اختلاف جذري بين الواقع المادي والواقع الحيوي؛ وبالتالي إلى ضرورة الفصل بين الاتجاه الشخصاني والاتجاه الطبيعي.
31
وبعد هذا الفصل الجذري يتكون الواقع النفسي وحده من خلال البدن؛ أي تكوين الإنسان في الطبيعة؛ فالبدن حامل لإحساسات مكانية، يتميز فيها ميدان المرئي والملموس، وهو في نفس الوقت آلة للإرادة، وحامل حركة حرة، وما إن يحدث التحليل المزدوج يتبع آخر ليعين الواقع التراتبي للارتفاع إلى أعلى درجة من المثالية؛ فالبدن له دلالة على تكوين الأشياء العليا، وبالرغم من محلية الإحساسات في البدن فإن البدن يتسم بطابع اللاشيئية، يتكون البدن كواقع مادي على نقيض الشيء المادي، وهو مركز للتوجيه، وتعدد مظاهره خاصيته فيه، ودون أن يرتبط بالطبيعة كعضو في علاقات علية يتحدد البدن في التكوين الأنا وحدي.
32
ويتوازن تكوين الواقع النفسي من خلال البدن مع تكوينه للمرة الثانية في الاستبطان، هو البدن نفسه، مرة في الإدراك الخارجي، ومرة في الإدراك الداخلي، مرة في نمط الحضور الأصلي للأشياء، ومرة أخرى في نمط حضوره الذاتي. وما إن يعمل الاستبطان في تكوين الطبيعة، وما إن يدخل عالم الروح في التكوين، يشتد التعارض بين العالم الطبيعي والعالم الشخصاني، ومع ذلك النفسي افتراض مسبق في الاتجاه الطبيعي بسبب محليته وزمانيته، ومع ذلك يحفظ التمييز بين الطبيعي والفيزيقي النفسي من دخوله في الميدان الفيزيقي؛ لأن النفسي هو الشخص نفسه في مركز العالم، ومرتبط بمجموعة من الأشخاص.
33
ويتم التمييز كتوليد، توليد شيء من شيء، والشيء المتولد في مستوى أعلى من الشيء المولد؛ ومن ثم يتولد الباعث من عالم الروح باعتباره قانونه الأساسي، والأنا فحص ذاتي، ويتحرك الباعث على مستويات عدة، في القمة باعث الفعل، وفي الوسط باعث التجربة وباعث الارتباط، وفي الأدنى الباعث في الطبيعة الذي يقترب من العلية. للباعث إذن جانبه من صورة الشعور، وجانب آخر من مضمون الشعور، وبالإضافة إلى هذا التراتب الرأسي، يعمل الباعث أيضا على المستوى الأفقي، واستبطان الأشخاص من الآخرين فهم لبواعثهم، ويسمح هذا المسار المعروف من التمييز إلى التراتب إلى الوحدة بإعطاء البدن والروح وحدة معقولة ومتصورة في فكرة «الموضوع الروحي».
34
ويصبح الأنا الخالص والأنا الشخصي موضوعين لتأمل إدراك الذات، وتستطيع الذات الشخصية أن تتكون أيضا قبل كل تأمل في الوعي بوجود الذات، الأنا موضوع ملكات وأفعال عقلية «كأنا حر»، بل إنه في تحليل الفعل يظهر الأنا التراتبي في «الأنا أقدر» كإمكانية عملية ووعي أصلي بالقدرة، وباعث «الأنا أقدر» لمعرفة الذات في إدراك الذات لذاتها وفهمها لذاتها، ويحافظ على حرية الشخص في مواجهة الآثار الخارجية، وتتوالى المعرفة والفعل لتقديم تحليل مزدوج لجهة فهم الشخص في أنماط عامة وأنماط فردية.
35
وينتهي التكوين بتعارض شديد بين الاتجاه الطبيعي والاتجاه الشخصاني، فإذا أخطأ هذا التعارض تظهر الموازاة السيكوفيزيقية، الأثر المتبادل بين الفيزيقي والنفسي، الطبيعة نسبية، في حين أن الروح مطلق.
36
وتظهر نفس حركة الفكر في الملحقات: الطريقة الارتقائية لوصف التكوين، التمييز بين الذات-القطب والذات -العادة، بين الفعل والملكية ... إلخ. ويوجد التصور التراتبي في درجات تكوين العالم الموضوعي، وتتجلى الوحدة كرؤية نهائية في وحدة البدن والروح.
37
وتستمر سلسلة التمييزات لتوضيح بنية الوجود في مستويين متمايزين تماما، ومع ذلك مرتبطان، وينتهي التمييز بين الحساسية الأصلية والعقل الفعال، بين الانطباع الحسي وإعادة الإنتاج، بين الفعل والانفعال، بين الداخلي والخارجي ... إلخ، بإعلان عن الوحدة؛ عالم الطبيعة داخل عالم الروح.
38
وتعبر عناوين المباحث الستة في «بحوث منطقية» عن تمييزات أساسية، التمييز بين «التعبير والدلالة» موجه ضد المنطق اللغوي الذي يرد الدلالة إلى التعبير، وينكر الوجود المستقل للمعنى في علاقته باللفظ، والتمييز بين «الوحدة المثالية للمكان» والنظريات الحديثة في التجريد موجهة ضد التجريبية التي ترد الفكرة إلى مكونات من الإحساسات والانطباعات الحسية، والتمييز في «نظرية الكل والأجزاء» موجه أيضا ضد النزعة النفسانية التي ترد الكل إلى مكوناته الجزئية. و«التمييز بين الدلالات المستقلة والدلالات التابعة وفكرة النحو الخالص» يؤكد استقلال الموضوع المثالي والحقيقة التي تعبر عن نفسها في المورفولوجيا الخالصة ، ويدل لفظ «الفرق» على معنى التمييز. وتبدأ «المعطيات الحية القصدية ومضامينها» من البداية، تحليل الموضوع الظاهرياتي بالأصالة، والذي يتم تفصيله فيما بعد في «عناصر لإنارة ظاهراتية للمعرفة»، ويعيد إلى الذهن التمييز بين «الموضوع» و«المضمون» التمييز الظاهرياتي الرئيسي، بين صورة الشعور مضمون الشعور، وفي المبحث الأخير يتم التمييز بين المعرفة والظاهريات، والثانية قمة الأولى، والتمييز هذه المرة موجه ضد «الرد» رد الشيء إلى ما هو أقل منه، ورد المثالي إلى الواقعي، والماهية إلى الواقعة.
وأحيانا تند بعض عناوين الأقسام عن البنية العامة للعناوين التي تتكون من اللفظ مزدوجة مثل «المقاصد وملؤها المموضع، المعرفة باعتبارها مركب امتلاء ودرجاتها»؛ فهو عنوان طويل كي يكون عنوانا موحيا بشيء، ويسمح باتصال مباشر معه.
39
هو عنوان مثقل بالكلمات، مكون من عبارات شارحة، ومع ذلك يظهر منهج التمييز كأساس لتركيب العنوان؛ إذ يحتوي على لفظين أساسين؛ القصد والملأ. الأول يشير إلى الصورة، والثاني إلى المادة، وتوجد نفس الثنائية في التمييز بين الحساسية والذهن.
40
وبالرغم من أن عنوان «إنارة المشكلة الأولى» لا يشير إلى أي تمييز، إلا أن مضمونه يبرز واقعا بين فعل غير مموضع وملء كاذب يكتمل أكثر مما يعارض.
41
كما يبرز الملحق تمييزا قديما بين الإدراك الخارجي والإدراك الداخلي، بين الظاهرة الفيزيقية والظاهرة النفسية، وهذا يدل على أن العالم المثالي للعلاقة بين الشيئين المتميزين هو العلاقة بين الصورة والمادة.
وإذا تكون عنوان فصل من عبارة كاملة فإنه يوجد فيها لفظ يكشف عن التمييز؛ ففي عنوان «خصائص أفعال معطية المعنى» هناك لفظ معطى أو موهب يتوسط بين الفعل والمعنى ليشير إلى هذه العتبة التي لا يمكن عبورها بينهما،
42
وكذلك يبين بوضوح عنوان «تأرجح الدلالات ومثالية وحدة المعنى» التمييز بين «التأرجح» «المثالية» مفصولين بحرف العطف «و»،
43
وكذلك يكشف عنوان «المضمون الظاهرياتي ومثال المعطى الحي للدلالة» عن التمييز بين «المضمون» و«المثال» عن طريق حرف العطف «و» كذلك.
44
وعادة ما تتألف عناوين الفصول من لفظين مزدوجين أحيانا بمفردهما وأحيانا أخرى داخل عبارة؛ فمثلا «المنطق كعلم معياري خاصة كعلم عملي» كلها عبارة تتضمن لفظين مزدوجين «معياري» و«عملي»،
45
وكذلك يبين عنوان «علوم نظرية كأسس لعلوم معيارية» نفس الشيء،
46
وكذلك يبين جزء من عنوان «الصيغ القياسية والصيغ الكيميائية» نفس الشيء.
47
وإذا كانت «المقدمة العامة للظاهريات الخالصة» تبدأ بتمييزات أساسية بين علوم الماهيات وعلوم الوقائع، فإن «بحوث منطقية» بدأت من قبل أيضا بتمييزات أساسية.
48
ولفظ «علامة» له معنى مزدوج؛ علامة دالة، وعلامة غير دالة أي القرينة. الأولى تشير، والثانية لا تشير. وقد تم التمييز بين الإشارة والبرهان فيما يتعلق بالبداهة؛ الأولى غير بديهية، والثانية بديهية عن طريق الاستنباط. وتطبيق التمييزات الظاهراتية والقصدية على التعبيرات من أجل فصل الفيزيقي عن النفسي في اللغة.
ويشير عنوان «التجربة والحكم» للمرة الأخيرة إلى ثنائية المادة والصورة كما هو الحال في الجزء الثالث في «بحوث منطقية» في المقاصد وملئها، ويعين العنوان الفرعي «بحث في أصل المنطق وفصله» درجات التراتب بين القطبين السابقين، وبناء العمل ثلاثي، يبين التمييز ثم يقوم بالربط؛ إذ تتميز التجربة السابقة على الحمل المنطقي (المستقبلة) عن الفكر الحملي المنطقي وموضوعية الذهن، وكلاهما مرتبط بالموضوعية العامة وبتكوين الأحكام العامة، ويضع منهج التمييز منذ البداية في التجربة السابقة على الحمل المنطقي مشكلة البنية العامة للسلب، ثم يستأنف في تمييز جديد بين الإدراك البسيط والشرح، وأخيرا يحدد إدراك العلاقات وأساسها في السلب، وهكذا يتجه مسار الفكر من البنية إلى التمييز إلى الربط،
49
ويظهر منهج التمييز في الفكر الحملي المنطقي وموضوعية الذهن كبحث عن الأصلي والبنية العامة،
50
وعن السلب في نشأة أهم صور المقولات، وعن موضوعية الذهن في الانفعال الحملي المنطقي وأنماط الحكم في المعطيات الأصلية،
51
وأخيرا يظهر منهج التمييز في تكوين الموضوعية على العموم والأحكام العامة كمنهج لإدراك الماهية بالبحث عن التكوين الأصلي للعموميات للحصول على عموميتها الخالصة لوضع الأحكام أخيرا في جهة العموم.
وقد وضع الناشرون معظم عناوين المؤلفات المخطوطة التي طبعت فيما بعد، وتعبر بوضوح عن مسار فكر المؤلف، ثنائية، وحدة، ثلاثية، تراتبية ... إلخ. هذا بالإضافة إلى أن العنوان الذي صاغه الناشر مستل من عبارة في النص الذي كتبه المؤلف بنفسه؛ ومن ثم فلا توجد مخاطر ألا تكون عناوين الفقرات تعبيرا مخلصا عن مضمون الفكر موضوع التحليل في النص.
وهكذا يكشف التمييز خاصية الظاهريات بين الشيئين المتميزين، فقد أوضح التمييز بين «القصد الدال» «والقصد الحدسي» المعرفة الظاهراتية كإحضار للشيء ذاته مباشرة دون المرور بالعلاقة أو الصورة أو المخطط الإدراكي أو تخيل الموضوع،
52
وقد ذكر التمييز والخلط مباشرة كطريقتين لتناول الأفعال التركيبية،
53
وقد يلعب هذا التمييز الهام بين التمييز والخلط دورا هاما في الظاهريات؛ فقد كانت كل التمييزات التي تمت من أجل الصراع ضد النزعة النفسانية في المنطق في نفس الوقت مقدمات لتكوين الظاهريات ذاتها، ويبرز التمييز بين المقولات الخالصة والمقولات الموضوعية الخالصة وتعقيدات قوانينها تمييزا آخر بين صورة الشعور ومضمون الشعور وبنيته الصورية المادية.
54
ثالثا: تداخل التمييزات1
وتعود التمييزات كلها إلى تمييز واحد أساسي، ثم يمتد إلى مستويات عديدة بقوة التعميم والقياس، فيمتد التمييز بين التمثل الإدراكي والإدراك ليصبح دراسة خاصة في حالة الحكم ، ويساعد الميدان الجديد على خروج تمييز بين «الموافقة» و«الرضا».
2
ويستمر المنهج الظاهرياتي بالتمييزات الأساسية، ويحاول أن يبين داخل خلط معين شيئين متمايزين،
3
فيميز بين الماهية والواقعية ضد الخلط الطبيعي،
4
ويتضمن كل تمييز كلي تمييزات أخرى فرعية عديدة لتطبيق التمييز الأول في الفروع المختلفة للنشاط الإنساني، وقد تم التمييز بين حدس الماهية وحدس الفرد ضد الفلسفة التجريبية،
5
وقد خرج هذا التمييز من تمييز أعم بين علم الوقائع وعلم الماهيات،
6
وتم التمييز مرة أخرى بين علم الطبيعة وعلم الروح قبل مختلف أنواع «الرد» الظاهرياتي،
7
ودون أي مبالغة يظهر لفظ «يميز» في كل تأمل ظاهرياتي مثل التمييز بين اليقين والاعتقاد الأعمى، والمعرفة والرأي بلا أساس، والأساس السليم والأساس غير السليم،
8
وتنقص النظريات القديمة القريبة من الظاهريات بعض التمييزات،
9
وينقص النزعة الأنثروبولوجية تمييزا بين أساس الحقيقة وأساس الحكم، بين الحكم التوكيدي والحكم القطعي،
10
وهما مختلفان تماما ولا تتشابهان، وقد أتت المثالية لتميز بين الضرورة الذاتية للنزعة النفسانية والضرورة الموضوعية للمثالية،
11
ومن الإسهاب ذكر كل التمييزات داخل المؤلفات الظاهراتية مثل: التمييز بين الموضوعي والذاتي، الأفضل وأفضل، القانون الطبيعي والمعيار،
12
ويكفي تتبع مسار عمل واحد من أجل توليدها كلها،
13
ويظهر تمييز داخل الخلط للكشف عن الشيئين المتميزين من حيث المبدأ بعد أن تم خلطهما في الواقع، ويتعلق الخلط بين تصورات التجريد والمجرد بمضامين جزئية تابعة من ناحية وبالأنواع من ناحية أخرى، وفضلا عن ذلك هناك تمييز آخر في التصورات عن المضمون التابع، وتمييز آخر للتصورات حول تصور النوع،
14
وهكذا تتشعب التمييزات إلى ما لا نهاية للوصول إلى خالص الخالص، يتم تمييز أول باقتدار ثم يمتد على ميادين أخرى،
15
كما يدل لفظ «امتداد» على نقل تمييز من ميدان إلى آخر، فقد أدى امتداد تصور الحدس إلى جعل الحدس نفسه ليس فقط حدسا حسيا بل أيضا حدس للمقولات؛ ومن ثم يؤدي كل تمييز إلى الآخر، يؤدي التمييز بين المملوء والفارغ إلى التمييز بين المادة والصورة، وللإدراك الواعي أيضا مادة وصورة، وتتمدد السمات المميزة للإدراك الواعي الحدسي والإدراك الواعي للعلامة أيضا بثنائية المادة والصورة، وللأنماط المختلفة لعلاقة الشعور موضوع يتفرع بين صفات الفصل والتمثل التمثيلي، ويسود هذا الأخير ثنائية المادة والصورة، صورة الإدراك الواعي، ومادته ومضامينه.
16
ويتكرر نفس التمييز دائما ولكن على مستويات عدة؛ فبعد التمييز بين الواقعة والماهية يضاف إلى تمييز آخر بين حدس الفرد وحدس الماهية،
17
وتنقل سريعا التمييزات في عالم الماهيات الخالصة إلى عالم الماهيات الفردية؛ فقد تم التمييز بين المنطقة والمقولة، ثم طبق في عالم المعرفة التركيبية القبلية كي يظهر بعد ذلك كتمييز بين الامتداد النظري والامتداد الفردي.
18
وتتم التمييزات في سلاسل متعددة؛ فالتمييز بين الواقعة والماهية هو بالأحرى فصل بين عالمين مع اختلاف واضح في الطبيعة، وتوجد أيضا تمييزات داخل كل عالم مع اختلاف في الدرجة، مثلا التمييز بين الحكم على الماهية والحكم المرهون بصدق نظري عام،
19
ويسمح هذا التمييز بترتيب معرفة عالم الماهيات من معرفة الفردي إلى معرفة العام، وتبلغ الظاهريات الذروة في الأنطولوجيا الشاملة بفضل هذا التمييز المتعدد التدريجي إلى أعلى درجة ممكنة، وأجريت عدة تمييزات أخرى في العالم الطبيعي كآلات نقدية ضد أي اتجاه ما زال متأثرا بالاتجاه الطبيعي، وتعود القسمة اللامتناهية تقريبا للمقولات والمناطق في علوم الماهيات في تحليل القصدية، وبالإضافة إلى هذين المستويين، صورة الشعور ومضمون الشعور، فإنها تنقسم إلى مفاهيم أخرى عديدة هي تكرار للقسمة الأولى ولكن بألفاظ أخرى أو على مستويات أخرى.
20
وأحيانا تتداخل التمييزات مع بعضها البعض بحيث يصعب التمييز بينها؛ فالتمييز بين المنطقة ونظرية المنطقة سهل؛ الأولى نوع مادي أسمى للموضوعات، والأخرى العلم المقابل في أنطولوجيا المناطق.
21
بعد ذلك يأتي تمييز آخر بين منطقة ومقولة، تصنف المناطق في المقولات، ثم تقسم كل من المنطقة والمقولة إلى صورية ومادية، وبعد ذلك تدخل المنطقة المادية في علاقة مع الماهية الصورية، وتحيل الماهية الصورية إلى الماهية المادية. وبعد ذلك تنقسم مقولة المنطقة المنطقية إلى تركيبية وتحليلية، وتحيل المقولات المنطقية إلى مقولات الدلالة، وتحيل الدلالة إلى تعبير مما يؤدي إلى التمييز بين تصورات المقولات وماهيات المقولات، وأخيرا يتم التمييز بين المقولات التركيبية والمقولات الحاملة،
22
فكيف يمكن العثور إذن على بنية الشعور في هذه المتاهة من التقسيمات؟
23
وهكذا يعمل المنهج الظاهرياتي بإقامة تمييزات أساسية، وتولد هذه التمييزات تمييزات أخرى عديدة إلى ما لا نهاية تقريبا، وتذكر كل هذه التمييزات الفرعية مستحيل تقريبا، يكفي إذن إدراك القاعدة التي تقوم عليها هذه التمييزات، وهذه القاعدة هي باستمرار الصورة والمادة، المستقل والتابع، المثال والواقع ... إلخ، بل ويمكن التعبير عن القصد العام لهذه التمييزات بألفاظ أخرى مثل: غير مشروط ومشروط، مطلق ونسبي ... إلخ؛ ومن ثم يتطلب تأويل الظاهريات إحالة التمييزات الفرعية إلى التمييزات الأساسية من ناحية، والتعبير عن مقصد هذه التمييزات بألفاظ أخرى ملائمة تساعد على إيضاح ميادين أخرى في الظاهريات التطبيقية من ناحية أخرى، ولا يقع منطق التمييز فقط بين مستويين مختلطين حتى الآن، مثل الواقعة والماهية، بل يقع أيضا لإبراز علاقة الكل بالأجزاء، المركز بالمحيط، البذرة بالقشرة ... إلخ،
24
وهكذا تتميز المنطقة عن المقولة، المنطقة كل ينتمي إلى أنطولوجيا المناطق تحدده عديد من المقولات،
25
تقوم إذن التمييزات في كل الاتجاهات المختلفة.
ليس غرض التمييزات الفصل بين الفكر والوجود بل بين الفكر واللغة؛ فالواقع أن عديدا من هذه التمييزات تمييزات نحوية أكثر منها تصورية؛ فالتمييز بين المقولات التحليلية والمقولات التركيبية تمييز نحوي،
26
ويمكن أن يحدث التمييز في نفس المستوى لإعطائه أكبر قدر ممكن من العمومية، وبتعبير آخر للمستويات التي يتم التمييز بينها علاقة الجنس بالأنواع، توجد الأنطولوجيا الشاملة كعلم صوري في أعلى قمة، في حين يوجد علم الطبيعة في أسفل قاعدة، التمييز إذن هو المحرك الداخلي الذي يدفع المنهج الظاهرياتي إلى غايته القصوى.
وإذا كانت هذه التمييزات ما زالت مشوبة بالاشتباهات في هذه الحالة تأتي إنارات أخرى للمساعدة على إجراء تمييز آخر؛ فإذا كان التمييز بين لفظ الدلالة وغياب الدلالة ما زال متشابها، فإن التمييز بين خطأ الموضوع وغياب الدلالة يجعل الدلالة الأولى أكثر وضوحا! ويستطيع تمييز آخر بين الدلالة واللحن أن يزيل نفس الاشتباه،
27
وبتطبيق منهج التمييز يمكن إيضاح كل الاشتباهات حول ألفاظ التمثيل والمضمون.
28
واشتباهات لفظ «ظاهرة» سبب الخلط بين الظاهرة الداخلية والظاهرة الخارجية؛
29
لذلك يتم التحليل الظاهرياتي تدريجيا، ليس «الرد» إلا مرحلة نحو «التكوين»، وتستبعد كل مسألة مؤقتا حتى يمكن استردادها فيما بعد، كان من الضروري مؤقتا استبعاد المشاكل المحافظة على أهمية المعرفة الترنسندنتالية؛
30
لذلك أيضا تستعيد الظاهريات ذاتها كل مرة تتقدم خطوة إلى الأمام، وبنظرة إلى الوراء يلقى كل تحليل جديد ضوءا جديدا على ما تم إنجازه حتى الآن، وإذا ألقيت نظرة إلى الوراء من وقت إلى آخر فإن إلقاء نظرة إلى الأمام تشير إلى المهام المستقبلية،
31
بل إنه في تحليل التاريخ تعلن غايته منذ البداية،
32
كما يدل المسار على الطابع الخاص في التحليل الظاهرياتي، وينتقل النقد الظاهرياتي تدريجيا من مستوى إلى آخر.
33
ويقود كل تحليل إلى مسائل جديدة أو إلى وضع مسائل أخرى، وينتهي التحليل الظاهرياتي دائما إلى نفس الشيء ولكن بطرق مختلفة، ويستعاد كل تحليل سابق في التحليل اللاحق،
34
وله طابعه الباحث المستقصي، وكل تعريف مؤقت من أجل الوصول إلى تعريف أعمق فيما بعد، والمنطق كنظرية قبلية للعلم هو تحديد مؤقت.
35
رابعا: الأشكال المختلفة للخلط1
ويتوجه منهج التمييز ضد الخلط بين شيئين متميزين، ويظهر هذا الخلط في صور عديدة؛ قلب، انقلاب ... إلخ.
2
وعلى نقيض التمييز التماهي أو التماثل؛ فالتمييز بين الأحكام الصادرة على الماهيات والأحكام ذات الصدق النظري العام يوجه ضد التماثل بين هذين النوعين من الحكم،
3
وتنفي الظاهريات التماثل بين الواقع بالمعنى العادي والواقع على العموم ضد التماثل التجريبي بين التجربة والأفعال المعطية الأصلية،
4
وهناك تماثل آخر بين القوانين الطبيعية والقوانين المنطقية، الأولى نفسية في حين أن الثانية معيارية، وهما ليسا نفس الشيء، ويجهل المناطقة النفسانيون الفروق الأساسية التي لا يمكن التوفيق بينها على الإطلاق بين القانون المثالي والقانون الواقعي، بين الضرورة المنطقية والضرورة الواقعية، بين الأساس المنطقي والأساس الواقعي.
5
يلغي التماثل كل فرق، ويفترض التشابه بين مستوين مختلفين لا يتشابهان على الإطلاق، ولا يخلق التماثل صدقا عاما.
6
ويوجد التوازي الأمثل في التوازي السيكوفيزيقي، وينتقل أحيانا إلى المستوى المنطقي في التوازي بين الصيغ القياسية والصيغ الكيميائية،
7
يضع التوازي شيئين متميزين على نفس المستوى؛ لذلك هو قريب من التماثل، والتماثل بين مستويين هو أيضا صورة من الخلط،
8
ويضع التشابه كالتوازي شيئين متميزين على نفس المستوى؛ فالتوازي والتماثل كلاهما صورتان للخلط، ويوجد الخلط في التفسير النفساني في الخلط بين الصرف العام لقاعدة وتطبيقاتها،
9
ويقود الخلط إلى التشابه، والتشابه إحدى صور الخلط، وهو أيضا مصدر للخطأ،
10
ويضع التأويل النفسي للقوانين المنطقية نفسه في دائرة ضبابية من المتشابهات؛
11
لذلك يؤدي التمييز إلى نظرية في البداهة موجهة أساسا ضد الخلط، ينقص الخلط الوضوح، وهو خطأ بالنسبة للبداهة، وفي البداهة نفسها هناك خلط بين بداهة توكيدية لوجود تجربة حية معزولة وبداهة قطعية لوجود قانون عام.
12
وإذا أصبح الخلط موضوعا للتأمل يصبح تناقضا؛ مثلا يقع التناقض عندما تعتبر القوانين التجريبية قوانين تنطبق على الحقيقة من حيث هي كذلك، وهو أيضا نتيجة الخلط بين الموضوعات المثالية والموضوعات الواقعية، بين القوانين المثالية والقوانين الواقعية،
13
والتناقص بنفسه يرفع كل أشكال التناقص الداخلي،
14
والمثلث العام والصور النوعية من المتناقضات.
15
والرد التجريبي هو أكثر الصور شيوعا للخلط، و«الرد» الظاهرياتي هو أكبر رد فعل على الرد الأول؛ فالواقع أنه تم رد القانون المعياري إلى عمومية تجريبية فظة، ويتضمن الرد غياب المثال، والخلط بين المثال والواقع، وتناقض التماثل ونقصه.
16
وكل مسألة لها كمال مثالي ثم ردها إلى التجريبية بأقل قدر ممكن من التساؤلات؛ لذلك ردت نظرية التجريد فقط إلى مسألتين؛ العادة والتشابه،
17
ليس «الرد» فقط هو وضع علوم الوقائع بين قوسين، بل يعني أيضا إحالة كل عناصر المسألة إلى عنصر واحد أساسي؛ فكل الأحكام يمكن ردها إلى الأحكام الأخيرة، وكل الحقائق أيضا يمكن ردها إلى عالم الأفراد،
18
والنزعة النفسانية حركة تراجع أمام نتائجها.
19
ويذكر هذا التراجع بالرد الذي هو نفسه حركة تراجع أمام المثال، والرد أساس الإنتاج، وغرض التمييز من أجل سد الطريق أمام إنتاج المثال من خلال الواقع؛ ومن ثم يتميز القانون عن التجربة حتى لا يتم إنتاجه بها، «نحن لسنا في حاجة» إلى التجربة للحصول على القانون؛ فالتجريد ليس عمل الانتباه.
20
وقد عبرت مظاهر الخلط عن نفسها بألفاظ أخرى، مثل: نقص، عدم كفاية، سقط، فراغ ... إلخ، وكل ما يشير إلى العدم؛ فكل تحليل نفسي لموضوع ما غير كاف؛ لأن المستوى النفسي ليس هو مستوى الموضوع في مثاليته، وهي حالة النقص الأساسي في تحليل الانتباه،
21
ويتمثل النقص في غياب علم نظري أساسي،
22
ويوجد في غياب القوانين الحقيقية في علم النفس،
23
وقد أعلن عن هذا النقص رسميا في حجاج علماء النفس.
24
ويمهد الخلط الطريق إلى الخطأ؛ فالخلط بين القوانين المنطقية والأحكام باعتبارها مضامين، مثل الخلط بين القانون وفعل الحكم، هو خلط بين شيئين مختلفين تماما، وهذا يؤدي إلى أخطاء أساسية في المنطق، يؤدي الخلط إلى الخطأ،
25
وتعني هذه الأوصاف: الخطأ، السذاجة، عدم الفهم، الغرور، النقص، عدم الدقة ... إلخ، نفس الشيء. وتشير بعض العبارات الأخرى إلى نفس الحقيقة، مثل: «دون صفة علمية»، «دون روح الدقة»، «خال من أي تبرير»، «بعيد جدا»، «دون اعتبار واضح»، «محاولة محبوبة» ... إلخ.
26
لقد أخطأ علماء النفس، ولم يروا الفرق بين المثال والواقع، بل إنهم قلبوا العلاقة بينهما، وحذفوا التمييزات الأساسية؛ فالصواب والخطأ هما المتميز والمختلط، التمييز إذن أساس النظرية.
وأحيانا تستعمل ألفاظ مجازية للإشارة إلى الخطأ؛ فيستعمل لفظ «رذيلة» للتعبير عن أخطاء المبدأ في النزعة التجريبية،
27
وأحيانا يصبح اللفظ خطابيا؛ إذ ينشأ التناقض في النسبية بنوع من الصفة،
28
وتخلط «المتشابهات» البائسة ل «النزعة» النفسانية الصورة بالمضمون، وقد «انهار» اليقين إلى الأبد،
29
وحدث «كسر في طريقة اعتبار النطق بالطريقة التجريبية»،
30
الفكر التجريبي «أعمى»،
31
يريد الكشف عن الهوة بين الفكر المنطقي والفكر الطبيعي.
32
خامسا: الدرجات المختلفة للتمييز1
ويتنوع التمييز في درجات مختلفة بين اختلاف في الدرجة واختلاف في النوع.
وفي الفصل الجذري، يترك لفظ «يميز» مكانه للفظ «يفرق» وهما مترادفان؛ إذ يفترق المنطق كعلم معياري عن المنطق كعلم مقارن أو تاريخي.
2
غرض التمييز هو التفرقة بين العياني والدال؛ فتصور «الدلالة» وتصور «العياني» لا يتفقان، ولا تعطى الدلالة كموضوع للشعور؛ فهناك دلالات في ذاتها متميزة تماما عن دلالات في التعبيرات؛
3
ومن ثم غرض التمييز كتفرقة جذرية هو نقض كل النظريات المضادة للظاهريات خاصة كل صور النزعة النفسانية، وأحيانا يعبر عن التمييز المقصود بالاختلاف أو المخالفة؛ فالتفسير العلي مخالف للتطور المثالي؛
4
فالمخالفة مرادفة للفصل.
أما فيما يتعلق بالتمييز باعتباره اختلافا في الطبيعة (النوع)، فإنه يبدو وكأنه اختلاف أساسي تجهله النزعة النفسانية، وتعرفه الظاهريات، هذه الاختلافات الأساسية لا يمكن عبورها؛ فهي أقل من الفصل الجذري، ولكنها أكثر من مجرد اختلاف في الدرجة،
5
ويمكن للتمييز بين شيئين أن يقود إلى اختلاف جذري يمنع أي صورة من العلاقة؛ فبين المادة الحسية وصورة المقولات لا يوجد فقط تمييز بل اختلاف؛ لأن الأطراف الموضوعية لصور المقولات ليست لحظات واقعية، ولا يكمن أصل تصور الوجود والمقولات الأخرى في ميدان الإدراك الداخلي، وبين الصورة الخالصة والمادة الحسية الخام لا توجد صلة مباشرة، في هذه الحالة ينقلب التمييز إلى اختلاف؛ فمثلا يوجد اختلاف بين الإدراك الحسي والإدراك التصوري؛ لأن الإدراك الحسي مجرد إدراك؛
6
لذلك وضعت الصور الحسية في الوعي بالمقولات خارج الوظيفة الاسمية،
7
والاختلاف بين المادة والصورة اختلاف يتعلق بالوظيفي، هناك أفعال للذهن خالصة وأفعال مختلفة بالحساسية؛ لذلك ليس التحول الخاص بالمقولات تحولا واقعيا للموضوع، هناك قوانين خالصة تتعلق المقولات، قوانين الفكر بالمعنى الدقيق، كما أن هناك قوانين للحس بالمعنى الدقيق، وباختصار تتأسس كل التمييزات بين الحدس والدلالة، بين الحدس الحسي وحدس المقولات، بين الحدس غير الملائم والحدس الملائم، وبين الحدس الفردي والحدس العام على التمييز بين المادة والصورة.
8
مهمة التمييز هنا إظهار الفرق الجذري بين الأشياء، وقد برز الفرق بين الموضوعات المستقلة والموضوعات التابعة بفضل التمييز،
9
وتوجد الثنائية بين التابع والمستقل في الموضوعات وفي الأفكار وفي المضامين، بل إن مفهوم الاستقلال نفسه موضوع يخضع التمييز بين الاستقلال والتبعية النسبية، يشير لفظ التمييز إلى الفرق بين الشيء وأشياء أخرى متميزة عن الأول مثل الفرق بين القصد والطرق المختلفة للإدراك.
10
وأخيرا فإن التمييز كاختلاف أو فرق في الدرجة نوع من التمييز عن طريق التكامل، يتم أحيانا دون حرف العطف «و» مثل المنطق الصوري الموضوعي، أو مثل «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي».
11
وقد تم إجراء هذا النوع من التمييز لبيان فعلين من نفس المستوى، الإثبات والنفي فعلان عقليان للشعور لهما طرفاهما في مضمون الشعور،
12
ويتم التمييز بين الصور الجماعية والصور المنفصلة كنمطين في العلاقات اللغوية،
13
وقد يتم التمييز أحيانا داخل نفس الفعل للتمييز بين سمتين خاصيتين للأفعال المساعدة، وفي فعل التغيير هناك التغيير المتخيل الذي يمكن تضعيفه والتغيير المحايد الذي لا يمكن تضعيفه.
14
ويبرز التمييز شيئين؛ الأول خاصية للثاني، البحوث التكوينية بحوث قبلية؛ فالشيئان المتمايزان كلاهما مثل الموضوع والمحمول.
15
يعيد التمييز بناء واقع مركب من واجهتين؛ المادة الحسية والصورة القصدية،
16
مضمون الشعور وصورة الشعور، المركبات الواقعية والمركبات القصدية.
17
ويضع التمييز شيئين متكاملين، كل منهما في مواجهة الآخر: اللغة باعتبارها تعبيرا عن الفكر، والفكر باعتباره تجربة معيشة ومكونا للمعنى،
18
ويشبه ذلك التمييز بين الخيال والتذكر في درجات التكوين.
19
وهكذا فالتمييز لا يتم فقط من أجل استبعاد طرف والإبقاء على الطرف الآخر، بل من أجل بيان نمطين للعطاء الأصلي، ومن نفس النوع التمييز بين البداهة المطابقة والبداهة غير المطابقة، بين البداهة والرؤية العقلية، بين البداهة الأصلية والبداهة الخالصة، وبين التوكيدي والقطعي.
20
ومرة أخرى لم يتم التمييز بين قصد الدلالة وملء الدلالة من أجل نفي الأولى وإثبات الثانية أو العكس، بل من أجل تكاملهما معا؛ فالقصد دون ملئه فارغ.
21
وقد سمح التمييز بين الفارغ والمملوء برؤية التنوعات الأساسية للمقاصد المموضعة بواسطة الفروق بين مركبات الملء،
22
وهو التمييز الذي يسمح أيضا برؤية درجات المعرفة،
23
ويعني الملء أيضا التوافق أو عدم التوافق من أجل الوصول إلى مثل المطابقة بين البداهة والحقيقة،
24
ويسري منهج التمييز في هذا المسار كله من البداية إلى النهاية؛ ومن ثم فإن غرض التمييز من أجل التكامل هو إعطاء تحليل شامل للموضوع؛ فهناك قضايا موضوعية أحادية وقضايا موضوعية تركيبية.
25
ويقوم التمييز أحيانا اعتمادا على شهادة الحدس، وهذه حالة التمييز بين التمثيل الإدراكي والإدراك؛ فكل إدراك ليس تمثيلا إدراكيا،
26
وبتعبير آخر يقوم كل تمييز على تصور؛ إذ يقوم التمييز بين الوحدة السكونية والوحدة الحركية بين الفكر الذي يعبر عن نفسه والحدس المعبر عنه على تصور حركة الملء، وللقصد أيضا سمات مختلفة في وحدة الملء وخارجها،
27
ويعبر التصور عن نفسه مرات عديدة في تصورات مشابهة؛ إذ يقدم تصور الحركة تصورات الحركية والفاعلية أو النشاط، وتعود الثنائية بين الإيجابي والسلبي للظهور في التكوين الظاهرياتي للحكم بتحليل فعل الحكم في النشاط الأصلي وتغيراته الثانوية،
28
يولد فعل الحكم الإيجابي الأحكام ذاتها بالتعارض مع تغيراته الثانوية، وتتنافس القصدية السكونية والقصدية النشوئية في تحليل الأنماط الأصلية والأنماط غير الأصلية للمعطى، ويعاود التمييز والخلط إلى الظهور في التحليل، ويتفوق الخلط الأسمى المرتبط باسترجاع ذكريات الماضي على خلط آخر مرتبط بالإدراك الذاتي، ثم تأتي البداهة، وهي شريك التمييز، للمساعدة؛ إذ توجد بالفعل في استدعاء الماضي، والتذكر بداهة ثانية، وقد أنتج نشاط الشعور مفهوم «الحدس المعطي أو الواهب»، كما تقدم الظاهريات ضد الحدس السلبي للمادة الحسية حدسا معطيا للمعنى الأصلي.
29
وفي مواجهة فهم بلا حدس، وفكر بلا حدس، و«وظيفة التمثيل» للعلامات، تعود الظاهريات إلى الحدس المقابل من أجل إنارة دلالات معرفة الحقائق القائمة عليه، تقدم الظاهريات نفسها على أنها حركة عودة إلى الحدس الأصلي؛ فالفهم وحده لا يتجاوز «صفة المعروف» والتعرف؛ أي إدراك الذات في التعبير مفهوم، في حين أنه حدسي في التمثل.
30
وكما تدخل الثنائية بين التغير والدوام في التمييز بين الموضوع الواقعي والموضوع المثالي، تستمر الحركة كمعيار للتمييز، وهناك فرق بين المضامين التي تنفصل حدسيا وتلك التي تنضم حدسيا أيضا،
31
والثنائية بين المتغير والدائم موازية للثنائية بين الكثير والواحد. وإذا كان مضمون المعطى الحي الذي يعبر عن نفسه بالمعنى النفسي كثرة، فإن المضمون بمعنى الدلالة وحدة. وإذا كان طابع فعل الدلالة كثرة، فإن الدلالة نفسها هي وحدة على نحو مثالي،
32
وترتبط الوحدة والكثرة بالاستقلال والتبعية؛ إذ تنتمي كثرة القوانين إلى أنواع مختلفة من التبعية،
33
وتؤدي ثنائية الواحد والكثير إلى ثنائية أخرى بين الكل والأجزاء؛ فالجزء منشط، في حين أن الكل يكون مجموعا متكاملا، وفي الأجزاء يوجد فرق بين الأجزاء المتوسطة والأجزاء المباشرة، بين أجزاء أقرب وأجزاء أبعد،
34
الكل دلالة مستقلة في حين أن الأجزاء دلالات تابعة على الأقل في الكلمات، والدلالات التابعة دلالات مؤسسة حتى لو نسب الاعتماد إلى الموضوع الدال وبالرغم من فهم مضمون المقولات المتزامنة المنفصلة.
35
وقد يكون التمييز أحيانا ضمنيا في لفظ يتضمن الشيئين المتميزين؛ إذ يشير اللفظ إلى الانتقال من واحد إلى آخر؛ فالملء يفترض التمييز بين الفارغ والمملوء، والحدس باعتباره قصدا يقتضي الملء.
36
والملء اتفاق تخرج منه الهوية والتماثل، أو عدم الاتفاق يخرج منه الإحباط أو الصراع، والتماثل والتمييز في الملء هما صورتا التعبير، وتبرز الثنائية بين الفارغ والمملوء ثنائية أخرى بين الخارج والداخل، والأفعال الدالة متضمنة في طبقة الأفعال المموضعة،
37
وثنائية الصورة والمادة متضمنة أحيانا وظاهرة أحيانا أخرى، تظهر في تيار «التأملات» كثنائية بين «الكوجيتو» و«الكوجيتاتوم»،
38
وبتعبير آخر للشعور بعد فحصه طابع ثنائي، ومع ذلك للطابع التضايفي تركيب؛ أي صورة الوحدة الأصلية، والتماثل هو الصورة الأساسية للتركيب، وهو في الحقيقة تركيب شامل للزمان الترنسندنتالي، ومنذ أن يدخل الزمن كعامل تنقسم الحياة القصدية إلى واقعية وإمكانية، ولكن تجد وحدتها في الموضوع القصدي كدليل ترنسندنتالي، وتدرك هذه الوحدة الشاملة لكل الموضوعات بإنارة تكوينية، وعمل الإنارة هو التمييز ثم التوحيد ثم التمييز ثم التوحيد من جديد إلى ما لا نهاية، وقد تمت معالجة موضوع الصورة والمادة في تحليل صور المادة التركيبية في اللغة، والصور والمواد المتعلقة بالنواة. هناك صور خالصة ومواد. وهناك صور من درجة أدنى وصور من درجة أعلى، وبينهما علاقات معان، ويؤدي فصل صور الارتباط إلى كليات ذات ارتباط بحرف أو ارتباط متصل دون حرف كالإضافة، وبعد الانتقال إلى دائرة المقولات العليا يظهر شمول صور الارتباط المختلفة، ويساعد الامتداد إلى مجموع دائرة مقولات التمييز في القضية وأخذها بالمعنى الواسع على تطبيق ثنائية المادة والصورة في الحكم مع تطوير مستويات الخبر التركيبي في اللغة ؛ ومن ثم فإنه في سؤال واحد يستعمل منهج التمييز كله؛ مادة وصورة، صورة خالصة ومادة خالصة، درجة سفلى ودرجة عليا، ربط وفك، انتقال وامتداد ... إلخ.
39
ويوجد التمييز من أجل التكامل أيضا في ثنائية نمط الاعتقاد ونمط الوجود،
40
كما يوجد أيضا في ثنائية الوضع الواقعي والوضع الممكن،
41
ويؤدي هذا النوع من التمييز إلى أنواع أخرى فيما يتعلق بمشاكل التكوين، ويقام التمييز عادة بين الحقيقة والواقع في مشاكل التكوين، وهو تمييز يبدو أنه بين الواقع وشبه الواقع، العقل هو الوجود، واللاعقل اللاوجود. الواقع هو الواقع، وشبه الواقع هو الخيالي، والواقع نفسه متضايف مع البداهة. البداهة والعقل إذن متشابهان، وتنقسم البداهة أيضا إلى بداهة عادية وبداهة ضمنية، البداهة المفترضة أو المدعية هي بداهة تجريبية كاملة، العالم فيها فكرة متضايفة، ليست البداهات إذن بدون حوامل واقعية، والمناطق الأنطولوجية المادية والصورية قرائن أنساق ترنسندنتالية للبداهة.
42
يهدف التمييز إذن المتكامل إلى إقامة الوحدة بين الحقيقة والواقع، بين البداهة والعلم، وتبرز تنوعات البداهة المطلب الفلسفي لبداهة قطعية وأولية في ذاتها بالنسبة لبداهة وجود العالم وهي ليست قطعية، وتفتح البداهة القطعية ل «الأنا أعرف» أفقا جديدا، هو أفق الأنا-كوجيتو كذاتية ترنسندنتالية طبقا للتمييز بين الأنا النفسي والأنا الترنسندنتالي.
43
ينقص الكوجيتو إذن التوجه الترنسندنتالي، وبالرغم من التمييز بين التأمل الطبيعي والتأمل الترنسندنتالي، يبدأ كلاهما بالأنا-كوجيتو.
سادسا: التمييز ومستويات الوجود1
ولا يتعلق التمييز فقط بنظرية المعرفة بل أيضا بنظرية الوجود، وليس له فقط أهمية معرفية بل أيضا أهمية أنطولوجية، ويشير إلى مستويات الوجود الذي يتشعب إلى اتجاهين أو ثلاثة أو أكثر؛ مما يؤدي إلى تصور معين لتراتب الوجود، وبين مستوى وآخر هناك حركة انتقال «من وإلى».
صحيح أن التمييز يقدم باستمرار في صورة معنيين في شيء مختلط، هناك معنى مزدوج في الحكم،
2
وتلعب فكرة المعنى المزدوج ذي الاتجاهين دورا كبيرا في كل التوضيحات، هناك أيضا معنى مزدوج في الرياضيات؛ الرياضيات الخالصة المنطقية بالمعنى الدقيق، والرياضيات الخالصة المتجاوزة للمنطق. الأولى عند الظاهراتيين، والثانية عند الرياضيين. ونتيجة لذلك يحتاج التمييز إلى إيضاح، وينطبق التحليل المزدوج أيضا على القصدية كاسترجاع وتكوين لتيار الشعور.
3
وعلاوة على ذلك لا يحدث التمييز فقط بين مستويين بل بين ثلاثة، وهذه هي حالة تعدد معنى لفظ الشعور الذي يعني ثلاثة أشياء؛ الأول الأنا التجريبي وهو المستوى الفيزيولوجي، والثاني الإدراك الداخلي وهو المستوى النفسي، والثالث المعطى الحي القصدي وهو المستوى الظاهراتي. في المستوى الأول الشعور وحدة ظاهراتية واقعية لمعطيات الذات الحية، والتصور الظاهرياتي للمعطى الحي مختلف عن التصور الشعبي الذي يقوم على أن العلاقة بين المضمون الحي والشعور الذي يحياه ليس نمط علاقة خاصة. طبقا للتصور الظاهرياتي، المعطى الحي هو نمط خاص للحياة، والمستوى الثاني يجعل الشعور مجرد إدراك داخلي؛ ومن ثم فالاختلاف بين المستوى الأول والثاني مجرد اختلاف في الدرجة وليس اختلافا في النوع، المستوى الثالث وحده يصنع الشعور كذات خالصة وكوعي بالذات.
4
ويبين هذا التمييز الثلاثي المنهج الجدلي الذي يضع شيئين يعتبران حتى الآن متميزين على نفس المستوى من أجل شق طريق إلى حل ثالث. والتقسيم الثلاثي شائع عندما يوضع السؤال في تمامه كنقطة بداية، ودلالة لفظ «لوجوس» ثلاثية: التكلم، والتفكير، والشيء المفكر فيه.
5
لذلك يقسم المنهج الظاهرياتي أحيانا تقسيما ثلاثيا، وهذه هي حالة الآفاق الثلاثة للمعطى الحي: الاسترجاع، والتوتر، والاستباق.
6
وهي أيضا حالة التمييزات الظاهراتية بين الظاهرة الفيزيقية للتعبير، والفعل الواهب للمعنى، والفعل المالئ للمعنى.
7
وهي أيضا حالة التمييز بين المضمون كمعنى مالئ، وكمعنى أو دلالة خالصة بسيطة،
8
وقد يقوم التمييز مرتين بحيث لا يتم بين مستويين فقط بل بين ثلاثة مستويات، طرفان ووسط متناسب، وأحيانا يكون هذا الوسط من الجانب الصوري، وأحيانا أخرى من جانب الحامل المادي، ويؤدي التمييز بين الموضوع التابع والموضوع المستقل إلى تمييز مشابه بين المجرد والعياني، الأول هو الموضوع المستقل، والثاني التابع. والعياني يشار إليه، «هذا هو» المادي، وهو الفرد. هناك إذن ثلاثة ألفاظ: المجرد، والعياني، والفردي. المجرد والعياني فرديات نظرية، في حين أن العياني والفردي حوامل.
9
والوسط إحدى وسائل الإقلال من الخلط، وبين الصوري والمادي هناك المعطى الحي في الوسط، والوسط هو المستوى الذي توجد فيه الظاهريات نفسها كعلم وصفي بين العلوم العيانية من ناحية والعلوم المجردة من ناحية أخرى أو بين العلوم المادية والعلوم الصورية.
10
الظاهريات علم نظري مادي، هي رياضيات للماهيات؛ فإذا كانت الفيزيقا تبحث عن القوانين التجريبية، وإذا كانت الهندسة تبحث التحديد التام بالمصادرات، فالظاهريات وصف وتحديد دقيق للمعطيات الحية، ينقص العلوم الوصفية تدخل الحدس، وتقوم العلوم الدقيقة على تصورات مثالية. والظاهريات نظرية وصفية لماهية المعطيات الحية الخالصة. وتبقي على الفردي والنظري معا؛ ومن ثم تستبعد أي نظرية استنباطية، الظاهريات رؤية مباشرة للماهية.
ويؤدي التمييز كتحليل مزدوج أو ثلاثي الاتجاه إلى تعدد المستويات؛ فالواقع أن التمييز ليس فقط بين شيئين متعارضين أو متناقضين أو متكاملين، بل أيضا في نفس الشيء لبيان درجاته. وإذا أدى التمييز الذي يبين التعارض إلى تصور ثنائي للعالم، فإن التمييز الذي يدل على درجات الشيء ينتهي إلى تصور تراتبي للعالم، وقد تم التمييز بين التماثل البسيط والملء ليدل على درجات الملء، فهناك حلقات متتابعة للملء ، وهناك أيضا تدرج في الملء،
11
ويتحقق هذا التدرج متشعبا في خطين متميزين؛ المضمون الحدسي والمضمون الإشاري، الحدسي الخالص والدلالة الخالصة ... إلخ. وللمعرفة كمركب للملء درجاتها التي تظهر في التكوين.
12
وقد أدى منهج التمييز إلى تصور تراتبي للعالم. في العقل هناك درجات للعموم،
13
وفي هذا التصور التراتبي، كل درجة عليا أكثر صورية وأقل مادية من الدرجة السفلى. مثلا تطابق المنطقة، وهو نوع مادي رفيع، علما نظريا يختص بالمنطقة أو أنطولوجيا تختص بها.
14
هناك سلم للعموم تتولد فيه الأجناس والأنواع، يوجد التراتب في درجات المثال وليس بين المثال والواقع، «لا يمكن تصور تراتب يربط بين المثال والواقع»، ويوجد التراتب أيضا داخل الواقع كخط ماء رفيع يرد المنطق إلى ما هو أقل منه.
15
ويوجد التراتب أيضا في البداهة؛ فالبداهة الواضحة بذاتها بداهة التجربة، ونشوء معنى الحكم خيط يقود من أجل تنظيم تراتب البداهات، وبداهة التجربة السابقة على الحمل المنطقي هي الموضوع الأول في ذاته للنظرية الترنسندنتالية للحكم، ويدخل منهج المسار هنا ليشير إلى الانتقال إلى البداهات في المستويات العليا، بل إن نواة المعنى تعتمد على بداهة العام العياني أو العام الصوري، ترتبط البداهة بالتمييز، ويمكن إرجاع كل حكم إلى بداهة التمييز، فتظهر إمكانية بداهة التمييز في التمييز بين الحكم ومضمونه؛ إذ يفترض الوجود المثالي للحكم الوجود المثالي للمضمون، والوجود المثالي للمضمون مرتبط بشروط وحدة التجربة الممكنة؛ ومن ثم ترتبط البداهة بالوجود المثالي.
16
ليست التجربة الذاتية المشتركة ذات طابع معرفي فحسب، بل أيضا تكون جماعة إنسانية تمثل أول صورة للموضوعية، وهي طبيعة التجربة المشتركة، ولهذه الجماعة أيضا مستويات عديدة، عليا ودنيا، وهو نفس التصور التراتبي للعالم الذي ظهر في الذاتية المعرفية يعاود للظهور في الجماعة الخلقية.
17
لذلك للتمييز أحيانا غرض انتقائي، إذا لم تكن الأشياء كلها متشابهة فالبعض يتميز عن البعض الآخر؛ ومن ثم لا تستطيع جميع أنواع الأفعال أن تملأ وظيفة حوامل الدلالة ولكن بعضها فحسب.
18
لا يتضمن كل دال فعلا معرفيا،
19
ويساعد التمييز على إظهار مستويات الوجود خاصة المستويات المتمايزة.
ومستويات الوجود ليست متجاورة، واحدة فوق الأخرى، بل مرتبطة فيما بينها بممر داخلي؛ فالواقع أنه بالإضافة إلى منهج التمييز هناك منهج المسار أو الانتقال أو المرور، وهو ذو حركة مزدوجة؛ من المادي إلى الصوري، ومن الصوري إلى الترنسندنتالي، ويظل المرور إلى العام أيضا مرورا ماديا في حين أن المرور إلى الصوري هو أعلى درجة في الصورية.
20
وفي المرور تظهر بعض الحركية، وفي الملء تزداد الحركية درجة، وقد سمح التمييز بين المملوء والفارغ لهذه الحركية بالامتلاء.
21
ليست قواعد المنهج الظاهرياتي إذن مجرد مقولات تطبق في الوجود، بل انتقال يتم من الصوري أو المادي إلى الترنسندنتالي، وهي الحركة الرأسية ذات الاتجاهين؛ من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي، ومن المنطق إلى الإنارة الظاهراتية للمعرفة.
22
ولا يمنع الانتقال من الصوري إلى الترنسندنتالي انتقالا آخر من الفردي إلى العام، ومن المادي إلى الصوري. والواقع أن الصوري الأول يتعلق بالقضايا الموضوعية، في حين أن الثاني يتعلق بالتحول إلى المثال. وبتعبير آخر يمر الصوري إلى الترنسندنتالي، ثم يعود إلى الصوري من جديد. الصوري الأول فارغ دون أساس، والثاني مملوء تأسس في الترنسندنتالي.
23
وإذا كان المرور من مستوى إلى آخر يدل على حضور الحركة داخل المنهج، فإن الشعور كله يكون «وجودا متجها نحو».
24
ومنهج المرور هو أيضا منهج جدلي ذو اتجاهين، نازل وصاعد، نزل التحليل كمنهج ونظرية صورية للعلم كي يصبح أنطولوجيا صورية متجهة نحو الموضوع، ثم اتجه التحليل في حركة صاعدة إلى مبحث القضايا الصورية، هذا التحرك في الموضوع يساعد على الانتقال من ميادين الموضوعات إلى الأحكام بالمعنى المنطقي. وكالعادة تقوم الإنارة الظاهراتية بإبراز هذا الانتقال بالتمييز بين ثلاثة اتجاهات متميزة؛ الاتجاه الساذج المباشر، والاتجاه النقدي التمييزي، وأخيرا الاتجاه النقدي القصدي أمام الموضوع. ويحكم الاتجاه النقدي تصورات الحقيقة والبداهة مع التمييز بين معنيين؛ الفاعلية والواقع للحقيقة، والامتلاك والملكية للبداهة، ويعني النقد أيضا التمييز.
25
سابعا: التمييز وبنية الوجود1
طبقا لعنوان «الأفكار» هناك شيئان؛ الظاهريات والفلسفة الظاهراتية، هناك منهج ظاهرياتي وفلسفة ظاهراتية؛ الأول منهج تمييز، والثانية فلسفة علاقة، ويرتبط الأول بالثاني ارتباطا وثيقا. يقوم المنهج على الفلسفة، والفلسفة نظرية في المنهج، وتظهر فلسفة العلاقة في تعبيرات مثل «متضمنة في» «واحد مع» «مرتبط ب» ... إلخ.
2
وتبدو الظاهريات كفلسفة بنية في أخذ البنية كمحل لإعادة تركيب الوجود، ويتم تحديد العلاقة بين صورة الشعور ومضمون الشعور في بنية صورية مادية،
3
وتحدد العلاقة بين الدلالة بالنسبة إلى الموضوع نفس الشيء مع أخذ اللغة في الاعتبار.
4
ويتم البحث عن العلاقة النفسية بين الأفعال الرابطة ووحدة المقولات للموضوعات المطابقة، بل تبحث العلاقة بين شيئين متميزين، مثلا العلاقة بين المعنى الداخلي والخارجي من ناحية ومعنى المقولة من ناحية أخرى.
5
الظاهريات إذن فلسفة علاقة، غرض منهجها هو إيجاد العلاقات بين مستويات الوجود؛ فيتحدد المعنى المتعلق بمضمون الشعور بالنسبة لعلاقته بالموضوع،
6
والبحث عن العلاقة يتجنب صورية المثال ومادية الواقع، تبحث فلسفة العلاقة عن الخصائص الثلاث للأساس: الثبات، والقبلية، والتأسيس. وهكذا يتم البحث عن إمكانية العلم وإمكانية المعرفة،
7
وتظهر فلسفة العلاقة في إقامة الصلة أو الرابطة كنهاية لكل تحليل ظاهراتي، وهذه حالة التحليل المسهب للمنطق الصوري والأنطولوجيا الصورية،
8
وتقام العلاقة بفضل تمييز مزدوج متضايف للمنطق الصوري والتمييز الترنسندنتالي بين الأنطولوجيا الصورية ونظرية العلم، ويبين التكوين نفسه هذه الفلسفة للعلاقة، يعني التكوين البنية، وتبين مستويات التكوين مرة أخرى المستويات المتداخلة للوجود،
9
كما يبين أيضا تشابك أنماط عقلية مختلفة مثل الحقيقة النظرية والقيمية والعملية بنية الوجود،
10
والعلاقة بين جوانب مختلفة لعلم واحد أو أكثر هي النقطة الجوهرية في البحث، بل إنه داخل العلم موضوع النقض تبحث العلاقة بين هذه الجوانب المختلفة من أجل إعادة بنائها، ولمبدأ اقتصاد الفكر علاقة مع المنطق التقني وليس مع المنطق الخالص، وعلى النقيض من ذلك، يقترب من نظرية في المعرفة النفسية،
11
ليس هدف فلسفة العلاقة فقط إعادة بناء العقل والواقع، بل أيضا ربط الشخص بالآخر؛ فللتعبيرات إذن وظيفة في الاتصال، بل إن تعبيرات حياة الرغبة تجعل من الشعور طرفها الآخر،
12
وتبقى العلاقة على البنية الصحيحة للوجود، «بين العلوم المضبوطة والعلوم الوصفية الخالصة هناك علاقة، ولكن لا يمكن أخذ أحدها نيابة عن الأخرى.»
13
وتقدم الظاهريات كفلسفة علاقة تصورات جديدة، مثل «حامل» «أساس»؛ من أجل إعادة بناء مستويات الوجود، ولا تقع هذه التصورات في الصورية مثل التصورات الرياضية، ولا في المادية مثل علوم الطبيعة، ولا في خلط العلوم النفسية، بل تحافظ على استقلال المثال في علاقته بالواقع، التضايف هو نمط العلاقة بالأصالة، ويتجلى بوضوح في التجربة الذاتية المشتركة «المونادولوجية»، حيث يبدو الآخر كطرف وتضايف للشعور، وبالتالي يقطع الطريق على كل اتهام للظاهريات بالأنا وحدية بإثبات تجربة الآخر، وهذا لا يعني خروج الشعور عن ذاته، بل يعني أنه يركز على ميدان انتمائه؛ ومن ثم «يرد» الشعور السيكوفيزيقي، الانتماء وحده هو الذي يكون ميدان الواقعية والإمكان لتيار الشعور، ويدخل الموضوع أيضا في ميدان الانتماء؛
14
فالحضور الذاتي، أي الإدراك الذاتي عن طريق التماثل، نمط من حضور الآخر، هي تجربة لها طريقتها الخاصة في إثبات ذاتها.
15
والربط عنصر تكوين عن طريق الارتباط في تجربة الآخر دون مشاركة فعلية،
16
وتصور «التضايف » في كل مكان؛ فالعمومية النظرية والضرورة النظرية متضايفان،
17
وهناك التضايف الرأسي الذي يمتد بين الصوري والمادي كما هو الحال بين العموم النظري والضرورة النظرية، فالضرورة تفرد العموم، وهناك التضايف الأفقي الذي يمتد بين الأنا والآخر؛ فالآخر طرف متضايف مع الذات، ينتمي الآخر والشيء إلى الواقع الطبيعي الذي هو نفسه متضايف مع الشعور،
18
وداخل الشعور تلعب نظرية التضايف دورا كبيرا في العلاقة بين المادة الحسية والصورة القصدية؛
19
فكل فعل يتعلق بصورة الشعور إثباتا أو نفيا له طرف متضايف يتعلق بمادة الشعور،
20
وتعتبر البنيات الذاتية للمنطق كقبلي متضايف مع قبلي موضوعي.
21
وتبدو فلسفة البنية أيضا في مخطط تشابك الشعور في العالم، العالم الطبيعي، والعالم الإنساني، والعالم المثالي.
22
فعلاقة التداخل هي أحد أنماط العلاقة، فبين مضمون التجلي ومضمون التسلط هناك نمط التداخل،
23
وهو تداخل جزئي، وبين أجزاء موضوع واقعي هناك علاقات رئيسية،
24
ويسمح هذا التداخل الجزئي كنمط لعلاقة بين مضمون التجلي ومضمون التسلط بتمييز بين التعبيرات العرضية والتعبيرات الموضوعية؛ الأولى تعبيرات عائمة أو متموجة. وكل عدم للدلالات هو عدم أو تموج للدال، للتمييز إذن دور هو استخلاص التغير من الثبات، ولا يتعامل المنطق الخالص إلا مع الدلالات المثالية؛ أي دلالات خارج كل تموجات.
25
ومن ثم فإن التمييز ليس فصلا، ولم يكن هدفه فقط الفصل بين شيئين مختلطين؛ فالربط يأتي بعد التمييز بين الشيئين المتميزين، وليست العلاقة هذه المرة خليطا، بل إعادة بناء صحيح للمستويات المختلفة للوجود، وهكذا بعد التمييز بين الواقعة والماهية يعاد الربط بينهما حتى لا ينفصلا،
26
ليست الماهية نتاج الواقعة وليست على نفس مستواها، بل هي محمولة عليها؛ ومن ثم يعاد تأسيس الربط بمساعدة نوع جديد من العلاقة، وهي الحامل أو الدعامة؛ فالتمييز يؤدي إلى استحالة الفصل، «والتمييز الجذري للعلم لا يستبعد على الإطلاق تداخلهما بل واتحادهما الجزئي».
27
ومع أن الماهية محمولة على الواقعة فإنها تحافظ على استقلالها ووجودها الذاتي. الموضوع موضوع مثالي محمول على الموضوع الواقعي، دون أن يكون منتجا له. هدف التمييز إذن هو إعلان استقلال الموضوع المثالي بالنسبة لظروفه المادية،
28
ومعرفة الماهية مستقلة عن أي معرفة للوقائع،
29
ولا تتضمن الحقائق الخالصة الخاصة بالماهيات أي تأكيد بالنسبة للوقائع. يؤدي التمييز إلى استحالة الفصل، وتؤدي استحالة الفصل إلى الاستقلال، ويتم التمييز بين الموضوع المستقل والموضوع التابع داخل عالم الماهيات. مثلا، صور المقولات موضوعات تابعة بقدر ما تحيل إلى مقولات حوامل، في حين أن ماهيات المقولات موضوعات مستقلة بقدر ما لا تحيل إلا إلى ذاتها.
30
ومع ذلك لا يستبعد الاستقلال كل أنواع التبعية، فبين علم الواقعة وعلم الماهية هناك علاقة تبعية،
31
وإذا كان الاستقلال والتبعية متكاملين هناك أيضا موضوعات مستقلة وموضوعات تابعة، والموضوع المستقل يكون أحيانا الحامل عندما يتعلق الأمر بالفردي، وأحيانا بالصورة عندما يتعلق الأمر بالعام؛ فالاستقلال يكون إما في الفردية أو في العموم،
32
وعدم الفصل ليس فقط بين المثال والواقع المثالي، ولكن بين المكونات المختلفة التي تشكل مضمون المموضع التابع.
33
وإذا لم يكن التمييز فصلا فإن المنهج الظاهرياتي يبدو وكأنه منهج متكامل، يحاول أن يرى كل جوانب المسألة في نفس الوقت، يكتمل الأنا أفكر «الكوجيتو» في الأنا المفكر فيه «الكوجيتاتوم»، وصورة الشعور ليست إلا واجهة واحدة، ومضمون الشعور واجهة ثانية،
34
العقل والواقع واجهتان لشيء واحد،
35
ومن الضروري التعامل في نفس الوقت مع الجانب النحوي للمعطيات الحية المنطقية.
36
النظرة التكاملية في الرؤية الظاهراتية في كل تحليل؛ الواقعي والخيالي مضمون للشعور، الإدراك، والتذكر، والخيال ... إلخ معطيات للتجربة.
37
ومع ذلك عندما يتعلق الأمر بالماهية تكون مستقلة عن الوهم،
38
أما البداهات الهندسة فلا أصل لها في التجارب الخيالية،
39
ويظهر التكامل بشكل أوضح في مفهوم التضايف، العموم النظري والضرورة النظرية متضايفان،
40
وقد ذكر التكامل مباشرة ملحقا بعمومية التعبير في ميدان اللغة.
41
ثامنا: التمييز ووحدة الوجود1
ويهدف التمييز إما إلى الفصل أو إلى التوحيد، التمييز للفصل بين الشيئين المختلطين، مثل الواقعة والماهية، والتمييز للتوحيد من أجل إعادة بناء العلاقة بين واجهتي الواقع؛ فمعنى مضمون الشعور مرتبط بالموضوع، والمضمون ليس الموضوع بل معناه، وإذا كان الجزء الأول من «بحوث منطقية» «مقدمة في المنطق الخالص» والثاني «بحث في الظاهريات ونظرية المعرفة» للدلالة على ثنائية العلمين، فإن الجزء الثالث «عناصر إنارة ظاهراتية للمعرفة» بحيث تختفي الثنائية.
وتظهر الرؤية التوحيدية في مد التمييزات النفسية؛ فالواقع أن كل الجهاز الظاهراتي الذي تم التوصل إليه تم مده إلى أكثر الميادين بعدا في القصدية، الدائرة العليا للشعور، وميدان الحكم أو الميدان الوجداني والرغبة،
2
وقد امتد مفهوم الحكم إلى كل أشكال الأفعال التركيبية اللغوية بعد تحليل موضوعات الحكم من حيث هي كذلك أولا وأشكال التراكيب اللغوية ثانيا.
3
ويبين امتداد مفهوم المعنى إلى مجموع ميدان الوضع، وامتداد المنطق الصوري من أجل تكوين مبحث للقيم عملي وصوري وحدة الرؤية،
4
ويتم الامتداد أيضا بتطبيق المبادئ التي تم اكتشافها على التو في ميادين أخرى باستثناء أو بدون استثناء، وقد استنبطت قوانين تراتب البداهات من المنطق الاستنباطي ثم تطبيقه على منطق الحقيقة، وهو المنطق الاستقرائي، وتنطبق أيضا على الأحكام التي لها معنى من منظور المضمون.
5
والتمييز عن طريق القسمة الثنائية أو الثلاثية له غرض واحد هو التوحيد؛ فبعد القسمة بين اللحظات الواقعية واللحظات غير الواقعية للمعطى الحي هناك إدراك للتيار التوحيدي للمعطى الحي باعتباره فكرة، القصدية نفسها رؤية توحيدية تضع الموضوع في الذات،
6
وفضلا عن ذلك، المصالحة وعدم المصالحة كعلاقات مثالية بين المضامين على وجه العموم ألفاظ نسبية؛ لأن الصراع نفسه يمكن أن يؤسس حالة وحدة مثل عدم المصالحة بين التصورات.
7
ويشير التماثل بين الموجودات على مستويات مختلفة أيضا إلى الرؤية التوحيدية، فإن قسمة المنطق إلى منطق استنباطي (نتائج) ومنطق استقرائي (حقائق) تنطبق أيضا على أعلى المستويات في المنطق، وهي نظرية الكثرة. هناك أيضا تماثل في البداهة بين الموضوعات المثالية والموضوعات الفردية؛ لأن البداهة تعطي الشيء ذاته، وتضمن الشرعية الأساسية للقصدية، والموضوع الواقعي والموضوع اللاواقعي باعتبارها وحدة تركيبية لها علاقة وظيفية مع البداهة.
8
وهكذا فإن لكل أفعال الشعور وحدتها الظاهراتية،
9
وتكون وحدة متجانسة حميمية يشعر بها كل إنسان في تجربته الداخلية، وبالرغم من كل أقسام الذات إلا أنها تظل قطبا متماثلا للحالات الحية، تظل حامل «العادات» ذاتا شخصا دائما، تصبح جوهرا فردا «موناد» بملائها العياني ووضعها الذاتي، ويظل الأنا الترنسندنتالي عالم الصور الممكنة للتجربة، ولها قوانين تحدد الإمكانية المشتركة للحالات الحية في وجودها المشترك وفي تتابعها. وتمتلك الذات-الموناد الزمان كصورة شاملة لكل نشوء ذاتي، وينقسم هذا النشوء إلى إيجابي وسلبي، يقوم السلبي على الارتباط، بينما يقوم الإيجابي على المثالية الترنسندنتالية كتفسير ظاهراتي صحيح،
10
وتنتهي كل مناهج التفسير إلى غاية واحدة؛ الذاتية؛ إذ يتكون كل موجود، طبقا لأقسامه المنطقية، في الذاتية طبقا لضرورة البداية بذاتية كل موجود، تضع الذاتية الإشكالية الترنسندنتالية للذاتية المشتركة للعالم الذاتي المشترك، وبمجرد وجود الوحدة في الذاتية تظهر الثنائية في الذاتية المشتركة، وهذه بدورها توجد في عالم التجربة الخالص، ودون الوقوع في أي نوع من الأنا وحدية، تكون الذاتية المشتركة مشاكل العالم الموضوعي على أرفع مستوى، وتتميز الذاتية الترنسندنتالية عن الذاتية النفسية، والظاهريات الترنسندنتالية للعقل هي التي تكون المنطق على نحو ذاتي، وإذا أحال المنطق التقليدي إلى العالم فإن المنطق الترنسندنتالي هو المعيار الصحيح للإنارة الظاهراتية، ومن المستحيل تأسيس المعرفة على الإطلاق إلا في العلم الشامل للذاتية الترنسندنتالية باعتبارها الموجود الوحيد المطلق، الظاهريات نفسها ليست إلا التفسير الذاتي للذاتية الترنسندنتالية.
11
وثنائية الكل والأجزاء مشابهة لثنائية الواحد والكثير، ويكون الكل صور وحدة الكليات الحية وأشكال وحدتها كمقولات،
12
وهذا مما يسمح بالقول بوجود قوانين قبلية في مجمع الدلالات بالرغم من تغيرات الدلالات التي لها جذورها في ماهية التعبيرات، وتسمح هذه القوانين القبلية بدورها بالتعرف على اللامعنى والمعنى المضاد، وهو أساس النحو المنطقي الخالص.
13
وضد التماثل التجريبي بين التجربة والأفعال المعطية الأصلية فإن التمييز بين الماهية والتصور يسقط التماثل التجريبي من جانب التصور، ويؤكد التمييز بين الماهية والخيال، التماثل بين حدس الماهيات، كفعل معطى أصلي، ويبعده عن الخيال، وينتهي التمييز إلى وحدة الحقيقة، والحدس المعطى للماهيات هو مبدأ المبادئ.
14
وتوجد الرؤية التوحيدية بوضوح في فكرة المنطق الخالص التي تؤكد على وحدة العلم، ارتباط الأشياء وارتباط الحقائق،
15
ويؤكد المنطق الخالص على وحدة النظرية ووحدة العلم معطيا المبادئ الأساسية والمبادئ غير الأساسية، ومصنفا العلوم في نظامها الخاص، المجردة والعيانية والمعيارية. ومما يسترعي الانتباه أن هذه الوحدة للعلم تؤدي إلى نظرية في الصور الممكنة للنظريات أو للنظرية الخالصة للكثرة؛ ومن ثم يشارك الرياضي مع الفيلسوف في الحقيقة. وإذا كانت فكرة المنطق الخالص ذروة الفلسفة، أو على نحو أدق ذروة المنطق، فإن نظرية الكثرة ذروة الرياضيات؛ لأن نظرية الكثرة ما زالت نظرية خالصة للمعرفة التجريبية، الواحد هو الخالص، وهدف التمييز الذي يقود إلى الوحدة تطهير العلم، والظاهريات نموذجه، من الاتجاه الطبيعي؛ ومن ثم فإن اللحظات المادية والصورية للشعور لحظات واقعية للمعطى الحي في حين أن اللحظات مضمون الشعور غير واقعية، يعني لفظ واقعي هنا مثاليا غير مادي، الروح وحدها هي الواقع، والظاهريات بحث عن الخالص؛ لذلك تنتهي «مقدمات للمنطق الخالص» ب «فكرة المنطق الخالص»،
16 «لم أعد أوافق أن ينكر أحد الأنا الخالص».
17
ومن أجل الحصول على الخالص من الضروري إجراء بحث خاص من منظور نقد المعرفة، وفي نفس الوقت تحقيق فكرة منطق الخالص.
18
ولكل أجزاء النوع نظرية صورة خالصة.
19
الظاهريات فلسفة الخالص وغير الخالص، ويختار منهجها الأول ضد الثاني.
20
ويرتبط الخالص بالبسيط، وكلاهما يشيران إلى الأصلي،
21
ولا يتعلق بالواقعة ولكنه مستقل وغير مشروط، والبسيط والمركب ثنائية واحدة، وهي ثنائية موازية لثنائية المفصل وغير المفصل.
22
وتستنبط هذه الثنائية من الثنائية السابقة الأخرى، ثنائية الكل والأجزاء؛ إذ يشير البسيط وغير المفصل إلى الكل في حين يشير المركب والمفصل إلى الأجزاء، وتسمح هذه الثنائية نفسها فيما بعد بإبراز ثنائية الموضوع المستقل والموضوع التابع، التابع هو المركب، والمستقل هو البسيط، وتقدم الأنماط الصورية الخالصة للكل والأجزاء مصادر نظرية قبلية
23
وينطبق التمييز بين البسيط والمركب أيضا على الدلالة؛ فهناك دلالات بسيطة وأخرى مركبة، وليس تعقيد الدلالات مجرد انعكاس بسيط لتعقيد الموضوعات، ولا يعتمد على تعقيد الفعل الدال، التعبيرات المقدمة مكونات لمادة المقولات المتزامنة.
24
والأفعال البسيطة أفعال مؤسسة في الأفعال المعقدة، وللانتباه وظيفة معينة مثلا ربط الكلمة بالمعنى؛ لأنه هو نفسه وظيفة للتمييز.
25
والواحد والخالص في الصورة ، وهدف التمييز هو البحث عن الصورة، وللمنطق قبلي صوري وليس قبليا حادثا، له وظيفة معيارية وليس وظيفة عملية.
26
ونظرا لارتباطه بالصورة، يتم تطهير المضمون من شوائبه الطبيعية كي يصبح موضوعا مثاليا مرتبطا بأنطولوجيا صورية، وكان القصد من المناقشات حول مضمون المنطق الوصول إلى صورة خالصة،
27
وتشير ثنائية الحساسية والذهن بوضوح إلى المشكلة الأكثر تقليدية، وهي العلاقة بين المادة والصورة، وكان الهدف من التمييز بين الحدوس الحسية والحدوس الخاصة بالمقولات بيان كيف تدخل المادة الصورة.
28
وإذا كان التمثل الخاص بالمقولات ما زال مشوبا بالمادة، فإن القوانين القبلية للفكر بالمعنى الخاص والفكر بالمعنى الدقيق، يكونان قريبين من الصورة الخالصة.
29
الهدف من التمييز بين المادة والصورة هو الحصول على الخالص، والفرق بين القوانين المادية والقوانين الصورية هو نفس الفرق بين القوانين التركيبية والقوانين التحليلية.
30
ويظهر نفس التمييز في الخلاف بين الكيف ومادة الفعل من ناحية أو بين الماهية الدالة والماهية القصدية، الأولى هي الصورة بالنسبة للأخرى التي تمثل المادة.
31
وأحيانا ينقلب السؤال ويصبح سؤال العلاقة بين المادة وصفة الفعل ، وفي هذه الحالة تنقلب أيضا العلاقة بين الصورة والمادة، وتصبح ببساطة العلاقة بين المادة والصورة، وإذا أمكن تصور المادة كفعل تمثل بسيط لتقوم بوظيفة الفعل المؤسس، في هذه الحالة تبرز صعوبات فيما يتعلق بمشكلة اختلاف الأجناس الأكثر شيوعا في تحليل المعطيات الحية القصدية وفي مضامينها.
32
والتمييز السابق بين المعطى الحي والمضمون له دلالته، والشعور كمكون ظاهراتي للذات والشعور باعتباره إدراكا داخليا يكونان مستويين مختلفين للتحليل؛ مستوى ظاهرياتي للإبقاء، ومستوى نفسي للإلغاء.
33
ويمثل الشعور باعتباره معطى حيا أيضا شيئين؛ الشعور كصورة خالصة، والمعطى الحي القصدي كمضمون.
34
وتفترض مادة الفعل والتمثل الذي يقوم عليه التمييز بين المادة والصورة،
35
ودراسة التمثلات التأسيسية مع الإشارة إلى نظرية الحكم استئناف لنفس التمييز بين المادة والصورة؛ فأصبحت المادة هي التمثل، والصور هي الأحكام.
36
ويرجع تشابك الأقسام إلى تكرار نفس قسمة المادة والصورة إلى مستويات متعددة، وأحيانا يحل الكيف محل الصورة في مواجهة المادة، وذلك مثل اختلاف الأفعال المموضعة بالكيف والمادة ، وقد تم هذا التمييز بعد تقويم تصور جديد، الفعل المموضع.
37
وقد تم نقل كل التمييزات السابقة إلى مستوى آخر بفضل هذا التصور الجديد، وهي حالة التمثل الذي تم تحليله بإسهاب من قبل، واعتبر هذه المرة كفعل مموضع له تفسير كيفي المميز عن التغير الخيالي الذي ما زال قريبا من المادة، ويبلغ التحليل الظاهرياتي الذروة في البحث عن الصورة لتكوين الأنطولوجيا الصورية الشاملة، هناك إذن أنطولوجيا لصور الشعور، وصور لمضمون الشعور، وصور للقضايا،
38
وتظل مسألة الصورة في الظاهريات دائما هي المسألة الرئيسية، وتظل صور المقولات تمثل مشكلة.
39
ولتعقيد الصور الجديدة دائما منطقه في علم الصور الخالص للحدوس الممكنة، في حين أن قوانين صدق الأفعال الدالة أو المختلطة بالدلالة هي قوانين الفكر بمعنى غامض. القانون قانون صورة خالصة، وقوانين النحو المنطقي الخالص هي قوانين كل ذهن، وليس فقط الذهن الإنساني على العموم، لها وظائف معيارية بالنسبة للفكر غير المطابق؛ ومن ثم فإن مشكلة دلالة واقعية للمنطق مشكلة متناقضة؛
40
إذ تتعلق القوانين بصورة الفكر الخالصة، والمعيار موضوع الدلالات ليس مثالية بالمعنى المعياري،
41
وقد سبق التماثل الكامل بين الرياضيات الصورية والأنطولوجيا الصورية، التماثل بين الرياضيات الصورية الواقعية والكاملة، وليس رياضيات قواعد اللعبة، مع التحليل المنطقي الكامل.
42
الصور الاستنباطية وحدها للنظريات هي التي تصبح ذات موضوع في الرياضيات الشاملة باعتبارها تحليلا شاملا.
تاسعا: التمييز كمنهج جدلي1
التمييز أيضا منهج جدلي يقوم على النقد والتطهير والجدة؛ فالواقع أن الظاهريات حركة نقدية، ولا يعني النقد هنا نفس معناه في الفلسفة النقدية؛ أي بحث تراجعي حول إمكانية المعرفة، النقد الظاهرياتي نتيجة منهج الإيضاح كمنهج للتمييز، ويعني تحديد مكان الخلط بين شيئين متميزين، وتتضمن «بحوث منطقية» اعتبارات نقدية وتأملات خاصة بالمؤلفات المنطقية،
2
وقد وجه نقد آخر إلى النسبية النوعية خاصة النزعة الأنثروبولوجية،
3
وهناك نقد لكل نظرية نفسانية، وقام النقد على أساس منهج التمييز، ويبدو كل خلط داخل النظرية النقدية خلطا بين المضمون والصورة، بين التمثل والفكرة، بين التمثل والمتمثل، بين صفات الموضوعات والمضامين الحالة، بين التمثل الحدسي وتمثل الدلالة ، ويوضح منهج التمييز الفرق الأساسي بين الصفات الأولى والصفات الثانية ضد أي تماثل بينهما،
4
وتبين ضرورة نقد التجربة والمعرفة الترنسندنتالية أن هذا النقد المطلوب لا يتجاوز منهج الإيضاح القائم على التمييز.
5
ويعتبر أحيانا النقد الظاهرياتي للمعرفة كنقد ترنسندنتالي للمعرفة في مواجهة المثالية النفسانية التي تتعارض منذ البداية مع المثالية الظاهراتية.
6
والمنهج النقدي المستعمل هو أيضا منهج تطهير؛ فبعد وضع كل تحليل في مستواه الصحيح، يعلن عن المعنى الصحيح لموضوع التحليل لكل المستويات، فقد أعلن عن المعنى الصحيح للتمثل التمثلي العام بعد إعطاء النظرية قيمتها الصحيحة،
7
وعادة ما يتم نقد التعريفات الشائعة من أجل تطهير الموضوع قبل تحليله، وهذه حالة نقد التعريف الشائع للموضوع المستقل الذي يمكن تمثله بنفسه الموضوع التابع الذي يمكن فقط ملاحظته وليس تمثله.
8
وقد فرض إرجاع الظاهريات إلى بيئتها الطبيعية تخصيص ملحقات خاصة بالنقد، وذلك مثل النقد الموجه إلى «نظرية الصور» ونظرية الموضوعات «الحالة» للأفعال.
9
منهج التمييز كمنهج جدلي منهج يقترح باستمرار تأويلات جديدة كوسائل لتطهير المبادئ شبه الخاطئة، وذلك مثل: التأويل الجديد للمبدأ القائل بأن التمثل أساس كل الأفعال بفضل التصور الجديد المقدم سلفا، وهو الفعل المموضع كحامل أولي للمادة.
10
ويقوم المنهج النقدي الذي تستعمله الظاهريات على قاعدة أن كل شيء صحيح، في مستواه الخاص، نظرية التمثل العامة صحيحة كإجراء لاقتصاد الفكر وليس كنتاج لموضوع مثالي، والتمثل التمثلي العام يمكن أن يستعمل كخاصة أساسية للتمثلات؛ الأفكار العامة دون القدرة على إعطاء الوحدة المثالية للنوع، هناك تفسيرات عديدة في الوعي بالعمومية ولكن الحدس الحسي ليس هو الوحيد.
11
ويوجه المنهج النقدي أحيانا ومباشرة ضد النظرية المناقضة على مستواها الخاص من أجل معرفة أين يكمن الخطأ، ليست نظرية التمثل التمثلي إلا إحلال بديل محل آخر، تخلط بين العلامة والدليل، بل إن الحجة المستخرجة من منهج البرهان الرياضي تنزلق بسبب ميلها التجريبي. والسبب الرئيسي للأخطاء هو عدم التعرف على التمييز الوصفي بين الفكرة المتفردة في القصد الفردي ونفس الفكرة المتفردة في القصد العام،
12
ويطور منهج التمييز كمنهج للتطهير مبدأ ثم يعود إليه، وذلك مثل تطوير المبادئ الأساسية للأفعال المركبة ثم استرجاعها بعد حسن تأويلها.
13
ومنهج التمييز منهج جدلي يرى في نفس الشيء مفهومين متجاورين وقع الخلط بينهما حتى الآن بالرغم من أنهما متمايزان تماما؛ فمثلا للفظ «تمثل» معنى مزدوج؛ تمثل بمعنى فعل أو صفة فعل، وتمثل بمعنى مادة أو مادة فعل، ويرجع ادعاء البداهة في مبدأ تأسيس كل فعل بفعل تمثل إلى الخلط بين المعنيين اللذين ثم التمييز بينهما آنفا، ثم يعاد تأسيس هذا المبدأ القائم على الخلط بفضل التصور الجديد للتمثل الذي هو نفسه يقوم على تمييز بين التسمية والنطق، وتحل الصعوبات الناشئة عن هذا التصور الجديد عن طريق مفهوم الاسم نفسه الذي يقوم بدوره على التمييز بين الأسماء الواضحة والأسماء غير الواضحة، والغرض من هذه التمييزات كلها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من استقلال الموضوع، وبالتالي على الحقيقة المطبقة في نقطة خاصة، وذلك مثل الفصل بين حكم الوضع الاسمي وكل أجزاء الأفعال الاسمية، وأيضا مثل رفض نسبة دور الأسماء الكاملة إلى منطوقات اليوم؛
14
فمثلا يصطدم الشعور كمعطى حي قصدي، المستوى الثالث، بالظاهرة النفسية في علم النفس الوصفي، والذي يبدو مشابها للمعطى الحي القصدي، يقوم منهج التمييز بنقد هذا التصور المشابه نتيجة لتشابه لفظ الظاهرة الفيزيقية وتصنيف الظواهر النفسية تحتها، ورد الموضوعي إلى الحسي، وتصنيف الظاهرة النفسية وعدم مدها إلى الأخلاقي والجمالي. وباختصار، ما زال التصور المشابه تجريبيا ونفسيا ونشوئيا؛
15
ومن ثم يصب المنهج النقدي في المنهج الجدلي، وبعد انقسام الشيء إلى قسمين يعاد تركيبهما في ثالث، ولتعبير «التعبير بالفعل» معنى مزدوج، ثم يظهر معنى ثالث كنقطة بداية لتطور جديد.
16
وكذلك يعتبر التحليل الصوري لعبة فكر بالنسبة للتحليل المنطقي، وقد تم التوصل إلى هذا الاكتشاف بفضل الإشارة إلى تطبيق ممكن ومتضمن في المعنى المنطقي للرياضيات الصورية؛ ومن ثم ينتهي التمييز بين التحليل الصوري والتحليل إلى رفض واحد والإبقاء على آخر، بفضل اللفظ الثالث، الرياضيات الصورية.
17
وتقدم الظاهريات منهجا نقديا يضع النسقين المتعارضين في سلة واحدة؛ فالتجريبية شك، والمثالية غامضة، وذلك يقتضي العثور على حل ثالث، ويوجد هذا الحل في الوضع الجديد للسؤال نفسه،
18
ويعتبر الوضعي في العمل عالما، والعالم وقت التفكير وضعيا.
19
ويتكون المنهج الجدلي من رفض النظرتين المتعارضتين؛ الواقعية والمثالية. للأولى افتراضاتها المسبقة النفسية، وللثانية افتراضاتها المسبقة المثالية. والمثالية في عبارة «وهكذا دواليك» «إلى ما لا نهاية» التي تتم الحصول عليه بالبناء هو افتراض مسبق إذا ما أهمل طرفه الذاتي، الجدل هو قلب أحدهما في الآخر، وينقلب القانون التحليلي للتناقض في الذاتية، ويمكن اعتبار هذا القلب كمرور إلى الإشكال الذاتي لمنطق الحقيقة، وحدت نفس الشيء في الافتراضات المثالية المسبقة المتضمنة في منطوقات التناقض والثالث المرفوع، وتنقلب قوانينها إلى القوانين الذاتية للبداهة، ويوجد نفس الشيء بالنسبة للافتراضات المسبقة للحقيقة في ذاتها والخطأ في ذاته، وتوجد بداهتهما في قلبهما داخل الذاتية.
20
إذن يستبعد المنهج الظاهرياتي كل النظريات المتعارضة من أجل شق طريق إلى النظرية الجديدة، ويتم تجاوز التعارض بين الواقعية والمثالية بالظاهريات، فإذا كانت الأولى خاطئة تماما فإن الثانية خاطئة نسبيا، ومع ذلك تظل الظاهريات من جانب المثالية، ويظهر منهج التطهير هذا في النظر إلى الماضي، إلى الردود المثالية. هذه الردود حقيقية، ولكن معناها خفي بل ومنقوص.
21
وهكذا يظهر الجدل الظاهرياتي في منهجه النقدي، وتتحول الميتافيزيقا وعلم النفس العام إلى أقنوم. الأولى تنسب إليه وجودا واقعيا خارج الفكر، والثاني يعزو له أيضا وجودا واقعيا في الفكر، وكلا الاسمية والنفسانية استدلالان خاطئان. الأول يرد العام إلى اللغة، والثاني يرده إلى الفكر كمضمون نفسي.
22
وينتهي النقد الترنسندنتالي إلى نظرية في البداهة، تضل النظريات الحالية في البداهة بسبب الافتراض المسبق للحقيقة المطلقة والنظرية القطعية (الدوجماطيقية) للبداهة، وتعتبرها النظرية الترنسندنتالية للبداهة كتأثير قصدي؛ بداهة التجربة الخارجية، وبداهة التجربة الداخلية، وبداهة المادة الزمانية الحالة.
23
غرض النقد ربط الظاهريات بالتاريخ؛ فقد تم نقد النظريات السابقة عن طريق التمييز بين مفهومين متشابهين وقع بينهما الخلط حتى الآن، وذلك مثل نقد التمييز بين الإدراك الداخلي والإدراك الخارجي.
24
عاشرا: التمييز كحركة إصلاح1
للظاهريات رسالة إصلاحية، غاية منهجها سد أوجه النقص في المناهج الحالية، وبوجه خاص مناهج علم النفس،
2
كما أنها تنعى الحالة المتأخرة التي ظل فيها المنطق،
3
بل إنه حتى في فهمها للتاريخ تعطي الظاهريات لعلماء النفس المناهضين للتجريبية أغراضا إصلاحية.
4
ويظهر لفظ «إصلاح» دائما إما لإعادة تأويل النظريات الفلسفية في التاريخ أو للتعبير عن المساهمة الجديدة للظاهريات فيها، في علم النفس هناك إصلاح وإصلاحيون.
5
تدخل الظاهريات في التاريخ باعتبارها حركة إصلاحية؛ فهي في صراع ضد أوثان النزعة الطبيعية، «البحوث المنطقية» مؤلف نضالي.
6
ولمؤسس الظاهريات أيضا أعداؤه؛
7
إذ إنه يناهض النزعة النفسانية في مبادئها ونتائجها.
8
ويظهر الإصلاح في استعمال ألفاظ مثل: الصراع، النضال، النفي، الاعتراض، الاستبعاد، المقاومة، الجدل، الحجاج، النقاش، التحفظ، المراجعة الدائمة للظاهريات لنفسها بنفسها من أجل الحفاظ على صحتها.
وتظهر رسالة النضال في النوع الحجاجي للفقرات، ويذكر بالنوع الحجاجي القديم، وعلى هذا رفضت نتائج التجريبية،
9
ورفض تحول الرياضيات الخالصة إلى فرع من علم النفس.
10
لكل سؤال هناك تقريبا حجج وإجابات،
11
هناك تفنيد لكل حجة للخصم، وتفنيد لحجة مستمدة من الفكر الهندسي في نظرية الانتباه ،
12
وهناك تفنيد للشك في أعلى مستواه.
13
وحروف النفي كثيرة مثل: «لا»، «ليس»، «أبدا»، «مطلقا»، «ولا واحد» ... إلخ. تبين أن الظاهريات «فلسفة اللا» ألا كما يقول باشلار؛ إذ يعبر الحدس عن نفسه بالنفي كما هو الحال عند برجسون، هذا هو الحال في العلوم التجريبية الدقيقة، ولكن ليس في المنطق؛
14
فالإجابة على أي عملية تمثل بين شيئين متميزين هي بالضرورة نافية،
15
ويستعمل باستمرار لفظ «استبعد» للتعبير عن هذه القوة للنفي؛ إذ تستبعد الحقيقة كل إمكانية أخرى، كذلك يستبعد أن تكون القوانين المنطقية قوانين الأنشطة أو منتجات نفسية،
16
كما تظهر فلسفة «اللا» في الاعتراضات ضد التأويلات النفسية للمبدأ المنطقي،
17
كما تبدو أيضا في الرفض المطلق دون أي تردد للتوازي النفسي الفيزيقي.
18
وإن نفي المثال وإزاحته في النزعة النفسانية يتعادل مع نفي الواقع، فقط ينقص النفي الأول التمييز، في حين أن الثاني نتيجة للتمييز.
والظاهراتية حركة احتجاج، توجه اعتراضات ضد كل أشكال الاسمية، مثل: غياب تحديد وصفي للأهداف ... إلخ. وتقوم الاعتراضات على منهج التمييز؛ التمييز بين عموم الوظيفة النفسية والعموم كصورة للدلالة القائمة على معنى متميز عن العلاقة بين العام والامتداد، كما وجهت اعتراضات ضد نظرية الانتباه كقوة على التعميم قائمة على التمييز الذي يمنع من إنتاج الواقع للمثال، وهكذا فإن الانتباه الخاص للحظة معينة لا ينفي فرديته، هناك فرق بين توجيه الانتباه إلى لحظة معتمدة على الموضوع المدرك حدسيا وتوجيه الانتباه إلى الانتباه المقابل ب «النوع».
19
وهناك اعتراضات أخرى موجهة ضد نظرية «التمييز العقلي» في تأويلها الجذري.
20
وإذا كانت التعبيرات علامات دالة، فكل لفظ في التعبير لا يكون علامة يكون مستبعدا بهذا المعنى،
21
وكل تصور مقترح يفحص أولا ثم يرفض لو اتضح أنه غير صحيح.
22
تعرف الظاهريات جيدا قوة الاعتراض، وتوجهها إلى نفسها قبل أن يوجهها غيرها إليها، مثل: وصف التمثل كمادة معزولة أو نسبة تمثلات جزئية للكلمات التي تفهم على نحو متماثل.
23
وتدخل الظاهريات في المناقشات الخاصة بتعريف المنطق وبالمضمون الأساسي لنظرياته، كما تدخل في المناقشات الخاصة بتأويل الصور النحوية الخاصة للتعبير عن الأفعال غير المموضعة،
24
وفي المناقشات تذهب أبعد من معارك الكلمات.
25
كذلك ينتقل التحليل الظاهرياتي من حجة إلى أخرى، تترك الحجة الضعيفة، وتستبقي القوية، وتستخدمها على نحو مثالي، وإمكانية التعبير عن كل الأفعال ليست حجة دامغة كي تصبح أفعالا دالة،
26
وتتحقق من صدق حجج أخرى لصالح افتراض تمثلات المقولات الخاصة،
27
وتعرض الحجج المؤيدة والمعارضة، ويتم التحقق من صدقها ثم يعطي الحل.
28
وتتحفظ الظاهريات على بعض التصورات المشابهة، وتقوم بذلك بالنسبة لافتراض أن الأفعال تكون نوعا من المعطيات الحية التي يمكن تأسيسها على نحو وصفي، وتتأسس كل هذه التحفظات على التمييز بين الفعل واللافعل فيما يتعلق بوحدة جنس المعطيات الحية القصدية، بين العواطف القصدية والعواطف غير القصدية، بين الإحساسات العاطفية والأفعال العاطفية، بين المضمون الوصفي والمضمون القصدي ... إلخ، حتى مفهوم المضمون القصدي بمعنى الموضوع القصدي الخاص بالظاهريات.
29
ويظهر الإصلاح أيضا في جهد المراجعة؛ إذ تعيد الظاهريات تأويل المبادئ من أجل استبعاد التأويلات الخاطئة للنزعة الطبيعية،
30
كما تمت أيضا مراجعة التأويلات النفسية لمبادئ المنطق،
31
و«العود إلى» كحركة ظاهراتية أساسية ليست إلا نتيجة لهذا الجهد للمراجعة؛
32
فقد أعيد تأويل مبدأ التناقض من أجل تفنيد التأويل النفساني؛ فهو لا يقدم قانونا بل قضية تجريبية غامضة تماما، ولا تتم البرهنة عليها علميا، وينتهي منهج التمييز إلى نفي التجريبية، وإثبات البداهة، والاعتماد على البرهان، وأعيد تأويل التأويلات النفسية لقضايا القياس كي يسترد المنطق مثاليته.
33
ولكل تحليل تأويلات عديدة طبقا لمستوى فهمه، ولنظرية «التمييز العقلي» تأويل معتدل، وتأويل جذري.
34
ولدى الظاهريات إحساس حاد بالجدة،
35
هي تقريبا انقلاب ينبه على سوء التأويلات من المصطلحات المشابهة، وتحدد مصطلحاتها الخاصة،
36
وتسير عليها،
37
لها رسالة، وهو تصحيح الحقيقة في كل مرة تقع في الخلط.
وفي الظاهريات وعي حاد بتحول الفلسفة التجريبية إلى نظرية عقلية،
38
وتبين ألفاظ الحركة هذه الرسالة للتغير، تحتاج الدعوى الطبيعية إلى تغير جذري بالإخراج من دائرة الانتباه، وبالوضع بين قوسين، وبالرد.
39
وتبين بعض الألفاظ الأخرى حركة أكثر عنفا وأكثر جذرية، مثل: «انحراف» من أجل التعبير عن «قلب النظرة»، الظاهريات إذن جهد للتصحيح، وإعادة تركيب مستويات الوجود، وتعبر عن نفسها بالابتعاد عن النزعة الطبيعية والعود إلى الأصلي.
40 «الوضع خارج الدائرة» له في نفس الوقت سمة تغير العلامة التي تغير القيمة، وبواسطتها، تنتظم المعرفة التي تحولت إلى قيمة بالعودة إلى الظاهريات.
41
ولا يمكن الشك في الدور الحضاري للظاهريات، ويبين بوضوح تكرار الألفاظ القديمة والجديدة قبل ذلك وحتى الآن وعي الظاهريات الحاد بدورها في العصر الحاضر، بل إنه وفي داخل التحليل البنيوي الخالص لفكرة ما، تدخل الرؤية التاريخية التراجعية إلى الوراء لبيان الحقيقة في تطورها، هناك أسباب تاريخية ساهمت في إخفاء مشكلة وحدة مبحث القضايا الصوري والرياضيات الصورية،
42
والملاحظات التاريخية النقدية حول تطور الفلسفة الترنسندنتالية خاصة حول الإشكال الترنسندنتالي للمنطق الصوري خير دليل على ذلك.
43
الإشارة إلى عصر النهضة إشارة صورية، في حين يعلن عن الإصلاح بتقدير كبير، ووصفت الفلسفة المدرسية كعصر انحطاط فيما يتعلق بالمنطق. والتاريخ كله حاضر داخل التحليل الظاهرياتي ، وقد أسقط في التاريخ الخلط والنقص وعدم الاكتمال والنقصان بعد ملاحظة كل ذلك في الفكر أولا.
44
فالأزمة أزمة روحية، في الوعي، قبل أن تتجلى في مظاهرها في رؤية العالم وفي العلوم.
حادي عشر: طرق الإصلاح1
تم الإصلاح بحركتين؛ الأولى حركة تمهيدية تظهر الحالة الراهنة للأحكام المسبقة بحيث لا يتم البدء إلا ببداية جذرية تؤدي إلى المبادئ الأساسية، والثانية حركة إيجابية يجد فيها الشعور وحدته بفضل التعميم والتوسيع والرفع والاستبطان.
والواقع، تقف الظاهريات في مواجهة أي حكم أو افتراض مسبق، وللمقطع
Vor ، ويعني «السابق»، معنيان؛ الأول معنى صحيح، ويعني ما يسبق، مثل: «السابق على الحمل» المنطقي، «السابق على العلم» ... إلخ. والثاني خاطئ، ويعني «المسبق» في الحكم المسبق أو «الافتراض المسبق». الأول بحث عن الأصلي في حين أن الثاني دنيوي خالص؛ لذلك تم البحث عن الأحكام المسبقة النفسانية لتطهير المنطق من سيطرتها عليه،
2
وتم فحصها واحدا تلو الآخر من أجل الوصول إلى الفكر الخالص، وأصبح غياب الافتراضات المسبقة مبدأ في البحوث المتعلقة بنظرية المعرفة.
3
والهدف من التمييز بين العلم «الدوجماطيقي» والعلم الفلسفي تطهير العلم من أحكامه المسبقة القديمة، والاتجاه الفلسفي وحده الذي يتبنى بداية جذرية هو القادر على البحث.
4
والادعاءات من نفس نوع الأحكام والافتراضات المسبقة؛ فاعتبار قوانين الفكر كقوانين طبيعية تنتج الفكر العقلي بفضل أثرها المعزول مجرد ادعاء،
5
والثنائية تشابه،
6
فلا تستبعد فقط الافتراضات المسبقة النفسانية في المنطق، بل أيضا الافتراضات المسبقة المثالية.
7
وإن رفض كل أشكال الحكم المسبق يبرز بوضوح البداية الجذرية التي تقف مرة ثانية في مواجهة الأحكام والافتراضات المسبقة، المنهج الظاهرياتي منهج البداية الجذرية، وهو سابق على كل منهج بالنسبة للمادة التي يتعامل معها، ويقوم على «قلب النظرة» كي يتخلص مرة أخرى من كل شوائب الاتجاه المادي.
8
البداية الجذرية بداية مطلقة، وهي وحدها القادرة الوصول إلى مبدأ المبادئ،
9
وهي ضرورية للفلسفة،
10
وهي شرط العلم الجديد، وبصرف النظر عن التراث الفلسفي تنبثق الظاهريات كعلم جديد، وهي تبحث أسس العلم على وجه العموم.
11
وبالنسبة للمعرفة الترنسندنتالية تبرز بوضوح فكرة الأساس.
12
هناك أفعال مؤسسة، وأفعال مؤسسة. الأولى قريبة من المادة السلبية، في حين أن الثانية تقرب من الفعل المموضع؛ ومن ثم فإن ممثلي الحدوس المؤسسة ليست مرتبطة مباشرة بنواة ممثلي الصورة التركيبية.
13
والبحث عن المبدأ هو في نفس الوقت بحث عن الأساس، ومفهوم الأساس والنظريات المتعلقة به هما أساس وحدة الأجزاء في الكل، بل يوجد في التأسيس تمييز بين التأسيس المتبادل والتأسيس الأحادي الجانب أو بين التأسيس المتوسط والتأسيس المباشر، ويستطيع مفهوم التأسيس تحديد مفاهيم خصبة أخرى وبدقة للكل والأجزاء وأنواعها الرئيسية.
14
الظاهريات إذن بحث في المبدأ من أجل الدخول في الجدل حول المنطق، وتظهر ضرورة أخذ مسائل المبدأ في الاعتبار،
15
توجد المبادئ في المعايير، والمعايير في النظرية، وبعد استبعاد المنطق كعلم عملي وإثباته كعلم معياري، تتأسس كل العلوم المعيارية في العلم العملي بعد إثباته كعلم معياري، وتتأسس كل العلوم المعيارية في العلوم النظرية، وقد تم تفنيد المنطق النفسي من أسسه، كما استبعد مبدأ اقتصاد الفكر لأنه ليس معيارا،
16
ولكل تأسيس بنيات ثابتة، ويكون قبليا وأساسا للعلوم الأخرى.
17
ويكون البحث عن المبدأ أيضا في نقد العلوم المناقضة؛ فقد تم نقد النظرية التجريبية في التجريد في مبدئها العام وفي نتائجها وفي أفكارها الرئيسية.
18
ولا تبحث الظاهريات فقط المبادئ، ولكنها أيضا تتنبأ بنتائج المبادئ الخاطئة؛ لذلك تم رصد النتائج التجريبية للنزعة النفسانية، واحدة تلو الأخرى.
19
وطرق الإصلاح بالمعنى الدقيق هي التعميم، والتوسيع، والرفع، والاستبطان أو العودة إلى الداخل.
20
يظهر التعميم في عبارات مثل: «على وجه العموم.» هناك معطى حي قصدي، ولكن هناك أيضا معطى حيا على وجه العموم،
21
وتزدوج العمومية مع الضرورة كما هو الحال عند كانط.
22
والهدف من درجات العمومية الوصول إلى المشاكل الأكثر عمومية؛
23
لذلك تم تشعيب مشكلة المنطق الصوري من أجل ضم مبحث القيم ونظرية العمل لاحتوائهما معا داخل نفس المشكلة العامة، ويدخل العام في الصوري، وترجع مشاكل العقل الخالص إلى الأنطولوجيا الصورية، في حين ترجع مشاكل أنطولوجيا المناطق أيضا إلى العقل النظري، ومنطقة «الشيء» هو مجرد خيط قائد ترنسندنتالي يؤدي إلى الأنطولوجيا الصورية، ويدافع عن «العام» بشدة كوحدة مثالية للنوع ضد النظرية الحديثة للتجريد، كما تم الدفاع عن الموضوعات «العامة» والشعور «بوجه عام» كوحدات مستقلة لمكوناتها الواقعية. صحيح أن الشعور يمتلك قوة على التجريد، ولكنها ليست الانتباه ولا «التمثل المحضر» ولا التمييز العقلي، هناك تمييز بين تصورات مختلفة للتجريد والمجرد. ومهمة منهج التمييز دائما هو التحقق والفحص والقرار،
24
وتتقدم الموضوعات «العامة» والموضوعات الفردية للشعور في أفعال مختلفة أساسا، تبرز الأفعال الفردية النوع دون الوجود؛ لذلك يمكن تجنب الحديث عن الموضوعات «العامة»، وبرزت الوحدة المثالية للنوع عن طريق التمييز بين التماثل والتشابه؛ الأولى تماثل صحيح، والثانية غير صحيح؛ فتماثل الموضوع المثالي مع نفسه مختلف عن التشابه بين المكونات الواقعية، الميل نحو «العام» إذن ضد كل رد الوحدة المثالية إلى الكثرة المتناثرة، والخلط بين الشرح والإنارة، بين التحليل الموضوعي والتحليل الظاهرياتي هو المسئول عن هذا الرد.
25
والتوسيع نوع من التعميم، تريد الظاهريات توسيع ميدان نشاط علم النفس؛
26
ولهذا التوسيع نفس هدف الرفع، وهو تطهير الظاهرة النفسية من شوائبها المادية، الرؤية التي يحملها العالم الطبيعي رؤية ضيقة، وتأتي الظاهريات لتوسيعها،
27
وإطار معطيات التجربة إطار ضيق، وتبحث الظاهريات كيفية الخروج منه إلى رحاب أوسع،
28
وقد سمح مفهوم الفعل بعد توسيعه إلى التمييز بين عملية الفعل وشظايا الفعل،
29
وللمنطق التقليدي حدود ضيقة للغاية جمد فيها،
30
كما تم تحليل اتساع مفهوم عدم التناقض وتضييقه في المنطق الصوري.
31
ومد المعنى يشبه توسيعه وتعميمه، كما يضم المعنى الصحيح للفظ «انتباه» كل ميدان الفكر وليس الحدس وحده.
32
والخلط والتضييق يسيران معا؛ فالخلط دائما رؤية ضيقة، وتحديد المنطق كتقنية رؤية ضيقة،
33
وتصور العلاقة في علم النفس تصور محدود.
34
والرفع إحدى وسائل الإصلاح الأكثر نجاحا، وهدف الظاهريات هو رفع عن طريق التأمل إلى مستوى الوعي العلمي صفاته الخاصة وخصائص الاتجاه الطبيعي،
35
يرفع علم النفس إلى مستوى أعلى، ويبحث عن أعلى درجة من العقلانية.
36
ويظهر الرفع في الانتقال إلى العام والصوري من أجل إعادة بناء علوم الطبيعة.
وتبين أيضا ألفاظ «الأقصى» و «الأسمى» و«الأعلى» ذروة الرفع،
37
وأحيانا يتم التعبير عن الرفع ببعض المقاطع الأمامية، مثل: «ما فوق»، «ما بعد»، «ما يتجاوز» ... إلخ؛ فالقوانين الواضحة قطعيا هي القوانين التي تتجاوز المعطيات التجريبية،
38
كما يتم التعبير عنه بألفاظ «ما يتعالى» «الأرفع»، «ما يفارق».
39
كما يشير تحول الواقع إلى مثال إلى الرفع، المفارقة داخل الحلول،
40
وتشير ألفاظ أخرى مثل: «فوق»، «تحت»، «أعلى» «أسفل»؛ إلى نفس الشيء.
41
وتتوجه عملية تحويل الواقع إلى مثال ضد الواقعة الخام، والواقعة الخام على نقيض الدلالة،
42
وكل دعوى لإثبات المثال هي حركة رفع، وضد النزعة النفسانية أصبح ميدان الفحص المنطقي الخالص مثاليا،
43
وتحولت كل القضايا المنطقية في النزعة النفسانية إلى قضايا حول الشروط المثالية لبداهة الحكم،
44
وترفض الظاهريات باعتبارها بحثا عن المثالي والكمال أنصاف الحلول، وبعد تأسيس المنطق كمنطق صوري وموضوعي لم تتم بعد صياغة نظرية في العلم أو حتى نظرية صورية؛ إذ من الضروري أن تغوص هذه الأنطولوجيا الصورية مرة أخرى داخل الذاتية. وعلى طريق التكونات المنطقية المتجهة نحو الذاتية تمنع النزعة النفسانية المثالية المنطقية، وتظهر مثالية التكوينات المنطقية في صورة غير واقعية خوفا من الوقوع من جديد في النزعة النفسانية، وتتأكد مثالية جميع أنواع الموضوعية ضد التأويل الخاطئ الوضعي من أجل إثبات نشاط أصيل وخلاق كعطاء للتكوينات المنطقية ذاتها، وبالرغم من أن النزعة النفسانية مثالية إلا أنها لا تفهم الوظيفة المنطقية الضرورية للنقد الترنسندنتالي للمعرفة.
45
الظاهريات جهد للخلاص من المادية.
من «الوقائع» لا تنتج إلا «وقائع»،
46
ويترك الشيء لحالة الشيء؛ أي الشيء كطرف للشعور؛ لذلك يوجد معنيان للواقع، واقع مادي وموضوعي في علوم الطبيعة، وواقع مثالي وموضوعي في علوم «الروح» وهي العلوم الإنسانية. تشير الأولى إلى موضوعية المادة، والثانية إلى موضوعية الروح؛ ولهذا السبب أيضا تم التمييز بين منطوق مضمون الشعور والمنطوق المتعلق بالواقع، ويحقق التمييز بين الموضوع الحال والموضوع الواقعي نفس المطلب.
47
ولتطبيق الشروط المثالية لإمكانية علم حول المعرفة الحالية، النزعة النفسانية، من الضروري القلب من المادي إلى المعياري أو التحول من الواقعي إلى المثالي. وبتطبيق نفس الشروط على مضمون المعرفة على العموم، من الضروري أيضا التحول من المضمون إلى الصورة.
48
وأخيرا تم رفع المنطق الصوري إلى أعلى مستوى: نظرية الأنساق الاستنباطية وما يرتبط بها مثل نظرية الكثرة؛ ومن ثم يلحق الإبداع الحديث في العلوم الصورية بالنزعة الصورية القديمة وتطورها في آن واحد، ويمكن رد كل العلوم «القانونية»، أي تلك التي تعتمد على القانون، إلى الصورية من أجل اللحاق بنظرية الكثرة.
49
ويسمح التمييز بالرفع؛ فدلالة التعبير عن إدراك لا تكون في الإدراك ذاته بل في أفعال خاصة للتعبير. الإدراك فعل يحدد الدلالة دون احتوائها.
50
ويقوم التمييز على المثال، بل هناك تمييز مثالي بين الدلالة الممكنة (الواقعية) والمستحيلة (الخيالية)، والموافقة والمخالفة أيضا علاقات مثالية، ومثال التطابق هو التماثل بين البداهة والحقيقة كمثال للملأ الأخير، ويوضع المثال منذ البداية كمصادرة، وهذه حالة مثالية اللغة بعد إخراج المشاكل العالقة بها.
51
وقد أقيم هذا التمييز لإبراز أعلى درجة من المثالية؛ هي علامة الكمال، كما حدث تمييز بين التصوير الحدسي والملء من أجل الوصول إلى مثال الكمال وهو الملء، وحدث نفس الشيء في التمييز بين التمثل المتوسط وتمثل التمثل، والثاني أكمل من الأول، ثم يظهر التمييز كتطهير، ولا يترك الأقل كما لا يأخذ الأكثر كمالا، بل يطهر الأقل كمالا بحيث يصبح الأكثر كمالا. هناك تصورات حدسية صحيحة في كل ملء؛ لأن هناك تصويرا حدسيا بالمعنى الدقيق وآخر بالمعنى الغامض، ليس امتلاء التمثل إلا كماله، هو مثال الكمال في مواجهة المضمون الحدسي، ويوجد الكمال أيضا كأساس للتمييز بين الحدوس الكاملة والحدوس الناقصة من أجل الحصول على تصوير حدسي مطابق وكامل موضوعيا؛ أي من أجل إدراك الماهية، وغرض التمييز بين البداهة بالمعنى المجمل والبداهة بالمعنى المبين وتفصيل درجات مستويات البداهة هو الوصول إلى البداهة المثالية، وهي الحقيقة.
52
وتقوم التمييزات على مخطط سابق، وهي ثنائية المثال والواقع، وتفترض تعبيرات، مثل «ناقص» «مختصر على نحو غير طبيعي» «معيب»، وجود تعبيرات مثالية مثل: كامل، مختصر على نحو طبيعي، تام.
53
والاتجاه إلى الداخل هو عود كل علم إلى أصله في الشعور،
54
ومثال الفلسفة الشاملة هو عملية تحول دائم إلى الداخل،
55
ويتم التعبير عن هذا الاتجاه في البحث عن المعطى «السابق» و«السابق» على العمل المنطقي، و«السابق» على التأمل بمقطع أمامي «قبل»؛ ومن ثم يتم تحليل الوضع الطبيعي قبل أي نظرية،
56
والبحث عن المصدر يدل على التحول إلى الداخل، ومصدر الإشارة في الارتباط،
57
ويظهر التحول إلى الداخل في التجربة الباطنية وفي الإدراك الباطني وفي الإحساس بالإنسان،
58
ويتم العثور على كل تماثل خارجي بين التجارب مع جماعة داخلية وجذرية،
59
ويتكون قلب النظرة بدقة من تحويل النظرة من الخارج إلى الداخل.
60
وبعد رد المضمون المادي يتصور المثال كحال في الشعور، ويكون التعارض بين المفارقة والحلول أول نواة للظاهريات،
61
ويكون التمييز بين الإدراك الداخلي والإدراك المفارق تيار المعطى الحي، ويتم الانتقال من الصوري إلى المادي ومن المادي إلى الترنسندنتالي بالعودة إلى الأصلي الذي يعبر عنه بالمقطع الأمامي
Ur ، ويعني أصلا أو مصدرا أو أول، وتتحدد الظاهريات في مواجهة كل نقيضة من نقائض العقل،
62
والعودة إلى المعطى الحي السابق هي حل لأزمة العلوم الأوروبية خاصة علم النفس.
63
ثاني عشر: الإصلاح في التاريخ1
ويظهر لفظ «منهج» أيضا في إطار التاريخ في «تأمل في منهج رؤيتنا للتاريخ»، ويتكون المنهج أساسا في العثور على غائية التاريخ؛ أي تتبع مسار تطور الحقيقة في التاريخ واكتماله في الظاهريات. ولكل تأويل ظاهراتي للتاريخ سمة منهجية؛ بمعنى أنه يبين بطريقة ارتقائية مع تتابع النظريات المنهج الظاهرياتي كبنية في طريقها إلى الاكتمال،
2
ويطبق منهج الإيضاح خاصة في التاريخ لمعرفة الباعث الغامض للعلم؛ وبالتالي رفضه بالرغم من نجاحه، ويمكن لمثال الفلسفة الشاملة حل الأزمة إذا ما تحولت إلى عملية تحول إلى الداخل، صحيح أن تاريخ الفلسفة الحديثة هو صراع من أجل الإنسان، ولكن تمت عرقلة هذا الصراع بعدة عقبات خاصة بالتعارض بين الموضوعية الفيزيقية والذاتية الترنسندنتالية؛
3
ومن ثم فإن رسالة الظاهريات كمنهج للإيضاح توضيح بواعث العلوم الحديثة التي ما زالت غامضة،
4
لمنهج الإيضاح إذن رسالة حضارية، وقد تم تطبيقه باقتدار في المنطق والفلسفة.
في المنطق تبدو الظاهريات كمنهج للكشف؛ إذ تبحث عن الأسباب التي أدت إلى الخلط أو النسيان، تبحث عن الأسباب التاريخية التي أدت إلى تغطية مشكلة وحدة مبحث القضايا الصوري والرياضيات الصورية: نقص الصور الفارغة الخالصة، ونقص معرفة مثالية تكوينات القضايا، وغياب البحث الصحيح حول الأصلي، وغياب النفاذ إلى المعنى الحقيقي.
5
ومقاييس الكشف هي نفس المقاييس الموضوعة سلفا: الكمال، والصورة الخالصة، والتكوين المثالي ... إلخ. وقد استطاعت الظاهريات كمنهج للكشف في التاريخ في البحث عن العلاقة بين مبحث القضايا الصوري والأنطولوجيا الصورية أن تضع يدها على عدم كفاية التوضيحات التي تمت حتى الآن.
6
ومنهج التوضيح هو أساسا منهج للتمييز، ويتحول التمييز من مستوى الحقيقة الفلسفية إلى إعادة البناء على مستوى التاريخ؛ فالوحدة الداخلية للمنطق التقليدي ومشكلة وضعه بالنسبة إلى الظاهريات الصورية إعادة بناء للعلاقة بين المنطق التقليدي، ويتمتع باستقلاله التصوري، كتحليل لمبحث القضايا، وظهور التحليل الموسع أي الرياضيات الشاملة، يستخدم المنهج الموسع إذن لإعادة بناء الحقائق في التاريخ، وتوحد العلمان طبقا للرؤية التوحيدية للظاهريات، وتفهم الرياضيات الصورية كأنطولوجيا صورية، وإذا كان هناك فعل موضوعي بين مبحث القضايا الصوري والأنطولوجيا الصورية، فهناك أيضا تعاون «في الأشياء»، وبنظرة إلى الوراء تم تأويل كل تكون منطقي كمرحلة نحو الظاهريات المكتملة.
7
ولما كانت الظاهريات أساسا فلسفة بنية نقل المنطق الصوري كله طبقا لمفهوم المستوى، فعرض المنطق الصوري على ثلاثة مستويات: المبحث الصوري الخالص، منطق النتيجة، منطق الحقيقة. الأول منطق اللغة، والثاني المنطق الاستنباطي، والثالث المنطق الاستقرائي. والمستويات الثلاثة أولا وقبل كل شيء مستويات للبداهة؛ فالبداهة إما الوضوح أو التمييز؛ ومن ثم تتميز البداهة عن الوضوح، في التمييز. والتمييز غير الخلط في أنماط إصدار الحكم. في الوضوح، هناك تمييز بين وضوح ملكية الأشياء نفسها ووضوح الاستباق. وباختصار الحكم المتميز هو موضوع التحليل الخالص.
8
ولما كانت الظاهريات بحثا عن الصورة الخالصة فإنها تجد بداهتها في الاتحاد بنفس الحكم عندما يكون مختلطا، وعندما يكون متميزا بتوسيع مفهوم الحكم، وفي هذه الحالة لا يهتم الحكم بأنواع الخلط المختلفة بين التمييز والوضوح، ويظل تجريدا واعيا بهذه الاختلافات، ويصرح بوضوح بأن «منهج» التمييز بين المستويات أساس «بحوث منطقية».
9
ويصاحب التمييز على المستوى التاريخي نقل من مستوى إلى آخر؛ فقد تم اكتشاف فكرة الصورة الخالصة للحكم بمنهج النقل، وهو مبحث صور القضايا الخالص للأحكام باعتباره أول علم منطقي صوري، وقد تم التوصل إلى فكرة مبحث الصور الخالص لأن الصورة الخالصة هي الهدف الأقصى من التمييز، وقد تم تصور عمومية صورة الحكم والصور الأساسية لتنوعاته طبقا للتمييز بين التغير والثبات، واعتبر مفهوم «العملية» كمفهوم دال على البحث عن الصور، فالسكوني هو الغاية النهائية للحركي، والتحليل الخالص هو أساس المنطق الصوري للحقيقة وعدم التناقض كشرط حقيقة ممكنة، ولكل المبادئ المنطقية مثيلاتها في التحليل الخالص.
10
وفهم التمييز كانتقال، والانتقال كنقل، والمنطق الصوري باعتباره تحليلا لمبحث صور القضايا الخالص هو في الحقيقة تأويل جديد للمنطق الصوري، نقلا له كمبحث لتحليل القضايا؛ فالنقل من مستوى إلى آخر تاريخي وفلسفي في آن واحد، هدف النقل التاريخي هو إعادة فهم المنطق القديم من خلال المنطق الجديد، وغرض النقل الفلسفي تحديد مكانة المنطق القديم في الحقيقة المكتملة حاليا.
ويظهر الانتقال بالمعنى الدقيق وكأنه مسار تاريخي، وهي حالة المسار الذي يبدأ من التصور التقليدي إلى الفكرة التامة للمنطق الصوري، وهو مسار ذو ثلاث مراحل: مبحث تحليل القضايا، الرياضيات الصورية، ونظرية الكثرة.
11
ثم يسمح هذا المسار لإنارة ظاهراتية للطبع المزدوج للمنطق كمبحث صوري للقضايا وكأنطولوجيا صورية. الأول توجه نحو الحكم، والثاني نحو الموضوعات. الأول نظرية في المعنى، والثاني نظرية في الحقيقة.
12
وينتهي المسار نفسه، نتيجة للتمييز، إلى تمييز آخر في صورة إنارة، ويستخدم منهج الإيضاح باعتباره أساسا منهجا للتمييز، كنقطة بداية للإنارة، وهي أيضا منهج للتمييز؛ ومن ثم يتشابه الإيضاح والإنارة.
وفي تحويل منهج التمييز إلى منهج للانتقال أو المرور يصبح التمييز توجها مزدوج الاتجاه؛ فالمنطق له واجهتان: اتجاه ذاتي نحو الذات، واتجاه موضوعي نحو الموضوع. والعلم نفسه له واجهتان: علم ذاتي متجه نحو الذاتية، وعلم موضوعي أو وضعي متجه نحو الموضوعية . وكانت التوجهات بالنسبة لموضوع المنطق التقليدي أيضا مزدوجة؛ فقد اتجه المنطق في البداية نحو تكوينات الفكر النظرية الموضوعية، ثم توجه بعد ذلك إلى حقيقة التأمل الذاتي حول البداهة العقلية.
13
ويظهر تطبيق المنهج الظاهرياتي في التاريخ في تناول التراث المنطقي كحقيقة بنيوية؛ ففي «التجربة والحكم» هناك تاريخ أقل من «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي»، أخذ كل المنطق الصوري كعمل مكتمل، كان دور الظاهريات هو قلب الأحكام الحملية المنطقية إلى بداهة الموضوعات، وتصر على القيام بهذه العودة إلى المعرفة المباشرة والحدسية للموضوعات، وقد تم القيام بهذا الدور من قبل في تحول المنطق الصوري إلى منطق موضوعي، له توجه نحو الموضوعات وتوجه آخر نحو الأحكام.
14
ويظل منهج التمييز ضمنيا، وللمنطق الرياضي واجهتان: تكوين الأحكام، والشروط الذاتية. ويظهر التصور التراتبي في درجات البداهة، وتسمح إعادة تأويل المنطق الصوري برؤية أين توجد الظاهريات. والتوجه نحو المعنى، وهو منطق النتيجة، له طابع ظاهرياتي.
ويتخلل نقل المنطق إلى التاريخ من حين إلى آخر ملاحظات تاريخية منطقية حول تطور الفلسفة الترنسندنتالية خاصة حول المشكلة الترنسندنتالية للمنطق الصوري، ويتقاطع التحليل الرأسي مع التحليل الأفقي.
15
وتعود ألفاظ: السقوط، الانحلال، القلب، العكس، الدوران، الفصل، الاستبدال، المناقضة، الخلط، للإشارة إلى ظاهرة السقوط. وحيث تبدأ الظاهريات تبدو ظاهرة السقوط مثل الحالة الراهنة للأشياء التي تحاول الظاهريات إصلاحها.
وفيما يتعلق بالفلسفة، يظهر لفظ «المنهج» في التحقق في التاريخ باعتباره منهجية عامة، تقوم الظاهريات بنقل نقدي للمنهج الديكارتي، ويحول تقليده النقدي إلى منهج للتقويس الترنسندنتالي، يصبح هو «الرد الظاهرياتي»، إلى الأنا الترنسندنتالي؛ ومن ثم يصبح المنهج الظاهرياتي تحليلا وصفيا لرؤية علاقات التضايف بين الظاهرة (المتمثل) وأنماط التمثل.
16
ويظهر منهج الانتقال بعد تطبيقه في التجربة الذاتية المشتركة كعود إلى الأنا أفكر وفي التوجه إلى الأنا الترنسندنتالي،
17
وقد أسقط أيضا البحث عن الأساس في التاريخ من أجل أن يتم استعادته في الكوجيتو.
18
ومن ناحية أخرى، فإن توضيح المشاكل الترنسندنتالية ووظيفة علم النفس المتعلقة بها تضع سؤال: كيف يمكن حل الأزمة؟ ويكون الحل في منهج الانتقال باعتباره سبيل الفلسفة الترنسندنتالية الظاهراتية، مرة من عودتها إلى عالم الحياة المعطى سلفا، ومرة أخرى ابتداء من علم النفس.
19
ولا يتم الانتقال فقط في الشعور الفردي بل أيضا في التاريخ، طبقا للغائية ينتقل علم النفس إلى الظاهريات.
20
ويساعد علم النفس الوصفي على الإنارة.
21
مهمته التمييز بين المستويات المختلفة في الحياة النفسية، ويبين لفظ «تفكيك» أو «تحليل» بوضوح هذه المهمة في الإيضاح القائمة على عمليات التمييز، وهكذا يأخذ المنهج الظاهرياتي صورة جديدة وعمقا جديدا في التاريخ خاصة في «الكوجيتو» فيما يتعلق بالرد النفسي الترنسندنتالي.
22
ويوجد التمييز بمصادفة سعيدة بين التمثل والحياة، بين التحليل النظري والخبرة الحية، بين الصوري والترنسندنتالي، ليس فقط في الذاتية بل أيضا في الذاتية المشتركة أي في التاريخ، وإذا كان جهد عصر النهضة في التمثل فإن جهد الظاهريات في «الحياة»، وتختلف اللحظتان في نمط الفكر ويتشابهان في العود إلى الكوجيتو.
23
وتعود معظم الأفكار الموجهة في المنهج الظاهرياتي في التاريخ، وتظهر البداية الجذرية في عصر النهضة التي أسست استقلال الإنسانية الأوروبية،
24
والعودة إلى الأصل عودة إلى الفلسفة الترنسندنتالية، والبحث عن الأصل في تحليل التاريخ، ومصدر الفكرة الجديدة للعلم الشامل في تحول الرياضيات.
25
ويمثل موقف العلوم الطبيعية وموقف العلوم الإنسانية «علوم الروح» نفس الثنائية على مستوى التاريخ، من الأول تخرج النزعة الطبيعية، والثنائية، وعلم النفس السيكوفيزيقي.
26
وتعود النظريتان اللتان استطاعت الظاهريات أن تكشف طريقها من خلالهما؛ أي الصورية من جانب والنزعة النفسانية من جانب آخر، إلى الظهور في التاريخ في خطين: الخط الصاعد في العقلانية، والخط النازل في التجريبية.
ويكشف علم الواقع وتحويله إلى مثال، أي تحويل الطبيعة إلى رياضة، عن نفس الثنائية بين المثال والواقع التي تم تحليلها بإسهاب في الذاتية،
27
ويتجلى تحول الطبيعة إلى رياضة في الهندسة الخالصة وفي الطبيعة كعالم رياضي، وتعرض قضية تحول المضمون إلى رياضة وباعثها التصور الرياضي للطبيعة. صحيح كانت هناك إمكانية التحقق من صحة البراهين، ولكن فراغ المعنى في تحول علم الطبيعة إلى تحول تقني كان يمثل مشكلة كبرى، وهو نسيان العالم كأساس لمعنى علم الطبيعة ، هناك إذن سوء فهم قاتل بسبب غموض معنى الرياضيات.
ويظهر شكل الخلط بين المستويين المتميزين في الذاتية كانفراج على شكل مفتوح في الذاتية المشتركة؛ فالواقع أن منهج الإيضاح تم تطبيقه في مصادر الوعي الأوروبية، ووجد في العصور الحديثة في التعارض بين الموضوعية الفيزيقية والذاتية الترنسندنتالية،
28
ويرجع مصدر هذه الثنائية إلى النموذج السائد في علوم الطبيعة، هذه الثنائية ذاتها هي سبب عدم فهم مشكلة العقل الذي يظهر في تخصيص العلم وفي علم النفس الطبيعي، ويتلخص التاريخ «الروحي» للعصور الحديثة في هذه الدائرة المفرغة بين الموضوعية والترنسندنتالية، ويتحول الخلط من مستوى بنية الذاتية إلى قلب على مستوى تطور الذاتية المشتركة؛ أي الحضارة، ويعبر القلب في العصر الحاضر عن نفسه في صورة أزمة أو خطر أو عائق، وقد ظهرت مثل هذه الألفاظ المنبهة من قبل في الذاتية.
29
وتصبح كل ظاهرة منفصلة عن أساسها ظاهرة سطحية،
30
وقد ذكرت ألفاظ أخرى أخف مثل: عدم، فهم، نقص، رد ... إلخ من قبل، تعبر عن هذه الدرجات من الخلط في الذاتية، وأول صعوبة في النزعة الطبيعية الفيزيقية هو عدم فهم الذاتية الفاعلة أو النشطة.
31
ولفظ «سوء فهم» و«نقص» من بين الألفاظ التي تشير إلى الأزمة؛ فالنقص النظري في العلوم الخاصة يرجع إلى نقص في وضوح عقلانيتها الداخلية،
32
فهي عقلانية لا ترضي، ومن أجل إكمال هذا النقص يضاف شيء آخر؛ فالميتافيزيقا ونظرية المعرفة مكملان نظريان للعلوم الخاصة، وفي معظم الحالات تنقصنا هذه المعرفة للحقيقة.
33
وإن رد فكرة العلم إلى مجرد علم الوقائع أيضا موقف بسيط يعبر عن الخلط في التاريخ، والألفاظ المجازية مثل: «لغز» «شلل» ... إلخ أيضا ألفاظ أقل شدة؛ فمثلا تمثل العلوم اللغز الكبير للعصور الحديثة، كما أن المنطق التقليدي منطق قاتل،
34
لقد أدت النزعة النفسانية إلى الشلل، وأوقعت في الخطأ كل الفلسفة الحديثة.
35
وتظهر الدلالة الحضارية للخلط عندما يعبر عنها بألفاظ: «قلب» «انقلاب». ويقع التحول من المثال إلى الواقع، ويصبح تناقضا ومناقضة.
36
وهو أيضا «سقوط»، ويعلن عن ظاهرة «السقوط» بوضوح؛ فالنزعة النفسية سقوط من جديد للمنطق .
37
وتشير كل هذه الألفاظ، خاصة لفظ «أزمة»، إلى ظاهرة السقوط والانهيار، ويعبر عن ظاهرة السقوط مجازيا باعتباره مرضا.
38
وفي مواجهة ظاهرة الانهيار هذه تكون رسالة الظاهريات الرفع،
39
ويعبر عن هذه الرسالة دائما بألفاظ: «يرفع» «يعلو»، التي تم تحليلها سابقا في «طرق الإصلاح». أتت الظاهريات كمنهج للتقويم للقيام بانقلاب جذري في الوعي الأوروبي، التقويم في المؤلفات المنهجية، والقلب في المؤلفات الحضارية. ويتحقق التقويم بعودة الفلسفة إلى ذاتها أو بتكوين الحقيقة أو في الصيرورة التاريخية، وضد هذا القلب يستطيع شق هذا الطريق وإزاحة المعوقات عنه.
40
وكل هذه الألفاظ الدالة: القسمة، الفوضى، الفصل، الوحدة المفقودة، الانهيار، الإفقار، الفقد، الخلط، الضياع، القلب، تقتضي نهضة ثانية وبعثا وعودا إلى الذات. وأحيانا يذكر القلب أثناء التقويم والتصحيح «كل حقيقة خالصة تكشف عن دلالات تنقلب إلى حقيقة خالصة تكشف عن موضوعات».
41
و«الرد» الظاهرياتي نوع من التقويم، فله معنيان: رد الماهية إلى الواقعة كما هو الحال في النزعة الطبيعية، و«رد» الواقعة لإدراك ماهيتها كما هو الحال في الظاهريات. الرد الأول إحدى علامات أزمة الوعي الأوروبي، في حين أن الرد الظاهرياتي هو طريق للإصلاح لتحرير الروح من سيطرة المادة.
أزمة العلوم الأوروبية تاريخ رائع للفلسفة بعد تدوينها من الحاضر إلى الماضي، هو تطبيق أفقي للمنهج الظاهراتي، وظهرت غائية التاريخ بمنهج تراجعي يرى في كل مرحلة قادمة خطوة إلى الأمام بالنسبة للمرحلة السابقة، ثم يتوقف التطبيق الأفقي كي يتحول إلى عرض رأسي للمنهج الظاهرياتي نفسه في خطوطه العريضة: الرد والتكوين.
42
ومع ذلك يسيطر التطبيق الأفقي على مجموع المؤلفات، وقد نتج عن تطبيق المنهج الظاهرياتي في التاريخ شيئان: أزمة العلوم الأوروبية وحلها في الفلسفة الترنسندنتالية. ويتعلق الأمر بتاريخ الفلسفة كما يدل على ذلك العنوان الفرعي «مقدمة في الفلسفة الظاهراتية»؛ فالفلسفة وعي بالإنسانية، الفلسفة هي «المنقذ» الوحيد للإنسانية الأوروبية وهي في أزمة،
43
وأزمة العلوم تعبير عن أزمة حياة جذرية في الإنسانية الأوروبية.
44
وتتلخص أساسا في رد فكرة العلم فقط إلى علم الوقائع. أزمة العلم إذن هو فقدان دلالته كحياة. وأشكال الأزمة هي: الانقلاب، التغير، القلب، التضييق، المناقضة، السقوط، الانهيار، الأفول، الزلزال، المعارضة، الانحراف، الإلغاء، بخس القيمة، الإخلاس، الانكسار، التناقض. ومثل ذلك من الألفاظ التي تشير إلى الحالة الراهنة للحقائق في الوعي الأوروبي.
45
الفصل الثالث: تأويل الظاهريات1
انتهت المحاولة السابقة «تكوين المنهج الظاهرياتي» إلى استمراره في التاريخ كحركة إصلاح، والتاريخ هنا هو تاريخ الحضارة الأوروبية؛ وبالتالي فإن التأويل الحضاري للظاهريات هو تقريبا التأويل الأشمل والأدق؛ فالعمل الحضاري بالمعنى الدقيق هو «أزمة العلوم الأوروبية والظاهريات الترنسندنتالية».
2
وطبقا لتأويل الظاهريات يفسر العمل الأخير العمل السابق، وبتعبير آخر تفهم الظاهريات من النهاية إلى البداية، ومن ثم يمكن أن يفسر العمل الأخير وهو «الأزمة» على نحو تراجعي كل أعمال الظاهريات، صحيح أن الظاهريات مرت بفترات، وتكونت عبر تطور طويل،
3
وبالرغم من ظهور هذه الفترات في الأعمال، فإنه يمكن تصنيفها في ثلاث مراحل أساسية: التكوين، والاكتمال، والتطبيق. فالواقع أن الظاهريات تكونت عبر مراحل رياضية ومنطقية ونفسية وفلسفية، واكتملت كمنهج في «الأفكار»، ثم أصبحت ظاهريات تطبيقية في المنطق والفلسفة والحضارة، وأيضا في الأخلاق والدين.
4
والفترة أوسع من المرحلة ، كل فترة تشمل عدة مراحل، وعدة مراحل تدخل في فترة واحدة، صحيح أن الفترة الأخيرة للظاهريات تفسر فتراتها الأولى،
5
ولكنها أكثر من تطور موضوع أولي أو تفصيل فكرة معروفة سلفا، توجد الفترة الأخيرة للظاهريات في «المخطوطات» حيث تحل البحوث الأخلاقية والدينية والحضارية محل البحوث الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية للفترات الأولى؛ ففي الإعداد للظاهريات الترنسندنتالية ينتهي تعدد المصادر إلى وحدة القصد، وكثرة المراجع تتحول إلى وحدة الهدف.
6
ومن أجل متابعة تطور الظاهريات المنهج الارتقائي الحركي ضروري، من أجل تجنب انتقاء لحظة سابقة في التطور وإيقافها مع أنها لا تكون إلا حقيقة جزئية.
7
أولا: البيئة الحضارية1
ارتباط الظاهريات ببيئتها الحضارية ارتباط واضح. ويعترف بذلك بوضوح في نقاط التواصل بينها وبين كبار المفكرين في الماضي،
2
ويبدو الفواصل أيضا فيما يتعلق بالتمييزات السابقة بين الواقع والمثال، وهي التي تمت أثناء تكوين المنهج الظاهرياتي كمنهج للإيضاح، ومن ناحية أخرى تؤكد النسبية التي تجعل المنطق يعتمد على شروطه المادية عن حق دور البيئة الحضارية في تكوين التصور، لكل أمة منطقها.
3
وبالرغم من نفي الحقيقة المستقلة، تشير النسبية إلى ظاهرة أوروبية خالصة، وهي اعتماد الفكر على بيئته التي خرج منها.
استطاعت الظاهريات تصور علاقة الاعتماد بين النظريات الفلسفية المختلفة، ويتحكم في هذه العلاقة قانون الفعل ورد الفعل؛ فأصل النزعة الاسمية المعاصرة هو رد الفعل المتطرف ضد نظرية الأفكار العامة،
4
تعتمد النظريات على بعضها البعض،
5
وكانت نتائج نقد الأفكار المجردة عدم معرفة آراء الظاهريات الأساسية، وهكذا يصحح الخطأ الخطأ، والتاريخ ثورات متتالية؛ «الثورة الديكارتية»، «الثورة الكوبرنيقية» ... إلخ.
6
وهناك تعبيرات كثيرة تشير بوضوح إلى ارتباط الحضارة الأوروبية ببيئتها الخاصة مثل: «كل يوم»، «منذ أيامنا»، «حتى هذا اليوم»، «اليوم»، «حتى الآن». تدل هذه التعبيرات على جهد المراجعة التي تحاول كل نظرية القيام به للنظريات السابقة، وتدل تعبيرات أخرى مثل: «في العقد الأخير»، «في العشر سنوات الأخيرة»، «في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، «في منتصف القرن» ... إلخ على ارتباط الحضارة بروح عصرها، كما أن تعبيرات أخرى مثل: «عصرنا»، «زماننا»، تبرهن مرة أخرى على ارتباط كل مرحلة في الحضارة بروح عصرها، وتبرز تعبيرات أخرى مثل: «العصور الحديثة»، «العلم الحديث»، «علم النفس الحديث»، «النظريات الحديثة»، مدى الحضور الطاغي للروح المعاصرة تماما، مثل تعبيرات: «الفكر المعاصر»، «علم النفس المعاصر»، «علم النفس الحالي» ... إلخ. وباستمرار يعارض الجديد القديم، والصور الحديثة للمنطق ضد أشكال القياس القديمة، والنظريات الحديثة في العالم ضد النظريات القديمة، هذا الوضع للحضارة في الزمان هو الذي قسمها إلى العصر القديم والعصور الحديثة، وقد خلق مسار التاريخ ألفاظا أخرى مثل: «المدرسية»، «الإصلاح»، «النهضة». لذلك تدل تعبيرات مثل: «الإنسانية القديمة»، «الإنسانية الحديثة»، على الفترات والمراحل المختلفة للوعي الأوروبي.
7
وترتبط الحضارة الأوروبية ارتباطا وثيقا بمناطقها العديدة، مثل: «المثالية الألمانية»، «التجريبية الإنجليزية».
8
تبدأ الفلسفة الألمانية بالفلسفة النقدية،
9
وفي المثالية الألمانية تكتمل الظاهريات. وتظهر صفة «ألماني» في الشرح الأخير في «الأفكار»، مثل: «القارئ الألماني»، «الفلسفة الألمانية» ... إلخ.
10
ولا تطلق صفات المناطق الحضارية المختلفة على تيارات الفكر، مثل: «المثالية الألمانية»، «التجريبية الإنجليزية» ... إلخ فقط، بل أيضا على المفكرين أنفسهم، مثل: «المناطقة الألمان»، «المناطقة الإنجليز» ... إلخ.
11
وبالإضافة إلى الشعوب الأوروبية تظهر الشعوب الأخرى، مثل: «اليونان»، «الرومان»، «المصريون»، «الفرس»، «البابليون»، «الصينيون»، «الهنود»؛ والتي لم تصل إلى درجة العلم النظري الشامل، الحضارة اليونانية الأوروبية وحدها هي ممثلة الإنسانية، وينتمي الباقي إلى الحضارة الشرقية، وغايتها العمل الشامل؛
12
فالحضارة الأوروبية نتاج البيئة الأوروبية، والبيئة الأوروبية هي المصدر الواقعي للوعي الأوروبي نفسه، وإذا كانت الظاهريات نظرية في الذاتية، فالذاتية هنا ذاتية محددة؛ الذاتية الأوروبية، والذاتية المشتركة أيضا ذاتية محددة، هي الذاتية الأوروبية.
ثانيا: التأويل الحضاري1
وتساعد الظروف الحضارية التي نشأت فيها الظاهريات على صياغة التأويل الحضاري.
2
ودون الوقوع في منهج التأثير والتأثر، تعطي البيئة الحضارية من قبل صورة لهذا المخطط لبناء الوعي الأوروبي وتطوره، وتتميز هذه البيئة بسيادة الصورية الرياضية، ميراث العصور الحديثة؛ فقد كانت الرياضيات نموذج اليقين، وبسيادة مادية علم الطبيعة، وقد حشرت العلوم الإنسانية؛ علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق والدين، بين هذين الطرفين؛ الصورية من ناحية والمادية من ناحية أخرى. وكانت سيادة المادية قوية للغاية بحيث أنتجت السيكوفيزيقا في علم النفس، والوضعية في علم الاجتماع. وقد استطاع اكتشاف «الأنا الخالص» إعطاء العلوم الإنسانية الاستقلال لموضوعاتها ومناهجها، والتأويل الحضاري للظاهريات من بين التأويلات الأكثر نجاحا، ومع ذلك يرجع أكثر الباحثين الظاهريات إلى المشاكل الفلسفية، مثل: الأنثروبولوجيا الفلسفية، الذاتية المشتركة الترنسندنتالية ... إلخ، دون الوصول إلى بنية الوعي الأوروبي وتطوره، والتي حاولت الظاهريات الوصول إليها، بل ولامستها بالفعل، ليست أزمة العلوم الأوروبية مشكلة أنثروبولوجيا فلسفية يمكن حلها نظريا، بل حقيقة واحدة في الحالة الراهنة في الوعي الأوروبي.
3
تشير الأزمة إلى الفصل أو الخلط بين مستويين متميزين، فصل الصوري عن المادي في العلوم الصورية، المنطقية والرياضية، لحساب الصوري، وفي العلوم الطبيعية أو الفيزيقية لحساب المادي، وفي العلوم الإنسانية وقع خلط مستمر بين مستويين متميزين، ثم أتت الظاهريات لتصحيح الوضع بالتمييزات الأساسية وبالبحث عن الأصلي الذي يسبق كل عنصر للتنظير.
إن أزمة الحضارة الأوروبية ليست خطابة حول بؤس الروح الأوروبي أو عظمته، بل هي أزمة وعي فردي وحضاري استطاعت أن تعطي مخططا لبنية الحضارة وتطورها.
4
صحيح أن الوعي الأوروبي له بداية وله نهاية، ولكن ذلك يثبت بقانون البنية والتطور الذي لامسته المؤلفات الحضارية في الظاهريات،
5
كما شعرت الظاهريات التطبيقية بالعلاقة بين الفلسفة وأوروبا، وتم تحليل «نسيان العالم في الفكر الأوروبي» وتعويضه بأنطولوجيا جذرية،
6
ويوجد أيضا في الظاهريات التطبيقية الإحالات إلى إمكانية التأويل الحضاري، وقد اعتبر تقدم التجربة رسالة الفلسفة،
7
والواقع أن تجربة الوعي الأوروبي تتحدد وتتقدم بالجهد الشاق في البحث عن الحقيقة.
وقد لاحظت الدراسات الثانوية التأويل الحضاري للظاهريات دون إظهار مخطط داخل بنية الوعي الأوروبي وتطوره،
8
ويتلخص هذا المخطط في قانون ذات مراحل ثلاث للتطور ورؤية ذات ثلاثة مستويات للبنية، يبدأ الوعي الأوروبي في العصور الحديثة، ثم تلتها فلسفة الوجود في العصر الحاضر ضد الصورية والتجريد في فلسفة الروح، وتتلخص الرؤية الثلاثية في رؤية للروح يمثلها الدين، وفي رؤية للمادة تظهر باستمرار في العلم، وفي رؤية للوجود متحققة دائما في الفلسفة، هذا هو المخطط الضمني في المؤلفات الحضارية في الظاهريات.
9
ثالثا: التأويل الديني1
ويلمس التأويل الحضاري للظاهريات التأويل الديني؛
2
فالتأويل الحضاري ليس إلا مدخلا للتأويل النهائي للظاهريات، وهو التأويل الديني، والأخلاق ليست إلا تحولا إنسانيا للدين، وبالرغم من أن الإحالة إلى التأويل الديني في الظاهريات ليس شائعا، ومع ذلك هو تأويل حاسم؛ فالمشاكل الأخلاقية والدينية موجودة في المجتمع، ومشاكل الواقع الحادث، الميلاد، والموت، والمصير، والحياة القويمة، هي أيضا مشاكل الذاتية المشتركة كتجربة فريدة.
3
الدين نواة الحضارة؛ فقد «تحول الإيمان الديني في بداية فجر العصور الحديثة تدريجيا إلى اتفاق خارجي، إيمان جديد يكشف عن إنسانية عاقلة، الإيمان بفلسفة وبعلم مستقلين.»
4
هنا تشير الظاهريات إلى «التشكل الكاذب» في بداية العصور الحديثة بين الدين والفلسفة؛ فالذاتية الترنسندنتالية، مشروع النهضة، عود إلى الوحي. «الكوجيتو» في العصور الحديثة اكتشاف للإيمان المفقود داخل ميراث العصر الوسيط، والشعور الذي تم إبرازه في العصور الحديثة ليس إلا تصحيح انحراف منذ الإعلان عن «البشارة الطيبة» حتى القصور الحديثة، وقد تم اكتشاف الذاتية الترنسندنتالية بالنشاط التأملي الإنساني والاكتشاف التلقائي لنفس الحقيقة المعطاة سلفا في الوحي، وإذا كانت الظاهريات عودا إلى الذات الخالص، وهو مشروع النهضة، فإن ذلك يعني أنه عود إلى الوحي الذي أعيد اكتشافه بالجهد الإنساني في العصور الحديثة، وإذا أخذت الظاهريات كمنهج للبحث في الظاهرة الدينية فإن ذلك لم يكن مصادفة؛ فالظاهريات التي اكتمل فيها مشروع النهضة هي الوحي نفسه الذي أعيد اكتشافه مرتين؛ الأولى في بدايات العصور الحديثة باكتشاف «الأنا أفكر» «الكوجيتو»، والثانية في العصر الحاضر باكتشاف مضمون الشعور «الأنا مفكر فيه»، واكتشاف الذاتية في العصور الحديثة هو في الواقع عود إلى الإنجيل في صورة عقلية آتية من العقلانية القديمة، وأعيد التعبير عن شمول الوحي كمضمون بشمول العقل كصورة لغوية. الوعي الأوروبي وريث الوعي اليهودي المسيحي، ومادية الوعي اليهودي والروماني أصل مادية الوعي الأوروبي. ترجع مادية الوعي اليهودي إلى العهد القديم، بينما ترجع مادية الوعي المسيحي إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية وإلى الوعي الأوروبي في أزمة العلوم الأوروبية، الدين كرؤية أسطورية عملية للعالم أدنى من العقلانية والهم النظري الخالص تصور يأتي من تاريخ الأديان، الظاهريات نفسها هي استمرار نقل الدين إلى المستوى الإنساني، وقد بدأ ذلك منذ النهضة، واكتمل في الظاهريات.
رابعا: التأويل الحضاري والديني في الدراسات الثانوية1
تبدو الدراسات الثانوية أحيانا نافعة للغاية عندما توغل في المخطوطات حيث يوجد باطن الظاهريات،
2
وفي الذاتية المشتركة تجد الظاهريات حدوسها الأخيرة، تقترب الظاهريات من التصوف في الجماعة الخلقية: الحب الخالص، إنكار الذات، العيش مع الآخرين، الحب الشامل للجار، والحب المطلق.
3
وأيضا تبين الدراسات الأخلاقية في المخطوطات نفس الشيء، الظاهريات في ساعاتها الأخيرة.
4
ودون العودة الجذرية إلى الموضوعات المدروسة سلفا، مثل: الذاتية المشتركة أو الأخلاق، بنية الوعي الأوروبي وتطوره، بدايته ونهايته، استحالة «رد» القيم الأخلاقية إلى المعادلات الرياضية؛ تقدم الدراسات الثانوية للمخطوطات نفعا كبيرا بتناولها ظاهريات الساعة الأخيرة.
تبدأ التأملات الفلسفية في الظاهريات، وتستطيع أن تساهم في تطوير المنهج الظاهرياتي عندما تسير إلى أبعد شوط وأقصى مدى، وتطبق النتائج في العلوم الإنسانية في أزمتها المنهجية وكما هو الحال في الدين؛ إذ تساعد التأملات حول بؤس الواقعة وعظمتها في تقدم الدراسات التاريخية في العلوم الدينية من أجل التخلص من شقاء الواقعة والوصول إلى عظمتها.
5
كان يمكن للملاحظات الثاقبة في الدراسات الثانوية أن تساعد في صياغة الظاهريات التطبيقية، خاصة ظاهريات الدين، وكثير من المشكلات النظرية المثارة في العروض ليست لها حلول نظرية، بل هي متطلبات عملية، سواء كانت مشاكل تاريخية أو معرفة أو عملية.
ومن ضمن الموضوعات الرئيسية في الدراسات الثانوية ما كان يمكنه المساهمة في تقدم العلوم الإنسانية، خاصة العلوم الدينية؛ فمشكلة مثالية الدلالة ضرورية للعلوم الدينية بالنسبة للوحي كموضوع مثالي، وقد فقد موضوع الوحي مثاليته واستقلاله ووجوده الذاتي حتى الآن في العلوم الدينية، وإذا استطاعت الظاهريات كما عرضتها الدراسات الثانوية تجاوز مستوى الظاهريات النظرية للوصول إلى ظاهريات تطبيقية تصبح نظرية مثالية الدلالة كمشكلة ميتافيزيقية مثالية الموضوع كمشكلة تأويلية في ظاهريات الدين.
6
خامسا: التأويل الحضاري والديني في الظاهريات التطبيقية1
ليست لبعض التأملات الفلسفية التي تعتمد على الظاهريات حلول إلا في ظاهريات تطبيقية خاصة في ظاهريات الدين، مشكلة التاريخ ليست مشكلة فلسفية، بل بعد للوعي الديني، ومصير كل حل نظري لمشاكل التاريخ هو الفشل؛ لأنها تتطلب حلولا تطبيقية. مثلا، التاريخ هو محل الظهور التدريجي للحقيقة، هو تاريخ النص، وليس تاريخ الحادثة، ليس موضوعا للمعرفة، بل محل استقبال المعرفة، ويصبح عالما عندما يكمل التاريخ دوره في إظهار الحقيقة؛ فالعالم هو ميدان عمل الشخص، تستطيع ظاهريات الدين وحدها بتقديم معطى الوحي أن تحل كل المشاكل الخاصة بالتاريخ.
2
ولما كان الدين أساس الظاهريات وكل الفلسفة الأوروبية فإنه لا يوجد على نحو مباشر باستعمال مصطلحات معينة، مثل: «الله»، «الدين»، «النبي» ... إلخ، بل من خلال التوجه العام للعلم بالإضافة إلى تحليل نفسي لمؤسسه؛ فالعمل لا ينفصل عن صاحبه. إن إنكار الدين كأساس أولي لتحولاته في بدايات العصور الحديثة هو فصل بين ميدانين؛ الدين المتراجع من ناحية، والفلسفة والعلم المتقدمين من ناحية أخرى. فلسفة الحدس لا تمنع من فلسفة الإلهام، والمنطق لا يعمي الوجود، ويتضمنهما الدين معا.
3
وفي الظاهريات التطبيقية، تظهر التأملات الدينية المباشرة أو المتحولة غير المباشرة؛ فالتأملات حول التناهي في تفسير الوجود أو حول المفارقات تحيل إلى المطلق، وأحيانا إلى الله مباشرة،
4
والتأملات الأنطولوجية تتجه دائما نحو شعر السماء والأرض، والنور والظلام، وصور شعرية أخرى تكشف عن خلفية دينية، وإذا ما ذهبت هذه التأملات أبعد من ذلك لكانت قد انتهت إلى التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات.
وفي الظاهريات التطبيقية يظهر «الله» كبديل عن العالم في تأملات حول تاريخ الأنطولوجيا القديم،
5
ومع ذلك لم يلاحظ التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات، والذي على أساسه تمت كتابة تاريخ الأنطولوجيا القديم.
وفي «من علم الجمال إلى الميتافيزيقا» لم تغب «كلمة الله»؛
6
ففي العمل الفني يتجلى «ظل الله»، ولو دفعت هذه التأملات أبعد من ذلك لأمكن العثور على التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات.
ولم يغب الدين كذلك عن «الكلية واللانهائي»، وليس من الخطأ القول بأن «محاولة في التخارج» هو تعقيل رائع للإيمان. «الواحدة» و«الوجود» و«اللانهائي» و«المفارق» أو حتى «الرغبة» هي أنماط مختلفة لتعقيل الإيمان الديني.
7
وقد اعتبر الوحي بحق كتجربة طبيعية تجد فيها المثالية المطلقة تأويلها العميق.
8
وتبدو أهمية المرحلة الأخيرة في الظاهريات في الظاهريات التطبيقية، واختلطت بظاهريات التلاميذ؛
9
إذ تكشف المرحلة الأخيرة في الظاهريات عن المقاصد الباطنية للعلم كله: الرؤية الأخلاقية الدينية للعالم. ولم تتجاوز ظاهريات العلم التأملات الأنطولوجية.
وهكذا فإن الدين المقنع، وهو في الحقيقة اللاهوت العقائدي المقنع مرتين، يهدد دائما صحة تطبيق المنهج الظاهرياتي. ونظرا لأن المنهج الظاهرياتي بنظرته الحلولية وببدايته الجذرية وباستقلاله يمكن أن يزيل النظرة الخارجية والافتراضات المسبقة والنزعة التاريخية للاهوت العقائدي، الذي يدعي تمثيل الدين، يتقدم الدين للدفاع عن نفسه منذ البداية. أولا: عادت الظاهريات إلى أصولها المدرسية، مثل: القصدية والماهيات ... إلخ، لإثبات أنها ما هي إلا دين؛ أي لاهوت عقائدي، والحقيقة أن هذه المفاهيم المدرسية لم تكن على الإطلاق حقائق مستقلة، بل كانت تستخدم لتبرير العقائد التاريخية، في حين أنها في الظاهريات مفاهيم مستقلة، ولا تهدف إلا إلى اكتشاف الحقيقة ذاتها. ثانيا، اضطرت الظاهريات إلى الاختفاء باختفاء الحلول من أجل فتح الطريق للمفارقة، وباسم الأنطولوجيا أو الظاهريات الأنطولوجية كتعديل على المنهج الظاهرياتي، اختفى هذا المنهج كلية.
10
وإذا كان المنهج الظاهرياتي قد طبق حرفيا أو معنويا، كان يمكن منع الوقوع في السر عن طريق منهج الإيضاح أو نظرية البداهة،
11
كان يمكن إعطاء معنى جديد للحقيقة كمشاركة دون الوقوع في أي تبرير عقائدي.
12
وقد أخذت الواقعية الفظة من اللاهوت العقائدي في الفلسفة المدرسية كمعيار للحقيقة لكل تأمل يعتمد على الظاهريات، مع أنه مجرد تبرير جديد للافتراضات العقائدية المسبقة.
13
سادسا: الظاهريات كاتجاه ديني1
يوجد الاتجاه الديني في الظاهريات نفسها بثلاث طرق: مباشرة، وغير مباشرة، وضمنية. (1) الاتجاه الديني المباشر
2
ويظهر الاتجاه الديني المباشر في التأملات حول «الله»، وهو الموضوع الديني الرئيسي؛ وضعه خارج الدائرة، واستبعاده من الحقيقة العقلية الموضوعية، ورفض إثبات المفارقة أو الحلول، وعلاقته بالشعور والعالم، وحضوره داخل الحضارة.
ليس «الله» مشكلة؛ إذ إنه لا يتدخل في العالم على الإطلاق، وقد تم تناول موضوع الله في فقرة «إنارة خطأ أساسي» فيما يتعلق بنظرية الإدراك، والتصور المتناقض هو الذي يجعل الإدراك عاجزا عن الوصول إلى الشيء ذاته؛ لأن الله وحده «موضوع المعرفة الكاملة على الإطلاق؛ وبالتالي كل إدراك مطابق ممكن، هو القادر بطبيعة الحال على إدراك الشيء في ذاته الذي يند عنا، نحن الموجودات الفانية.»
3
هذا التصور متناقض؛ لأنه ينكر الفرق الأساسي بين المفارقة والحلول، ثم يعزو إلى «الله» الشيء المكاني الحال في تيار شعوره. «الله» إذن افتراض «لا فائدة منه» في تكوين العالم، كما يرفض تصور أن الله يرى الشيء في ذاته في حين أن أعضاءنا الحسية ليست إلا نظارات مشوهة، وأزيحت جانبا القضية الأخرى أن الشيء مكان مملوء، له صفات مطلقة لا يمكن معرفتها، ولا يمكن قبول التصور الثالث الذي يقوم على وحدة الذهن بين «الله» و«النحن»، حيث يتحد الشيء في ذاته مع الظاهرة؛ لأنه يفترض أن الله «مصاب » بعمى الألوان في الوقت ذاته الذي يرى فيه الصفات الحقيقية، ويعزى له بدن مع أعضاء حسية. ولحل هذه المشكلة من الضروري التمييز بين الصفات الثانية والصفات الأولى، دون إيقاع الأولى في وضعية علوم الطبيعة أو النسبية الخالصة، التجربة المشتركة وحدها هي التي تضمن الموضوعية وإدراكها.
4
لا يتدخل «الله» إذن في الإدراك، والعالم مستقل عنه، والآخر يحل محله في التجربة المشتركة وفي الجماعة الإنسانية، ليس لله أي وظيفة في واقع العالم الخارجي، «بل إن أي فيزيقا إلهية لا تستطيع أن تقلب إلى حدوس بسيطة تحديدات الواقع الذي يحققه الفكر عن طريق المقولات، ولا تستطيع القدرة الإلهية أن تجعل إنسانا يعزف الكمان بوظائف بيضاوية.»
5
بل إن «الله» لا يستطيع أن يضع قانونا قائما على التوازي السيكوفيزيقي.
6
الطبيعة عالم لا يعتمد على شيء أو شخص أو حتى على الله،
7
وهل تستطيع الألوهية الحصول على العقل اللانهائي لماهية الأحمر غير ما يظهر؟
ولا يتدخل «الله في النظام العقلي»،
8
ولا يغير الله شيئا فيه، «لا يستطيع أي إله أن يغير على الإطلاق أو يستطيع أن يمنع أن يكون 1 + 2 = 3، أو منع أي حقيقة ماهية من الوجود.»
9 «الحقيقة واحدة مع ذاتها سواء أدركها البشر أو موجودات تفوق البشر، مثل الملائكة أو الإلهية، أو حكموا عليها.»
10
ولا يهم إذا كان اللفظ مفردا ليدل على «الله» الواحد أو جمعا ليدل على «آلهة» الأوليمب، فهناك حقيقة مستقلة عنهما معا، وتؤخذ قضية «الله عادل» كنموذج لقضية منطقية متميزة عن مضمونها النفسي، وهي مثل قضية 2 × 2 = 4. وهكذا تصبح الصفات الإلهية مثل المعادلات الرياضية،
11 «الله» نفسه «يخضع» لضرورة مطلقة، «وبالتالي يخضع الله لهذه الضرورة المطلقة والبديهية، وكذلك أيضا لبداهة أن 1 + 2 = 2 + 1. وهو أيضا لا يستطيع أن يستمد من شعوره أو من مضمونه إلا معرفة تأملية.»
12
فالله نفسه ظاهراتي! والرياضيات علم مطلق من خلالها يكون الحوار مع الله ممكنا.
13
وإذا كان الإنسان صورة الله، فالله هو الإنسان البعيد إلى ما لا نهاية، وقد حول الفيلسوف الله إلى مثال من خلال تحويله العالم إلى رياضة،
14
ولدى الله رياضيات شاملة للعالم، ويعلم قوانين كل العوالم الممكنة، القوانين المضبوطة للموجودات المكانية الزمانية، وللموجودات بوجه عام، وقوانين العلية، ونظرية الكثرة ممتدة إلى ميدان الروح؛
15
ومن ثم تكشف مشكلة «الله» بوضوح مشكلة العقل المطلق كمصدر غائي لكل عقل ولكل معنى في العالم. وليست مسائل الخلود والحرية بأقل أهمية من مشكلة العقل،
16 «الله» هو العقل في التاريخ، وفي التاريخ هناك علم عام ينتظم كل الحوادث،
17
وفي العملية العامة للتحول إلى مثال التي لها أصلها في الفلسفة، يتحول «الله» إلى منطق، ويصبح حاملا للعقل المطلق.
18
وقد تم تناول «الله» تحت عنوان «وضع مفارقة الله خارج الدائرة»؛
19
إذ ينطبق «الرد» على المفارقة في كل اتجاهاتها، نحو العالم ونحو الله، المفارقة خيال. ووجود الله ووجود الإنسان كموجودات مفارقة من صنع الخيال، ولا يرضي هذا الحكم الميتافيزيقي اللاهوتي،
20
وتستعمل المفارقة الإلهية من أجل تأكيد وجود الجواهر المتناهية والمكانية،
21
بل إن الله نفسه لا يستطيع إدراك الشيء في المكان؛ وبالتالي المفارق للشعور. «لا يمكن إدراك أي شيء في المكان ليس فقط البشر بل أيضا الله، باعتباره ممثلا مثاليا للمعرفة المطلقة، إلا من خلال المظاهر التي يبدو من خلالها أو يعطي من منظور متغير، طبقا لأنماط متعددة بالرغم من أنها محددة، وتبدو طبقا لتوجه متغير.»
22
وبعد وضع «الله» خارج الدائرة يثبت بوضوح كمطلق حال، «يكفينا أن هذا الموجود ليس مفارقا للعالم، بل ينكشف أيضا في الوعي المطلق.»
23
يتكون المطلق في الوعي الداخلي بالزمان؛ «فالمطلق الترنسندنتالي الذي تم الوصول إليه عن طريق عدة مرات من «الرد» ليس في الحقيقة الكلمة الأخيرة، بل هو بأحد المعاني شيء عميق وفريد على الإطلاق قائم بذاته، ويستمد وجوده الجذري من ذاته كمطلق حقيقي ونهائي.»
24
ليس «الله» مفارقا بالمعنى الدنيوي، ولا حالا بمعنى التجربة الحية، بل هو مطلق يتجلى في «الشعور المطلق». ونظرا لأن «الله» الدنيوي مستحيل بداهة، وكما أن حلول الله في الوعي المطلق لا يتصور بمعنى حلول أي موجود كمعطى حي، ففي تيار الشعور المطلق وفي المظاهر المختلفة للانهائية هناك طرق أخرى للإعلان عن المفارقات خارج تكوين واقع الأشياء كوحدات مظهرية مطابقة.
25
وفي فقرة طويلة أخرى «لقد استبعد «الله» من قبل من الأنساق الفيزيقية والعقلية للعالم، وتم تصوره كحلول خالص في الشعور، فإنه علاقة الشعور بالعالم، وليس واقعة يفرضها الله علي، ويحدد هذه العلاقة بطريقة حادثة، من الخارج، وهي أيضا ليست واقعة يفرضها سلفا عالم حادث وبشرعية علنية فيه، القبلي الذاتي هو ما يسبق وجود الله والعالم وكل موجود يفكر دون أي استثناء. الله بالنسبة لي هو تضايف مع الشعور، ولا يمكنني أن أحيد بوجهي عن ذلك خوفا من اتهامي بالتجديف، بل على العكس؛ من الضروري رؤية المشكلة.»
26
يتضمن هذا النص ثلاث قضايا؛ الأولى: الوجود في العالم علاقة مباشرة بين الشعور والعالم دون أي تدخل من نظرية في الخلق. الثانية: القبلي الذاتي يسبق أي وجود آخر حتى ولو كان وجود الله. والثالثة: الله تجربة معيشة واقعية بعد وضع وجوده الواقعي بين قوسين، يمكن التفكير فيه في معطى مباشر للشعور، وإدراك الوحدة التركيبية للأفعال المعطية للمعنى.
27
وفي نقد النسبية تؤدي نسبية الحقيقة إلى نسبية وجود العالم؛ أي إن الإنسان يأتي من العالم، والعالم يأتي من الإنسان. وبتعبير آخر، «الله يخلق الإنسان، والإنسان يخلق الله.»
28
فيوضع الله في تواز مع العالم، ويتصور على أنه مرادف للحقيقة المستقلة.
ويظهر الله على رأس الجماعة الإنسانية، هو عقلانية العالم الذي تجتمع فيه الذوات المموضعة بعد الموت في محبة خالصة تنتصر على الموت، الله إذن هو الضامن لخلود النفس، «الرغبة الشاملة المطلقة؛ أي الإرادة هي القدرة الإلهية، ولكن هذه القدرة تفترض مجموع التجارب المشتركة ليس كشيء يسبقها، وممكنة قبله. ولكن طبقة بنيوية بدونها لا تستطيع هذه الإرادة أن تصبح عيانية.» «ليس الله نفسه كل الجواهر المفردة، بل الكمال الأول الذي توجد فيه فكرة الغاية اللانهائية للتطور، هي غاية الإنسانية طبقا للعقل المطلق الذي ينظم ضرورة الوجود المونادي وينظمه طبقا لأمره الخاص.»
29
الله هو العالم المركزي لكل الجواهر المفردة، هو الواحد اللانهائي، هو الوجود المطلق الكامل، هو الحياة الكاملة في الشخص الإنساني، والكمال رؤية للرسالة، ومن ثم فالله ليس فعلا بل صيرورة دائمة، لا يمكن أن يوجد إلا في «عملية تتحقق فيها الألوهية ذاتها».
30
وهكذا يتم استرجاع الله في دين الوحي بعد أن فقد في الديانات التاريخية، إذن في الظاهر كل النصوص الظاهراتية الخاصة بميدان الدين خاصة الله تستبعد اللاهوت العقائدي، وتقترب من الحلول الصوفي، الله لا شأن له بالعالم، والدين لا دخل له في الحياة الإنسانية. والواقع هذا التصور لله هو تصور «الدوجماطيقية» التاريخية، الله كظاهر، الله المفارق، واقع خارجي أو فكر صوري. الله في الظاهريات حلول خالص، هو قصدية ذاتية لشعور مطلق، وقصدية في التجربة المشتركة في الوعي الأوروبي.
وترفض كل وظيفة لله كفكرة محددة أو كضامن للبداهة والموضوعية، والنقاش حول الله ليس نقاشا على المستوى اللاهوتي، «فكرة الله فكرة محددة ضرورية في المناقشات المعرفية أو كمؤشر لا غنى عنه عند بناء أفكار محددة معينة، حتى الملحد نفسه لا يستطيع الاستغناء عنه عندما يتفلسف.»
31 «وقليل للغاية من يتردد في أن يعزو إلى العقل اللانهائي حتى ولو كان فقط كفكرة محددة لنظرية المعرفة، هذه البداهة ، هذه البداهة المطلقة، وهو ليس أفضل على الإطلاق من تصوره قادرا على الإطلاق على تكوين معشر منظم أو تناقض نظري، إن لمعنى وجود الطبيعة صورة أساسية فرضها عليه بالضرورة الأسلوب الأساسي للتجربة الطبيعية، وأيضا حتى الإله المطلق لا يستطيع أن يخلق «إحساسا بالبداهة» يضمن الوجود الطبيعي على الإطلاق في تصور وبطريقة تعبير أفضل، لا يستطيع خلق تجربة حية كافية بذاتها، ومهما كانت متميزة عن تجربتنا الحسية تعطي موضوعها ذاته بطريقة قطعية ومطابقة.»
32
ويتضمن هذا النص أيضا ثلاث قضايا؛ الأولى: اعتماد الموجود الطبيعي على نظريته العقلية، وليس على أي خالق. الثانية: البداهة إحساس داخلي خالص دون أي ضمان من أي موجود لا نهائي. والثالثة: التجربة المعيشة الخالقة للموضوع والتي تكتفي بذاتها ليست مخلوقة على الإطلاق؛ فالواقع أن الله ضامن للبداهة العقلية؛ وبالتالي أصبح الوجود الإلهي ضرورة ميتافيزيقية،
33
وبالرغم من تدمير البداهة يشير الله بوضوح إلى استنباط العالم الموضوعي من العالم الذاتي، وإثبات الظاهرية الخالصة من الباطنية الخالصة.
34
الله مقياس البداهة، وضامن لصدق العلوم الرياضية والموضوعية، وتتحول البداهة إلى خلق. ليس الله فقط ضامنا للموضوعية بل هو خالق للعالم، البدن والنفس،
35
وكان اللجوء إلى الله كمصدر للوجود هو الوسيلة للحصول على حقيقة خارج الشك، والحصول على معرفة حالة.
36
ومعرفة الإنسان والسراب والسماء والملاك أو الله معرفة حالة، الله وحده يستطيع أن يهب الموضوعية للمعرفة الذاتية، وبالتالي لا تمثل فكرة الله أي صعوبة للذاتية الترنسندنتالية، الله مبدأ العقلانية، الله عقل مطلق، ولا يهم إذا كانت الذاتية إنسانية أم إلهية،
37
والبراهين على وجود الله في الذاتية الترنسندنتالية هي بقايا الفلسفة المدرسية، وهي مملوءة بالغموض والاشتباه،
38
وكان يمكن استخدامها لإثبات الكوجيتو الترنسندنتالي بعيدا عن النزعة النفسانية،
39
ولم يحدث ذلك، وضد نظرية الصدق الإلهي مصدر البداهة وضمان الموضوعية في المثالية ترفض الظاهريات هذه البداهة التي تقرب أو تبعد من العاطفة الصوفية.
40
وتنقد بوضوح الافتراض المسبق للحقيقة المطلقة كأساس لنظرية «دوجماطيقية» للبداهة، كما ترفض البرهان على وجود الله من أجل جعل تصور مفارقة التجربة والإيمان بالوجود أكثر قبولا،
41
ولا يتجاوز اللجوء إلى الصدق الإلهي في البرهان على وجود الله مستوى الشك أو النقد على أكثر تقدير،
42
وقد ألغى افتراض إله قادر أو شيطان ماكر خلقا النفس الإنسانية بحيث تكون دائما ضحية خداع بالنسبة للوجود الواقعي للأشياء لإثبات بداهة المعطى الأصلي.
43
ليست نظرية الصدق الإلهي إلا نموذج الخلط بين اللاهوت والفلسفة منذ العصر المدرسي حتى العصور الحديثة، ونظرية الواحد وهو الله، ومنه يصدر العالم تغري كأنطولوجيا ولكنها تنفر كلاهوت، والفلسفة المدرسية كلها في نفس الوضع.
44
كان التوفيق بين الاعتبارات العلية واللاهوتية أساس كل فلسفة الوجود الحديثة، الواحدية الميتافيزيقية وحدها هي التي استطاعت التخلص من هذا المطلب من الدين الوضعي واللاهوت، وتأسيس نظرية غير لاهوتية للوجود، نظرية في الله كجوهر مطلق. ومع ذلك، ما زال فيها مطلب أخلاقي مختلط بمطلب ديني، وتم استنباط نظام العالم من ماهية الله مما أدى إلى غياب الحرية والغائية الإلهية. وفي كل الأحوال نقص النسق ماهية منهجية.
45
وكان هدف نظرية «المونادولوجيا» توفيق الحقيقة الرياضية والعلمية مع الحقيقة الدينية واللاهوتية، ولم تكن بحثا نظريا خالصا منزها،
46
بل إنه حتى في المثالية النقدية جعل الدين واللاهوت الله خالقا للعالم، وكمبدأ أقصى يخرج منه العالم خاصة العالم الأخلاقي، وبوجه أخص الحرية. وتجد كل ملكات النفس اكتمالها في الله، وتتفق الحقيقة الوضعية والحقيقة اللاهوتية وكذلك وجود الله ووجود العالم، واللاهوت ليس هو الفلسفة، والعلم ليس العقيدة أو الإيمان،
47
وهنا تضيع الذاتية في الدين والأخلاق كما ضاعت من قبل في الكوجيتو، وتقع المثالية النقدية في التناقض فيما يتعلق بنظريتها في «العقل النموذجي».
48
الله وحده هو الذي يعرف كل شيء على نحو قبلي دونما حاجة إلى تجربة للشيء؛ لأنه مخلوق منه سلفا. ويحدد الله قوانين الأشياء ويعرفها جميعا على نحو تركيبي، وتقع هذه النظرية أيضا في الدوجماطيقية والحسية في آن واحد، لا يستطيع أن يعرف الله شيئا آخر سوى نظام العالم؛ فقد وجد العالم ولم يكن قد وجد من قبل، وقوانين الأشياء ثابتة بإرادة ما مهما كانت، وكذلك للقوانين الأخلاقية للحياة الأخلاقية الدينية استقلالها الكامل، وكل المقولات، والله أحدها، ليس لها إلا وجود مصطنع أو زائف.
وقد تعثرت الفلسفة الرومانسية أيضا لتدخل الدين واللاهوت والله في الفكر.
49
وقد تأسس علم نفس لاهوتي على فكرة «الله» في مواجهة علم النفس التجريبي، وأكملت علم النفس بالأخلاق، ومع ذلك ظلت البداهة لاهوتية، أدخلها الله في ذهن كل واحد منا.
50
ولم تكن مثالية تجريبية أخرى إلا لاهوتا، مهمته معارضة الإلحاد. وكانت «المونادولوجيا» لديه لاهوتا كذلك؛ لأن خالق هذا النظام الله، الله هو الذي خلق العلاقة بين الأفكار في نظرية التجريد.
51
وكان لعلم النفس التجريبي فضل التخلص من أفكار التمثلات الغامضة لله وللعالم، للبدن وللنفس ... إلخ.
52
ولم يكن بالإمكان أي تجربة مباشرة، بل إن الله ذاته موضوع علي.
53
وإذا اختلط اللاهوت بالفلسفة في العصور الحديثة فإن هذا يدل بوضوح على حضور الدين كشكل من أشكال الحضارة، وقد اختلط العلم في التاريخ بالدين. والاعتقاد الديني بالله أو بالحقيقة مفارقة ميتافيزيقية، ويبحث عن العالم في مصدره الأخير وفي معياره المطلق، الفلسفة أيضا علم كل موجود حتى ولو فصلت بين الموجودات المتناهية والموجود اللانهائي، والمطلق في العلم أو الفلسفة والمطلق في الدين موضوع للفلسفة للتوفيق بين الدين والفلسفة كما كان الحال في العصر الوسيط، وقد انتهى هذا الزمان إلى غير رجعة! فعدم الإيمان بالدين شرط تأسيس علم مستقل قائم بذاته، الاعتقاد جزء من رؤية العالم الشخصية لكل فرد،
54
يدخل الدين في تصور العالم في الحضارة، والموقف من الآلهة والشياطين ... إلخ عند اليونان كان جزءا من الحضارة اليونانية.
55
ومع ذلك لا يعتبر الدين القائم على تعدد الآلهة تحولا إلى مثال؛ فالآلهة في صيغة الجمع التي تعبر عن قوى أسطورية من كل نوع هي موضوعات طبيعية مثل كل الموضوعات الأخرى في العالم، الله الواحد وحده له ماهية فردية، وهو في علاقة مع الإنسان، ويتجلى من خلال التجربة الإنسانية؛ لذلك اختلط مع الفلسفة في عملية التحول إلى مثال؛ ففي هذه العملية العامة في الفلسفة، يتحول «الله» أيضا إلى منطق كحامل للعقل المطلق، وتستدعي القوى المنطقية؛ الدين واللاهوت، إلى بداهة الاعتقاد وإلى حقيقة الأشياء، والآلهة الوطنية موضوعات خالصة في العالم، لا تضع أي سؤال نظري للفلسفة.
56
وكل الألفاظ مثل: حضارة، دين، علم، فن، حساب التفاضل والتكامل، هي تصويرات حدسية للتعبيرات، تستعمل صورا ذهنية لتصوير الدلالة كدلالة مفترضة،
57
الدين إذن هو نموذج لنمط معرفي ما زال يستعمل الصور دون الوصول إلى الصورة الخالصة مثل الرمز الجبري للجذر ، ومع ذلك فالأسطورة والدين لهما جذورهما في التجربة في التاريخ، ويرتبطان بالتكيف والتأقلم مع البيئة.
58
ووضع الحضارات غير الأوروبية وضع يدعو إلى الإحباط؛ فإذا كانت أوروبا تمثل الإنسانية والبحث المنزه عن الحقائق العقلية فإن الحضارات الشرقية الصينية أو الهندية مرتبطة بأهداف عملية تقوم على تصورات أسطورية دينية. العالم الهندي افتراضي لأنه لم يخضع لعلم عقلي موضوعي.
59
والعالم الصيني بل والعالم اليوناني كذلك حتى صولون كان عالما موضوعيا، وهل يرضي الروح الإنساني أمام التناقض الإنساني، وهو الذات، أن يكون ذاتا للعالم وموضوعا في العالم الذي خلقه الله، وخلق الموجودات الإنسانية فيه، وأعطاهم الشعور والعقل، وفتح لهم آفاق المعرفة؟ هذا ممكن في الموقف الساذج؛ موقف الدين الوضعي الذي يؤكد وجود حقيقة خارج الشك، وسر الخلق مشكلة جزئية في الدين الوضعي؛ ولهذا التناقض في الفلسفة أهمية نظرية، ويظل موضوعا دائما كسؤال.
60
واليقين والبداهة نتيجة للموقف النظري، وهو أفضل من النبوءة أو الله.
61
وإذا ناضل الوعي الأوروبي من قبل ضد التراث دفاعا عن الدين الطبيعي فإنه يناضل هذه المرة أيضا ضد الدين الطبيعي دفاعا عن العلم الشامل. الصراع ضد الآلهة والشياطين وقوى الطبيعة ضروري؛ لأنها أساطير داخل الحضارة.
62 «وفي دائرة حضارتنا الأوروبية التوحيدية فإن ملايين البشر الذين يتصورون الله كفكرة أنثروبولوجية حقيقة، يتصورنه كخالق أنثروبولوجي للعالم؛ وبالتالي يتصورون العالم ذاته كتكوين حضاري هائل ومصطنع بالرغم من فخامته.»
63
وأحيانا تكشف بوضوح بعض الأفكار المتناثرة التصور الديني للظاهريات، مثلا تؤخذ قضية «فليساعدني الله» كمثل للدلالة على الفكر كمضمون حي يكون معنى اللغة.
64
وهذا يدل على أن «الله» ليس إلا ذاتا مثل باقي الذوات دون أن يكون له وضع خاص، وكذلك «الآلهة» موضوع مثل باقي الموضوعات مثل: الشياطين، الحضارة، المجتمع، القيمة في تيار الشعور.
65
ووضع خارج الدائرة الدين والدولة، والعادات والقانون كواقع طبيعي،
66
وأخذت كاتدرائية القدس بطرس كمثل للدلالة على أحد معاني التمثل، وهو فعل الخيال؛
67
ومن ثم ليس للكنيسة وضع خاص في التاريخ كما هو الحال في اللاهوت.
الكنيسة والدولة، والعادة والقانون، موضوع قيمة من مستوى أعلى، ولكن يمتد إليها التحليل كموضوعات.
68
وكذلك يضرب المثل ب «البابا» على التمثل؛ فتمثل «البابا» يمثل «البابا» تماما.
69 «البابا» موضوع مثل باقي الموضوعات لا أكثر. (2) الاتجاه الديني غير المباشر
70
يظهر الاتجاه الديني على نحو غير مباشر في التفكير في موضوعات فلسفية هي ذاتها تحولات لموضوعات دينية، نقلت فقط إلى مستوى الشعور وتم التعبير عنها بلغة إنسانية وشاملة ومفتوحة، مثل: المطلق، الماهية، المثال، الخالص ... إلخ. وكل الفلسفة الحديثة خاصة المثالية الترنسندنتالية من هذا النوع.
ويظهر المطلق في صورة منطقية، فهو الفرد، الموضوع النموذجي، كما أنه الصورة المنطقية الخالصة، كما يبدو المطلق في الفردية الشديدة وفي الشمول الأعم،
71
كما يظهر كفعل حال في الإدراك الحال، وهو الميدان المطلق للوضع المطلق حيث لا يوجد صراع أو شبح أو مغايرة، ثنائية المعطى الحي واقع مطلق،
72
والكل تضايف مع الوعي المطلق.
73
والتأمل باعتباره إدراكا باطنيا له قيمة مطلقة.
74
والمعرفة المطلقة مسموح بها؛ فقد تم الحصول عليها من قبل، ولها أبنية ثابتة جدلية تقوم بدور المؤسس لكل علم.
75
المعرفة المطلقة إذن معرفة أساسية، أليس الوحي أيضا معرفة مطلقة معطاة سلفا؟ ترفض الظاهريات كبحث عن المطلق كل صور الشك والنسبية؛ فالنزعة النفسانية نسبية شكية.
76
ولا يقتصر الشك على ميدان معين، ولكن يمتد إلى جميع أجزاء العام كموضوع مثالي.
77
وآخر فكرة في «التكوين» هي: «نسبية الطبيعة، والروح كمطلق».
78
وضد الشك، وهو تصور دقيق في النظرية على العموم، تبحث الظاهريات عن الشروط المثالية لإمكانية نظرية على العموم، حتى ولو فهم الشك بالمعنى الواسع يظل أيضا نزعة نفسانية؛
79
ومن ثم فإن التأملات الظاهراتية حول المطلق وتجلياته المختلفة، مثل: الوعي الشامل، والماهية الخالدة (اللازمانية)، تدل بوضوح على نفس مضمون الدين الإنساني كما كانت وكما هي الآن وكما ستكون في الفلسفة الحديثة، ما تبقى من إعدام العالم،
80
الوعي الترنسندنتالي هو إمبراطورية الوجود المطلق.
81
ويظهر الدين أيضا على نحو مباشر في الميدان العملي والأخلاقي المختفي وراء المنطق، وإذا كانت أخلاق الأمر المطلق مرتبطة ارتباطا وثيقا بمذهب التقوى أو القنوط فإن الظاهريات ليست أقل قنوطا؛ فالواقع أن التمييز الأساسي بين المفارقة والحلول تتبع مطلبا دينيا خالصا. فالمعطى الحي النفسي المفارق ضروري ومطلق.
82
البيئة المثالية للذات هي عالم القيم، عالم الخير والعالم العملي.
83
الأخلاق مثل عملي، والظاهريات وبحوثها الأخلاقية تعطي الانطباع بأنها طريق صوفي من أجل سمو النفس أكثر منها منهجا للبحث في إطار نظرية للمعرفة، ولولا نقل الأخلاق إلى الرياضة لكان الطريق الصوفي أكثر وضوحا، وتظهر مشكلة الحرية على استحياء داخل التحليل الظاهرياتي ، كل نشاط الشعور نشاط حر،
84
ولولا تحول الحرية إلى المستوى المنطقي لكانت الحرية فلسفة عملية للفكر والعمل. (3) الاتجاه الديني الضمني
85
يظهر الاتجاه الديني الضمني في الحركة الباطنية للفكر إلى الأعلى حتى ولو أخذ طابعا رياضيا، والطابع النفساني في «فلسفة الحساب» هو اقتراب إلى «الحميمي الأكثر حميمية» الذي تتحدث عنه الفلسفة المدرسية. والاتجاه المثالي في «بحوث منطقية» يتبع أيضا نفس المطلب، وتسمى فلسفات العصور الحديثة «أعلى الأعلى» «من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الأعلى»، وهذا هو ما يفسر الاتجاهين السابقين، لا يوجد تغير لأن مطلب المطلق في كل مكان. «الرد» الظاهرياتي اتجاه ديني ضمني. هو تحرير للنفس من سيطرة الاتجاه الطبيعي بالتحول من الخارج إلى الداخل، وبالتعبير بالصورة هو ملاء كاف من الوضوح، هو تقريبا فعل الحرية، مع أن تعليق الحكم يظل إيحاء بالحقيقة التي لا يمكن زحزحتها.
86
أما «التكوين» فإنه قلب العالم الكبير إلى العالم الصغير، والذي يعبر عن ملاء الإيمان، وأنماط الاعتقاد المعرفي هي في الحقيقة أنماط الاعتقاد الديني، وحياد الشعور هو رفض سيطرة العالم على الشعور، ومنهج الإيضاح بحث عن الحقيقي أي الحقيقة الدينية ، الوعي الأوروبي ذاته يبحث عن الحقيقة الدينية، والتي رفضها كتاريخ ثم أوجدها كحقيقة إنسانية، جوهر الحقيقة الموحى بها.
إن مظاهر الثقة لدى مؤسس الظاهريات تؤكد التأويل الديني للعلم الذي أنشأه، «انظر إلى العهد الجديد أمامي، هو دائما فوق مكتبي، ولكن لا أفتحه على الإطلاق، وإذا شرعت في القراءة فإني أعلم أنني يجب أن أترك الفلسفة.»
87
ومن ثم تعبر الظاهريات من خلال الفلسفة ما وجد من قبل في الدين طبقا لعبارة «لن تبحث عني إن لم تكن قد وجدتني»، والتماثل المطلق بين الاثنين، الفلسفة والدين جعلت مؤسس الظاهريات يقول عن رائد الفلسفة الوجودية: «أنا متفق معه خاصة حول التناقص لأن التناقص ضد العقل.»
88
ما صدم مؤسس الظاهريات هو الدين الظاهري الشعائري، وهو ما منعه من الانتساب إليه، «أنتم أيها الكاثوليك، تجلسون على المائدة وكأنكم في مأدبة»، وعنده «هذا ليس سهلا» «لو أنني أستطيع ذلك ».
89
وظاهرية الشعائر مثل تعقيد العقائد، «أنا الآن طاعن في السن، وقد أنفقت حياتي كلها وأنا أعمل بوعي تام؛ لذلك يلزمني قضاء خمس سنوات مع كل عقيدة، انظر الآن كم أحتاج من وقت للوصول إلى كل شيء.»
90
لا يمكن زحزحة الدين التاريخي، «الله خير ولا يمكن النفاذ إليه، وهذا امتحان كبير لي.» وأيضا «أرى أنه معي، ولكني لا أشعر أنه قريب مني.»
91
بين الظاهريات والدين هناك تماثل في الغاية، واختلاف في الوسيلة، «حياة الإنسان ليست إلا طريقا إلى الله، أحاول الوصول إلى هذه الغاية دون أدلة ومناهج أو وسائل لاهوتية مساعدة. وبتعبير آخر، الوصول إلى الله دون اللجوء إليه، كان لزاما علي إبعاد الله من فكري العلمي من أجل شق طريق إليه مثل هؤلاء الذين مثلنا ليس لديهم اطمئنان الإيمان عن طريق الكنيسة. أنا أعلم أن هذه الطريقة خطرة علي إن لم يكن لدي ارتباطات عميقة بالله وإيماني بالمسيح.»
92
والواقع أن «الرد» الظاهرياتي هو طريقة للبحث عن الحقيقة بداية بلا شيء، وهؤلاء الذين يرفضونها «يخشون النفاذ إليها حتى ولو كان الهدف البرهنة على أسسها اللاهوتية، يخشون أن نطالبهم بأن يستبعدوا من روحهم، حتى ولو لحظة واحدة، الوحي والعقيدة بل والله نفسه. يخشون من الدخول في نار الشك التام.»
93
وتستعمل لغة الرمز للتعبير عن الطريقين. «هناك حركتان يبحث كل منهما عن الآخر باستمرار، يتقابلان ثم يبحثان من جديد.»
94
هذان الطريقان هما الحقيقة الإنسانية والحقيقة الإلهية، الحقيقة العقلية والحقيقة الموحى بها.
والعبارات الرمزية التي تفوه بها مؤسس الظاهريات هنا وهناك استعمل فيها لغة التصوف، لغة النور، فبعد أن قرأ الإنجيل وهو جالس في الشمس قال: «الآن سطعت شمسان في.» كما قال: «من النور إلى الظلام، والظلام الكثير، ثم إلى النور من جديد.» وترتبط لغة النور بلغة رؤية الرائع: «رأيت شيئا رائعا. بسرعة أكتب.»
95
وفي الحياة الخاصة لمؤسس الظاهريات كان الإيمان الديني حاضرا: «آه، أتخيل تماما أنك ستكون حاضرا عندما أموت قارئا الإنجيل بصوت مرتفع بينما أنا داخل إلى الخلود.» وأيضا: «منذ مطلع شبابي ناضلت ضد كل صور الغرور، والآن انتصرت عليها تقريبا، بل إن غرور وظيفتي، واحترام طلابي وإعجابهم بي، وبدونهما لا يستطيع أي أستاذ أن يعمل، أحب قبل موتي أن أتجه إلى العهد الجديد مثل نيوتن، وألا أقرأ شيئا آخر، ما أجملها من أمنية لو حدث ذلك!» وأيضا: «بعد أن أكملت رسالتي كفيلسوف أكون حرا في أن أعمل لمعرفة ذاتي لأن أحدا لا يستطيع أن يعرف نفسه إن لم يقرأ الكتاب المقدس.» وأيضا: «أي يوم رائع يوم الجمعة المقدس الذي غفر لنا فيه المسيح كل شيء.»
96
هذه التأملات الدينية تعبر عن رؤية شاملة: «الفضل حرية الله، لا يقترب الإنسان من الله بالفضل بل بجهوده الخاصة المستمرة.» وأيضا: «يسير الراهب مثل كل مسيحي، في طريق ضيق ومرتفع، يمكن أن يقع بسهولة، ولكنه يمكن أيضا أن يرتفع، ليس لأنه يرفض العالم بل لأنه يراه في الله.»
97
الباب الثالث: ظاهريات الدين
الفصل الأول: فلسفة الدين1
كان الهدف بين محاولات «الفهم والتكوين والتأويل» العثور على هذا المنهج الظاهرياتي من أجل تطبيقه في ظاهرة الدين، ولقد تمت محاولات عدة من قبل لتطبيق المنهج الظاهرياتي في ظاهرة الدين مرة في فلسفة الدين، ومرة ثانية في ظاهريات اللاهوت، ومرة ثالثة في ظاهريات التأويل. وتمثل كل محاولة تقدما كبيرا بالنسبة إلى المحاولة السابقة، وظاهريات التأويل التي تنتسب إليها هذه الدراسة هي قمة المحاولات الثلاث، ويمكن الآن مراجعة كل محاولة لبيان حدودها ومدى ما تمثله من تقدم في ظاهريات الدين.
2
ولقد تمت محاولتان على الأقل حتى الآن في فلسفة الدين، وتقدمان مجموعة من الأبحاث حول نفس الموضوع، وهما أكثر المحاولات قوة وجذرية، كانت فلسفة الدين حتى الآن وقبل المنهج الظاهرياتي، هو البحث السائد في فلسفة الدين، وفي هاتين المحاولتين يظهر المنهج الظاهرياتي على نحو ضعيف كفلسفة مثل غيرها من الفلسفات دون أن يكون لها أي أولوية على غيرها، المحاولة الأولى «فلسفة التوسط»، والثانية «فلسفة التصور»، ويمكن مراجعة كل فلسفة على حدة.
3
أولا: فلسفة التوسط1
فلسفة الدين باعتبارها فلسفة في التوسط تستحق المراجعة، وهي محاولة بول أورتيجا: «فلسفة الدين تركيب نقدي للمذاهب المعاصرة من أجل إقامة مذهب شخصاني وجماعي.»
2
ويلاحظ أولا أن العنوان الفرعي «الواقعية الشخصانية والجماعية» نتيجة لنقد نظريات الحدس الفلسفي الديني، ويبدو أنها تبرير جديد للاهوت العقائدي وإعطائه اتجاها جديدا موجودا من قبل في الفلسفة المعاصرة.
3
يبين الجزء الأول من العنوان الفرعي بوضوح ارتباط فلسفة الدين بالمنهج بمعنى منهج التحليل الفكري ونقد فلسفة الدين التي تقوم على التصورات والمقولات والمخططات.
4
يعني النقد هنا ببساطة تبريرا جديدا للاهوت العقائدي، مبينا نقص المحاولات السابقة وعيوبها، ولفلسفة التوسط كفلسفة للدين ميزة على فلسفة التصور بتجنب أخطاء عديدة لهذه الفلسفة الأخيرة خاصة فيما يتعلق بالثقل الهائل للمؤلفات المعاصرة المقدمة كنماذج،
5
وهي أكثر مباشرة وأكثر صراحة بالرغم من أنها تعمل على تحقيق نفس الغاية، كما أن لها ميزة وضع العمل داخل فلسفة الدين كما وضعت نظرية الفعل-القانون داخل الفلسفة الأخرى للتصور. ومع ذلك، هي محاولة غير ناجحة بسبب خلطها في تعريفات الدين، وعدم الاتساق في تصنيف المناهج، وتبرير اللاهوت العقائدي، وعدم التعرف على نظرية الأبعاد الثلاثة للشعور، والمساهمة القليلة للمنهج الظاهرياتي.
6 (1) الخلط في تعريفات الدين
7
إن غياب كل تحليل باستثناء نشأة الفلسفة الحديثة وماهيتها جعل مخطط إقامة فلسفة الدين على التوسط سطحيا للغاية؛ فالتعريفات والمناهج كلها تنتمي إلى المذاهب الفلسفية في العصور الحديثة.
8
ويختلط التعريف والمنهج داخل المذهب؛ فالتعريف العقلي يأتي من النظريات التأملية، والتعريف الحركي من النظريات الحركية، والتعريف الاجتماعي من النظريات الاجتماعية، والتعريف التاريخي من تاريخ الأديان ... إلخ. وترجع أهمية التعريفات الفلسفية للدين ليس فقط في البحث عن التعريف الدقيق، بل في نشأة هذا النوع من التأمل في بدايات العصور الحديثة التي تسمى فلسفة؛ فالواقع أن كل التعريفات الفلسفية أو على الأقل أكثرها قد بدأت في العصور الحديثة، أو على وجه أدق في التيارات الفلسفية في العصور الحديثة، وإظهار كل تعريف أحد الجوانب أكثر من الآخر سمة طبيعية عامة لكل الاتجاه الفلسفي الذي ينتمي إليه التعريف، وقد تم تحديد التعريف الفردي ضد تعريف العامة، والعقلاني ضد الدوجماطيقي، والوجداني ضد العقلي، والأخلاقي ضد الشعائري، والحركي ضد السكوني، والوجودي ضد الماهوي، والواقعي ضد التركيب المثالي، والتركيب الدنيوي لكل شيء ضد التركيب الديني.
9
وطبقا لتطور الوعي الأوروبي بشكل تخطيطي عام، كان العقلاني ضد الدوجماطيقي في بدايات العصور الحديثة،
10
وتعريف الدين بأنه «معنى المطلق» هو عود إلى تبرير «الله» الدوجماطيقي بظاهر اللغة الفلسفية. إن لم يتحقق من وجود المطلق بالاستقراء أو التجربة فإنه يكون باستمرار نقلا عقليا ل «الله» الدوجماطيقي.
11
وللغة أهميتها في نواة المعنى الاشتقاقي؛ إذ يكشف عن الاتصال الأول بين الشعور والعالم والتعبير عنه باللغة، يظهر الموجود العياني في المعنى الاشتقاقي كنواة للمعنى. صحيح أن للغة أيضا معناها العرفي الذي يمكن معرفته عن طريق العلوم الإنسانية، وهناك أيضا المعنى القبلي الذي يعطيه الوحي، ومع ذلك يظل المعنى الاشتقاقي الضامن الأول لكل معنى للفظ،
12
ويستمر الخلط بين علوم الوقائع وعلوم الماهيات، وتنقد المعاني التاريخية للدين وكأنها ماهيات،
13
ويساعد الإطار التاريخي لدين الوحي على التعرف على الآثار والتأثيرات التاريخية للبيئة داخل المعطى الديني وفي قلب تجلياته الحضارية. وتبدو أهمية تاريخ الأديان المقارن في وضع الدين في إطاره التاريخي الأول الذي ساعد على نشأة منهج تاريخ الأشكال الأدبية، والذي كان محط آمال عديدة، ويستمر الخلط بين الدين التاريخي ودين الوحي،
14
ووضع تعريفان مختلفان في النوع على نفس المستوى. (2) عدم تجانس تصنيف المناهج
15
إن تصنيف كل النظريات الفلسفية تقريبا في الدين تحت عنوان «النظرة التجريبية» مخاطرة؛ فقد صنفت نظريات مثالية كنظريات تجريبية لأن كل النظريات تشرح الظاهرة الدينية دون أن تترك شيئا يند عن الشرح، ويظل سرا كموضوع للاهوت الدوجماطيقي، ويوجد نفس الشيء في فلسفة الدين التي تقوم على التصورات، المقولات والمخططات، التي تصنف تحت عنوان «منهج الشرح» عدة اتجاهات حالة وعلية وتوحيدية بالرغم من اختلافاتها النوعية، فإذا وقعت النظريات التجريبية في الخطأ النشوئي يقع اللاهوت الدوجماطيقي في نفس الخطأ؛ لأن نشأة العقائد وتكوينها ابتداء من الوعي التبشيري الأول الفردي والجماعي، وداخل النظرية التجريبية يوجد منهج التفسير ومنهج الفهم، والعنصر الذي يند عن الشرح صحيح مثل الانتقال المنقطع من المعرفة إلى الوجود أو من الوجود إلى المعرفة، وهي قفزة معروفة. ويمكن التحقق منها في الخبرات اليومية، كما أن قسمة النظرية التجريبية إلى تأملية حركية واجتماعية ليس تقسيما متسقا؛ إذ تؤدي النظرية التأملية التجريبية إلى خلط شديد لو وجدت مثل هذه النظرية، والعقل العملي المصنف كنوع في هذه النظرية ليس تأمليا ولا نظريا طبقا لمجرد العنوان.
16
والنظرية التي سميت العقل العملي هي نوع من النزعة الفردية الجماعية تدعو إلى لادينية المستقبل، والأولى إطلاق العقل العملي على دين نقد العقل العملي، بالإضافة إلى أن هذه النظرية هي نوع من الحركية، ويمكن تصنيفها مع النظريات الحركية المؤسسة على الحياة الغريزية والأفكار-القوة، وإن تفسير الدين بسيادة الإدراك أو الخيال، الأسطورة أو النزعة الحيوية لا تعد لهذا السبب نظرية تأملية، بل تعتبر جزءا من النظرية التجريبية.
17
ويظهر أيضا عدم التجانس في التصنيف في النظريات الحركية؛ فهناك نظريات حركية مادية، وهو لفظ شعبي، مثل معظم النظريات المعدودة، وهناك نظريات حركية مثالية مثل: الدين الحركي المناقض للدين السكوني. ويظهر عدم التجانس أيضا في النظريات الاجتماعية؛ إذ يمكن أن تكون بحثا عن الطابع الخالص للظاهرة الإنسانية، كما يمكن أن تكون مصدر خلط بين مستويات عدة.
18
وتصنيف النظريات الفلسفية فيه اشتباه، مثلا وضعت الحتمية المثالية تحت نفس عنوان الحتمية المادية؛ الأولى نتيجة الحضور الإلهي، في حين أن الثانية نتيجة سيطرة المادة؛ الأولى فلسفية للروح في حين أن الثانية فلسفة للطبيعة.
19
ويظهر عدم التجانس في تصنيف النظريات الفلسفية في الدين بوضوح في الملحق عن نشأة الدين في الفلسفات المعاصرة،
20
وصنفت المثالية الظاهراتية كتفسير تأملي بالرغم من أنها فهم للتجربة، فلا المثالية الميتافيزيقية ولا المثالية الظاهراتية ولا الفكر العياني شرح تأملي، الحتمية الوضعية وحدها هي التي يمكن تصنيفها تحت هذا العنوان، ولا تشمل لا المثالية المطلقة ولا مثالية الشعور.
21
كما صنفت المثالية النقدية وليست المثالية الجدلية تحت عنوان الشرح الحركي، وباختصار حددت كل النظريات الفلسفية في الدين كنظريات شارحة دون تمييز بين الشرح والفهم، ويمكن إخراج بعض المؤلفين من صنف وإدخالهم في صنف آخر، وعلى نحو ملائم مثل الصنف الأول، ويصعب تصنيف بعض المؤلفين تحت نفس العنوان. ويمكن تصنيف نظرية واحدة تحت كل العناوين في نفس الوقت.
ويظهر عدم تجانس التصنيف أيضا في الخلط بين أنواع التفكير الثلاثة في الدين؛ أولا: فصلت المذاهب المعاصرة عن جذورها في الفلسفة المدرسية بالرغم من أنها أشكال متحولة ومنقولة من بعض المعطيات المدرسية على المستوى الإنساني وفي لغة شاملة.
22
ثانيا: تتوج فلسفات الدين المذاهب الفلسفية الكبرى، مثل: فلسفة الكوجيتو الغائبة تماما بالرغم من أنها هي التي شقت طريق الفكر الفلسفي المستقل، والمثالية النقدية، والمثالية المطلقة، والظاهريات، وفلسفة الحدس.
23
هناك أيضا تأملات فلسفية على الإشكال الديني دون أن تكون ملحقة بأي مذهب فلسفلي.
24
وهناك أيضا مد مناهج العلوم الإنسانية على الظاهرة الدينية دون أن تدرس بمنهج خاص بها،
25
وهناك أيضا اللاهوت المعاصر المرتبط بالنظريات الفلسفية دون أن تكون ملحقة بالمذاهب.
26
وتظهر عدم الدقة في تصنيف النظريات في تصنيف نظرية واحدة تنتمي إلى نسق فلسفي واحد في نوعين مختلفين. مثلا صنفت المثالية النقدية مرة في توسط المعرفة لإثبات قيمة الفكر الميتافيزيقي،
27
وأحيانا أخرى في توسط الفعل لإثبات مركزية العمل.
28
كما تظهر عدم الدقة في تصنيف النظريات في تقسيم مسألة في أنواع مختلفة، فمثلا صلة العقل بالمطلق، في النظريات الغنوصية، هي نفس مشكلة توسط المعرفة في المثالية الحتمية،
29
وصلة الإرادة بالمطلق هي نفس مشكلة توسط الفعل في النظريات الإرادية والبرجماتية والأخلاقية،
30
ومصير الإنسان المطلق هي نفس مشكلة التوسط بالشخص،
31
وصلة الفعل بالفكر، وهو الجزء الآخر من توسط الفعل، هي استرجاع لموضوع «الحدس والدين».
32
ومعظم النظريات المصنفة هي تعليقات على الدين من المذاهب الفلسفية في العلوم الإنسانية. فكل النظريات التأملية والحركية والاجتماعية هي نظريات في الفلسفة العامة دون أن تكون فلسفة في الدين على حدة، ففي النظريات التأملية، الإدراك والخيال من علم النفس، والعقل العملي من الأخلاق، وفي النظريات الحركية، الحلول الطبيعي من فلسفة الطبيعة، والسحر من الإثنولوجيا، والماركسية من الاقتصاد السياسي، والغريزة الجنسية من التحليل النفسي، والحالات الوجدانية من الوضعية، والمعنى التركيبي للإلهي من البرجماتية؛ وفي النظريات الاجتماعية، علم النفس الاجتماعي من ربط علم النفس بعلم الاجتماع، ونظرية التطور من العلوم الطبيعية، والنظرية الاجتماعية من المدرسة الاجتماعية؛ ومن ثم فإن كل النظريات تقريبا المصنفة في النظريات الفلسفية هي في العلوم الإنسانية وتطبيقاتها في الظاهرة الدينية. وكانت نتيجة إدخال نظريات فلسفية غريبة في الظاهرة الدينية نسيان النظريات الدينية الخاصة. ونادرا ما تذكر النظرية المدرسية حول الخلود الزماني أو النظرية الحديثة حول الظاهريات الوجدانية.
33 (3) تبرير اللاهوت الدوجماطيقي
34
وكما حدث من قبل في نقد نظريات الحدس الفلسفي والديني واستعماله من أجل تبرير اللاهوت الدوجماطيقي، فقد استعمل نقد النظرية المسماة تجريبية أيضا لنفس الهدف، فقد استعمل نقد المدرسة الاجتماعية، وهو تطبيق النشأة الاجتماعية للحياة الروحية، والعلاقة الضرورية بين المجتمع كظاهرة والمجتمع كالشيء في ذاته، من أجل إثبات الله في النقد الأول، وإثبات الكنيسة في النقد الثاني، كانت الغاية من وضع كل النظريات الفلسفية عن الدين تحت نفس عنوان التجريبية لأنها لا تترك شيئا يند عن الشرح مثل الشر من أجل تبرير اللاهوت الدوجماطيقي وإضفاء الشرعية عليه.
35
وحدث نفس الشيء في تحليل مساهمة تاريخ الأديان، ولو مساهمة محدودة، ومنفعته التي لا تخلو من اهتمام، ونسبيته التي لا يمكن التنازل عنها،
36
والفرصة الوحيدة ليكون للاهوت الدوجماطيقي دور أن يصبح تاريخا للعقائد كما هو الحال في التاريخ المقارن للأديان الذي منه خرج منهج «تاريخ الأشكال الأدبية».
ولا يمكن إثبات ضرورة الظاهرة الدينية بنقد النظريات الغنوصية؛ لأن الغنوصية حقيقة إنسانية، بل إنها شرط الحصول على الوحي،
37
وإن استحالة تجاوز التجربة ليس بالضرورة نفيا للمعرفة المطلقة؛ فالمعرفة المطلقة ممكنة، أولا في التجربة الذاتية، وثانيا في التجربة المشتركة، ودور الوحي هو دور القبلي في الإدراك، شعاع من صورة الشعور إلى مضمونه، من الذات إلى الموضوع، وإذا كان معنى النص الممكن مطابقا لدلالة التجربة اليومية ففي هذه الحالة يمكن الحصول على المعرفة المطلقة؛ أي الحقيقة. المطلق إذن حصيلة الاستقرار، ويؤكد التحليل النقدي للفكر استحالة تجاوز التجربة في المعرفة أو في الوجود، ولا يوجد ما يند عن المعرفة إلا إذا قام بالانتقال المتقطع من المعرفة إلى الوجود، وحجج الغنوصية وقائع إنسانية،
38
ونقدها بأنها علاقة ضرورية بين المعرفة والمطلق، العلاقة الباطنية المحددة بين الفكر والمطلق هي أيضا حقائق إنسانية ممكنة يمكن التحقق من صدقها بالتجربة، دون افتراضات مسبقة. النقص الوحيد في الغنوصية ليس النزعة التصورية السكونية؛ لأن الغنوصية معرفة غير تصورية قد تكون فاعلة؛ أي حركية، بل وقوفها في منتصف الطريق دون إمكانية الحصول على الحقيقة الموضوعية الشاملة مثل كون الوعي الفردي صورة للوعي الشامل، والوعي بالآخر في التجربة المشتركة، ودور معطى الوحي كحقيقة ممكنة تقوم بدور القبلي في الإدراك.
39
صحيح أنه يمكن مناقضة التشاؤم بتجارب الحياة اليومية: السعادة، الحب، الإخلاص، الأمل ... إلخ، دون أن يكون فيها حجة لإثبات مطلق يند عن التجربة؛ إذ ينفي الاستقراء ذلك. ويبين التحليل الداخلي للإرادة عكس ذلك؛ فالتحرير ليس فقط نتيجة العدمية، بل إنه يتم أيضا في الوجود الإنساني وفي الوجود العام.
40
وإذا أثبتت تجربة السعادة علاقة ضرورة بين الرغبة والمطلق تكون هذه العلاقة ضرورية في رسالة الشخص، والمطلق ما هو إلا مشروعه. وإذا أثبتت تجربة الأمل وحدة تحقق الرغبة في المطلق يتم هذا التحقق بنشاط الشخص الذي يحقق رسالته في الحياة.
41
صحيح أن للإنسان مصيره المطلق، وهو ليس خارجا عن طبيعته، بل يخرج منها، إن هواية النسبية الشاملة ورد الفكر والعمل، والذي ينتهي إلى السخرية، مصير قصير الأجل؛ إذ يتحقق المصير المطلق للإنسان في الحياة الزمانية للفرد ثم في الحياة الزمانية للآخرين؛ أي في الحضارة،
42
وإن نقد الهواية بتعارض الفكاهة والضحك، وبتعارض الإخلاص والإنسانية من الهواية، لا يفسر هذا الأجل القصير للهواية، وهو محدود بحياة الشخص.
43
صحيح أن الإنسان هو مطلق ذاته، ولكن الإنسان مفتوح بفعله على أقرانه، يخلد الإنسان في الآخر، والآخر يخلد في الآخر، إلى ما لا نهاية، وباختصار يخلد الإنسان في جماعته الحضارية، وتخلد الجماعة الحضارية في الإنسانية جمعاء.
وليست فلسفة الدين التي تقوم على التوسط أي ضرورة؛ لأنها رفض تعسفي لكل النظريات الفلسفية في الدين دون تقديم شيء آخر باستثناء فلسفة مقنعة تحت غطاء اللاهوت الدوجماطيقي، وليس لها منهج محدد، وما سمي منهجا ليس إلا خليطا من النظريات الفلسفية.
44
وإذا كانت شروط اليقين في اللاهوت العقائدي فلماذا تسمى إذن فلسفة الدين؟
45
ولا يقدم التمييز بين اللاهوت النقدي واللاهوت الوضعي أي جديد؛ فاللاهوت النقدي الذي يقدم على معطيات التاريخ ونتائج الفلسفة هو نفسه اللاهوت الوضعي، ويكون عقائد اللاهوت التاريخ إلا أن الأول هو تنشيط وإعادة إعمال وتبرير جديد الثاني، وهذا هو المعنى الذي يشير إليه لفظ «نقد»؛ إذ يعني إيجاد أفضل تبرير مع تجنب عيوب الماضي والاستفادة من الاكتشافات الفلسفية الحاضرة، فإذا كان اللاهوت النقدي هو اللاهوت العقائدي المستتر مع مظهر تأملي فإن اللاهوت الوضعي هو لاهوت عقائدي صريح.
46
ولا تدعي فلسفة الدين القائمة على التوسط أنها لاهوتية أو وعظية أو تاريخية بل ميتافيزيقا نقدية، والحقيقة أنها تبشير باللاهوت التاريخي،
47
وقد استبدل ما يسمى بلاهوت النقائض بلاهوت يسمى لاهوت التوسط دون معرفة أن لاهوت النقائض هو مجرد رد فعل خالص على المظاهر المختلفة للاهوت التوسط، الفلسفة الأولى مكسب إنساني خالص ضد فلسفة التوسط التي هي في الواقع اللاهوت العقائدي، التوسط بالكنيسة، في صورة فلسفية، النقيض الأول، الروح والمادة، يحتوي على فلسفتين، فلسفة الروح وفلسفة الطبيعة، فلسفة الروح مكسب للعصور الحديثة في نضالها ضد الفلسفة المدرسية، اللاهوت العقائدي، التي سادتها فلسفة الطبيعة، وفلسفة الطبيعة، أو المادة، هي أيضا مكسب للوعي الأوروبي باكتشافه الموضوع الواقعي للعلم ضد نسيان هذا الواقع في اللاهوت العقائدي. والنقيض الثاني، الفكر والعمل، يتضمن أيضا فلسفتين؛ فلسفة النظر وفلسفة العمل. ولما توجهت فلسفة الوعي نحو المثالية الخالصة، وهو رد فعل على المادية والتاريخية في اللاهوت العقائدي، استدعيت فلسفة أخرى للعمل من أجل إيجاد التوازن بين «اللوجوس» و«البراكسيس»، والمثالية الخالصة رد فعل طبيعي ضد خليط تاريخ العقائد واللاهوت التاريخي. والنقيض الثالث، الحلول والمفارقة، يمثل فلسفتين؛ فلسفة المفارقة ضد التشبيه في اللاهوت العقائدي، وفلسفة الحلول ضد مغالاة فلسفة المفارقة التي نسيت أثرها في العالم، المفارقة ضد الحلول، والحلول ضد النزعة الخارجية في تصور الله. والنقيض الرابع، الشخص والمجتمع، يشير أيضا إلى فلسفتين؛ فلسفة الشعور أو الفرد أو الشخص الإنساني ضد نسيان الفرد في اللاهوت العقائدي، وفلسفة اجتماعية أو جماعات أو مجموعات ضد صورتها المنعزلة ممثلة في الكنيسة، فإذا كانت النقائض تمثل فلسفتين رد فعل على اللاهوت العقائدي، وهي ما تسمى فلسفة التوسط، فإن هذا لا يمنع أن تكون هاتان الفلسفتان تحولا أو نقلا لبعض مظاهر معطى الوحي الأول الذي يزعم اللاهوت العقائدي تمثيله، وهو زعم خاطئ؛ ومن ثم فإن موضوع فلسفة الدين التي تقوم على التوسط ليس إلا تبريرا جديدا لشرعية الكنيسة وضرورة وجودها.
48 (4) عدم إدراك أبعاد الشعور الثلاثة
49
مرت فلسفة الدين القائمة على التوسط مر الكرام على نظرية أبعاد الشعور الثلاثة؛ إذ يتضمن نسق المعرفة الدينية، الدراسة التجريبية والدراسة الفلسفية والدراسة اللاهوتية، أبعاد الشعور الثلاثة: الشعور التاريخي وهو الدراسة التجريبية لتاريخ النصوص، والشعور النظري وهو التحليل النظري للنص ابتداء من اللغة، والشعور العملي وهو استعمال معطى الوحي كبناء مثالي للعالم.
50
ولا تستطيع فلسفة التوسط بسهولة الإشارة إلى أبعاد الشعور الديني الثلاثة: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي. ومع ذلك فإن التقريب بين نشوء المصير الديني ونظرية أبعاد الشعور الثلاثة ممكن؛ فتوسط الشخص للوعي الثلاثي الأبعاد، وتوسط الوحي للوعي التاريخي، وتوسط المعرفة للوعي النظري، وتوسط الفعل للوعي العملي، ويظل توسط الكنيسة لا محل له، ويظل موضوع ترتيب الأبعاد الثلاثة للوعى: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي؛ فإن الترتيب في نشوء المصير الديني كالآتي: التوسط بالمعرفة، والتوسط بالفعل، والتوسط بالشخص، والتوسط بالكنيسة. الشخص هو الوعي في مركز معطى الوحي، والكنيسة زائدة لا مكان لها في فلسفة الوعي؛ فالنظام الموازي للوعي الثلاثي الأبعاد هو: الوحي، والمعرفة، والفعل. وما يهم هو التقدم المنهجي والواقعي الذي يمثله كل بعد بالنسبة للآخر، وطبقا للوعي الثلاثي الأبعاد، الوعي التاريخي هو البعد الأول في حين أن توسط الوحي هو البعد الأخير في فلسفة التوسط، والوعي النظري ممر من الوعي التاريخي إلى الوعي العملي، في حين أن توسط المعرفة هو التوسط الأول، والوعي العملي هو ذروة الوعي الديني في حين أن توسط الفعل ليس إلا التوسط الثاني في نشوء المصير الإنساني. والسؤال الآن هو: هل كل توسط في نشوء المصير الإنساني يمثل تقدما بالنسبة للوعي اللاحق؟ هل يمثل توسط الفعل تقدما بالنسبة إلى توسط المعرفة؟ هل يمثل توسط الشخص تقدما بالنسبة لتوسط الفعل؟ هل توسط الكنيسة يمثل تقدما بالنسبة لتوسط الفعل؟ هل توسط الوحي يمثل تقدما بالنسبة لتوسط الكنيسة؛ وبالتالي يصبح الوحي ذروة نشوء المصير الإنساني؟ فإذا كان الرد بالإيجاب يصبح الشخص شرط وجود المعطى الديني نفسه؛ فالوحي المعطى هو نقطة البداية للشعور الديني، ثم تأتي المعرفة بعد ذلك بالفهم، ثم يأتي الفعل في النهاية ليحقق كلمة الله على الأرض كنظام مثالي للعالم.
صحيح أن للإنسان مصيرا دينيا، أو بتعبير أدق إن للدين مصيره الإنساني، الدين واقع إنساني بالقوة، يصبح بالفعل بحضوره في الشخص الإنساني، الدين إذن أساس بنية للشعور، يضع الشخص الإنساني كمحل لوجوده؛ ومن ثم فإن توسط الشخص ضروري لوجود الدين،
51
وتوسط الشخص الإنساني يتم التحقق منه في التجربة اليومية دون أن يكون استبدالا لفلسفة الوجود بفلسفة الجوهر كما حدث في تاريخ الفلسفة الأوروبية التي كانت تبحث عن الإثبات المباشر والبسيط للتجربة للتخلص من النظريات الفلسفية من الميراث المدرسي.
52
والشخص هو أيضا الشخص بالمعنى العادي للكلمة، دون المرور بنقد النظريات الثنائية والارتباطية في تاريخ الفلسفة الأوروبية.
53
ويتبع التعارض بين الأنا المثالي والأنا الوجودي تطور الوعي الأوروبي، من فلسفة الروح إلى فلسفة الطبيعة، أكثر منه تحليلا لبناء الشخص.
54
صحيح أنه يوجد مسار منقطع من المعرفة إلى الوجود، ولكن هذه القفزة ليست ضرورية لمجرد حضور الشخص كشرط ضروري للدين، وخلافا لذلك يعود التعارض مرة ثانية بين الكلمة الإنسانية والكلمة الإلهية في اللاهوت العقائدي.
55
الشخص الإنساني معروف تماما، أما الشخص الإلهي فإنه يتجاوز التجربة الإنسانية. الشخص الإنساني لا يقيم دينا حتى ولو كان كاملا، موضوعيا، حميميا، مباشرا، ولكنه أصل كل دين، ولا تستطيع التجربة أن تقول شيئا في الخلاص والتصوف. والشخص الإنساني إسقاط مثال الشخص الإنساني في صورة تشبيهية في العالم الخارجي.
ويمكن التحقق من توسط الوحي في البعد الأول من الوعي الديني، وهو الوعي التاريخي، ووظيفته البحث عن الصحة التاريخية لنص الوحي بواسطة النقد التاريخي.
56
ليست مشكلة الوحي مشكلة فلسفية، صلة الطبيعة بالفضل الإلهي، بل مشكلة تقنية؛ إذ تؤكد التجربة اليومية الطبيعية المفتوحة على غير المتوقع والمنقطع واللاإرادي، في حين أن النقد التاريخي هو القادر على حل مشكلة الصحة التاريخية لنص الوحي، مشكلة الوحي أيضا مستقلة تماما عن كل تأكيد ألوهي مهما كانت صورته. الوحي إثبات تاريخي بحضور المبلغين عن كلمات الوحي دون نسيان التحقق من وجود الوحي، بمعنى الإيهام، في التجربة الإنسانية خاصة في الإبداع الفني؛
57
ومن ثم تدور النظرة الخارجية فوق الطبيعة والنظرة الداخلية الإنسانية حول هذين الإثباتين الأولين؛ وحي المبلغ وإلهام الفنان؛ ويتم التحقق منهما معا في التجربة، ويعني توسط الوحي أن الوعي الديني مفتوح ببعده التاريخي لاستقبال كلمات المبلغ، ودور النقد التاريخي للبحث عن الصحة التاريخية للنص هو إلغاء هذه المسافة، قصيرة أم طويلة، بين لحظة التبليغ من المبلغ ولحظة الإسماع عند المستمع المعاصر أو التابعي حتى الوقت الحاضر، شفهيا أم تدوينا.
58
وتوسط المعرفة إثبات البعد الثاني للوعي الديني، وهو الوعي النظري ودوره في فهم معنى النص بواسطة التحليل اللغوي والتحليل النظري للتجارب اليومية.
59
المعرفة إذن ليست هي معرفة الأنساق الفلسفية الشامخة، النقد أو الجدل أو الحتمية، ولكن ما تسمح به المبادئ اللغوية لفهم معنى النص، وما يعطيه التحليل النظري للخبرات اليومية من أجل إثبات التماثل بين المعنى المفهوم من النص ودلالة الخبرة اليومية، والأنساق الفلسفية الشامخة هي تحولات إنسانية لبعض الجوانب الدينية في اللاهوت العقائدي منقولة على مستوى الوعي الإنساني. مشكلة القبلي والبعدي هي المشكلة القديمة؛ الإيمان والعقل، والدين والفلسفة، وعلاقة العقل العملي بالعقل النظري هي نفس العلاقة بين العمل والنظر في الدين. وهكذا تحول الدين إلى معطى قبلي ثم انتقل إلى الأخلاق؛ فالفلسفة النقدية عرض إنساني للدين.
60
ونقد الفلسفة النقدية عود إلى القطعية الخارجية في اللاهوت العقائدي، وتمهد لضرورة النقد الداخلي للحضور الإلهي، وضرورة التمييز الصوري والتنسيق الداخلي للحساسية والعقل لهما نفس الغاية، ورفع فلسفة الطبيعة إلى مستوى فلسفة الروح عود إلى الله في التصور المدرسي، ورفض لتصور الله في عصر النهضة.
61
الله، والمطلق في الفكر، والمطلق في الوجود، موضوعات متسقة للعقل، وهو اعتراف واضح بوعظ اللاهوت العقائدي.
62
ومن ثم كان للفكر الميتافيزيقي في الفلسفة النقدية حدوده في التجربة، ولم يكن بحاجة إلى الوصول إلى المثالية المطلقة لمعرفة هذه الحدود، والمثالية المطلقة بالرغم من أي عرض فلسفي لها هو تحول ونقل جديد للدين؛
63
فالواقع أن عقيدة التثليث تحولت إلى جدل، ثم نقل الدين كله إلى مستوى المعرفة الإنسانية التي تم اكتشافها، وتشهد كتابات الشباب لواضع المذهب النقد الأساسي الموجه إلى مذهب «الحلول»، ويمهد لقدوم اللاهوت العقائدي وتصوره للمفارقة الخارجية، وإن وضع الطبيعة إلى هذا الحد الرفيع ليس وضعا للمفارقة في مواجهة ذاتها، بل إظهار الحلول الترنسندنتالي للطبيعة المفتوحة ، ووصفت المثالية بأنها خداع؛ لأنها لا تتبنى تصور الله في اللاهوت العقائدي.
64
ولقد أخذت الحتمية المثالية أو المادية بعد المثالية النقدية أو المثالية المطلقة كصورة ثانية لتوسط المعرفة؛ فالحتمية المثالية عرض للدين على المستوى الإنساني من وجهة نظر «الله»، إذا رأى الله كل شيء فإنه يرى الأفعال الإنسانية.
65
وإذا كان الله كل شيء، فالوجود كله فيه. ومع ذلك، وبسبب أخذ وجهة النظر الإنسانية، ظهرت الحرية الفلسفية والسياسية، كان الخلط بين الاتجاهين شائعا؛ إذ تنفي فلسفة الحرية الإنسانية للفكر والعمل إذا ما أخذت وجهة النظر الإلهية، وإذا أخذت وجهة النظر الإنسانية تنفي وجهة النظر الإلهية. إذا أعطت الحتمية أولوية مطلقة للفكر، والنسبية للإرادة والعمل والإحساس بالقيمة بأفكار حرية الاختيار، فإن هذا طبيعي من وجهة النظر الإلهية.
66
ويمكن التحقق في الخبرة اليومية للوجود من نقد الحتمية المثالية بالتمييز بين الفكر والفعل والشرط الداخلي للفكر بالفعل وليس العكس.
67
وفي تجربة الفكرة-القوة، الفكر هو الفعل نفسه، ولا تقام فلسفة في الحرية بالبراهين، بل بالوعي الداخلي بالرسالة الذاتية في تحقيق المصير الشخصي. فلسفة في الحرية هي بالضرورة في العمل.
68
يسهل إذن نقد الحتمية المثالية. ويكفي في ذلك الطبيعة المفتوحة أو الروح، مثال ذلك الفكر الباطني الفعال، التمييز بين الرغبة والتمثل، والحب والتمثل.
69
وهنا يستعمل الحلول في الحب والفكر وفي علاقة الزمان بالمكان ضد النزعة الخارجية الإلهية في رؤية الله «الخارجي» في اللاهوت العقائدي.
ويمكن إثبات توسط الفعل في البعد الثالث للشعور الديني، الشعور العملي. ورسالته تحقيق معطى الوحي كنظام مثالي للعالم من خلال العمل.
70
في الحياة اليومية، يمكن إثبات الوظيفة التحررية للمعيار، ولكن أي معيار؟ ليس هو المعيار الذي يفرضه اللاهوت العقائدي والذي يريد تحديد حرية الشخص الإنساني وطبيعته، بل المعيار الذي يثبت حياته وشخصيته. لفلسفة الإرادة والقوة أسبابها ومبرراتها في صراعها مع «الآلهة» المزيفة، والنزعة المضادة للعقلانية، والشذوذ، واللادينية، وإرادة القوة، كل ذلك دفاع عن العقل الإنساني والقيمة الإنسانية والوحي والعمل ضد أوثان اللاهوت العقائد. ليست فلسفة إرادة القوة تحللا من كل شيء ، بل على العكس تضم قيما إنسانية، وترجع المغالاة في العرض إلى الانفعال بالكشف، لها قيمتها، ولها أهميتها. أما عدميتها فمجرد طابع خارجي، ينتمي إلى الحضارة الأوروبية، وليس إلى الفلسفة ذاتها.
71
ولا يتم نقد فلسفة إرادة القوة عن طريق العودة إلى الأوثان المحطمة، وليس تصوف العمل طريقا إلى الله، بل هو تحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم، له اتجاهه نحو العالم. واعتماد العمل على معيار لا يحدد مدى اتساع الحرية أو قوة العمل، بل على العكس، المعيار هو طبيعة الشخص ذاته الذي فيه ينبثق العمل، والذي بفضله يتم الحفاظ على الشخص ضد احتمال صورية المعيار. ليست إرادة القوة للمسيحي على وجه الخصوص، بل للإنسان من حيث هو كذلك، ولا تقوم على الخطيئة؛ لأن الإنسان على البراءة الأصلية، بريء بطبيعته، مسئول عن أفعاله الإرادية في الوقت الذي يعي فيه ذاته، ولا يخلص العزاء أحدا ؛ لأن كل إنسان قادر على خلاص نفسه بنفسه، كل إنساني محرر لنفسه. وانقلاب العالم نتيجة لتخلي الإنسان عن رسالته، وليست عقيدة ينتج عنها الاستحواذ على كل شيء في العالم، ليست البطولة خاصية مسيحية فقط بل إنسانية عامة، وليس الشهيد هو الذي يستسلم لقطع رأسه بلا دفاع، بل هو الذي يسقط في ميدان الوغى وساحة القتال.
72
وتمثل البرجماتية خطوة كبيرة فيما يتعلق بالفلسفة على وجه العموم، خاصة فلسفة الدين، وبوجه أخص تصور الله. وتعطي ميتافيزيقا التعددية الأولوية للموضوع وللعالم في تمامه دون خنقه بالمعيار. الحقيقة أثرها. وتعبر الحرية عن نفسها في ركوب المخاطر والسعي نحو الأفضل. الفعل الخلقي هو الذي يغير العالم، أما فيما يتعلق بتصور الله، فالله حال في التجربة، هو افتراض عملي، يمكن استخدامه ليس كشخص بل ككلمة، الله وظيفة في العالم الذي تحركه رسالة الشخص، وتحقيق رسالته في مصيره الخاص.
73
من الصعب نقد البرجماتية؛ لأنها تعتمد على التجربة، التجربة الأولى للحقيقة، والانتقادات التي وجهت إليها مثل وحدة التماثل بين الموجودات تخاطر بفقد المكسب الذي حصلت عليه لصالح العودة إلى الدوجماطيقية المجدبة. وضرورة مقياس مطلق وعقلي للحقيقة يوجد من قبل في المعيار الذي وضعه الوحي دون البحث عنه في اللاهوت العقائدي. الأخلاق الطبيعية هي الأساس الواقعي لأخلاق الوحي دون معارضيها، ويوجد اليقين الديني بين المعنى المفهوم من النص طبقا لمبادئ اللغة ودلالة الخبرة اليومية وتحليلها العقلي، دون أن توجد فقط في الاعتقاد والعقائد، والخبرة في البرجماتية هي أساس اليقين الديني نفسه، ولا يستبعد العمل النزيه العمل بالفاعلية وتحقيق غاية مثالية، ويتجاوز وجود الله اللانهائي خارج التجربة المستوى الإنساني. الكمال مثال إنساني، والمفارقة الوحيدة الممكنة هي مفارقة تجربة الكمال، ويدل عمل الأفضل وعدم الاكتفاء بالواقع على المفارقة الحالة في التجربة الإنسانية. وأخيرا، مشكلة الشر مشكلة زائفة؛ فليس للشر وجود جذري، بل يشير فقط إلى مستويات الوجود.
74
والعمل متمركز حول الله بمعنى أنه تحقيق الوحي، كلام الله، كمشروع في العالم. الله مشروع يتحقق تدريجيا، مشروع العمل والحياة، والشخص والقيمة والعالم والحقيقة . الإنسان إذن قيمة في ذاته، وشدة المعيار رد فعل طبيعي ضد مضمونه الزائف مثل: المنفعة والهوس ... إلخ. الله إذن ليس وحيه، الوحي هو المقاصد الشاملة التي تكون الحياة الإنسانية ويحققها العمل الإنساني.
75
ويعود نقد أخلاق المعيار بعدم الاتساق والضعف إلى نقص في تأويل هذه المقاصد الثاقبة. وللإيمان طابعه اليقيني باستقراء وحدات معاني النص الموحى به ومطابقتها مع دلالات الخبرات في الحياة اليومية، والشعائر الوحيدة الممكنة هي شعائر الوعي، شعائر القصد والعمل.
76
وتوسط الكنيسة زائد سطحي ولا محل له؛
77
فلفظ «كنيسة» ليس لفظا فلسفيا، وليس في متناول الجميع، كما أنه يشير إلى مؤسسة تاريخية خاصة وليس إلى معطى الوحي، وهو أساسا نص. صحيح يمكن فهم الكنيسة كتوسط، ولكن التوسط يوجد من قبل في الشخص الذي يشير بدوره إلى الوعي الديني في الوحي كوعي تاريخي، وإلى المعرفة في الوعي النظري، وإلى الفعل في الوعي العملي. يمكن فهم الكنيسة كتجربة مشتركة، معرفية وواقعية؛ فللآخر دور في المعرفة والوجود. الشخصانية الاجتماعية حقيقة إنسانية، يمكن من خلالها فهم هذه التجربة المشتركة، الكنيسة كمؤسسة ليست توسطا لا في الوعي التاريخي في بحث الصحة التاريخية للنص ، ولا في الوعي النظري لفهم معنى النص، ولا في الوعي العملي لتحقيق معنى النص كنظام مثالي للعالم. النقد التاريخي وحده يستطيع تحديد الصحة التاريخية للنص، والمبادئ اللغوية وحدها والتحليل النظري للتجارب اليومية تستطيع فهم معنى النص، والعمل وحده يستطيع تحقيق الكلام الإلهي على الأرض. ليست الكنيسة مشكلة، الكنيسة المرئية موضوع لعلم الآثار ولتاريخ الفن وللتاريخ الاقتصادي والسياسي للبلد الذي يوجد فيه، والثقافة المنتشرة فيها، والكنيسة اللامرئية هي الوعي الفردي والجماعي الذي يشعر بها كل فرد دونما حاجة إلى «تخارج» في مؤسسة ما.
78
وتقلبات المشكلة تبين بوضوح جهة الإصلاح والنهضة من أجل أنسنتها، مثل العودة إلى الكتاب وليس إلى التراث، وهو الكنيسة، العودة إلى الطبيعة والحياة البسيطة وليس إلى النص المدون، ونشأة النقد التاريخي، وحرية الفكر والفهم والشرح والتفسير والتأويل، وتحولها إلى كنائس وطنية متعددة الثقافات وليست كنيسة رومانية واحدة، وإثبات الشخص الإنساني. وقد تم الحصول على هذه المكاسب ضد دين المؤسسات.
79
ولا يؤكد تاريخ علم النفس أو تاريخ الفلسفة على الإطلاق ضرورة الكنيسة، بل على العكس من ذلك؛ إذ يبين التاريخ أن التقدم نفسه داخل الكنيسة يأتي من الانتقادات من خارجها، كما يثبت علم النفس استقلال الشخصية الإنسانية ووجودها الذاتي، كما تؤكد الفلسفة حرية الفكر.
80
الكنيسة المرئية ميراث العقلية الرومانية،
81
وظائفها هي نفس الوظائف التي أعطيت لخدام المعابد الرومانية، وتنتمي الطقوس العيانية إلى مظاهر العبادة التي هي بطبيعتها خارج فعل التدين كفعل للشعور. العبادة الشعورية هي العبادة الوحيدة الممكنة؛ فالفعل هو الفعل الواقعي في العالم، وليس مجرد فعل الإيماء الرمزي. ووظيفة الفقيه العياني، أي رجل الكهنوت، يقوم بها رجل العدالة العلماني كما هو الحال الآن، والوظيفة الروحية ليست قاصرة على رجل الدين، بل تمتد إلى كل عالم ضليع بالدين خاصة الشريعة. والأخلاق العيانية للكنيسة أخلاق تاريخية خالصة، في حين توجد الأخلاق الروحية في بداهة الشعور، ولم تنتج الكنيسة النزعة الإنسانية أو الحضارة، بل كانت من آثار الإنسانيين في عصر النهضة، وتظل الكنيسة منبعا لعديد من الأعمال الإنسانية ليس كفعل بل كرد فعل، هي سببه. وتستمد سلطتها الفعلية من سلطة الدولة ومن المصالح المشتركة بينهما، في حين أن سلطتها الروحية في وعي كل شخص،
82
والكنيسة الشخصية ليست في حاجة؛ لأن تسمى كنيسة حتى لا تختلط بالكنيسة التاريخية، إنما تشير إلى الجماعة الإنسانية التي يوجد فيها الشخص دون أن ينتظم في أي مؤسسة تاريخية، ومهما كانت النظريات التي تبرر وجودها عقلية أو إرادية أو شخصانية، ومهما كانت وظائفها الوجودية أو المثالية تظل دائما حالة في الشعور الفردي؛ فالشخص وحده هو القادر أن يعطي نفسه وظيفة التقديس.
83 (5) المساهمة الضئيلة للمنهج الظاهرياتي
84
ووضع فلسفة التوسط ثانوي؛ إذ تتداخل مع التاريخ وعلم النفس في مجموع يكون الدراسة التاريخية للظاهرة الدينية، والظاهريات علم مستقل بذاته، تتضمن علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ. هناك ظاهريات التاريخ من أجل النقد التاريخي، وظاهريات اللغة من أجل الفهم النظري، وظاهريات العمل من أجل التحقيق العملي، والطابع القصدي للوحي كمعطى جزء من التحليل النظري له أثناء عملية الفهم.
85
وتستعمل الظاهريات طبقا للحاجة، وتستخدم لنقد الظاهريات التي سميت التجريبية للدين؛ لأن الظاهريات أقرب إلى الفهم منها إلى الشرح.
86
ولا تستطيع الظاهريات أن تبدأ بدون التجربة، فتنقد النظريات التجريبية بالتجربة. وتثبت فلسفة الدين القائمة على «معنى المطلق» بالتجربة كما تقتضي بذلك الظاهريات؛ ومن ثم تستعمل الظاهريات فقط عندما يتم الاستفادة منها، فإذا أكدت المثالية الذاتية الوجود الذاتي الخالص لموضوع ما، وهو ما لا يفضله كثيرا اللاهوت العقائدي، تستعمل الظاهريات لإثبات الوجود المثالي والموضوعي للموضوع في نفس الوقت.
87
وأحيانا تذكر الظاهريات الترنسندنتالية أو الوجدانية فقط كتيار في تاريخ الفلسفة في البحث عن المصادر التاريخية للحدس،
88
كما تذكر كفلسفة في الدين مع باقي الفلسفات الأخرى.
89
وظاهريات الدين أساسا ظاهريات تقنينية تشريعية، وصفها لما هو كائن هو في نفس الوقت وصف لما ينبغي أن يكون. في النقد التاريخي، البحث عن تكوين النصوص المقدسة هو في نفس الوقت بحث فيما حدث في الماضي، والبحث في النص الأولى الأصلي الذي عليه نسجت باقي النصوص، والدليل على ذلك منهج تاريخ الأشكال الأدبية، وفي الفهم النظري، تفسير النص هو في نفس الوقت تفنيد للعقائد التي بنيت بإهمال شديد لمبادئ الاشتباه اللغوي؛ أي تفسير ما كان ينبغي أن يكون، ومن أجل التحقيق العملي يكون وصف مشروع تحقق معطى الوحي كنظام مثالي للعالم، في نفس الوقت إدانة للعقائد التي تفهم وكأنها غايات في ذاتها.
90
ولا تحتاج ظاهريات الدين إلى مؤسسات لأن الظاهريات الترنسندنتالية نفسها تقوم على نظرية في الحدس، ولا ينقصها المعنى الروحي للدين؛ لأنها أساسا حدس ديني عميق كما ظهر ذلك في تأويل الظاهريات، وبالرغم من مراحلها الرياضية والمنطقية والفلسفية والحضارية، ولا تصنف الظاهريات مع النظريات المسماة تجريبية؛ لأنها بالرغم من أنها تبدأ بالتجربة فإنها تريد إدراك ماهيتها كموضوع مثالي مستقل.
91
وقد صنفت المثالية الظاهراتية في ملحق نشوء الدين في الفلسفات المعاصرة تحت عنوان الشرح النظري.
92
والمثالية الظاهراتية ليست شرحا نظريا بل هي فهم للتجربة، كما يتطلب الشرح في العلوم الإنسانية منهجا نشوئيا ينتمي إلى علوم الطبيعة، في حين يقتضي الفهم منهجا نظريا، ونموذجه المنهج الظاهرياتي. ينتمي إلى علوم الروح؛ أي العلوم الإنسانية، كما تم تصنيف المثالية الظاهراتية مع الحتمية الوضعية كتأمل شارح! وهكذا تصنف الظاهريات تحت نظرية تعارضها الظاهريات! وتعتبر كفرع نظرية تتكون من نظريات خمس أخرى، في حين أن الظاهريات هي العلم الأساسي لكل النظريات الفلسفية؛ لأنها نظرية النظرية.
ثانيا: فلسفة التصور1
فلسفة الدين القائمة على التصور أحدث وأكثر كثافة من فلسفة الدين القائمة على التوسط، وتتسم أيضا بعدم الاتساق في تصنيف المناهج، ونقص تحديد مسبق للفلسفة والدين، والهدف الوعظي الواضح حتى في نقد المنهج الظاهرياتي.
2 (1) الخلط بين المنهج والنظرية والاتجاه
3
والمناهج المحصاة؛ منهج التفسير، منهج المجابهة، ومنهج التوقع، ومنهج الفهم، ومنهج الفصل، ليست مناهج بحث، بل نظريات فلسفية تم تطبيقها في الدين؛ فمنهج التفسير نظرية فلسفية قائمة على حكم مسبق طبيعي يظهر في التفسير البيولوجي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي للدين، وكل النظريات اتجاهات علية.
4
أما النظريات الفلسفية للحلول والواحدية فليست على الإطلاق تفسيرات للدين، بل فهم لدلالته مع مدها إلى الحد الأقصى.
5
التفسير اتجاه مادي في حين أن الفهم تيار مثالي، وإن لم يكن المنهج نظرية فإنه لا يكون أيضا اتجاها، أصبح المنهج وعيا بمجموعة من الخطوات يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة، في حين أن النظرية تدعي أنها الحقيقة ذاتها. الاتجاه ليس إلا توجها بسيطا في نظرية مكتملة؛ فكل المناهج المحصاة في فلسفة الدين نظريات أو اتجاهات من العلوم الإنسانية كما تمت صياغتها في كل عصر، وللمنهج قواعد للتطبيق، أما النظرية أو الاتجاه فلا.
6 (2) عدم الاتساق في تصنيف المناهج
7
وبسبب غياب تحديد مسبق للفلسفة والدين في الحضارة الأوروبية لم يتم الكشف عن هذه الأنواع الثلاثة؛ ومن ثم فإن تصنيف المناهج إلى منهج تفسير، ومنهج مجابهة، ومنهج توقع، ومنهج فهم أو منهج فصل ليس متسقا، ومنهج التفسير منهج نشوئي مستعار من العلوم الإنسانية، ومنهج الفهم هو المنهج المقابل ومستعار أيضا من العلوم الإنسانية، والتفسير والفهم منهجان متعارضان، والثاني رد فعل على الأول. ومنهج المجابهة ليس منهجا بل هو مشكلة العلاقة بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل كما يتم تصورها في فلسفة الدين من النوع الأول؛ أي فلسفة الدين كتبرير متبادل بينهما، تبرير الفلسفة للدين وتبرير الدين للفلسفة.
8
ومنهج التوقع أو الاستباق هو في الواقع تحول المعطى الديني في مطلع العصور الحديثة إلى قبلي، وهي صورة واحدة لهذا التحول لجانب واحد في الدين للنوع الثاني، وهو فلسفة الدين كتحول ثم كنقل، وأخيرا منهج الفصل هو منهج للبحث ينتمي إلى فلسفة الدين من النوع الثالث، وهو فلسفة الدين كبحث.
وهكذا قسمت فلسفة الدين الواحدة إلى عدة مناهج دون وجود وحدة القصد.
9
ومن السهل التمييز بين الأنواع الثلاثة لفلسفة الدين: التبرير، والنقل، والبحث. فلسفة الدين كتبرير هي الأنساق اللاهوتية الكبرى، الفلسفة فيها ليست إلا أداة للعمل، ومفاهيم للعرض، ولغة للتعبير. وليست على الإطلاق علما مستقلا قائما بذاته، وكل دراسة فلسفية على مثل هذه الفلسفة للدين لا تأخذ إلا المظهر والغطاء الخارجي،
10
في حين أن فلسفة الدين كنقل هي تغطية للمذاهب الفلسفية بمد المذهب نفسه على الدين، والمذهب الفلسفي نفسه تحول لجانب واحد للمعطى الديني، فقد تحول الدين إلى فلسفة، ثم استعملت الفلسفة أي الدين المتحول كأساس مباشر للدين.
11
وأخيرا تأتي فلسفة الدين كبحث خليطا من الأولى والثانية؛ لأنه لم يتم تحديد العلاقة مسبقا بين الفلسفة والدين؛ لذلك لم تستطع فلسفة الدين التمييز بين أنواعها المختلفة بالرغم من اختيارها منهج الفصل، ولم تكن فلسفة الدين في صورة اللاهوت العقائدي، على نفس مستوى فلسفة الدين التي توجت المذاهب الفلسفية الكبرى في العصور الحديثة، وهاتان الفلسفتان للدين، النوع الأول والنوع الثاني، ليستا على نفس مستوى النوع الثالث؛ أي فلسفة الدين عند الباحثين.
12
ويظهر أيضا عدم الاتساق في تصنيف المناهج في مقاييس التصنيف، فلا يوجد الحكم المسبق الطبيعي، وهو أساس منهج التفسير في كل الاتجاهات الفلسفية التي يعزى إليها هذا الحكم المسبق، يوجد فقط في الاتجاه العلي في التفسيرات البيولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية للظاهرة الدينية،
13
ويوجد في علوم الطبيعة، ولا يوجد في الاتجاه الحلولي، ولا في الاتجاه الواحدي، بل ينتمي الاتجاهان إلى المثالية، كما أن هذين الاتجاهين في الواقع هما اتجاه واحد، هي المثالية.
14
وتبين بوضوح المقاييس الموضوعية الغرض الوعظي نسبيا من التصنيف، ويقوم منهج التفسير على حكم مسبق طبيعي، كما يقوم منهج التوقع على خداع صوري. وفي مقابل ذلك، يقوم منهج المجابهة على افتراض ثنائي بسيط، ليس حكما مسبقا ولا خداعا بل مجرد افتراض. وتحت هذا الافتراض توجد فلسفة الدين من النوع الأول؛ أي فلسفة الدين كتبرير. ومن ناحية أخرى، يقوم منهج الفهم ببساطة على الوصف الظاهرياتي دون تسميته كحكم مسبق، كخداع أو كافتراض؛ لأنه العلم الذي تزعم فلسفة الدين الانتساب إليه بين الحين والآخر. والحقيقة أن منهج الفصل القائم على التحليل النظري النقدي لا يقوم على أي افتراض أو خداع؛ لأنه المنهج الذي تقوم عليه فلسفة الدين.
وتصنيف مناهج البحث ليس فقط غير متجانس ومختلط، ولكنه أيضا غير كامل؛ فلم يذكر المنهج التاريخي الذي له باع طويل في البحوث الدينية على الإطلاق، مع أنه المنهج الأكثر استعمالا والأعظم خطورة، لم تدرك أهميته لأن فلسفة الدين تنهل مادتها من الدوجماطيقية التاريخية، وكان طبيعيا أن يكون التاريخ مصدرا يعطي المادة الأولى للبحث؛ لذلك تم الصمت على المنهج التاريخي دون مقارعته، كما تمت مقارعة النظريات الفلسفة للحلول وكأنها مناهج. والمنهج التاريخي المقصود هنا ليس هو المنهج المطبق في النقد التاريخي، وهو أساس الاتجاهات التحديثية، بل هو المنهج المطبق في اللاهوت العقائدي، وهو أساس الاتجاهات الأكثر تقليدية، المنهج التاريخي المقصود هنا نتيجة اعتبار الحوادث التاريخية وكأنها هي العقائد، يعني فقط تاريخانية اللاهوت العقائدي.
15 (3) الاشتباه في تصنيف الاتجاهات
16
ولا يوجد فقط عدم اتساق في تصنيف المناهج، بل يوجد أيضا اشتباه في تصنيف التيارات داخل كل منهج؛ إذ يقوم منهج التفسير على حكم مسبق طبيعي إذا كان منهجا نشوئيا فقط دون أن يقابله منهج الفهم النظري، ولم يتم رفضه لأنه يعطي تفسيرا شاملا للدين؛ لأن الدين نفسه تفسير شامل، بل لأنه يقوم على النزعة الطبيعية، وفي الاتجاه الطبيعي يكون التمييز بين النزعة الطبيعية المغلقة والنزعة الطبيعية المفتوحة ضروريا، في النزعة الطبيعية المغلقة الطبيعة محكومة بقوانين ضمنية، وهو ما يتناقض مع الطبيعة ذاتها التي تتضمن القفزات والطفرات والانقطاعات وعدم القدرة على التنبؤ وفردية الموجودات، في حين تقبل الطبيعة المفتوحة كل ما تقدمه الطبيعة من حتمية ولا حتمية، وتواصل وانقطاع، والقدرة على التنبؤ وعدمها، والعمومية والفردية. وباستعمال المصطلحات الشائعة في اللاهوت، يمكن التحقق من وجود الطبيعة والفضل في الطبيعة المفتوحة. وفي الحلول، هناك تمييز ضروري بين نوعين من الحلول، الحلول المثالي والحلول المادي، باستعمال لفظين من اللغة الفلسفية الشعبية، والحلول في الفلسفة المثالية يبرز الفكرة في حين أن الواقعة مجرد تمثل، الحلول في المثالية إثبات لواقع واحد هو الفكر،
17
في حين أنه في الحلول في الفلسفة المادية، أي النزعة الطبيعية المغلقة، تبرز الواقعة. والفكرة مجرد إحساس، وتثبت واقعا واحدا وهو المادة.
18
والظاهرة الدينية بالمنهج الظاهرياتي ظاهرة حالة بالمعنى الأول للحلول، المعنى المثالي. ويستطيع منهج التفسير، متكاملا مع منهج الفهم، أن يكون اتجاها حالا مثاليا، والظاهريات فلسفة حلول تظهر فيها المفارقة أي الماهيات الخالدة، ومثل الحلول تتضمن الواحدية أيضا نوعين متميزين، واحدية مثالية وواحدية مادية، باستعمال نفس الفلسفة الشعبية؛ الواحدية المثالية هي واحدية الحلول المثالي، تضع مبدأ واحدا كأساس أو كذروة الفكر، ويسمى هذا المبدأ المطلق أو الروح، في حين تفترض الواحدية المادية مبدأ واحدا هو مصدر الفكر، ويسمى المادة أو المجتمع أو ما تحت الشعور، ويمكن تفسير الظاهرة الدينية وفهمها في الواحدية المثالية التي تعتمد عليها الوحدة الإلهية، كما توجد علل متعددة في الاتجاه العلي، والاتجاه العلي بالمعنى الدقيق ليس تفسيرا للظاهرة بعلة مادية، بل يفترض أن الظاهرة ظاهرة مادية تفسر نفسها بنفسها، ومع ذلك ليست العلة المادية هي العلة الوحيدة، وباستعمال نظرية قديمة توجد بجوار العلة المادية العلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية؛ فالاتجاه العلي لا يقوم فقط على العلة المادية، ولكن قد يقوم على العلل الثلاثة الأخرى؛ الصورية أو الفاعلة أو الغائية، فإذا لم تفسر الظاهرة الدينية بالعلة المادية، وهو الاتجاه العلي بالمعنى الدقيق، يمكن فهمها بالعلة الفاعلة أو بالعلة الغائية، والفاعلية أحد معاني الحقيقة التي تعني أيضا الصحة التاريخية لنص الوحي أو تطابق معنى النص مع الخبرة اليومية، وتستطيع الغائية أيضا أن تساعد على فهم العمل الإنساني بتحقيق الوحي المعطى كنظام مثالي للعالم. (4) نقص التمييز بين الأنواع الثلاثة في فلسفة الدين
19
ومنهج المواجهة ليس منهجا، بل مشكلة العلاقة بين الدين والفلسفة في فلسفة الدين من النوع الأول؛ أي فلسفة الدين كتبرير. وإذ أمكن تقسيم منهج التفسير القائم على الحكم المسبق الطبيعي إلى اتجاهات، فإن منهج المجابهة عصي على أي تقسيم متسق؛ لأنه هو المشكلة القديمة لعلاقة الدين بالفلسفة. ويتضح ذلك في الافتراض الثنائي الذي يقوم عليه منهج المجابهة، وإذا كان الخطأ الأساسي في فلسفة الدين هو عدم التحديد المسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين؛ وبالتالي عدم رؤية الأنواع الثلاثة في فلسفة الدين؛ تبرير الدين بالفلسفة كما هو الحال في الفلسفة المدرسية،
20
وتحول الدين ونقله إلى الفلسفة كما هو الحال في بدايات العصور الحديثة والبحث عن فلسفة للدين، كما هو الحال في العصر الحاضر، فإنه كان بالإمكان سد هذا النقص إذا تم تأسيس منهج المجابهة القائم على الافتراض الثنائي على أساس تاريخي رصين. وما يثير الدهشة هو أن الاتجاهات الثلاثة في منهج المجابهة: الإيمان والعقل في الفلسفة المدرسية، لعبة النقل التفسيري واكتشاف المتطلبات العقلية للإيمان، والاتجاه المزدوج لفلسفة العمل،
21
هي نفسها الأنواع الثلاثة لفلسفة الدين: تبرير الدين بالفلسفة، ونقل الدين إلى الفلسفة، والبحث عن فلسفة للدين. والواقع أن منهج المجابهة يعترف بالاختلاف بين الدين والفلسفة بين عدة اتجاهات؛ الأول يقر بأن الخطيئة الأصلية أفسدت العقل، وأن الإيمان وحده قادر على إرجاعه إلى كماله؛
22
فالإيمان يصحح العقل، وهذا الموقف في الواقع ليس إلا تبريرا مقنعا للدين، وهو إسقاط الإيمان بالفلسفة عمل العقل. والإنسان على البراءة الأصلية، وهو مسئول بمفرده عن أفعاله المكتسبة، عقله سليم، والبداهة يقينية وثابتة، أما الضعف، ضعف الإرادة، ونقصها؛ فإن كل ذلك ينتمي إلى الوجود وليس إلى المعرفة وليس إلى خطيئة أولى يتهم بها الإنسان. ويمكن أن يقوم معطى الوحي، مصدر الإيمان، بدور القبلي في المعرفة، ويستخدم كشعاع من صورة الشعور إلى مادته في الإدراك، ويقابل شعاعا آخر من مضمون الشعور إلى صورته.
23
الأول من الذات إلى الموضوع، والثاني من الموضوع إلى الذات، وكلاهما بعدان للشعور القصدي، ويقوم العقل بدور التحليل النظري القائم على خبرات الحياة اليومية، ويكون الإيمان والعقل والواقع هذه الميادين الثلاثة التي ترتبط بها البنية القبلية لمعطى الوحي، وهي الوحي والعقل والواقع؛ ومن ثم فإن إعادة بناء العقل بالإيمان ليس إلا تبريرا للإيمان بالعقل، وهو ما كان سائدا في العصر المدرسي، يضع منهج المجابهة خطا فاصلا بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، ويعتبر اللاهوت علما مقدسا بحيث يصبح هو الدين ذاته، يحكم اللاهوت على كل شيء، طبقا لمعطيات الوحي من المنظور الصوري للإيمان، في حين تحكم الفلسفة على الأشياء في ذاتها من المنظور الصوري للعقل،
24
هذه الطريقة في المجابهة هي على وجه الدقة ثنائية مقصودة لتبرير الدين، وتخصيص موضوع ومنهج له مختلفين عن موضوع الفلسفة ومنهجها، وتنتمي نظريات المجابهة إلى فلسفة الدين من النوع الأول؛ أي تبرير الدين بالفلسفة.
ولعبة النقل التبريري واكتشاف المضامين العقلية للإيمان هي تحول بعض جوانب الدين إلى الفلسفة، ثم نقل هذا الجانب ومده إلى مجموع الإشكالات الدينية. أليس الكوجيتو، أي الوعي بالذات كواقعة أولى بديهية، تحولا للموعظة على الجبل؟ أو عبارة «ما قيمة أن يكسب الإنسان العالم ويخسر نفسه؟» هذا هو تحول أحد جوانب الدين، وهو الجانب الداخلي، إلى الفلسفة، ثم يصبح الكوجيتو بعد ذلك طريقا إلى المفارقة الإلهية قبل أن يكون طريقا إلى خلق العالم؛ ومن ثم نقل الدين كله ابتداء من هذا التحول الأول لجزء منه، ثم أصبح علما فلسفيا عقليا شاملا وإنسانيا.
25
وفي الفلسفة النقدية، القبلي والبعدي تحول لأحد جوانب المعطى الديني، الإيمان والعقل وفهمها على نحو عقلي، الإيمان هو ما يعطي من قبل، والعقل ما يعطي من بعد. وابتداء من هذا التحول نقل الدين كله باعتباره أخلاقا عملية بالنسبة لفلسفة المعرفة النظرية.
26
وبعد تحول الإيمان إلى قانون أخلاقي نقل الدين كله كحضور مبدأي الخير والشر في الإنسان، والصراع بينهما، وانتصار الخير على الشر وسيطرته عليه.
27
وفي المثالية المطلقة، الجدل تحول عقيدة تاريخية، وهي عقيدة التثليث، ثم نقل الدين كله عن طريق هذا الجدل الثلاثي كمعرفة مطلقة. وتم نفي الدين الطبيعي ثم إثباته كدين مطلق أو كدين يتجلى، وقد تحقق هذا في ملكوت الأب ثم الابن ثم الروح القدس.
28
وأخيرا، فلسفة الحدس أيضا هي تحول لمشكلة الإيمان والعقل إلى ثنائية الحدس والعقل،
29
وإذا كان الوحي يتجاوز العقل في العصر المدرسي، فتلك مهمة الحدس في فلسفة الدافع الحيوي. وإذا كانت الفلسفة النقدية قد حولت من قبل نفس السؤال في صورة عقلية، فإن فلسفة الخلق تنقل نفس السؤال في الواقع. وإذا كان المثل الأعلى في الفلسفة النقدية الرياضيات أو الفيزيقا، فإن فلسفة الطاقة الروحية كان لها جذورها في العلوم الطبيعية خاصة علوم الحياة.
وكان الاتجاه المزدوج في فلسفة العمل، بالرغم من مظهرها المستقل عن الفلسفة المدرسية أو فلسفة الدين، مجرد تبرير للدين بالفلسفة.
30
فالواقع أن وجود فلسفة مستقلة ابتداء من المسيحية أمر ممكن ابتداء من نقد الموضوع الديني؛ ومن ثم يتعامل النقد الفلسفي على أرضية المعطى الديني، وقد اختير منهج الحلول من أجل البحث عن تحديد سلسلة شروط تحقق العمل على مستوى مثالي، والواقع لم يكن الحلول إلا خطوة إلى الوراء لإثبات المفارقة المفترضة مسبقا، لم يكن العمل إلا «تجويفا» في الوعي يظهر فيه الله، ولم تكن الحرية إلا الفضل وهو يعمل. وباختصار كان الطبيعي أول تجل لما يفوق الطبيعة؛ ومن ثم لا تتعدى فلسفة العمل نوعا من التقريظ الرفيع للدين المسيحي. صحيح أنه لا يسمح بمجابهة بسيطة بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، ولكنه يبحث عن الموضوع الديني ذاته بمساعدة التحليل المباطن للعمل. وتأخذ فلسفة الدين من النوع الأول كتبرير للدين بالفلسفة بنقلها إلى فلسفة للدين من النوع الثالث؛ أي فلسفة الدين كبحث. وهكذا استمد منهج التفكير والنقد الذي انتهى إلى فلسفة دين من النوع الثالث؛ أي كبحث من فلسفة العمل. (5) ضرورة تحديد مسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين
31
وقبل صياغة فلسفة الدين فإنه من الضروري أولا تحديد العلاقة بين الفلسفة والدين في الفكر والتاريخ، وفي فلسفة الدين وحتى الآن لم تحدد العلاقة بينهما بوضوح؛ فإذا ما تحددت هذه العلاقة مرة واحدة وإلى الأبد، يتضح عديد من المسائل الأخرى، مثل العلاقة بين الجمال والأخلاق وكل العلوم الإنسانية والدين، كما تتضح أيضا نشأة العلم.
تخضع فلسفة الدين إلى الجدل بين الدين والفلسفة؛ فالفلسفة ليست إلا نقل الدين إلى المستوى العقلي الخالص ثم استعادة الدين من أجل إنارته إنارة عقلية كاملة، والظاهريات نفسها نموذج لذلك؛ فهي حدس ديني عميق في بدايتها بالرغم من المظاهر المعارضة بالنسبة لمصادرها الرياضية المنطقية، ثم تستعيد الظاهرة الدينية في النهاية كما تشهد على ذلك المخطوطات،
32
وتصبح فلسفة الدين مجرد تجاور بين الفلسفة والدين إن لم تتحدد العلاقة بينهما أولا، وتبين بوضوح المقولات والمخططات، وهي موضوعات فلسفة الدين، هذا التجاور، المقولات هي التصورات العامة، والمخططات هي التصورات الفلسفية، لو تم تحديد العلاقة مسبقا بين الفلسفة والدين في فلسفة الدين لتم اكتشاف إشكال واحد يعبر عنه بلغتين مختلفتين. المطلق والمفارقة شيء واحد، والذات والنفس أيضا شيء واحد، والفضل والخارق للعادة متشابهان ... إلخ، وكل لغة لها مستواها، المقولة على المستوى الإلهي في حين أن المخطط على المستوى الإنساني، ونظرا لأن العلاقة بين الدين والفلسفة لم يتم تحديدها من قبل أولا، تجاورت المقولات والمخططات دون رؤية اختلاف اللغتين للتعبير عن شيء واحد على مستويين مختلفين، ولو تم التعرف في فلسفة الدين على المعطى الديني في «الجهاز الحضاري» لأمكن إدراك العلاقة بين فلسفة الدين والعلم،
33
ولو تم تحديد مسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين لسمح ذلك باكتشاف وحدة إشكالهما، واختلاف لغتهما ومستوييهما، ولأمكن إدماج العلم، وتحديد العلاقة مرة واحدة وإلى الأبد بين الدين والفلسفة والعلم؛ مما يسمح في نهاية المطاف برؤية بنية الحضارة الأوروبية وتطورها كلها، والواقع أنه نتج عن غياب هذا التمييز بين الأنواع الثلاثة لفلسفة الدين، كتبرير ونقل وبحث وضع الأنواع الثلاثة على نفس المستوى، وكما حدث ذلك في منهج الذوق القائم على الخداع الصوري، واعتبار الإيمان كمعطى قبلي ليس خداعا صوريا على الإطلاق، كان من الطبيعي تحول الدين إلى أخلاق عملية للإرادة الخيرة، ثم نقلها كلية إلى مبدأ الخير في عصر كانت الرياضيات نموذج اليقين والأحكام فيه، وكان الدين كأخلاق عملية قد تمت دراسته من قبل، وعن حق في لعبة النقل في منهج المجابهة القائم على الافتراض الثنائي، ولا يمكن دراسته وتصنيفه من جديد مرة ثانية في منهج التوقع القائم على الخداع الصوري. «الدين في حدود العقل وحده» فلسفة دين من النوع الثاني؛ أي التحول ونقل الدين إلى فلسفة، وكانت هذه سمة المذاهب الفلسفية الكبرى المتوجة بالأخلاق، وهو الدين المنقول، وبفلسفة في الدين. وليس التحليل الترنسندنتالي للمقدس،
34
ولا الشروط القبلية للدين الوضعي،
35
ألعاب نقل؛ فليس للأول أو للثاني مذهب فلسفي متوج بفلسفة في الدين.
36
ومن ناحية أخرى، فلسفة الدين المسماة «التحليل الترنسندنتالي للمقدس » هي في الواقع منهج التوقع دون أن تكون قائمة على الخداع الصوري على الإطلاق،
37
هي في الواقع فلسفة توسط، والوحي توسط رفيع، بعد توسط المعرفة وتوسط الفعل، وتوسط الشخص، وتوسط الكنيسة. هي من نفس نوع فلسفة الدين نتيجة منهج التحليل النظري النقدي، والفلسفتان تفكيران جديدان في الدين كوعظ رفيع، ولكنهما ليسا على نفس مستوى فلسفة الدين نتيجة لعبة النقل، ونتيجة الفلسفة النقدية. فضلا عن أن فلسفة التوسط ليست مذهبا ولا تتويجا لمذهب فلسفي كما هو الحال في الفلسفة النقدية، و«الدين في حدود العقل وحده» هي فلسفة دين من النوع الثالث، البحث، ولكن تلحق بفلسفة الدين من النوع الأول، وهو التبرير، ولكن هذه المرة تبرير ضمني ومستتر.
38
وتنتمي فلسفة الدين التي تبحث عن الشروط القبلية للدين الوضعي إلى منهج التوقع؛ لأنها تبدأ من قبل بافتراضات قطعية مثل الخارق للعادة،
39
ومع ذلك لا تقوم على خداع صوري، بل على العكس، هي بحث عياني في شروط العمل، وليست على نفس مستوى الدين المتحول إلى أخلاق عملية ومنقول إلى مبدأ الإرادة الخيرة؛ لأنها لا تكون مذهبا فلسفيا ولا تتويجا لهن يمكن اعتبار فلسفة العمل فلسفة بمعنى المذهب، ولكنها ليست من نفس نوع المذاهب الفلسفية في بدايات العصور الحديثة. والواقع، لا يوجد أي بحث في الشروط القبلية للدين الوضعي؛ لأن كل شيء تم افتراضه من قبل، هي فلسفة من النوع الأول، وترجع إلى الفلسفة المدرسية التي تبرر الدين بالفلسفة، هذا صحيح؛ فقد تم تحليل نفس الفلسفة في منهج المجابهة القائم على الافتراض الثنائي، وهو المنهج الذي نتجت عنه فلسفة الدين من النوع الأول، وهو التبرير.
والتمييز بين أنواع عديدة من فلسفة الدين ضروري؛ إذ يرجع الخلط الحالي في فلسفة الدين إلى نقص هذا التمييز. أولا: كانت فلسفة الدين في العصور الحديثة دائما اكتمالا للمذاهب الفلسفية؛ فقد تم تتويج كل مذهب بالدين.
40
فلسفة الدين في المذاهب الفلسفية الكبرى مرتبطة أشد الارتباط بالمذهب نفسه. ثانيا: استخدمت فلسفة الدين حيث كانت الفلسفة في العصر المدرسي دائما هي الفلسفة القديمة كوعاء للدين، كان الهدف فقط إرساء العقيدة على الجانب الأكثر ملائمة، هي مجرد قشرة دون أن تكون فلسفة بالمعنى الدقيق.
41
ثالثا: فلسفة الدين عند الباحثين،
42
ويغيب عنها كل تحديد مسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين، ويترك كل تحليل في حالة من التردد الكامل. أحيانا يميل التحليل نحو الفلسفة، وأحيانا أخرى نحو الدين؛ فمثلا ليست مشكلة الفلسفة والدين هي نفسها مشكلة إصلاح فلسفة الدين عن طريق الظاهريات، وليست أيضا مشكلة إصلاح الفلسفة عن طريق الفلسفة. فلسفة الدين فهم للدين بعيدا عن كل خلط، وكل عقيدة، وكل تاريخ. هي فهم شامل وإنساني للدين؛ لذلك فلسفة الدين بالأصالة هي التي توجد في العصور الحديثة،
43
في حين أن إصلاح فلسفة الدين هو تصحيح لكل لاهوت جديد تتم صياغته باسم فلسفة الدين،
44
ونقد الفلسفة بالفلسفة هو استمرار في تحول بعض المفاهيم الدينية في صورة عقلية خالصة. مثلا تحولت مشكلة الإيمان والعقل، وهي مشكلة دينية، مرتين؛ مرة في صورة فلسفية وهي مشكلة الحدس والعقل، ومرة أخرى في صورة علمية وهي مشكلة القبلي والبعدي، أو مشكلة الفرض والتحقق، أو الافتراض والتجربة، وظلت المشكلة كما هي عليه، وهي ضرورة وجود مصدرين للمعرفة الإنسانية؛ واحد معطى من قبل، والآخر مكتسب بالنشاط الإنساني ذاته. كما تحولت مشكلة الروحي والزمنى أيضا مرتين؛ مرة في صورة فلسفية وهي المثال والواقع، ومرة أخرى في صورة علمية وهي القانون والواقعة. ويتعلق الأمر هنا بوحدة الفكر والواقع معروضة على ثلاثة مستويات مختلفة بلغتين مختلفتين أيضا، كما تحول الموضوعان الدينيان؛ التجسد والفداء مرتين؛ مرة كمشكلة فلسفية، مشكلة الذهاب والإياب أو النزول والصعود، ومرة ثانية كمشكلة علمية، مشكلة الاستنباط والاستقراء، وهي نفس المشكلة معروضة على مستويين، ومعبرا عنها بلغتين مختلفتين. كما تحولت أيضا المشكلتان الدينيتان، الخلق والبعث، مرتين؛ الأولى فلسفية وهي مشكلة البداية والنهاية، أو الخلق الفني وتحقيق مشروع ما، والثانية علمية وهي مشكلة العلية والغائية، وهي نفس المشكلة معروضة على مستويين، ويعبر عنها بلغتين مختلفتين.
صحيح أن فلسفة الدين متجذرة في حضارة، وكان يمكن هذا أن يدفع إلى فكرة مسبقة، وهو تحديد الصلة أولا بين الفلسفة والدين قبل إجراء أي بحث في فلسفة الدين. وصحيح أيضا أن فلسفة الدين داخلة في الحضارة، ولكن كيف؟ فلسفة الدين ليست في الواقع إلا جزءا من نشاط أوسع، هي مجرد بداية له؛ فهناك العمل العقائدي؛ عمل فلسفة الدين الذي سبقه العمل المنهجي، وهناك العمل العارض لفلسفة العمل، والتي يرتبط بها العمل كله؛ فالمؤلف تلميذ لمؤسسها، وهناك العمل السجالي ضد اللاهوتيين أو الفلاسفة المعاصرين، وهناك العمل الفلسفي نسبيا حول المشاكل الأخلاقية والاجتماعية أو حول حوارات المعاصرين.
45
وتكون فلسفة الدين أحيانا محاولة للسيطرة المباشرة للفلسفة على الدين دون أن تقدم نقدا للدراسات السابقة،
46
ولا يتحقق هذا النوع، وتنضم إلى الدراسات السابقة، يكفي النظر في أسماء الأعلام التي تتجاوز السبعين، حيث ذكر اسم كل مفكر وفيلسوف ولاهوتي وباحث.
47 (6) تبرير اللاهوت العقائدي
48
وقد صنفت بطريقة خاطئة وتأييدا لها تحت عنوان «التحليل الترنسندنتالي للمقدس كاتجاه داخل منهج التوقع القائم على الافتراض الثنائي»، فلسفة أخرى للدين أقل قوة من الميراث الحضاري، ولكن أوضح فكرا،
49
وهي فلسفة التوسط.
50
وكما سبق فلسفة التصورات (المقولات والمخططات) تفكير في المنهج والفكرة لمنهج التحليل النظري والنقدي، فقد سبق أيضا فلسفة التوسط تفكير في المنهج، هو المنهج الواقعي الشخصاني. وإذا كان المنهج النظري والنقدي منهجا أكثر من نظرية، فإن الواقعية الشخصانية نظرية أكثر منها منهج، ومع ذلك يشترك كلاهما في نفس العيب، وهو عدم التحديد المسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين. والواقع أن التمييز في المذهب الحدسي بين النظريات الأساسية والنظريات الدينية ليس تمييزا حاسما؛ لأن كثيرا من النظريات المسماة أساسية هي تحول للنظريات الدينية، ويظهر هذا الخلط في المصدر التاريخي للمذهب الحدسي، وهو خليط من النظريات الأساسية والنظريات الدينية.
51
وقد يصبح تجاوز المذهب الحدسي المثالي أو الوجودي إلى المذهب الحدسي الواقعي والشخصاني خطوة متقدمة نحو اكتشاف الشخص الإنساني، وتبدو الخطورة إذا ما استعملت هذه الخطوة المكتسبة لتبرير لاهوت عقائدي أيا كان، كما حدث ذلك في فلسفة الدين القائمة على التصورات (المقولات والمخططات)، والتي قامت بخطوة متقدمة أخرى نحو نظرية الفعل-القانون، والأنا كخلق ذاتي، ثم فقدت هذه الخطوة من جديد بعد توجهها نحو المفارقة والمطلق؛ أي نحو الدوجماطيقية المستترة، والاتجاهات التركيبية والأنطولوجية هي أكثر اكتمالا ولا شك، ولكن الخطورة اعتبار اللاهوت الدوجماطيقي جزءا من مركب أو إثباتا ألوهيا أيا كان أو معيارا أنطولوجيا.
52
صحيح أنه يمكن نقد المذهب الحدسي، فإذا ما أعطيت الأولوية إلى الوجود والحدس والحرية والشخص والجماعة فإن نقده يقوم على تضايف الوجود والماهية، والحدس والجدل، والحرية والضرورة، والشخص والجماعة، وأيضا مع أساسها الأولى، وإذا أخذ الطريق الثاني: الماهية، الجدل، الضرورة، والأساس الأول كدليل إثبات ألوهي مستتر، ففي هذه الحالة لا يسمح هذا الإثبات التجريبي تقريبا للتضايف بهذه النتيجة، تثبت التجربة الماهية في المصير الإنساني وفي رسالة الشخص دون استنتاج موجود ضروري مالك للماهيات الإنسانية. التشابك أيضا تجربة إنسانية يومية فردية وجماعية، ولكنها لا تسمح بإثبات جدل قد ينتهي إلى إثبات ألوهي أيا كان، وفي الفعل الإنساني يوجد بجوار القصد الرغبة وإرادة العوامل المساعدة الخارجية كالمصادفة والحظ، وللزيادة غير المتوقعة للقوة، والانفعالات الوقتية. وهذا الإثبات أقل من إثبات ضرورة ترى كل شيء وتحدده، صحيح أن الشخص والجماعة حقائق بديهية يتم الشعور بها في كل لحظة في الوجود، ولكن وضع أساس أولي كحامل لهذه الوقائع هو ما يتجاوز حدود التجربة.
ويمكن أيضا نقد النظريات الدينية في الحدس، وأحيانا يكون النقد صائبا وأحيانا أخرى خاطئا؛ فالحركية العدمية ليست قبليا عقائديا. هناك عدمية حركية مثل إرادة القوة، تؤكدها التجربة. ويمكن لنقد العدمية كقبلي أن يحل محلها قبلي آخر من اللاهوت العقائدي، والحركية الإيمانية ليست أيضا ذاتية؛ لأنها تجد موضوعيتها في خلق الموضوع من الشعور ذاته، صحيح أنه يمكن البحث عن نشوء صحيح للإيمان دون الوقوع مع ذلك في أي مذهب للتأليه، ويمكن الحصول أيضا على فعل الإيمان الوجودي الموضوعي دون الاعتماد على أي موضوعية خارجية مصدرها الألوهية أيا كانت، وجدل الخطيئة أساسا عقيدة من اللاهوت العقائدي، في حين تؤكد الخبرة اليومية تجارب التوبة وتأنيب الضمير ... إلخ، دون أن يكون فعلا ضروريا محددا سلفا.
53
صحيح أن الحب له طرقه إلى الذات وإلى الآخر وإلى العالم دون أن يتجه بالضرورة نحو إله أيا كان. وأخيرا، التجربة الصوفية حقيقة واقعة تثبتها التجارب المشابهة، مثل التجربة الجمالية والتجربة الميتافيزيقية والتجربة الأخلاقية، دون أن يكون لها بالضرورة طبيعة تقود إلى إثبات ألوهي أيا كان. وباختصار، كان الهدف من نقد النظريات الفلسفية والدينية التمهيد للإثبات الألوهي كما هو الحال في اللاهوت العقائدي. وحتى إذا كان النقد الموجه إلى الحديث الفلسفي أو الديني خاليا من أي إثبات ألوهي، فإن الواقعية الشخصانية التي يقود إليها تستحق التقدير مقارنة باللاهوت العقائدي النسقي اللاشخصي. صحيح أن ميتافيزيقا واقعية كحقيقة خالصة مأمول فيها، أما إذا كانت هذه الواقعية إسقاطا من اللاهوت العقائدي للتثليث فهذا ما يتجاوز العقل الإنساني. وصحيح أيضا أن مشاكل الفكر والعمل والشخص تنتمي إلى الوجود الإنساني دون أن تكون استنباطا من حوادث تاريخية داخل أي نسق عقائدي أيا كان؛ إذ تتكون الجماعة التي ينتسب الشخص إليها من خلال التجربة المشتركة دون أن تكون نقلا من الأساس من مؤسسة دينية أيا كانت مثل الكنيسة. ويتكشف القصد الرئيسي من الواقعية الشخصانية في مشكلة «الله» والشخص، الشخص الإنساني واقعة إنسانية وسط العالم الإنساني والعالم الطبيعي، الدين الشخصاني دين بلا «إله» ودون فعل ديني بالمعنى الدقيق، هو البنية الذاتية للواقعية الإنسانية كوجود من أجل الآخرين، وكوجود في العالم. وتبدو الواقعية الشخصانية في النهاية تبريرا جديدا للاهوت العقائدي، صحيح أن التحول والنقل للاهوت العقائدي بعد «رد» الحوادث التاريخية كعلوم وقائع، من أجل إدراكها كماهيات للتجارب الإنسانية، وبالتالي كحقائق إنسانية، أمور ممكنة، ولكن لماذا لا يتم التوجه مباشرة إلى الحقائق الإنسانية دون المرور بهذا التحول؟ واللاهوت العقائدي نفسه ليس إلا تجارب إنسانية تكلست من خلال تاريخ العقائد الطويل. (7) الغاية الوعظية في نقد المنهج الظاهرياتي
54
ويظهر الغرض الوعظي بجلاء في نقد منهج الفهم؛ أي الوصف الظاهرياتي.
أولا:
إن ضرورة إعادة إقامة المبادئ الميتافيزيقية للإثبات الألوهي مناقض للمنهج الظاهرياتي؛ فالظاهريات خالية من أي مبدأ ميتافيزيقي خارج عنها، هي فلسفة كعلم محكم دونما حاجة إلى أي «ترقيع» ميتافيزيقي، وعلى العكس، الميتافيزيقا ممكنة بعد الظاهريات حتى تتأسس على التجربة، كما أن الظاهريات لا تنشغل بإثبات أو نفي ألوهي؛ هي منهج مستقل يتعامل معه وعي محايد ابتداء من بداية جذرية، ولا يفترض أي نتيجة مسبقة، ولكنه بحث يتلمس الموضوع الذي ينكشف تدريجيا خطوة خطوة. قد تكون الظاهريات في قصدها غير المعلن أو في مرحلتها الأخيرة حدسا دينيا عميقا، ولكن هذا لا يعطي أي حق في إلحاق أي إثبات ألوهي بها أيا كان،
55
وقد يكون الإثبات الإلهي مطلبا لتقريظ ممكن لإثبات وجود «الله».
ثانيا:
إن ضرورة ربط مشاكل النشوء بمشاكل البنية قدمتها الظاهريات النشوئية من قبل في مقابل الظاهريات النظرية، والظاهريات الحركية في مقابل الظاهريات السكونية، تعطي الظاهريات من قبل نماذج للدراسة النشوئية في المنطق وفي الحضارة.
56
مشاكل النشوء إذن ليست غريبة على الظاهريات؛ لأن الغاية مرتبطة دائما ب «اللوجوس»، ولا تقع الظاهريات في العلوم التفسيرية، وفي ظاهريات الدين للظاهريات النشوئية دورها الرئيسي في البحث عن النواة الأولى للمعطى الديني مع التخلص من شوائبها التاريخية المعلقة عليها أو المتسربة إليها، كما تحقق ذلك ببراعة في عملية ظهور المقدس في العقلية الإسقاطية.
57
ربما كانت الغاية من مشاكل النشوء المقترحة إثبات العقائد القائمة باعتبارها نتائج نشوء العقائد الأولى وتكوينها عبر التاريخ.
ثالثا:
ضرورة وجود مقاييس أنطولوجية هو أيضا نوع من «الترقيع» ترفضه الظاهريات كعلم مستقل قائم بذاته، فضلا عن أن الظاهريات تتضمن أنطولوجيتها الخاصة بها أنطولوجيا المناطق كافية لكل أنطولوجيا جذرية، ولها ميزة السيطرة على المناطق لأنها تنبثق من الشعور، الأنطولوجيا فقط تخاطر بوجود موضوعات ليست مناطق للشعور، ربما تكون المقاييس المطلوبة مجرد وسائل لتبرير مقولات المسيحية ومخططاتها دون بحث مسبق هل تكون أم لا مناطق للشعور.
58
ومن وقت لآخر وطبقا لحاجات الوعظ، تنقد الظاهريات الترنسندنتالية كمثالية أو حلولية مغلقة أو زمانية خالصة أو ثنائية جديدة بين فعالية البدن وسلبية الروح.
59
والواقع أن مثالية الظاهريات ليست صورية فارغة، بل مثالية تجريبية وملاء، والحلول الظاهرياتي ليس خلطا بين المثال والواقع، بل غوص في أعماق الأشياء لإدراك ماهياتها، والزمانية الظاهراتية ليست إلا نمط حضور للخلود. وأخيرا، الثنائية الظاهراتية هي وظيفة مزدوجة للشعور، وكقصدية تكون الموضوع، وهو الروح، وكمركز للحركة في العالم، وهو البدن، وكيف يمكن إقامة ظاهريات لما يفوق الطبيعة إذا كان الموضوع في الظاهريات موضوعا حالا بالأساس؟
60
لم تستعمل الظاهريات إلا كي تعطي أساسا حديثا أو تحديثا للاهوت الرسمي، وليست تقويمية لتصحيح الموضوع والمستوى والأساس، وهل كل معالجة للاهوت القائم تسمى ظاهريات؟
وفلسفة الدين مطعمة بالظاهريات بين الحين والآخر، هي أساسا عود إلى الأشياء ذاتها، وليست نصوص الوحي أو النصوص المقدسة أو النصوص الدينية إلا وصفا للحقائق الإنسانية؛ أي الوقائع.
61
وفلسفة الدين ليست تأملا نظريا في العقائد التاريخية، بل البحث عن هذا الواقع الإنساني الذي تصفه نصوص الوحي، والتي تم تشويهها في النصوص المقدسة أثناء نقل الوحي شفهيا ثم تدوينها وضياعها تماما في النصوص الدينية، وفي نفس الوقت بحث عن الواقع الإنساني المقابل في العالم الخارجي، وهذا البحث الأخير ممكن بمنهج التحليل النظري للخبرات اليومية، ويقوم على نظرية الإدراك يقوم فيها نص الوحي كنواة من صورة الشعور إلى مضمونه مقابل الموضوع الحي الذي يخرج منه شعاع مقابل من مضمون الشعور إلى صورته.
62
وهكذا تؤدي فلسفة الدين بالضرورة إلى منهج تأويل ضروري لفهم النص مع التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية. ولو قامت فلسفة الدين بالعودة إلى الأشياء ذاتها لتخلصت من كثير من الخلط بين النص والتجربة، وبين الوحي والتاريخ، ولتخلصت أيضا من اللغة الدوجماطيقية للعقائد التاريخية وأسماء الأعلام من أجل اقتناص الحقائق الإنسانية.
63
والفصل (جزء من الكتاب) ليس قطعة من التاريخ بل جانب مكتشف من الشيء ذاته. (8) عيوب منهج الفصل
64
ولمنهج الفصل القائم على التحليل النظري والنقدي ميزات كثيرة حتى من مجرد التسمية، ومع ذلك فعيوبه كثيرة، ويتكون، طبقا لأسسه، من تحليل نظري ونقدي.
أولا:
التحليل النظري من حيث المبدأ جزء من المنهج الظاهرياتي الذي رفض من قبل كمنهج للبحث في فلسفة الدين، والتحليل النظري للخبرات اليومية هو الجزء الرئيسي في المنهج الظاهرياتي الخام قبل أي عقلنة لمفاهيمه أو أي ترتيب لقواعده أو أي صياغة لمصطلحاته؛
65
فالتحليل النظري من ناحية والخبرة اليومية من ناحية أخرى يكونان جانبي المنهج الظاهرياتي؛ ومن ثم فإن التحليل النظري الذي يقوم عليه منهج الفصل هو نوع من التفكير ابتداء من معطيات التاريخ في الظاهرة الدينية، هو تفكير في اللاهوت العقائدي أكثر منه تفكيرا قائما بذاته مستقلا عن أي مضمون للتفكير. وبتعبير آخر، التحليل النظري هو نوع من اللاهوت الجديد، يأخذ العقائد القائمة ويبحث عن أفضل جانب ترتكن عليه، وأفضل واجهة تعرض فيها؛ فالتفكير ليس من جانب صورة الشعور بل من جانب مضمونه، فقد استقلاله التام كي يصبح مادة خالصة، والتحليل النظري لا يأخذ النقد شريكا له؛ فالنقد بعد آخر للشعور، بل التجربة الحية في الحياة اليومية. النص من جانب والتجربة من جانب آخر هما مادة منهج التحليل النظري للخبرات اليومية؛ فالواقع أن النصوص، بعد التحقق من صحته بالنقد التاريخي، أمام الشعور. والشعور هو تراكم الخبرات الحية، النص صامت؛ يحتاج إلى تمثل المعنى، ويقوم الشعور بهذا الدور. يحتوي النص على المعنى كإمكانية مثالية، ويتضمن الشعور هذا المعنى كإمكانية واقعية، والتأويل هو إيجاد التماثل بين المعنى المثالي في النص ودلالة الخبرة الحية، وكل منهما يحيل إلى الآخر فيتم الفهم، يقوم المعنى المثالي بدور القبلي في نظرية المعرفة، هو شعاع من صورة الشعور إلى مضمونه، يجعل الإدراك ممكنا إذا ما قابله شعاع آخر من مضمون الشعور إلى صورته، ثم يصبح بعد ذلك مثالا للعمل، ويكون البنية المثالية للعالم ثم تصبح بعدها بنية واقعية بالعمل، ولا ينتمي هذا التحول إلى التحليل النظري بل إلى التحقق العملي، لم يعد دور الشعور النظري بل دور الشعور العملي.
وينقص منهج الفصل الذي بنت عليه فلسفة الدين آمالا كبيرة شيء واحد، وهو الفصل! إذ إن فلسفة الدين الذي انتهى إليها منهج الفصل، خليط من الدين والفلسفة، والتاريخ والعقائد، ولو أن العلاقة بين الدين والفلسفة قد تحددت من قبل، وهذا هو الدور المنوط بالفصل، لأمكن الوصول إلى الأنواع الثلاثة في فلسفة الدين، وتجنب الخلط بينها، ويمكن لمنهج الفصل أن يقدم خدمة جليلة لو استعمل كإجراء للتمييزات الأساسية في كل ميدان يحدث فيه الخلط، ولانضم إلى المنهج الظاهرياتي الذي يبدأ عادة بتمييزات أساسية، حينئذ يكون لمنهج الفصل فضل الفصل بالفعل.
ثانيا:
النقد الذي يكون مع التحليل النظري أساس منهج الفصل هو يقينا نقد، ولكنه نقد فلسفي وليس نقدا تاريخيا. صحيح أن اللاهوت العقائدي في حاجة إلى نقد فلسفي، من أجل إقامة العقائد على أفضل أوجهها العقلية، كما أنها في حاجة إلى نقد تاريخي، من أجل ربطها بمصادرها الصحيحة في معطى الوحي. نقد التحليل النظري هو فقط نقد فلسفي للاهوت العقائدي من أجل صياغة فلسفة للدين لتحقق نفس الغرض؛ أي تأسيس «علم الله ». صحيح أنه تمت دراسة مقولة الذات، ولكن سبقتها مقولة المطلق الذي تنفتح عليه الذات، وقد أدى النقد إلى فهم أفضل للدين، بالنسبة للاهوت العقائدي، ولكنه ظل خاضعا لمنطلقاته.
66
النقد من حيث المبدأ هو النقد التاريخي، يتناول المشكلة من أساسها؛ أي الصحة التاريخية للنص المقدس، وكل تحليل نظري غير مسبوق بالنقد التاريخي ينتهي إلى الفشل إذا كان للنص درجة ضعيفة من الصحة التاريخية أو كان غير صحيح على الإطلاق. مهمة النقد التاريخي استقبال معطى الوحي من فم المبلغ وتتبع مساره في التاريخ كتراث شفاهي أولا، ثم كتراث مدون ثانيا، وما إن يثبت أن نص الوحي يحتوي على نفس الكلام المسموع من فم المبلغ، في هذا الوقت، وفي هذا الوقت وحده، يتدخل التحليل النظري من أجل فهم معنى النص؛ ومن ثم يسبق النقد التاريخي التحليل النظري. وهما مهمتان متميزتان يقوم بهما وعيان متميزان؛ الوعي التاريخي، والوعي النظري.
وينقص منهج الفصل كل قواعده العملية؛ إذ يتكون من مجموعة من الملاحظات العامة على فلسفة الدين حتى قبل نشأتها، ودون الاعتماد على الملاحظات الأولية، يتكون منهج الفصل من لحظتين؛ عملية الوحي والفهم الشرعي له أو الوصف القائم على المقاييس.
والملاحظتان الأوليتان تمهدان للمنهج؛ الأولى أن السذاجة والافتراض المسبق لا يتزاوجان كما يريد منهج الفصل، بل على العكس يتعارضان؛ فالسذاجة تنفي الافتراض المسبق. الأولى حياد الشعور في بداية جذرية، والثانية وضع للشعور في حالة افتراض مسبق، وحكم سابق، بل إنه ليس تغيير الحياد؛ لأن ذلك لا يأتي إلا بعد الحياد الذي يرفض الافتراض المسبق. الشعور أولا محايد، ثم يتوجه طبقا لمعطى الوحي الذي يقوم بوظيفة القبلي، والشعاع من صورة الشعور إلى مضمونه أو الشعاع الذاتي الموضوعي في الإدراك، هذا القبلي ليس مصادرة متخفية أو ظاهرة، بل يدخل في بنية الشعور بمجرد ما يواجه نص الوحي، وهكذا لا يوجد أي استدعاء واع لأنها محكومة بحياد الشعور.
67
والنقاط التي تلخص الملاحظات إما بديهية أو مختلطة،
68
مثلا لا تستغني أي دراسة نقدية عن الفلسفة، وتعلن هذه الفلسفة عن نفسها على الملأ، وفلسفة الدين لا تستحوذ على موضوع الدراسة. ومع ذلك، القول بأن فلسفة الدين لا تقوم إلا على أساس تيار فلسفي معين من بين تيارات أخرى في حاجة إلى مزيد من التوضيح، أي فلسفة للدين؟ هل تبرير الدين كما كلسه اللاهوت؟ وبأي فلسفة وفي أي عصر؟ هل يتم تحويل الدين إلى فلسفة ثم نقلها بمساعدة هذا التحويل؟ وأي بحث في فلسفة الدين؟ في النوعين الأولين الفلسفة ضرورية للدين لتبرير النوع الأول وتحويلها إلى الثاني، وفي النوع الثالث يتأسس الدين كبحث استقصائي من شعور محايد ابتداء من بداية جذرية، ويمكن إنارته بالظاهريات بسبب التجانس المطلق بين الاثنين، أما إذا أحلت فلسفة الدين محل الدين فإنه حكم غامض، وذلك لا ينطبق على فلسفة الدين كتبرير، يمكن أن يحدث ذلك في فلسفة الدين كتحويل أو نقل إلى حد كبير، وتستطيع ذلك تماما فلسفة الدين التي تقوم على الظاهريات؛ لأنها هي الدين نفسه في أصله ونقائه.
69
وتبين الملاحظة الثانية فيما يتعلق بالدين الحي والتباين النقدي الهدف الوعظي الواضح لفلسفة الدين التي ستتأسس فيما بعد، وقد استدعي الدين الحي لتحقيق مصالحة بين الدين والتفكير ، وبين الدين والحضارة. ويقترح التباين النقدي مستويين للشعور، لو نقد أحدهما ظهر الآخر؛ ومن ثم لا يخشى الدين من الفصل النقدي بعد استبعاد خطر النقد، وأقفل الطريق على النقد بحيث لم يعد إلا نمطا جديدا من العقل اللاهوتي، لم يكن هدف الفصل إلا ارتكاز العقائد على أفضل أركانها.
70
وتعني عملية الوحي أيضا نقل الوحي المكتمل، المرحلة الأخيرة من تطوره، من المبلغ الأول إلى السامع الأخير، وهي عملية تاريخية تتحقق في وعي الرواة، ويتحكم النقد التاريخي في هذا المسار لأن مهمته هي البحث عن الصحة التاريخية لنص الوحي، يعني مسار الوحي أيضا المراحل المتتالية لفهمه ابتداء من مبادئ التشابه في اللغة حتى التحليل النظري للخبرات اليومية للانتهاء إلى البنية القبلية للوحي، وهي مهمة التحليل اللغوي من أجل فهم معناه. وأخيرا يعني مسار الوحي التحقيق العملي لمعطى الوحي كنظام مثالي للعالم،
71
ويتضمن تحليل مشروع الوحي كقصد وفعل وأنماط للسلوك، ومسار الوحي الذي يقترحه منهج الفصل مسار مادي، يبدأ من الموضوعات، ثم مسار لاهوتي يحيل إلى «الله»، نص الوحي ليس موضوعا بل هو كلام منقول ومفهوم ومحقق بالفعل، ولا يحيل الكلام إلى أحد غير الشخص الإنساني. هو قصد تجاه الإنسان، الوحي قصد إلهي نحو الإنسان، وخطأ اللاهوت تصوره للوحي كقصد إنساني نحو الله، وهو قلب للوضع، وعلى نقيض القصد الإلهي.
وأول لحظة في منهج الفصل، مسار الوحي، ويتضمن ملاحظتين: الأولى رؤية الله من خلال الموضوعات الموحية، ومسئولية الإنسان عن تمثل الله.
72
ومسار الوحي أكبر من ذلك وأكثر شمولا؛ إذ يعني مسار الوحي في التاريخ، وفي هذه اللحظة تتم دراسة المراحل المختلفة المتتالية للوحي حتى تحققه في المرحلة الأخيرة، هذا المسار موضوع فلسفة التاريخ الديني، وليس التاريخ المقارن للدين، يتبع الأول فقط تطور الوحي، في حين يدرس الثاني الآثار التاريخية داخل الوحي أثناء تطوره أو بعد اكتماله، هذا فضلا عن أن التاريخ المقارن للدين يقوم بشيء غير مهمته الخاصة، يضع الوحي على نفس مستوى التدين التاريخي لما يسمى الشعب البدائي لبيان سمو الأول على الثاني، موضوعات الوحي علامات الطبيعة، وتتجلى في الخبرات اليومية، فإذا كانت دلالاتها متطابقة مع المعاني المفهومة من نصوص الوحي ابتداء من التحليل اللغوي، في هذه الحالة تكون الموضوعات موحية بالله، حيث إن الموضوع خبرة يومية، والله كلام الوحي. وإذا كان الإنسان هو المسئول عن تصوره لله، فهذا ما يؤكده تاريخ الدين المقارن؛ فقد خلق الله الإنسان على صورته وأعادها الإنسان إليه! ويبرهن أيضا النقد التاريخي للنص المقدس على أن العقائد البدائية من خلق الجماعة الأولى لحاجة التبشير والوعظ الديني، ويشهد على ذلك مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» الذي كان هدفه تخليص النص من شوائبه التاريخية.
73
وعلى العكس من ذلك استعمل هذا الإثبات لتبرير الآثار التاريخية، بالإضافة إلى أن مسار تجلي المقدس الذي يوجد «في الواقع» لا يوجد من حيث المبدأ في دين الوحي، بينما يمكن أن يوجد «في الواقع» و«من حيث المبدأ» في الدين التاريخي.
وكان يمكن من خلال اللحظة الثانية في المنهج، الفهم التشريعي أو الوصف القائم على المعايير، تطهير النواة الأولى من شوائبها التاريخية، ولكنها اكتفت بمسار تجلي المقدس دون إصدار أحكام عليها، والبرنامج التنفيذي مثير: وصف الأبنية الدينية طبقا لمنهج للفهم، وهي مهمة التحليل اللغوي، ودون نسيان أي تعاليم من الجوانب الموضعية؛ أي التاريخ، وتلك مهمة النقد التاريخي، وإضافة مبحث للوجود (أنطولوجيا) أو مبحث للقيم (أكسيولوجيا) إلى الظاهريات يسمح للوصف بالبحث في جذور الحركية الروحية وتبريرها له، وتلك مهمة التحقق العملي.
74
يحتوي البرنامج المقترح إذن بطريقة ضمنية الأبعاد الثلاثة للشعور، وتقسيم الحركية إلى روحية وموجهة وتعبيرية ما زال تقسيما مبكرا كي يستخدم كتخطيط ما للوعي العملي،
75
ويضم الفهم الشرعي توصيتين: تراتب مستويات الشعور، والتقسيم إلى مقولات ومخططات، وتحتوي مستويات الشعور في الحقيقة على مذهب صغير، الإنسان الذي يتكون من ثلاثة مستويات: العقلي بين المعقول والمحسوس موجود بين الله والمادة.
76
ومن المبكر أيضا صياغة ذلك أثناء البحث عن منهج لتصور مخطط لمستويات الشعور، ومع ذلك «الله» والمادة موضوعان بين قوسين، الإنسان وحده هو نقطة البداية، ونظام الإنسان ليس المحسوس والعقلي، وإذا كان المعقول المحسوس معروفا فما الفرق بين العقلي والمعقول؟ ليس نظام الإنسان من أجل نظرية في المعرفة، ولكنه ينتمي أيضا إلى الوجود، ومقولة الوجود من بين المقولات الأخرى، ومخطط مستويات الشعور خليط مركب بعضه فوق بعض من مفاهيم فلسفية لاهوتية.
ويمكن جعل مخطط مستويات الوعي أكثر فهما بطرق عديدة. أولا: للوعي حتما بنية، وأبعاد الشعور الثلاثة، الشعور التاريخي والشعور النظري والشعور العملي، يمكن أن تحل محل الخطط المقترحة. الشعور التاريخي هو الله باعتباره كلاما للنقل، والشعور النظري هو الإنسان وهو بصدد فهم الكلام، والشعور العملي هو المادة كعالم يقاوم فيه الإنسان ويكدح فيه. ثانيا: معطى الوحي له بنية قبلية تتكون من الموحى به، والعقلي، والواقعي. الوحي هو «الله» في صورة كلام مرسل، والعقلي هو الإنسان كفهم وعقل، والواقعي هو المادة كواقع يعيش الإنسان فيه. ثالثا: في بنية نص الوحي هناك اللفظ والمعنى والشيء نفسه؛ اللفظ هو «الله» باعتباره لغة، والوحي لغة كذلك، والمعنى هو الإنسان باعتباره أصل الدلالة، والحالة الشيء ذاته الذي يدل والذي يعبر عن ذاته. ويمكن لهذا المخطط الصغير لمستويات الشعور أن يستعمل ليس فقط لبنية الشعور الديني أي الذاتية، بل أيضا لبنية الحضارة وتطورها؛ أي الذاتية المشتركة؛ فالواقع أن الله والإنسان والمادة تكون صورا للروح والوجود والطبيعة، وطبقا لنظام معين، الطبيعة والروح والوجود تكون قانونا لبنية الوعي الأوروبي وتطوره، فيما يتعلق بالبنية، الطبيعية والروح والوجود تكون ثلاث مناطق بعضها فوق بعض، منفصلة أو متعارضة في الوعي الأوروبي: العلم للطبيعة، والدين للروح، والوجود للفلسفة.
77
وفيما يتعلق بالتطور، تسود فلسفة الطبيعة العصر المدرسي، وفلسفة الروح فلسفة العصور الحديثة، وفلسفة الوجود فلسفة العصر الحاضر؛
78
ومن ثم كان يمكن للمخطط الصغير لمستويات الشعور أن ينتهي إلى نتائج باهرة لو بلغت نتائجه مداها الأقصى دون أن تكتفي بأن تكون مجرد تراص فوق بعض لتصورات فلسفية لاهوتية.
وأخيرا كان التقسيم إلى المقولات والمخططات «مهمازا» قدمته الفلسفة في العصور الحديثة خاصة الفلسفة النقدية؛
79
فالمقولة هي وحدة المعقول والعقلي، والمخطط هو وحدة العقلي والحسي طبقا لمستويات الشعور، وبتطبيق هذا المعيار في التمييز المقولات والمخططات التي تكون المشروع المتكامل لفلسفة الدين، من الملاحظ أن المقولة أكثر عيانية من المخطط، مثلا مقولة «الله» أكثر عيانية من مخطط المفارقة. تعطي المقولة الموضوع الخاص، ويعطي المخطط الدلالة، وطبقا للوصف النظري، العكس هو الصحيح، تعطي المقولات الدلالة في حين يعطي المخطط الموضوع الخاص، ويبرهن التقارب بين المقولة-المخطط والفكرة-الموجهة، الصورة الأصلية، على الإثبات العملي المضاد للوصف النظري، الفكرة الموجهة أكثر عمومية، والفكرة-الأصل أكثر عيانا.
80
وهدف القسمة إلى مقولات ومخططات أساسا الفهم وليس النقد التاريخي أو التحقق العملي، ومفاهيم النقد التاريخي هي مفاهيم العلوم التاريخية، وهي مستنبطة من مناهج البحث في العلوم التاريخية، ومفاهيم التحقق العملي هي أنماط السلوك مثل: العمل، القصد، الممكن، الواقع، العقبة ... إلخ. وهي ليست تصورات مفروضة سلفا، بل وصف لميدان العمل، فهم معنى النص المقدس وحده هو الذي يستعمل المقولات والمخططات. وهي أساسا كلمات-مفاتيح، مأخوذة من اللغة دون أن تكون عقائد. مثلا: الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، وربما أيضا الحرفي والروحي دون الدخول في الإشكال الصوفي، المقولات والمخططات التي تكون مشروع فلسفة الدين هي عقائد تاريخية مرتبطة بطريقة أو بأخرى بمترادفاتها الفلسفية، القصدية الحية، الرؤية المثالية، أو حركية الماهية. هي جوانب مختلفة للشعور العملي، ووظيفته تحقيق معطى الوحي كنظام مثالي للعالم، الشعور العملي منطقة وجود تند عن المقولات والمخططات التي ما زالت مرتبطة بالمعرفة، والتخطيط الوجداني ليس من نفس طبيعته التخطيط المعرفي.
81 (9) حدود محاولات فلسفة الدين
82
لفلسفة الدين ثلاث مهام: (أ)
النقد الفلسفي لمعطى الوحي، ويشمل:
نقد اللغة الدينية.
نقد البنيات الدينية ابتداء من مصادرها في تطورها ومعانيها.
الحكم الشامل على القصدية التي تستعمل هذه البنيات في المستويات المختلفة للشعور. (ب)
مناهج بحث علم الدين التي تحتوي على مناهج خاصة في:
تاريخ الأديان، أشكالها، الدراسات المقارنة.
التأويل.
الوعظ أو التبرير أو الدفاع.
اللاهوت مع إمكانية علم النفس الديني، وظاهريات الدين، وعلم الاجتماع الديني. (ج)
النقد المعرفي للبحوث الدينية الفعلية، وتتضمن نقد مذاهب اللاهوت الوعظي، وتاريخ الأديان ... إلخ.
83
هذه المهمة الثلاثية نسق عقلي، ومع ذلك ليست المهمة الثانية، مناهج بحث علم الدين، مهمة مستقلة؛ فالعلوم الدينية جزء من دراسة فلسفة الدين للمعطى الديني، ويقدم تاريخ الدين مادة النقد التاريخي، ويقدم التأويل التاريخي أيضا مساهمته في النقد التاريخي، في حين أن التأويل كمنهج للتفسير يكون مادة التحليل اللغوي لفهم معنى نص الوحي، والوعظ واللاهوت يضلان الطريق، ويسيران معا جنبا إلى جنب. الأول لاهوت خطابي، والثاني وعظ عقائدي. ولا يكونان أي علم ديني، والظاهريات الدينية ليست علما مساعدا يضاف مع علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني إلى العلوم الدينية الرئيسية: تاريخ الأديان، الوعظ، التأويل، اللاهوت ... إلخ. وتحتوي الظاهريات منذ البداية في داخلها علم النفس الديني في صورة علم النفس الوصفي أو علم النفس النظري لتجنب النزعة النفسانية في علم النفس الديني، وتحتوي أيضا على علم الاجتماع الديني في صورة التجربة المشتركة لتجنب النزعة «السوسيولوجية» أيضا، وتستطيع الظاهريات ذاتها أن تخطو خطوة إلى الأمام كي تصبح ظاهريات الدين، ثم بعد ذلك ظاهريات التأويل.
إن أول مهمة لفلسفة الدين، النقد الفلسفي لمعطى الوحي، وثالث مهمة، النقد المعرفي للدراسات الدينية الفعلية، يسيران جنبا إلى جنب، وعلاقة الأولى بالثانية مثل علاقة العام بالخاص، وعلاقة المعيار بالمعار، وعلاقة النظرية بالتطبيق؛ فالواقع أن النقد الفلسفي للمعطى الديني الذي يمكن أن يكون من أي دين تاريخي يضع سؤال المعايير العامة لكل بحث ديني، فهل حقق النقد مهمته الثلاثية: نقد اللغة الدينية، ونقد البنية الدينية، والنطق بحكم شامل؟
والرد بالنفي. أولا: لم يتم نقد اللغة الدينية؛ فالمصطلحات الدينية خاصة مصطلحات اللاهوت العقائدي ما زالت باقية: الله، الكلمة، الخطيئة، الكنيسة ... إلخ.
84
مهمة نقد اللغة الدينية وتطهيرها لجعلها أكثر شمولا وإنسانية وانفتاحا، ولم يقم النقد بهذه المهمة. ثانيا: لم يتم نقد البنيات الدينية تماما؛ فقد تم نقدها من أجل إعادة بنائها على أحسن وجه، ومن أجل إعادة التركيب على نحو أفضل، كان الهدف من نقد المقولة إثبات المخطط؛ مما يؤدي إلى نفس نقطة البداية، وكأن النقد لفهم البنية ليس للبنية ذاتها، نقد السطح، وليس نقد العمق. صحيح أنه تم تتبع نشأة البنية وتطورها بطريقة رائعة، ولكن لم يحدث وصف مسار تجلي المقدس كمسار طبيعي حتمي، يقبل الوصف كواقع دون رفضه كمبدأ، وهكذا لم يستعمل معنى النص كمعيار لمسار تجلي المقدس للحكم عليه. وهذا يقود إلى المهمة الثالثة، وهي إصدار حكم شامل، وهو ما لم يتم حتى الآن. كان الفهم التشريعي فهما خاليا من أي معيار، وهذا يعود في آخر المطاف إلى معنى لفظ «نقد»، لا يعني «نقد» الحكم على ما هو موجود «في الواقع» لأنه موجود في المبدأ، بل يعني فقط فهم ما هو موجود بطريقة أقل عرضة للتجريح مما هو عليه الآن؛ ومن ثم فإن المهمتين الأولى والثالثة اللتين تتكاملان لم يتم القيام بهما، ولم تنته فلسفة الدين إلى وضع معيار لكل دين ممكن؛ لأن النقد لم يتم إلا إلى المنتصف، وتوقف في منتصف الطريق، ولم ينته إلى نقد للديانات الخاصة لأن النقد كان سلفا فهما جديدا لدين خاص، وهو الدين المسيحي.
وفي النقاط الاثني عشر للبحث، والتي تكون فلسفة الدين، النقطة السادسة وحدها، مقولة الحدوث أو الحادثة، ومخططات الوحي والإلهام والعهد، يمكن أن تحتوي على بعض عناصر النقد التاريخي، وبوجه خاص مخططات الوحي والإلهام، وقد تمت دراسة الموضوعات الأربعة الأولى من قبل مع انتظار الباقي، وتتردد كل النقاط الأخرى بين أشكال الفهم وأشكال العمل (البراكسيس). ويسيطر عليهما معا اللاهوت العقائدي؛ فمثلا يمكن أن تشير مقولة المطلق إلى القصد الشامل لمعطى الوحي، كما يشير مخطط المفارقة إلى وجوده الواقعي والموضوعي، وكذلك تشير مقولة الذات إلى القصد الفردي، كما تشير مخططات النفس إلى القصدية الفعالة، ويمكن التحقق من مقولة الفضل ومخططها فيما يفوق الطبيعة في السلوك، في قوة الفرد الهائلة واللاإرادية في الفعل البطولي، أما مقولة الإيمان ومخططاتها الواقعية والعقائدية أو مع مخططاتها العقائدية بالمعنى الدقيق فإنها خليط من التاريخ والعقائد، ومضمون الإيمان ليس إلا الحقيقة الإنسانية التي تم تمثلها من نص الوحي والمطابقة للواقعة الإنسانية مصدر السلوك، ويمكن التحقق من مقولة المعجزة ومخططاتها في المعجز في تجربة السلوك في العمل الخارق للعادة للبطل، وتثبت مقولة الخطيئة ومخططاتها حول أشكال السلوك في مستويات الوجود في السلوك الإنساني ودرجات الالتزام، وتنفي البراءة الأصلية للشعور الوجود الفعلي والجذري للشر، كما تنكر المسئولية الفردية كل خطيئة أولى، وأخيرا تنتمي مقولة الإحسان ومخططاتها الاجتماعية أيضا إلى أشكال السلوك فيما يتعلق بالتجربة المشتركة الواقعية أكثر من التجربة المشتركة المعرفية، أما مقولة الكلمة ومخططات الرابطة فهي أساسا مقولة للفهم؛ إذ تشير الكلمة إلى التحليل اللغوي؛ فاللغة هي الرابطة بين النص والشعور، وأخيرا تنتمي مقولة الشامل أيضا إلى الخصائص الجامعة لمعطى الوحي؛ فمعظم النقاط التي تكون خطة فلسفة الدين تدور حول السلوك، ومن حين إلى آخر حول النظر، ومرة واحدة حول التاريخ.
85
ولا تكون فلسفة الدين ممكنة دون نقد تاريخي مسبق للنص المقدس؛ فالنقد التاريخي هو العلم الوحيد الدقيق الذي بإمكانه إعطاء أساس لكل تحليل نظري لفلسفة في الدين، وأيضا لظاهريات الدين، وأهمية ظاهريات التأويل هو إدخال النقد التاريخي في التحليل النظري القائم على اللغة والتحقق العملي في بنية ثلاثية الأبعاد للشعور، ويمكن استخدام مقولة الذات مع مخططات النفس طريقة للعمل للبعد الثالث للشعور الديني؛ أي التحقق العملي، وهي أكثر المقولات تفصيلا من الناحية الفلسفية لأنها خالية من المفاهيم اللاهوتية والدينية، وكل الأجزاء الأخرى مثل: مقولات الفضل ومخطط الخارق للعادة، ومقولة الإيمان والمخططات الواقعية والعقائدية، ومقولة الله ومخطط المفارقة، وكل المقولات والمخططات التي ما زالت قيد الدراسة تتراوح بين التحقق العملي والتحليل النظري، بين السلوك والنظر، بين العمل والفكر. ويظل العمل (البراكسيس) تأملات نظرية في الذات كفعل-قانون دون استقصاء في أنماط عمل الذات كوجود في العالم، كما يظل الفهم اللاهوتي السابق التجهيز والعقائد التاريخية قائما وسائدا. (10) نقص الإحكام في التمييز بين المقولة والمخطط
86
فلسفة الدين القائمة على تحليل المقولات والمخططات ليست أولا فلسفة دين لكل معطى ديني، بل فقط للمسيحية.
87
ولو وجدت بعض المعطيات الدينية الأخرى فإن مقولات ومخططات أخرى مثل: الفضل-ما يفوق الطبيعة، الكلمة-التوسط، الخطيئة-الفداء؛ مسيحية تماما. فلسفة الدين إذن هي فقط فلسفة مسيحية، ومن ناحية أخرى ليست مزاوجة هذه المقولة مع هذا المخطط دائمة في كل المعطيات الدينية. مثلا ليست مقولة الشامل بالضرورة هو مخطط الكنيسة؛ فالشامل في معطيات دينية أخرى له مخططه في الشعور الجماعي، وليس لمقولة الإحسان مخططها بالضرورة في «الجذب» بل في العلاقات الاجتماعية، وليس لمقولة المعجزة مخططها بالضرورة في المعجز، بل في لا حتمية قوانين الطبيعة والحرية الإنسانية، ومن ناحية ثالثة لا يتطلب مخطط معين بالضرورة هذه المقولة، مثلا توضع المخططات الواقعية والعقائدية لمقولة الإيمان بين قوسين مثل الوقائع، مقولة الإيمان هي مجرد مقولة الذات، والمخططات العقائدية بمعنى الكلمة لمقولة الإيمان توضع أيضا بين قوسين كأبنية تاريخية خالصة؛ فالإيمان اتجاه مباشر نحو الأعمال.
فالتمييز بين المقولة والمخطط، الأول ينتمي إلى الفلسفة والثاني إلى اللاهوت، ليس دقيقا؛ فكثير من المقولات مخططات، وكثير من المخططات مقولات. أولا: المقولة أحيانا مخطط لأن المطلق تصور فلسفي مثل المفارقة، في حين أن «الله» تصور ديني، ومقولة الذات أيضا مخطط، ولكنه تصور فلسفي مثل النفس، والخلق تصور ديني؛ ومن ثم فإن المقولة والمخطط تصوران فلسفيان، يشيران إلى نفس الشيء بلفظين فلسفيين مختلفين. ثانيا: يكون المخطط أحيانا مقولة؛ فمخطط ما يفوق الطبيعة تصور ديني تماما مثل مقولة الفضل، والمخططات الواقعية والعقائدية والمخططات العقائدية بالمعنى الدقيق وقائع خاصة باللاهوت العقائدي، مثل مقولة الإيمان دون أن تكون على الإطلاق تصورات فلسفية، ومخططات السقوط والفداء والجحيم تصورات دينية، مثل مقولة الخطيئة، دون أن تكون على الإطلاق تصورات فلسفية، ومخطط الجذب تصور ديني مثل مقولة الإحسان. ثالثا: المقولة أحيانا مخطط، والمخطط مقولة؛ فمقولة الحدوث أو الحادثة تصورات فلسفية في حين أن مخططات الوحي، والإلهام، والعهد، والخلق، والعناية، وتاريخ الخلاص، والأخرويات، والبعث، والخلود؛ تصورات دينية، ومقولة الشامل تصور فلسفي في حين أن مخطط الكنيسة تصور ديني. رابعا: ليس للمقولة مخططها الملائم، وليس للمخطط مقولته الملائمة؛ فلمقولة المعجزة مخططها في الحرية الإنسانية وفي لا حتمية قوانين الطبيعة، وليس في مجرد المعجز، ولمقولة الكلمة مخططها في الكلام وليس في المتوسط أو الرابطة، وهي مخططات تنطبق أكثر على الكنيسة كمقولة.
وعلى فرض أن التمييز بين المقولة والمخطط تمييز دقيق ومحكم، فإن فلسفة الدين الناتجة عن ذلك فلسفة تصورات «محاولة في دلالة المسيحية» ممكنة ابتداء من فلسفة في الدلالة، والمسار من التصورات إلى الدلالة ليس مسارا مباشرا، بل يمر عبر الشيء المقصور والدال، ويكون دور التصور هو مجرد اللفظ، يميل اللفظ إلى الشيء، ويحيل الشيء إلى الدلالة بعد فهمها والتعبير عنها باللفظ، فلسفة التصورات هي فلسفة اللغة بعد تكبيرها ونسبة وحدات عقلية ووجود واقعي للألفاظ أكثر مما لها.
88
فلسفة الدلالة بحث في الأشياء حتى قبل أي محاولة لوضعها في قالب تصوري، وتؤدي إلى ظاهريات التجارب السابقة على الحمل المنطقي. فلسفة التصورات إذن نقيض فلسفة الدلالات. وإذ انتهى منهج التحليل النظري والنقدي إلى فلسفة التصورات، كان يمكن للمنهج الظاهرياتي أن ينتهي إلى فلسفة الدلالات، صحيح كان يمكن لدراسة المقولات والمخططات أن تكون أكثر أهمية لو تمت باسم فلسفة التصورات وليس فلسفة الدين. التصورات موضوعات للدراسة: مصادرها، طبيعتها، علاقاتها ... إلخ. وفي هذه اللحظة يخضع للدراسة كل جهاز تصوري للدين خاصة المسيحية، ولو طبق المنهج الظاهرياتي لأصبح للتصورات استقلالها بالنسبة لمضامينها، ووجودها الذاتي بالنسبة لمصدرها، ولشمولها بالنسبة إلى النزعات النفسية.
89
كان بالإمكان إحالة التصورات إلى مضامينها الحية المثالية، وإلى تجاربها النمطية، وإلى وقائعها الموضوعية في الحياة اليومية. التصورات نصوص دينية؛ إذ يأتي المعطى الحي من التجربة اليومية، وتقدم العلاقة بين النص والتجربة مادة منهج للتأويل؛ وبالتالي لظاهريات للتأويل. (11) الخلط بين الفلسفة والدين في مشكلة الله
90
مشكله الله في فلسفة الدين ليست على نفس المستوى المرتفع للتحليل مثل مقولة الأنا والفضل والإيمان، والتحليل ابتداء من بداية جذرية أقل قوة من تحليلات المقولات الأخرى، ويتحدد التحليل عن طريق المقابلة، وتتطلب اختيارا مثل: الله الحي في مقابل «الله» كما يتصوره الفلاسفة، الرد في مقابل البرهان، الألوهية في مقابل الأنطولوجيا،
91
اللاهوت الإيجابي في مقابل اللاهوت السلبي، وتدخل هذه المتقابلات وهذه الاختيارات كلية في تاريخ الفلسفة فيما يتعلق بمشكلة الله، ولكن لم يحلل السؤال نفسه بعيدا عن النظريات والأنساق الفلسفية التي تحيط به؛ ومن ثم فإن «مشكلة الله في فلسفة الدين» هي مشكلة الله في تاريخ فلسفة الدين، وبداية مشروع فلسفة الدين بمشكلة الله لم يتم تبريره من البداية؛ إذ تبحث أي فلسفة دين عن نقطة بداية بديهية بداهة أولية، ولو كانت البداية مقولة الذات لأمكن لفلسفة الدين إيجاد واقع بديهي؛ فالكوجيتو بديهي، في حين أن مقولة الله ليست بديهية، فإذا أنكرت فمن أين تبدأ فلسفة الدين؟ وفي فلسفة «الكوجيتو» يتم إثبات الله بعد إثبات الكوجيتو، ولكن في فلسفة الدين كيف يمكن إثبات وجود الله أولا؟ البداية بالله دون تبرير تبين طبيعة اللاهوت العقائدي الذي لم تستطع فلسفة الدين التخلص منه، بل إن لفظ «الله» نفسه ينتمي إلى اللاهوت؛ فالله الذي درس كمقولة أولى في فلسفة الدين يظل هو «الله» كما يتصوره الفلاسفة، وما هو الفرق بين مقولة «الله» ومقولة الإيمان وهي أيضا تحليل لله في اللاهوت العقائدي؟ أي تصور لله يتم اختياره، الله في تاريخ الفلسفة أو الله في تاريخ العقائد؟ ما هي العلاقة في الواقع أو من حيث المبدأ للمقولتين؟ هذه المشكلة تركتها فلسفة الدين دون أن تدركها أو أدركتها ثم علقتها، التعارض بين إله الفلاسفة والإله الحي ليس تعارضا واقعيا؛ لأن الفلسفة عرفت الإله الحي.
92
كان إله الفلاسفة مرة عقليا في بدايات العصور الحديثة، ومرة أخرى حيا وجدانيا وجوديا في العصر الحاضر، والتعارض بين إله الفلاسفة وإله الوحي ليس تعارضا حقيقيا، بل على العكس، إله الفلاسفة عقليا أو حيا، مفارقا أو حالا، إله العقل أم إله القلب أقرب إلى إله الوحي من إله اللاهوت العقائدي، وهو إله تكون في التاريخ أثناء عملية تجلي المقدس، وهو موضوع الدراسة في مقولة الإيمان، والتحليل النظري لفكر تلقائي هو بحق اكتشاف الفلسفة.
93
الله في فلسفة الدين مجموع النظريات الفلسفية، مثل: فلسفة العمل، والظاهريات الترنسندنتالية، وفلسفة الواحد.
94
في الأولى، الله حي في مقابل الإله العقلي، وفي الثانية الله قريب من الحلول ونتيجة الرد من أجل اعتباره مرحلة انتقالية، وفي الثالثة وضع مذهب الواحد في تعارض مع الأنطولوجيا مكتفية بالوجود دون الواحد من أجل الارتباط بالحي، ونقد البراهين والأدلة باستعمال الرد، واعتبار الصفات الإلهية كرؤى قصدية، والمطلق كمطلب وليس لا شخصيا، ومع ذلك تسقط هذه الخطوة المتقدمة من أعلى من أجل اللحاق باللاهوت العقائدي بعد أن تم تطهيره نسبيا؛ فالله فوق العادة، الله الواحد نوع من موضعة الله في الحوار بين الإنسان والله.
95 (12) نقص التمييز بين الأنواع المختلفة للنص الديني في مقولة الفضل
96
وإذا كان لمقولة الذات ولمخطط النفس بعض النجاح في التحليل بسبب بعدهما عن الأسر اللاهوتي والديني، فإن لمقولة الفضل ولمخطط ما يفوق الطبيعة مصيرا مخالفا؛ فقد كان التحليل مجموعا من التاريخ والدين والعقائد واللاهوت باسم فلسفة الدين، وأحيانا باسم المنهج الظاهرياتي.
97
والسؤال هو: هل هناك مشكلة فلسفية للفضل؟ وكيف توضع؟
98
وهي نقطة جيدة للبداية؛ إذ تؤكد الخبرات الحية في الحياة اليومية واقع الفضل، وهي خبرات الإلهام، والمساعدة غير المنتظرة، وقوة الذات بالرغم من حدود الإرادة، وتجارب أخرى تؤكد الفضل في المظاهر المختلفة للحياة الإنسانية، لم يكن تحليل النصوص الدينية إلا حجرة العثرة.
لم يتم التمييز في المستويات بين النصوص الدينية. أولا: ليس نص العهد القديم على نفس مستوى العهد الجديد، صحيح يوجد بعض الاتصال بين العهدين، ولكن يوجد أيضا انقطاع جذري بينهما، لم ينتج الجديد عن القديم بل له أصالته الجذرية، ويمتد هذا التواصل المزعوم إلى درجة الخلط الذي يظهر في لفظ «كتاب» للإشارة إلى العهدين معا في نفس الوقت، وبالرغم من أن تحديد «العهد القديم» و«العهد الجديد» يشير إلى الاتصال باللفظ المشترك «عهد» كما يشير اللفظان المتعارضان «القديم» و«الجديد» إلى الانفصال، فإن الخلط بينهما ما زال قائما. وإن تسمية العهد الجديد قد أسقطت إلى الوراء التسمية الأخرى «العهد القديم» على التوراة ويعني فقط القانون؛ فالجديد هو الذي خلق القديم، كانت تسمية «العهد الجديد» تسمية وعظية للإنجيل الذي يعني فقط البشارة الطيبة. الألفاظ الصحيحة هي إذن «الكتاب»، ويشير إلى الوحي المدون، و«التوراة» للإشارة إلى شريعة موسى، و«الإنجيل» إشارة إلى البشارة الطيبة التي أعلنها المسيح. ثانيا: نصوص الإنجيل ليست على نفس المستوى؛ فالنص المتواتر في الأناجيل الأربعة ليسوا على نفس مستوى نص من الرسائل؛ فيسوع هو المسيح، وليس بولس أو يوحنا أو بطرس أو يعقوب ... إلخ. والنص المتقابل في الأناجيل الثلاثة الأولى ليس على نفس مستوى نص الإنجيل الرابع.
99
ثالثا: النصوص الدينية التي تكون الكتب ليست على نفس مستوى الأعمال اللاهوتية التي تكون التراث؛ فتراث آباء الكنيسة اليوناني أو الروماني ليس له أي علاقة بمجموع الكتب المتكاملة، والكتاب هو معيار التراث، وكل أثر تاريخي أساس تكوين العقائد يمكن التخلص منه بالكتاب. رابعا: ليست الفلسفة تواصلا مستمرا مع الدين، كتابا أو تراثا . فمن الناحية التاريخية، الإصلاح والنهضة يكونان انقطاعا جذريا في التاريخ الديني لأوروبا، بل إن فلسفة العصور الحديثة هي الدين نفسه مفهوما فهما صحيحا لأول مرة، «التأملات» عود إلى «الموعظة على الجبل»؛ فالدور الأساسي لفلسفة الدين هو تحديد العلاقة بين الدين والفلسفة، إما كموضوع مثالي أو كموضوع واقعي، وهو ما لم يتم في مشروع «فلسفة الدين».
100
ومع ذلك قدمت فلسفة الدين نظرية في الأنا الروحي مثل الفعل-القانون. وبعبارة أخرى للشعور قطبان: الأول القانون، والثاني الفعل. القانون مستنبط من معطى الوحي، ويمثل الوعي العام، وينتمي الفعل إلى السلوك الإنساني، وينبثق من الوعي الفردي؛ ومن ثم فإن نظرية الفعل-القانون مكسب كبير باكتشافها الوعي الشامل والوعي الفردي، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى القصد الشامل والقصد الفردي؛ ومن ثم إلى الفعل الواضع والفعل القصدي.
101 (13) ضرورة نقد تاريخي جذري لمقولة الإيمان
102
وقد تمت دراسة مقولة الإيمان كموضوع مثالي دون أي علاقة مع أي مضمون مادي، في حين تتعلق المخططات الواقعية والعقائدية بمضمون الإيمان، ويوضع هذا المضمون بين قوسين، ترد الواقعة كما ترد العقيدة القائمة على الواقعة، ويتم تكوين الإيمان كموضوع مثالي، وتقدم بنية الشعور الصوري المادي إلى الذاتي الموضوعي نمطين مقابلين نمط الاعتقاد ونمط الوجود؛
103
ومن ثم يمكن القضاء في الإيمان على النزعة الصورية للأنساق العقلية للاهوت العقائدي والنزعة المادية للحوادث التاريخية لما يسمى باللاهوت الوضعي، ولا يكون هناك مكان لمؤسسة أو لرابطة بين الواقعة والعقيدة؛ فقد وضع كلاهما بين قوسين، كما يمكن استخدام فكرة نواة مضمون الشعور وخصائصها في ميدان الحضور والاستحضار من أجل اقتناص النواة الأصلية للعقائد ابتداء من تكوينها من نصوص الوحي.
104
ويمكن أيضا استخدام فكرة الانتقال إلى أبعاد جديدة في تشخيص مضمون التصور من أجل التخلص من كل الشوائب التاريخية التي ساهمت في تكبير العقائد.
105
ولا تأتي قيمة الربط بين الواقعة والعقيدة من الحادثة كواقع تاريخي؛ فقد ثبت بالنقد التاريخي أنها إسقاط من الوعي الجماعي الأول، بل من شيئين اثنين؛ الأول استقلال هذه الرابطة من كل مضمون مادي ووجودها الذاتي كحقيقية إنسانية؛ أي كواقع، والثاني فاعلية هذه الرابطة في السلوك كمصدر للفعل؛ فإذا نقصت الحقيقة التاريخية فهناك الحقيقة الإنسانية والحقيقة العملية. (14) فلسفة الدين ووحدة العلوم الدينية
106
تتضمن فلسفة الدين كل العلوم الدينية الأخرى، والعلاقة بينهما مثل العلاقة بين المنطق والفلسفة، فلسفة الدين شرط كل علم ديني، وتاريخ الأديان والتأويل علوم دينية، ولكن ليس الدفاع أو اللاهوت. (أ) عيوب الدفاع
107
الدفاع سواء كان مرتبطا أو مستقلا عن اللاهوت ليس علما، لا في غايته ولا في منهجه ولا في موضوعه. هو دفاع عن الدين المسلم به قبليا دون أي فحص سابق أو نقد لغوي أو عملي، هو خطاب يوم الأحد الذي يند عن التحليل النظري، يمارس الخطابة والجدل من أجل تقوية الإيمان في وعي السامع، يقنع أكثر من يبرهن، يقوم على نوع من الحمية الطائفية يعبر عنها بمنطق شفاهي بالاعتماد على حجج عاطفية وخيالية، ويفرض أشياء من الخارج دون الكشف عنها من داخل وعي الآخرين، وينتمي إلى هذا النوع الإعلان والإعلام والدعاية والتجارة والسياسة وعلوم أخرى من نفس النوع، وتجنيد الشباب ينبع من نفسية المراهق، وليس من الوعي النظري. والخوف والخشية ، والمصلحة والأمن؛ ليست أنماط اعتقاد ولا أنماط وجود، ليس الدفاع علما، بل هو خليط من تاريخ العقائد والدين والفلسفة والمنطق الوجدان، بل إن الدفاع الرفيع بالرغم من أنه خطاب تربوي إلا أنه في النهاية دفاع.
108
وإذا رجع نجاحه بسبب استعمال العقل والتجربة في نفس الوقت، فإنه يستعمل منهج التحليل النظري للخبرات اليومية. اللاهوت والدفاع من نفس النوع؛ فاللاهوت دفاع عقائدي، والدفاع لاهوت خطابي، اللاهوت دفاع عن العقيدة؛ لأنها تثبت دون أي بحث مسبق ميراث العقائد التاريخية بل والزيادة عليها. كانت العقيدة قبل الأخيرة العصمة البابوية، والأخيرة كانت الحمل العذري.
109
وما زال الأمر مستمرا إما على نحو واسع بزيادة العقائد أو على نحو ضيق بالتقنين المستمر لمعجزات جديدة،
110
هذا الميل للخلق المستمر لعقائد جديدة ميل دفاعي في حين أن الدفاع هو خطابة اللاهوت، هو اللاهوت الرخيص الثمن، لاهوت الشعب إذا كان اللاهوت العقائدي غالي الثمن، لاهوت العلماء. الدفاع هو لاهوت العاطفة إذا نقص السامعين الذكاء. هو لاهوت للجميع، والحقيقة أن الدفاع الوحيد الممكن هو الدفاع العلمي، وهو أخذ معطى الوحي كافتراض للعمل يثبته أو ينفيه البحث العلمي؛ فمعطى الوحي معطى إنساني. والبحث دائما في العلوم الإنسانية، وبتعبير آخر يأخذ الدفاع العلمي معطى الوحي كحقيقة ممكنة، ويبحث عن عقلانيتها الداخلية؛ أي حقيقتها الواقعية. يحول الحقيقة إلى واقع، ويقوم بتحويل سماع كلام الوحي إلى رؤية الواقع الذي يشير إليه كلام الوحي؛ ومن ثم يضع الدفاع العلمي منهجا للتأويل يتكون من إيجاد الواقع المطابق في العالم الخارجي مع حقيقة الوحي المعطى سلفا.
111 (ب) رفض اللاهوت
112
اللاهوت نموذج العلم الكاذب، ليس له موضوع أو منهج أو غاية؛ فطبقا للمعنى الاشتقاقي للفظ يعني اللاهوت «علم الله»، والله ليس موضوعا لأي علم؛ لأن الله ليس موضوعا. العلم الديني الوحيد الممكن هو العلم الذي يدرس الوحي؛ فالوحي موضوع الاتصال والفهم والعمل، الوحي إذن هو الطريق الوحيد لتأسيس «علم الله» إذا كان ذلك ممكنا، الوحي كلام الله معطى في كلام إنساني.
113
الوحي إذن قصدية متجهة نحو الإنسان، هو أساسا علم إنسان وليس علم الله، من جهة المرسل إليه، وليس من جهة المرسل. ومن أجل تجنب أي مصطلحات معربة، الوحي «أنثروبولوجيا» وليس «ثيولوجيا».
114
وتشير الأنثروبولوجيا الآن إلى علم إنساني محدد لا شأن له بالوحي كقصدية متجهة نحو الإنسان، يمكن تسميتها إذن «علم الذات» أو «علم الأنا»، والظاهريات علم الأنا؛ أي إنها هي الوحي؛ فاللاهوت طبقا لتعريفه هو الاتجاه المعاكس للوحي، يقلب الوحي ككلام الله متجها نحو الإنسان إلى كلام الإنسان متجها نحو الله! اللاهوت قلب للوضع. اللاهوتي هو أول من يعصي كلام الله بانحرافه عن القصدية الإلهية، في اتجاه معاكس، ويجعل «الله» منغلقا على ذاته. والله قد انفتح بالوحي كقصدية متجهة نحو الإنسان. يشخص اللاهوت كلام الله في شخصه، يترك الكلام لاقتناص الشخص، والله نفسه ينكشف ككلام وليس كشخص، كان يسوع آخر معجزة لبني إسرائيل؛ ليذكرهم للمرة الأخيرة وإلى الأبد بالحضور الإلهي، وكان مولده ومعجزاته ورفعه آخر براهين على التدخل الإلهي في العالم، إنه اللاهوت طبقا لعقائد الجماعة الأولى، والذي أحل شخص يسوع محل كلام الوحي، هو اللاهوت الذي وضع يسوع محل الحضور الإلهي.
ليس اللاهوت غاية في ذاته، وتكوين العقائد وتجميع المعتقدات في مذاهب لا تخلق موضوعات عقلية أو حوادث تاريخية. والمعنى المفهوم من النص أساس السلوك دون أن يكون على الإطلاق نسقا عقليا، لا يوجد مذهب عقلي جامع للدين، بل اتجاهات في الحياة اليومية واقتراحات للممارسة (البراكسيس)، ليس «اللوجوس» هو العالم على الإطلاق أو التاريخ أو مادته أو شخص، بل فقط الأساس العقلي للممارسة، الفكر هو العمل الضمني، والعلم هو الفكر في حالة الفعل، معارك العقائد إذن معارك على الورق دون تغيير حالة العالم قيد أنملة، هجوم مضاد لهجوم، وقضية مناقضة لقضية، وفكرة مخالفة لفكرة. ولا يتجاوز كل ذلك بنية عقلية مجردة، ومجرد تغيير في فاصلة في النص أو وضع نقطة على حرف أو حرف عطف يولد أنساقا لاهوتية كثيرة. والعالم كما هو لم يتغير، ينتظر لحظة تغير اتجاه الفكر نحوه كما حدث بعد ذلك في الإصلاح والنهضة والعلم في العصور الحديثة.
كان غرض اللاهوت إكمال أوجه النقص في تكوين العقائد أو لرفع التناقض بينها، وكان نتيجة أحداث تاريخية وقت المجامع السكونية الأولى في عصر آباء الكنيسة، ولو أخذت حوادث التاريخ في القرون الستة الأولى مسارا آخر غير الذي أخذته لأخذت العقائد أيضا منحى آخر، ولو أن قيصر أيد فريقا ضد فريق لتغيرت العقائد، وكان يمكن لأقل هبة ريح أن تغير تماما مسار التاريخ. العقائد أشياء لأنها تشير إلى موضوعات وحوادث وأشخاص ومؤسسات، توجد في الخارج على الإطلاق لأنها تنسب إلى نفسها وجودا واقعيا مستقلا عن الشعور الذي خلقها، ثم تكلست وأصبحت مجردة، صورية مغلقة بفضل وضعها في أنساق عقلية مستمرة، في حين أن المعنى المفهوم من النص دلالة خالصة تدل على حقيقة إنسانية يدركها الشعور، وهي مفتوحة على أي دلالة أخرى مشابهة أو مخالفة، وهي عيانية لأنها تدل على واقع إنساني، الوحي أساسا بلا عقائد، وقوة الأشياء في الأشياء ذاتها وليست في الوحي الذي تحول إلى أشياء.
115
وكما يفهم معطى الوحي ليصبح أساسا للسلوك في الشعور العملي، فإنه يستعمل أيضا في الوعي النظري في نظرية الإدراك، معطى الوحي ليس عقيدة مستقلة موجودة بذاتها، ولكنه نموذج قبلي في نظرية المعرفة في صورة شعاع من قالب الشعور إلى مضمونه، من الذات إلى الموضوع، مقابل شعاع آخر من مضمون الشعور إلى صورته، من الموضوع إلى الذات حتى يتم الإدراك.
116
تأخذ العقيدة معطى الوحي كموضوع مغلق على ذاته، مقطوع الصلة بجانبه الحي، وهذا يؤدي إلى البنية القبلية الثلاثية لمعطى الوحي؛ الوحي والعقل والواقع. تأخذ العقيدة العقلي مضاعفا إلى عدد لا نهائي من العقلي حتى تسودها ظاهرة التفريع أو التشعيب العقلي بحيث يصبح كل شيء ممكنا عقليا، ويغيب عن العقائد تماما الوحي الذي يقوم بدور القبلي في الإدراك والواقع الذي يربط الفكر به، فإذا ما غابت العقيدة عن السلوك وفي الفهم فإنها تغيب أيضا كلية في البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس؛ فالواقع أن العقائد التي تكونت في الوعي الجمعي طبقا لحاجة التبشير تظل ثابتة حتى لو أثبت النقد التاريخي أن روايات العهد الجديد من وضع الجماعة الأولى، مثل روايات أخرى انتشرت لدى الجماعة ثم فقدت أو لم يكن لها حظ التقنين وفضله، بل على العكس، كانت هذه العقائد هي مقياس التقنين! وكل الروايات التي كانت متطابقة مع العقائد التي سادت القرون الأولى اعتبرت صحيحة، في حين تم استبعاد الروايات الأخرى التي كان الناس يتناقلونها كذلك جنبا إلى جنب مع الروايات الأولى المقننة؛ ومن ثم فالقانوني ليس هو الصحيح بالضرورة، القانوني هو ما تم إثباته كذلك بالعقائد في حين أن القانوني هو ما يتم إثباته كذلك عن طريق النقد التاريخي.
ولم يتوقف اللاهوت العقائدي على أن يكون لعبة التيارات الفلسفية للعصر، ولم يكن معزولا عن الحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بيئتها، يكفي تتبع نشأة اللاهوت العقائدي وتطوره لرؤية دور الحوادث التاريخية في تشكيل العقائد، كان اللاهوت العقائدي في عصر آباء الكنيسة اليوناني أو الروماني على صلة وثيقة بالهلينستية وميراثها، وفي المسيحية البدائية دخلت المسيحية اليهودية، والمسيحية الهلينستية، والمسيحية الوثنية الرومانية. وكان اللاهوت العقائدي في العصر المدرسي ينسج في إطار الفلسفة اليونانية حتى عصر الإصلاح والنهضة وظهور العلم. اللاهوت العقائدي تاريخ ديني للوعي الأوروبي، شارك فيه الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وفي أشد صوره، ليس مقدسا ولا دينيا ولا موحى به،
117
هو مجرد بناء تاريخي ابتداء من تكوين العقائد بالوعي الجمعي بمناسبة حوادث تاريخية معينة ومحددة في عصر آباء الكنيسة، ليس موحى به. إنما الموحى به هو الكلام المباشر للمبلغ، وهو سابق على تكوين اللاهوت العقائدي، وليس دينيا لأنه لا ينتمي إلى النواة الأولى المعطى الديني، وليس مقدسا لأنه الحوادث التاريخية التي وراء نشأة العقائد ليست مقدسة، يمكن أن يصبح اللاهوت العقائدي علما إذا تخصص في الوحي المعلن والكلام الشفاهي ثم المدون، ويحاول البحث عن النواة الأصلية للوحي بعد التخلص من كل الشوائب التاريخية التي تسربت إليه وعلقت به. يتتبع نشأة العقائد وتطورها كخلق الجماعة الأولى كما تفعل مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية»؛ ومن ثم يصبح اللاهوت العقائدي نقدا تاريخيا، وفقط في هذه اللحظة، وبهذا المعنى يستطيع أن يأخذ وضعا شرعيا.
إن اللاهوت الوحيد الممكن، لو كان ذلك ضروريا، هو اللاهوت السلبي، وهو لا يتدخل في الشخص الإلهي بل يتناول صفاته فقط، والصفات مقولات إنسانية مثل: العقل والإرادة. ميزة اللاهوت السلبي تنزيه الله من كل نزعة شيئية، وينكر كل تحديد ممكن، لا يعرف الله إلا سلبا؛ ومن ثم يظل التعالي الإلهي بعيدا عن كل تشبيه، رسالة اللاهوت السلبي رسالة تطهير، وهو ضروري من أجل استبعاد النزعات الشيئية والتشبيهية في اللاهوت العقائدي، وقد يكون للاهوت الوضعي المرتبط بالدين الوضعي بعض الأهمية لو تم فهمه.
118
لا يعني «وضعي» تاريخيا كما هو الحال في الدين، أو مؤسسيا كمعناه في اللاهوت، بل يعني فقط «واقعيا»؛ يعني اللاهوت الوضعي أن معطى الوحي يتضمن الواقع في داخله نظرا لأنه بنيته الثلاثية تتضمن الوحي والعقل والواقع، كما يشير إلى أن الحالة الخاصة الجديدة قد يكون لها وضعها المثالي بالقياس، يعني «وضعي» وجود علاقة تماثل بين معطى الوحي كأصل لمعطيات خاصة أخرى مشابهة كفروع، يصبح اللاهوت الوضعي بهذا المعنى العنصر المحرك للدين الوضعي؛ لأنه يدرج دائما الحالة الحديدة داخل الأصل، والاتجاهات الحديثة هي أكثر الحركات ازدهارا في اللاهوت الوضعي، واللاهوت الفيزيقي، وهو أقل خطورة من اللاهوت العقائدي، يضل الطريق أيضا إذا حاول أن يجد في العالم، مثل: الغائية والعلية، براهين على وجود الله. ليس الله موضوعا لأي علم، ولا يمكن البرهنة عليه بأي برهان؛ لأنه ليس له أي وجود مسبق. الله قصدية إنسانية يتم الاتصال بها عن طريق كلماته؛ أي بالوحي، الوحي حقيقة ممكنة تتحول إلى واقع، ويصبح الوحي نظاما مثاليا للعالم، يصبح «الله» العالم، ويصبح العالم «الله»، وتتحقق هذه العملية بعمل الشخص الإنساني؛ ومن ثم لا «يكون» الله، بل «يصير» ويجد دلالته العميقة وواقعه في العالم، ومع ذلك يستطيع اللاهوت الفيزيقي أن تكون له أهمية كبرى في تأويل العلامات الطبيعية في بحث معنى الأشياء، وقد يكون العالم كله علامة تعطي دلالة معينة، يستطيع اللاهوت الفيزيقي بعد رد العالم كموضوع طبيعي أن يصبح نوعا من الكونيات النظرية تقدم خدماتها طبقا للحاجة أثناء فهم نص الوحي، ويصبح النص العلامة اللغوية، ويصبح العالم العلامة الطبيعية، واللاهوت الطبيعي القائم على العقل والتجربة لا علاقة له باللاهوت، بل يشبه منهج التحليل النظري للخبرات اليومية، وهو المنهج الذي يستعمله الوعي النظري من أجل فهم معنى نص الوحي بعد تطبيق المبادئ اللغوية، ليس للاهوت الطبيعي أي علاقة باللاهوت العقائدي؛ لذلك يمتلك وضعه القانوني الخاص، يعطي مجموع دلالات التجارب الإنسانية المتطابقة في مقابل معنى نص الوحي، ولا غنى عن اللاهوت الطبيعي لتأويل نص الوحي؛ لأنه هو الذي يعطي الواقع الإنساني، في حين لا يعطي نص الوحي إلا الحقيقة الموحى بها، أما اللاهوت الأخلاقي، وهو أيضا أقل خطورة من اللاهوت العقائدي، فإنه يضل الطريق إذا أراد أن يعطي الأدلة الأخلاقية على وجود «الله»، ليس «الله» موضوعا للإثبات أو النفي، بل مشروع للتحقق بالعمل، ومع ذلك تبرز أهمية اللاهوت الأخلاقي عندما يدرس السلوك الإنساني بالبحث عن أساس السلوك، وفي هذه الحالة يرتبط بالشعور العملي، ومهمته تحقيق معطى الوحي كنظام مثالي للعالم بالعمل. (15) تاريخ الأديان وعلوم التأويل
119
ومع ذلك يبرز علمان رئيسيان مفيدان لفلسفة الدين، هما تاريخ الأديان وعلوم التأويل. (أ) فائدة تاريخ الأديان
120
تاريخ الأديان جزء من النقد التاريخي، مهمته البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس، يستطيع أن يكتشف المصادر والآثار التاريخية في النص المقدس عبر تاريخه للتخلص منها، وتخليص النواة الأولى من شوائبها التاريخية، تاريخ الأديان إذن مادة ملحقة بالنقد التاريخي دون أن يكون علما مستقلا، وفك رموز الكتب المقدسة طبقا لأكثر القواعد إحكاما للفلسفة، النقد التاريخي أمر ضروري،
121
هو شرط بحث الصحة التاريخية للنص المقدس. والدليل الوحيد على أن النص المقدس وحي أم لا هو أن يكون الكلام المدون قد نطقه الرسول، وإذا كان النص صحيحا تاريخيا فإنه يمثل ثلث الحقيقة، والثاني إذا كان المعنى المتضمن في النص مطابقا لتجربة الحياة اليومية، والثالث تحول المعنى المفهوم من النص كقاعدة للسلوك وبنية مثالية للعالم. فإذا نقص النص الثالث الثاني عن الحقيقة يبقى الثالث، وإذا نقص الثالث أيضا يصبح موضوعا تماما ولا يتضمن أي وحي، وإذا سادت النزعة التاريخية تاريخ الأديان فإن ذلك يكون امتدادا للمنهج الوضعي في العلوم الإنسانية، ونقد النزعة التاريخية مهمة الفلسفة وليست مهمة تاريخ الأديان، ويتكون النقد التاريخي بالضرورة من البحوث الموضوعية حول الصحة التاريخية للنص، ولا تسيطر عليها النزعة التاريخية لسبب بسيط هو وجود شعور الراوي كوعاء للنقل، تنبع مناهج النقل التاريخي من الشعور وليس من الوقائع المادية؛ لذلك نجحت مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» نجاحا باهرا؛ لأنها تضع الشعور الفردي والجمعي كالموطن الأول في تكوين النصوص المقدسة. وأهمية «الرد» هو بالضبط وضع كل الوقائع التاريخية بين قوسين من أجل الإبقاء عليها كمضامين حية في الوعي الجماعي، وبالإضافة إلى النقد التاريخي يمكن الاستفادة من تاريخ الأديان في دراسة تطور الوحي من خلال مراحله المختلفة عبر التاريخ. فإذا كانت مهمة النقد التاريخي المحافظة على الصحة التاريخية لنقل الوحي، الشفاهي أو المدون بعد اكتماله، تكون مهمة تاريخ الأديان دراسة تطور الوحي قبل اكتماله في مرحلته الأخيرة. ودون الدخول في أي دراسة مقارنة بين الوحي والتدين التاريخي، يمكن تتبع تطور الوحي من الداخل لرؤية منطقه الداخلي في جدل الكمال والاكتمال.
122
ويخضع المنهج المقارن، المعروف من قبل في فلسفة الدين، لإمكانية التبرير إن لم يتم تطبيقه بشعور محايد،
123
ويخاطر بفقد موضوعيته لو أن معيار المقارنة كان مستمدا من دين محدد، وفي هذه الحالة يحدث تقييم دين على حساب دين آخر طبقا لمخطط الدين الذي ينتمي إليه الباحث. ولما نشأت فلسفة الدين في أوروبا، على ما هو شائع، مهد الدين المسيحي، يخاطر المنهج المقارن بأخذ مخططات الدين المسيحي كمعيار عام صالح لكل الأديان، ويصبح التاريخ والعقائد والمؤسسات والأشخاص؛ أي باختصار كل النسق المسيحي مقياس الأديان الأخرى ومعيارا لها، خاصة تلك التي تنكر هذا النسق، وارتباط المنهج المقارن بتاريخ الأديان قد يسبب مخاطر جمة؛ أولا: فهم الدين دائما كتاريخ، والديانات المحددة ديانات موجودة بالفعل في التاريخ، وتكون هناك خطورة خلط الأنثروبولوجيين بين دين الوحي ودين التاريخ أو ما يسمى بالبدائي، والفرق بين الدينين ليس فقط فرقا في الدرجة بل أيضا فرق في النوع، كما يخاطر المنهج المقارن بالوقوع في النزعة السوسيولوجية، برؤية الظاهرة الدينية كظاهرة فردية أولا، ثم تتدخل بالضرورة البحوث «الإثنية» والأنثروبولوجية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. (ب) التأويل ذروة العلوم الدينية
124
التأويل هو العلم الديني بالأصالة، والذي يكون لب فلسفة الدين؛ فالواقع أن النص المقدس هو نقطة البداية والأساس الفعلي لكل تفكير موضوعي ومحكم في الدين؛ فقد عرف الوحي عن طريق الكتاب، كما عرفت النبوة، وهي علاقة النبي بمصدر الوحي (الله)، أيضا عن طريق الكتاب، وباستثناء الطريق الصوفي، الكتاب هو المصدر الوحيد للمعطى الديني، بل إن الطريق الصوفي لا يعطي الوحي كلاما أو لغة بل حقيقة وشخصا، إذن النص المقدس هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الوحي ، والتأويل هو منطق النص، هو العلم الأول لكل علم ديني ممكن آخر، ويقوم التأويل عادة بمهمتين متمايزتين تماما: البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس عن طريق النقد التاريخي، وفهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية، كل العلوم التاريخية مرتبطة بالأول، وكل العلوم اللسانية مرتبطة بالثاني، وكل مسائل التراث الشفاهي والتراث المدون والإلهام والتقنين والعصمة والوعي الجمعي مسائل في النقد التاريخي، في حين أن كل مشاكل المعنى الحرفي والمعنى الروحي وطبقات المعنى المختلفة تتعلق بالبحوث اللسانية؛ ومن ثم يخلط التأويل في الحالة الراهنة المهمتين؛ مهمة النقد التاريخي ومهمة التحليل اللغوي. هذا بالإضافة إلى أنه يهمل تماما مهمة التحقيق العملي لمعطى الوحي كنظام مثالي للعالم، وإذا اختلط الشعور التاريخي بالشعور النظري فإن الشعور العملي يكون غائبا تماما.
125 (16) حدود فلسفة التصور والمساهمة الضئيلة للمنهج الظاهرياتي
126
وفلسفة التصور لها حدود ليس فقط من داخلها، ولكن أيضا في المساهمة الضئيلة للمنهج الظاهرياتي. (أ) حدود فلسفة التصور
127
في فلسفة الدين كان من الممكن الحصول على نتائج ملموسة لو ذهب البحث إلى أبعد مدى وبشجاعة تامة دون أي اهتمام بالعقائد القائمة. مثلا، إذا ظل الذات الإنساني هو صانع التاريخ بمعنيين، كمسئول عن التطور الفعلي، وكمسئول عن تأويله، فلماذا لم يدفع ذلك إلى أقصى مدى؟ الذات الإنساني هي الوعي الفردي للمبشر، وأحيانا الوعي الجمعي للجماعة الأولى، هذا الشعور هو الذي خلق الأشكال الأولى للعقائد القائمة رسميا، وأهمية منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» هي الشجاعة في إطلاق الحكم بالرغم من ملاحظة هذه المادة العلمية عدة مرات.
128
لم تستطع فلسفة الدين حل مشكلة اللغة، وما زالت اللغة الدينية واللاهوتية والتاريخية هي السائدة، وتدخل اللغة الفلسفية بين الحين والآخر، وإذا كان هذا الخليط يبدو أحيانا، تنحت مصطلحات جديدة لتحديث سطحي للاهوت العقائدي أو بالإحالة إلى الأنساق الفلسفية القديمة أو الحديثة أو المعاصرة خاصة، تعبر فلسفة الدين عن نفسها في لغة فلسفية؛ أي في لغة شاملة وإنسانية، ويرجع تردد اللغة بين عدة مصطلحات إلى الخلط بين الدين واللاهوت والتاريخ والفلسفة؛ فالواقع أن فلسفة الدين خليط من هذه العلوم الأربعة، الخلط بين الدين واللاهوت دائم، ويؤخذ اللاهوت باستمرار على أنه الدين ذاته، واللاهوت في الواقع ليس إلا خليطا من الأبنية التصورية والحوادث التاريخية، ولا شأن لها بالدين كظاهرة؛ لذلك يستمر الخلط أيضا بين الدين والتاريخ؛ فالدين لا شأن له بالتاريخ دون أن ينال ذلك من وضعية الدين، ويرجع الخلط بين الدين والفلسفة إلى غياب أي تحديد مسبق للعلاقة بينهما، ويرتكن هذا الخليط على أكثر الجوانب ملائمة في الدفاع الجديد، ومع ذلك تعطي بعض الملاحظات اللغوية المهمة بين الحين والآخر، ولكن داخل الخلط التام. مثلا، عدم كفاية الدراسة الفلسفية من أجل استخلاص مخطط كلمة وضرورة أخذ السياق، ولو دفعت هذه الملاحظة خطوة إلى الأمام لاستطاعت فلسفة الدين أن تكتشف منطقا لغويا بأكمله، ألفاظا ومعاني وأشياء. وإذ كان المنهج الظاهرياتي قد طبق على نحو جاد لأمكن اكتشاف المنطق اللغوي طبقا للمعاني الثلاثة لكلمة «لوجوس»؛ يتكلم، يفكر، موضوع الفكر أو الشيء الذي يحيل إليه اللفظ والمعنى، وهي علم الصور الخالصة، ومنطق الاتساق، ومنطق الحقيقة.
129
وبدلا من استعمال مكاسب الفلسفة المعاصرة خاصة تلك التي أبرزت أنطولوجيا اللغة، أعطيت ملاحظة عابرة، ومرت مرور الكرام.
130
وقد سادت الفلسفات المعاصرة، الرئيسية والفرعية، فلسفة الدين سيادة كاملة، بحيث إنها أصبحت رصدا للأعمال الفلسفية في السنوات الأخيرة،
131
ويخفي هذا الرصد للأعمال المعاصرة إلى حد كبير الأشياء ذاتها، والتي أتى هذا الرصد لكشفها، وقد تمت الاستعانة بالإحالات الإنسانية. وتطغى الأعمال الفلسفية كفلسفة العمل مختلطة بالأعمال الفلسفية لفلسفة الخلق،
132
وكل نظرية يتم نقدها تمثل نظرية فلسفية معاصرة، أما فيما يتعلق بالجوهر-الأنا، فالأنا موضوع الخلاص من اللاهوت، والأنا-الصورة من الفلسفة النقدية، والأنا-الشخص من الشخصانية، أما الأنا-الروحي، والأنا السابق على التفكير، فمن المثالية، والأنا-اللاشيء من الوجودية، ونظرية الأنا الروحي والفعل-القانون خليط من فلسفة العمل وفلسفة الخلق، وتبين اللوحة الأنثروبولوجية الميدان الفسيح للأعمال المعاصرة.
133
وقد تم الجمع بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وتقريبا كل العلوم الإنسانية بعضها مع بعض في بانوراما للأعمال المعاصرة، وتاهت فلسفة الدين وسط هذا اللانهائي الذي لا يمكن حصره من الأفكار المعاصرة، وضاعت وسط هذا الحشد الهائل من أسماء الأعلام وعناوين المؤلفات والسجالات، ما تقترحه فلسفة الدين هو السيطرة الكاملة على تاريخ الأفكار والنظريات الدينية والأنساق الفلسفية لملفات متحف للأفكار الحديثة،
134
كان يمكن لفلسفة الدين أن تنجح لو أخذت معطى الوحي كنواة للحضارة كي تحدد فيما بعد العلاقة بين الدين والفلسفة واللاهوت والتاريخ ... إلخ.
135
فلسفة الدين هي مشكلة من الدفاع الراقي بالرغم من تكذيب ذلك علنا،
136
ويكشف الدفاع عن نفسه من خلال الألفاظ المركبة من المقاطع «ما بعد» مثل: «ما بعد الطبيعة»، أو «ما فوق» مثل: «فوق العادة»، أو «ما يفوق» مثل: «ما يفوق الطبيعة»، أو «أسمى» مثل: «تأمل أسمى»،
137
وتحيل كل هذه المقاطع الأمامية إلى المفارقة، كما تستعمل ألفاظ أخرى للإشارة إلى «الله».
138 (ب) المساهمة الضئيلة للمنهج الظاهرياتي
139
وفي فلسفة الدين يظل الشعور عالما مثل غيره دون أن تكون له أولوية مسبقة، تسوده أنماط أخرى للشعور مثل: المؤمن، غير المؤمن، الملحد ... إلخ. وكلها تفسيرات في حياد الشعور المحايد، تستطيع الظاهريات إذن أن تساهم في الشعور المحايد الضامن للحقيقة، وتخلو فلسفة الدين من أي إحالات إنسانية تسودها المؤلفات الحضارية، وتذكر جميع دور النشر تقريبا! وتغيب التجربة الإنسانية والموقف المجدد، وكان يمكن للظاهريات التي تنتسب إليها فلسفة الدين جزئيا أن تقدم تجارب حية عديدة كإحالات إنسانية مع الإقلال من هذا الكم الهائل من الإحالات المكتبية لو أخذت الظاهريات مأخذا جادا كعلم مستقل قائم بذاته وليس فقط كعمل حضاري مثل باقي الأعمال.
140
وليست كل الأعمال على نفس المستوى،
141
وتعتمد على بعضها البعض على نحو دقيق ومحكم، وينتج عدم اتساق المراجع إلى غياب تحديد مسبق للتجليات الحضارية المختلفة للمعطى الديني.
142
وقد استعملت الظاهريات كنظرية فلسفية مثل باقي النظريات التي تمتلئ بها الفلسفة المعاصرة، وبهذا المعنى تعلن فلسفة الدين أحيانا عن انتسابها إلى الظاهريات دون أن تكون تطبيقا مباشرا وجذريا للمنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية، استعمل فقط «جزء من مصطلحاتها»،
143
وقد تم الاعتماد على الدراسات الثانوية كمصدر وحيد للظاهريات الترنسندنتالية.
144
وفي كل مرة تبدو المصطلحات أو المفاهيم الظاهراتية ملائمة وصالحة من أجل إكمال النظرة على الفلسفة المعاصرة فإنه يتم استعمالها، كما استخدم «الرد» بمعنى القلب.
145 «الأوضاع الخاصة بصورة الشعور» مجرد ألفاظ أخرى للتعبير عن الحلول العقلية،
146
ونظرا لاستعمال الظاهريات بين الحين والآخر مثل استعمال الفلسفات الأخرى، استعملت الظاهريات الدينية أيضا مثل باقي فلسفات الدين.
147
وعندما يثبت الله كتجربة حية، ففي هذه الحالة يتم الاعتماد على تاريخ الفلسفة دون الظاهريات.
148
واستعمل «الرد» كثيرا في تعارض مع البرهان؛
149
فيوضع الله تحت «الرد» من أجل الإبقاء على «الحي» الذي يند عن البرهان الفلسفي، كما استعمل لفظ «الرد» وحده دون أخذ الظاهريات كعلم فلسفي.
150
وبدلا من أن يؤدي «الرد» إلى الله الحال انتهى إلى الله «فوق العادة»، فماذا يبقى من الظاهريات؟
وفي هذه الإشارات العابرة قد تنقلب الظاهريات طبقا لحاجة تبرير العقائد القائمة؛ ففي الظاهريات الترنسندنتالية، الظاهريات النشوئية جزء من الظاهريات النظرية، والظاهريات الحركية جزء من الظاهريات السكونية، وتريد فلسفة الدين إدخال النظري في النشوئي؛ ومن ثم يضيع الموضوع المثالي المستقل القائم بذاته في المضمون المادي.
151
وعادة ما تؤخذ الظاهريات الأنطولوجية بدلا من الظاهريات الترنسندنتالية؛ لأنها أكثر عرضة للتجريح في نقد أحكامها على العالم بعد إزاحة القوسين.
152
وتظهر بعض التصورات والمفاهيم الظاهراتية بين الحين والآخر طبقا للحاجة، وليست بالضرورة «صورة» أو «بنية» تصورات ظاهراتية، ومع ذلك ارتبطت بها،
153
وتم التعرض للأنواع المختلفة من «الرد» الترنسندنتالي والنظري لمجرد المعرفة،
154
وكذلك عرضت الأنواع الثلاثة من القصدية السلبية النفسية، والتضايف الذاتي الموضوعي، والتأكيد المنتج الخلاق لمجرد المعرفة.
155
وبتعبير أدق أضيفت ظاهريات الإدراك، والظاهريات الوجدانية، والظاهريات الأنطولوجية،
156
وامتدت الظاهريات على تاريخها السابق حتى يلحق بها اللاهوت العقائدي.
157
وتستمر الظاهريات في مجموع الأعمال كلفظ وليس كمضمون، كفهم جديد لما هو قائم بالفعل وليس كعلم دقيق معروف بهذا الاسم،
158
وتستعمل بعض الألفاظ الأخرى مثل
έποxη
على استحياء، وكان يمكن لمعركة الحلول أن تكون فرصة أفضل لإبراز المنهج الظاهرياتي، ولكن سادتها فلسفة العمل .
159
وقد سبق أن أخرج المنهج الظاهرياتي بالقوة من فلسفة العمل بالرغم من اختلاف الفلسفتين.
160
ولم يتم تعميم «الرد» المنسوب إلى العمل على كل العقائد التاريخية، ولا تدفع الظاهريات نحو الصورية بل على العكس تحيي الظاهرة، وميزة الأنطولوجيا المنسوبة إلى فلسفة العمل على الظاهريات الترنسندنتالية ليست إلا افتراضا مسبقا من أجل تبرير اللاهوت العقائدي. والأنطولوجيا الوحيدة الممكنة هي التي أعطتها الظاهريات نفسها، وهي أنطولوجيا المناطق القائمة على مناطق الشعور، والتي على أساسها تقوم مناطق الوجود.
ولتطبيق منهج أيا كان في الظاهرة الدينية، يلزم أولا وجود تجانس بينه وبين الموضوع، إذا كان المنهج أقل اتساعا من موضوعه يكون التطبيق تصغيرا لأبعاد الموضوع وتفكيكا لمكوناته؛ إذ يرفع المنهج العقلي من معطى الوحي طابعه الحي، ويرفع المنهج الوجودي من معطى الوحي طابعه العقلي، ويرفع المنهج التجريبي من معطى الوحي طابعه القبلي ... إلخ؛ لذلك قد تقع فلسفة الدين في عدم تناسب بين المنهج المختار والظاهرة الدينية. فلسفة الدين هي أولا فلسفة تنتمي إلى نسق فلسفي معين، ومنه يخرج منهجه، وهو ديني لأن له تصورا دينيا من طائفة معينة. المنهج الظاهرياتي وحده يعطي العقلي حقه في صورة الشعور، وللتجريب وجوده في مضمون الشعور، وللوجودي وضعه في الشعور، نص الوحي وحده هو مصدر الظاهرة الدينية، وليس النص المقدس الذي من خلق الجماعة الأولى، وليس النص الديني المؤلف من آباء الكنيسة، ظاهريات التأويل هو العلم الوحيد الذي يحقق التجانس بين المنهج وموضوعه.
161
ويرجع اتجاه فلسفة الدين نحو ظاهريات الدين إلى مقولة الذات ومخططات النفس؛ فالواقع أن الشعور هو البداهة الأولى والبداية لأي تكوين ممكن، وهذا هو سبب قطيعة فلسفة الدين مع اللاهوت القائم رسميا الذي يريد اعتبار العقائد وقائع مستقلة عن الشعور والذي توجد فيه، وتعود فلسفة الدين إلى حظيرة اللاهوت العقائدي من الباب الخلفي بعد أن أصبحت نوعا من الدفاع الراقي، وليست الوقائع المستقلة عن الشعور، مع أنها توجد فيه، هي نفسها المنسوبة إلى العقائد التاريخية، بل هي التي يثبتها الشعور كحقائق؛ أي كوقائع إنسانية، وقد تم تفصيل فلسفة الدين وبإسهاب، وهي أقدم من ظاهريات الدين، وكل فلسفة منذ العصور الحديثة تتوج نسقها بفلسفة في الدين،
162
أما فلسفة الدين اليوم فإنها تتجه إلى ظاهريات الدين.
163
الفصل الثاني: ظاهريات اللاهوت1
لقد طبق المنهج الظاهرياتي من قبل عدة مرات في الظاهرة الدينية بوجه عام وأخيرا في التأويل بوجه خاص،
2
وحتى الآن لم تنته كل هذه المحاولات إلى بيان أهمية المنهج الظاهرياتي ومساهمته في تقدم البحوث الدينية خاصة بحوث التأويل، ولا في حل الأزمة الحالية للتأويل والتي يمر عليها مرور الكرام؛
3
فما زال يسيطر على ظاهريات الدين تبرير اللاهوت العقائدي أو النزعة التاريخية أو الاتجاه النظري الخالص.
4
أولا: تبرير اللاهوت العقائدي1
(1) ظاهريات الشخص المتجسد
يمكن أن تعلن ظاهريات الدين بوضوح عن نفسها بأنها لاهوت صريح بدلا من أن تكون لاهوتا مستترا، ويبين العنوان نفسه الحضور التام للاهوت في «الشخص المتجسد»، والظاهريات مع الفلسفة الوجودية ليست إلا عنوانا فرعيا.
2
وتتكون اللعبة من استعمال المنهج الظاهرياتي، بعد إعادة صياغة خصوصا لهذا الغرض، من أجل الوصول إلى تبرير العقائد القائمة ثم نقدها ثم رفضها،
3
واعتمادا على الظاهريات من أجل إثبات وجود الله أصبحت الفلسفة الوجودية خاصة الوجودية الجذرية (الملحدة) ميدانا آخر للمعركة،
4
وقد أفسح الدفاع عن عقائد التجسد المجال لتبرير اللاهوت، وهو ما جرت عليه العادة في تاريخ اللاهوت، فكم من مرة التقطت عديد من النظريات في الفلسفة أو في العلم لتبرير جديد للاهوت. ولماذا تبقى العقائد متأخرة بالنسبة للمكتشفات الجديدة ولا تتقدم عليها؟ واللاهوت نفسه لا يدرك أن الفلسفة والعلم كليهما ليستا إلا نقلا عقليا وواقعيا لبعض جوانب الدين، والتي يحاول اللاهوت تقديمها، وإذا كان تأويل الظاهريات قد انتهى إلى تأويلها الديني مثل كل الفلسفة الأوروبية، فإن هذا لا يأخذها لتبرير اللاهوت القائم؛ فاللاهوت هو أكثر التجليات زيفا للدين، والميتافيزيقا هي أصح تحولاته. تستطيع الظاهريات أن تأخذ الدين وتعرضه عرضا شاملا، ولكنها لا تستطيع تبرير اللاهوت، وإذا كان الباعث الديني وراء المثالية الظاهراتية فإن هذا لا يثبت اللاهوت في كثير أو في قليل،
5
واللاهوت الذي تبرره الظاهريات هو لاهوت الشخص المتجسد، المعرفة والإرادة. عرض اللاهوت عقدية التجسد الرسمية، وهو ليس اللاهوت الوحيد، هناك أيضا اللاهوت الذي يؤكد الوحدة الإلهية وتنزيهها بالنسبة للعالم، والانتقادات الموجهة إلى الظاهريات صحيحة، ولكنها لا تستخدم لتبرير نوع معين من اللاهوت، وإذا كانت الظاهريات مثالية فإنه يمكن تصحيحها بالعودة إلى الأشياء ذاتها وإلى وجود العالم، وقد حدث ذلك في ظاهريات الموضوع والأنطولوجيا الظاهراتية،
6
دون أن يبرر ذلك معرفة متجسدة أو إرادة متجسدة أو شخص متجسد.
7
يستخدم اللاهوت الظاهريات عندما يكون في حاجة إليها ودون أخذها أساسا للتفكير أو مقياسا للتصحيح، وتمتد اللعبة كي تصبح تأويلا منقوصا للظاهريات؛ إذ يمكن نزع النص الظاهرياتي من مجموع نصوصها من أجل إعطاء معنى ملائم لمقتضيات اللاهوت، وما فعله اللاهوت من قبل مع النص الديني، التأويل لصالح العقائد، تم فعله من قبل مع الظاهريات. تستعمل الظاهريات عندما يكون اللاهوت في حاجة إليها وعندما تثبت الظاهريات العقائد، وتلفظ عندما تنفي اللاهوت وعقائده. وتفقد مستواها الخاص من أجل استبعادها مع الوجودية وأحيانا أخرى «الفلسفات السابقة»، وكانت التأويلات المختلفة المتضاربة أحيانا للظاهريات فرصة إضافية لاختيار أكثر التأويلات ملاءمة للعبة التبرير، مرة هذا التأويل، ومرة أخرى ذلك، دون اعتقاد داخلي بصحة هذا التأويل أو ذاك، وتبني تأويلا منهما، وأحيانا يضع اللاهوت التأويلات في معارضة بعضها البعض لبيان عدم تجانسها لصالح اللاهوت العقائدي، وأحيلت الظاهريات الترنسندنتالية فقط إلى تطورها المتأخر في الظاهريات النقدية أو الظاهريات الأنطولوجية لأنها أكثر عرضة للتجريح.
وفي ميدان العلاقات الإنسانية، حتى ولو كانت تنتمي إلى اللاهوت، يمثل تطبيق المنهج الظاهرياتي خطورة أقل من ميدان العقائد، العقائد مشكوك فيها، ويشهد بذلك النقد التاريخي، والتحليل اللغوي، والتحقيق العملي، ولكن العلاقات الاجتماعية يقينية على الأقل على مستوى الفهم؛ ومن ثم لا يوجد خطر في فهم الإحسان من خلال التجربة المشتركة من الوقوع في التبرير، وحتى لو تم ذلك فإن الخطورة أقل؛ لأن الإحسان تجربة إنسانية معروفة سلفا.
8
وعندما يتوقف الحوار بين اللاهوت والظاهريات تفتح جبهة المعركة بين اللاهوت والفلسفة الوجودية؛ إذ يدخل الحدوث في بنية الواقع من خلال الهم كما تثبت الفلسفة الوجودية، والحدوث ليس على الإطلاق دليلا على خلق العالم ولا دليلا على وجود خالق كما يريد اللاهوت،
9
الحدوث مناسبة الضرورة، هو الزمان الذي يخلقه العمل للخلود، في حين أن العالم كواقع فيزيقي موضوع بين قوسين، وينشأ في لحظة وعي الأنا بذاته، الوجود الإنساني وجود في العالم، والخلق مقولة إنسانية خالصة تعلن عن الفعل والعمل. ينشأ العالم في الشعور ويخلق نظاما مثاليا بالعمل، ولو أخذ الحدوث لصالح الخلق فإن العدم يصبح أيضا قرينا للشخص ولله.
10
ليس العدم إلا عتبة الوجود، والله مثل العالم موضوع بين قوسين، وفي الذروة يأتي الاعتقاد بالإيمان الخارق للعادة؛
11
وبالتالي تترك الظاهريات كلية بحيث يصبح العيش مع اللاهوت أكثر سهولة، وقد تمت صياغة نسق لاهوتي مرة أخرى دون أي اعتبار للظاهريات التي استعملت من قبل كسلم للوصول، وتقود العقائد باسم التكوينات لظواهر الشعور، في حين تختفي الظاهريات كلية. واستعملت كل هذه التصورات الدينية مثل المسيح، الكنيسة، الخارق للعادة؛ من جديد دون أي فحص سابق للمصطلحات ولا للمفاهيم ولا للأشياء ذاتها، وذكرت النصوص الدينية وكأنها أدلة في ذاتها، وبدلا من الاقتراب من العقائد، فتح الباب على مصراعيه. وكان للعقائد والتصوف والتاريخ ولكل ما هو قريب من الدين أو بعيد يقينه. وهكذا يتم الفصل بين مستويين؛ الأول مستوى الظاهريات والثاني مستوى اللاهوت دون وضع ظاهريات حقيقية للدين، وتركت الإحالات الظاهراتية مكانها للإحالات اللاهوتية، ونسيت الأفكار الموجهة الرئيسية التي تم إحصاؤها أولا في الظاهريات، مثل: البداية الجذرية، البداهة، الحدس، التحليل ... إلخ. وفي عنوان المحاولة ألحقت الظاهريات باللاهوت، وأصبح التجسد شيئية ونزعة طبيعية إن لم يتم فهمه في الحلول، يعارض التجسد تعالي الأنا موجود، وكانت صياغة منهج ظاهراتي قبل بداية اللعبة مجرد تستر مقصود. ويتم الإعلان أولا عن الظاهريات المستقلة عن اللاهوت، ثم يظهر القصد الحقيقي اللاهوت بعيدا عن الظاهريات، وإذا تم نقد اللاهوت جزئيا فإن ذلك لا يساهم في أي شيء، والنقد الجزئي أحد طرق الإثبات، اللاهوت إذن كله كنسق مغلق في حاجة إلى إعادة بناء كلي. (2) ظاهريات الإيمان
وقد تمت محاولة أخرى لإقامة ظاهريات للإيمان،
12
تنكر استقلال الظاهريات كمنهج قائم ومكتف بذاته في تطبيقه في ظاهرة الدين،
13
وهذا الترقيع هو نفي كامل للظاهريات، وهي منهج كامل للبحث والاستقصار، ويكتمل النقد الشائع الموجه إلى الظاهريات باعتبارها مثالية على أنها مثالية أو ظاهريات الفعل تكتمل بظاهريات الموضوع، وأعطى الفرصة لهذا الترقيع المقترح، وتوجد الواقعية المطلوبة في آخر مرحلة للظاهريات، وهدفها الأخير من تطورها،
14
وقد تمت من قبل العودة إلى العالم وراثة لظاهريات الموضوع،
15
وقد أزاحت الميتافيزيقا القوسين كما حدث في الظاهريات الوجودية، ويمنع اللاهوت البداية الجذرية، ويعطي الفرصة للعبة تبرير العقائد الغائية. (3) ظاهريات الظاهرة الدينية
لقد حاولت ظاهريات الدين أولا أن تخرج من الظاهريات النظرية منهجها الذي يمكن تطبيقه في الظاهرة الدينية،
16
فهل نجحت في ذلك؟ وتعتمد كل محاولات صياغة منهج ظاهرياتي لتطبيقه في الظاهرة الدينية على طريقة تصور فلسفة الدين، فإذا ما ادعي أن الظاهريات غير كافية كمنهج مستقل وأنه يجب إكماله بالميتافيزيقا واللاهوت، تمت صياغة المنهج الظاهرياتي بطريقة يظهر فيها عدم كفايته خاصة فيما يتعلق بالاشتباه في معنى الظاهرة، والتي يمكن أن تنشأ فيه ظاهريات الفعل وظاهريات الموضوع.
17
ولما كانت الظاهريات النظرية ظاهريات فعل تستطيع الميتافيزيقا واللاهوت تحويلها إلى ظاهريات الموضوع، لم تكن صياغة منهج ظاهرياتي محاولة مستقلة، بل كان الهدف إلحاقها بالدفاع عن الإيمان. كذلك لا يمكن استعماله لتأسيس ظاهريات دينية؛ لأن ذلك لم يكن هدفها، وظلت نظرية دون وضع أفكار موجهة في قواعد للتطبيق ولتكون «قواعد في المنهج». صحيح أن الظاهريات علم يقيني،
18
وهي أيضا المباشر.
19
وإذا كان لها قطبان، الأول نحو الذات والثاني نحو الموضوع، فإنها لا تكون لذلك متشابهة،
20
فلا يقضي «الرد» إلا على الموضوع المادي في حين يتكون الموضوع الحي في القصدية.
21
صحيح أن الظاهريات الوجودية تمثل تقدما بالنسبة للظاهريات الترنسندنتالية،
22
وهو تقدم الظاهريات التطبيقية بالنسبة للظاهريات النظرية، وفي نفس الوقت الظاهريات في تراجع بالنسبة للظاهريات الترنسندنتالية، خاصة فيما يتعلق برفع الأقواس وإصدار أحكام الوجود. صحيح أن الظاهريات فلسفة،
23
ولكنها فلسفة كعلم محكم، ولا تستطيع الميتافيزيقا ولا اللاهوت تحويلها إلى علم. الميتافيزيقا ممكنة بفضل الظاهريات، ويختفي اللاهوت، على الأقل اللاهوت الرسمي بموضوعه ومنهجه إذا ما استعمل المنهج الظاهرياتي، لا يكفي إذن ذكر بعض موضوعات الظاهريات النظرية: الرد، القصدية ... إلخ؛ فهي مسائل أولية يتم تطبيقها في الجوانب المختلفة للظاهرة الدينية.
ويقدم المنهج الظاهرياتي في تطبيقه في الظاهرة الدينية الأساس أو القاعدة في حين تكون الظاهرة الدينية الفرع أو الجانبي. المنهج الظاهرياتي هو مقياس التطبيق في حين أن الظاهرة الدينية هي الموضوع المقاس، وتقوم الظاهريات الدينية حتى الآن بالعكس؛ إذ تعتبر الظاهرة الدينية التي يقدمها اللاهوت كأساس والمنهج الظاهرياتي كما تقدمه الظاهريات النظرية كموضوع يتكيف طبقا للأساس السابق؛ ومن ثم فقد المنهج الظاهرياتي طابعه التقنيني كأساس ومقياس،
24
ولم تعد هناك إمكانية لفلسفة الدين؛ أي تطبيق المنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية، وظلت لعبة تبرير اللاهوت بالظاهريات كما تم تبريره من قبل بكل علم إنساني اكتشف حديثا.
25
ليس اللاهوت ظاهرة دينية؛ هو على العكس خليط من تاريخ العقائد والأنساق الفلسفية المختلفة. والظاهرة الدينية نتيجة الاتصال المباشر والوقتي للشعور مع النص الديني؛ ومن ثم فإن ظاهريات الدين هي «ظاهريات الإيمان» الأول إضافة إلى الظاهريات، في حين أن الثاني تطبيق للمنهج الظاهرياتي في الدين، وطريقة العطف تكشف عن اللعبة.
وفي ظاهريات الدين، هناك ملاحظات دقيقة على الظاهريات وعلى الدين أو على طريقة التطبيق، واستخدمت هذه الملاحظات لصالح لعبة التبرير، مثلا إن نقد الظاهريات الترنسندنتالية كمثالية ملاحظة صائبة، ولكنها لا تعطي الحق لتحويلها إلى واقعية باللاهوت. صحيح أن الظاهريات الترنسندنتالية ظاهريات فعل، ومع ذلك فإن تحويلها إلى ظاهريات الموضوع لا يتحقق على الإطلاق بفضل اللاهوت. صحيح أن الظاهريات في حاجة إلى وضع خاص ممكن بفضل تحولها، فإنها تكتفي بترقيع ميتافيزيقي الذي يعني هنا اللاهوت،
26
تستطيع الظاهريات وحدها أن تنتهي إلى ظاهريات الدين، ولا تحتاج إلى ترقيع من علم آخر، ميتافيزيقي أو لاهوتي، يخاطر بالقضاء عليها تماما ، ولا يبقى إلا على اسمها لصالح لعبة التبرير.
27
ولديها كل الوسائل للانتهاء إلى فحص الظاهرة الدينية ابتداء من النص الديني، ليست الظاهريات عاجزة تماما أمام الظاهرة الدينية،
28
تسبق اللاهوت وتصححه بالعودة إلى أصله في النص. ظاهريات الدين متضمنة في كل العمل الظاهرياتي، وقد بين تأويل الظاهريات الحدس الديني الضمني، وقد ساعدت المثالية الترنسندنتالية في العمل المنشور، والباعث الذي يدفع في العمل المخطوط أو حتى الحياة الخاصة لمؤسس الظاهريات وتكوينها منذ الشباب، على فهم الظاهريات كتوجه ديني عميق،
29
تستطيع ظاهريات الدين أن تدرك دلالة الظاهرة الدينية، والظاهريات أساسا بحث في الدلالات، وتستطيع أيضا عند الحاجة أن تكون أنماطا للمعطى الديني، مثل: التاريخ، الحادثة، الشخص، الكلام ... إلخ، دون أي نيل من دلالة المعطى الديني من حيث هو كذلك، ولا تخضع أي ظاهريات للدين لأي سيطرة، بل هي تصحيح للفهم. ونظرا لأن اللاهوت يدرك دائما خطورة ظاهريات الدين عليه فإنه يراه رقيبا عليه.
30
ليست ظاهريات الدين حالة خاصة من فلسفة الدين، هي حالة حديثة تمثل تقدما بالنسبة لفلسفة الدين في العصور الحديثة، وهي ليست أيضا مقاربة فلسفية للظاهريات الدينية تعطي للعقل بعض حقوقه، بل هي علم جذري ومستقل.
31
والعقل في الظاهريات لا يدل على ظاهرة الدين؛ لأنه يكون قطبا مع الواقع، ويتخلله الحدس. حياد وعي الباحث يكمن في ظاهريات الدين، ويمكن الحصول عليه عن طريق البداية الجذرية، والعودة إلى الأصلي، وقلب النظرة، والتقويس، والتخلص من كل الافتراضات المسبقة. وكلها آليات وإجراءات منهجية، لا يحتاج الباحث أن يأخذ «موقفا متحيزا منذ البداية»،
32
يكفيه النص الديني كقبلي معرفي في إدراكه للعالم، ليست صورة الشعور على الإطلاق انتسابا بالعقل فوق الطبيعة إلى حقائق موحى بها تكون الموضوع القصدي، مضمون الشعور، ليست صورة الشعور إلا التحليل النظري، ابتداء من المبادئ اللغوية، وليس مضمون الشعور إلا الخبرات الحية في الحياة اليومية. وإذا ما اعتبرت صورة الشعور أنها الإيمان، ومضمون الشعور أنه اللاهوت القائم، فإن ذلك مجرد تغيير في المصطلحات بصدق وصراحة.
33
وهكذا ينظر إلى حقائق الوحي وكيف تفهم كحقائق إنسانية، ودور النص الوحي في الإدراك، ونسبة وقائع مستقلة عن الحقائق الإنسانية للحقائق الدينية وقوع في الشيئية والمادية الخالصة. (4) ظاهريات اللاهوت المدرسي
وقد تأسست ظاهريات الدين إثر لقاء عرضي،
34
ولم تؤخذ كرسالة هامة لتحقيقها، أخذ المنهج الظاهرياتي في يد والظاهرة الدينية في اليد الأخرى، ولم تتعد مقارنة تاريخية بين مؤسس الظاهريات ولاهوتي مدرسي، واعتبرت التجربة الدينية تجربة صوفية في حين أن التجربة الصوفية نوع خاص من التجربة الدينية.
35
وكانت الغاية النهائية من الدراسة المقارنة كالعادة تبريرا جديدا للاهوت المدرسي، وتم تفضيل الثنائية المدرسية بين العقل الطبيعي والعقل فوق الطبيعي على التوحيد بين العقل والواقع في الظاهريات.
36
وقد سمح الجانب النظري في ظاهريات الدين بدخول الأنساق الفلسفية، تراجعت ظاهريات الدين التي تمثل تقدما بالنسبة لفلسفة الدين بسبب سيطرة الأنساق الفلسفية عليها، وهي ليست إلا تحولات لبعض جوانب الدين ذاته. ليس دور ظاهريات الدين فقط إقامة بناء جديد لفلسفة الدين، بل المساهمة الفعلية في حل الأزمة الراهنة للدراسات الدينية وتاريخ الأديان وفلسفات الدين وظاهريات الأديان ... إلخ. ولا تكتفي ظاهريات الدين بالقيام بمشروع ظاهراتي يأخذ الظاهرة الدينية كمضمون، بل دورها إصلاح العلوم الدينية القائمة عن طريق المنهج الجديد الخصب السليم، وينتمي المشروع الظاهرياتي أيضا إلى فلسفة الدين؛ أي إلى الفلسفة الظاهراتية النظرية التي لا تساعد على تقدم الحالة الراهنة للعلوم الدينية إلا إذا رفعت سقف توقعاتها درجة، لا يتكامل المنهج الظاهرياتي مع المسألة من أساسها، بل يأخذ النتائج الحالية للعلوم الدينية مثل النقد التاريخي أو مناهج الفحص أو المشاكل الخلقية ومحاولة تأويلها وتكييفها وإصلاحها، وهو دور عملي تطبيقي وليس دورا نظريا. (5) ظاهريات اللاهوت الوجودي
وإن تبرير اللاهوت بالظاهريات الترنسندنتالية أو بالظاهريات الوجودية فن بذاته، ويتحول إلى مقال أدبي عندما لا ينجح في لعبته، وقد حدث هذا في الوجودية اللاهوتية؛
37
فالوجودية ليست الظاهريات، ومن الصعب اعتبار اللاهوت ظاهريات الدين أو مساهمة فيها، هي مجرد تفكير صحفي أدبي في موضوعات متفرقة، وبسبب غياب التحليل المنهجي للمسائل المتناولة من الصعب رؤية قصدها ومنهجها ونتائجها، يختلط التاريخ بالتأمل، والفلسفة باللاهوت على نحو أدبي، وأحيانا خطابي، ويمر على المسائل مرور الكرام وبسرعة دون أي وعي بأهميتها، أليست أزمة «النزعة الداخلية» هي إشكال الوعي النظري ودوره في فهم النص المقدس ابتداء من التحليل اللغوي؟ أليست أزمة «الشهادة» هي إشكال الوعي التاريخي ودوره في البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس بالنقد التاريخي؟ وأين أزمة السلوك؟
38
وفي مقابل الوجودية اللاهوتية يستنتج اللاهوت الوجودي من التأويل الوجودي للنص المقدس؛ فالتثليث هو الوجود في العالم، وتصبح الخطيئة البراءة الأصلية للشعور، والفداء هو خلق الذات بالذات، والأخرويات هي الغائية في الوجود الإنساني ... إلخ. وبنفس الطريقة التي تمت بها الوجودية اللاهوتية كتب «لاهوت التاريخ»؛ فهو من ناحية خليط بين الفلسفة واللاهوت، ومن ناحية أخرى بين اللاهوت والتاريخ.
39
لاهوت التاريخ هو في الحقيقة امتداد للوجودية اللاهوتية. صحيح أن التاريخ هو بعد للوعي الفردي، ومع ذلك ليس وجودية لاهوتية، بل هو نقد للنص المقدس، ليس نسقا لاهوتيا جديدا، بل عودة إلى الأصول بالمناهج النقدية. (6) ظاهريات المعرفة الدينية
وإذا كانت ظاهريات الدين جزئيا نتيجة لعبة تبرير اللاهوت بالظاهريات كما هي عليه أو بعد نقدها كمثالية وإكمالها باللاهوت، فإنها تؤخذ أحيانا كمجدبة وعاجزة أمام اللاهوت باسم نظرية المعرفة.
40
أولا تحال الظاهريات إلى مصادرها المدرسية ومن أجل إثبات اللاهوت-الأم كمصدر للمعرفة.
41
وقد تم عرض الظاهريات بحيث يتم تفريغها من أصالتها ودلالتها الخاصة، وأحيل جزء منها، مثل القصدية والدلالة والتجريد الصوري، إلى الفلسفة المدرسية، ونقد جزء آخر، مثل «التقويس» والموضوع الحال والتكوين، كمثالية ساذجة ومصطنعة. صحيح أن الظاهريات تيار في تاريخ الفلسفة الأوروبية التي ورثت العصر الوسيط، وصحيح أن كل مذهب في الفلسفة الأوروبية يتضمن بعض المفاهيم المدرسية بعد تحويلها إلى مستوى الشعور،
42
ليست الظاهريات فقط تيارا تاريخيا، بل هي علم مستقل، يتجه نحو العلم الشامل.
43
وليست مثالية ساذجة ومصطنعة كما يصفها اللاهوت المدرسي، اللاهوت هو المادية والشيئية والخارجية الخالصة. صحيح أن السذاجة عود إلى الأصل، ولكن ذلك ليس إنكارا للطبيعة.
44
صحيح أن الموضوع حال في الشعور،
45
وكل إثبات غير ذلك ادعاء خالص. الموضوع دائما حي في الشعور، والشعور الشامل وحده هو القادر على إثبات وجود الموضوع المفارق، ومع ذلك، هذا الوعي الشامل هو أولا وعي، وهو ثانيا افتراض من الذات، ويوجد في الخبرة المشتركة.
46
والحقيقة باعتبارها تطابق عالم الأعيان مع عالم الأذهان ليست مثالية بل عملية المعرفة ذاتها.
47
ليس «التقويس» إذن احتقارا للعالم، بل على العكس هو إثبات له كموضوع مثالي. وليس تكوين الموضوع المثالي أيضا إعادة بناء مصطنع للموضوع الخارجي، بل على العكس طبيعة المعرفة ذاتها.
48
ولحسم الأمر، من المفيد معرفة من هو الأكثر طبيعية أو الأكثر اصطناعا، الظاهريات أم اللاهوت؟
49
ثانيا: النزعة التاريخية في ظاهريات الموضوع1
(1) ظاهريات المؤسسة
ومن أجل إقامة ظاهريات للمؤسسة كان من الأفضل استعمال الظاهريات النشوئية. وإذا كان الغرض دارسة المؤسسة اليهودية، فإن الظاهريات النشوئية تكون أكثر ملائمة؛ إذ تقوم هذه الظاهريات أساسا على البحث عن نواة المعنى؛ وبهذه الطريقة تكون ظاهريات المؤسسة قد تخلصت من سيادة الوقائع والحوادث التاريخية التي ندت عن «الرد»، والظاهريات النشوئية التي تبحث عن نواة المعنى، وتخلص من الشوائب التاريخية المتعلقة بمعطى الوحي في التاريخ، لا تميز في طبيعتها ذاتها بين ما هو مبدئي وما هو واقعي؛ فمثلا شعب إسرائيل هو الشعب المميز بالوحي لأنه يكون جماعة بشرية، وله وعي جمعي؛ لذلك عقد عهد بينه وبين الحضور الإلهي، وكان هذا العهد مشروطا بالحفاظ عليه من جانب بني إسرائيل، هذا هو المبدأ. وفي الواقع لم يحافظ بنو إسرائيل على العهد بل نقضوه، رافضين الكلام الإلهي. تاريخ إسرائيل إذن ليس تاريخ الخلاص، بل على العكس تاريخ اللعنة.
2
ومثل آخر على التمييز بين المبدأ والواقع هو الوحي كما هو والوحي كما كان. الوحي كما هو مستقل عن التاريخ، وقائع وأحداث وأشخاص، هو كلام الله المعلن من خلال وعي متميز إلى وعي عادي.
3
في حين أن الوحي كواقع خليط بين الوحي والتاريخ، بين الكلام والشخص الذي يعلنه، بين دلالة الواقعة والواقعة ذاتها؛ لذلك ضلت ظاهريات المؤسسة الطريق أولا عن المبدأ أو التصور ، وثانيا عن الواقع. ولم تحافظ الظاهريات إلا على اسمها، تضمنت منهج التحليل النظري والنقدي الذي تبنته فلسفة الدين من قبل؛ مما انتهى إلى دفاع راق؛ إذ أعاد التحليل النظري تأويل العقائد القائمة بعد تخليصها إلى حد كبير من عيوب اللاهوت العقائدي والتاريخي، وقد قام النقد بهذه المهمة للتطهير، ليست الظاهريات إلا لفظا يغطي كل هذا المجموع المعقد من الفلسفة بكل أنساقها والدين بكل علومه. صحيح أنه تم وضع الوعي داخل معطى الوحي، ولكنه ظل مسيطرا عليه من أعلى، وأسيرا لتصورات اللاهوت العقائدي، ومسيطرا عليه من أسفل، ومحكوما بالحوادث التاريخية التي يحيل إليها اللاهوت العقائدي. ظاهريات المؤسسة ليست إلا فلسفة الدين التي تأسست من قبل، بالإضافة إلى بعض المفاهيم، وقليل من مصطلحات الظاهريات، وأخيرا اعتبرت الظاهريات كنظرية فلسفية كغيرها من النظريات. وكل أوجه الخلط من قبل في فلسفة الدين موجودة أيضا في ظاهريات المؤسسة، لم يؤخذ المنهج الظاهرياتي، ولم يطبق في المعطى الأصلي؛ أي معطى الوحي ذاته، وبوجه خاص النص المقدس. وظلت الظاهريات مرة أخرى تحت سيطرة لعبة التبرير كدفاع راق، ويظهر تردد ظاهريات المؤسسة بين الوقائع التاريخية التي تكون الدين والنظريات الدينية التي تكون الفلسفة أحيانا في تحليل المؤسسة اليهودية كمصدر للمؤسسة المسيحية، وأحيانا أخرى في تحليل الاختيار، وهي مشكلة فلسفية خالصة، كموضوع للمؤسسة.
4
انتهت ظاهريات المؤسسة إلى الفشل لأسباب عديدة؛ إذ إنها لم تستطع أولا التخلص من لعبة تبرير المؤسسة القائمة بمجرد تغيير طريقة فهمها، ولعبة التبرير هذه هي حجر العثرة لكل ظاهريات للدين حتى الآن. ليس فهم المؤسسة إعادة بناء نشأتها وإعادة فهم معناها في أبنيتها القائمة، بل البحث عن مشروعيتها بالبحث عن أساسها في مصادرها الأولى؛ وهي نصوص الوحي، ونزع كل مشروعية نسبت إليها من قبل. ظاهريات المؤسسة ناقصة لو نجحت في العثور على بنيتها المثالية، وليس تبرير المؤسسات القائمة. والحقيقة أن لفظي «قائم» و«مؤسس» لفظان متشابهان؛
5
إذ يعنيان من حيث المبدأ «وضعيا»، ولكن من حيث الواقع يستعملان بمعنى «تاريخي». الدين القائم أو الدين المؤسس هو الدين الوضعي. ويكون الدين وضعيا عندما يصبح الواقع داخل الوحي. والواقع هو الحياة كما هي عليه. ويتكون الدين التاريخي في المقابل من مجموع الحوادث والمؤسسات والأشخاص خارج الوحي، وقد تؤدي تسمية الدين المسيحي دينا مؤسسا أو قائما إلى هذا الخلط بين «الواقعي» و«التاريخي». «التاريخي» هو المعنى السائد في ظاهريات المؤسسة على ما يبدو؛ إذ يخلق اللاهوت كالعلم-الأم في الحال علوما أخرى للعقائد. لكل عقيدة تاريخية علم؛ فهناك علم الشياطين، وعلم الملائكة، وعلم مريم، وعلم المسيح، وعلم آباء الكنيسة ... إلخ، دون تحديد مسبق بميدان العلم، هناك علم واحد فقط ممكن هو «علم الذات»؛ فالأنا هي المنطقة الأصلية لكل علم ممكن. الظاهريات «علم الذات»؛ ومن ثم فإن ظاهريات المؤسسة خليط هجين ومضطرب من التاريخ والعقائد والفلسفة والدفاع تحت عنوان ظاهريات الدين،
6
ولا يوجد فيها أي مفهوم أو أي تصور أو أي تحليل ظاهرياتي، وكل الافتراضات المسبقة الخمسة ما زالت موجودة.
7
ظاهريات المؤسسة نوع من الفهم الجديد للمؤسسات القائمة دون تغيير أي واحدة منها، وظاهريات الدين أساسا ظاهريات تقويمية، مهمتها إصلاحية بالتخلص من الشوائب التاريخية العالقة بنواة المعطى الديني، وهو نص الوحي.
8
ليس الوصف إعادة بناء تاريخي باسم ظاهريات الدلالات المسيحية، بل هو تفكيك مسبق لكل بناء من أجل البحث عنه نواة معطى الوحي كمعطى أصلي.
9
صحيح أن الدين هو الشامل العياني، ولكن ذلك لا يتحقق فقط في التاريخ، بل أيضا في التحليل اللغوي للنص للبحث عن الفكرة الشاملة والوضع الفردي في آن واحد، الفكرة هي العام الذي يجد فيه كل الأفراد وضعا مشتركا، في حين أن الوضع الفردي هو لكل فرد على حدة، الدين الشامل العياني في حاجة إلى أن يتحول من مستوى التاريخ إلى مستوى اللغة.
10
ثانيا: ظاهريات المؤسسة أقرب إلى فلسفة الدين منها إلى ظاهريات الدين،
11
وهي أقرب إلى فلسفة المسيحية منها إلى منطق نص العهد الجديد. ظاهريات الدين، والتي تعينت بعد ذلك في ظاهريات المؤسسة، هي جزء مستقل عن فلسفة الدين، ولم تتم صياغتها كعلم جذري، بل كفلسفة مثل غيرها داخل العلم-الأم، وهي فلسفة الدين. في ظاهريات المؤسسة، وكما هو حال فلسفة الدين، ما زال الخلط قائما بين الدين والفلسفة، صحيح أن الفلسفة والدين شيء واحد، ولكن القضية كيف؟
وتحتوي ظاهريات المؤسسة، مثل فلسفة الدين، على كلمات وتصورات كبيرة، تشير إلى أشياء معروفة وبسيطة للغاية. مثلا الإشارة إلى الوحي في إسرائيل بتعبير الدين النمطي، هذا القدر الجامع من الكلمات تجعل ظاهريات المؤسسة خاضعة لمصطلحات مستحدثة، وتوحي بأنها نسق فلسفي صغير، ظاهريات الدين بسيطة للغاية؛ تعبر عن نفسها بلغة عادية دون بناء أي مذهب من أجل تجنب الأخطار الموجودة سلفا في العلوم الدينية خاصة اللاهوت. الدين النمطي ليس إلا طريقة أخرى لإحصاء المراحل المتتابعة للوحي قبل اكتماله، وتصبح معيارية بعد تحقق الوحي كمعطى أصلي للشعور.
12
كان العهد قبل اكتمال الوحي، ثم نقض مرات عديدة، تقريبا في كل مرحلة،
13
وبعد اكتمال الوحي، يظل العهد القديم قائما وممكنا لكل وعي فردي أو جماعي يلتزم به. ليس العهد شيئا معطى من قبل، بل هو حق مكتسب، ولم يعد مطروحا لوعي جمعي محدد بل وعي ممكن، فردي أو جماعي، لقد نقضت إسرائيل العهد عدة مرات حتى ظهور المسيح، فقطعه الله من طرفه، يظل العهد ممكنا من الطرفين؛ إذا حافظ عليه الطرف الإنساني يحافظ عليه الله. ليس هدف تطبيق المنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية إقامة لاهوت جديد مرة أخرى بل إقصاء كل لاهوت، وليس هدفه مدخلا جديدا لإقامة لاهوت عقائدي تاريخي قائم من قبل، بل العثور على معطى الوحي كمعطى أصلي، وهو ما يمكن الحصول عليه بالاتصال المباشر بين الشعور والنص المقدس؛ ومن ثم فإن ظاهريات الدين هي أساسا وقبل أي شيء ظاهريات للتأويل.
ثالثا: ظاهريات المؤسسة هي مجرد طريقة في التعبير أكثر منها منهجا حقيقيا للبحث، وتظهر عبارة «ظاهريات المؤسسة» هنا وهناك من أجل التذكير بالعنوان دون تطبيق فعلي للمنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية. صحيح أن «الصورة»، «المضمون»، «الخبرة المشتركة»؛ تصورات يمكن أن تساهم إلى حد كبير لإقامة ظاهريات المؤسسة،
14
ومع ذلك ليست الصورة هي صورة المؤسسة القائمة تاريخيا، بل صورة اللغة التي تشترط وجود المؤسسة في النص المقدس، وليست الخبرة المشتركة مجموع التجليات الحضارية للنص المقدس دون أي مقياس لموضوعيته. صحيح يرجع اكتشاف هذه المصطلحات إلى منهج التحليل النظري للخبرات الحية من أجل صياغة فلسفة للدين تخترقها بين الحين والآخر ظاهريات الدين، خاصة ظاهريات المؤسسة.
15
والتحليل النظري ليس جانبا للمنهج الظاهرياتي وليس منهجا مستقلا؛ لذلك لم يتم التعرف على أن «الصورة» و«المضمون» و«الموضوعية» ثلاثة جوانب للشعور. يضع المنهج الظاهرياتي أولا الشعور كموطن للموضوع، ثم يأتي التحليل النظري بعد ذلك للكشف عن الجوانب الصورية في الموضوع. ظاهريات الدين ليست ظاهريات المؤسسة بل ظاهريات النص،
16
ونقطة البداية في التجربة المسيحية ليست المؤسسة المسيحية بل نص العهد الجديد. (2) ظاهريات التاريخ
وفي الدين التاريخي، من الحكمة التمييز بين التاريخ قبل تحقيق الوحي وبعده، قبل التحقق كان دور الوحي التجريب الذي يقدر الوحي على قدر المستوى الإنساني من أجل إدخال الواقع داخل الوحي في اكتماله الأخير، في حين أنه بعد التحقق يصبح التاريخ ميدان العمل للذات الفاعل والنشط، ويصبح معطى الوحي نظاما مثاليا للعالم بعمل الذات ، وأثناء تطور الوحي ليست الحوادث والمؤسسات ولا الأشخاص حقائق، بل وقائع لها دلالاتها؛ مثلا تدل الواقعة على الواقع، وتدل المؤسسة على الجماعة، ويدل الشخص على الشعور، وفي ظاهريات الدين كل المجموع التاريخي أثناء تطور معطى الوحي يوضع بين قوسين من أجل الإبقاء على الدلالة وحدها، وهذا ما لم تفعله ظاهريات المؤسسة، ماهية الكلام الإلهي مستقلة عن الحوادث التي تحملها.
17
وفي الدين التاريخي، الخلط بين التاريخ والوحي خلط دائم. صحيح أن الوحي تاريخي أثناء تطوره كميدان للتجربة، وبعد تحققه كميدان للفعل، ومع ذلك ليس الوحي تاريخيا كما هو الحال في ديانات الطبيعة غير الموحاة؛ فهذه لم تتأسس ابتداء من الوحي، بل أسستها العقول العظيمة كعلم للأخلاق أو أسستها الجماعات البشرية كوظيفة اجتماعية. دين الوحي ودين الطبيعة غير الموحى به، كلاهما تاريخيان، ولكن ليس بنفس المعنى.
وقد عقد التوازي بين النوعين من الدين لغاية دفاعية خالصة، يقوم الدفاع بالمقارنة بين دين الوحي كالمسيحية، ودين الطبيعة غير الموحى به مثل الدين اليوناني الروماني من أجل إعطاء الأولية للأول على الثاني. ونظرا لأن النوعين من الدين منفصلان انفصالا جذريا بعضهما عن بعض، ومختلفان اختلافا نوعيا، وضع دين الوحي على نفس مستوى الدين التاريخي، وكأن ذلك دفاع عن الأول؛ لذلك تمت المقارنة بين الأسطورة في دين الوحي مع الأسطورة في الدين التاريخي، بين الشعائر في دين الوحي مع الشعائر في الديانات التاريخية ... إلخ. وهناك موضوعات ومخططات وبنيات عديدة في دين الوحي، مع أنه خال منها تماما، للمقارنة طوعا أو كرها مع مثيلاتها في الدين التاريخي. وفي النهاية انقلبت غاية الدفاع عن دين الوحي كالمسيحية إلى نقيضها؛ لأن الدين التاريخي في الحقيقة هو الذي يفرض موضوعاته وأبنيته على دين الوحي. وتاريخ الأديان المقارن مليء بالأمثلة على هذا القلب اللاإرادي للغاية؛ فالمقارنة بين الأسرار المسيحية والأسرار الوثنية من بين الموضوعات الأثيرة في تاريخ الأديان، وفي هذا العصر الفرق بل ربما التعارض بين دين الوحي والدين التاريخي يكون أكثر وضوحا من التشابه أو التماثل بينهما.
ويتجلى الدين على مستويات عدة؛ أولا يتجلى الوحي تدريجيا في التاريخ، في جماعة متكونة، حتى تحققه النهائي في آخر مرحلة بعد مسار تجريبي طويل للنجاح والفشل؛ ثم يجرب الوحي في الواقع من خلال الوعي الفردي والوعي الجمعي. كان النجاح باستمرار في الوعي الفردي، البقية الصالحة، والصفوة المختارة. وكان الفشل من جانب الوعي الجمعي، واستعملت آيات كثيرة لإدخال الوحي في الشعور عن طريق أشخاص عدة لإعلان كلام الوحي من أجل إظهار معطى الوحي دون أن تكون معطيات في ذاتها. هنا، للتاريخ، أي للجماعة الإنسانية، دور إيجابي في إدخال الواقع داخل الوحي، وبعد اكتمال الوحي يتوقف دور التاريخ كميدان للتحقق، ويظهر الدين أيضا في مستوى ثان هو العالم الواقعي؛ فبعد اكتمال معطى الوحي يتوقف دور التاريخ كميدان للتجربة، ويستمر كميدان حقيقي للفعل، ومعطى الوحي الذي تحقق مثال، يتحقق كنظام مثالي، وبنية فعلية في العالم؛ فقد تحقق معطى الوحي بالفعل كحقيقة إنسانية، كمعطى أصلي للشعور، وفهمه كإيمان أخلاقي، في مقابل الإيمان الرسمي، وكعاطفة في مقابل الصورية، وكتصوف في مقابل الشعائر؛ إنما هو ترجمة إلى لغة فلسفية وببحث إنساني بعد أن تحقق كمعطى أصلي للشعور، الدين الذي يظهر ليس هو دين المؤسسة بل هو الذي يتحول إلى نظام مثالي للعالم.
18
التمييز بين اللاهوت والدين ضروري؛ فاللاهوت - حتى في تعريفه الرسمي - ليس إلا علما دينيا واحدا مثل غيره من العلوم: الدفاع، الأخلاق، تاريخ الدين، التفسير ... إلخ.
19
اللاهوت هو أقل العلوم دينية، وأبعدها عن الدين، يتصف بالنسقية، والعقلانية، والصورية، والخارجية، والشيئية. وعلى العكس، يتصف الدين بالانفتاح، والحياة، والملأ، والداخلية، والمعطى الديني للشعور. ومع ذلك استبدل الأول بالثاني، وتتردد ظاهريات المؤسسة بين التصورات، مقولات ومخططات، وبين الوقائع أو الحوادث. التصورات هي المسموح بها عامة في الحالة الراهنة. المقولة تصور لاهوتي في حين أن المخطط تصور فلسفي.
20
مهمة ظاهريات المؤسسة أولا البحث عن مصادر التصورات دون أخذها كحقائق معطاة سلفا، ثم «ترد» الوقائع وتضعها بين قوسين، وفي هذه الحالة لا يوجد التصور ولا الوقائع، وتصبح مشكلة العلاقة المؤسسية علاقة زائفة بعد اختفاء التصور والواقعة.
21
ثالثا: حدود ظاهريات الفعل1
(1) ظاهريات الفعل الديني
استطاعت ظاهريات الفعل الديني تجاوز فلسفة الدين؛ لأنها حاولت منذ البداية تحديد العلاقة بين الفلسفة والدين، وكانت ظاهريات الدين قد قطعت شوطا كبيرا بتطبيق ظاهريات الحدس العاطفي في ظاهرة الدين،
2
وظلت مرتبطة أشد الارتباط بفلسفة الدين أكثر من ارتباطها بمنطق النص. هي ظاهريات الظاهرة الدينية في صورة الفعل أكثر منها ظاهريات نص الوحي، وللنظرية أولوية ظاهرة على المنهج، تسودها المشاكل والمنازعات التاريخية التي أعطت طابع الجدل وسط هذا الركام الهائل من الحجج والحجج المضادة. وهو أمر طبيعي؛ نظرا لطابع المراجعة الحضارية العامة للتيار كله، مع الرغبة في إعطاء كشف حساب لكل تاريخ الوعي الأوروبي، ومع ذلك ظلت الظاهرة الدينية عصية على الرد؛ نظرا لأنها تقوم على قوانينها الجوهرية الخاصة بها؛ ومن ثم اختفت لعبة التحول والنقل إلى فلسفة الدين،
3
واعتبرت مشكلة فلسفة الدين مشكلة للدراسة أولا من أجل للتجاوز ثانيا.
4
وفي فلسفة الدين، تتم مقاومة اتجاهين؛ فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح.
5
واستطاعت ظاهريات الدين بتحليل الفعل الديني اكتشاف فلسفة الوجود، وبذلك يكتمل قانون تطور الوعي الأوروبي من الطبيعة إلى الروح إلى الوجود، واستطاعت أن تتخلص من نقل الظاهرة الدينية من مشكلة فيزيقية تقريبا أو من مشكلة أخلاقية. وفي التحديد المسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين تمثل الميتافيزيقا الدين، ولم تقبل أنساق الهوية التامة التقليدية التي ترد الميتافيزيقا إلى الدين، أو الغنوصية التي ترد الدين إلى الميتافيزيقا، أو أنساق الهوية الجزئية التي يتضارب فيها الاثنان للإعلان عن نسق تطابق التاريخ.
6
وهذا الأخير ليس فقط إثباتا تاريخيا ضد عيوب أنساق الهوية التامة أو الجزئية أو ضد الأنساق الثنائية، بل هو في طبيعة الوحي ذاته؛ فالوحي له بنية قبلية ثلاثية؛ الوحي والعقل والواقع. ويشير نسق التطابق إلى الهوية الواقعية بين الوحي؛ أي الدين، والعقل؛ أي الميتافيزيقا، باتجاهيها المثالي والواقعي.
وتحلل ظاهريات الدين على نحو جذري الفعل الديني؛ فهي أقرب إلى ظاهريات العمل الخاصة بالبعد الثالث للشعور، وتمثل البعد الثاني وهو الشعور النظري. نظرية الحدس العاطفي أساس الظاهريات الحركية في حين يختفي البعد الثالث تماما، الشعور التاريخي، وكأن ظاهريات الدين ممكنة دون أن يسبقها نقد النص المقدس، ويظل وصف الفعل الديني مترددا بين فعل المعرفة وفعل الوجود. وبعبارة أخرى، تميل ظاهريات الدين أساسا نحو الشعور العملي، وتمر عن بعد بالشعور النظري، وتسقط تماما الشعور التاريخي، وكان يمكن لظاهريات الفعل الديني أن تصل مباشرة إلى البعد الثالث في الشعور الديني وهو الشعور العملي؛ فالفعل الإلهي والفعل الإنساني يمثلان قطبي الفعل الوضعي والفعل القصدي؛ الأول الفعل من منظور الله، والثاني الفعل من منظور الإنسان. الفعل الوضعي فعل إلهي في حين أن الفعل القصدي فعل إنساني؛ فالإلهي ليس هو الشخص الإلهي بل فعله فحسب، الهوية الإلهية موضوع نظرية العدل الإلهي في مقابل اللاهوت الذي يعتبر الله موضوعا للاهوت العقائدي، والتحديدات الصورية للإلهي إسقاطات من الروح الإنساني ، والتحديدات المادية إسقاطات من الطبيعة الإنسانية، والوجود الإلهي إسقاط من الوجود الإنساني.
7
الفعل الإلهي هو الميدان الموضوعي للفعل الإنساني، يرى السبب والشرط والمانع والإرادة ومشروعية الفعل الإنساني. الفعل الديني إذن هو الفعل الإنساني؛ أي الفعل القصدي، ينبثق من الشعور لينتشر في العالم، ويتجه نحو آفاق العالم في مستويات عدة؛ الفعل المحايد، والفعل الممكن الإيجابي، والفعل الممكن السلبي، والفعل الضروري الإيجابي، والفعل الضروري السلبي.
8
الفعل إذن سلوك وممارسة وتوجه في العالم، وتحليل صفاته الحالة تحليل منطق الفعل وليس تحليل الفعل «البراكسيس»، وتعني مفارقته أنه يتوق باستمرار نحو الأفضل، لا يبرهن على وجود الله على الإطلاق؛ لأن الله مشروعه، البرهان على وجود الله هو تحقيق كلمة الله كنظام مثالي للعالم عن طريق الفعل. والفعل القصدي فعل فردي وجماعي، ليس فقط فعل «الأنا» بل أيضا فعل الآخر،
9
ولا تتميز القصدية الدينية عن قصديات أخرى لأنها تحتويها جميعها؛ فهي الأكثر تكاملا. صحيح أنه يجوز أن تكون لها صفاتها الخاصة دون إقصاء المنهج الظاهرياتي الذي هي ثمرته؛ فمثلا تعارض الخصائص الثلاث للقصدية الدينية المنهج الظاهرياتي نفسه، بل وتنفيه نفيا جذريا؛ أولا توجه الظاهريات نحو مضمون مفارق للعالم نفي للموضوع الحال في الشعور، ونشأة العالم لحظة الوعي به. ثانيا عدم مطابقة أي صفة خاصة في هذا العالم المضمون القصدي نفي لمضمون التجربة الحية، وهي المادة العيانية لمضمون النص المقدس. ثالثا إمكانية تحقيق الفعل الديني فقط بالفعل الإلهي نفي لأولوية الفعل الإنساني في السلوك.
10
وهكذا لا يبقى شيء في القصدية الدينية تكون أيضا نتيجة تطبيق المنهج الظاهرياتي الذي تم إقصاؤه تماما.
وما زالت ظاهريات الدين مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعقائد، ولا تتناول فقط العقائد التاريخية كحقائق مطلقة، بل تنقلها إلى مستوى فلسفة روح العصر الحاضر مع إدخال بعض الحركية الإصلاحية فيها، ومع ذلك تظل العقائد التاريخية كما هي، موضوعات فعلية أو حقائق معطاة، دون البحث عن أسسها في النص الديني نفسه، وتبرير اللاهوت بالظاهريات أقل حدة عندما يتجاوز اللاهوت ويعود إلى الأصل؛ أي إلى الظاهرة الدينية، وبوجه خاص الفعل الديني.
11
والمراحل الأربع هي: الظاهريات الوصفية، ظاهريات الماهيات، الميتافيزيقا الدينية، والمعرفة بالإيمان. وهي خالية من أي لاهوت باستثناء ربما المرحلة الأخيرة التي يظل فيها الإيمان، على الأقل من حيث اللفظ، على المستوى اللاهوتي.
12
وبالرغم من التقدم الكبير الذي تمثله بالنسبة لفلسفة الدين، تظل أيضا تحت سيطرة المصطلحات اللاهوتية، خاصة لفظ «الله» وصفة «إلهي»، وهو لفظ لا ينتمي إلى فلسفة الدين أو ظاهريات الدين.
13 (2) ظاهريات الوجدان
وظاهريات الدين التي تقوم على أساس عاطفي حركة إصلاح حضاري عام، ابتداء من الظاهرة الأخلاقية الدينية دون أن تقتصر فقط على ظاهريات الدين. صحيح أن المعطى الديني نواة الحضارة التي توجد فيها، ويتجلى بطبيعته في العلم الإنساني في إطار حضاري؛ ومن ثم تصبح ظاهريات الدين علما مستقلا للمعطى الديني نفسه قبل تجلياته الحضارية؛ فالظاهريات الماهوية والظاهرات العيانية يسيران جنبا إلى جنب.
14
وظاهريات الدين القائمة على الحدس الوجداني أقرب إلى التصوف منها إلى المنطق، تصف حضور الخالد في الزمان من خلال الفعل الديني، قد يكون الحدس الوجداني سبب الطابع الصوفي، ومع ذلك يستخدم الحدس الوجداني كذلك في الإدراك، الشعاع من صورة الشعور إلى مضمونه؛ أي من الذات إلى الموضوع ، في مقابل الشعاع من مضمون الشعور إلى صورته، أي من الموضوع إلى الذات، ودون الانتهاء إلى تصوف صريح.
وقد حاولت ظاهريات الفعل الديني أن تضع أولا منهجا ظاهراتيا ملائما للظاهرة الدينية في الظاهريات القائمة على الحدس العاطفي.
15
لا تكتفي بظاهريات الفعل، مثل الظاهريات الترنسندنتالية، بل تريد أيضا ظاهريات الموضوع،
16
وتتجاوز «حلول الشعور المثالي» لصالح توجه موضوعي وواقعي.
17
ومع ذلك، لا تعني ظاهريات الدين ظاهرات عيانية للدين، بل معرفة جوهرية للدين من حيث هو كذلك ابتداء من أولوية الموضوع على الفعل، ويظل الموضوع الديني هو الظاهرة كفعل، وهو عود إلى ظاهريات الفعل، وليس كموضوع هو معطى الوحي ذاته إلى النص؛ ومن ثم فظاهريات التأويل وحدها أقدر على تأسيس ظاهريات الموضوع من ظاهريات الفعل بإعطائها الأولوية للموضوع على الفعل.
18
ومصير ظاهريات الدين ليس أفضل من مصير الفلسفة الدينية ،
19
فإذا وضعت ظاهريات الدين يدها على التحقق العملي، الإشكال الثالث في التأويل، فإنها تنسى تماما التحليل اللغوي والنقد التاريخي من أجل منطق متكامل للنص المقدس؛ وبالتالي من أجل منهجية للوحي، بل على العكس، في المهام الثلاث لهذه الظاهريات للدين المقترحة: الأنطولوجيا القبلية للإلهي، أشكال الوحي، والفعل الديني، استبعدت الصحة التاريخية لهذا النص أو ذاك من المهمة الثانية.
رابعا: الجانب النظري في الظاهريات الدينية1
تتكون ظاهريات الدين من مجموعة من الدراسات حول الظاهرة الدينية نفسها؛ أي ظاهريات الظاهرة الدينية، تطغى عليها إما فلسفة الدين أو نظرية المعرفة أو تنقسم إلى مجموعة من الظواهر المحددة مثل المقدس والنبوة. (1) ظاهريات الدين؛ ماهيته وتجلياته
أولا:
لم يتم تأسيس ظاهريات الدين على الإطلاق بطريقة جذرية،
2
بل قامت كفلسفة جديدة للدين أو كلاهوت جديد أو كتاريخ جديد، لم تستعمل الظاهريات أولا كمعالجة جذرية للظاهرة الدينية، وهي ملحقة كتفكير إضافي على الظاهرة الدينية.
3
ودون أن تصاغ في منهج محكم، استطاعت الظاهريات مع ذلك أن تكتشف المراحل الثلاث للظواهر التي تبدو للشعور؛ الحجاب، الوحي المتدرج، والشفافية. وقد أدت هذه المراحل الثلاث إلى اكتشاف مراحل أخرى ثلاث تقابل تجربة الحياة؛ التجربة الحية، الفهم، الشهادة . وهكذا مرت الظاهريات مرور الكرام على المشكلات الثلاث للتأويل؛ النقد التاريخي الذي يبحث عن الصحة التاريخية، والتحليل اللغوي شرط الفهم، والتحقق العملي ابتداء من القصد والعمل، فقط مع عكس الترتيب.
4
وقد انتهى التفكير في الدين إلى جدل الإنساني والإلهي، الطريق النازل والطريق الصاعد، الطريق الرأسي والطريق الأفقي. ودون أي اعتماد على الظاهريات، انفصل الإشكال الثالث في التأويل، إشكال السلوك، عن المشكلتين الأوليين، مشكلة التاريخ ومشكلة النظر.
5
صحيح أن ظاهريات الدين ليست اللاهوت، ولا تاريخ الأديان، ولا فلسفة الدين من الناحية النفسية أو الاجتماعية وشعر الدين، ما هي إذن هذه الفلسفة للدين؟ هي ظاهريات للدين تمر بست مراحل: (1)
اللغة من أجل إعطاء الأسماء. (2)
التجربة الحية من أجل إدخال الكلمات فيها. (3)
رد مضمون التجربة من أجل رؤية ما يظهر منها وينكشف عنها. (4)
إيضاح الرؤية. (5)
فهم ما يتجلى وما ينكشف. (6)
الشهادة مجابهة مع الواقع.
6
وتلامس هذه الظاهريات للدين بمراحلها ظاهريات التأويل؛ إذ تنتمي المراحل الخمس الأولى إلى الوعي النظري، والمرحلة السادسة إلى الوعي التاريخي، ويغيب الوعي العملي، وتبدأ ظاهريات التأويل بالوعي التاريخي ثم الوعي النظري، وأخيرا الوعي العملي، تبدو ظاهريات الدين شاملة لكل تاريخ العلم في عصر التنوير، والعصر الرومانسي والنحو الرومانسي، والوضعية الرومانسية، وعلم النفس، والفهم.
7
صحيح أن تحليل البواعث يساعد على اكتشاف ظاهريات الدين كقصدية مشتركة، ويقدم كل عصر مساهمته؛ الإنسان، والوجدان، واللغة، والعيان، والفهم. ومع ذلك تظل هذه الظاهريات الحركية النشوئية للتجربة المشتركة على عتبة ظاهريات الدين في مرحلتها الأخيرة في ظاهريات التأويل.
وإذا لم تعلن عن الظاهريات إلا في الخاتمة فإنه من الصحيح أيضا أن العمل كله، على الأقل بمخططه، مقاربة تبعد أو تقترب من ظاهريات الدين. وبالرغم من أن المخطط غير متسق فله بعض الأهمية في موضوع الدين، وبالذات في الدين، كيف يتفاعل الذات والموضوع بعضهما مع بعض، وتذكر هذه العناصر الثلاثة؛ مضمون الشعور، وصورة الشعور، والبنية الصورية المادية. وتقبع الذات نفسها داخل ثلاث دوائر متداخلة؛ النفس، والإنسان، والجماعة. وهو ما يذكر بالأنا الخالص، وبالذات، وبالآخر. ويتم التفاعل المتبادل بين الذات والموضوع مرة بالعمل الداخلي، ومرة أخرى بالعمل الخارجي. هذا بالإضافة إلى أن هذا المخطط الثلاثي كل واحد، هو وحدة الشعور. ويؤخذ الشعور بهذه البنية كمركز لدائرة ثانية دائرة العالم، ولدائرة ثالثة، دائرة الأشكال؛ أي الأنواع المختلفة للدين.
8
فإذا عبر المخطط الأول، الموضوع، الذات، الموضوع-الذات عن ماهية الدين، فإن المخطط الثاني، المخطط السابق في العالم بالشخص، يعبر عن تجليات الدين. وقد تم اكتشاف العالم طبقا للوجود في العالم والشخصيات، والأديان ومؤسسوها، طبقا للصور المختلفة للحقيقة عندما تتحقق في الحضارة.
وهو مخطط قوي وصلب، ولكن مضمونه خليط من دين الوحي ودين التاريخ؛ فالواقع أن دين الوحي ليس من نوع دين التاريخ؛ فالدين اليهودي المسيحي ليس على نفس مستوى ما يسمى بالدين البدائي في أجزاء مختلفة من العالم، ويرجع هذا الخليط إلى الخلط في البحوث الدينية بين الوحي والتاريخ، ويتردد مضمون المخطط بين فهم الماهية والتجربة النشوئية؛ لذلك فإن الإدراك المباشر للماهيات مختلط بالوقائع التاريخية والأنثروبولوجية والتجريبية، يسود الفهم كثيرا التوثيق، وأصبحت ظاهريات الدين رسالة عامة لفلسفة الدين وربما دائرة معارف للعلوم الدينية، فلا يوجد عمل واحد لم يتم ذكره، بل إن عناوين المحاولات هي نفسها عناوين الفقرات، ولا غرابة في ذلك إذا كانت، كما قيل في الخاتمة في تاريخ العلم، تتضمن كل النظريات حول الدين منذ العصور الحديثة.
ثانيا:
ولا تعود فقط مساهمة الظاهريات في حل أزمة الفلسفة الدينية إلى تطبيق الحركة الصاعدة ل «بحوث منطقية» لتفنيد النزعة النفسية، بل بتطبيق كل حركة الأعمال المنطقية.
9
لا يكفي فقط بمساعدة الحركة الصاعدة انتشال الفلسفة الدينية من سقوطها في علم نفس الدين، وسقوط علم نفس الدين في النزعة النفسية، بل من الضروري أيضا استعمال الحركة النازلة في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» لتجنب كل نزعة صورية، وكل تنظير للظواهر الدينية خارج إطارها الرئيسي وهو النص المقدس،
10
ويمكن أيضا استخدام النص المقدس كقبلي من أجل توسيع نظرية الإدراك المثالية للواقعة إلى كل الوقائع المشابهة؛ فالواقع أن النص المقدس يحتوي على ماهية النمط المثالية لحالة يمكن أن تتكرر، ويفترض التشابه في الوجود، ويمكن من جديد إدراك الماهية التي أدركت من قبل في النمط المثالي بفضل نظرية الإدراك في نمط واقعي مشابه أيضا بفضل نظرية الإدراك مرة أخرى؛ وبالتالي يظل القبلي الديني عنصرا محركا لمنهجية الوحي؛ مرة في نظرية الإدراك لنمط مثالي، ومرة أخرى في مد ماهية النمط المثالي على أنماط واقعية مشابهة، يمكن استعمال معطى الوحي على نحو رائع في نظرية الإدراك؛ إذ تقدم الظاهريات نظريات في المعرفة تقوم على شعاع مزدوج من الذات إلى الموضوع، من صورة الشعور إلى مضمونه، ومن الموضوع إلى الذات، من مضمون الشعور إلى صورته. الشعاع من الذات إلى الموضوع هو القبلي، والشعاع من الموضوع إلى الذات هو البعدي، والعلاقة بين الشعاعين علاقة شارط بمشروط. ويستطيع معطي الوحي، وفي حالة ظاهريات التأويل هو نص الوحي، أن يقوم بدور القبلي؛ أي الشعاع من الذات إلى الموضوع، وتظل الخبرة اليومية دائما الشعاع من الموضوع إلى الذات؛ ومن ثم يمكن تجنب القبلي الفارغ الصوري في نظرية المعرفة؛ ولذلك أيضا في ظاهريات الدين يمكن إكمال نقص الظاهريات النظرية الحالي فيما يتعلق بمصدرها القبلي.
11
ويساعد الوعي المستمر بنص الوحي على إدراك الواقع الخارجي الذي يبدو في الخبرة اليومية. القبلي الديني هو إذن شرط إدراك قوانين ماهية الأنطولوجيا العيانية.
12
والمعرفة الدينية معرفة قائمة بذاتها، وموضوعها مثالي ومستقل،
13
وليست المعرفة الفلسفية أو العلمية إلا تحولا للمعرفة الدينية.
14
المعرفة الدينية قائمة بذاتها في مواجهة التاريخ، وليس في علاقتها بالإيمان، فقد تم «رد» لا التاريخ من قبل. الإيمان هو النص المقدس باعتباره قبليا دينيا في نظرية الإدراك، لا يعني قيام المعرفة الدينية بذاتها أولوية «الغنوصية» لا على الإيمان وأولوية الإيمان على «الغنوصية»، وهو ما أمكن حله عن طريق نظرية المعرفة، ولكن استقلال المعرفة الدينية المستنبطة من النص المقدس فيما يتعلق بتجلياته في التاريخ. التجربة الدينية إذن تجربة أولية ومصدر سواء للتجربة الفلسفية أو للتجربة العلمية، ويمكن تجنب ماهية الذاتية بالقبلي الديني، وهو يقين مثالي للتجربة. وبسبب غياب تناول المشكلة الأولى، وهو نص الوحي، فإن مصير كل فلسفة دينية هو مد المناهج والنظريات والمذاهب والأنساق الفلسفية عليها؛ فالواقع أنه لو ندت الفلسفة الدينية عن الوقوع في النزعة النفسية، فإنها تقع من جديد في النزعات التاريخية والاجتماعية والبرجماتية والنقدية.
15
وترجع هذه الأخطاء في الفلسفة الدينية إلى مد الأنساق الفلسفية عليها، وإهمال إشكالها الخاص وطريقة حله، وإذا ما أخذ منطق النص كمشكلة أولية فإنه يمكن تصحيح كل هذه الأخطاء، بالإضافة إلى إدراجها داخل تكوين معنى النص ابتداء من التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية؛ علم النفس الوضعي والخبرة الحية في الحياة اليومية، ويمكن تصحيح النزعة التاريخية بالرد ثم استرجاعها في «التاريخانية»، ويمكن تجنب النزعة السوسيولوجية وتصحيحها بحضور الآخر كطرف متضايف للشعور في الخبرة المشتركة، ويمكن استعادة البرجماتية في إشكال التحقق العملي، الإشكال الثالث في التأويل بعد النقد التاريخي والتحليل اللغوي، وتستعمل النزعة النقدية في القضاء على اللاهوت الرسمي بالعودة من جديد إلى نواة معنى النص. وبمجرد ما تترك ظاهريات التأويل، كمنطق للنص، مكانها إلى الظاهرات الدينية، فإنه لا يضيع فقط طابع المنطق العملي التطبيقي، بل تنقص أيضا ماهية معطى الوحي؛ فالواقع أن التأويل كمنطق للنص يضع الشعور في اتصال مباشر وحالي مع الإشكالات الرئيسية، فهو الأرضية الأولى التي منها تبدأ كل صياغة عقلية ونسقية ممكنة؛ فمثلا في البحث عن الماهيات وفلسفة التاريخ الديني، فإن «الرد» المتوقع للتاريخ لم يتم، وكان المكسب تفكيرا جديدا على السؤال دون تصحيح ودون تصويب.
16
ويرجع الفشل النسبي لكل المحاولات السابقة في ظاهريات الدين إلى سببين؛ الأول غياب صياغة مسبقة للمنهج الظاهرياتي،
17
والثاني غياب المشكلة الأولى للتأويل كمنطق للنص؛ وبالتالي منهجية دينية تصبح بعدها ظاهريات الدين ممكنة.
18
ثالثا:
لم تتناول كل ظاهريات للدين إلا مشكلة خاصة لإشكال واحد دون أخذ الموضوع كله في الظاهرة الدينية في شمولها، ليست ظاهرة المقدس ظاهرة الطبيعة الفيزيقية، حادثة أو مؤسسة أو شخصا، بل ظاهرة النص المقدس. وليست تجربة صوفية للسر، بل لسانيات تهدف إلى الفهم الدقيق لمعنى النص. ليس سرا يخيف، بل بداهة تعطي اليقين. (2) ظاهريات المقدس
الظاهريات الترنسندنتالية هي وحدها التي استطاعت أن تعطي منهجا دقيقا، كما استطاعت الظاهريات النقدية من جانبها المساهمة في الفلسفة الدينية دون أن تكون بذلك ظاهريات دينية.
19
صحيح أنه في ظاهرة المقدس ينتمي البحث عن العنصر اللاعقلي في فكرة «الإلهي» وفي علاقتها بالعقلي إلى الموضوع الرئيسي للظاهريات الترنسندنتالية؛ أي البنية الذاتية الموضوعية للشعور.
20
وبسبب غياب منهج محكم في الظاهريات النقدية، ظلت كل مساهمتها في الظاهريات الدينية على مستوى الفلسفة الدينية؛ أي على مستوى نقل مد الأنساق الفلسفية على الظاهرة الدينية بعد أن نقلت إلى أنساق فلسفية منفصلة، لم يتم تطبيق المنهج الظاهرياتي بالمعنى الدقيق، بل إن دراسة المقدس ليست تيارا في الفلسفة الترنسندنتالية أو ظاهريات مستقلة، بل مجرد تفكير في الظاهرة الدينية في فلسفة الدين.
21
وتبدو ظاهريات الدين أحيانا كدراسة لمشكلة واحدة بالتوجه العام للظاهريات، كما درست ظاهرة النبوة من أجل إدراك ماهيتها، وكذلك ظاهرة «المقدس»،
22
ومع ذلك لم توضع الوقائع التاريخية بين قوسين، وما زالت تسيطر وكأنها ماهيات. وبتعبير آخر، لم يمنع توجيه الدراسة بالظاهريات نحو الماهية من الحضور الطاغي للواقعة التاريخية. (3) ظاهريات النبوة
لم تدرس ظاهرة النبوة كظاهرة، بل كظاهرة محددة، وهي النبوة العبرانية مع التمييز بين النبوة في الكتاب المقدس والنبوة خارجه. صحيح أن تصنيفا لأنماط النبوة ممكن، ولكن لأنماط الماهية وليس لأنماط الواقعة، بل إنه حتى في النبوة الحية حيث تتجلى ماهية الظاهرة ساد كذلك تحليل الوقائع التاريخية؛ ومن ثم فقد «التقويس» وظيفته، ولا يوجد من الظاهريات إلا لفظ «ماهية» في العنوان، ولم يتم استكشاف أي لفظ أو مفهوم أو منطقة في الظاهريات.
23
واستعمل مرة واحدة تعبير «ظاهريات النبوة في الكتاب المقدس»؛ مما لا يشير إلى أي ظاهريات.
24
صحيح أن النبوة مقولة للوحي، ولكنها مشكلة خارج النقد التاريخي؛ إذ إن مهمته مباشرة بعد استقبال النبوة، النبوة علاقة بين المبلغ ومصدر الوحي، مشكلة الوعي الفردي للمبلغ، ويهتم النقد التاريخي فقط بنقل الكلام المنطوق من المبلغ إلى المستمع، والنبوة مشكلة في علم النفس أو التصوف دون أن تكون مشكلة نقد تاريخ، والبرهان على صدق النبوة كصلة بين المبلغ ومصدر الوحي، بين النبي والله، لا تتعلق بنظام التجربة، وتستطيع الخبرة اليومية للإلهام إثبات إمكانية النبوة دون الوقوع في النظريات العقائدية حول وظائفها ومصادرها، يتدخل النقد التاريخي إذن في دراسة النبوة فقط من أجل البحث عن الصحة التاريخية لكلام الوحي في نقله الشفاهي أو الكتابي دون إثبات أو نفي الوجود الحقيقي أو الخيالي للنبوة كاتصال بين الله والنبي.
25
وينتمي التمييز بين النبوات خارج الكتاب المقدس والنبوات داخله إلى تاريخ الأديان المقارن، وله مميزاته وعيوبه. مميزاته: التعرف على الآثار والمؤثرات التاريخية من الديانات المجاورة على الوحي. وعيوبه: وضع دين الوحي على نفس مستوى دين التاريخ، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في الطبيعة بين الاثنين،
26
ويبين التوزيع الجغرافي بيئة النبوة.
27
وتساعد الأنماط على التمييز بين نمط الوحي ونمط غير الوحي، مثلا ينتمي الطابع السحري أساسا إلى دين غير الوحي،
28
في حين يبين النمط الأخروي تطور معطى الوحي في التاريخ،
29
ويشير النمط الصوفي إلى مرحلة حاسمة في تطور الوحي،
30
ويشير النمط الاجتماعي بالفعل إلى اكتمال الوحي كنظرية في الحقيقة يمكن أن تصبح بنية مثالية للعالم.
31
ولم يتم إحصاء نبوات الكتاب المقدس إحصاء شاملا، بل تم تحليل نبوات التوراة فحسب. ولم تؤخذ في الحسبان نبوة الإنجيل ونبوة القرآن بالرغم من انتمائهما إلى نبوة الكتاب المقدس، وكان يمكن استخدام النبوة الحية، وهي في الحقيقة دراسة في تطور النبوة في إسرائيل؛ لاكتشاف المراحل المختلفة لتطور الوحي حتى اكتماله، وتبين النبوة في التاريخ بوضوح مراحل تبدأ بإبراهيم وتنتهي بموسى؛
32
الأول أبو الأنبياء، فارس الإيمان، ومؤسس الدين الطبيعي، والمبلغ عن الوحي؛ والثاني المبلغ للشريعة التي تنهل منها كل نبوات إسرائيل. ويكشف التمييز بين «المختار» و«المرسل»؛ الأول نبي بالإلهام، والثاني بوحي خاص عن يقظة الشعور عند الأول، واتجاه الوحي نحو الاكتمال عند الآخر. وكان يمكن اكتشاف قانون تطور الوحي من الشريعة إلى المحبة إلى العمل، ويمكن استخدام منظور العصر للتمييز بين الدين التاريخي ودين الوحي وبين المراحل المختلفة لتطور معطى الوحي ذاته. مثلا يميز الزمان الدائري بوضوح الدين التاريخي، وأحيانا تطور الوحي في إسرائيل، ويظهر الزمان الدائري في الوحي التاريخي أساسا في مفهوم العود الأبدي، في حين أن الزمان الدائري في إسرائيل يحتوي على تقدم في كل دورة لاحقة بالنسبة للدورة السابقة، كل نبوة دورة تبدأ بعد التقدم الحاصل من الدورة السابقة. وأخيرا يميز الزمان الشعائري بوضوح زمن الفعل في اكتمال الوحي في آخر مرحلة، الفعل زماني بل أيضا لحظي.
33
ويستعمل تعبير «نبوة حية» للإشارة إلى النبوة لدى بني إسرائيل. النبوة حية بطبيعة الحال سواء عند النبي أو عند جماعته، وكان يمكن استخدام النبوة كظاهرة حية من أجل الحصول على الكلام المنطوق من النبي وتخليصه من الآثار التاريخية، كان يمكن استخدام «الحي» كنواة أولى لو طبق النقد بعد إثبات المؤثرات التاريخية في نبوات الكتاب المقدس.
34
والوجود النبوي هو وجود النبوة وليس وجود الشخص، ليس النبي إلا كائنا بشريا مثل غيره من البشر، مهمته إيصال الوحي، ليس ملكا ولا قسيسا ولا حكيما. رسالته ليست فضيحة، بل رسالة إلى الفرد والجماعة.
35
صحيح أنه في حاجة إلى إعداد، وتغيره هو تقدمه نحو الكمال، والثقل هو ثقل الرسالة، والسير في الليل عمق الروح.
36
ومن بين المفاهيم الظاهراتية المستعملة مفهوم الدلالة، ودلالة الوجود النبوي أكثر من نظرية في الرؤية والتنبؤ، الأخلاقية أو الصوفية،
37
بل تدل على المعرفة المعطاة من خلال الوعي المتميز بانفتاحه على عديد من العوالم الممكنة من أجل تركيز الجهد الإنساني كله نحو الوجود أكثر من المعرفة، ويكفي لمعرفته الجهد في فهم هذا المعطى.
ويوجد الجدل بين الإلهي والإنساني في الزمان في العهد، وهو مشروط بالطاعة، ويلاحظ التداخل بين العهد والشريعة في روايات الكتاب المقدس.
38
فإذا ما غابت الطاعة، وكما يشهد بذلك أنبياء الكتاب المقدس، نقض العهد. وكان يمكن لهذا الإثبات أن يؤدي إلى تحليل العمل، ويصبح العمل شرط العلاقة بين الإنساني والإلهي في الحوار، وكان يمكن استخدامه في التمييز بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون، بين المبدأ والواقع، وكما سيأتي فيما بعد بين الوجود والصيرورة.
39
وطبقا لتحليل الحوار في الكتاب المقدس بين الإلهي والإنساني، يتميز الروح عن الكلام.
40
يتعامل النقد التاريخي مع الكلام باعتباره كلاما وليس باعتباره روحا. ليس الطرفان هما النبي والله، بل النبي والسامع، يوجدان في علاقة أفقية وليس في علاقة رأسية، الكلام هو بلوغ الروح، هو الحقيقة الإلهية بعد أن أصبحت حقيقة إنسانية. وفي تحليل النبوة باعتبارها كلاما، كان بالإمكان الوصول إلى قواعد الاشتباه في اللغة. ولو قام الشعور النظري بدوره في فهم معنى نص الوحي لأمكن إبرازه بوضوح، ولأمكن العثور على المحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والظاهر والمئول، والمجمل والمبين، لبيان الفرق بين الروح والكلام، بين الرؤية والسماع.
41
وكان يمكن لتحليل اللغة الوصول إلى التحقيق العملي لمعطى الوحي كبناء مثالي للعالم، وهو دور الشعور العملي؛ لأن «الكلام» لا يشير فقط إلى «الكلام» ولكن أيضا إلى «العمل».
42
خامسا: من ظاهريات الدين إلى ظاهريات التأويل1
بفضل التحليل الوجودي للواقع الإنساني، يقترب التأويل الوجودي إلى حد كبير من ظاهريات التأويل، ويتقدم الوعي التاريخي الذي طالما كان في محط النسيان، خاصة منهج «تاريخ الأشكال الأدبية»، ويتبع الشعور النظري بالتأويل الوجودي مع تفكيك الأساطير، ثم يجد الشعور العملي مكانه، بعد أن كان أيضا محط النسيان، في ظاهريات التأويل.
2
ولأول مرة يترك «شخص الله» جانبا مع إصرار شديد. الكلام وحده هو موضوع التحليل؛ ومن ثم يتحول كل اللاهوت العقائدي، وكل فلسفة الدين، وكل ظاهريات الدين، إلى ظاهريات التأويل. كلام الله قصدية متجهة نحو الإنسان، والله نفسه كهوية وحضور أو شخص بين قوسين. تأسيس لاهوت «علم الله» مستحيل، ولكن تأسيس علم ب «مناسبة الله» ممكن.
3
ولأول مرة يتم تحليل كلام الله وليس شخصه، اللاهوت تأويل، وظاهريات الموضوع ظاهريات التأويل، ولتفكيك الأسطورة والتأويل الوجودي ميزة تحويل العقائد التاريخية إلى حقائق إنسانية،
4
وتجد العقائد مصادرها في التجربة الإنسانية، لا تتطلب الأسطورة تأويلا كونيا، كما هو الحال في اللاهوت العقائدي، بل تأويلا إنسانيا، أنثروبولوجيا بل أيضا وجوديا.
5 «لو أراد أحد الكلام عن الله فإنه يلزم عليه الحديث عن نفسه»،
6
الإحالة إلى الوجود الإنساني إذن شرط كل لغة إنسانية، وهذه تنتمي إلى الوجود وليس إلى الأسطورة أو إلى العلم. ودون أي افتراض أنثروبولوجي مسبق أو أي تطبيق مباشر لمناهج العلوم الإنسانية، التأويل الوجودي هو المنهج الوحيد الملائم للنص المقدس.
7
ودون إنكار قيمة التاريخ، يضع التأويل الوجودي تاريخانية الوجود الإنساني؛ وبالتالي النجاح في التخلص من العقائد (الدوجماطيقية) التاريخية للاهوت العقائدي، ودون «رد» الظاهرة الإنسانية إلى ظاهرة طبيعية، يميز التأويل الوجودي، القائم على المنهج الظاهرياتي، بوضوح بين علوم الروح (العلوم الإنسانية) وعلوم الطبيعة.
8
ويظل تفكيك الأسطورة والتأويل الوجودي كنظرية في التأويل، أي كهرمنيطيقا، أكثر منها كمنطق تطبيقي للنص، ويضمان مجموعا من التاريخ والعقائد، والفلسفة والأدب. صحيح أن التأويل كمنطق للتفسير يمتد إلى عدة علوم دينية. يمكن اعتبار التأويل كنظرية في تصنيف العلوم الدينية، يعطي التاريخ مادته للعقائد من أجل تفكيك الأسطورة، وتعطي اللغة مبادئها إلى علم النفس الوصفي من أجل وضع منهج التفسير، ويقوم التفسير الوجودي كلية على تفكيك الأسطورة دون اعتبار البحوث اللغوية، ومن أجل فهم معنى النصوص. تطبق مبادئ الاشتباه اللغوي على النصوص المقدسة، ثم يخلص تفكيك الأسطورة الموجه أساسا ضد اللاهوت العقائدي النصوص من ميراثها التاريخي لرؤيتها كمعطى مستقل وقائم بذاته، وقد أثبت التأويل الأسطوري من قبل خلق العقائد بواسطة الجماعة الأولى، ثم يأتي التأويل الوجودي ليحيل النص إلى التجربة الإنسانية، والتحليل الوصفي للوجود الإنساني ممكن عن طريق التحليل النظري للخبرات اليومية.
وفي نهاية المطاف لو أمكن حل أزمة المنهج الظاهرياتي بصياغة تأويله، تحل أيضا أزمة التأويل بصياغة ظاهرياته.
الفصل الثالث: ظاهريات التأويل1
أولا: فلسفة الدين، وظاهريات الدين، وظاهريات التأويل1
تسبق ظاهريات التأويل ظاهريات الدين، كما تسبق ظاهريات الدين بدورها كل محاولة لإقامة فلسفة للدين. لا يمكن إقامة للدين إلا بعد فهم الظاهرة الدينية، ويستحيل ذلك قبل وضع ظاهريات مسبقة. فلسفة الدين هي محاولة نسقية نسبيا تقوم على عناصر يقدمها التحليل الظاهرياتي وحده.
2
وطبقا لمنهج البداية الجذرية تسبق ظاهريات التأويل ظاهريات الدين؛ إذ تحل أولا مشاكل النص المقدس حول الصحة التاريخية، والفهم، والتحقيق، قبل صياغة أي ظاهريات للدين؛ فهذه مرتبطة أشد الارتباط بفهم النص المقدس، والتأويل هو منطق الفهم، وتخاطر كل ظاهريات للدين لا تقوم على ظاهريات التأويل بالوقوع في النزعة النفسية بدراسة ظاهرة التدين؛ أي الإيمان، أو في النزعة التاريخية بدراسة المؤسسة؛ أي الكنيسة.
3
مهمة ظاهريات التأويل إذن هي وضع منطق للنص المقدس من أجل تأسيس الدين بعد ذلك على أساس يقيني، وكل إهمال في التأويل كمنطق للنص المقدس تكون له نتائج وخيمة على تأسيس الدين. التأويل بالنسبة للدين مثل المنطق بالنسبة إلى الفلسفة؛ الأول وسيلة، والثاني غاية.
4
وبسبب غياب التأويل كمنهجية خاصة منطق للنص، طبق المنهج الظاهرياتي عنوة في الظاهرة الدينية بمفردها في تجلياتها الفلسفية واللاهوتية والتاريخية.
5
وإذا ظهر لفظ «ظاهريات» بوضوح في بعض المحاولات، فإن لفظ «تأويل» يظل غائبا على الإطلاق،
6
بل استعملت الظاهريات كعلم فلسفي جديد مثل غيره، وليس كمنهج محكم، كما استعملت في خدمة اللاهوت الرسمي حتى لا يترك وراء التيارات الفلسفة الأكثر حداثة. لم يستعمل المنهج الظاهرياتي بطريقة شفافة؛ أي إنه لم يؤخذ على أنه أساس أو أصل، وتمت التضحية بفائدته القصوى ومساهمته الفعلية من أجل تبرير اللاهوت الرسمي مرة أخرى، فلسفة الدين ليست إلا مظهرا نظريا لإشكال الفهم، موضوع التحليل اللغوي، هو تقريبا نظرية في المعرفة منقولة إلى المستوى الديني.
7
وعلى افتراض أن فلسفة الدين تتعلق بالإشكال الثاني في التأويل، أي التحليل اللغوي من أجل الفهم فأين الإشكال الأول؛ الصحة التاريخية للنص المقدس، موضوع النقد التاريخي؟ وأين الإشكال الثالث؛ التحقيق العملي للنص المقدس بالعمل؟ تتجنب ظاهريات التأويل، في مواجهة ظاهريات الدين في شكل فلسفة للدين، أولا الطابع النظري للمعرفة الدينية وتوجيهها نحو ميدانها الأول؛ أي منطق النص ابتداء من التحليل اللغوي. ثانيا تستعيد النقد التاريخي والتحقيق العملي مع التحليل اللغوي من أجل تكوين المنطق المتكامل للنص؛ وبالتالي منهجية الوحي.
وتهتم ظاهريات الدين بدراسة بعض جوانب الظاهرة الدينية مثل المقدس،
8
ويحدث دائما نفس الشيء. تظل ظاهريات الدين دائما نظرية؛ نظرا لانفصالها عن أساسها في منطق النص. كل ظاهريات للدين تأخذ صورة فلسفية ممكنة، يكفي مد كل نسق فلسفي على الظاهرة الدينية، أو يكفي نقل الظاهرة الدينية إلى مستوى أي نظرية فلسفية، حينئذ ينقل الإشكال الخاص بظاهرة الدين إلى سؤال فلسفي حيث يكون الشيء ونقيضه ممكنين. والحقيقية أن ظاهريات الدين مشكلة مستقلة عن الأنساق الفلسفية، تقوم على منطق محكم للنص المقدس الذي يحتوي على النقد التاريخي والتحليل اللغوي والتحقيق العملي، بل على العكس كل الأنساق الفلسفية نقل عقلي لبعض جوانب الظاهرة الدينية،
9
ولا يمكن حل أزمة فلسفة الدين في النظر بل في العمل. يعني النظر هنا الفلسفة، ويعني العمل المنطق؛ فالواقع أن أزمة فلسفة الدين قد حدثت قبل التأويل بمدة طويلة، وترجع إلى أزمة خاصة بها. ترجع أزمة الفهم إلى أزمة التفسير؛ فكل تفكير ممكن، والعقل قادر عليه، وكل حل نظري يمكن نقضه بآخر، لا يقل ملائمة عن الأول، وهكذا. وعلى العكس يستطيع حل، ابتداء من دراسة عملية وتطبيقية على النص لإيجاد منطقه، أن يكون حلا للأزمة؛ ومن ثم تتم معالجة الأزمة من الأساس أي النص، الصياغة المكتوبة للوحي، موضوع كل فلسفة دين أو كل فلسفة دينية.
10
ثانيا: الأزمة الحالية للتأويل1
يعيش التأويل في المرحلة الحالية أزمة طاحنة، وهي انقسامه بين النزعتين التاريخية و«الدوجماطيقية»، وتظهر النزعة التاريخية في التأويل في كل البحوث «الأركيولوجية» التي تريد أن تكون كلا واحدا. أصبح التأويل تاريخه خليطا غامضا من الحوادث والأشخاص.
2
والتأويل مستقل عن الحوادث التي تبعث على إثارة مشاكله وعن الأشخاص الذين يعرضونه.
3
للتأويل موضوعه المثالي وهو النص المقدس، أما النزعة التاريخية فإنها تلحق التأويل بالعقائد. النص الصحيح تاريخيا هو الذي يتفق مع العقيدة، ويصح معناه عندما يتفق أيضا مع المعنى الذي تعطيه العقيدة له، ويتبع تحقيقه العملي الحاجات العملية لنشر العقائد. التأويل مجرد وسيلة، والعقيدة غاية. يهدف التأويل العقائدي لبناء الأنساق اللاهوتية، وهو ليس علما محكما ومستقلا، له موضوعه المثالي، ولكنه في خدمة الأنساق القائمة، العقائد أو المؤسسات. وإذا كان التأويل اليوم منقسما بين التأويل التاريخي والتأويل العقائدي، فإنه أيضا يتناثر ويتبعثر في التأويل الفلسفي أو الميتافيزيقي تحت اسم الهرمنيطيقيا. التأويل يجمع بين علم النفس والفلسفة والميتافيزقيا حول النص المقدس، وأخيرا أنطولوجيا الوجود الإنساني. يفقد التأويل باعتباره هرمنيطيقيا طابعه المنطقي العملي، بمعنى المنهجية العملية، من أجل الوقوع في تأملات وأفكار فلسفية وميتافيزيقية. الهرمنيطيقا هي الإشكال الميتافيزيقي للتأويل، والتأويل هو الإشكال المنهجي العملي للهرمنيطيقا. وترجع هشاشة الهرمنيطيقا إلى إلحاقها بالأنساق الفلسفية الأخرى خارجها، واستمدادها منها طابعها كعلم مستقل قائم بذاته.
4
وترجع الأزمة الحالية في البحوث الدينية، والتأويل جزء منها، إلى عدم التطابق بين الميدان الأولى الذي اكتشفه القصد، والميدان الواقعي الذي اكتشفته البحوث؛ فمثلا الدين الطبيعي ميدان اكتشفه القصد. الدين والطبيعة شيء واحد، والشيء الذي انتهى إليه، وهي الطبيعة الشيئية، تشبه نسبيا الطبيعة الفيزيقية أو التاريخ الطبيعي؛ ومن ثم وضع الوحي في مواجهة الطبيعة وكأنه خارج عنها؛ ومن ثم أصبح الدين الطبيعي موضع النقد ورفض كدين يرفض الوحي. وعلى العكس، الوحي والطبيعة شيء واحد، ينبثق الوحي من داخل الطبيعة، والوحي فيض من الطبيعة، وميلها نحو الازدهار والتفتح والكمال، ويتضمن الدين الطبيعي كقصد خير وغياب الطائفية، خلطا بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الفيزيقية. الدين طبيعي لأنه يثبت كل مكونات الطبيعة الإنسانية ومتطلباتها دون إنكار أي منها. يكون طبيعيا عندما يلبي حاجة كل جانب في الوجود الإنساني؛ البدن، والنفس، والروح، والعقل، والذهن، والموقف، والعقبة ... إلخ. ولا يكون طبيعيا عندما ينفي أو يعارض البدن؛ كي تسود النفس، أو عندما يقلل من شأن الروح حتى يسود البدن، ولا يكون طبيعيا أيضا عندما ينفي العقل لصالح الوحي، أو ينفي الوحي لصالح العقل، ولا يكون طبيعيا عندما يثبت الموقف الواقعي للوجود الإنساني كوجود في العالم. وفي المقابل لا تعرف الطبيعة الفيزيقية دون عملية مستمرة لتحويلها إلى طبيعة إنسانية؛ فهي معتمدة على الطبيعة الإنسانية، وليس لها بنية إلا مجازا، ولا توجد إلا صورة. الطبيعة في الدين الطبيعي هي إذن الطبيعة الإنسانية، وليست الطبيعة الفيزيقية أو الطبيعة فقط نظرا لوضع الطبيعة الفيزيقية بين قوسين؛ ومن ثم تحتوي البحوث الحالية في الدين الطبيعي على خطأين؛ الأول الفصل بين الطبيعة والوحي، والثاني الخلط بين الطبيعة الفيزيقية والطبيعة الإنسانية، كما يحتوي الدين الوضعي أيضا على خلط بين معنيين متمايزين للفظ «وضعي»؛ هما «تاريخي» و«واقعي»؛ فالدين الطبيعي ليس بالضرورة دينا تاريخيا؛ فالتاريخ بين قوسين، والدين له موضوعه المثالي المستقل عن الحوادث، والمؤسسات، والأشخاص. ولا يضيف التاريخ شيئا إلى الدين؛ هو مجرد ميدان تجليات المعطى الديني في اللاهوت والفلسفة والتصوف والفقه؛ أي باختصار في الحضارة. ليس الدين الوضعي إذن دينا تاريخيا، بل هو دين له معطى يتضمن الواقع داخل الوحي، ويتجلى الواقع في إثبات العالم؛ فالوجود الإنساني وجود في العالم، والوضع الفريد لكل فرد داخل القانون العام للجميع، ويتجلى الواقع في العمل، والعقبات، والمباحات، العيان في الدين الوضعي هو عيان الحياة.
5
ثالثا: النقد التاريخي ذروة التأويل، ومنهج «تاريخ الأشكال
الأدبية» ذروة النقد التاريخي1
ظاهريات التأويل ذروة النقد التاريخي في صراع منذ عدة قرون ضد اللاهوت العقائدي من أجل البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس، وهو حصيلة اللاهوت الليبرالي الذي تكون فيه منهج «تاريخ الأشكال الأدبية»، ويمثل النقد التاريخي تقدما هائلا في البحث عن الحقيقة في الحضارة الأوروبية، ويأتي النقد الليبرالي والمستقل في الصف الأول، يقدم مادة «تاريخ الأشكال الأدبية» التي تأتي بعد ذلك لتتوج الأعمال النقدية، وتعتمد الروايات الإنجيلية بعضها على البعض الآخر.
2
وشعور الراوي لم يكن محايدا، بل كان من أصحاب الأهواء، وكان إيمان الجماعة الأولى وحاجات الدفاع في التبشير مصدر نشوء العقائد وتكوينها، وتم البحث عن التراث الشفاهي قبل التراث المدون؛ مما دفع إلى إضافة التراث على الكلام. ولا يقوم النقد التاريخي بتبخير النصوص المقدسة، بل على العكس يعطيها أساسا صلبا، وهي الصحة التاريخية. ولا يقوم تفكيك الأسطورة أو تأويلها أيضا بتبخير العقائد، بل على العكس يعطيها أساسها الواقعي في التجربة الإنسانية.
3
لقد استطاع منهج «تاريخ الأشكال الأوروبية» الحصول على كل مميزات النقد التاريخي دون عيوبه خاصة النزعة التاريخية. صحيح أن النقد التاريخي قبل تكوين منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» جمع حوادث كثيرة تتعلق بتاريخ النص، دون إعطائه تفسيرا جذريا، لعدم رغبة في تجاوز مستوى البحث الأيديولوجي والتاريخي، ودون صياغة مادته في منهج خاص مستقل عن مناهج البحث التاريخي المعروفة سلفا، الفلسفية والأركيولوجية والإثنولوجية والسوسيولوجية ... إلخ. هذا المنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ذروة المنهج التاريخي واكتماله، يضع بعدي الشعور الديني، الوعي التاريخي والوعي النظري، دون الوعي العملي؛ في الوعي التاريخي يفيد خاصة في المنهج الرابع في النقل، وهو الوضع بالمعنى، والذي يثبت خلق الجماعة الأولى للعقائد،
4
وعادة ما يترجم اللفظ «تاريخ الأشكال»، وهي ترجمة حرفية. والسؤال هو: أشكال ماذا؟ أشكال نص الإنجيل أم صور الشعور الديني؟ والحقيقة أن منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» هو تاريخ الأشكال الأدبية لنصوص الإنجيل من أجل تحديد مصادرها في تاريخ الجماعة الأولى ، وثقافاتها الأدبية، وأشكال كتاباتها التي نشأت فيها النصوص. وإذا ترجم اللفظ «صورة التاريخ» لأمكن وصول المنهج إلى نتائج أفضل. إذا كانت الصورة للوعي التاريخي ذاته وليست الشكل الأدبي للنص المقدس، لانتهى المنهج إلى صور الوعي التاريخي؛ أي إلى مناهج النقل المختلفة، الشفاهي أو المدون. ليس الشكل فقط شكل النص بل صورة الشعور. ليس المقصود تصنيف أشكال النص إلى قصة خيالية ومثل وحديث النفس والحوار ... إلخ، بل تصنيف مناهج النقل إلى تواتر وآحاد ونقل بالمعنى ووضع بالمعنى؛ إذ تساعد الأشكال الأدبية على العثور على المصادر التاريخية في تكوين روايات الإنجيل بالبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بينها وبين أدب العصر. يمكن لمنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» أن يكون أكثر خصوبة لو كان بحثا عن ضوء الوعي التاريخي للوصول إلى تحديد مناهج النقل التاريخي لنصوص الوحي، ثم إذا أصبح بحثا في تكوين روايات الإنجيل في الوعي الجمعي الأول، والمهمة الثانية الرئيسية هي البحث عن الصحة التاريخية للنص.
5
وبالرغم من الأهمية الكبرى لمنهج «تاريخ الأشكال الأدبية»، فقد سار إلى منتصف الطريق، وما زال العمل الكبير لم يتم بعد من أجل السير في الطريق إلى النهاية، تشهد بذلك التيارات اللاهوتية المعاصرة التي نشأت بفضل هذا المنهج ، ينقص المنهج نظرية حول مصادر النصوص المقدسة؛ فالواقع أن كتابات العهد الجديد لها مصادر عدة؛ هناك أقوال المبلغ، وأقوال الصحابي، وأقوال التابعي. ويمكن للوحي باعتباره كلام الله أن يصبح مقياسا للتمييز بين المصادر الشرعية والمصادر غير الشرعية. المصادر الشرعية هي كلام الله الذي أعلن المبلغ، وأقوال المبلغ من ذاته، وأقوال الجماعة، وأقوال العلماء. والمصادر اللاشرعية هي أقوال الصحابة، وأقوال التابعين، وأقوال مدينة خاصة أو أعمال التاريخ. وقد درست مشكلة العهد الجديد بمفرده دون ربطها بمشكلة العهد القديم. وقد تم الخلط دائما بين المشكلتين. كان الاتجاه الغالب هو التواصل بين العهدين أكثر من الانقطاع، وتقترب ظاهريات التأويل كثيرا من منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ومن التأويل الوجودي؛ فإذا أدت فلسفة الدين إلى ظاهريات الدين، وإذا اكتملت ظاهريات الدين في ظاهريات الفعل الديني الذي يقترب من البعد الثالث في الشعور الديني، وهو الوعي العملي، فإن ظاهريات التأويل تنتهي أخيرا إلى وضع اليد على البعد الثاني في الوعي الديني، وهو الوعي النظري باكتشاف التأويل الوجودي، وعلى البعد الأول للوعي الديني، وهو الوعي التاريخي عن طريق منهج «تاريخ الأشكال الأدبية»؛ فلأول مرة يتم التعرف على الأبعاد الثلاثة للوعي الديني.
6
رابعا: جدوى تطبيق المنهج الظاهرياتي في التأويل1
لما كانت الظاهريات أساسا حدسا دينيا بين تخبط البحوث الدينية، خاصة في التأويل، الجدوى الفائقة لظاهريات التأويل، وتظهر هذه الجدوى في الأمثلة الثلاثة من إشكال التأويل؛ النقد التاريخي، والتحليل اللغوي، والتحقيق العملي.
2
تظهر جدوى تطبيق المنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية بوضوح في ظاهريات التأويل؛ فالنص المقدس هو الأساس الواقعي والموضوعي للظاهرة الدينية، ويصبح الطرف الموضوعي للشعور، وتظهر مشكلة الصحة التاريخية للنص المقدس للمرة الأولى بعد ظهوره كموضوع أولي في ظاهريات التأويل، لم تكتشف فلسفة الدين أو ظاهريات الدين هذا الإشكال، وهي الصحة التاريخية للنص المقدس، والتي يمكن حلها أولا عن طريق النقد التاريخي، وهنا تبدو الجدوى الهائلة لمدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» التي ورثت كل النقد التاريخي منذ نشأته، وأصبح الشعور، الفردي والجماعي، هو موطن كل تحليل نصي وليس العقائد أو الحوادث التاريخية.
وكان للمنهج الظاهرياتي الفضل في أن يستأنف معركة الفلسفة الحديثة ضد اللاهوت العقائدي، يضع الشعور كبداهة أولى، يبدأ بالحاضر وليس بالماضي، من اللحظة وليس من التاريخ، من الأنا وليس من الآخر، الله أو الحادثة. (1) التمييز بين المستويات
وقد بين تأويل الظاهريات أن المنهج الظاهرياتي منهج يبدأ بتمييزات أساسية، وتتلخص الأزمة الحالية في التأويل في الخلط بين ميدانين متميزين؛ ومن ثم يبدو المنهج الظاهرياتي فعالا وخصبا لو استطاعت التمييزات الأساسية التي يقدمها إزالة كل أوجه الخلط التي تملأ التأويل، وتكون التمييزات أكثر خصوبة في إشكال عنه في إشكال آخر مثل التمييز بين المفارقة والحلول، بين الواقعة والماهية.
والتمييز بين المقارنة والحلول من بين التمييزات الأساسية في المنهج الظاهرياتي،
3
يمكنه تصحيح كل المواقف التي تم اتخاذها من قبل في التأويل مثلا من النقد التاريخي عندما يعتبر النص المقدس كموضوع مفارق، يوجد موضوعيا في العالم الخارجي، تحوله الظاهريات إلى موضوع حال في شعور النبي ومنقول من راو إلى آخر، كما اعتبر الأشخاص والحوادث والمؤسسات أيضا موضوعات مادية موجودة في العالم الخارجي، وتعتبر الظاهريات الشخص كطرف للشعور في تجربة مشتركة. الحادثة واقعة «ترد» من أجل اقتناص دلالتها؛ ومن ثم يستطيع هذا التمييز بين المفارقة والحلول أن يساعد على تقدم النقد التاريخي ونقله من ميدان المفارقة إلى ميدان الحلول.
ونفس التمييز خصب للغاية في التحليل اللغوي؛ إذ يتكون منطق اللغة، كما تمت الإشارة من قبل، من منطق القضايا ومنطق الاتساق (الاستنباط) ومنطق الحقيقة (الاستقراء) طبقا للمعاني الثلاثة للفظ «لوجوس»؛ الكلام، والتفكير، والشيء المفكر فيه. والشيء المفكر فيه ليس واقعة أو حادثة خارجية، بل معطى حي في الشعور؛ ومن ثم لا يصبح النص موضوع التحليل موضوعا مفارقا، بل موضوعا حالا في الشعور.
وفي التحقيق العملي، يصحح التمييز بين المفارقة والحلول عدة مواقف؛ فالإحسان ليس موضوعا خارجيا للأخذ أو العطاء، بل هو قصد خالص. لا يظهر كموضوع مفارق بل كفعل حال في الشعور. ومفارقة الله ليست لحظة التعالي الإلهي، مفارقة الله تستطيع أن تجعله تاريخيا وموجودا خارجيا. الله المفارق إعلان ضمني عن مادية العالم والخارجية الإلهية. العالم أو التاريخ موجود باستمرار في مواجهة الله، ومع ذلك منفصل عنه، وهناك دائما الشخص الإنساني تحت مظلة الله، ومنفصل عنه. مفارقة الله ليست قمة الإعلان عن الإيمان والتدين؛ لذلك لم يستطع اللاهوت في إطار ظاهريات الدين التخلص من المفارقة، وتمت التضحية بالحلول الذي تقدمه الظاهريات.
4
والتمييز بين الواقعة والماهية يضع نهاية لهذه الحالة القائمة التي يوجد فيها التأويل، خاصة التأويل التاريخي؛ فالواقعة التاريخية والشخص والحادثة والمؤسسة ليس لها وجود مادي في التاريخ، ولكنها معيشة في الحاضر، وتستحضرها الذاكرة. الواقعة التاريخية ليس لها وجود بذاته ولكن بدلالتها؛ فالتجسد كحادثة ليس عرضا تاريخيا في زمن ومكان، الحقيقة ذاتها لا تنكشف إلا ابتداء من تجربة عيانية، ليس البحث حادثة تاريخية بل حضور الخلود في الزمان، في الشخص الإنساني في حياته المركزة على فعل بطولي أثناء تحقيق رسالته الخاصة. الشخص، شخص النبي أو العالم، ليس له وجود فعلي تاريخي، بل يعني فقط ظهور الحقيقة في الذاتية. الشخص نفسه، بلحمه وعظمه، ليس له وجود مادي بل مجرد مكان انكشاف للحقيقة. والمؤسسة، أي الكنيسة، ليست تنظيما ماديا على الأرض، بل هو استمرار تجلي النص من خلال التجربة المشتركة، تجعل النص دائما حاضرا ومتجددا باستمرار؛ ومن ثم «يرد» التاريخ كعلم وقائع، دلالته فقط هي التي تؤسس علم الماهية، وللحادثة المتميزة في التاريخ دورها كواقعة دالة حاملة للماهية.
والتمييز بين الواقعية والماهية يساعد على تجنب كثير من سوء الفهم الذي يوجد الآن في الفهم ابتداء من التحليل اللغوي للنص المقدس، مثلا كل النصوص التي تتضمن «أبي» على لسان المبلغ، وهو النبي، لا تشير إلى أن النبي هو بالفعل ابن أبيه، بل تدل على ماهية الأبوة والبنوة. الأبوة هنا نوع من التقريب للفهم، لا يشير إذن منطق النص إلى واقعة مادية محددة، بل فقط إلى الماهية تحملها واقعة أو حادثة عيانية وفريدة دالة من أجل تقريب الفهم. الواقعة الأولى أصل أو نموذج تحمل الدلالة وتمتد كل مرة تتكرر فيها الحادثة، ليس المقصود إذن هو الحادثة المادية، وهي مجرد حامل الماهية، بل دلالة الماهية. تستطيع فكرة «الحامل» أن توضح عديدا من أوجه الخلط في فهم النص المقدس الناتج عن إثبات وجود مادي للوقائع والحوادث. والتمييز بين الواقع والماهية مفيد أيضا في التحقيق العملي للنص المقدس؛ فالعمل ليس مجرد واقعة للبدن الذي يتحرك، مجرد تحريك للعضو، بل هو عمل حقيقي في العالم، نتيجة نشاط الشخص الخلاق. كما ترجع النظرة الخارجية للشعائر الآن إلى النظر إلى العمل كواقعة وليس كماهية. ماهية العمل في ازدهار الذات في العالم الخارجي، تتحقق من خلاله كنشاط خلاق في العالم، توسع ماهية العمل ميدان السلوك، ليس فقط على إيماءات الشعائر، بل أيضا على أفعال الإنسان في الحياة اليومية، ليس فقط على أفعال هذا الدين أو ذاك، بل على الأفعال الإنسانية من حيث هي كذلك، دون أي اعتبار لانتماءاتها العقائدية، وبتجنب التمييز بين الواقعة والماهية أي تمييز آخر بين المقدس والدنيوي في الأفعال، وبين القساوسة والعلمانيين في الأشخاص.
يبدأ المنهج الظاهرياتي بتمييزات رئيسية ليوضح الخلط الحالي في التأويل، مثلا مشكلة التراث الحي والحرف الميت، والتي هي على مستوى التاريخ من حيث المبدأ امتداد لمشكلة الرواية على مستوى شعور الراوي، والخلط الحالي بين الرواية والتقرير وبين المشاهد والراوي خلط كبير. الرواية الحالية خليط من الكلام والحادثة، بين شخص النبي وأشخاص آخرين من المحيط، بين الواقع والخيال، بين الطبيعي وما يفوق الطبيعة، بين الكلام المباشر للنبي والوصف الخاص للشاهد.
وبتمييز الظاهريات بين الشعور المحايد والشعور الواضع، وبتحليل تغير الحياد، يمكن أن يلقي كثيرا من الضوء على الخلط الحالي في الرواية. الراوي شعور محايد وليس شعورا واضعا. هو مجرد راو ينقل كلام النبي من جيل إلى آخر، دون إضافة شيء من عنده. الكلام المباشر يكون كل الرواية، مع استبعاد الكلام غير المباشر من وصف الشاهد، ليس الراوي شاهدا. الأول شعور محايد، والثاني شعور واضع. الأول ينقل الرواية والثاني يرويها، ويمكن استخدام المعطى الحي عند الأخير في التفسير وليس في النقل، ليس الراوي مفسرا في حين أن الشاهد يفسر، يستعمل الراوي فقط السمع في حين يستعمل الشاهد الرؤية أكثر من السمع، يرتبط السمع بالزمان، في حين ترتبط الرؤية بالمكان.
وترتبط مشكلة الكتاب والتراث بمشكلة التاريخانية والتاريخ. الكتاب هو التاريخانية لأنه مرتبط بالوجود الإنساني وحده، وجود النبي. والتراث هو التاريخ لأنه مجموع الأعمال التي أنتجتها الحوادث والمؤسسات والأشخاص.
5
الخلط الحالي بين الكتاب والتراث هو أن الكتاب خرج من التراث، والتراث يضيف جديدا إلى الكتاب، وليس للكتاب معنى دون التراث ... إلخ. ويمكن للظاهريات توضيح كل ذلك عن طريق فكرة نواة المعنى، الكتاب هو نواة معنى التراث. (2) البنية والتاريخ
وإذا كان التمييزان الأوليان بين المفارقة والحلول، وبين الواقعة والماهية، مفيدين للغاية للإشكال الأول في التأويل وهو النقد التاريخي، فإن التمييز بين صورة الشعور ومضمونه يفيد أيضا في إشكال الفهم؛ فبعد «رد» التاريخ وتكوينه كتاريخية، وبعد تحويل المفارقة إلى حلول، وبعد إخراج الواقعة خارج دائرة الانتباه من أجل اقتناص ماهيتها، فإن الطريق يكون مفتوحا من أجل اعتبار الموضوع التاريخي النصي أو العملي كمضمون للشعور. النص المقدس موضوع حي في الشعور، والشعور كعقل متأمل في مضمونه هو صورته؛ ومن ثم فإن المشكلة الممزقة للتأويل العقائدي بين الإيمان والعقل تجد حلا لها في مضمون الشعور وصورته كواجهتين للشعور؛ فتعارض أحدهما مع الآخر أو أولوية أحدهما على الآخر أو توحيد أحدهما مع الآخر، كل ذلك يتحول إلى تكامل أحدهما مع الآخر بفضل مساهمة الظاهريات فيما يتعلق ببناء الشعور الذاتي الموضوعي، الصوري والمادي. فقد فتحت الطريق إلى وحدة الشعور بعيدا عن تمزقه بين عنصرين متعارضين، وكل مشاكل البدن والنفس، الأبدي والزماني، الروحي والمادي ... إلخ، هما فصل في وحدة واحدة. والتمييز بين أنماط الاعتقاد وأنماط الوجود يمكن أن تحل الأزمة الحالية في كل العلوم الدينية خاصة اللاهوت؛ فالإيمان ليس إثباتا أو نفيا لوقائع خارجية أو أنساق عقلية، بل هو نمط لليقين، وليس الاعتقاد أيضا بالوقائع الخارجية، حوادث ومؤسسات وأشخاص أو أبنية عقلية، بل نمط وجود في الشعور. وتصطدم ظاهريات الدين أيضا بتصنيف الحلول المختلفة الممكنة في أي فلسفة للدين، وتبني حلا أخيرا.
6
يكفي اللجوء إلى البناء الذاتي الموضوعي للشعور من أجل إثبات وحدة الدين، وهو مضمون الشعور مع الميتافيزيقا، وهي صورته.
وتطبيقا لقاعدتي المنهج الظاهرياتي، «يرد» التاريخ المادي للحوادث والمؤسسات والأشخاص من أجل تكوين دلالاتها أو ماهياتها كتاريخية حية، ويصبح الماضي التاريخي استحضارا بالذاكرة، ويحلل التاريخ بعد رده ليس فقط كتاريخانية ذاتية، بل كتاريخية مشتركة بين الذوات بتحليل البواعث. ولم يكن تدمير الموضوع المادي عن طريق «الرد» في الواقع إلا مقدمة لتدمير العالم. في التأويل الحالي، العالم مخلوق من خالق «خارج العالم». وفي الظاهريات، العالم أيضا مخلوق ولكن في الوعي الفردي. أصل العالم في الشعور في لحظة الوعي به؛ فالوجود ليس موضوع إثبات أو نفي عقلي، بل يتكون تدريجيا كواقع حي، لا يوجد مرة واحدة وإلى الأبد، بل يتواجد باستمرار كمشروع وجود، يوجد ثم يوجد من جديد، ويولد ثم يولد من جديد، وتعطي الظاهريات الحركية فرصة كبيرة لانفتاح الوحي على النشاط الإنساني، وبعد تدمير الموضوع لا يكون «الله» موضوعا أو شخصا أو حادثة تاريخية، وجوده ليس واقعيا بل ممكن، تمتد جذوره في مضمون الشعور، ولا يكون الله أيضا «تصورا» يتضمن وجودا ضروريا كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي؛ فالتصور صورة الشعور، ولا يمكن رد الوجود إلى الفكر كما هو الحال في نقد الدليل الأنطولوجي، «الله» إذن مشروع وجود، حال في الشعور، ويتحقق هذا المشروع بتحويل معطى الوحي، وهو كلام الله، كبناء مثالي للعالم. الله كلامه، وهو المستوى المثالي، ثم يصبح العالم، وهو المستوى الواقعي.
7 (3) تحليل اللغة وفك الرموز
والتحليل اللغوي هو الضامن الوحيد لفهم دقيق لمضمون النص، وليست سلطة خارجية عن النص تفرض تفسيرا معينا، بل مضمون النص وفهمه كما هو عليه ابتداء من المبادئ اللغوية، ويكون لهذه المبادئ دوران؛ الأول هدم اللاهوت العقائدي من الأساس عن طريق إعادة تأويل النص بطريقة محكمة ودقيقة؛ مما يهدم من الأساس اللاهوت العقائدي. والثاني إعادة بناء معنى النص كما هو دون إضافة أي شيء من الخارج أو حتى محاجة عقلية. مثلا النصوص الخاصة بالأب والابن والروح القدس؛ تطبق أولا مبادئ الاشتباه، خاصة اللفظ المزدوج الحقيقة والمجاز، من أجل تدمير الحادثة الفعلية المنسوبة إلى النص، وثانيا فهم الأب والابن والروح القدس بالمعنى المجازي المستعمل في الحياة اليومية.
8
وبالإضافة إلى المبادئ اللغوية هناك أيضا فك الرموز. الظاهريات تيار يقوم على فك الرموز من أجل الذهاب إلى ما وراء الرمز،
9
والواقع أن النص المقدس يتضمن رموزا كثيرة وليس أساطير. الأسطورة رمز خيالي في حين أن الرمز واقع مركز. ظاهريات التأويل إذن جهد لفك رموز النص، وهو ما تم القيام به ببراعة في تفكيك الأساطير، الظاهريات تخرق الحقيقة ذاتها من خلال الرموز، وتعطي التأويل فرصة ليرمز عن نفسه من أجل إيجاد الأشياء ذاتها المستترة وراءها . يستخدم دائما فك الرموز، وهي غاية الظاهريات، بعد أن أصبح فك الأساطير في ظاهريات التأويل من أجل إعادة بناء الأشياء. مثلا، اليوم الآخر رمز يدل على بعد المستقبل في الوعي الداخلي بالزمان.
ويمكن إعادة بناء المعنى الذي فهم من قبل أنه حادثة فعلية كالتثليث عن طريق فك رموز النص وفهم دلالته في ضرورة التوسط.
10
لا يتحول الروح إلى طبيعة إلا عن طريق وسيط ثالث، تتحقق وحدتهما أولا عن طريق الازدواجية ثم عن طريق التوحيد، ويصبح الكلام، وهو المعطى الديني، واقعا؛ أي العالم بتوسط الشخص، وهو المسيح، وماهية الشخص التضحية؛ أي العمل.
11
وبعد فهم دلالة النص يصبح التأويل الوجودي للواقعة الإنسانية ضروريا لإعطاء الأساس الفعلي إلى الدلالة الأولى. يعني التثليث الوجود في العالم؛ الأنا، وعالم الآخرين أي البيئة، وعالم الأشياء أو الوسط.
12 (4) التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية
يتم تفسير العقائد بإرجاعها إلى مصدرها في الوجود الإنساني، فمثلا في التثليث هناك الأب والابن والروح القدس.
وبأخذ دلالة النص مع التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية يلاحظ أن التثليث علاقة رأسية، في حين أن التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية علاقة دائرية. الابن الذي يمثل الشخص خارجية محضة وليس مركز الدائرة، وعالم الآخرين وعالم الأشياء غائبان تماما، ويضاف الأب والروح القدس إلى الابن، وهو المقولة الإنسانية الوحيدة، ويصبح التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية أساس أي تفسير لدلالة النص، وفي ظاهريات التثليث يصبح الابن الشخص النموذجي ليتكرر مثل الآخرين، هو مركز العالم، والآخر محيطه الإنساني، والشيء بيئته الطبيعية التي تكون عالمه. الآخر الطرف المتضايف مع الأنا كوجود في العالم.
ولا تستخدم نظرية البداهة فقط في فهم النص المقدس بالإدراك المباشر لمعناه، ولكنها هي الضامن لاختفاء ما يسمى بالسر المفترض دائما في صلب التأويل، فقد افترض السر كمفهوم عقلي بين الأسطورة والتناقض، ومع ذلك تقدم الظاهريات إمكانية إنارتها بمنهج الإيضاح، فإذا وجد السر في الفهم فإنه لا يوجد في نظرية البداهة، واستحالة رد الوجود الإنساني إلى المبادئ الرياضية والمنطقية ليس سرا؛ لأن المعرفة عاجزة على الفهم، وإذا وجد التناقض في ماهية الوجود الإنساني فهو أمر بديهي، ولا يمكن اتخاذه ذريعة على وجود سر مزعوم لا يكون إلا تبريرا مرة أخرى إلا للاهوت الرسمي.
13
تبدأ الظاهريات بالبداهة الأولى للشيء في الشعور، وبداهة الشيء نوع من البراءة الأصلية للشعور. وبالرغم من أن بداهة الشيء والبراءة الأصلية للشعور مقولات معرفية خالصة، فإن لهما دلالات أخلاقية عميقة، يوجد تشابه في الموجودات على مستويات متعددة في كل مكان؛ ومن ثم ترفض الخطيئة الأولى كبنية قبلية للشعور باسم البراءة الأصلية للشعور، ومن ثم يترك جانبا كل افتراض مسبق لبنية الشعور في اللاهوت العقائدي لصالح شعور على البراءة الأصلية.
وتستطيع أن تقدم نظرية الحدس، لب المنهج الظاهرياتي، خدمة كبيرة للأزمة الحالية للتأويل، خاصة التأويل الدوجماطيقي. ويفتح التنظير الحاد والمذهبية الدائمة لحقائق الوحي التي اعتبرت أشياء الطريق إلى السجال ووجهات النظر والخلافيات، والعقل قادر على ذلك، هذه اللفافة العقلية تحيط الأشياء ذاتها بالغموض إلى درجة أنها تحيط نفسها به، وهي تدور حول ذاتها، ناقلة المسألة من ميدانها الأول. يستطيع المنهج الحدسي أن يدرك الموضوع إدراكا مباشرا دون أي لفائف عقلية، ويمكن فهم معنى النص حدسيا بإرجاعه إلى خبرة حية في الحياة اليومية تنيرها، ولا تتجنب نظرية الحدس فقط كل عقلانية عقائدية، ولكنها تضع منهجا لتفسير النص المقدس، ولا يبرر تطبيق المبدأ الحدسي في فلسفة الدين اللاهوت مرة ثانية في إطار فلسفة ظاهراتية، بل تدمره من أساسه. الحدس اتصال مباشر بشيء، واقتناص مباغت لماهيته واتحاد بالوجود، في حين أن اللاهوت مناقض لذلك تماما؛ فتطور الشيء بمحصلة عقلية لفائف عقلية حول الشيء، مذهبية وحجاجية. يستطيع المبدأ الحدسي أن يخلص فلسفة الدين، مرة واحدة وإلى الأبد، من كل شيء، وهو اللاهوت.
14
وقد أظهر تأويل الظاهريات في التكوين أن الواقعة البديهية الأولى، كما هو الحال في بدايات العصور الحديثة، هي الشعور؛ فالشعور مركز إشعاع في العالم المحيط بعالم الآخرين، المحيط، وبعالم الأشياء، البيئة؛ ومن ثم ينقلب اللاهوت، حجر العثرة في التأويل باعتباره «علم الله» بفضل الظاهريات، إلى «علم الإنسان».
15
ويصبح الوعي الفردي نقطة بداية لكل علم فلسفي، وميدان استقصاء لكل الوقائع الإنسانية. وإن لم تنشأ الظاهريات لأجل سد حاجات اللاهوت، فإنه لا يمكن استعمالها أيضا من أجل تبرير اللاهوت القائم. الظاهريات، وكما يؤكد ذلك تأويلها، حدس ديني صحيح، وكذلك كل الفلسفة الأوروبية، ولا يعني أنها لم تعالج مشاكل فلسفة الدين إلا في الأعمال المتأخرة أنها لم تكن بطريقة ضمنية حدسا دينيا.
16
ولا يمكن حل مشاكل اللاهوت في إطار الفلسفة الظاهراتية، علاقة اللاهوت بالظاهريات علاقة تعارض وليست علاقة تماثل، علاقة تبرير وليست علاقة حل وسط.
17
إذا وجد الأول غاب الثاني؛ لذلك يستحيل وجود لاهوت في إطار ظاهريات الدين، ولا يوجد إلا حلان؛ إما أن يظل اللاهوت كما هو عليه، شيئيا وتاريخيا، والظاهريات ما هي إلا طريقة أخرى في التبرير.
18
وإما أن تقضي الظاهريات كلية على اللاهوت، وهو حل يقيني ثابت لا يتزعزع، لا يمكن الشك فيه. والقضاء على اللاهوت لا يتعلق فقط بتدمير موضوعاته التاريخية والعقائدية، ولكنه يتعلق أيضا بتطهير اللغة. ولا يعطي اللاهوت في إطار ظاهريات الدين فقط تبريرا مرة أخرى للاهوت القائم، بل يستمر في استعمال مصطلحات اللاهوت مما لا يساعد على الطرق السلبية في التعبير في اللاهوت.
19 (5) الوحي كعلم محكم
وبالإضافة إلى هذه التمييزات الأساسية والعودة إلى الإشكالات الثلاثة في التأويل، يبحث الشعور التاريخي في الظاهريات النشوئية المعطى الأصلي ابتداء من المصدر الأولي. وبالرغم من أن لنصوص الإنجيل من حيث المبدأ وحدة المصدر في أقوال يسوع، إلا أنها في الواقع تنتمي إلى مصادر عدة؛ هناك المصدر اليهودي عند يعقوب، والمصدر اليهودي المسيحي عند بولص ... إلخ. البحث عن المصدر الأول يستطيع حل المشاكل الخاصة بالصحة التاريخية للنص. المصدر الأول وحده، أقوال يسوع، هو المصدر الشرعي في حين أن المصادر الأخرى، اليهودية واليونانية والشرقية، مصادر تاريخية صرفة. تساعد الظاهريات النشوئية بمقولاتها عن الانتشار والانحسار، والتواصل والانقطاع، والسنة والانحراف ... إلخ. وعلى اقتناص النواة الأولى لمعطى الوحي مع التخلص من كل التغيرات والانحرافات التي لحقت به على مدى التاريخ. مثلا في الحالة الراهنة لدراسات الكتاب المقدس كان الإصرار على التواصل بين التوراة والإنجيل أكثر من الانقطاع، ونتيجة لذلك سيطر العهد القديم على العهد الجديد.
20
وكان الهدف من إقامة ظاهريات حركية موضوعها التطور بجوار الظاهريات السكونية وموضوعها البنية هو إصلاح التأويل الحالي الذي يتعامل فقط مع المشاكل التاريخية واللغوية دون الإشكال العملي، وتستطيع الظاهريات الحركية تحويل التأويل من الوجود إلى الصيرورة.
21
غاية الظاهريات تأسيس التأويل كعلم محكم بعيدا عن النزعتين؛ التاريخية والعقائدية، وتستطيع الظاهريات النشوئية أن تعيد بناء الموضوع بالبحث عن نواة معناه.
22
وفي الشعور النظري، يتحول الوحي إلى علم دقيق. وفي تأويل الظاهريات كل علم إنساني، بفضل الظاهريات، يتحول إلى علم محكم. والوحي علم إنساني كمادة للبحث، ويستطيع أن يصبح بطبيعته ذاتها بمساعدة المنهج الظاهرياتي علما محكما. الوحي كلام، والكلام لغة، واللغة محفوظة في النص؛ ومن ثم يظهر الوحي في صورة نص، خاصة بعد الانتقال من التراث الشفاهي إلى التراث المدون، وإذا كان التأويل منطق النص، والنص هو الوحي المدون، يصبح التأويل منطق الوحي. غرض «ظاهريات التأويل» تحويل الوحي إلى علم محكم. والواقع أن المأساة الحالية التي يوجد فيها الوحي مأساة كبيرة تتمثل في الخلط بين الوحي والنبوة، والوحي والإلهام. الوحي كلام الله على لسان الرسول ، في حين أن الإلهام هو الكلام الشخصي للصحابي أو التابعي. وإذا أرادت الظاهريات تحويل كل علم إنساني إلى علم محكم، فإن «ظاهريات التأويل» بالتالي تريد تحويل الوحي إلى علم محكم، وتطبيق مبدأ البداية الجذرية ينفي فلسفة الدين باعتبارها المشكلة الأولى في «ظاهريات التأويل»، ويقتضي فهم النص تفسيره، ويفترض تفسيره منطقا لغويا مسبقا؛ ومن ثم فإن كل جهد لصياغة ظاهريات الدين ابتداء من فلسفة الدين، خاصة ابتداء من الظاهريات الدينية القائمة، هو تجاهل لمبدأ البداية الجذرية.
23
وقد وصلت ظاهريات التأويل إلى نتيجة مؤداها أن الظاهريات أساسا منهج وليست نظرية. والوحي في الدراسات الحالية مطمور تحت ثقل العلوم العقائدية التي تغلفه في أنساق في التاريخ بإثبات حوادث ونفي أخرى، وفي العقل بقبول مخططات ورفض أخرى. وبفضل المنهج الظاهرياتي يعود الوحي إلى طبيعته الأصلية كطريقة للحياة وللوجود. ويقضي على الدوجماطيقية التي تكبل الوحي كي يصبح منهجية وجودية للحياة الفردية والاجتماعية، يتكون دائما تدريجيا ومنهجيا أكثر من تبنيه مسبقا ثم تحويله إلى عقيدة بعد ذلك. يتكون أكبر مما يبرر؛ فالواقع أنه عندما يقع الوحي في الدوجماطيقية والنزعة التاريخية يكون مقترضا دائما على نحو مسبق في صورة موضوعات عقائدية وتاريخية، ويقوم العقل بدور التبرير هذا، والذي يتفق معه تماما لأن العقل يحسن ذلك. وضد هذه المواقف يحول المنهج الظاهرياتي، ببدايته الجذرية، الوحي إلى حركة تبدأ من جديد دائما ابتداء من بداهات أولية من أجل الوصول إلى الأصل؛ وبذلك يتجنب الوحي أي بناء عقائدي أو تاريخي دون بحث مسبق لأسسه.
يخرج الوحي عن إطار الدين التاريخي أو اللاهوت العقائدي، الوحي كلام الله المستقل عن التاريخ. وقد قام بهذا الدور من قبل «رد» التاريخ و«تكوين» التاريخانية، وتطبيق التمييزات بين المفارقة والحلول، بين الواقعة والماهية، يستطيع الوحي كحقيقة إنسانية تتحول إلى نظام مثالي للعالم أن يقضي على اللاهوت العقائدي الذي يضع عقائد شيئية يتم إثباتها أو نفيها عقليا، ويتم تكوين الوحي بعيدا عن النزعتين؛ الصورية المجردة والمادة التاريخية.
ويجد تأويل الظاهريات في المجموعة المنطقية منهج انتقال من الصوري إلى المادي إلى الترنسندنتالي، ويستطيع هذا المنهج أن يقضي على الاضطراب الذي يوجد الآن في الوحي الموزع بين الصورية اللاهوتية والعقائدية التاريخية. وبتطبيق مبدأ العود إلى الأشياء ذاتها، يستطيع التأويل أن يخرج من أزمته الراهنة بصدد المعركة الزائفة التي يقودها اللاهوت؛ إذ يتجه التفسير الحالي للنص المقدس كلية إلى الحفاظ على العقائدية التاريخية أو التاريخية العقائدية، وترك الأشياء ذاتها في العالم الذي يكتشف النص عن حقيقته.
تستطيع الظاهريات أن تحل الأزمة الحالية للتأويل عن طريق تطهير اللغة؛ فالواقع أن كل البحوث الدينية تعبر عن نفسها بلغة غير ملائمة ومستعارة من التاريخ أو العقائد، ويأتي لفظ «الله» في الصدارة في هذه اللغة السلبية، ويمكن استعمال هذا اللفظ بأكثر من طريقة للتعبير عن مفاهيم مختلفة بل ومتعارضة، وتستطيع لغة الظاهريات بعد تبسيطها أن تحسن التعبير، وبطريقة أكثر إحكاما، عن مادة التأويل، مع أقل قدر من خطر الوقوع في التناقض. لغة الظاهريات هي التي ورثت لغة الفلسفة الأوروبية كلها خاصة لغة العصور الحديثة، وكانت الظاهريات تقوم بدور التطهير للغة القديمة؛ فألفاظ الشعور، الزمان، العمل، العالم، الآخر ... إلخ؛ ألفاظ أكثر انفتاحا وأكثر إنسانية وأكثر تحولا من ألفاظ «الله» و«الدين» و«المسيحية».
24
وفيما يتعلق بالشعور العملي يعلن عديد من المخططات في التأويل الراهن عن حقائق منقولة من مستوياتها الخاصة، مثلا توجد الأخرويات كدراسة لمجموع الوقائع القادمة: الموت، البعث، اليوم الآخر ... إلخ في وضع عقائدي بسبب غياب أي إنارة إنسانية. تقدم الظاهريات للاهوت توجها رئيسيا نحو الخبرة الذاتية والخبرة المشتركة؛ ومن ثم يمكن إنارة الأخرويات بالغائيات، ولا يستطيع اللاهوت في إطار ظاهريات الدين استعمال الغائيات كبرهان على وجود الله كما تم استخدام اكتشافات فلسفية أخرى، ويشير لاهوت العالم إلى الغائية في الطبيعة كميل نحو الكمال. ويشير المشروع والعمل والتحقيق إلى الغائية في الوجود الإنساني دون أن تكون على الإطلاق قفزة عقلية نحو المفارقة أيا كانت. الغائية هي البنية الداخلية للوجود الإنساني الذي تكمن ماهيته في رسالته.
25
خامسا: خصائص ظاهريات التأويل1
لقد انتهى تأويل الظاهريات إلى نتيجة مؤداها أن الظاهريات اتجاه ديني في مصدرها ومنقول على مستوى الأنا الترنسندنتالي، وكما هو المعتاد في كل الفلسفة الأوروبية منذ عصر النهضة وفلسفة التنوير، وتطبيق المنهج الظاهرياتي في ظاهرة الدين خاصة في إشكال التأويل هو عود المنهج إلى حدوسه الأولى، ومن بين ميادين التطبيق التي تم تقصيها، ظاهريات الدين وحدها، وبتعبير أدق ظاهريات التأويل، وهي التي تستطيع أن تقدم عناصر جديدة خاصة فيما يتعلق بما تحت الظاهريات؛ فللمرة الأولى تتوقف لعبة التبرير التي ما زالت قائمة، سواء في فلسفة الدين أو في ظاهريات الدين، ولا ينتمي «ما لا يمكن رده» أو «ما لا يمكن معرفته» إلى إثبات اللاهوت العقائدي لوجود الله بل إلى الوجود الإنساني، ويخاطر التفسير الوجودي بفقدان ذاته لو اعتبر التحليل الوصفي للوجود الإنساني لاهوتا جديدا. ليست ظاهريات التأويل ظاهريات الظاهرة الدينية أو ظاهريات الموضوع الديني بل ظاهريات النص الديني. الظاهرة الدينية مجرد عاطفة ذاتية من جانب الذات. والموضوع الديني شيء مادي من جانب الموضوع، في حين أن النص علاقة بين الشعور وموضوعه.
ولظاهريات التأويل الخصائص الآتية: (1) ظاهريات أكثر منها تأويلا
تتكون الظاهريات إذن من عنصرين «الظاهريات» و«التأويل»، والسؤال هو: كيف يمكن التوحيد بينهما والحفاظ على توازنهما بحيث لا ترجح الظاهريات على التأويل أو يرجح التأويل على الظاهريات؟ ومع ذلك، بالنسبة للظاهرياتي وليس المفسر، من الصعب صياغة ظاهريات للتأويل دون إعطاء أولوية للظاهريات على التأويل.
2
وليس هذا عيبا، بل على العكس هي ميزة كبيرة؛ فالواقع أن الأزمة الحالية للتأويل قد تجد حلا لها في الظاهريات. (2) مساهمة أكثر منها بحثا
ليست ظاهريات التأويل دراسة تاريخية في التأويل بالمعنى المهني للفظ، بل مجرد مساهمة في الدراسات الهرمنيطيقية بتطبيق المنهج الظاهرياتي خاصة قاعدة الإيضاح؛ فالتأويل في وضعه الراهن مملوء بالخلط، وكل دراسة جديدة في مادته تزيد الخلط أكثر مما تزيله. ظاهريات التأويل مجرد مساهمة في دراسات التأويل فقط من أجل إلقاء الضوء على إشكالات التأويل بالاستعانة بالمنهج الظاهرياتي دون البحث التاريخي في هذا الجانب أو ذاك. (3) تفكير أكثر منه توثيقا
تعتمد ظاهريات التأويل على التفكير أكثر من اعتمادها على التوثيق، ويرجع خطأ التأويل التاريخي إلى سيادة التوثيق على التفكير، وخطر التأويل العقائدي هو سيادة التفكير على التوثيق، ويتجنب المنهج النظري بطبيعته الخطرين بالتوجه إلى الأشياء ذاتها، خطر النزعة التاريخية في التوثيق.
3
وبالاعتماد على التفكير المفتوح يمكن تجنب خطر العقائدية اللاهوتية، وتعطي ظاهريات التأويل المقترحة التي تبدأ من الظاهريات أكثر من بدايتها بالتأويل اهتماما أكثر بالتفكير المنهجي أكثر من مادة التفكير التي يقدمها التوثيق، ولا يعني أي نقص في التوثيق أي نقص في المنهجية النظرية؛ إذ تقوم هذه المنهجية على الكيف بالنسبة لأسسها المنهجية وليس على الكم بالنسبة لمجموع الوثائق، وهذا ضروري من أجل المحافظة على التوازن المطلوب. (4) حل جديد أكثر منه إدانة للقديم
ليس هدف ظاهريات التأويل القضاء على التأويل القائم، التاريخي أو العقائدي. ليس الغرض تفريغ التاريخ أو تبخير العقائد.
4
تقترح فقط حلولا قد تكون لها بعض الفائدة، وبهذه الطريقة يحافظ التأويل على نفسه من الوقوع في مجال ينقل المشكلة الرئيسية من مستوى إلى مستوى آخر؛
5
وبالتالي يتحول التأويل إلى فرع من السجال التاريخي اللاهوتي، ويضيع تأصيله في الشعور في علاقة النص بالواقع؛ فالنص هو مرآة الواقع في الشعور، ومرآة الشعور في الواقع، والتأويل يبني الموضوع، والسجال بين وجهات النظر التي يقصي بعضها بعضا لتوحد كل منها ب «الحقيقة»، وهو موقف لاهوتي مسبق. التأويل في الحقيقة التكامل في رؤية الموضوع في كل جوانبه ومن كل زواياه بحثا عن المعطى القصدي الأول، وليس عن تعيناته التاريخية في النص.
6 (5) افتراض أكثر منه حلا
لا تدعي ظاهريات التأويل تقديم حلول لمسائل التأويل الشائكة خاصة فيما يتعلق بالتأويل التاريخي، وتظل هذه المشاكل بلا حلول طالما أنها مشدودة بين التاريخ من ناحية والعقيدة من ناحية أخرى، ومع ذلك نظرا للفائدة الكبرى للمنهج الظاهرياتي بتطبيقه في إشكالات التأويل تصبح نتائج البحث قضايا خصبة في الوقت الذي يستطيع فيه التأويل الخروج من الحصار بين التاريخ والعقيدة، والتفكير في الأصول أجدى من اقتناص الفروع، وكل تغير في نتائج الفروع إنما كان نتيجة لتغير في وضع الأصول. والافتراض الجديد أفضل من إضافة نتيجة للقديم، وكان تقدم العلم باستمرار مرهونا برؤى العالم أكثر منها بنتائج العلم.
7 (6) قواعد عملية أكثر منها نظرية
صحيح أن التأويل يمثل بالنسبة للهرمنيطيقا خطوة كبيرة نحو البحوث العيانية والعملية في النص المقدس. ومع ذلك، يظل التأويل مشوبا أيضا بعناصر خارجية، حوادث تاريخية أو عقائد لاهوتية. والتأويل مستقل تماما عن مصادره التاريخية، ويستطيع أن يتحول إلى علم دقيق لو تأسس كعلم مستقل عن مصادره التاريخية، كما أنه يستطيع أن يقدم منهجية عملية يمكن تطبيقها على أي نص مقدس. وبتعبير آخر، يتم التأويل على خطوتين؛ الأولى الانفصال عن مادة البحث ونصوصه الأولى كي يتكون كمنهجية مستقلة، والثانية التوجه من جديد إلى أي نوع من النص لحل إشكالاتها في النقد التاريخي والتحليل اللغوي والتحقيق العملي.
سادسا: إشكالات التأويل1
(1) النقد التاريخي للبحث عن الصحة التاريخية (الوعي التاريخي)
فكل تفكير في الوحي يصبح نظرية في العدل الإلهي أو لاهوتا أو عقائد إن لم يتحول إلى منهجية عامة، ومنها التأويل، ويصبح مصير كل فلسفة للدين هو النظرية الخالصة إن لم يوجهها منطق لنص الوحي؛ فدور الوحي استقباله في التاريخ، وتلك مهمة الوعي التاريخي، ثم يأتي فهمه كشعاع مزدوج من صورة الشعور إلى مضمونه، ومن مضمون الشعور إلى صورته، من الذات إلى الموضوع، ومن الموضوع إلى الذات في قصدية الشعور في نظرية الإدراك، وهو الوعي النظري، ثم يأتي تطبيقه كسلوك مثالي لتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم، وهو الوعي العملي؛ حقيقة الوحي كاعتقاد وقبلي بين قوسين.
2
يوجد الوحي عندما يعلنه المبلغ وينقل نقلا صحيحا شفاهيا ثم مدونا. مصدر الوحي أيضا بين قوسين تعني حقيقة الوحي هنا صحة النقل، ثم يوجد الوحي مرة ثانية عندما يفهم على نحو متطابق بين الدلالات العيانية للتجارب الحية في الحياة اليومية. حقيقة الوحي هي إذن تطابق معنى نص الوحي مع الدلالة العيانية للخبرة اليومية، وأخيرا توجد حقيقة الوحي مرة ثالثة عندما يتحقق المثال في العالم، ويتحول الممكن إلى واقع؛ أي تحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم، يوجد الوحي عندما تتحقق فيه هذه المعايير الثلاثة ويصبح حقيقيا.
وحتى الآن يتوجه مجموع التأويل نحو إحدى هذه المشاكل الثلاث: النقد التاريخي أو التحليل اللغوي أو التحقيق العملي، مع المرور مر الكرام على المشكلتين الأخريين أو إهمالهما تماما. وقد تم اكتشاف المشاكل الثلاثة للتأويل: النقد التاريخي، والفهم النظري، والتحقيق العملي؛ أولا عن طريق التفكير النظري في أشكال النص المقدس، الصحة التاريخية، وفهم المعنى، والتحقيق العملي. كما يسمح المنهج الظاهرياتي بهذا التكوين الثلاثي لمشاكل التأويل؛ لأنه أيضا تكوين ثلاثي للطبيعة المادية، والطبيعة الحية، ولعالم الروح. وبالرغم من الفرق بين التكوينين الثلاثيين إلا أن تكوين الطبيعة المادية، أي الطبيعة، يمكن أن يستخدم في تكوين التاريخ، حجر العثرة أمام النقد التاريخي. ويستطيع تكوين الطبيعة الحية، خاصة ظهور «الأنا الخالص»، أن يساعد على فهم دور التحليل اللغوي.
3
ويستطيع تكوين عالم الروح أن يفتح طريقا جديدا أمام مشكلة «البراكسيس»؛ الإشكال الثالث في التأويل.
وأبعاد الوعي الثلاثة لها ترتيبها: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي. يسبق النقد التاريخي فهم النص، ويسبق فهم النص تحقيقه العملي، وتتبع الأبعاد الثلاثة للحقيقة نفس الترتيب: صحة النص، تماثل معنى النص مع خبرة في الحياة اليومية، وتحقيق معطى الوحي كنظام مثالي للعالم.
ولا تعني أولوية الوعي التاريخي تحويل الوحي إلى حقيقة تاريخية خالصة حيث ينعدم الاعتقاد بالإيمان؛ لأن الوحي كعلاقة بين المبلغ ومصدره، وهي نظرة النبوة، بين قوسين، خارج دائرة الانتباه. والصحة التاريخية للنص هي أول خطوة لفهم النص؛ فلو نصيب الفهم على نص غير صحيح تاريخيا، فإن الفهم نفسه لا يكون صحيحا؛ وبالتالي يصبح السلوك أيضا غير صحيح. والاعتقاد هو تكامل هذه المعاني الثلاثة للحقيقة: الصحة التاريخية لنص الوحي، تماثل معناه مع خبرة الحياة اليومية، وفاعليته كأساس للسلوك في تحقيقه كنظام مثالي للعالم. وإذا نقص أحد المعاني ينقص المعنيان الآخران. مهمة النقد التاريخي البحث عن الصحة التاريخية للنص، ويضع منطقا للنقل بالبحث عن التماثل وسط الاختلاف، والتجانس وسط التعارض.
4
وبالتالي يواجه النقد التاريخي أولا مشكلة التاريخ، خاصة مشكلة موضوعيته. ووهم النزعة التاريخية أحد أسباب الأزمة الحالية للتأويل، وتعلن النزعة التاريخية التزامها بالتاريخ الموضوعي الخام، تجميع حوادث متعددة ومتتالية وقعت في المكان والزمان. وأمام هذه الأزمة تقدم الظاهريات حلها. تحل التاريخانية محل النزعة التاريخية، ويترك تاريخ الحوادث مكانه لصالح تاريخانية الوجود الإنساني؛
5
فالوعي هو البعد الشامل للتاريخ، كما أن التاريخ هو البعد الزماني للشعور كاسترجاع للماضي بالإضافة إلى توتر الحاضر وترقب المستقبل.
6
والنبي أولا وقبل كل شيء وعي قبل أن تكون النبوة حادثة، والحواري وعي الراوي قبل أن تكون الرواية نقل متتال، والجماعة الأولى وعي جماعي قبل أن تكون مؤسسة، والمؤمن البسيط أيضا وعي قبل أن يكون وحدة كمية أو عددية بالنسبة لمجموع المؤمنين وعددهم. (2) التحليل اللغوي لفهم النص (الوعي النظري)
ويستطيع اللغوي، وهو الإشكال الثاني في التأويل، أن يحل وهم الدوجماطيقية؛ فالواقع أن النص المقدس هو مادة للبحث تخضع لمنطق لغوي محكم تقدمه الظاهريات، وتعني كلمة «لوجوس» الكلام، والفكر، والشيء المفكر فيه؛ الأول منطق القضايا، والثاني منطق الاتساق، والثالث منطق الحقيقة.
7
يقوم منطق القضايا منطقا لغويا قائما على مبادئ الاشتباه، مثل: الظاهر والمئول، الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين ... إلخ. وابتداء من تحليل الألفاظ التي يتكون منها النص لا يوجد مكان لمعنى مسبق مفترض من الخارج ثم يدخل في النص، بل فقط إبراز معنى النص الذي تبنيه الألفاظ عليها، ويقدم منطق الاتساق دلالات متماثلة مع ذاتها ومستقلة عن الأشياء الدالة، وتصبح معاني النصوص دلالات مستقلة عن الحادثة أو الشيء الدال. وأخيرا يجد منطق الحقيقة الأشياء الدالة ذاتها كماهيات «أنطولوجية» عيانية في الحياة اليومية؛ ومن ثم يعطي التحليل اللغوي فرصة ذهبية للتخلص من النزعة العقائدية الشيئية للاهوت الذي يستخرج معنى من خارج النص المعتمد على الحادثة الأولى؛ وبالتالي فقدان الشيء الدال. يستطيع التحليل اللغوي أن يتخلص من اللاهوت كنسق مغلق صوري مادي. (3) أنماط السلوك للتحقق العملي (الوعي العملي)
والتحقيق العملي، الإشكال الثالث في التأويل، هو في الحقيقة ظاهريات العمل بالنسبة لظاهريات التاريخ، الإشكال الأول للنقد التاريخي، وبالنسبة لظاهريات اللغة الإشكال الثاني في التحليل اللغوي؛ تقوم ظاهريات العمل على دراسة القصد والعمل. ومن بين أحد أسباب الأزمة الحالية للتأويل وهم السكون. ليست العقائد مذاهب مغلقة صورية أو مادية، أبنية ساكنة عقلية أو مؤسسية، بل هي مثل لتحقيقها كنظام مثالي للعالم. وتوجد الأزمة الحالية في التأويل في الخلط بين الوجود والصيرورة،
8
وكل محاولة لاختراع تناقض عقلي لا تغير من العالم الواقعي شيئا.
9
وبالرغم من وجود فلسفة للعمل أخيرا إلا أنها نسق عقائدي كغيره من الأنساق، يعطي فهما جديدا للعقائد دون القيام بتحليل فعلي للقصد أو للعمل.
10
تستطيع ظاهريات العمل أن تتخلص من هذه السكونية العقائدية بتقديم القصدية العملية، وينقل القصد من المستوى المعرفي إلى المستوى العملي، ليس القصد فقط وحدة الذات والموضوع بل هو مصدر العمل.
11
ظاهريات العمل هي في الأساس مشكلة أخلاقية، وتلحق بالمنهج الظاهرياتي، وهو أساسا رؤية أخلاقية للعالم. وقد أبرز تأويل الظاهريات ذلك؛ أي تفسير المرحلة الأولى للظاهريات في بحوث منطقية بإرجاعها إلى المرحلة الأخيرة في البحوث الأخلاقية. والأخلاق نقل المشكلة الخلقية على مستوى الوعي الخالص.
وبالرغم من أن الأبعاد الثلاثة للوعي الديني متميزة: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي؛ وظائفها الثلاثة: النقد التاريخي، والتحليل اللغوي، والتحقيق العملي للأغراض الثلاثة: الصحة التاريخية، وفهم معاني النصوص وتطابقها مع دلالات الخبرة الحية في الحياة اليومية، وتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم، إلا أنها ليست منفصلة بعضها عن بعض. وبالرغم من أن لكل بعد مهمته فإن البعدين الآخرين يقدمان له مهمتيهما ووظيفتهما لأداء مهمته ووظيفته الخاصة في حدود حاجاته، وبالرغم من التعاون المتبادل بين الأبعاد الثلاثة للشعور الديني، يظل كل بعد متميزا عن الاثنين الآخرين.
مثلا مهمة الوعي التاريخي البحث عن الصحة التاريخية لنص الوحي عن طريق النقد التاريخي، ويطبق كعلم محكم وحرفيا تماما وكأنه في مواجهة نص أدبي قديم. وهي مسألة مبدأ بصرف النظر عما إذا كان هذا النص وحيا أم لا، فإن تطبيق قواعد النقد التاريخي هو الضامن الأول لفهم المعنى بعد إثبات الصحة التاريخية للنص، وإذا كان فهم المعنى صحيحا طبقا للمبادئ اللغوية وبعد المراجعة النقدية يثبت أن النص غير صحيح تاريخيا، ففي هذه الحالة يصبح الفهم باطلا من الأساس.
ويستطيع الوعي النظري، ومهمته فهم معنى النص بواسطة المبادئ اللغوية، أن يقدم مساعدته في النقد التاريخي في حالة نص له درجة ضعيفة في الصحة التاريخية؛ فالواقع أن النقد التاريخي في حالات كثيرة لا يستطيع أن يقطع إذا كان النص صحيحا تاريخيا على الإطلاق أو غير صحيح. هنا يستطيع الوعي النظري ابتداء من المبادئ اللغوية أن يحكم إذا كانت ألفاظ النص لها معان أم لا، فإذا كانت لها معان يستطيع التحليل النظري أن يتدخل بعد ذلك إذا كان المعنى مطابقا لخبرة حية في الحياة اليومية أم لا؛ فإذا كان مطابقا يصبح النص الذي حصل من قبل على درجة ضعيفة في الصحة التاريخية في النقد التاريخي صحيحا. وإذا لم يكن مطابقا ففي هذه الحالة لا يترك النص نهائيا؛ إذ تبقى له فرصة ثالثة من الوعي العملي؛ فالواقع أن المعنى الذي يبدو غير مطابق للخبرة الحية في الحياة اليومية يتم تجربته كأساس للسلوك؛ فإذا أمكن استعماله كأساس للسلوك فإنه يصبح في هذه الحالة صحيحا بمعنى الفاعلية والأثر في الحياة العملية. وإذا كان الفهم، مستوى الوعي، مرفوضا، يستطيع السلوك على مستوى الوجود استعادته. وأخيرا إذا استحال استخدامه كأساس للسلوك، أي إثبات فاعليته، ففي هذه الحالة يرفض النص على الإطلاق.
وهناك مسائل عديدة مشتركة بين بعدين للشعور دون أن ينفرد بها واحد على آخر؛ فمثلا تتعلق مسألة الكتاب والتراث في نفس الوقت بالوعي التاريخي والوعي النظري، وبعد تطبيق قواعد النقد التاريخي يعتبر الكتاب هو المصدر الوحيد للوحي، ويقاس عليه التراث للتحقق من صدقه أو زيفه في حالة التطابق معه أو الاختلاف، ويتم ذلك القياس عن طريق الشبه، وهو جزء من التحليل النظري، وهو المنهج السائد للفهم في الوعي النظري، وهذا كله يؤكد تكافل الأبعاد الثلاثة للوعي بالرغم من تمايزها من حيث المهام والوظائف.
وكما قد تسود النزعة التاريخية في العلوم الإنسانية، خاصة في العلوم التاريخية، النقد التاريخي، واعتباره مجرد تجاور لعديد من الوقائع «الأركيولوجية» دون افتراض وعي الراوي كموطن لكل التحليل النقدي، قد يسود التصوف أيضا من العلوم الدينية التحليل اللغوي، واعتبار اللغة عاجزة عن التعبير عن كل مضمون المعنى من أجل فهم المعنى مباشرة خارج كل المبادئ اللغوية، ولا يستطيع الفهم حتى يكون محكما ودقيقا، تجاوز المبادئ اللغوية المعروفة: الظاهر والمئول، الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين ... إلخ. قد يضيع العمق الصوفي، ومع ذلك تثبت دقة المعنى.
المصادر والمراجع
(1) تصدير
E. Brehier: Histoire de la philosophie, Paris, PUF DIEP: Civilsation africaine et culture.
F. Fanon: Les damnés cle la terre, Cahirers libres, No, 27-28, Paris, Francois Maspéro, 1961.
J. Guitton: L’existence temporelle, Paris, Aubier, 1944.
H. Hanafi: Les méthode d’Exégèse-éssai sur la science de “fondements de la compréhension” “Usul al-Fiqh” Le Caire, 1965, Imprimerie Nationale.
Conscience Européenne, 1680-1715, Paris, A. Fayard 1961.
B. Russel: A History of Western philosophic, London, G. Allen & Unw’n Ltd, 1948.
J. P. Sartre: Situations I, rapport sur le livre de D. de Rougement: l’amour et l’occident, p. 62-69, Paris, NRF (Gallimard), 1947.
O. Spengler: Le déclin de l’occident, essai d’une morphologie de l’histore universelle; traduit par Tazeront, Tome I: Forme et Réalité; Tome II:
1948. (2) المصادر
الأعمال الكاملة لهوسرل، تسعة مجلدات، هي: (1)
Band I: Cartesiansche Meditationen und Pariser Vorträge. Herausgegeben und eingeleitet von Prof. Dr. S. Strasser. Den Haag, M. Nijhoff, 1950. Traduction Francaise: Méditations Cartésiennes, introduction A la phénoménologie; traduit par Mlle Gabrielle Peiffer et M. Emmanuel Levinus. Paris, J. Vrin, 1953. Les numéros de pages indiqués dans le travail sont de la traduction francaise. (2)
Band II: Die Idee der
WaIter Biemel, 2. Auflage. Den Heag. M. Nljhoff, 1953. (3)
Band III: Ideen zu einer reinen Phänomenologie und phänomenologischen Philosophie. Erster Buch, Allgemeine der Handschriftlichen Zusätze der Verfassers erwelterte Auflage. Herausgegeben von Walter Biemel. Den Haag. M. Nijhoff, 1950. Traduction francaise consultée de P. Ricoeur: Idées directrices pour une phénoménologie. Tome Premier, Introduction générale à la phénoménologie pure. Paris, Gallimard, 9
ème
édition, 1950. (4)
Band IV: Ideen zu einer reinen Phänomenologie und phänomenologischen Philosophe. Zweites Buch. Phänomenologischen Untersuchungen zur Konstitution. Herausgegeben von Mary Biemel. Den Haag, M. Nijhoff, 1952. (5)
Band V: Ideen zu einer reinen Phänomenologie und phänomenologischen Philosophie. Drittes Buch. Die Phänomenologie und die Fundamente der Wissenscraften. Herausgegeben von Mary Biemel. Den Haag, M. Nijhoff, 1952. (6)
Band VI: Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die transzendentale Phänomenologie. Eine Einleitung in die phänomenologischen
Biemel. Den Haag. M. Nijhoff, 1954. (7)
Band VII: Erste Philosophie (1923/24). Erster Teil. Kritische Ideengeschichte. Herausgegeben von Rudolf Boehm, Den Haag, M. Nijhoff, 1956. (8)
Band VIII: Erste
Theorie der phänomenologischen Reduktion. Herausgegeben von Rudolf Boehm. Den Haag. M. Nijhoff, 1959. (9)
Band IX: Phänomenologischen
1925. Herausgegeben von Walter Biemel, Den Haag, M. Nijhoff, 1962. (10)
Erfahrung und Urteil. Untersuchungen zur Genealogie der Logik. Redigiert und herausgegeben von Ludwing Landgrebe, Classen Verlag. Hamburg. Zweite Auflage, 1954.
de Husserl, les traductions francaises ont été utilizées. Elles sont citées selon l’ordre chronologique. (11)
Lecons pour une
temps. Traduction de Henri Dussort.
(12)
Recherches Logiques. Tome premier: Prolégomènes à Ia logique pure. Traduction de Hubert Elie, Paris, PUF, 1959. (13)
Recherches Logiques. Tome second: Recherches pour la phénoménologie et la théorie de la connaissance. Traduction de Hubert Elie avec la collaboration de Lothar Kelkel et René Schérer. Première partie, Rech. I & II. Paris PUF, 1961. Deuxiéme parte, Rech. III, IV & V. Paris,
(14)
Recherches Logiques. Tome troisième. Eléments d’une élucidation phénoménologique de la connaissance. Rech. VI. Traduction de Hubert Elie avec la collaboration de Lothar Kelkel et René Sehérer. Paris, PUF, 1963. (15)
La philosophic comme science rigoureuse. Introduction, Traduction et cmmentaire par Quentin Lauer. Paris, PUF, 1955. (16)
Logique Formelle et Logique Transeendantale, essai d’une critique de la raison logique. Traduction de Suzanne Bachelard, Paris, PUF, 1957. (17)
Husserl: L’origine de la Géométrie. Traduit Par J. Derrida.
(3) تطور الظاهريات (1)
N. Hartmann: Les principes d’une métaphysique de la connaissance. Tome I & II, traduit par R. Vaucourt.
(2)
Heideggf: Essais et conférences Traduit par A. Préau, préfacé par J. Beaufret, Paris, NRF 1958, 7
ème
éd. (3)
Heidegger: Introduction à la rnétaphysique. Traduction de G. Kahn, Paris,
(4)
Heidegger: Qu’appelle-t-on penser? Traduit par A. Becker et G. Granel,
(5)
Heidegger: Qu’est-ce que la rnétaphysique. Traduit par H. Corbin, Paris, NRF, 1961, 14
ème
éd. (6)
Heidegger: Lettres sur l’humanisme. Traduit par R. Munier, Paris, Aubier 1957. (7)
Heidegger: Sein und Zeit, achte unveränderte Auflage. M. Nemeyer Verlag/Tübingen, 1957. (8)
M. Merleau-Ponty: La phénoménologie de la perception. Paris, NRF, 15
ème
édition, 1945. (9)
M. Merleau-Ponty: Signes.
4
ème
édition 1960. (10)
M. Merleau-Ponty: Le visible et l’invisible. Texte établi par Claude Lefort,
(11)
J. P. Sartre: Esquisse d’une théorie des emotions. Paris, Hermann, 1960. (12)
J. P. Sartre: L’Etre et le Néant, essai d’ontologie phénoménlogique.
ème
édition, 1957. (13)
J. PI. Sartre: L’Existentialisme est un humanisme. Paris, Nagel, 1958. (14)
J. P. Sartre: L’Imaginaire, psychologie phénoménologique de l’imagination. Paris, NRF, 29
ème
édition, 1948. (15)
J. P. Sartre: L’Imagination.
(16)
Revue Montalembert: J. Guitton, numéro spécial 4 & 5. Paris, DDB, 1963.
1 (4) دراسات ظاهراتية
2 (1) E. FINK: Sein, Wahrheit, Welt vor-fragen zum Problem des Phänomen-Begriffs. Den Haag, M. Nijhoff, 1958. (2) Husserl et la pensée moderne. Actes du deuxième colloque 1965. édités par les soins de H. L. Van Breda et J. Taminiaux. La Haye, M. Nijhoff, 1959. (3) J. Claude-Piguet: De l’esthétique A la métaphysique. La Haye, M. Nijhoff, 1959. (4) Edmund Husserl, 1859-1959. Recueil commémoratif, publié à l’Qccasion du centenaire de la naissance du philosophe. La Haye, M. Nijhoff, 1959. (5-6) H. Spieglberg: The phénoménological mouvement. A historical introduction. The Haag, M. Nijhoff, 1960. (7) G. Brand: Welt, Ich und Zeit, nach unveröffentlichen Manuskripten Edmund Husserls. Den Haag, Nijhoff, 1955. (8) E. Levinas: Totalité et Infini, essai sur l’extériorité. La Haye, M. Nijhoff, 1961. (9) A. De Waelhens: La philosophic et les experiences naturelles. La Haye, M. Nijhoff, 1961. (5) المراجع (الأدبيات الثانوية)
R. Aron: Introduction à la philosophic de l’histoire, essai sur les lirmites de l’objectivité historique, Paris, NRF, 1948.
R. Aron: La sociologie allemande contempqraine, Paris, PUF, 1950.
S. Bachelard: La conscience de rationalité, Paris, PUF, 1958.
S. Bachelard: La logique de Husserl, Paris, PUF, 1957.
G. Berger: Caractère et personnalité, PUF, 1962.
G. Berger: Le cogito dans la philosophie de Husserl, Paris, Aubier, 1941.
L. Binswanger: Le rêve et l’existence. Traduit par J. Verdeux. Paris, DDB, 1954.
S. Breton: Approches phénoménologiques de l’idée de I’Etre.
1959.
S. Breton: Conscience et Intentionalité, Paris, Lyon, E. Witte 1956.
A. Brunner: La Connaissance humaine, Paris, Aubier, 1943.
L. Brunschwicg: Les Etapes de la philosophie mathématique Paris, PUF, 1924, 3
ème
éd.
L. Brunschwicg: Le progrès de la conscience dans la philosophie occidentale. Paris, PUF, 2
ème
éd. 1953.
F. J. J. Buytendijk:
J. knapp, Paris, DDB, 1952.
E. Castelli: Introduction à une phénoménologie de notre époque Paris, Hermann,1949.
J. Cavailles: Sur la logique et la théorie de la science. Paris, PUP, 2
ème
édition, 1960.
T. Delhomme: La Pensée interrogative. Paris, PUF, 1954.
J. T. Desanti: Phénoménologie et praxis. Paris, ed. Sociales 1963.
M. Dufrenne: La notion d’a priori. Paris, PUF, 1959.
M. Dufrenne: Phénoménologie de l,expérienee esthétique, tome I: l’objet esthéstique. tome II: la Perception esthétique. Paris, PUF, 1953.
F. J. J. Buytendijk: La femme,
M. Duppy: La philosophic de Max Scheler, son évolution et son unité, Tome I & II. Paris PUF, 1959.
E. Fink: Zur ontologischen frühgeschichte von Raum, Zeit, Bewegung. Den Haag, M. Nijhoff, 1957.
J. Guitton: Le Génie de Pascal.
G. Gurvitch: Les Téndances actuelles de la philosophie allemande.
A. Gurwitsch: Théoorie du champ de la conscience. Paris, DDB, 1957.
Hans Uirs Von Balthazar:
monde. Traduit par R. Grivord, Paris, Beauchesne, 1952.
R. Ingraden: Intuition und Intellekt, bei H. Bergson. Jahrbuch fair
Bd V, 1921.
F. Jeanson: La Phénoménologie.
5
ème
éd. 1951.
R. Kuhin: Phénoménologie du masque à travers le teste de Rorschoch.
E. Levinas: De l’existence à l’existant. Paris, Fontaine. 1947.
E. Levinas: En découvrant l’existence avec Husser1 et Heidegger.
J. F. Loytard: La
1956.
G. Lukacs: Existentialisme ou Marxisme? traduit par E. Kelemen, Paris, Nagel, 1961.
J. Maritain: Distinguer pour unir ou les degrés de svaoir Paris, DDB, 1963.
J. Monnerot: Les faits soriaux ne sont pas des choses, Paris. NRF, 2
ème
éd. 1946.
A. de Muralt: L’idée de la
volonte. (I) Le volontaire et l’involontaire. Paris, Aubier. 1948. (II) Finitude et culbabilité. (1) L’homme faillible. (2) Le symbolisme du mal. Paris, Aubier, 1960.
Tran-Duc-Thao: Phénoménologie et matérialisme dialectique, Paris, éd. Mih-Tan, 1951.
A. T. Tymieniecka: Essence et existence; essai sur la philosophie de Nicolai Hartmann et Roman Ingarden. Paris, Aubier, 1957.
Vancourt: La philosophic et sa structure. Tome I, philosophie et phénoménologie. Paris, Blond & Gay, 1953.
A. de Waelhens: Phénoménologie et vérité, essai sur l’évolution de l’idée de vérté chez Husserl et Heidegger. Paris,
Bergson et Nous. Acte de congrés de Bergson, 1959. Bulletin spécial de Société Francaise de philosophie. Paris, A. Colin. 1959.
Husserl, Cahiers de Royaumont.
1959.
La Phénoménologie, Journées d’études de la sociéte Thomiste. Juvisy, 12 Septembre 1932, Le Cerf. (6) الباب الثالث
Amadoé-Levi-Valensi: Les niveaux de I’Etre. Paris, PUF, 1963.
H. Bergson: Les deux sources de la morale et de la religion. Paris, PUF, 7
ème
éd. 1955.
H. Bergson: La Pensée et le Mouvant. Introduction a la métaphysique.
ème
éd. 1955.
A. Brunner: La personne incarnée, étude sur la phénoménologie et la philosophie existentialiste. Paris, Beauchesne, 1947.
E. Castelli: Existentialisme théologique. Paris, Hermann, 1948.
E. Castelli: Les présupposés d’une théologle de l’histoire. Paris, Vrin, 1954.
M. D. Chenu: La théologie est-elle une science? Paris, A. Fayard.
L. Chestov: Les pouvoirs des clefs Potestas Clavium, Traduction de B. de Schloezer. Paris, du sens pareil. 1928.
H. De Lubac: Histoire et Esprit, l’intelligence de l’Ecriture d’aprés Origène. Paris, Aubier, 1950.
Descartes: Discours de la Méthode. Paris, NRF, éd. de la Pléiade, 1953.
Descartes: Méditations dans la philosophie première. Paris, NRF, éd. de la
A. Dondeyne: Foi chrétienne et pensée contemporaine, Louvoin, Nawwelaerts. 3
ème
éd. 1961.
Dondeyne: Foi, théologie de la foi et phénoménologie, in foi théologale et
C.C.I.F., 1951.
H. Duméry: Blondel et la religion. Essai critique sur la “letter” de 1896. Paris, PUF, 1951.
H. Duméry: Critique et religion. Problèmes de méthode en philosophie de la religion. Paris, Sedesn, 1957.
H. Duméry: Foi et interrogation. Téqui, 1953.
H. Duméry: La foi n’est pas un cri. Paris, Tournai, Casterman, 1957.
H. Duméry: Phénoménologie et religion, structure de l’institution chrétienne. Paris, PUF, 1958.
H. Duméry: Philosophie de la religion, essai sur la signification du christianisme: Tome I: catégorie de sujet: Tome II: catégorie foi. Paris, PUF, 1957.
H. Duméry: Le problème de Dieu en philosophie de la religion. Examen critique de la catégorie de I’Absolu et du schéme de transcendance. Paris, DDB, 1957.
H. Duméry: Raison et religion dans la philosophie de l’action. Paris, éd. du Seuil, 1963.
H. Duméry: Régard sur la philosophie contemporaine. Paris, Casterman, 1956.
M. Dupuy: La philosophie de la religion chez Max Scheler. Paris, PUF, 1959.
H. Graef: Le philosophie de la croix, Edith Stein. Traduit par Marie Tadié., Paris, le Cerf, 1955.
Grundler: Elémente zu einer religionsphilosophie auf phänomenologischer Grundiage. München-kempten, 1922.
F. V. Hegel: Lecons sur la philosophie, de la religion. I, II, III. Traduit on J. Gibelin, Paris, Vrin, 1954-1959.
J. Hering: Phénonménologie et philosophie relégieuse, étude sur la théorie de le connaissance religieuse. Paris, F. Alcan, 1926.
E. Kant: Critique de la raison pure. Traduit par A. Tremesaygnes et B. Pacaud. Paris, PUF, 1950.
E. Kant: La religion dans les simples limites de la raison. Traduction J. Gibelin, Paris, vrin, 1952.
Le Senne: Obstacle et valeur.
R. Marle: Bultmann et l’interpretation du Nouveau Testament.
A. De Mirabel: Edith Stein,
1953.
C. Mondesert: Cément d’Alexandrie, introduction à l’étude de sa pensée à partir de l’Ecriture. Paris, Aubier, 1944.
M. Nedoncelle: Existe-t-il une philosophie chrétienne? Paris, A. Fayard, 195é.
A. Neher: L’essence du prophétisme.
religion, le probléme existentialiste.
1947.
religion. Synthèse critique des systémes contemporains en fonction d’un réalisme personnaliste et communautaire. Tome I, II,
1948.
J. M. Osteraeicher: Sept philosophes juifs devant le christ. Traduit par M. de Gandillac, Paris, NRF, 1955, 4
ème
éd.
Scheler: L’homme du ressentiment, phénoménologie et sociologie du ressentiment. Traduction autorisée,
Scheler: Nature et forme de la sympathie, contribution à l’étude des lois de la vie émotionnelle, phénoménologie de l’ameur et de la haine. Traduit par M. Lefebvre. Paris, Payot, 1950.
Scheler: Le sens de la souffrance suivi de deux autres essais Traduit par P. Klossovski. Paris, Aubler, s.d.
Scheler: La situation de l’homme dans le monde. Traduit et préfacé par M. Dupuy. Paris, Aubier, 1951.
R. Vancourt: Pensée moderne et philosophie chrétienne. Paris, A. Fayard, 1957.
R. Vancourt: La phénoménologie et la foi. Paris, Desclée & Cie, 1953.
Van Der Leeuw: La religion dans son essence et ses manifestations, phénoménologie de la religion. Traduit par J. Marty Paris, Payot, 1955.
Hérméneutique et Tradition, actes du colloque international. Home, 10-16 Janvier, 1963. Paris, Vrin, 1963.
نامعلوم صفحہ