كتاب التوكل
تأليف
القاضي أبي يعلي محمد بن الحسين الفراء الحنبلي
(٣٨٠ هـ - ٤٥٨ هـ) - رحمه الله تعالى -
حققه وعلق عليه
د. يوسف بن علي الطريف
أستاذ العقيدة المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة القصيم
دار الميمان
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
كِتابُ التَّوَكُّلِ
1 / 3
(ح) دَار الميمان للنشر والتوزيع، ١٤٣٤ هـ
فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر
الْحَنْبَلِيّ، القَاضِي أبي يعلى مُحَمَّد الْحُسَيْن الْفراء
كتاب التَّوَكُّل/ القَاضِي أبي يعلى مُحَمَّد الْحُسَيْن الْفراء الْحَنْبَلِيّ؛
يُوسُف عَليّ عبد الله الطريف - الرياض ١٤٣٤ هـ
١٠٦ ص؛ ١٧ × ٢٤ سم
ردمك: ١ - ٤٣ - ٨١٠٠ - ٦٠٣ - ٩٧٨
١ - أَبُو يعلى، مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، ت ٤٥٨ هـ
٢ - التَّوَكُّل
٣ - الْإِيمَان (الْإِسْلَام)
أ. الطريف، يُوسُف عَليّ عبد الله (مُحَقّق)
ب. العنوان
ديوي ٢٤٠ ... ٢٥٨٣/ ١٤٣٤
رقم الْإِيدَاع: ٢٥٨٣/ ١٤٣٤
ردمك: ١ - ٤٣ - ٨١٠٠ - ٦٠٣ - ٩٧٨
جَمِيع حُقُوق الطَّبْع والنشر مَحْفُوظَة لدار الميمان للنشر والتوزيع، وَلَا يجوز طبع أَي جُزْء من الْكتاب أَو تَرْجَمته لأي لُغَة أَو نَقله أَو حفظه ونسخه على أَيَّة هَيْئَة أَو نظام إلكتروني أَو على الإنترنت دون مُوَافقَة كِتَابِيَّة من الناشر إِلَّا فِي حالات الإقتباس المحدودة بغرض الدراسة مَعَ وجوب ذكر الْمصدر.
جرى تنضيد الْكتاب وتجهيزه للطباعة باستخدام برنامج أدوبي إنديزاين، وإدراج الْآيَات القرآنية بالرسم العثماني وفقًا لطبعة مجمع الْملك فَهد الْأَخِيرَة باستخدام برنامج "مصحف النشر للإنديزاين" الإصدار: (مُتَعَدد الرِّوَايَات) وَهِي أَدَاة برمجية (plug-ins) مطورة بِوَاسِطَة شركَة الدَّار الْعَرَبيَّة لتقنية المعلومات www.arabia-it.com
الرائدة فِي مجَال البرمجيات الْمُتَقَدّمَة لخدمة التراث الإسلامي.
الصُّور مرخصة قانونيًا من www.shutterstouk.com
المخطوط وتصميم الغلاف: دَار الميمان للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى ١٤٣٥ هجري - ٢٠١٤ م
دَار الميمان للنشر والتوزيع
الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected]
موقعنا على الإنترنت: www.daralmaiman.com
تابعنا على تويتر: DarAlMaiman@
هَاتِف: ٩٩٦١١٤٦٢٧٣٣٦ +
فاكس: ٩٦٦١١٤٦١٢١٦٣ +
جوال: ٩٦٦٥٠٠٠٠٤٥٦٨ +
ص. ب: ٩٠٠٢٠ الرياض ١١٦١٣
1 / 4
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام علي نبينا محمد وعلي آله.
أما بعد:
فيعيش كثير من الناس في هذا الزمن وقد توافرت لهم أصناف النعم، وتوالت عليهم أنواع الخيرات، وتقلبوا في آلاء الله المختلفة، غير أن كثيرًا منهم ينشد راحة النفس وطمأنينة القلب، فلا يجد مطلوبه فيما فيه من النعم، لما يكتنفها من المصائب والمحن ...
وقد تكفَّل الله جل وعلا بالطمانينة والسعادة والحياة الطيبة في الدنيا؛ لمن آمن وعمل صالحًا، وحقق معاني العبودية لربه تعالى.
وإن من أعظم مقامات العبودية لله تعالى صدقَ التوكل عليه، فالتوكل عبادة تقوم بقلب المؤمن، إنه تعلقٌ بالله جل وعلا، وتفويضُ الأمر له سبحانه، وبراءة النفس من الحول والقوة إلا بربها سبحانه ...
وقد ورد في كتاب الله تعالى آيات كثيرة، وجاء في سنة المصطفى ﷺ أحاديث عديدة، تدل على شرف مقام التوكل، وعظيم منزلته من بين أعمال القلوب، وذلك لأن من حقق التوكل على الله فقد استكمل الإيمان، وهذا معنى قول ابن عباس ﵁ وغيره من السلف: (التوكل جماع الإيمان). وقول الفضيل بن عياض ﵀ وغيره: (التوكل قوام العبادة).
1 / 5
ومع عظم عبادة التوكل على الله تعالى، وعلو مقامها عند الله؛ إلا أن كثيرًا من المسلمين غفلوا عنها، واعتمدوا على الأسباب المادية وحدها في تحقيق مطالبهم والسعي في تحصيل معايشهم؛ خاصة في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة، وفشا فيه الألحاد بكل صوره ...
وقسم آخر من المسلمين ضلوا في هذا المقام، فظنوا أن التوكل لا يمكن تحقيقه إلا بترك الأسباب، واعتقدوا أن فعل الأسباب يناقض التوكل على الله تعالى وهذا ظاهر في كثير من المتصوفة، خاصة المتقدمين منهم ممن عاش في المائة الرابعة وهلم جرًّا.
ولذا كتب كثير من العلماء مؤلفات خاصة في مقام التوكل، منهم: الحافظ عبد الله بن محمد، ابن أبي الدنيا (ت ٢١٨ هـ) والشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) والإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ) وغيرهم، رحمة الله عليهم.
ويضاف إليها كتاب: التوكل للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، المتوفى سنة (٤٥٨ هـ) ﵀.
وقد وجدتُ - بحمد الله - نسخة خطية لهذا الكتاب، فاستعنتُ بالله على خدمته، دراسةً وتحقيقًا. وذلك للأسباب التالية:
١ - أهمية هذا الكتاب، فموضوعه في مقام من أهم مقامات العبودية لله تعالى؛ ألا وهو التوكل على الله جل وعلا، والذي ضل فيه كثير من المسلمين.
٢ - أن هذا الكتاب لا يزال مخطوطًا، وبتتبعي لفهارس الكتب المطبوعة،
1 / 6
ولأبرز فهارس المكتبات في العالم؛ تبين لي أنه لم يطبع من قبل (١).
٣ - قلة الكتب الأثرية المطبوعة في موضوع التوكل، التي ألفها الأئمة السابقون.
٤ - خدمة التراث الإسلامي، والإسهام باداء الواجب نحو الأرث العلمي الذي تركه لنا علماء الإسلام عبر القرون.
خطة البحث:
اشتملت خطة المبحث على ما يأتي:
المقدمة: وتتضمن: سبب اختيار المبحث، وخطة المبحث، ومنهجي في التحقيق.
القسم الأول: الدراسة؛ وتتضمن مبحثين:
المبحث الأول: ترجمة المؤلف.
أولًا: نسبه ومولده وحياته العلمية.
ثانيًا: شيوخه، وتلاميذه.
ثالثًا: مؤلفاته، وأقوال العلماء فيه، ووفاته.
المبحث الثاني: دراسة الكتاب.
_________
(١) بحثت في: فهارس مكتبات الجامعات؛ كجامعة الإِمام والملك سعود بالرياض، وجامعة أم القرى بمكة، والجامعة الإسلامية بالمدينة، وفهارس مكتبة الملك فهد والملك عبد العزيز بالرياض، وفهارس دور النشر داخل المملكة وخارجها، عبر مواقعها على شبكة الإنترنت، فلم أجده ضمن المطبوعات، وأخيرًا سؤال المختصين ... فبعضهم لم يعرفه وبعضهم أشار إلى فقده.
1 / 7
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بالنسخة المخطوطة، وفيه:
١ - مصدر المخطوطة.
٢ - اسم الناسخ.
٣ - التعريف بالخط.
٤ - حالة النسخة.
٥ - عدد الصفحات والأسطر.
٦ - نماذج مصورة من المخطوط.
المطلب الثاني: التعريف بالكتاب، وفيه:
١ - تحقيق اسم الكتاب، توثيق نسبته إلى المؤلف.
٢ - موضوع الكتاب.
٣ - منهج المؤلف، وموارده في هذا الكتاب.
٤ - تقويم الكتاب.
٥ - من المآخذ على الكتاب.
القسم الثاني: تحقيق الكتاب.
الفهارس، وهي:
١ - فهرس الآيات القرآنية.
٢ - فهرس الأحاديث النبوية.
1 / 8
٣ - فهرس الآثار المروية عن السلف.
٤ - فهرس الأعلام المترجم لهم.
٥ - ثبت المصادر والمراجع.
٦ - فهرس الموضوعات.
منهجي في التحقيق:
لم يتوفر لدي من هذا الكتاب إلا نسخة خطية واحدة، لكنها بحمد الله جيدة
مقروءة خالية من الخلل، كما سيأتي وصفها قريبًا.
أولًا: كتابة النص:
١ - كتابة النص على الطريقة الإملائية الحديثة، دون الإشارة إلى الفوارق في ذلك.
٢ - الإشارة إلى نهاية كل لوحة من المخطوط بوضع خط مائل في النص هكذا: والإشارة أمامه في الهامش إلى رقم اللوحة والوجه.
٣ - الإلتزام بعلامات الترقيم، وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
٤ - التزمت بذكر الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ كما ذكره المؤلف؛ لأن ناسخ المخطوطة قد يهمل ذلك أحيانًا، أو يكتفي بقوله: صلى الله عليه.
٥ - وضعت ترقيمًا للتقسيمات التي قد يذكرها المؤلف تسهيلًا على القارئ.
ثانيًا: التخريج والعزو:
١ - عزو الآيات القرآنية الواردة في الكتاب؛ بذكر اسم السورة ورقم الآية
1 / 9
بين معقوفتين في المتن، وكتابتها بالرسم العثماني.
٢ - تخريج الأحاديث النبوية؛ فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكفي بالعزو إليهما، إليهما وإلا فإني أخرِّجه من بقية الكتب الستة ومسند الإِمام أحمد، إن كان ثمَّ، وإلا توسعت في ذلك حسب الحاجة، مع ذكر حكم أهل العلم عليه صحةً وضعفًا.
٣ - تخريج الآثار من مصادرها.
٤ - توثيق الأقوال التي ينقلها المؤلف من مصادرها.
٥ - ترجمة الأعلام غير المشهورين.
٦ - شرح الألفاظ الغريبة.
٧ - التعليق على ما يحتاج إلى تعليق.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله.
1 / 10
القسم الأول
الدراسة
المبحث الأول: ترجمة المؤلف.
المبحث الثاني: دراسة الكتاب.
1 / 11
المبحث الأول
ترجمة المؤلف
أولًا: نسبه ومولده وحياته العلمية
هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف، أبو يعلى، الفراء، البغدادي الحنبلي، و(الفراء) نسبة إلى خياطة الفرو وبيعه (١).
ولد القاضي أبو يعلى سنة ٣٨٠ هـ.
كان أبوه من أعيان الحنفية، فلما مات كان لأبي يعلى عشرة أعوام، فلقَّنه مقرئه العبادات من مختصر الخرقي، فلذَّ له الفقه، وتحول إلى حلقة أبي عبد الله بن حامد شيخ الحنابلة، فصحبه أعوامًا، حتَّى برع في الفقه عنده، فتصدر بأمره للإفادة سنة ٤٠٢ هـ ورحل في الطلب، فسمع بمكة، ودمشق، وحلب، وغيرها من البلاد، ثم ولي أبو يعلى القضاء بدار الخلافة.
وتلا بالقراءات العشر، وكان ذا تعبد وتهجد، وأحب التأليف، فأفاد وأجاد، وأفتى ودرس، وتخرج به الأصحاب، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه، مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره، والنظر والأصول (٢).
_________
(١) كذا في الأنساب للسمعاني (٩/ ٢٤٦).
(٢) انظر: تاريخ بغداد، للخطيب، ٢/ ٢٥٦، وسير أعلام النبلاء تاريخ الإسلام، للذهبي =
1 / 13
ثانيا: شيوخه، وتلاميذه
ذُكر لأبي يعلى جملةً من الشيوخ؛ أبرزهم:
- أبو عبد الله الحسن بن حامد البغدادي (ت ٤٠٣ هـ).
- الحسين بن أحمد، المعروف بابن البغدادي.
- عبيد الله بن عثمان المعروف بابن جنيقا.
- علي بن أحمد المقرن، ابن الحمامي.
ومن تلاميذ القاضي أبي يعلى:
- الحافظ أحمد بن علي بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد، (ت ٤٦٣ هـ).
- أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي، (ت ٥١٣ هـ).
- أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، (ت ٥١٠ هـ).
- ابنه، أبو الحسين محمد بن محمد، القاضي، صاحب الطبقات، (ت ٥٢٦ هـ).
ثالثًا: مؤلفاته، وأقوال العلماء فيه، ووفاته.
كان المؤلف القاضي أبو يعلى ﵀ ممن اعتنى بالتأليف والإشتغال بالكتابة، فخلف كتبًا كثيرةً، في فنون العلم المتنوعة. لكن -وللأسف- أكثرها في عداد المفقود.
_________
= (وفيات ٤٥١ - ٤٦٠ هـ) ص ٤٥٣.
1 / 14
فمن كتب المؤلف:
في العقيدة: (مسائل الإيمان) و(إبطال التأويلات لأخبار الصفات) وهما مطبوعان (١). وللمؤلف كتب في العقيدة لم تر النور بعد؛ منها: (المعتمد في أصول الدين) و(عيون المسائل) و(الرد على الباطنية) و(الرد على المجسمة) و(مختصر إبطال التاويلات) و(القطع على خلود الكفار في النار) و(أربع مقدمات في أصول الديانات) و(إثبات إمامة الخلفاء الأربعة) و(إيضاح البيان في مسائل القرآن) (٢).
وله كتب في الفقه وأصوله طبع الكثبر منها.
ومن أقوال العلماء فيه ﵀-:
- قال تلميذُه الحافظ الخطيب البغدادي: كان أحد الفقهاء الحنابلة، وله تصانيف على مذهب أحمد بن حنبل، درس وأفتى سنين كثيرة ... كتبنا عنه وكان ثقةً (٣).
- قال الحافظ ابن الجوزي: جمع الأمامة في الفقه، والصدق، وحسن الخلق،
والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السمت، والصمت عما لا يعني، واتباع السلف (٤).
_________
(١) الكتاب رقم (١) طبع بتحقيق د. سعود الخلف، نشرته: دار العاصمة، الرياض ١٤١٠ هـ ورقم (٢) طبع بتحقيق: محمد النجدي، نشرته: دار إيلاف، الكويت ١٤١٥ هـ. وصدر منه جزآن في مجلد، لكنها طبعة ناقصة.
(٢) هذه الكتب كلها ذكرها ابن المؤلف في: طبقات الحنابلة (٢/ ٢٠٥)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن كتاب عيون المسائل؛ في الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، ونقل عنه كما في درء التعارض (٤/ ٣٦) ومجموع الفتاوى (٦/ ٢٧٥). ولم أعثر عليها.
(٣) تاربخ بغداد (٢/ ٢٥٢).
(٤) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (٨/ ٢٤٤).
1 / 15
- قال الحافظ الذهبي: انتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه ... وكان ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلال والمهابة ... وكان متعففًا، كبير القدر، ثخين الورع .... (١).
- وقال الحافظ ابن كثير: شيخ الحنابلة، وممهِّد مذهبهم في الفروع (٢).
- وقال ابن العماد الحنبلي: صاحب التصانيف وفقيه العصر، كان إمامًا لا يُدرك قراره ولا يُشق غباره (٣).
هذا شيء من ثناء العلماء على القاضي أبي يعلى ﵀، ومن يطالع كتب الحنابلة في الفقه وأصوله؛ يتبين له ما للقاضي أبي يعلى من الأثر الكبير على الحركة الفقهية في التاريخ، فله إسهامات واجتهادات أفاد العلماءُ منها بعده.
ومع هذه المنزلة الكبيرة للمؤلف إلا أن بعض العلماء انتقده من جهة روايته للأحاديث الواهية في كتبه، وكذلك تردده في بعض المسائل العقدية، كمسألة الصفات التي اضطرب في إثبات بعضها فخالف مذهب السلف.
قال الحافظ الذهبي عن القاضي أبي يعلى: ولم تكن له يدٌ طولى في معرفة الحديث، فربما احتج بالواهي (٤).
ويقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: ممن سمع الأحاديث والآثار، وعظم مذهب السلف؛ لكنه شارك المتكلمين في بعض أصولهم، ولم يكن له خبرة بالقرآن والحديث والآثار؛ ما لأئمة السنة والحديث؛ لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها
_________
(١) سير أعلام النبلاء (١٨/ ٩٢).
(٢) البداية والنهاية (١٢/ ١٠٢).
(٣) شذرات الذهب في أخبار من ذهب (٣/ ٣٠٦).
(٤) سير أعلام النبلاء (١٨/ ٩٠).
1 / 16
وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظن صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأى ما بينها من التعارض؛ فصار تارةً يختار طريقة أهل التأويل، وتارةً يفوض معانيها؛ ويقول: تجرى على ظواهرها (١).
وما ذكره شيخ الإسلام عن القاضي أبي يعلى واضح لمن تأمل كتبه مثل: المعتمد في أصول الدين وإبطال التأويلات لأخبار الصفات، وهو أيضًا قد يختار قولًا مخالفًا لمذهب السلف؛ ثم يرجع عنه؛ كاختياره بأن أول واجب على المكلف النظر، في كتابه مختصر المعتمد، ورجع عنه إلى قول السلف في كتابه عيون المسائل، وقد نقل عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهو في الصفات يوجب إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله وفي سنته. وقال في كتابه إبطال التأويلات (١/ ٤٣): إنه لا يجوز رد هذه الأخبار -يعني أخبار الصفات- على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة، ولا التشاغل بتأويلها على ما ذهب إليه الأشعرية. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله تعالى؛ لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق ... وقد ألف كتابه هذا في الرد على أبي بكر ابن فورك الأشعري في تأويلاته التي شحنها كتاتج ٥ مشكل الحديث وبيانه.
وقد أُخذ على أبي يعلى توسعه في الإثبات، فأثبت صفات لم يصح بها الخبر عن رسول الله ﷺ. وقوله في إثبات الصفات الفعلية مضطرب؛ فتارة يؤولها كما في كتابه المعتمد في أصول الدين، وتارة يثبتها على أنها صفات ذاتية، لا تقوم بمشيئته، وتارةً يثبتها؛ وأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه؛ على مذهب السلف في ذلك (٢)، ويتضح الإضطراب والتراجع عند القاضي أبي يعلى في مسألة الرؤية، فقد أثبت في أول كتابه
_________
(١) درء تعارض العقل والنقل (٧/ ٣٣).
(٢) ينظر: المعتمد في أصول الدين (ص ٦١، ٥٤ - ٥٥، ٨٦، ٩٣) وعنه ينقل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (١٢/ ٥٤).
1 / 17
ابطال التأويلات: أن الله يرى لا في جهة وهو قول الأشعرية. ثم قال - عن نفيه الجهة: وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك؛ لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة؛ التي هي الإستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء؛ وكل من أثبت هذا أثبت أنه في جهة (١).
وقد ذكر أن بعض الناس شنع على القاضي أبي يعلى فقالوا بأنه يميل إلى التجسيم والتشبيه. وهذا باطل وكذب عليه، وهو من أقوال الأشعرية التي يثيرونها على كل من أثبت ما نفو ٥ من صفات الباري سبحانه، وقد ألمح القاضي أبو يعلى إلى هؤلاء المشنعين في آخر كتابه ابطال التأويلات، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مبينًا سبب ما وقع من أولئك (٢).
وهذه الإنتقادات للقاضي أبي يعلى لا تقلل من مكانته، فهو إمام في الفقه وغيره من علوم الشريعة، لكن الكمال لله وحده، ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها.
وفاته:
توفي القاضي الإِمام أبو يعلى الحنبلي سنة ٤٥٨ هـ. -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- (٣).
* * *
_________
(١) إبطال التأويلات (ورقة ١٥٥/ ب) وعنه درء التعارض (٦/ ٢٥٧).
(٢) درء التعارض (٥/ ٢٣٨)، وانظر: من المصدر ذاته (١/ ٣٥٢ و٧/ ٣٣، ٣٤) وقارن بما نقله الصفدي في كتابه: الوافي (٣/ ٨) وابن العربي في: العواصم (٢/ ٢٨٣).
(٣) من مصادر ترجمته - غير ما تقدم -: العبر في خبر من غبر للذهبي (٣/ ٢٤٣) والمنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإِمام أحمد للعليمي (٢/ ١٢٨ - ١٤٢)، الأعلام للزركلي (٦/ ٩٩، ١٠٠).
1 / 18
المبحث الثاني
دراسة الكتاب
المطلب الأول: التعريف بالنسخة المخطوطة
١ - مصدر المخطوطة
مصدرها: مركز الشيخ جمعة الماجد للثقافة والتراث، بدولة الإمارات العربية المتحدة، برقم (١١٣١) وهي من مصورات دار الكتب الظاهرية بدمشق؛ في مخطوطات الدار ضمن مجموع رقم: (٣٢٤٩ عام/ ١٨٩ ب ١٩٦) وقد جاءت النسخة مقلوبة في المجموع، فأولها ورقة رقم ١٩٦ وآخرها ورقة رقم ١٨٩.
والفضل في العثور على هذه النسخة يعود بعبد الله للدكتور / عبد الرحمن العثيمين، الذي أشار إلى موضع وجودها في تحقيقه لكتاب طبقات الحنابلة لإبن أبي يعلى.
وإنني في هذه المناسبة أشكر مركز الشيخ جمعة الماجد للثقافة والتراث فيم دولة الإمارات العربية المتحدة، على تعاونه معي للحصول على النسخة، في وقت قياسي لم أعتده من قبل، فلهم مني جزيل الشكر والعرفان، وأسأل الله أن يوفقهم ويمدهم بعونه على ما يبذلونه من مساعدة كبيرة للباحثين.
1 / 19
٢ - اسم الناسخ
جاء على طرة النسخة الخطية اسم ناسخه بهذا النص: (نسخه وسمعه مظفر بن فارس بن كرم (الخباز) داعيًا لمصنفه بالمغفرة.
٣ - التعريف بالخط
خط النسخة: نسخي مقروء، يعود للقرن السادس الهجري.
٤ - حالة النسخة
النسخة كاملة، ليس فيها نقص، فقد بدأت بالبسملة والحمد لله والصلاة والسلام على نبيه، وخُتمت بقول الناسخ: (فهذا آخر التعليقات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وملائكتُه على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وسلم تسليمًا، ورحم الله مصنفه، وكاتبه، ومن دعا لهما).
كما أن النسخة جاءت سليمةَ؛ لم تتعرض إلى مسح، أو شطب، أو سقط.
والنسخة أيضًا مقروءة ومصححة، كما تشير إليها الدائرة المنقوطة في مواضع
منها، وعلى النسخة بلاغات.
٥ - عدد الصفحات والأسطر
تتكون هذه النسخة من ٨ لوحات، كل لوحة عبارة عن صفحتين.
ويتراوح عدد الأسطر ما بين ٢٣ و٢٧ في الورقة.
المطلب الثاني: التعريف بالكتاب، وفيه:
١ - تحقيق اسم الكتاب، وتوثيق نسبته إلى المؤلف
هذا الكتاب اسمه: التوكل، ومؤلفه: القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء
1 / 20
الحنبلي البغدادي، فهذا ثابت لا ريب فيه؛ بدليل ما يلي:
أ - أن هذا العنوان هو الموجود على طرة النسخة الخطية له، منسوبًا إلى القاضي أبي يعلى، كما يتضح من النموذج المصور آنفًا، والذي جاء نصه هكذا: كتاب التوكل مصَنَّفٌ للقاضي الأوحد الإِمام أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء رحمة الله عليه.
ب - أن كل من ذكر هذا الكتاب ذكره بهذا العنوان: التوكل، ونسبه إلى مؤلفه القاضي أبي يعلى؛ كإبن المؤلف أبي الحسين محمد، ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة (٢/ ٢٣٨) وأبو الحسين هو أعلم الناس بمؤلفات والده، وكذا ذكر الكتاب بهذا الإسم ونسبه إلى مؤلفه؛ الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام (٣٠/ ٤٥٩).
٢ - موضوع الكتاب
يتضح موضوع الكتاب من عنوانه، فهوفي ذكر مقام من أهم مقامات العبودية؛ ألا وهو التوكل على الله ﷿، وقد تكلم المؤلف عن هذا الموضوع المهم من خلال المحاور التالية بحسب ترتيب المؤلف:
أ - الأصل في التوكل، ويعني بذلك الأدلة عليه من الكتاب والسنة.
ب - فصل في حقيقة التوكل في الرزق، بينه وتطرق في هذا الفصل لأهم مسائل التوكل، والتي يخطئ في إدراكها كثير من الناس، ألا وهي علاقة التوكل بالأسباب.
ج - مسألة في الشح؛ بيَّن أنواعه، وما ورد في ذمه.
د - مسألة في البخل؛ بين معناه، وبعض ما ورد في ذمه.
1 / 21