بحثت في الصلات التي تصل بين مزاج الأمة النفسي ونظمها ومعتقداتها ولغتها فاقتصرت على بيانات موجزة في ذلك؛ وذلك لما يتطلبه إيضاح مثل هذه الموضوعات من مجلدات.
وأهون من ذلك أن نأتي بشرح بين للفنون، وأما النظام أو المعتقد فأمر مشكوك في تعريفه، ذو غموض في تفسيره، ولا بد من أن يبحث في الحقائق المتغيرة في كل دور والمستترة وراء التعابير الميتة، وأن يؤتى بعمل مضن من البرهنة والنقد، وصولا إلى نتائج مختلف فيها من حيث النتيجة.
وبالعكس ترى الآثار الفنية، ولا سيما المباني، بينة الحد سهلة التفسير، والكتب الحجرية هي أوضح الكتب، وهي التي لا تكذب مطلقا، وهي التي خصصت لها مكانا فائقا في كتبي عن تاريخ حضارات الشرق لهذا السبب، ولقد كنت شديد الحذر من الوثائق الأدبية لما تنطوي عليه من تضليل في الغالب ومن فائدة في النادر، والمباني لا تخدع أبدا، وهي تعلم دائما، والمباني هي التي تحفظ أحسن من سواها فكر الأمم الغابرة، ومما يرثى له عمى قلوب المتخصصين الذين لا يبحثون في المباني عن غير الكتابات.
والآن لندرس، إذن، كيف تعبر الفنون عن مزاج الأمة النفسي، وكيف تتحول بانتقالها من حضارة إلى أخرى.
وسأقتصر في هذا البحث على الفنون الشرقية وحدها؛ وذلك لأن بيان تطور الفنون لدى مختلف العروق يتطلب دخولا في جزئيات لا يحتملها صدر هذا الكتاب، وإن كان تكوين الفنون الأوربية وتحولها خاضعين لسنن واحدة.
ولنبدأ بفنون مصر لنبصر الحال التي كانت عليها بانتقالها انتقالا متتابعا إلى عروق ثلاثة مختلفة؛ وهي: زنوج إثيوبية، والأغارقة، والفرس.
لا ترى بين الحضارات التي ازدهرت على وجه الأرض حضارة كالحضارة المصرية عبر عنها بفنونها، وقد بلغ تعبير فنون تلك الحضارة عنها من القوة والوضوح ما لم تستطع معه المثل الفنية التي ظهرت على ضفاف النيل غير ملاءمة تلك الحضارة وما لم تنتحلها الأمم الأخرى معه إلا بعد خضوعها لتحولات عظيمة.
خرجت الفنون المصرية، ولا سيما فن البناء المصري، من مثل عال خاص ظل شغل الأمة الدائم خمسين قرنا، وكانت مصر تحلم بأن تبتدع للإنسان مسكنا خالدا تجاه حياته الفانية، واحتقر العرق المصري الحياة وتملق الموت، وكان أول ما يبالي به هذا العرق هو تلك الموميا الصامتة التي تتأمل تأملا أبديا بعينيها المينائيتين المرصعتين في وجهها الذهبي، وذلك من أعماق منزلها الأسود، تلك الخطوط الهيروغليفية الحافلة بالأسرار، وهذه الموميا، وهي في حمى من كل تدنيس في منزلها المأتمي الواسع كالقصر، كانت تجد كل ما يفتنها في حياتها الدنيوية القصيرة مصورا ومنقوشا على جدر الدهاليز التي لا نهاية لها.
وفن البناء المصري هو، على الخصوص، فن بناء مأتمي وديني غايته الموميا والآلهة، وفي سبيل الموميا والآلهة كانت تنحت السراديب وترفع المسلات والأساطين والأهرام، وفي سبيل الموميا كانت تقام التماثيل الكبيرة المفكرة على عروشها الحجرية فتعلوها سيما الحلم والجلال.
وكل شيء في ذلك الفن المعماري ثابت متين ما دام الخلود غايته، ولو كان المصريون الأمة الوحيدة التي عرفناها من أمم القرون القديمة لأمكننا أن نقول إن الفن هو بالحقيقة أصدق دليل على روح العرق الذي أوجده.
نامعلوم صفحہ