ومن المستحيل، أيضا، أن نصنف هذه العناصر تصنيفا مرتبا؛ وذلك لأن أهمية هذه العناصر إذ كانت تختلف باختلاف الأدوار فإن التصنيف يختلف بين قرن وقرن.
وإذا ما قدرت عناصر الحضارة المختلفة من حيث المنفعة الصرفة أمكننا أن نقول إن أهم عناصر الحضارة هو الذي يؤدي إلى تعبيد أمة للأمم الأخرى؛ أي إن أهم عناصر الحضارة هو النظام الحربي، ولكنه يجب إذ ذاك أن نضع مرتبة الأغارقة المتفننين والفلاسفة والأدباء تحت كتائب رومة الشديدة الوطأة، وأن نضع مرتبة المصريين الحكماء والعلماء تحت شباه البرابرة الفرس، وأن نضع مرتبة الهندوس تحت أنصاف البرابرة المغول.
ولا يكترث التاريخ لتلك التقسيمات أبدا، ولا يخر التاريخ راكعا إلا أمام المزية الحربية وحدها، غير أن المزية الحربية لا تصاحب مزية مقابلة لها في عناصر الحضارة الأخرى إلا نادرا، أو أنها لا تدع هذه المزية بجانبها لطويل زمن، ومن المؤسف أن كانت المزية الحربية لا تضعف لدى أمة من غير أن يقضى على هذه الأمة بالزوال في أقرب وقت، والأمم حينما تصل إلى ذروة حضارتها تترك مكانها، دائما، لمن هم دونها ذكاء من البرابرة، ولكن مع حيازة هؤلاء البرابرة لما تؤدي الحضارات الرفيعة إلى تقويضه من بعض الصفات الخلقية والقيمة الحربية.
إذن، لا بد من الانتهاء إلى النتيجة المحزنة القائلة إن ما في الحضارات من العناصر الدنيا فلسفيا هو أهم العناصر اجتماعيا، وإذا كانت سنن الماضي سننا للمستقبل أمكننا أن نقول إن أسوأ حال تصاب بها أمة هو أن تبلغ هذه الأمة درجة عالية من الذكاء والثقافة، فالأمم تهلك عندما تأخذ الصفات الخلقية التي هي لحمة روحها في الفساد، وهذه الصفات تفسد عندما تسمو حضارة هذه الأمة وذكاؤها.
الفصل الثاني
كيف تتحول النظم والديانات واللغات
بينا في مكان آخر أنه يستحيل على العروق العليا أن تفرض حضارتها على العروق المتأخرة أو تحمل هذه العروق على اعتناق تلك الحضارة، ونحن حينما تناولنا أقوى ما لدى الأوربيين من وسائل التأثير، كالتربية والنظم والمعتقدات، أثبتنا عدم كفاية هذه الوسائل لتغيير الحال الاجتماعية في الأمم المتأخرة، ومما حاولنا صنعه هو بياننا أن جميع عناصر إحدى الحضارات تلائم مزاجا نفسيا معينا نشأ عن وراثة طويلة فغدا من المتعذر تغيير هذه العناصر من غير أن يغير المزاج النفسي الذي تشتق منه، والقرون وحدها، لا الفاتحون، هي التي تستطيع إنجاز مثل هذا العمل. ومما بيناه أيضا أن إحدى الأمم تصعد في سلم الحضارة ببطء وعلى سلسلة من المراحل كالتي جاوزها هادمو الحضارة اليونانية الرومانية من البرابرة، ومن يحاول بالتربية أن يجنب الأمة هذه المراحل فإنما يربك مزاجها النفسي ويسوقها في نهاية الأمر إلى مستوى أدنى من المستوى الذي كانت تصل إليه لو تركت وشأنها.
وهذه البرهنة التي تطبق على العروق الدنيا تطبق على العروق العليا أيضا، وإذا كانت المبادئ المعروضة في هذا الكتاب صحيحة علمنا أن العروق العليا لا تستطيع كذلك أن تحول حضارتها بغتة، بل لا بد من مرور زمن طويل ومجاوزة مراحل كثيرة لبلوغ ذلك، وإذا ما ظهر اعتناق أمم عالية في بعض الأحيان لمعتقدات ونظم ولغات وفنون تختلف عما عند أجدادها لم يكن ذلك بالحقيقة إلا بعد تحويل هذه العناصر تحويلا بطيئا عميقا ملائما لمزاج تلك الأمم النفسي.
ويلوح أن التاريخ في كل صفحة من صفحاته يناقض ما عرضناه آنفا، وما أكثر ما ترى في التاريخ من أمم تغير عناصر حضارتها وتعتنق أديانا جديدة وتنتحل لغات جديدة وتتخذ نظما جديدة، وفي التاريخ أمم تترك معتقداتها المتأصلة لتعتنق النصرانية أو البدهية (البوذية) أو الإسلام، وفي التاريخ أمم تغير نظمها وفنونها تغييرا أساسيا، وفي التاريخ يبدو أن فاتحا أو رسولا أو هوسا يكفي لإتيان مثل تلك التحويلات بسهولة.
غير أن التاريخ حينما يعرض علينا قصة تلك الثورة المفاجئة لا يصنع سوى إنجاز عمل من أعماله المعتادة، وهو اختلاق الأغاليط ونشرها، ونحن حينما ندرس تلك التحولات عن كثب لا نعتم أن نرى أن أسماء الأشياء هي التي تتغير، على حين نبصر أن الحقائق التي تستتر خلف الألفاظ تداوم على الحياة ولا تتحول إلا بأقصى البطوء.
نامعلوم صفحہ