وإني، حين درست في أحد فصول هذا الكتاب أمر انتشار الأفكار وتأثيرها في حياة الأمم، بينت كيف أن الفكر لا يعتم أن يكون ذا سلطان على طبقات الأمة العميقة فيغدو كالسيل المنهمر بعد أن يلازم المنطقة النظرية المتحولة للرأي الصرف، وهنالك لا يستطيع الزعماء الذين أبدوه أن يسدوا مجراه، والزعماء هم الذين يأتون بناحية الفكر المجردة، والجماعة هي التي تحول الفكر إلى أعمال.
وبذلك الجهاز قام اعتقاد ألمانية الحديثة بأفضليتها كما قامت عبادتها للقوة، وما انفكت كتيبة من الأساتذة والفلاسفة والكتاب والجمعيات الوطنية تنشر في ألمانية مثل الصدارة الأعلى والتعطش إلى الفتح منذ خمسين سنة.
وببطء، ولكن مع قوة، نفذت تلك النظريات في روح الشعب الألماني فلم تنشب أن صارت من العقائد ذات المسحة الدينية، وما فتئت ألمانية تبدو قانعة بأن الله دعاها إلى تجديد العالم واستغلاله.
نما ذلك المعتقد، واتفق له من القدرة ما شهر الإمبرطور به الحرب في زمن لو نظر فيه إلى أن أسطوله أدنى من أسطول إنكلترة لرأى عدم استعداده لها، ولوجد أن الانتظار خير من الإقدام عليها لا ريب. •••
وأظهرت الحوادث الحاضرة صواب كثير من المبادئ الأخرى المعروضة في هذا الكتاب؛ ومن ذلك أنني حين درست ما تم في القرون القديمة من مختلف الفتوح، ولا سيما فتح الرومان لبلاد اليونان، سألت عن استطاعة بعض الملكات المتوسطة، إذا ما تصرف فيه مثل عال قوي، أن يمنح إحدى الأمم قدرة على تقويض حضارات رفيعة عندما يكون نمو هذه الحضارات الذهني قد أبطل صفات الخلق.
والمستقبل سيخبرنا بقدرة ألمانية على تحقيق تلك السنة التاريخية التي وردها كثير من البلدان القديمة كمصر وفارس واليونان وإيطالية، إلخ.
أجل، إنك لا تجد خلفاء للعظماء الذين شرفت بهم ألمانية فيما مضى، بيد أن ألمانية علمت نظام المراتب، وأنها عرفت أن تنتفع بجميع قواها مهما صغرت، وأنها استطاعت بفضل نظامها الحربي الشديد أن تجعل من نقع أبنائها المتوسطين كتلة هائلة مهددة لسلم العالم.
وفي المستقبل ستكون معضلة الحياة لدى الأمم ذات الحضارات الرفيعة أن تنضد فوق ثقافتها الذهنية تربية للخلق صارمة وتدريبا للإرادة على الخصوص، تينك القوتين القادرتين على ضمان استقلال الأمم.
ومما قلته غير مرة في هذا الكتاب، وفي كتب لاحقة أخرى، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلم السير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح. •••
ومن ركام خفي موروث تتكون صفات الخلق التي يتألف من مجموعها ما للأمة من روح قومية، ومن هذه الصفات تتركب مجموعة ثابتة من المشاعر والتقاليد والمعتقدات مشترعة في غضون الأجيال لضرورات تخضع لها حياة كل أمة.
نامعلوم صفحہ