بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد سبرت رسالتك فلم يقع النظر من فوارضها على ما تزدهي ولو كخضراء الدمن.
وكثيرا ما وقعت على الأفكار فذبها النظر والبداهة عن مغارس التوحيد خاسئة.
ومع ذلك، فإن لك حق الجواب وذمة المراسلة.
وإن كنت قد جهلتني وحسبتني ممن ينخدع بهذه الأوهام عن التوحيد الذي ماثه العقل وبداهة الفطرة بلحمي ودمي، حتى كان هو الحامي لحوزته، والذائد لجرب الغرائب عن حوضه.
وحاولت أن تخادعني بكتب قد ابتزت من الحقائق الدارسة اسمها، حتى كأنك لا تدري بأني لم تخف علي مواردها ومصادرها، ونشوؤها وارتقاؤها، وتقلب أحوالها، وتلونها في التراجم والمطابع، حتى تعدى مسمى
صفحہ 23
الاسم الواحد منها لا إلى التثليث فحسب، بل تزيده الأيام بمرورها ما شاءت الأهواء تعددا وتلونا.
ولكن الشريعة المقدسة التي أدبتنا على حسن الظن بالمقابل، وحمل أمره على ما هو الأحسن به، اقتضت لي أن أحسبك غرا مغرورا، لا خبا مخادعا، فأوجب علي الهدى أن أغتنم منك الفرصة - برجاء التوفيق والتأثير - فأوقد فكرك، وأنبهك على غفلاتك، وأروض من جماحك، وأدعوك إلى الحق وسبيل النجاة والسعادة.
ثم أوضح لك - بعون الله - الجواب في فساد ما تلقنته وتلقفته من غيرك، مخادعا كنت أو مخدوعا.
ولو أنك ذكرت اسمك ومحلك، لسيرت هذه الرسالة إليك قصدا، وجلوتها لك خصوصا، ولكنك عميت أثرك، وأبهمت محلك، فاقتضى حق الجواب أن أنشر مطبوعها إن شاء الله، فعلها تصادفك على غرة، وتبلغ قصدها من حيث لا تحتسب.
فخذها رسالة يهديها إليك الهدى من معادن الحق ورياض القدس، لتنال ببركتها السعادة - إن شاء الله - إذا نصحت نفسك، وآثرت نجاتها، وجاهدت في الله.
وأني أدعوك، وكل من أوجب علي الحق دعوته، إلى الإقرار بالله إله الحق، وتوحيده، وحكمته، وقدرته، وجبروته، وكماله، وغناه، فلا تخالس توحيده بشرك التثليث، وحكمته بمنقصة العبث، وقدرته بوهن العجز، وجبروته بذلة الضعف، وكماله بخسيسة النقص، وغناه بحاجة الفقر، جل شأنه عن فلتات الأوهام.
صفحہ 24
وإنك لا تفوز ببركة هذا الإقرار، وفضيلة هذا العرفان، وتدين بتوحيد الله وتقديسه، وتنزيه أنبيائه عن رذائل القبائح، إلا إذا أسلست قيادك للعقل واتبعت أثره، ليهديك - بعون الله وتوفيقه - إلى النور الساطع، دين الإسلام، الجامع لحقائق المعارف، وأسباب النجاة، والسعادة في الدنيا والآخرة،.. ولا ينبئك مثل خبير.
واعتبر أولا - هداك الله - بتناقض أقوالك، واضطراب أحوالك، في مبادئ كلامك، لكي تعرف أن هذه العثرة من زمانة التعاليم، هذه الحكة من داء الكتب.
فإنك - هداك الله - بينما تبشر آمالي وتبهج نفسي بالدعوة إلى اتباع دلالة العقل والاستضاءة بنوره، إذ أيستني بنكوصك إلى التنديد بالعقل والمعقول، والتنفر من إيضاح البرهان، والسخرية بالاعتبار بالممكن والممتنع، فأحلتني على مجهولات كتب قد موهت بالأسماء، وحاولت المجامع أن تطليها بعد النزاع باسم التسليم.. وهيهات...
وهيهات...
وهي التي يشهد بعضها على بعض بالتحريف والكذب على الوحي، إشارة وتصريحا.
وهي التي تتلون في التراجم والمطابع تلون الحرباء، وتبرز كل حين في ثوب جديد.
وهي التي لو كان لها أثر قديم لكان أقصاه في قديمها إلى دعوى النسبة لعزرا، ثم بعد اللتيا والتي إلى حلقيا الكاهن، وأقصى أثرها في جديدها إلى المجامع، ثم إلى استشهادات الآباء.
صفحہ 25
وهي التي توضح الأغلاط الكثيرة في قديمها - الملتزم بها في أصلها العبراني - عن أن مبدأ نشوئها إنما هو من مبتدع ملفق لا معرفة له بالكتابة ولا أوضاع الألفاظ ولا صوغ التراكيب، فتعرفك فلتات كاتبها أنها بنته وربيبة حجره، تسمع بسبي بابل وما قبله من أساطير الأولين.
وهي التي لو تربت في حجر نبي أو ولي لعرفت لله حقه فلم تقصد قدسه وكماله بلوازم النقص، ورعت للأنبياء ذمتهم فلم تقرفهم بفواضح الفظائع وقبائح الجرائم.
هذا إذا حابينا هواك، وعزلنا العقل عن التحكيم في أمرها.
وأما إذا خضعنا لسلطانه العادل، فإنه يرد إلى الامتناع ظلامته، ويحكم له بكثير منها.
وإنك تطلب مني - عافاك الله - أن أتعامى عن نور العقل، ودلالة البرهان في أمر الدين ومعترك الآراء وأخطار الأضاليل ومزالق الأوهام وهوسات الأهواء...
فماذا أقول - هداك الله - للعقل إذا عاتبني بخطاب ينكس منه ذو الحياء رأسه خجلا، ويقرع منه ذو الوفاء سنه ندما؟!
فهل تراني أحير جوابا إذا قال لي: ألست صاحبك الذي لا يتركك في جميع أمورك، خطيرها وحقيرها؟! لا أحبس فيها عنك نصحي، ولا أبخل بدلالتي، حتى أني إذا استولى عليك الهوى، وخادعتك النفس الأمارة، وحسنا لك ما يشنك بوصمته، ويضرك بمبدئه وعاقبته، أقحمت نفسي بينكما على كره منكما، كاقتحام الطفيلي وإنا صاحب الدار، متحملا ذلة الفضولي وأنا المولى المستشار، فلم أزل أسوسك بلطف الإرشاد حتى
صفحہ 26
أهديك إلى الصوار مهما أمكنت الفرص وأسعدك الحظ باتباعي!
أولست بصاحبك الذي تفزع إليه في مهماتك، وتستجير بي من خطأ حواسك؟! أفلم أصف لك الموارد، وأسهل لك المصادر؟!
أولست بصاحبك الذي عرفك إلهك، ودلك على معبودك وعلمه ولطفه وحكمته وقدسه، وعرفتك دلالة المعجز على النبوة، وصدق النبي في التبليغ عن الله، وميزت لك الوحي الصادق من الكاذب؟!
فهل وصلت إلى هذه الحقائق، وعرجت إلى هذه الرفعة باضطراب الأهواء أو هوسات الأضاليل أو عماية التقليد؟!
فإن زعمت أن مرشدك في دينك، ومعتمدك في اعتقادك، إنما هي الكتب المنسوبة إلى الوحي، فمن ذا الذي عرفك الوحي والموحي والموحى إليه؟!
ومن ذا الذي ميز لك ذلك من باطله، وصادقه من كاذبه؟!
المجامع المضطربة عرفت ذلك، أم بكثرة الاتباع؟!
إذا، فلماذا تركت تعاليم (برهما) و (بوذا) مع أنهما أكثر أتباعا ومجامعا؟!
أفعندك - هداك الله - ما أجيب به العقل في هذا العتاب المخجل والتقريع المؤلم؟! خصوصا إذا شرح حاله معك وجاهر بتظلمه منك، وقال:
إن هذا الرجل لم يزل ولا يزال يرجع إلي في أمور دنياه فيتعرف مني الحسن، ويسترشدني إلى الأصلح!
ولكن السلف والهوى والألفة لما علموا من أوائل قضاياي وأساسيات أحكامي أني لا أؤاتيهم على شئ من هذه الأمور وقد فصلت
صفحہ 27
القضاء فيها للامتناع، فلذلك كان المركز السياسي لهم أن يقاوموا سلطاني في أمر الدين، حتى جاهر داعيهم فقال غير مبال: (لا بشر لا بحكمة كلام، استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة، لأن جهالة الله أحكم من الناس) (1) تعالى الله إله الحق الواحد الأحد عن ذلك.
كل ذلك ليتمرد علي في أمر الدين من لم يزل متمتعا في أمور دنياه بحسن رعايتي، خاضعا فيها لسياستي، منقادا في تجارته وأموره لحكمي الأولي بأن الواحد لا يكون ثلاثة، والثلاثة لا تكون واحدا.
فهل تقدر أن تغالطه في المعاملة فتدفع إليه واحدا بدل ثلاثة، أو تأخذ منه ثلاثة بدل واحد، أو يقول لك: كلا، ما أنا بمجنون؟!
ولئن غالطتهم الأهواء بالاعتلال علي بوقوفي عن حقيقة الروح التي استأثر خالقها بالعلم بها، فهل يخفى على أحد أني ممكن مخلوق، منحني الله أشياء وحجبني بحكمته بحكمته عن أشياء؟! فهل يحجبني البشر عما منحني ربي لأجل وقوفي عما حجبني عنه؟!
كيف، وإن الرسول الظاهر مهما كان فهو محجوب أيضا عن أشياء كثيرة، فكيف يسمع منه؟!
بل إن من يزعمونه أقنوم الابن الحالة عليه روح القدس، ويسمونه الإله المتجسد (لا يعلم بساعة القيامة، ولا يعلم بها إلا الله، ليس الأقانيم الثلاثة، بل أقنوم الأب وحده) (2).
صفحہ 28
وإني وإن لم أصل إلى كنه الحقيقة الإلهية.. ولكن ألست أنا الطريق إلى الله، والمفزع في معرفة صفاته جل شأنه، والمميز لما يجوز عليه وما لا يجوز؟!
أوليس بدلالتي عرفت النبوات والأنبياء وصدقهم، وما يجوز عليهم وما لا يجوز؟!
أفأحجب حتى عن معرفتي بأن واجب الوجود لا يتصف بصفات النقص والحدوث، وأن الواحد ليس ثلاثة، والثلاثة ليست واحد؟!
ألم تسمع أن السياحين يبالغون بغباوة بعض الذين في شمالي سبيريا، ويقولون، إنهم لا يتجاوزون في معرفة الأعداد عن العشرة، فهم على هذه الغباوة يميزون مراتب هذه الأعداد وحقائقها فيما بين الواحد والعشرة.
أفلا يسمح لي الناس - وإنا العقل المخلوق نورا للعالم، ورسولا باطنا إلى كافة البشر - أن أعرف من الأعداد مراتب الواحد والاثنين والثلاثة؟! فأميز أن الواحد الحقيقي لا يكون ثلاثة، أحدهم يتجسد على الأرض، والثاني ينزل من السماء بشكل حمامة جسمية، والثالث يبقى في السماء، وأن الثلاثة الذين أحدهم صلب ومات، والثاني الذي أقامه من الموت وأجلسه على يمينه، والثالث الذي انقسم على جماعة من الناس، هؤلاء لا يكونون جميعا واحدا حقيقيا.
أفآل أمر الناس إلى مثل هذه الخلاعة، وقد كان عهدي بالناس أن الأهواء لا تستحوذ عليهم إلا إذا تدلست باسمي، ولا تقدر أن تروج الضلال فيهم إلا إذا موهته باسم المعقول.
صفحہ 29
هذا ما أعلمه - هداك الله - من مناجاة العقل ومطارحته، فماذا ترى لي من الجواب؟!
أفأقول في جوابه: دع عنك هذا (فإن الله استحسن أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة)! كلا ثم كلا، لا أعشو عن نوره، ولا أضل عن هداه، ولا أتصامم عن دعوته، وما توفيقي إلا بالله.
واعلم - هداك الله - أن الاهتداء بهدى العقل والخضوع لسلطانه هو ناموس الحرية، وأن اتباع الهوى ومكابرة العقل هي العبودية الخسيسة، ولو أنك اهتديت بأوليات العقل وبديهياته، فضلا عن نظريايته، لوضح لك الحق اليقين، وسلكت في جادة الصواب، وأوصلك الجهاد في الله إلى حقيقة العرفان، والدين القيم، فأصبحت واحدا من المسلمين، لك ما لهم وعليك ما عليهم، ولكنك إذا مننت عليهم بإسلامك تلوا عليك قول الله جل اسمه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/0/49" target="_blank" title="سورة الحجرات 49">﴿يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين﴾</a> (3).
NoteV00P030N01 وأما قولك: (إن العقل يرجع بي من نصف الطريق إلى سذاجة التوحيد).
فإن العقل ليقول في جوابك فيه: عافاك الله، وهل ترى لي عن هذه الحقيقة معدلا؟! أو أجد إلى غيرها سبيلا؟! وهي التي عليها فطرت وعليها جبل هداي.. ولئن تخطاها الهوى برغمي، فلا أظن بغير عواصفه الوبية أن يجمع بين ظلمة الشرك ووخامة التناقض، بدعوى كون
صفحہ 30
الواحد الحقيقي ثلاثة حقيقة، والثلاثة حقيقة واحدا حقيقيا عافاك الله، وهل تعدو الوحدة الحقيقية أن تكون ساذجة هي منتهى مراتب الأعداد في البداية، ولئن سمعت بتسمية بعض المتعددات واحدا مجازا فإنما ذلك لأجل وحدة الجهة العارضة عليها، المباينة لها في الحقيقة.
[2] وأما قولك: (وبساطة المعرفة).
فإن أردت بالبساطة فيه ما يرادف الحرمان من التعقل والتفهم فهو من أفحش الظلم، لأن كل شاعر يدري بأن العقل لا يصل إلى البساطة ، ولا يمر طريقه عليها، ولا يرجع إليها بعد أن تخطاها بأول سيره، وإنها لضده المباين وعدوه المقاوم، وما أسرع ما خالفت كتبك وأنت تدعو إليها! كيف لا، وهي تذم الحكمة، وتمجد الجهالة، وتنسبها إلى الله؟!
تعالى عما يقولون!
[3] وأما قولك: (فتبعد عن معرفة جلال الله ومجده في أقانيمه).
فهل تريد - عافاك الله - أني إذا قلت بحقيقة التوحيد فقد نسبت إلى الله جل شأنه ضعف الوحدة ومهانة الانفراد عن المعاون، ونفيت عنه مجد الجمعية، وشوكة الكثرة، وسداد اتفاق الآراء، وسلطة التعاضد بالجمهورية؟!
فقل لي لمن أصف بالمجد من هذا العدد؟! وعن معرفة أيهم بعدت بالتوحيد؟!
فهل بعدت عن معرفة الأب الذي في السماوات، أو الابن المتجسد المضطهد المصلوب المهان على الأرض، أو الروح الذي انفتحت
صفحہ 31
له السماء ونزل بشكل حمامة جسمية ثم انقسم كألسنة من نار؟!
وإلى من يرجع مجد الأقانيم؟! هل إلى شوكة الجمعية؟! فليس لكل واحد في ذاته مجد! أو إلى جهة الاتحاد المغايرة لكل واحد منهم؟!
أو نؤثر بعض الأقانيم دون بعض؟!
NoteV00P032N04 وأما قولك: (وتجسده).
فأفصح لي عما تريد منه، فإنك وأصحابك تقولون: إن المتجسد على الأرض هو الابن، ويقول كتابك أن الابن نفسه يقول: إن الأب بقي في السماوات. فإن كان التجسد مجدا فلماذا استأثر به الابن عن الأب الذي يدعوه الابن إلها؟! (4) ويعترف بأنه لا يعلم ما يعلمه (5) ولا ويقدر إلا على ما أقدره وأعطاه (6) وأنه أعظم (7) ويفزع إليه في حوائجه وضيقاته (8).
ولئن كان المجد بالتجسد فقد سلبت عن الأب هذا المجد!
وأي مجد بهذا التجسد؟! فهل لكونه أفضى إلى تلاعب إبليس وأطعمه بإعطائها إياه إذا سجد له، ثم ذهب به إلى جناح الهيكل وصار يخادعه! (9).
صفحہ 32
أم لكونه أفضى إلى تحمله الذلة والاضطهاد والخوف من اليهود وقيصر، حتى أنه كان يعطيه الجزية ويتستر في تعاليمه ويوري فيها؟! (10).
أم لكونه بكى وحزن واكتأب إذ دنت ساعة الصلب، حتى صار يطلب من الأب بأشد لجاجة أن تعبر عنه كأس المنية؟! (11).
أم بما يذكره كتابك فيما حدث عليه من اليهود بعد ذلك؟! (12).
أم تقول: يكفي من مجد هذا التجسد ما يذكره الإنجيل من جلوسه في مجلس العرس في (قانا) وارتفاع ذكره بين السكارى حيث كثر لهم الخمر وأعاد لهم نشوة الخمار؟! (13).
أو إجلاسه ليوحنا بن زبدي، الشاب الطري، في حضنه ليتغنج عليه ويتكئ على صدره؟! (14).
أو مغازلة الزانية بنفثات الحب، إذ بلت بدموعها قدميه، وصارت تمسحها بشعر رأسها؟! (15).
أفتقول: أين يجد مثل هذا المجد لو بقي في السماء بلا تجسد؟!
سبحانك اللهم وتعاليت وتقدست.
NoteV00P033N05 وأما قولك: (وقداسته وعدله).
فلعلك تريد به ما يلهج به مبشروكم في قولهم: (إن عدل الله
صفحہ 33
وقداسته يستلزمان عقاب الخاطئ بالموت في جهنم النار إلى الأبد، ولا يمكن أن يغض الطرف عن ذلك لبغضه الخطيئة التي لم يسلم منها أحد في العالم، فأظهر الله محبته ورحمته بتجسد ابنه على الأرض ليفدينا بصلبه، فيستوفي في العدل الإلهي حقه، إذ تحمل بصلبه ما علينا من القصاص، ووفى ما علينا من الدين).
عافاك الله، هب أنك طردت العقل عن حكومة هذه الخطة، وقلت تبعا لكتابك: إنا نبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صلب المسيح، ولكنك لا بد من أن تكون مارست المعاملات التجارية وتعاطي الوفاء في الديون ولو في لوازم بيتك، واطلعت على عدل الحكام في قصاصاتهم وبغضهم للخطيئة والفساد، فقل لي: هل القدوس العادل الذي يبغض الخطيئة ينبغي أن يبقي رهبة الناس منه بخوف العقاب، لينزجروا عن فعل الخطيئة فتضعف مادة الفساد، أو أنه يحابي أهواءهم وشرورهم فيفديهم ويطلق لهم زمام التمرد؟! فهل يفعل محب الخطيئة أكثر من هذه المحاباة!؟
ثم إذا كان عدله وقداسته يستلزمان عقاب الخاطئ بالموت في جهنم النار إلى الأبد، فلماذا انتقضت هذه الملازمة بالفداء؟! وكيف أوصل الاحتيال إلى التفكيك بين المتلازمين؟!
ثم لماذا تنازل الفداء إلى موت واحد يوما وبعضي يومين على قولكم؟! وهل يكون هذا من تحمل القصاص ووفاء الدين؟! فإن التفاوت فيه ليس كما بين الواحد والثلاثة لكي يدعى فيه الاتحاد، بل إن التفاوت ليفوت حد الإحصاء! وأية ضرورة دعت إلى هذا التنازل؟!
ثم إن الابن - على ما يقول كتابكم - قد استعفى من معاملة
صفحہ 34
الفداء، وطلب من الأب - ببكاء، وحزن، واكتئاب، ودعاء بأشد لجاجة - أن تعبر عنه كأسه، فهل كان من العدل والقداسة أن يجبر على معاملته؟!
وهلا وسعت الرحمة والمحبة هذا الابن المستغيث المستعفي كما وسعت الخاطئين المفسدين؟!
وماذا يكون محل هذه الرحمة والمحبة من العدل والقداسة إذا أرسلت الخاطئين يمرحون في ملاعب الخطايا والفساد آمنين وضاقت عن الابن البرئ المستغيث المضطرب؟! وهل يجدي في ذلك إذا ظهر له ملاك من السماء يقويه (16)؟!
ثم - على قولكم بالاتحاد - من هو الأب؟! ومن هو الابن؟! ألستم تقولون: إنهم واحد؟! أفلا يرجع هذا كله إلى أن القدوس العادل، مبغض الخطيئة، قد حابى الخاطئين وأطلق سراحهم بتحمله ما عليهم من القصاص، ثم حابى نفسه فأدمج المحاسبة وتنازل فيها إلى ما تزعمون؟!
تعاليت اللهم عن ذلك وتقدست.
NoteV00P035N06 وأما قولك: (فتصبح محروما من محبته ورحمته وبركة فدائه ببركة الفادي الكريم).
فهو كما تقول: إن لم تسلك متاهات المفاوز في الهواجر تصبح محروما من ريك بلامع السراب ولفحات الهجير!
أفتخوفني الحرمان - هداك الله - بأن أعبد الإله الواحد، الأحد القادر، القاهر، العادل القدوس، العزيز، الحكيم، الجبار، الحي الذي لا
صفحہ 35
يموت، والدائم الذي لم يلد ولم يولد، بل جل وعلا عن نقص التعدد والتركب والجسمية والمكان والتغير والضعف؟!
وتمنيني الحظوة - عافاك الله - بأن أصف إلهي من حيث القدس والعدالة بما لا يرضى به مدير الناحية؟!
وأصفه من حيث الضعف والمظلومية والبكاء والجزع بما يأنف منه رئيس القرية؟!
أو أغالط وجداني فأجعل الواحد الحقيقي ثلاثة حقيقة وآثارا، والثلاثة حقيقة وآثارا واحدا حقيقيا؟!
ولقد أردت أن أغالط وجدان طفل لم يفطم فآخذ منه ثلاثة وأعطيه واحدا بعنوان أنه هي، فلم أقدر عليه لتمييزه لتعددها، ورغبته في كثرتها.
[7] وأما قولك: (وتعشو عن جلال الرب [يسوع] المسيح، له المجد، فتنكر لاهوته الأقدس، وتحط قدره إلى خسة الناسوت ونقص الطبيعة البشرية، مع أنه الذي رفع بلاهوته قدرها إذ تقمصها).
فإنه - هداك الله - قول يضحك ويبكي، ويا ليتك تودع قلبك وطواياك إن قدس اللاهوت وكماله لا يوصم ولا يوصف بخسة الناسوت ونقص الطبيعة البشرية، فتعرف ماذا قلت وماذا تقول!
ويا ليتك - في الأقل - تدرك تناقض كلامك ههنا، وتلتفت إلى أنك بينما تعنف على حط قدر اللاهوت إلى خسة الناسوت ونقص البشرية، إذا بك تقول: إن اللاهوت تقمص الطبيعة البشرية!!
وإني وأنت وكل أحد يعلم أن المسيح - الذي تعنيه - كان إنسانا حادثا، متولدا في زمان معلوم، من أنثى معروفة.
صفحہ 36
ثم ترقى من عالم الطفولية، متزايدا في النمو، متغيرا من حال إلى حال، منتقلا من هيئة إلى هيئة (17) وكان كما تقول كتبكم يجوع (18) ويعطش ويتعب (19) ويدهش ويكتئب ويحزن (20) ويبكي وينزعج، ويفزع في حوائجه وضيقاته إلى الله (21) ويتألم (22) ويأكل ويشرب (23) وينام (24).
بل تقول كتبكم أنه صلب وقال: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟! وطعن في خاصرته ومات ودفن (25).
وإن غريزة الفطرة لتقول - فضلا عن العقل الذي حرمت نفسك من هداه، ولا ترضى حكومته - إنه الإله لا يكون كذلك، وإن كتاب إلهامكم يقول عن رسوليكم (برنابا) و (بولس): إنهما نفيا عن نفسهما الألوهية محتجين على أهل (لستره) بكونهما بشرا تحت آلام (26) والمسيح - الذي تعنيه - لا ريب في أنه بشر تحت آلام.
والكتاب الذي تحتج به وتعتمد عليه صريح في النقل عن قول
صفحہ 37
المسيح بأن الله إلهه (27).
فهل ترى أن الإله يكون له إله؟!
وصريح بنقل اعترافه بأنه لا يعلم ما يعلمه الله، ولا يقدر إلا على ما أعطاه الله إياه، وأن الحياة الأبدية أن يعرفوا الله بأنه الإله الحقيقي وحده، وأن (يسوع) هو المسيح الذي أرسله (28)!
وهل بعد هذه الصراحة ريب لمن يعتمد على هذا الكتاب؟!
خصوصا مع نقله لاستغاثة المسيح بالله، والدعاء والتضرع إليه، والاجتهاد بالعبادة له! وخصوصا مع صراحته باحتياج المسيح إلى التجربة من إبليس، وتسلط إبليس عليه، إذ تصرف به وأطعمه بممالك المسكونة ليسجد له، ولم يدحر إبليس في الجواب إلا بالاعتراف بالعبودية لله، ولو كان إلها لكان ذلك المقام أولى بأن يخسأ إبليس ببيانها ويعتصم بها من تصرفه، كيف لا ولم يكن هناك يهود يخاف منهم؟!!
عافاك الله، سامحناك من المطالبة بالعقل الذي تذمه، والمعقول الذي تبغضه، فدعها جانبا على رغم الأدب والمعرفة، ولكنا نطالبك بوجدانك الذي تميز به نفسك عن عبدك، وتعرف به مواقع الكلام، وتدبر به أمر تجارتك، وتفهم مراسلات أصحابك.
نعم، أستعفيك من وجدانك الذي تجعل به الثلاثة حقيقة واحدا حقيقيا، والواحد الحقيقي ثلاثة حقيقة، فتصف كلا منهم بصفة وحال
صفحہ 38
ومكان يباين كلا مما تصف به صاحبيه!
ثم أنظر - هداك الله - أينا اجترأ على عظمة الله ومجده؟! وأينا حط من قدر المسيح؟!
أفمن يقول: إن الله الذي لا إله إلا هو، هو الإله الواحد القدوس، الأزلي الدائم، العليم الحكيم، الغني العزيز، القادر القاهر، الحي الذي لا يموت، العادل الرحيم، الجواد العظيم، الذي يجل عن التعدد والحدوث والتجسد والأين والمكان والتغير والضعف، وإن المسيح رسول مكرم وعبد مقرب لهذا الإله العظيم، قد بلغ رسالته، وأدى وظيفته، فلم يشن توحيده بشرك، ولا صدقه بكذب، ولا تعليمه بتناقض، زلا حججه وبتهافت، ولا عفافه بدنس، ولم يتصرف به الشيطان، ولم ينهه اليهود، بل كفاه الله شرهم وسوء ولايتهم، ورفعه إلى السماء حيا ممجدا؟
أم من يقول: إن الله واحد ثلاثة، أراد أن يخلع عذار الخاطئين، ويطلق سراحهم في غيهم، فيؤمنهم من زاجر الوعيد، وقصاص العدل، ولم يقدر على ذلك حتى تجسد منه أقنوم الابن على الأرض - أو هو ذاته - بأن تردد في ظلمات الرحم وفضلاته، ثم ترقى في النشوء من نقائص الطفولية وجهالاتها إلى أن اعتمد من (يوحنا) بمعمدية التوبة، وحل عليه الأقنوم الثاني فقاده الروح إلى البرية مع الوحوش؟!
وصار إبليس يتصرف به ويجئ به من مكان إلى مكان ويخادعه بالغواية ويطلب منه السجود له!
ثم بقي ثلاث سنين في ذلة الخوف ومهانة الاضطهاد، يصدر منه الكذب على إخوته مرة، والعقوق لأمه والقدح بطاعتها لله أخرى!
صفحہ 39
قد تناقضت تعاليمه على قلتها، ناقضتها أفعاله، واحتج بتعدد الآلهة والأرباب مع اعترافه بوحدة الإله والرب، واحتج بأوهى الحجج التي يعدها المجان من المضحكات!
وجعل توبة الزانية وإيمانها أن تبل بدموع التوبة - أو الحب والمغازلة - قدميه، وتقبلهما بعفتها، وتمسحهما بشعر رأسها لطهارة قلبها!
وجعل تأديبه لتلميذه الشاب الغض الطري أن يجلسه في حضنه ويتركه يتغنج عليه ويتكئ على صدره (29)!
ويعطي مفاتيح ملكوت السماوات والحل والربط لتلميذه الذي سجل عليه بأنه شيطان ومعثرة له ولا يهتم بما لله، بل بما للناس (30)!
ولما دنا وقت الفداء ندم وحزن واندهش واكتأب وصلى، وطلب من أقنوم الأب - وقل: من نفسه - ملحا بأشد لجاجة أن تعبر كأس المنية، فلم يقدر على ذلك، بل ضعف، وجاءه ملاك من السماء يقويه إلى أن جرى عليه الاضطهاد الفاحش، ونادى: (إلهي إلهي، لماذا تركتني؟!) ثم مات ودفن، وأقامه الله من الأموات!
كل ذلك ليفدينا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا؟!
تعالى شأنك اللهم وجلت عظمتك.
فدونك المقايسة - هداك الله وعافاك وعرفك بعظمته وجلاله - أفتمنيني النجاة بالفداء الذي تنعى به الإله على زعمك؟!
عافاك الله، إن التاجر إذا أراد أن يعرض سلعته للبيع فلا بد له
صفحہ 40
من تعاهد طواياها وزواياها، لينظر أنها هل تنفق في سوق الوقت على نياقد التجار أم لا؟ وذلك تخل بشينها في مجد تجارته.
عافاك الله، أفلم تكن تسمع ما تقول أو تنظر ما تكتب؟! أفلم تكن تدري بما في كتبك؟!
ويا حسرتا، ماذا نقول للملاحدة المعطلة إذا قالوا لنا: أهذا مجد الإله الذي تكفروننا وتسفهوننا بجحوده؟!
[8] وأما قولك: (ولا نأت بك مجاهل الغفلة عن معرفة قدر الرسل، وعظيم أثرهم في نصرة الحق، ورسوخ قدمهم في الإيمان، وحسن ائتلافهم في المحبة، وانتظام جماعتهم في الدعوة، حتى دمثوا للمؤمنين شريعة سهلة، أدبية عقلية، قد أسست ناموس الحرية، وبثت التعاليم الروحية، فلم تشن لينها بقساوة، ولم تحتفل بالأعمال الفارغة) فإنما هو قول أنت تقوله، وكتابك الذي تعتمد عليه يعارضك في ذلك، ويقول: إن (بطرس) صار ينتهر المسيح حتى قال المسيح له: اذهب عني يا شيطان! أنت معثرة لي، لأنك تهتم بما للناس لا بما لله!
وإن عشرة منهم اغتاظوا على المسيح من أجل عنايته بابني (زبدي)!
ومالوا إلى الرئاسة، وتشاجروا فيمن يكون الأكبر منهم بعد المسيح لما أخبرهم بأنه ماض عنهم، حتى وعظهم ووعدهم ومناهم بما يرغبهم في الائتلاف وترك التشاجر!
كثيرا ما وبخهم على قلة إيمانهم، وأنهم لا إيمان لهم، وليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل!
صفحہ 41
ووصفهم الإنجيل بغلظ القلوب، وأخبرهم المسيح بأن كافتهم يشكون أو يعثرون فيه، ويتفرقون عنه، كل واحد إلى خاصته ويتركونه وحده!
وطلب منهم المواساة بسهر ليلة فلم يواسوه، مع ما هو فيه من الدهشة والحزن والاكتئاب، حتى وبخهم على ذلك مرارا!
ولما هجم اليهود تركه الجميع وهربوا!
ثم لم يصدقوا اللاتي أخبرنهم بقيامه من الأموات، عدوا كلامهن كالهذيان، حتى وبخهم المسيح على قساوة قلوبهم، وعدم إيمانهم، إذ لم يصدقوا الذين نظروه وقد قام، مع أن الإنجيل كم وكم يذكر المسيح قد أخبرهم بأنه يقتل وفي اليوم الثالث يقوم من الموت!
وناهيك ما تذكره الأعمال والرسائل من العهد الجديد بعد حادثة الصلب في اضطراب المتنصرين ومشاغبتهم، والمذمة من بعضهم لبعض، حتى أدت تلك المشاغبة إلى أن (بطرس) و (برنابا) و (بولس) وجماعة قد استعملوا الرياء لحفظ الشريعة!
ولكن فرصة الوقت وميل الأهواء إلى الراحة قد ساعد التلاميذ و (بولس) بنقل كتبكم على محو رسوم الشريعة بخلاف ما أوصى به المسيح، فبعضهم اتفقت مشورتهم لجلب الأمم إلى الخضوع لرئاستهم بأن يصانعوا أهواءهم ومألوفاتهم برفع الختان وسائر قيود الشريعة، ولم تكن لهم حجة في مشورتهم في ذلك إلا استجلاب الأمم وترغيبهم إلى الإيمان بالمسيح، وأن موسى قد استوفى نصيبه من رئاسة الشريعة، لأن له من يكرز به في كل سبت.
صفحہ 42