المدخل زهير بن نمير
لله أبا بكر ظنٌّ رميته فأصميتَ، وحَدسٌ أملته فما أشويت أبدَيتَ بهما وجه الجليّة، وكشفت إن غُرَّةِ الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسّبته ورأيته قد أخذ بأطراف السّماء، فألف بين قمريها، ونظم فرقديها، فكلما رأى ثغرًا سدَّه بسُهاها، أو لمَح خرقًا رمَّه بزُباناها،
1 / 83
إلى غير ذلك. فقلت: كيف أوني الحُكم صبيًا، وهز بجدعِ نخلة الكلام فاساقط عليه رُطبًا؛ أما إن به شيطانًا يهديه، وشيصباناَ يأتيه وأقسم أنَّ له تابعة تُنجدُه، وزابعة تؤيدّه، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النفس لهذه النفس. فأما وقد قُلتها، أبا بكرٍ، فأصِخ أسمعك العجب العُجاب: كنت أيّام كُتاب الهجاء، أحِنُّ إلى الأدباء، وأصبُو إلى تأليف الكلام؛ فاتبعتُ الدَّواوين، وجلستُ إلى الأساتيذ، فنبض لي عِرقُ الفهم، ودرَّ لي شريانٌ العلم، بموادَّ روحانية، وقليلُ الالتماح من النظر يزيدني، ويَسييرُ المطالعةِ من الكتب يُفيدُني، إذ صادف شنٌّ العلم طبقة. ولم أكُن كالثلجِ تقتبس منه نارًا، ولا كالحمار يحملُ أسفارًا. فطعنت ثُغرة البيان دراكًا، وأعلقتُ رجل طيره أشراكًا، فانثالث لي العجائب، وانهالت عليَّ الرغائب. وكان لي أوائِل صبوتي هوى اشتدَّ به كلفي، ثم لحقني بعد مَلَلٌ في أثناء ذلك المَيل. فاتفق أن مات من كنتُ أهواه مدَّة ذلك المَلَل، فجَزِعتُ وأخذتُ في رثائه يومًا في الحائرِ، وقد أُبهمت علي أبوابُه،
1 / 84
وانفردتُ فقلت:
تولى الحِمامُ بظبيِ الخُدُورِ، ... وفازَ الرَّدى بالغزالِ الغريرِ
إلى أن انتهيتُ إلى الاعتذارِ من المَلَل الذي كان، فقلت:
وكنتُ مَلِتُكَ لا عن قِلىً، ... ولا عن فسادٍ جرى في ضميري
فأُرتجَ عليَّ القولُ وأُفحمتُ، فإذا أنا بفارسٍ ببابِ المجلِس على فرسٍ أدهم كما بَقَل وجهُه، قد اتكأ على رُمحه، وصاح بي: أعجزًا يا فتى الإنس؟ قلتُ: لا وأبيك، للكلامِ أحيان، وهذا شأنُ الإنسان! قال لي: قُل بعده:
كمِثلِ مَلالِ الفتى للنعيم، ... إذا دامَ فيه، وحالِ السُّرورِ
فأثبتُّ إجازته، وقلت له: بأبي أنت! من أنت؟ قال: أنا زُهيرُ ابن نُمير من أشجعِ الجنِ. فقلتُ: وما الذي حداكَ إلى التصوُّرِ لي؟ فقال: هوى فيك، ورغبةٌ في اصطفائك. قلت: أهلًا بك أيها الوجهُ الوضاح، صادفن قلبًا إليك مقلوبًا، وهوى نحوك مجنوبًا. وتحادثنا حينًا
1 / 85
ثم قال: متى شِئتَ استِحضاري فأنشد هذه الأبيات:
والي زُهيرَ الحُبَّ، يا عز، إنه ... إذا ذكرته الذَّاكراتُ أتاها
إذا جرتِ الأفواهُ يومًا يذكرها ... يُخيَّلُ لي أني أقبَّلُ فاها
فأغشى ديار الذَّاكرين، وإن نأتُ ... أجارعُ مِنْ داري، هوى لهواها
وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني. وكنتُ، أبا بكرٍ، متى أُرتِجَ عليَّ، أو انقطع بي مسلك، أو خانني أُسلوبٌ أنشدُ الأبيات فيمثَّل لي صاحبي، فأسيرُ إلى ما أرغب، وأدركُ بقريحتي ما أطلُب. وتأكدت صًحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتابُ لذكرتُ أكثرها، لكني ذاكرٌ بعضها.
1 / 86
الفصل الأول
توابع الشعراء
شيطان امرئ القيس
تذاكرتُ يومًا مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء والشعُّراء، وما كان يألفُهُم من توابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضًا لا كأرضنا، وشارفتُ جوًا لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تُريدُ منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى وادٍ من الأدوية ذي دَوحٍ تتكسرُ أشجارُه، وتترنمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل،
1 / 87
ويمِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عرضتَ علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرَّفتنا كيف إجازتُك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زُهير، وحيّا صاحبك أهذا فتاهُم؟ قلتُ: هو هذا، وأيُّ جمرةٍ يا عتُيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلتُ: السيدُ أولى بالإنشاد. فتطامح طرفُه، واهتزَّ عطفه، وقبض عنانَ الشقراء وضربها بالسّوط، فسمت تُحضر طُولًا عنّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعدةِ هازًا لها، ثم ركزها وجعل يُنشد:
سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا ...
حتى أكمَلها ثم قال: لي: أنشِد؛ فهمتُ بالحيصة، ثم اشتدَّت قُوى نفسي وأنشدت:
شَجَتْهُ مَعانٍ من سُليمى وأدْؤرُ ...
حتى انتهيتُ فيها إلى قول:
ومِن قُبّةٍ لا يُدركُ الطَّرفُ رأسها ... تَزِلُّ بها ريحُ الصَّبا فتحدَّرُ
تكلّفتُها والليلُ قد جاش بحرهُ، وقد جعلت أمواجهُ تتكسرُ
1 / 88
ومن تحت حضني أبيضٌ ذو سفاسقٍ، ... وفي الكفّ من عسّالةِ الخطّ أسمرُ
هُما صاحباي من لدُن كنتُ يافعًا، ... مُقِيلانِ من جدّ الفتى حين يعثُرُ
فذا جدولٌ في الغمدِ تُسقى به المنى، وذا غُصُنٌ في الكفّ يُجنى فيثُمرُ
فلما انتهيتُ تأملني عُتيبةُ ثم قال: اذهب أجزتُك. وغاب عنّا.
شيطان طرفة
فقال لي زُهير: من تُريدُ بعدُ؟ قلتُ: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عُتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضةٍ شجرُها شجران: سامٌ يفوحُ بهارًا، وشحرٌ يعبق هنديًا وعارًا. فرأينا عينًا معينةً تسيل، ويدُورُ ماءها فلكيًا ولا يحُل. فصاح به زهير: يا عنترُ بن العجلان، حلَّ بك زهيرٌ وصاحبه، فبخَولة، وما قطعت معها من ليلة، إلاَّ ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشح السّيف، واشتمل
1 / 89
عليه كساء خزّ، وبيده خطّيّ، فقال: مرحبًا بكُما! واستنشدني فقلتُ: الزعيمُ أولى بالإنشاد؛ فأنشد:
لِسُعدى بِحِزَّانِ الشُّريف طُلُول ...
حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:
أمِن رسمِ دارٍ بالعقيقِ مُحِيلِ ...
حتى انتهيتُ إلى قولي:
ولما هبطنا الغيثَ تُذعرُ وحشُهُ ... على كل خوَّار العنان أسيلِ
وثارت بناتُ الأعوجيّاتِ بالضُّحى ... أبابِيلَ، من أعطافِ غير وبيلِ
مُسوَّمةً نعتدُّها من خِيارها، ... لِطردِ قنيصٍ، أو لطردِ رعيلِ
إذا ما تغنّى الصَّحبُ فوق متونِها ... ضُحينًا، أجابت تحتهم بصهيلِ
1 / 90
تدُوسُ بها أبكارَ نورٍ كأنّه ... رِداءُ عرُوسٍ أوذنتُ بحليل
رَمينا بها عُرضَ الصُّوارِ فأقعصت ... أغنَّ قتلناهُ بغيرِ قتيلِ
وبادَرَ أصحابي النُّزولَ، فأقبلت ... كراديسُ من غض الشِّواء نشيلِ
نُمسِّحُ بالحوذانِ مِنهُ، ... إذا ما اقتنصنا منه غير قليلِ
فقُلنا لسلقِيها: أدرها سُلافةً ... شمولًا، ومِن عينيك صِرفَ شمولِ
فقالم بكأسيه مُكيعًا لأمرِنا، ... يميلُ به الإدلالُ كلَّ مَميلِ
وشَعشَعَ راحيه، فما زال مائلًا ... برأسِ كريمِ منهُمُ وتليلِ
إلى أن ثناهُم راكدينَ، لما احتسوا، ... خليعينَ من بطش وفضل عُقولِ
نشاوى على الزَّهراء، صرعى كأنهم ... أساكينُ قصرٍ، أو جُذُوعُ نخيلِ
فصاحَ عنترٌ: لله أنت! اذهب مُجازٌ. وغاب عنّا. ثم مِلنا عنه.
1 / 91
شيطان قيس بن الخطيم
فقال لي زهير: إلى من تتُوقُ نفسُك بعدُ من الجاهليّين؟ قلت: كفاني من رأيتُ؛ اصرِف وجه قصدنا أبي تمام. فركضنا ذات اليمين حينًا، ويشتدُّ في إثرِنا فارسٌ كأنه الأسد، على فرسٍ كأنها العُقاب، وهو في عدوه ذلك يُنشد:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ، ... لها نفذٌ، لولا الشعاعُ، أضاءها
فاستربتُ منه، فقال لي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطّارِ صاحبُ قيسِ ابن الخطيم. فاستبى لُبيّ من إنشاده البيت، وازددتُ خوفًا لُجرأته، وأنّنا لم نُعرَّج عليه. فصرف إليه زهيرٌ وجه الأدم، وقال: حيّاك اللهُ أبا الخطّار! فقال: أهكذا يُحادُ عن أبي الخطار، ولا يُخطرُ عليه؟ قال: علمناك صاحب قنص، وخفنا أن نشغلك. فقال لي: أنشدنا يا أشجعي، وأُقسم أنك إن لم تُجد ليكوننَّ يوم شر. فأنشدتُه قولي من قصيدة:
1 / 92
منازلهم تبكي إليكَ عَفاءها ومنها:
خليليَّ عُوجا، باركَ الله فيكُما، ... بدارتِها الأولى نُحيِّ فناءها!
فلم أرَ أسرابًا كأسرابها الدُّمى، ... ولا ذئب مثل قد رعى، ثمَّ شاءها
ولا كضلالٍ كان أهدى لصبوتي، ... ليالي يهديني الغرامُ خِباءها
وما هاجَ هذا الشوقَ إلاَّ حمائِمٌ، ... بكيتُ لها لمّا سمعتُ بُكاءها
عجِبتُ لنفسي كيف مُلكها الهوى، ... وكيف استَفَزَّ الغانِياتُ إباءها؟
ولو أنني أنحتْ عليَّ أكارمٌ؛ ... ترضَّيتُ بالعرضِ الكريمِ جزاءها
ولكنَّ جُرذان الثُّغورِ رمينني، ... فأكرمتُ نفسي أن تُريق دماءها
إليك أبا مروان ألقيتُ رابيًا ... بحاجة نفسِ ما حُربتُ خزاءها
هززتُكَ في نَصري ضُحىً فكأنّني ... هززتُ، وقد جئتُ الجبال، حراءها
نقضتُ عُرى عزم الزَّمانِ، وإن عَتا، ... بعزمةِ نفسٍ لا أريدُ بقاءها
فلما انتهيتُ تبسمَّ وقال: لنعمَ ما تخلّصتَ! اذهب فقد أجزتُك.
1 / 93
صاحب أبي تمام
ثمَّ انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرةٍ غيناء يتفجرُ من أصلِها عينٌ كمقلةٍ حَواء. فصاح زُهير: يا عتابُ بن حبناء، حلَّ بك زُهير وصاحبهُ، فبعمروٍ والقمر الكّالِع، وبالرُّقعةِ المفكوكةِ الطّابع، إلاَّ ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجهِ فتىً كفِلقةِ القمر، ثم اشتقَّ الهواء صاعدًا إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حيّاك الله يا زهير، وحيّا صاحبك! فقلتُ: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التّحسُّنِ باسمِ الشِّعرِ وأنا لا أُحسنُه. فصحتُ: ويلي منه؛ كلامُ مُحدثٍ ورب الكعبة! واستنشدني فلم أُنشده إجلالًا له، ثم أنشدتُه:
أبكيتَ، إذ طَعَنَ الفريقُ، فِراقَها ...
حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:
1 / 94
إنّ امرُؤٌ لعب الزَّمانُ بهمّتي، ... وسُقيتُ من كأس الخُطوبِ دهاقها
وكبوتُ طِرفًا في العُلى، فاستضكتْ ... حُمُرُ الأنامِ، فما تريمُ نُهاقها
وإذا ارتمت نحوي المُنى لأنالها، ... وقف الزَّمانُ لها هُناك فعاقها
وإذا أبو يحيى تأخَّرُ نفسهُ، ... فمتى أُؤمّلُ في الزَّمان لحاقها؟
فلما انتهيتُ قال: أنشدني من رثائك. فأنشدتُه:
أعينَا امرأَ نَزَحَتْ عينُهُ، ... ولا تَعجَبا مِن جُفُونٍ جمادىِ
إذا القلبُ أحرقهُ بثُّهُ، ... فإنَّ المدامِعَ تِلوُ الفُؤادِ
يودُّ الفتى مَنهلًا خاليًا، ... وسعدُ المَنيةِ في كل وادِ
ويصرفُ للكونِ ما في يديهِ، ... وما الكونُ إلاَّ نذيرُ الفسادِ
لقد عثرَ الدَّهرُ بالسابقينَ، ... ولم يُعجِزِ الموت ركضُ الجَوادِ
لعمرُكَ ما ردَّ ريبَ الرّدى ... أرِيبٌ، ولا جاهدٌ باجتِهادِ
سِهامُ المَنايا تُصِيبُ الفتى، ... ولَوْ ضَرَبُوا دُونه بالسِّدادِ
أصَبنَ، على بطشِهِم، جُرهُمًا، ... وأصمينَ، في دارهم، قومَ عادِ
1 / 95
وأقصعنَ كلبًا على عِزِّهِ، ... فما اعتزَّ بالصَّافِناتِ الجِيادِ
إلى أن انتهيتُ فيها إلى قولي:
ولكنّني خانَني مَعشري، ... ورُدتُ يَفاعاَ وبيلَ المَرادِ
وهل ضرب السيفُ من غيرِ كفٍ؟ وهل ثبتَ الرَّأسُ في غيرِ هادِ؟
فقال: زِدني من رثائك وتحريضك، فأنشدتُه:
أفي كلّ عامٍ مصرعٌ لعظيمِ؟ ... أصابَ المَنايا حادثي وقديمي
هوى قمرًا قيس بن عيلانَ آنفًا، ... وأوحشَ مِن كلبٍ مكانُ زعِيم
فكيف لِقائي الحادِثاتِ إذا سطتْ، ... وقد فُلَّ سيفي منهُمُ وعَزيمي؟
وكيف اهتدائي في الخطُوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوءَ نُجُومِ؟
مضى السَّلفُ الوضَّاحُ إلا بقيةً، ... كغُرَّةِ مُسودِّ القميصِ بهيمِ
1 / 96
ومنها:
رَمَيتُ بها الآفاقَ عنّي غريبةً، ... نتيجةَ خفاقِ الضُّلوعِ كظيمِ
لأُبدي إلى أهل الحجى مِن بواطني، ... وأُدلي بعُدرٍ في ظواهر لُومِ
أنا السّيفُ لم تتعبْ به كفُّ ضاربٍ، ... صرومٌ إذا صادفتُ كفَّ صرُومِ
سعيتُ بأحرارِ الرّجالِ، فخانني ... رجالٌ، ولم أُنجَدْ بِجِدِّ عظيمِ
وضيعني الأملاكُ بدءًا وعودةً، ... فضعتُ بدارٍ منهُمُ وحَريمِ
فقال: إن كنتَ ولا بُدَّ قائلًا، فإذا دعتك نفسكُ إلى القولِ فلا تكُدَّ قريحتك، فإذا أكملتَ فجمامُ ثلاثة لا أقلَّ. ونقّحْ بعدَ ذلك، وتذكّرْ قوله:
وجَشَّمَني خوفُ ابنِ عَفّانَ رَدَّها، ... فثقفتُها حولًا كريتًا ومربَعا
وقد كان في نفسي عليها زيادةٌ، ... فلم أرَ إلاَّ أن أُطيعَ وأسمَعا
وما أنتَ إلاَّ مُحسِنٌ على إساءةِ زمانكَ. فقبلتُ على رأسه، وغاصَ في العَين.
1 / 97
صاحب البحتري
ثم قال لي زُهير: من تُريد بعده؟ قلتُ: صاحب أبي نُواس؛ قال: هو بدَيرِ حنّة منذُ أشهر، قد علبت عليه الخمر، ودّيرُ حنّة في ذلك الجَبل. وعرضه عليَّ، فإذا بيننا وبينه فراسخ. فركضنا ساعةً وجُزنا في ركضِنا بقصرٍ عظيمٍ قُدَّامه ناوردٌ يتطاردُ فيه فُرسان، فقُلتُ: لمَن هذا القصرُ يا زُهير؟ قال: لطوقِ بن مالك؛ وأبُو الطَّبعِ صاحبُ البُحتُريّ في ذلك النَّاورد، فهل لكَ في أن تراه؟ قلتُ: ألفُ أجلْ، إنه لمن أساتيذي،، وقد كُنتُ أُنسِيتُه. فصاح: يا أبا الطَّبعِ! فخرج فتىً على فرسٍ أشعل، وبيده قناة، فقال له زُهير: إنك مؤتمُّنا؛ فقال: لا، صاحُبك أشمخُ مارِنًا من ذلك، لولا أنه ينقصُه. قلتُ: أبا الطَّبعِ على رِسلِك، إنَّ الرّجالَ لا تُكالُ بالقُفزان. أنشدنا من شعرك. فأنشد:
1 / 98
ما على الرَّكبِ من وُقوفِ الرَّكابِ ...
حتى أكملها، ثم قال: هاتِ إن كنتَ قُلتَ شيئًا. فأنشدتُه:
هذِهِ دارُ زينَبٍ والرَّبابِ ...
حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:
وارتكَضنا حتى مضى الليلُ يَسعى، ... وأتى الصبحُ قاطعَ الأسبابِ
فكأنّ النجوم في الليل جيشٌ ... دخلوا للكُمُون في جوف غابِ
وكأن الصباح قانصُ طيرٍ ... قبضتْ كفّه برجْلِ غُرابِ
وفُتوٍّ سَرَوا وقد عكف اللي ... ل وأرخى مُغْدَودِن الأطنابِ
وكأنّ النجومَ لمّا هدَتهُم ... أشرقَت للعيون من آدابِ
يتَقَرَّوْن جَوزَ كلّ فَلاةٍ، ... جُنْح ليلٍ، جَوزاؤه من ركابي
عَنَّ ذِكري لمُدلِحيهم، فتاهوا ... من حديثي في عُرض أمرٍ عُجابِ
همّةٌ في السماء تسحب ذيلًا، ... من ذيول العُلى، وَجَدٌّ كابِ
1 / 99
ولو أن الدنيا كرينةُ نَجرٍ، ... لم تكن طُعمةً لفَرْس الكِلابِ
جيفةٌ أنتنتْ فطار إليها، ... من بني دهرها، فراخ الذبابِ
ومنها:
من شُهيدٍ في سرّها، ثم من أش ... جَعَ في السرّ من لُباب اللبابِ
خُطباءُ الأنام، إن عَنَّ خَطْبٌ، ... وأعاريبُ في مُتون عِرابِ
حتى أكملتُها. فكأنما غشّى وجهَ أبي الطبع قطعةٌ من الليل. وكرّ راجعًا إلى ناوَرْدِه دون أن يُسلّم. فصاح به زهير: أأجَزْتَه؟ قال: أجَزْتُه، لا بورِك فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر!
صاحب أبي نواس
فضربَ زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قَنَنه، وسِرنا حتى انتهينا إلى أصل جَبل دير حَنّة، فشقّ سَمعي قرْع النواقيس، فصِحْتُ: من منازل أبي نواس، وربِّ الكعبة العَلياء! وسِرنا نجتاب أديارًا وكنائس
1 / 100
وحانات، حتى انتهينا إلى ديرٍ عظيمٍ تَعبق روائحه، وتَصوكُ نوافِحه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلامٌ على أهل دير حَنّة! فقلتُ لزهير: أوَهل صِرنا بذات الأُكَيراج؟ قال: نعم. وأقبلتْ نحونا الرَّهابين، مُشدّدة بالزنانير، قد قبضتْ على العَكاكيز، بِيضَ الحواجب واللحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مُكثِرين للتسبيح، عليهم هَدْيُ المسيح. فقالوا: أهلًا بكَ يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بُغيتُك؟ قال: حسين الدِّنان. قالوا: إنه لفي شُرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نُراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيتٍ قد اصطفّت دِنانه، وعكفتْ غِزلانُه، وفي فُرجته شيخٌ طويل الوجه والسَّبَلة، قد افترش أضغاث زَهر، واتّكأ على زِقّ خمر، وبيده طَرْجهارة، وحواليه صِبيةٌ كأظْبٍ تَعطو إلى عَرارة. فصاح به زهير: حيّاك الله أبا اٌلإحسان! فجاوب بجوابٍ لا يُعقل لغَلبة الخمر عليه. فقال لي زهير: اقرعْ أُذُن
1 / 101
نشوته بإحدى خَمريّاتك، فإنه ربما تنبّه لبعض ذلك. فصِحْتُ أُنشد من كلمةٍ لي طويلة:
ولرُبَّ حانٍ قد أدرتُ بديره ... خَمْر الصِّبا مُزجَتْ بصَفْو خُمورهِ
في فِتيةٍ جعلوا الزِّقاق تِكاءَهم، ... مُتصاغِرين تخشُّعًا لكبيرهِ
والى عليَّ بطَرْفه وبكفّه، ... فأمال مِنْ رأسي لِعَبِّ كبيرهِ
وترنَّم الناقوس عند صَلاتهم، ... ففتحْتُ من عيني لرجع هَديرهِ
يُهدي إلينا الراحَ كلُّ مُعصفَري، ... كالخِشف خَفَّره التِماحُ خَفيرهِ
فصاح من حبائل نشوته: أأشجعيّ؟ قلتُ: أنا ذاك! فاستدعى ماء قرّاحًا، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إليَّ من حال. فأدركتْني مَهابته، وأخذتُ في إجلاله لمكانه من العِلم والشعر. فقال لي: أنشِد، أو حتى أُنشدَك؟ فقلت: إنّ ذلك لأشدّ لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمُحسنٍ إحسانٌ. فأنشد:
يا دير حَنّة من ذات الأكَيراح، ... من يَصحُ عنكَ فأني لستُ بالصاحي
1 / 102