لوحة بحياة جوته وعصره
مقدمة المترجم
ملحوظة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
لوحة بحياة جوته وعصره
مقدمة المترجم
ملحوظة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تاسو
تاسو
تأليف
يوهان فولفجانج جوته
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
لوحة بحياة جوته وعصره
1748م (20-8)
المستشار القيصري، يوهان كاسبار جوته يتزوج في سن الثامنة والثلاثين في مدينة فرانكفورت على نهر الماين من كاتارينا إليزابيث تكستور.
1749م (28-8)
يوهان فولفجانج جوته يولد في فرانكفورت، أكبر المدن الألمانية بعد برلين وهامبورج ومن أهم مراكز التجارة فيها.
1750م
ولادة شقيقته كورنيليا (ماتت في سنة 1770م). وفاة الموسيقي العظيم «يوهان سباستيان باخ» (ولد في سنة 1685م). الكاتب والفيلسوف الفرنسي الكبير «فولتير» (1694-1778م) يزور برلين.
1751م
بدء ظهور «الإنسيكلوبيديا» الفرنسية بإشراف «ديدرو» (1713-1784م) و«دلامبير» (1717-1783م).
1755م
ميلاد «فيليب زايدل»، سكرتير جوته وصديقه الوفي (مات سنة 1820م). وفاة الكاتب والفيلسوف الفرنسي «مونتسكيو» (ولد 1689م). «مس سارا سامبسون» أول تراجيديا برجوازية ألمانية «لليسنج» تمثل على المسرح لأول مرة.
1756م
جوته يكتب أولى قصائد شبابه.
نشوب حرب السنوات السبع (التي استمرت حتى سنة 1763م) بين «فريدريش الثاني» ملك بروسيا وبين النمسا وفرنسا وروسيا والسويد والدولة الألمانية.
المعرض الصناعي الأول يقام في لندن. إعدام فتاة صغيرة في لاندزهوت (بافاريا) لاتهامها بمراهنة الشيطان، وهي آخر ضحايا إحراق السحرة على يد المسيحيين المتعصبين.
1757م
ميلاد «كارل أوجست» أمير فيمار وصديق جوته وراعيه (مات في سنة 1828م). بداية الاستعمار الإنجليزي للهند.
1759م (10-11)
ميلاد الشاعر الكبير «فريدريش شيلر» (في مدينة مارباخ بمقاطعة فيرتمبورج) صديق جوته الحميم وزميله في الكفاح لتأسيس الأدب لألماني الجديد (مات سنة 1805م).
وفاة الموسيقار الكبير «هاندل». ظهور «الرسائل الأدبية» ل «ليسنج»، و«كانديد أو التفاؤل» ل «فولتير»
1761م
ظهور رواية «هيلوييز الجديدة» ل «جان جاك روسو».
1762م
ظهور ترجمة «فيلاند» (1733-1813م) النثرية لمسرحيات شكسبير، التي تتم في سنة 1766م.
ظهور «إميل» و«العقد الاجتماعي» لروسو.
تمثيل أوبرا «أورفيوس وأويريديكه» لجلوك (1714-1787م ) لأول مرة.
1763م
السيادة البريطانية على أمريكا الشمالية. «جيمزوات» الإنجليزي يخترع الآلة البخارية، كما يخترع النساج الإنجليزي «جيمز هارجريفز» آلة الغزل اليدوية. معرض الكتب الأول في «ليبزج».
1765-1768م
جوته يدرس في جامعة «ليبزج». صداقته ل «بيريش» ول «كاتشن شون كويف»، ومشاهدته للعرض الأول لمسرحية ليسنج «مينافون بارنهيلم». يكتب مسرحية الرعوية الصغيرة نزوج العاشق.
1765م
ظهور كتاب «ليسنج» المهم في تاريخ النقد الأدبي «لا آكون أو الحدود بين الرسم والشعر».
وفاة «جوتشيد»، وهو من أهم كتاب عصر التنوير في ألمانيا وأكبر النقاد الداعين إلى ربط الأدب الإنجليزي بالأدب الفرنسي والاقتداء به.
1768م
مرض «جوته» وعودته إلى «فرانكفورت».
قراءة مستفيضة للأديبين الألمانيين المعاصرين له «فيلاند» و«كلوبشتوك» ول «شكسبير» وفيلسوف عصر النهضة وطبيبها وعالمها المشهور «باراسيلزوس». عالم الآثار ومؤرخ الفن «فنكلمان»، أحد رواد الحركة الأدبية الكلاسيكية يموت مقتولا في تريستا. حزن جوته عليه.
ظهور كتاب الفيلسوف العالم المؤرخ «هيردر» - صديق جوته وصاحب الأفضال عليه في شبابه - «مذكرات رحلتي في سنة 1769م من ريحا إلى نانتس» الذي يعلن قيام الحركة الأدبية المعروفة بحركة العاصفة والاندفاع.
1770-1771م
جوته يواصل دراسة القانون في «شتراسبورج» ويحصل على «الليسانس». يتعرف على «هيردر» و«لنس» (من أهم أدباء حركة العاصفة والاندفاع). يتأثر بمشاهدته لكاتدرائية المدينة (المونستر). حبه ل «فردريكه بريون» ابنة قسيس «زيزنهيم».
1770م «ليسنج» يذهب إلى مدينة «فولفنبوتل»، حيث يعمل أمينا لمكتبتها.
1771م «جوته» يعود إلى «فرانكفورت» ويلقي خطبته المشهورة في الاحتفال بذكرى «شكسبير» التي يقول فيها إن الشاعر الإنجليزي الأكبر هو الذي أيقظه من سباته وإنه بدأ حياته الأدبية بعد قراءته له، يكتب مسرحيته «جوتزفون برلشنجن» في صورتها الأولى.
ظهور مسرحية «إميليا جالوتي» ل «ليسنج»
1772م
يذهب في شهر مايو إلى «فتسلار» ليتدرب على أعمال المحاماة ويقع في غرام «شارلوته بوف» التي كانت مخطوبة في ذلك الحين. يعود في شهر سبتمبر إلى «فرانكفورت» ويسمع بخبر انتحار العاشق اليائس «جيروزاليم» الذي سيدفعه إلى كتابه «فرتر».
تأليف اتحاد من المعجبين بالشاعر الكبير «كلويشتوك» من طلبة جامعة «جوتنجن» وأدبائها ينادي بمحاربة الذوق الفرنسي وتجديد الأدب الألماني.
1773م
ظهور مسرحية «جوتزفون برلشنجن» التي تلفت إليه الأنظار.
ظهور مقالة عن «فن البناء الألماني» وبداية العمل في الكتابة الأولى من «فاوست» وهي المعروفة ب «فاوست الأولى» أو «أصل فاوست». «لنس» ينشر مسرحيته «المعلم».
1774م
يتعرف على فيلسوف الأديان «لافاتر» (1741-1801م) الذي سيصبح من أعز أصدقائه، وعلى «كارل أوجوست» الذي سيصبح أميرا ل «فيمار» وراعيا وصديقا ل «جوته».
ظهور مسرحية «كلافيجو» ورواية «أحزان فرتر» ونجاحهما نجاحا هائلا في داخل البلاد وخارجها. «كلويشتوك» (1724-1803م) يتم ملحمته الشعرية الكبرى «المسياس».
1775م
حبه ل «ليلى شونمان». رحلته الأولى إلى سويسرا. ينتهي من مسرحية «ستلا» ويبدأ في «إجمونت». «كارل أوجوست» يتولى إمارة فيمار.
بداية حرب الاستقلال الأمريكية التي ستستمر إلى عام 1783م - دون مقاطعة «هسن» في ألمانيا يبيع للإنجليز 12800 من رعاياه للاشتراك في الحرب الدائرة في شمال أمريكا.
1775م (10-3) «جوته» يسافر إلى فيمار. صداقته ل «كارل أوجوست». توجيه الدعوة إلى «هيردر».
1776م
حبه ل «شارلوته فون شتاين».
كتابة مسرحيته القصيرة «الأخوان». وصول هيردر.
بداية الصناعة البخارية في إنجلترا.
الولايات الأمريكية الثلاث عشرة تعلن استقلالها عن إنجلترا. «كلينجر» (1752-1831م) ينشر مسرحيته «العاصفة والاندفاع» التي سميت الحركة الأدبية المعروفة باسمها.
1777م
وفاة شقيقته «كورنيليا». رحلته إلى منطقة جبال الهارس.
بداية العمل في روايته الكبرى «فيلهلم ميستر».
1778م
سفره إلى برلين. ظهور أشعار جوتفريد أوجوست بورجر التي تلقى هجوما شديدا من شيلر. ظهور مسرحية «ليسنج» «ناتان الحكيم».
1779م
يعين مستشارا، يبدأ في كتابة مسرحيته «إفجينيا»، ويقوم برحلته الثانية إلى سويسرا، كما يبدأ في كتابة مسرحيته «تاسو».
1780م
ينغمس في دراسة العلوم الطبيعية والتشريح والعظام. وفاة «ليسنج». ظهور كتاب «كانت» (1724-1804م). «نقد العقل الخالص»، وترجمة «فوس» (1751-1826م) «للأويسة».
1781م
يرقى إلى طبقة النبلاء. وفاة أبيه. عرض مسرحية «شيلر» الأولى «اللصوص» على مسرح مدينة «مانهايم» وهروبه إليها من «شتوتجارت».
1784م
يكتشف عظمة الفكين في الإنسان.
1785م
تركيب أول آلة بخارية في ألمانيا. زيارة جوته ل «كارلزباد» وتوقيعه عقدا لنشر أعماله الكاملة.
1786م
يقوم برحلته المشهورة إلى إيطاليا.
1787م
ظهور «إفيجينيا».
1788م
العودة إلى فيمار. الانتهاء من مسرحية «أجمونت». حبه ل «لكرستينه فولبيوس»، وكانت عاملة بسيطة في أحد مصانع الزهور، وحياته معها. آخر حوادث حرق الملحدين في إسبانيا.
1789م
ميلاد ابنه الوحيد «أوجست» (مات سنة 1830م). كتابة قصائده «مراثي روما» والانتهاء من مسرحية «تاسو». التعرف على الفيلسوف والعالم اللغوي الإنساني الكبير «فلهلم فون همبولت» (1767-1835م). اندلاع الثورة الفرنسية (الهجوم على سجن الباستيل في 14 من يوليو) وإعلان حقوق الإنسان. إعلان دستور الولايات المتحدة وتعيين «جورج واشنجطون» أول رئيس لها (1732-1799م).
اختراع القسيس الإنجليزي «كارتريت» المغزل الميكانيكي. أزمة الصناعات اليدوية.
1790م
رحلة جوته الثانية إلى إيطاليا. دراسات في البصريات. ظهور الجزء الذي تم من فاوست. وفاة «آدم سميث»، أكبر الاقتصاديين الكلاسيكيين في إنجلترا.
1791-1816م «جوته» يشرف على مسرح بلاط فيمار، ويسهم في التمثيل وتدريب الممثلين واختيار النصوص. وفاة «كريستيان دانييل فريدريش شوبارت» أحد شعراء حركة العاصفة والاندفاع، ومن أهم المكافحين في سبيل العدالة والديمقراطية. عرض أوبرا «الناي السحري» ل «موزارت» (1756-1791م) لأول مرة على المسرح، وقد أحبها جوته وأعجب بها كثيرا.
1792-1793م
كتابة الملحمة الشعرية «رينيكه فوكس» على لسان الحيوان.
1792م
إعلان الجمهورية في فرنسا وتشكيل الجمعية الوطنية.
شيلر وكلويشتوك مواطنا شرف للجمهورية الفرنسية.
1793م
ميلاد «يوهان بيتر إكرمان» المشهور بأحاديثه الرائعة مع جوته.
إعدام «لويس السادس عشر» في فرنسا، واستيلاء اليعاقبة على السلطة. ثورة عمال الغزل في إنجلترا.
1794م
الحديث الأول بين جوته وشيلر وبداية الصداقة والمراسلات المهمة بينهما. نهاية دكتاتورية اليعاقبة في فرنسا، وبداية الحركات المضادة للثورة.
1795-1797م
شيلر يصدر مجلة «الهورن» التي يشارك جوته بالتحرير فيها. ظهور رواية رواية «فيلهلم ميستر»؛ «سنوات التعلم».
نشر «الأكزين» وهي مقطوعات شعرية تهكمية على رجال العصر بالاشتراك مع شيلر. ظهور كتاب «كانت» عن السلام الدائم ورسائل «شيلر» عن التربية الجمالية للإنسان.
1797م
يكتب قصائده القصصية «البالادز». ويصدر ملحمته الشعرية «هرمان ودوروثيا». ويقوم برحلته الثالثة إلى سويسرا. ظهور رواية «هولدرلين» (1770-1843م) «هيبرريون أو الناسك في بلاد الإغريق ».
1798-1799م
بداية مراسلاته مع «تسلتر». «نابليون» يقوم بانقلاب في فرنسا.
1798-1800م
انشغال «جوته» ببحوثه في نظرية الألوان ومشاركته في تحرير «البروبيلان». عرض ثلاثية «شيلر» المسرحية الكبرى «فالنشتين». «أوجست فيلهلم شليجل»، (1767-1845م) وشقيقه «فريدريش شليجل» (1773-1829م) يصدران مجلة «أثينايوم» التي ستنطق بلسان الحركة الرومانتيكية المبكرة.
1800م «نوفاليس» (1772-1801م) ينشر فيها «أناشيد إلى الليل»، بعد وفاة خطيبته. ظهور رواية جان باول (1763-1825م) «تيتان».
1802م
ظهور مسرحية جوته «الابنة الطبيعية».
1804م «نابليون» يتوج نفسه امبراطورا. وفاة «شيلر» في «فيمار » في اليوم التاسع من مايو. نابليون يهزم جيوش النمسا وروسيا في «أوسترلتز»، و«نيلسون» يهزم الأسطول الفرنسي في «الطرف الأغر».
1806م
الانتهاء من القسم الأول من «فاوست» وظهورها في سنة 1808م. القوات الفرنسية تحتل فيمار وتنهبها. جوته يتزوج رسميا من «كريستينة فولبيوس» في 19 من أكتوبر بعد موقفها الشجاع في الدفاع عنه من اعتداء الفرنسيين. جوته يتابع دراسة نظريته في الألوان وينصرف إلى أبحاثه في الجيولوجيا والمورفولوجيا. «لودفيج أرنيم» (1781-1831م) و«كليمنس برنتانو» (1778-1842م) يصدران مجموعة من الأغاني الشعبية الألمانية بعنوان «بوق الصبي المسحور»، ويهديان الجزء الأول منها إلى جوته. انهيار بروسيا بعد هزيمتها في معركتي «بينا» و«أورشتيت». الفرنسيون يحتلون «برلين». نهاية «الدولة الرومانية المقدسة للأمة الألمانية» وخلع «فرانز الثاني» تاج الإمبراطورية. تكوين اتحاد الراين تحت وصاية «نابليون» لفرض حصار أوروبي على البضائع الإنجليزية.
1807-1808م
جوته يحب «ميناهيرسليب». «هيجل» (1755-1831م) يصدر كتابه «ظاهريات الروح».
1808م
وفاة والدة جوته. يقابل نابليون في الثاني من أكتوبر، ظهور مسرحية «باندورا». مسرحية «كلايست» (1777-1811م). «الجرة المهشمة» تعرض على مسرح فيمار تحت إشراف جوته. ثورة الشعب الإسباني ضد نابليون. ظهور خطابات «فشته» (1762-1804م) إلى الأمة الألمانية.
1809م
جوته ينتهي من روايته «الأنساب المختارة».
1810م
صدور نظرية الألوان. تأسيس جامعة برلين.
1811-1812م
ظهور الجزأين الأول والثاني من مذكرات حياة جوته «من حياتي، شعر وحقيقة».
1812م
في «كارلزباد» و«تيليتس». مقالته ل «بيتهوفن». حملة «نابليون» على روسيا وهزيمته. الأخوان «يعقوب» و «فيلهلم جريم» يصدران مجموعة حكايات الأطفال الشعبية التي قاما بجمعها من مختلف البلاد الألمانية.
1813م
الثورة الألمانية ضد «نابليون». هزيمته في معركة «الشعوب» قريبا من «ليبزج»، وحل اتحاد الراين.
1814م
يواصل العمل في الجزأين الثالث والرابع من ذكريات حياته ويكتب أولى «قصائد الديوان الشرقي». بداية مؤتمر «فيينا» الذي يحتفل بالانتصار على نابليون ويعده انتصارا على الثورة الفرنسية. عودة أسرة «البوربون» (لويس الثامن عشر) إلى الحكم في فرنسا ومحاكم التفتيش في إسبانيا.
1814-1815م
رحلات على نهري الراين والماين. حب «ماريانة فيليمر». «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي».
1815م
ظهور رواية «أيشندورف» (1788-1857م) الإحساس والحاضر. عودة نابليون من منفاه في جزيرة ألبا وهزيمته ونفيه إلى «سانت هيلينة». تأسيس الاتحاد الألماني من 34 مملكة مستقلة وأربع مدن حرة. حكام روسيا والنمسا وبروسيا يؤسسون «الحلف المقدس» والهدف منه الضغط على كل الثورات الشعبية.
1816م
وفاة زوجته «كريستينا».
1817م
زواج ابنه «أوجست». يعتزل الإشراف على المسرح. يترجم بعض أجزاء من مسرحية «مانفريد» للورد «بيرون» (1788-1824م).
1818م
منع تمثيل مسرحيته «أجمونت» في برلين.
1819م
ظهور «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي»، ثمرة عشرة طويلة مع شعر «حافظ الشيرازي» وعالم الشرق والإسلام.
1820م
وفاة سكرتيره «فيليب زايدل».
1821م
العمل في الجزأين الأول والثاني من رواية «فيلهلم ميستر، سنوات التجول».
1823م
رحلته إلى مارينباد وحبه ل «أولريكة فون ليفيتسوف».
1821م
وفاة نابليون في منفاه في «سانت هيلانة».
1823م
يكتب «مرثاة مارينباد». السيمفونية التاسعة ل «بيتهوفن».
1825م
العمل في القسم الثاني من «فاوست». يتلقى من «فرانز شوبرت» (1797-1828م) الألحان التي وضعها لبعض قصائده.
1827م
بدء ظهور طبعة أعماله الكاملة في أربعين جزءا. وفاة حبيبته القديمة «شارلوتة فون شتاين». ظهور ديوان الشاعر «هيني» «كتاب الأغاني».
1828م
نشر رسائله مع «شيلر». وفاة الأمير «كارل أوجست».
1829م
ظهور «فيلهلم ميستر، سنوات التجوال»، والجزء الثالث من رحلته الإيطالية. قراءته لمذكرات «سان سيمون» أحد الاشتراكيين الفرنسيين المثاليين.
1830م
وفاة ابنه «أوجست». الشاعر البولندي الكبير «مكيفيتش» (1789-1855م) يزوره في فيمار.
1831م
يتم القسم الثاني من «فاوست»، والجزء الرابع من «شعر وحقيقة». «ستندال» ينشر روايته «الأحمر والأسود».
1832م
بداية مرضه الأخير ووفاته في صباح اليوم الثاني والعشرين من شهر مارس.
مقدمة المترجم
لم يكن جوته من الشعراء الذين تخطر لهم الفكرة فيسرعون كالمحمومين بتدوينها على الورق، ثم لا يطيقون بعد ذلك أن يلقوا عليها نظرة واحدة. لقد كانت تأتيه الفكرة فيبدأ في كتابتها، تم يدركه التعب أو يناله السأم أو تشغله مشاغل الحياة، فيتركها ناقصة. وقد يعود إليها في خلال أيام أو أشهر أو سنين - ربما امتدت نصف قرن كما فعل في مسرحيته الكبرى فاوست - فيضيف إليها أو يعدل فيها أو يعيد صياغتها في وزن جديد أو يكتبها شعرا، بعد أن بدأها نثرا. وقد يحس أن الفكرة لم تنضج النضج الكافي، فينتقل إلى مشروع آخر كان قد بدأه ولم يتمه، فيقطع فيه شوطا ثم يتركه إلى غيره. وتواصل هذه الأفكار حياتها الخاصة في ضميره، وكأنها تنتظر حتى يتم خلقها، وتأتي اللحظة المناسبة التي تخرج فيها إلى النور. ولكن اللحظة يطول غيابها، ويلح الأصدقاء والمحبون على الشاعر ليستأنف عمله من جديد. ولكن انشغاله بأعباء العمل أو السياسة، وإقباله النهم على نعم الحياة الخصبة والحب المتجدد، وانصرافه إلى مختلف الأبحاث العلمية في النبات والطب والألوان وطبيعة الأرض والجو والصخور ... إلخ، يؤخر إنجاز الوعود، ويزيد من التشتت والتردد. غير أن الإلهام السعيد لا يخيب ظنه، بل يقبل في موعده المحتوم ويفرض قانونه الضروري، وإذا بالشاعر ينجز عمله في ساعات أو أيام معدودة، كما فعل في «فرتر» وفي معظم قصائده وقصصه الصغيرة، أو في شهور قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أو في سنوات تمتد امتداد العمر كله.
ومسرحية تاسو من هذا النوع من الأعمال الشعرية التي بدأها الشاعر ثم انتظر ما يزيد على ثماني سنوات حتى تم لها النضج. فنحن نعثر على أول أثر لها في ملاحظة، دونها في مذكراته اليومية في الثلاثين من مارس عام 1780م، حيث يقول: «ابتكار طيب: تاسو». ولكن يبدو أنه لم يبدأ في الكتابة إلا بعد هذا التاريخ بفترة طويلة. تشهد على ذلك ملاحظة أخرى، سجلها في مذكراته اليومية في الرابع عشر من أكتوبر من السنة نفسها،
الشهرين التاليين إلى حبيبته المشهورة «فراوفون شتاين»، فيحدثها عن مشروعه الجديد. ويواصل العمل في مسرحيته إلى أوائل عام 1781م، تشهد على ذلك رسالة كتبها إليها من «فيمار» في العشرين من أبريل حيث يقول: «لا أريد أن أقول لك شيئا عن نفسي ولا عن الغد. لقد تعبدتك وأنا أكتب في «تاسو». روحي كلها لديك. اليوم أريد أن أنشط للعمل.»
ويبدو أن جوته قد استطاع أن يقطع شوطا كبيرا في مسرحيته، بحيث استطاع في اليوم العاشر من نوفمبر أن يقرأ المشهد الأول منها على صديقه «كنيبل»، وأن يتم الفصل الأول كله، ويشرع في الفصل الثاني. ولكن العمل توقف من جديد على أواخر ذلك العام، حيث نجده يتحدث في إحدى رسائله التي كتبها في ذلك الحين عن المسرحية الناقصة. ويبدو كذلك أنه عاد إليها في ربيع سنة 1781م، وأنه قد بلغ فيها ما يشبه النهاية المؤقتة. مهما يكن من شيء، فقد كتب جوته مسرحيته في هذه المرحلة بالنثر الشعري أو بالشعر المنثور، كما نقول اليوم، ثم عاد إلى التفكير في تعديلها وإعادة صياغتها شعرا في أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا، بين سنتي (1786 و1788م) حتى أتمها في صورتها النهائية المعروفة في سنة 1789م. وأردنا أن نتتبع خطواته في هذه المرحلة، فوجدناه يكتب من روما إلى صديقه «كنيبل» رسالة بتاريخ 19 فبراير سنة 1787م يقول فيها: «أنا الآن أعمل في «تاسو» التي ينبغي الانتهاء منها.» ويدون في مذكرات رحلته الإيطالية وهو في طريق البحر من نابولي إلى «باليرمو» هذه السطور في الثلاثين من مارس من السنة نفسها: «لم أخذ معي من بين أوراقي كلها سوى الفصلين الأول والثاني من «تاسو» اللذين كتبتهما منذ عشر سنوات، ولم يزالا في خطتهما وسير أحداثهما شبيهين بما أفكر فيه اليوم - كان فيهما شيء من النعومة والضبابية، لم يلبث أن اختفى عندما غيرت رأيي فيهما فأحكمت بناء الشكل وأدخلت فيهما الوزن والإيقاع.»
وواصل جوته تفكيره في مسرحيته وراح يتعذب بينه وبين نفسه في إعادة صياغتها من جديد. فهو يقول في اليوم الأخير من شهر مارس في مذكرات رحلته: «... بدأت أمواج البحر ترتفع، ومرض أغلب المسافرين ... وبقيت في مكاني المألوف أفكر في المسرحية كلها من أولها إلى آخرها.» ثم يقول في اليوم التالي مباشرة: «تجرأت أحيانا على الصعود إلى ظهر السفينة، ولكنني لم أدع مشروعي الشعري يغيب عن بالي، حتى استطعت إلى حد كبير أن أتحكم في المسرحية كلها.» ويواصل كلامه في الثاني من أبريل فيقول: «وجدنا أنفسنا في الثامنة صباحا أمام «باليرمو». فقد كانت خطة هذه المسرحية قد ازدهرت في الأيام الأخيرة في بطن الحوت.» ومع هذا كله، فيبدو أن الشاعر لم يكن قد غير تغييرا يذكر في النسخة الأولى التي كتبها نثرا ولم يعثر عليها الباحثون حتى اليوم. وقد رجع في الفصلين اللذين أتمهما منها، ثم عاد فيما بعد إلى صياغتها شعرا إلى حياة الشاعر الإيطالي «توركواتو تاسو»
1
كما كتبها «جوفاني باتيستا مانسو»، وملأها دون ترو أو تدقيق بالخرافات والأقاصيص عن حياة هذا الشاعر الكبير. ومع ذلك فقد استفاد شاعرنا كثيرا من القصة التي اخترعها (مانسو) من خياله وزعم فيها أن تاسو قد هام حبا بالأميرة ليونورة شقيقة ألفونس الثاني أمير «فرار» الذي استضاف الشاعر ورعاه.
لم يشعر جوته بالحاجة إلى كتابة مسرحيته في ثوب شعري جديد إلا أثناء رحلته في إيطاليا. لقد أحس بأن عليه أن يستبعد منها الليونة والغموض، فيحكم بناء شكلها ويصوغها في إيقاع شعري يليق بموضوعها الرقيق النبيل، ألا وهو الصراع الخالد بين الشاعر والواقع، وبين عالم الفن وعالم السياسة. ولقد زاد هذا الإحساس لديه حتى كاد يصبح أزمة حادة يعبر عنها قوله في أثناء زيارته الثانية لمدينة روما في اليوم الأول من فبراير سنة 1788م: «... ثم أعاني أزمة جديدة، لا يستطيع أحد أن يشير علي فيها أو يعينني عليها. يجب أن تصاغ «تاسو» صياغة أخرى؛ فما لدي منها الآن لا ينفع في شيء، ولا يمكنني أن أختمه أو أقذف به بعيدا. هكذا حكم الله على الإنسان بكل هذا العناء!» وتلح عليه الأزمة في أواخر مدة إقامته الثانية في روما. فها هو ذا يقرأ من جديد عن حياة «تاسو» كما كتبها «أباني بيير أنطونيو سيراستي»، وكانت قد ظهرت في روما في سنة 1785م. ويعكف على دراسة هذا الكتاب، ويأخذ منه أشياء جديدة عن الصراع الذي دار بين «تاسو» ورجال البلاد والسياسة كما يتعرف على شخصية «أنطونيو مونتكاتبنو» الذي سيقوم بدور مهم في المسرحية، ويساعد مع صراع الحب اليائس على بلوغ الأزمة في نفس «تاسو» إلى ذروتها، حتى يصل الصدام بينه وبين عالم السياسة والواقع الذي يمثله «أنطونيو» إلى قمته في جنونه الأخير.
ويبدو أن جوته قد ضاق بالمسرحية أو تهيب من إعادة صياغتها. غير أن سحر شخصية «تاسو» كان أقوى من كل تردد، وطبيعته كانت تنبع من أعمق أعماقه بحيث نضج العمل كله على أواخر رحلته الإيطالية، فأقبل في خريف 1788م وربيع 1789م بكليته على العمل، حتى لنجده يكتب إلى صديقه وراعيه الأمير «كارل أوجوست» في فبراير 1789م فيقول: «إن «تاسو» ينمو كشجرة البرتقال في بطء شديد. فلعله أن يؤتي ثمارا حلوة.» واستطاع الشاعر أن يتم مسرحيته في شهر يونيو عام 1789م، وأن ينشرها في المجلد السادس من طبعة أعماله الكاملة. •••
ما من عمل مسرحي يخلو من الصراع أو يستطيع أن يستغنى عنه. ولقد تحدث جوته بنفسه عن الصراع في هذه المسرحية فوصفها في صورة عامة مجردة، بأنها تعالج موضوع التنافر بين الموهبة والحياة. كما وصف أحد النقاد «تاسو» بأنه «فرتر» متطرف أو مبالغ في لهيب حماسه وعواطفه.
والحق أن هذا هو الانطباع الأول الذي يشعر به القارئ من المسرحية، دون حاجة منه إلى مزيد من التعمق والتحليل. ففي المسرحية عالمان يواجه كل منهما الآخر ويصطدم به؛ هناك عالم المجتمع والسياسة، يمثله الوزير «أنطونيو» والأمير «ألفونس» والدوقة «ليونورا سانفيتاله». وهو عالم تغلب عليه روح الحكم والسيادة ويتميز بوضوح الرؤية العقلية، وطموح الغريزة العملية. وهناك عالم الشعور والفن الذي يرفرف فيه «تاسو» كالطائر الوحيد، فيحلق إلى أعلى القمم ويهبط إلى أسفل الأعماق، ويهيب دائما بعظمة الماضي ويحيا على ذكرى الشعراء العظام. ثم يحاول أن يعيش في الحاضر أو ينسجم مع الواقع فيشعر بعجزه، ويزداد إحساسا بانكساره. إنه عالم المطلق والجوهر والفن النقي الخالص الذي لا يمكن أن يقاس به العالم السابق أو يرتفع إلى مستواه، غير أن هذا التنافر بين العالمين لا يستطيع وحده أن يفي مسرحيتنا حقها أو يفسر مأساة بطلها. فوجه الخطورة فيه أنه قد يغرينا بالتفسير النفسي لشخصية البطل، أو إرجاع موقفه التراجيدي إلى ما يوصف به من شذوذ أو تطرف أو جنون، وهي أمور عرضية لا يمكن أن تنشأ عنها مأساة حقيقية؛ ذلك أن سر مأساة «تاسو» أنه يحس كما لا يحس أحد من المحيطين به بذلك الطموح المطلق الذي ينزع إليه الفنان بطبيعته، كما يشعر بالعجز الضروري لهذا الطموح، ويرفض في الوقت نفسه أن يقتنع به أو يستسلم له. هذا الخلاف الأساسي بين عالم الخيال وعالم الواقع هو الإطار الذي تدور فيه أحداث المسرحية. وهو خلاف يبلغ من الشمول والعمق حدا، تتصدع معه العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كما يتصدع وجود البطل نفسه من جذوره. ذلك لأنه - مثله في ذلك مثل هاملت - يسمع صوتا لا يسمعه أحد سواه، ويكلف برسالة لا يستطيع أن يحققها في الواقع على الوجه الذي يرضيه، ويحمل أمانة المطلق أو الحقيقة أو الفن. بغير أن تكون لديه الوسائل الكفيلة بأدائها في دنيا الأرض والواقع، أو بغير أن يجد في هذا الواقع أي استعداد لتلقيها. إنه يجد نفسه ملقى به فيما يمكن أن نسميه «منطقة القدر» يحيط به نظام من الأشخاص والعلاقات، كرس كل جهده لتحقيق الأهداف والمنافع. وهو يشعر بعجزه عن تعديل هذا النظام أو الاندماج فيه. والمشهد الثالث من الفصل الأول أساسي في فهم المغزى العام من المسرحية وإلقاء الضوء على موقفها من الزمن والتاريخ. فنحن نرى في هذا المشهد كيف ينعزل وجود الشاعر، وتنعزل كلماته عن عالم الواقع الذي يعيش فيه وكيف يفقد هذا العالم الزخير روحه ومعناه. ولذلك فإن «تاسو» لا يتعب من التعبير عن شوقه إلى الزمن الماضي لأنه يجد فيه - على خلاف الحاضر المحيط به - أن الحقيقة والواقع، والشاعر والبطل، والحكمة والفعل تنجذب إلى بعضها بقوة أشبه بقوة المغناطيس. والحديث عن اللقاء بين «تاسو» والأميرة لا يبعد بنا عن موضوع المسرحية كما حددناه في السطور السابقة. فقد كان هذا اللقاء هو نواة المسرحية، كما تصورها جوته في البداية، ولعله كان هو الباعث الذي دفعه إلى كتابتها بعد أن وجد فيه صدى لحياته وعذابه في ذلك الحين. وأهم ما ينبغي إبرازه في هذا اللقاء هو تلك العناصر التي تشهد على صلة القربى التي تربطها بفلسفة أفلاطون. وقد تنبه الباحثون إلى ذلك، وأكثروا من الإشارة إليه. وليس من قبيل المصادفة أن نسمع الدوقة «ليونورا سنفيتاله» تصف الأميرة في نهاية المشهد الأول من الفصل الأول فتقول إنها تلميذة أفلاطون: «أمثلك يا تلميذة أفلاطون لا تفهم ما تجرؤ مستجدة على الثرثرة به!» وذلك بعد أن وصفت شاعرنا قبل ذلك بسطور قليلة وصفا لا ينطبق إلا على أفلاطوني يتأمل المثل، أو يتملى النموذج الأوحد الأسمى لكل ما في الواقع من صور الجمال:
إن روحي الخصب يمجد صورة واحدة في كل أبياته وقصائده.
أحيانا يفتنه سناها المضيء فيرفعها إلى السماء المزدانة بالنجوم
ويسجد أمامها سجود العابد كما تفعل الملائكة فوق السحاب.
المهم على كل حال هو التفسير الميتافيزيقي للجمال والعشق (الإيروس) الذي يحس به كل من «تاسو» والأميرة؛ فتاسو يشعر من أول لقاء له مع الأميرة بأن جمالها يأسره. ولعله قد شعر قبل ذلك بأن هذا الجمال نموذج عال يفتقر إليه الواقع، أو بأن وجودها قد تشكل بالحقيقة والجمال في صورة يعجز عنها الواقع. ولقد ظل يقنع نفسه بهذه الفكرة الأفلاطونية الخالصة، حتى اعتقد أن المثل الأعلى للوجود قد تحقق في الأميرة، بعد أن ضاع من العالم المحيط به، وأصبحت في نظره خيالا من الماضي أو مثالا من المثل البعيدة عن عالم الواقع والتاريخ!
وليست الأميرة أقل منه إيمانا بهذه المثل العالية أو القيم الأخيرة، ولا هي أقل منه شوقا إلى إثراء الحاضر البائس بالجمال المثالي. ولكن إذا كان هذا العشق المشترك هو الذي يربط بينهما برباط من التقدير والإعجاب فإن هناك شيئا آخر يفرق بينهما تفرقة شائعة؛ فالأميرة تؤمن بأن مثال الجمال لا يتحقق في الواقع، أو بأن لحظة تحققه لم تأت بعد. وهي تؤمن بذلك إيمانها بقدر قاس أو قانون صارم لا سبيل إلى الإفلات منه. وطاعتها لهذا القانون تكسب شخصيتها مسحة من الكبرياء الحزينة أو الحزن المتكبر، وتطبع حياتها وسلوكها بطابع الزهد والصدود الذي عرفت به شخصيات نسائية أخرى في أعمال جوته، من أهمها شخصية «أوتيليه» في روايته «الأنساب المختارة».
وقد ساعدت على هذه المعرفة الأليمة بتعاسة الواقع وبؤسه تجارب شخصية عديدة مرت بحياة الأميرة؛ فلقد مرضت في شبابها مرضا أشرف بها على الموت، كما عانت أمها المسكينة من قدر قاس لا يرحم، وطبيعي أن أمثال هذه التجارب الشخصية لا تكفي وحدها لطبع شخصيتها بطابع الاتزان والتعفف والزهد اليائس الذي تتميز به. بل إن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا القدر الشخصي لم يكن إلا مقدمة لقدر أعم وأشمل، وضعت فيه هي و«تاسو» وتعلمت منه أن الزمن ضنين والواقع فقير. وإذا كان «تاسو» لا يزال يحاول أن يطوع هذا الواقع لمثله وأحلامه ويفرض على ذلك الزمن قانونا لم يأت أوانه، فقد عرفت هي أن الواقع قد اغترب عن المثال، والفعل قد انشق على المعنى، فوفرت على نفسها آلام خيبة الأمل المتكررة التي يعانيها «تاسو». وليس معنى هذا أنها استسلمت لمرارة الزمن، ففقدت الإيمان بكل قيمة أو معيار. بل معناه على العكس من ذلك، أنها راحت توجه حياتها على هدى قيم موضوعية متزمتة لا مكان فيها للرغبة أو الطموح، وأنها قد عرفت - والمعرفة مريرة - فأخذت نفسها بفضائل الصبر والاحتمال والحرمان. إن أكثر أحاديثها مع «تاسو» تشهد على ذلك؛ فهي تحاول أن تهديه إلى التعقل والاتزان . وتحاول أن تريه الواقع البائس على حقيقته، وهو لا ينفك سادرا في أحلامه. تائها في ضلال حبه. ومع أنها تشعر بغربتها عن العالم المحيط بها. وتحس بوحدتها في البلاط وعزلتها عن الدوقة «ليونورا سانفيتاله» أقرب الناس إليها. فهي لا تتردد مع ذلك في الإيمان بالقيم والتقاليد التي تتحكم في عالم البلاط الذي نشأت وتربت فيه. وإذا كان هذا الإيمان هو الذي يجمع بينها وبين شقيقها الأمير، والوزير «أنطونيو» والدوقة «ليونورا». فهو كذلك ما يفرق بينها وبينهم. ذلك أنها تعتقد أن القيم والعادات السائدة في حياة القصر شحيحة في هذه الفترة المحدودة من الزمن. وتعتقد في الوقت نفسه أن هناك قيما أعلى منها لم يئن أوان تحققها في عالم الواقع. ولعل هذه العقيدة هي التي تجمع بينها وبين «تاسو» وتجعلها تقف منه موقف الإعجاب الصامت، والحب الزاهد الحنون. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن خطأ «تاسو» أو خطيئته، فإن في استطاعتنا أن نقول إنهما يكمنان في إساءة فهمه للحظة المناسبة، ومحاولته اليائسة للتوفيق بين المثال والواقع، والتوحيد بين الروح والفعل، في زمن قدر عليه أن يشهد الفراق الحاسم بينهما. إنه يريد أن يثري عالما حكم عليه بالفقر، ويحقق المطلق على أرض الواقع النسبي. ومن هنا فإن المسرحية تفرض ثلاث مراحل زمنية، تتابع واحدة بعد الأخرى على نحو يشبه ما نجده في تصور أفلاطون:
فهناك زمن الوحدة المثالية أو الأسطورية بين عالم مثالي وآخر واقعي، يتبعه زمن تمت فيه الفرقة بينهما فكان الانقسام إلى جسد وروح، وفعل وفكر، وقد يأتي بعدهما زمن ثالث يتحقق فيه الصلح من جديد، وتتلاشى الثنائية الظالمة في نعيم الوحدة والسعادة الخالدة.
وليست للإنسان يد في هذا اللحن الزمني المتتابع. وليس عليه كذلك إلا أن يعترف ويندمج فيه. أما أن يقف منه موقف الاعتراض والاحتجاج، فلن ينتهي منه إلا إلى نهايته. ولن ينتج عنه سوى الندم أو الجنون أو السقوط في هاوية المأساة. •••
وقد أشار كثير من النقاد في هذا الصدد إلى أوجه التشابه العديدة بين «تاسو» ومسرحية سوفوكليس «أوديب ملكا»
2
وراحوا يفتشون عن عناصر الاتفاق بينهما في الموضوع والأسلوب والحوار. ولعل الدافع لهم على ذلك أن «تاسو» من الأعمال الفنية القليلة، التي تبين لنا كيف يترك الزمن أثره على الإنسان، فيحدده ويطبعه بطابعه ويصبح قدره ومصيره. ومن هنا كانت للحياة الوجدانية والنفسية، بما فيها من عذاب الفراق والتذكر والانتظار والأمل والحنين إلى الماضي، أهمية كبيرة في هذه المسرحية، شأنها في ذلك شأن مسرحيات جوته التي تهتم بعالم الباطن أكثر بكثير من اهتمامها بعالم الظاهر والأحداث الخارجية. ولعل هذا أيضا هو الذي جعل الشاعر يلجأ في بناء مسرحيته إلى الشكل الإغريقي القديم ليصب فيه موضوعا أو مشكلة حديثة، يتركز الصراع الحقيقي فيها في باطن الإنسان.
ومع أن «مأساة أوديب» في صميمها مأساة ميتافيزيقية خالصة، ومأساة «تاسو» مأساة تاريخية مرتبطة بزمن معين إلا أنهما متشابهان من حيث الشكل التحليلي الذي يتميز به بناؤهما الدرامي. فالأمر يدور في «تاسو» وفي «أوديت» حول الكشف التدريجي عن مشكلة أو مظهر فاسد كامن في طبيعة البطل نفسه، تزيده حيرته وتخبطه تعقيدا على تعقيد. ومن ثم كان العذاب الوجداني في «تاسو» وفي «أوديب» أهم من الفعل، والمعرفة المريرة التي تتكشف شيئا فشيئا أخطر بكثير من التطور التاريخي؛ ولذلك نجد البداية والنهاية في كليهما أشبه بصورتين متقابلتين. ف «أوديب» في بداية المأساة هو منقذ الجميع، وفي نهايتها المنبوذ من الجميع، و«تاسو» في بداية المسرحية هو الشاعر الذي يحتفل الجميع بتتويجه، ولكنه في نهايتها المطرود الذي حكم عليه بالدمار والانكسار. وإذا كان هناك فرق بينهما فإن أوديب قد حكم عليه قدر ظالم مجهول بالتردي في أخطاء لا ذنب له فيها، بينما أخطأ «تاسو» بخياله الجامح وعاطفته المتهورة في حق الزمن ونظامه، وحاول أن يفرض الحقيقة الشعرية على الواقع العملي الذي لم يتأهب لها. ولكن البطل هنا وهناك بدأ عظيما في مجده وانتهى عظيما في انهياره، وذلك هو جوهر المأساة. •••
ماذا نقول عن هذه القصيدة الطويلة الحزينة التي نسميها تاسو؟ أهي دراما أم مأساة، أهي قديمة أم حديثة؟ إننا نحار أمام هذا النسيج الرقيق الدقيق الذي لا يكاد يحدث فيه شيء، ومع ذلك فكأن الضرورة هي التي نسجت خيوطه، ونعيش في عالمه الأنيق الجميل، ومع ذلك يترك في نفوسنا شيئا يشبه الفزع الذي تتركه فينا المآسي الإغريقية حين تشعرنا بقسوة القدر الظالم المجهول. كيف يمكن أن تكشف هذه الحياة المنمقة الزاهية عن هوة من الحزن بلا قرار. وكيف يؤدي كل ما فيها من جمال ونظام وسمو في الأخلاق والتقاليد إلى تحطيم نفس رقيقة حساسة؟ أيمكن أن تمرض هذه النفس وتيأس في عالم يحبها ويرعاها ويدللها ويكاد يؤلهها؟ أم أن هذه الحياة المهذبة الراقية ليست إلا واجهة مصطنعة تخفي العداوة الحقيقية للشاعر الأصيل، وتكره عالمه المترفع عن عالمها الغارق في التكلف والتظاهر والمنافع والأغراض؟ ثم من المذنب في مأساة شاعرنا؟ أهم سكان البلاط الذين لا ندري إن كانوا أصدقاءه أو أعداءه ولا نعرف إن كانوا يضمرون له الشر أو الخير؟! أهم جماعة يتعاون كل فرد فيها على إنماء موهبته أم يتآمر على عبقريته فيستغلها لمصلحته، ويبطش بها إذا وجد أنها لم تعد تحقق أهدافه؟ أم يكون الشاعر نفسه هو المذنب، لأنه تجاوز الحد الذي كان عليه أن يلتزم به، وراح يغوص في وهم خداع جعله يقضي على سعادته ويلقي بالمسئولية على المحيطين به؟ ألا نحطم بذلك صورة الشاعر الذي يحمل رسالة فريدة ويعيش - وهذا حقه - في عالم لا يصح أن نتدخل فيه أو نحاول تشكيله على هوانا؟ ألا نسيء إلى الشعر نفسه حين نصور «تاسو» رجلا مريضا يسوقه الفشل النفسي خطوة فخطوة إلى الدمار؟ إن الأمر في «تاسو» كما قلنا يتعلق بالكشف لا بالتطور، وبالمعرفة لا بالحدث، وبالعذاب لا بالفعل. ولكن ما الذي يتكشف هنا ويعرف ويعانى؟ لو دققنا النظر في النص الشعري الذي بين أيدينا لتبين لنا أن الأمر فيه ليس أمر صراع درامي عادي، بين نفس عاطفية حساسة وعالم الدسائس والمؤامرات المحيط بها، بل إن موضوع المسرحية هو العذاب الذي يكابده الشاعر، والحديث الذي يدور بينه وبين نفسه المنطوية، والتناقض الخفي الذي كان يخفيه في صدره فساعد الوسط المحيط به، بإرادته أو بغير إرادته، على كشف الغطاء عنه. وبذلك تكون «تاسو» مأساة حديث ذاتي (مونولوج)، أو لحنا فاجعا وحيدا لا تقوم فيه بقية الشخصيات إلا بدور الأصوات المصاحبة، التي تغطي عليه أحيانا وتبرزه أحيانا أخرى.
إنها لا تمثل شخصيات تصطدم بالبطل أو تقف معه، كما هو الحال في الفعل الدرامي المعتاد. وإنما هي أشكال وصور تنعكس عليها نفسه وتشدها إلى وجدانها الوحيد وتفسرها تفسيرا شعريا خاصا بها، ولا يمنع هذا من أن تحتفظ بشخصيتها المستقلة، وكيانها الواقعي الذي يعجز الشاعر عن فهمه، ويرى نفسه مستبعدا منه. وليس من المهم أن تكون هذه الشخصيات معه أو عليه - فالواقع أنها جميعا تشجعه وتسترضيه وتخطب وده - بل المهم أن لكل منها وجوده الواقعي الذي يختلف عن وجوده الشعري الحالم، وأن هذه الحقيقة وحدها هي التي تدمر حياته وتكشف له عن مأساة موقفه، وذلك بمجرد أن يتضح له أن الموهبة لا بد أن تصطدم مع الحياة. وهكذا لا تقول المسرحية كلها أكثر من أن الوجود الشعري وجود مأساوي. لا يقتصر ذلك على مدينة «فرارا» وحدها، بل كذلك كان الأمر، وكذلك سيكون في كل مكان وزمان. ويزيد من قسوة هذا الإحساس أو من مرارة هذه المعرفة أن شاعرنا يعيش في وسط مدني مهذب راق - ولقد أوهم نفسه بأنه وجد في هذا الوسط الحالم الأنيق (على الأقل من الظاهر) ما يستجيب لصوته الشعري الباطن. ولكن المأساة كلها لم تصبح مأساة إلا لأنها تكشف النقاب شيئا فشيئا عن هذا الوهم، وتبين أن الذوق والتمدن لا يكفيان لإنقاذ الشاعر الذي كتب عليه أن يحيا ويموت وهو استثناء عظيم. تلك هي المعرفة التراجيدية التي يتعلمها «تاسو» ونتعلمها منه. وذلك هو سبب هذا الحزن الهادئ الفاجع الذي تملؤنا به هذه المسرحية، على الرغم من أننا نعلم أن الشخصيات كلها - بما في ذلك الوزير «أنطونيو» إذا أحسنا فهمه - تتضافر على حمايته وتتنافس في رعايته ومكافأته والعطف عليه. ولكنها لا تعلم أنها بذلك تزيد حياته تهديدا، وأنها بوجودها الواقعي وعالمها غير الشعري تزيده إحساسا بوحدته في عالمه الخيالي المثالي غير المحدود. •••
ما قيمة الشاعر بالنسبة لذلك العالم وما دوره فيه؟ إن المشهد الأول من المسرحية يرمز للإجابة عن هذا السؤال. فتاسو يظهر حاملا في يده ملحمته الشعرية التي فرغ من كتابتها، وإن لم يفرغ بعد من التشكك فيها والتفكير في إكمالها! وتتقدم الأميرة لتضع على رأسه إكليلا من الغار، كان المفروض أن يزين تمثال الشاعر الروماني الأكبر فرجيل. فإذا تأملنا هذا المشهد من ناحية البلاط وجدناه مظاهرة للتفاخر والإعلان، ومرآة تعكس زينته وأبهته. إن الأمير «ألفونس» محتاج إلى موهبة الشاعر لأنه سيظل بدونها في صف البرابرة المتوحشين، ولأنها تزيد أمجاده الواقعية أمجادا أخرى في عالم الشعر والخيال. إنه يستطيع الآن أن يقول للناس: انظروا! إن عندي، إلى جانب القصور والجيوش والآثار القديمة والخدم والحشم، شعراء وكتابا وفنانين، والدوقة «ليونورا سانفيتاله» محتاجة إليه، لأنها تريد أن ترى نفسها منعكسة على مرآة روحه الجميلة، ولأنها - وهي الأنانية المغرورة بفتنة الأنوثة - تستطيع أن تضيفه إلى الزوج والأطفال وتجرجره خلفها كأنه ذيل ردائها الأنيق ... إنها سيدة المجتمع الرائعة التي يهمها أن تضيف إلى ثروتها شاعرا موهوبا مسكينا! وإذا كانت تلجأ إلى المؤامرة التي لا ضرر منها، فلأنها تريد أن تستأثر به لنفسها، وتظهر مهارتها في إتقان ألعاب القصور. أما الأميرة فهي في حاجة إليه، لأن حياتها التي عانت من المرض والعذاب محتاجة لمن يرد إليها الحياة، ولأنها - وهي تلميذة أفلاطون - تعلم أن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يسمو بها إلى عالم التجانس والصفاء والنقاء. فالشعر بالنسبة إليها هو الوسيلة الوحيدة التي بقيت أمامها لاحتمال الحياة المسرفة في المادية والغلظة والجهامة. إن الأميرة لا تتظاهر كغيرها، وهي أبسط نفسا وأرق حسا من أن تهين الشاعر بالعطف عليه. ذلك لأن أهم ما يميزها هو البساطة والسمو والكبرياء، حتى لتكاد كل كلمة تقولها وكل إشارة تصدر عنها أن تنطق بالترفع والابتعاد. إنها أفلاطونية تفكر تفكير الفيلسوف العظيم، وتشتاق إلى الجوهر الباقي وراء المحسوس المتغير، وموقفها من كل ما هو مادي موقف الترفع والتعفف، وحديثها إلى «تاسو» حديث روح إلى روح، لا حديث امرأة إلى رجل. فإذا ظن الشاعر في عنفوان عاطفته الملتهبة أنها تبادله حبا بحب، أسرعت تزجره عنها في رفق تارة، وفي عنف تارة أخرى؛ ذلك لأنه لم يكن بالنسبة إليها ولن يكون أكثر من واسطة إلى «العهد الذهبي» الذي مضى، ولن يعيده إلا الأخيار والطيبون. صحيح أنه «وسيلة» إلى هدفها، ولكن ما أعظم الفرق بين هذا الهدف وبين أغراض المحيطين بها في البلاط!
إذا كان هذا هو موقف الجميع من مشهد التتويج، فما أشد ما يختلف موقف «تاسو» منه! فليس الخيال والشعر بالنسبة إليه تجميلا للحياة أو زخرفة لها، بل إن الحياة عنده هي الخيال، والشعر هو الوجود؛ ولذلك فإن التتويج يفقد عنده قيمته المؤقتة المحدودة، وينقله إلى عالم غير واقعي، إلى وطن النشوة الخلاقة والتجربة الشعرية الذي يوجد في كل مكان، ولا يوجد في أي مكان؛ ولذلك فهو يدهش الجميع بتردده عن قبول الإكليل، ويغضبهم برعبه المفاجئ الذي يجعله يقول:
دعوني أتردد، فلست أدري
كيف يمكنني أن أعيش بعد هذه اللحظة.
وتنقلب لحظة التكريم إلى شقاء لا حد له. فهو يحس، كأن الإكليل يحرق شعره، ولهيب الحمى يعصف بدمه. ويشعر أن التاج الذي لم يكد يستقر على جبهته، قد انتقل به إلى جنة الخالدين، وطار به إلى مملكة قديمة مسحورة يتحد فيها البطل والشاعر، وتتعانق الفروسية والفن. ولكنه يشعر كذلك شعورا خفيا بأنه قد صار غريبا عن كل الوجوه التي تنظر فيه أو تبتسم له، وبأن «فرارا» ليست هي وطنه الذي كان يحلم به، بل إنه ككل الشعراء لا وطن له، حكم عليه بمحض وجوده كشاعر أن يعيش مهددا، ضائعا، يتحدث فلا يفهم، ويقول فلا يسمع.
ويتضح الدور الذي يمكن أن يقوم به الفن عامة، والشعر بوجه خاص في مثل هذا المجتمع، عندما يظهر الوزير «أنطونيو» في المشهد الرابع الذي يلي المشهد السابق.
فالأضواء تسلط على الجانبين السياسي والعملي في حياة البلاط، بحيث لا يعود هناك مجال للشك في أن العلم والفن والشعر لا وزن لها، إلا إذا كانت وسيلة لخدمة السياسة وزينة على صدور الحكام. وإذا كان «أنطونيو» - وهو الوزير الناجح الذي ابتعد عن البلاط فترة من الزمن في مهمة ناجحة - يعبر عن غضبه وسخطه المكتوم على «تاسو»، فليس ذلك لأنه يشعر بأنه غريمه الذي أوشك أن يحتل مكانه في البلاط أو في قلوب النساء، بل لأنه يشعر كذلك بفطرته أن عالم «تاسو» غير الواقعي يهدد عالمه الواقعي، وأن الخيال والشعر خطر عليه أي خطر. إنه يدافع بغريزته عن حياته، ويريد أن يحمي نفسه من عالم الشعراء والموهوبين، الذي يحس أنه غريب فيه. وليس في الأمر شيء من سوء النية أو الحقد أو الاعتداء ، بل إنه تصرف طبيعي، تمليه ضرورة عمله وحياته؛ ولذلك فلا يصح أن نستكثر عليه موقفه النبيل في آخر المسرحية حين يرى «تاسو» مشرفا على الهاوية، فيمد له يدا مخلصة عاطفة.
أما «تاسو» فهو يتصرف كذلك بما يتفق مع طبيعته فينظر إلى عالم السياسة المحيط به بمنظار الحلم والخيال.
إنه يحاول تحت إلحاح الأميرة أن يلتقي ب «أنطونيو»، ويمد يده إليه في حماس لإيمانه بأن البطل والشاعر يمكن أن يلتقيا ويتحدا، وهو شيء لا يمكن أن يحدث إلا في العالم الذهبي المسحور الذي يحيا فيه، ويفزعه تردد أنطونيو وتحفظه ويسرع إلى التشكك والتوهم. وتزداد شكوكه وأوهامه يوما بعد يوم، حتى تنتهي به إلى الكارثة المحتومة.
ولو أنه قنع بعالمه أو سلم باختلافه عن العوالم الأخرى، لما فقد ثقته في نفسه ولا كانت هناك ضرورة إلى حزنه الجارف المؤثر الذي لا عزاء فيه.
فما أقسى أن يرى نفسه ملكا في مملكة الخيال، ورفيقا للأبطال والشعراء الخالدين، ثم يرى نفسه مع ذلك يسير في دنيا الواقع والمنافع كالشحاذ اليتيم!
ولو استطاع هذا الخيالي المسكين أن يقفز القفزة المناسبة من عالمه المسحور إلى عالم الواقع، لانتشل نفسه من مهاوي العدم وحقق السعادة في الدارين! ولكن هل كان يستحق منا عندئذ أن نسميه شاعرا، أم كان يصبح انتهازيا ممن تمتلئ بهم حياتنا الفنية اليوم؟!
إن الخلاف بين «تاسو» و«أنطونيو» خلاف أساسي بين الشاعر ورجل الحكم، تصطدم فيه العاطفة الجارفة بالعقل الناقد المتزن. ويصل الشقاق بينهما إلى حد تبادل الألفاظ الجارحة، فيجرد «تاسو» سيفه ويطالب «أنطونيو» بالنزال. ويتدخل الأمير بينهما، ويعاقب «تاسو» بالحبس الانفرادي في غرفته.
هنا نستطيع أن نقول إن شيئا قد حدث، وهو أمر نادر في هذه المسرحية! فهذا الحادث الضئيل كان وحده كافيا للإلقاء ب «تاسو» في هاوية الحزن والوحدة التي لا مخرج منها. إنه لم يرتكب خطأ في حق النظام الأخلاقي، بل اصطدم بالقواعد الشكلية. و«الشكل» في مثل هذه المجتمعات هو كل شيء؛ ولذلك فالأمير لا يحاول أن يعرف المخطئ من المصيب. وإذا عاقب فعقابه شكلي. لقد عفا بالفعل عن المذنب، وترك له أن يحرس نفسه بنفسه؛ أعني أن يهرب من هذا السجن الشكلي إذا شاء. وقد كان من الممكن أن تمر العاصفة لو أن «تاسو» خضع لإرادة هذا النظام الشكلي. ولكنه لا يقدر على ذلك ولا يمكن أن يقدر عليه؛ ذلك لأن وجوده كله كشاعر إنما هو تمرد على الشكل. فالشكل قالب مصطنع نفرضه على الحياة، والشاعر يعيش على الخيال الذي يفجر القوالب ويكسر الحواجز والحدود. ولو اعترف بها لأنكر نفسه. فهو الممسوس الذي تسيطر عليه قوى أقوى منه؛ ولذلك فليس في قدرته أن يسلم بالحدود التي تفصل بين إرادة الذات وبين الالتزامات الواجبة نحو المجتمع.
لقد عميت عينه عن رؤية الواقع؛ لأن كل ما نسميه بالواقع، قد تحول عنده إلى خيال. إنه كالممثل على المسرح، يسمع الكلمة التي يبدأ عندها في إلقاء دوره ولكنه لا يكاد يسمع ما يقوله سواه. ولذلك يصعب عليه أن يخرج من نفسه، أو يعرف الموقف المحيط به على حقيقته. ولو قارنا بينه وبين «أنطونيو»، لوجدنا الأخير على حق دائما، فهو يملك كل ما يفتقر إليه «تاسو» من إحساس صائب بالواقع، وفهم لما يليق في المجتمع وما لا يليق.
غير أنه يفتقر إلى مملكة الشعر التي أغلقت بابها في وجهه كما تعوزه القدرة على الإبداع والحماس والانطلاق. ومع ذلك فعلينا أن ننصفه فنقول: إنه يدرك ما سميناه من قبل تنافر الموهبة مع الحياة، ويحاول أن يكفكف من غلواء «تاسو» ويقاوم تطرفه ويعيده من جديد إلى أرض الواقع والمجتمع.
غير أن محاولاته النبيلة تبوء بالفشل؛ لأنها موجهة إلى تاسو «الإنسان»، إلى تاسو «الشاعر»، ولأنها تطبق معيارا يصلح للقاعدة لا للاستثناء، وللكل لا للفرد، ولو استمع «تاسو» إلى نصحه، لما كان هو «تاسو» ولا كان من حقنا أن نتحدث عن مأساته. فإذا كانت قوة «أنطونيو» في خضوعه للنظام والتزامه بالأصول والحدود؛ فإن قوة «تاسو» وضعفه في آن واحد في تمرده على كل المقاييس والأشكال، وخضوعه لضرورة الخلق والإبداع.
وإذن فقد ظل صادقا مع طبيعته كشاعر وإنسان فريد، ولو أحنى رأسه، لأصبح واحدا من مئات الشعراء الذين ازدحم بهم الأدب العالمي (والأدب العربي بوجه خاص) وعاشوا وماتوا كالشحاذين على صدقات الأمراء والسلاطين.
إن من أعز أشواق الإنسانية أن يحيا الشاعر والفنان مع المجتمع في وئام. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الشاعر والفنان لا يستطيع إلا أن يكون شاعرا وفنانا، أعني أن يعيش في صراع دائم مع القيود والحدود، ويحيا في عالم خاص به يبعده بوجه من الوجوه عن المجتمع ويبعد المجتمع عنه.
فكل من جعل من الإليزيوم (جنة الخالدين) وطنه ومسكنه، لا بد له أن يحيا غريبا على الأرض مثل «تاسو». ومع أن بلاط «فرار» قد قدم لشاعرنا أقصى ما يقدم من واجبات الضيافة والرعاية، فقد أوضح مع ذلك بصورة مفزعة أن التفاهم بين الشاعر والمجتمع يقوم دائما على سوء تفاهم ضخم؛ لذلك تحسن المجتمعات صنعا، إذا تركت للشعراء حرية الرفض والاحتجاج وكفلت لهم حق التفرغ والاعتزال؛ ذلك لأنهم لا يحتجون عليها إلا حبا فيها، ولا ينعزلون عنها إلا ليزدادوا قربا منها ومعرفة بها. كان هذا هو حق القواد والرواد دائما ، ومن أحق بالقيادة والريادة من الفنانين والشعراء؟!
لا بد أن يكون لدى الشاعر أو الفنان ما يقوله. ولعل «جوته». لم يرد بمسرحيته «تاسو» أكثر من أن يقول إن وجود الشاعر عذاب. لقد صور فيها حالة نفس مريضة ولكنه لم يقصد تصوير المرض النفسي لذاته، بل ليوضح من خلاله طبيعة الإحساس الشعري بالحياة، وهو إحساس يستمد قوته من ضعفه وتعرضه الدائم للخطر والدمار؛ فالشعر هنا والفن عموما ليس هو الحالة السوية. بل هو شيء غريب، مضيع ومريض. ولا شك أن هذه نظرة رومانتيكية أو عاطفية. ولا شك أيضا أنها أثرت في تصور الرومانتيكية للشاعر والفنان كما عبرت في السنوات الأخيرة عن نفسها أوضح تعبير في أعمال كاتب كبير، مثل «توماس مان». وطبيعي أن يكون «جوته» قد صور في مسرحيته جانبا من حياته وآلامه الشخصية، وإن لم يمنع هذا من أن تنفرد الصورة بحقيقتها المستقلة. لقد سبق أن فعل ذلك في رواية شبابه «فرتر»، فكانت تسجيلا لعذابه وخلاصا من هذا العذاب في وقت واحد. وهو قد فعل الشيء نفسه في «تاسو»، فتجاوز همومه إلى هموم الشعراء بوجه عام، وبين أن الشاعرية في صميمها نوع من العذاب الذي يكابده الشاعر في العالم وفي ذاته، ينشأ عن إفراط في الخيال وتفريط في الواقع. فمن طبيعة المخيلة أن تعلو وتتجاوز باستمرار، وتتحرك حركة جارفة متدفقة تتخطى «الهنا» و«الآن»، ولا تعترف إلا بالماضي أو المستقبل. وقد أورد «إكرمان» حديثا له مع «جوته» في اليوم الثامن من شهر مارس سنة 1831م، أي قبل وفاته بسنة واحدة، يمكن أن ينطبق على «تاسو» بصورة مباشرة؛ فقد قال له «جوته»: «إنه لا شك أن في الشعر وبالأخص في غير الشعوري منه، شيئا شيطانيا لا يدركه الفهم ولا العقل، ويؤثر من أجل ذلك تأثيرا لا يمكن تصور مداه». ولا بد أن «جوته» قد أراد أن يحد من خطر رومانتيكي كان يتهدده ويغريه بالانسياق وراء الخيال الجامح والبعد عن الأرض ونظمها وأشكالها. ولا بد أنه وصل بذلك إلى الهدوء والاتزان الذي تميز به في حياته وأعماله.
ولكن هل وصل «تاسو» نفسه إلى شيء من هذا الهدوء والاتزان؟ هل وجد في النهاية بعض العزاء عن حزنه المنكسر الأليم؟ وهل كان في قدرته على التعبير عن هذا الحزن أو في شاعريته نفسها، ما يعوضه عن فشله وهوانه في العمل والحياة؟
لا بد أنه أحس بما يشبه العزاء الميتافيزيقي عن تحطم وجوده التعيس، حين قال عن نفسه في نغمة لا تخلو من الفخر والكبرياء إن الله قد أعطاه القدرة على التعبير عن عذابه، حين حرم غيره من هذه القدرة وتركه أخرس من الألم:
لم يبق إلا شيء واحد: الدموع التي أعطتها لنا الطبيعة
وصرخة الألم التي يطلقها الإنسان
حين يعجز عن الاحتمال.
وأنا الذي احتفظت بهذه الهدية السامية
تركت لي في الألم اللحن والخطاب
لأشكو همومي كلها في نشيدي:
وإذا ما أخرس الإنسان عذابه
وهبني الرب أن أعبر عن عذابي.
ما أجمل هذه النعمة التي وهبتها له السماء، وما أعظم المعرفة التي تفيض - على مرارتها - بالحكمة والصفاء، والتضحية التي قدم بها حياته قربانا للشعر والشعراء!
ملحوظة
بقيت كلمة، أحب أن أسوقها عن هذه الترجمة. فقد رجعت فيها إلى النص المحقق الذي نشر في طبعة هامبورج المشهورة لأعمال «جوته»، بإشراف الأستاذ «يوسف كونس»
Joiseph Kunz ، كما استفدت في كتابة المقدمة من تعليقه على المسرحية ومن الفصل الذي كتبه عنها العلامة «بنوفون فيزه»
Benno Von Wiese
في كتابه التراجيديا الألمانية من لسينج إلى هيل. وقد رجعت كذلك إلى الترجمة الفرنسية التي قام بها «هنري توما
H. Thomas » ونشرت مع بقية مسرحيات «جوته» في مجموعة البلياد المشهورة، واستفدت منها كثيرا في توضيح ما غمض علي من النص الأصلي. ولست أدري إن كانت هذه الترجمة قد استطاعت أن تنقل بعض ما في الأصل الشعري من رقة وجمال لا يوصف، فالأفضل أن أترك الحكم في ذلك للقراء!
عبد الغفار مكاوي
شخصيات المسرحية
ألفونس الثاني : أمير فرارا.
AIfons der Zweite, Herzog von Ferrara.
ليونورا فون إسته : شقيقة الأمير.
Leonore von Este, Schwester des Herzogs.
ليونورا سانفيتاله : دوقة سكانديانو.
Leonore Sanvitale, Grafin von Seandiano.
توركواتو تاسو .
Torquatoi Tasso.
أنطونيو مونتيكاتينو : وزير.
Antonio. Montecatino, Staatssekretar. (المشهد في بلريجواردو، أحد قصور الترف .)
الفصل الأول
المنظر الأول (فناء حديقة تزينه تماثيل نصفية لشعراء الملاحم.) (يظهر في مقدمة المسرح على اليمين تمثال فرجيل، وعلى اليسار تمثال أريوست.)
المشهد الأول (الأميرة - ليونورا)
الأميرة :
ليونورا، أنت تنظرين إلي وتبتسمين
تم تنظرين إلى نفسك وتبتسمين من جديد.
ماذا بك؟ دعي صديقتك تعرف الخبو!
التفكير يبدو عليك، ومع هذا يبدو عليك السرور.
ليونورا :
أجل يا أميرتي، يسرني أن أرانا هنا
في زينة أهل الريف.
نبدو كالراعيات السعيدات
ويشغلنا ما يشغل السعداء.
نحن نعقد الأكاليل. هذا الذي يزدان بالزهور
1
يكبر شيئا فشيئا في يدي،
وأنت بفكرك السامي وقلبك الكبير
قد اخترت الغار الرقيق النحيل.
الأميرة :
الأغصان التي جدلتها بالفكر والخيال،
سرعان ما وجدت رأسا بها جديرا.
إنني أضعها ممتنة على رأس فرجيل. (تضع الإكليل على رأس فرجيل.)
ليونورا :
وها أنا أيضا أثبت إكليلي المكتمل البهيج
على جبهة المعلم لودفيج العالية!
2 (تضع الإكليل على رأس أريوست.)
هذا الذي لن تذبل دعاباته
ليأخذ حظه من الربيع الجديد.
الأميرة :
شاءت مروءة شقيقي أن يرسلنا
في هذه الأيام إلى الريف.
نستطيع أن نخلد إلى أنفسنا ونقضي الساعات
ونحن نحلم في زمان الشعراء الذهبي.
أحب بلريجواردو، فكم من يوم بهيج.
من أيام الشباب عشته هنا في حبور،
وهذه الأوراق الخضراء، وهذه الشمس
تبعث في وجداني الإحساس بالزمن البعيد.
ليونورا :
أجل. إن عالما جديدا يحيط بنا!
ظلال هذه الأشجار المخضرة أبدا،
تغمر القلب بالسرور.
وخرير الأمواج يسعد النفس من جديد.
الغصون الشابة تهدهدها ريح الصباح.
والزهور تتطلع إلينا من أحواض الزرع
وفي عيونها الطفلية نظرة ودود.
والبستاني يرفع مطمئنا سقف البيت الزجاجي.
الذي غرس فيه الليمون والبرتقال.
السماء الزرقاء تمتد من فوقنا،
وعلى مدى الأفق يذوب الثليج.
على قمم الجبال البعيدة
ويرسل أنفاس العبير.
الأميرة :
كم كنت أود أن أرحب بالربيع
لو لم يسلب مني صديقتي.
ليونورا :
لا تذكريني، في هذه الساعات الحسان
بأنني، يا أميرتي، سأرحل عن قريب.
الأميرة :
كل ما قد تهجرينه، سوف تجدينه مضاعفا
في تلك المدينة الكبيرة من جديد.
ليونورا :
الواجب يدعوني، والحب يناديني،
للزوج الذي طال حرمانه.
سأحضر له ولده، الذي أسرع نموه،
وزكت تربيته في هذا العام،
وأشاركه فرحة الآباء.
عظيمة هي فلورنسا ورائعة،
غير أن كنوزها المتراكمة
لا تعدل قيمتها نفائس «فرارا».
إن الشعب هو الذي جعل من تلك المدينة مدينة،
أما «فرارا»، فبفضل أمرائها أصبحت عظيمة.
3
الأميرة :
بل الفضل للطيبين
الذين أقبلوا إلى هنا بمحض المصادفة،
وجمع الحظ بيننا وبينهم.
ليونورا :
من اليسير على المصادفة أن تفرق ما جمعت.
أما الإنسان النبيل فيجذب النبلاء إليه،
ويعرف كيف يحتفظ بهم، مثلما تفعلون
من حول شقيقك ومن حولك
تتآلف قلوب جديرة بكما
وأنتما جديران بآبائكما العظام
هنا توقدت في بهجة.
شعلة العلم وحرية الفكر الجميلة،
4
بينما كان التوحش يلقي ظله الكثيف
على العالم المحيط بكم
كنت لا أزال طفلة، عندما رنت أسماء هرقل
وهيبوليت في أذني.
كان أبي يكثر من الثناء
على «فرارا» ثناءه على روما وفلورنسه!
طالما اشتقت إليها، وها أنا ذا الآن أعيش فيها.
هنا حل بتراركا ضيفا، وهنا لقي الرعاية،
وأريوست عثر هنا على نماذجه.
وما من اسم عظيم ذكرته روما
إلا وحل ضيفا على هذا البيت.
وإنها لمزية أن تستضيف العبقري،
إن أنت قدمت له هدية
رد لك الهدية بأحسن منها.
المكان الذي يحل فيه إنسان طيب
تحل فيه البركة؛ ولا تزال كلمته وعمله
ترددان في سمع الحفيد بعد مائة عام.
الأميرة :
هذا لو كان للحفيد مثل ما لك من إحساس حي؛
إني كثيرا ما أغبطك على هذه النعمة.
ليونورا :
التي تستمتعين بها في هدوء وصفاء
متعة لا يعرفها إلا القليلون.
إن قلبي ليدفعني إلى الإفصاح
عما أحس به ملء الفؤاد.
أنت تحسين به أفضل وأعمق وتصمتين.
أنت لا يبهرك مظهر اللحظة العابرة،
ولا الذكاء يخلبك، عبثا يحاول التملق
أن يلتصق بأذنيك.
إن فكرك يظل راسخا، وذوقك سليما
وحكمك صائبا، وحظك من العظمة دائما عظيما،
فأنت تعرفينها كما تعرفين نفسك.
الأميرة :
أولى بك ألا تخلعي علي هذا الملق الرفيع،
ثوب الصداقة الحميمة.
ليونورا :
بل الصداقة عادلة، فهي وحدها
التي تستطيع أن تقدرك حق قدرك.
دعيني كذلك أذكر للحظ والمناسبة
دورهما في تكوين روحك،
إنك تملكينها حقا، وإنك أنت في النهاية هذه الروح،
والدنيا كلها تكرمك أنت وشقيقتك
5
وتعلي قدركما فوق عظيمات النساء في زمانكما.
الأميرة :
كل هذا، يا ليونورا، لا يؤثر علي كثيرا،
كلما تذكرت أننا لا نساوي إلا القليل،
وأن هذا القليل ندين به لغيرنا.
إن معرفتي باللغات القديمة، وبأفضل ما خلفه
لنا العالم القديم شيء أدين به لأمي.
ومع ذلك فلم تكن إحدى ابنتيها لتدانيها
في علمها ولا في حكمها السليم،
ولو حاولت إحدانا أن تقارن نفسها بها،
لكانت لوكرسيا بذلك أولى مني.
كذلك أستطيع أن أؤكد لك،
أنني ما نظرت يوما إلى ما وهبتني الطبيعة أو أولانيه الحظ
على أنه ملك لي، أو أنني جديرة به.
إن مما يسعد نفسي، حين أسمع الأذكياء يتناقشون:
أن أتمكن من فهمهم وتتبع ما يريدون.
قد يكون حكما على رجل من رجال العصر القديم،
أو على قيمة أعماله،
أو قد يدور الحديث عن علم نمته التجربة،
فنفع الإنسان وارتفع به في آن،
في أي وجهة دار حديث هؤلاء النبلاء
وجدتني أتتبعهم؛ لأنني أحب أن أتابع الحديث،
أحب أن أشهد مناظرات الحكماء،
وأرى كيف يعبث في رقة بشفاه الخطباء
كلامهم عن القوى الصديقة أو القوى المخيفة
التي تحرك صدر الإنسان؟!
وأحب أن أرى كيف تصبح شهوة الأمراء
إلى الحكم والتوسع في الممتلكات
موضوعا يتناوله المفكرون؟!
وكيف تستطيع الفطنة اللطيفة
التي يتعهدها اللبيب بالرعاية الدقيقة
أن تعلمنا بدلا من أن تؤذينا؟!
ليونورا :
وبعد أن تنتهي مثل هذه الأحاديث الجادة،
يستريح السمع والوجدان
لتذوق قوافي الشاعر،
الذي يسكب أحب المشاعر،
في النفس بأنغام عذاب.
إن روحك العالية تحيط بمملكة شاسعة،
أما أنا فأوثر أن أقيم
في جزيرة الشعر التي تنمو فيها أشجار الغار.
الأميرة :
لقد أكدوا لي أن شجرة المر
6
هي التي تؤثر أن تنمو في هذا البلد الجميل
أكثر من غيرها من الأشجار
وإذا كانت ربات الفن والجمال كثيرات العدد،
فيندر أن يبحث الإنسان بينهن عن صاحبة ورفيقة،
لأن لقاء الشاعر أحب إلى نفسه.
إنه يتجنبنا، لا بل يبدو كأنه يهرب منا.
ويبحث عن شيء لا نعرفه.
وقد لا يعرفه هو نفسه في نهاية المطاف.
ما أجمل أن يلقانا عندئذ في اللحظة المواتية.
وأن يتعرف فينا، والبهجة تغمره،
على الكنز الذي طالما بحث عنه عبثا في العالم البعيد.
ليونورا :
لا بد لي من قبول دعابتك،
إنها تصيبني حقا، ولكنها لا تصيبني في الصميم
إنني أقدر كل إنسان وأعرف له فضله.
ولست أحس لتاسو بغير العدل والإنصاف.
إن نظرته لا تكاد تستقر على هذه الأرض،
لكن أذنه تسمع ألحان الطبيعة المنسجمة.
كل ما يقدمه التاريخ من كنوز، كل ما تهديه الحياة،
يتلقاه صدره بالحب والعرفان.
إن وجدانه يجمع كل ما تباعد وتشتت،
وإحساسه يهب الحياة لما لا حياة فيه.
كثيرا ما يضفي النبل على ما يبدو لنا وضيعا،
والشيء الذي نقدره يصبح في عينيه عدما وهباء.
هذه هي الدائرة الساحرة،
التي يتجول فيها هذا الرجل المدهش.
ويغرينا على التجوال معه فيها
ومشاركته الحياة التي يحياها
إنه يبدو كأنه يقترب منا، ومع ذلك يظل عنا بعيدا،
ويبدو عليه كأنه يتطلع إلينا،
ومن يدري أي أشباح غريبة،
تتراءى له في مكاننا؟
الأميرة :
أراك صورت الشاعر الذي يهيم في ممالك الأحلام العذبة
في صورة لطيفة ورقيقة،
ومع هذا يبدو لي أن الواقع
يجذبه كذلك إلي بقوة ويسيطر عليه.
هذه الأغاني الجميلة التي نلقاها،
معلقة هنا وهناك على الأشجار،
أشبه بتفاحات ذهبية، أو بنجمة المساء.
ألا ترين أنها الثمار العذبة لحب حقيقي؟
ليونورا :
أنا أيضا أبتهج بهذه الصفحات الحسان.
إن روحه الخصبة تمجد صورة واحدة
في كل أبياته وقصائده.
أحيانا يفتنه سناها المضيء
فيرفعها إلى السماء المزدانة بالنجوم،
ويسجد أمامها سجود العابد؛
كما تفعل الملائكة فوق السحاب،
أو يسترق الخطا، ليفتش عنها في المروج الناعسة،
ويعقد لها تاجا من كل زهرة تصادفه.
فإذا ابتعدت المعبودة،
راح يبارك الدرب الذي وطئته قدمها الجميلة.
إنه يتخفى كالبلبل بين أغصان الأيك
ليشدو من قلب موجع،
ويملأ المرج والهواء بشكواه العذبة الحنون.
إن أغنيته الساحرة تجذب الآذان،
وكآبته المسعدة تجبر القلوب على الاستسلام.
الأميرة :
وإذا أراد أن يسمي محبوبه
فسوف يسميه ليونورا.
ليونورا :
إنه اسمك، كما هو اسمي
ولقد كان يسيئني أن يختار اسما سواه.
يسعدني أنه يستطيع بهذا المعنى المزدوج
أن يخفي عاطفته نحوك.
كما يرضيني أن يتذكرني أيضا
كلما نطق بهذا الاسم العذب.
بعيد عن خاطري الآن ذلك الحب،
الذي يريد أن يسيطر على المحبوب،
ويملكه بلا شريك، وتدفعه الغيرة
لأن يحميه من كل الأنظار.
إذا كان في ساعات الإلهام السعيد،
ينصرف إلى التأمل في سمو قدرك
فربما أسعده أن يلتفت
في بعض الأحيان إلى قدري الضئيل.
إنه لا يحبنا - واعذريني أن أقولها لك! -
بل يجمع ما يحبه من كل الأجواء ؛
ليضعه في اسم واحد نحمله،
ويعبر به عن إحساسه؛
يخيل إلينا أننا نحب الرجل،
وما نحب في الواقع إلا اسمي،
ما يمكن أن نصل إليه بالحب.
الأميرة :
لقد تعمقت في هذا العلم يا ليونورا.
إنك تقولين لي أشياء لا تكاد تلمس إلا أذني،
ولكنها لا تنفذ أبدا إلى روحي.
ليونورا :
أمثلك يا تلميذة أفلاطون لا تفهم
7
ما تجرؤ مستجدة على الثرثرة به؟!
لا بد أنني أخطئ بالغ الخطأ،
ولكن لا، إنني لا أخطئ تماما، وهذا ما أعرفه جيدا.
إن الحب لم يكن يظهر في هذه المدرسة النبيلة
في مظهر الطفل المدلل كدأبه على الدوام،
بل كان الشاب الذي تزوج بسيخة
8
وجلس مع الآلهة يدلي بالرأي والمشورة.
إنه لا يضطرب هنا وهناك
نزقا من قلب إلى قلب،
ولا يعمه في ضلاله العذب.
ليتشبث بالشكل والجمال،
ولا يكفر عن نشوته العاجلة
بالسخط والاشمئزاز.
الأميرة :
ها هو ذا أخي مقبلا!
فلنحاول ألا يفضحنا الحديث
حتى لا يسخر بكلامنا،
كما سخر من قبل بملبسنا.
المشهد الثاني (السابقون - ألفونس)
ألفونس :
أبحث عن تاسو، الذي لا أعثر عليه في أي مكان،
وحتى هنا لا أجده معكما.
هل تستطيعان أن تنبئا بخبر عنه؟
الأميرة :
بالأمس رأيته لحظة، واليوم لم أره.
ألفونس :
إنه يقترف الخطأ القديم؛ إذ يسعى إلى الوحدة،
لا إلى صحبة الناس.
لئن غفرت له فراره من زحام البشر
وإيثاره الإخلاد إلى روحه، يسامرها في حرية وهدوء،
فلن أستطيع أن أغفر له
أنه يبتعد بنفسه عن دائرة الأصدقاء.
ليونورا :
أيها الأمير، إن لم أكن مخطئة
فسرعان ما تحول لومك إلى ثناء.
لقد رأيته اليوم من بعيد.
كان يحمل في يده كتابا ولوحا،
وكان يكتب ثم يمشي ثم يكتب من جديد.
كلمة عابرة قالها بالأمس لي
أحسست أنها تعلن إتمام عمله.
لم تبق أمامه غير لمسات صغيرة
ويقدم لمروتك التي طالما أنعمت بها عليه
الهدية التي هي بها جديرة.
ألفونس :
مرحبا به إن حملها إلي
ولينل عفوي إلى أمد طويل
بقدر ما أبدى من الاهتمام بعمله،
وبقدر ما تسعد نفسي - ولا بد أن تسعد -
بهذا العمل العظيم،
فإن قلقي أيضا يتزايد كل يوم.
إنه لا يفرغ منه، ولا يستطيع أن يتمه،
بل يغير فيه بلا انقطاع، ويتقدم ببطء،
ثم يتوقف من جديد، ويخيب فيه الرجاء
عسير على النفس أن يرى الإنسان
كيف تفلت منه المتعة،
التي ظنها قريبة منه.
الأميرة :
أما أنا فأثني على هذا التواضع،
وأمتدح الحرص الذي يسير به
خطوة فخطوة إلى الهدف.
لم تكن أبياته لتتحد في مجموع حتى،
حتى ترضى عنه ربات الفن والجمال
وإن نفسه لا تصبو إلى شيء
كما تصبو إلى أن يكتمل قصيده في كل منسجم.
إنه لا يريد أن يكوم خرافة على خرافة
قد تشوق وتسحر، لكنها تخدعك في آخر الأمر
ويضيع صداها كما تضيع الكلمات المفككة.
دعه يا أخي، فإن الزمن
ليس مقياسا للعمل الجيد؛
وإذا كان للأجيال المقبلة أن تستمتع به،
فالواجب على الذين يعيشون مع الفنان أن ينسوا أنفسهم.
ألفونس :
فلنوحد جهودنا، يا شقيقتي المحبوبة،
كما فعلنا في أغلب الأحيان، لخيرنا المشترك!
إن تشددت عليه، فتلطفي أنت معه.
وإن وجدتك مفرطة التسامح، رحت أتعجله
ربما وجدناه عندئذ على حين فجأة ،
وقد أدرك الهدف الذي طالما تمنيناه
هناك فليدهش الوطن، وليدهش العالم كله
لروعة العمل الذي أتمه.
سأنال أنا نصيبي من ذلك المجد،
وستتفتح له أبواب الحياة.
لا يستطيع الرجل النبيل أن يقتصر
في ثقافته على مجال محدود.
لا بد أن يؤثر الوطن
ويؤثر العالم كله عليه
لا بد له أن يتعلم
كيف يحتمل الثناء والهجاء
سوف يجد نفسه مضطرا
إلى أن يحسن معرفة نفسه وغيره،
ولن تستطيع الوحدة أن تهدهده
بأوهامها التي تتملقه.
وإذا كان العدو لا يبقي عليه
فلا يجوز للصديق أن يراعيه؛
هنالك يجرب الشاب قدرته على الكفاح
فيحس بكيانه، ويشعر بأنه قد أصبح رجلا.
ليونورا :
إذن فسوف تقدم له، يا أمير، كل ما تستطيع،
كما قدمت له الكثير حتى الآن.
إن الموهبة تتكون في ظل السكون.
ودوامة الحياة هي التي تربي الطباع.
ليت وجدانه يتعلم من دروسك كما تعلم فنه!
فلا يعود يتجنب الناس، ولا يتحول سخطه
في نهاية الأمر إلى الخوف والحقد!
ألفونس :
لا يخاف الناس إلا من يجهلهم،
ومن يتجنبهم سرعان ما يسيء فهمهم.
ذلك هو حاله، وكذلك يضطرب الوجدان الحر
ويحبس نفسه مع الأيام في الأغلال.
كثيرا ما أراه يهتم بنيل رضاي
أكثر مما ينبغي لمثله؛
ويسيء الظن بعدد كبير من الناس،
أعلم تمام العلم أنهم ليسوا أعداءه.
وإذا حدث أن فقد له خطاب
أو انتقل من عنده خادم ليخدم غيره
أو ضاعت إحدى أوراقه،
أسرع إلى الحكم بأن وراءها نية سيئة
وخيانة وحيلا ماكرة
تريد أن تدمر مصيره.
الأميرة :
فلنحاول، يا أخي، ألا ننسى
أن الإنسان لا يمكنه أن يتخلى عن نفسه.
وإذا حدث لصديق ورفيق سفر أن جرحت قدمه،
ألا نفضل في هذه الحالة أن نمشي على مهل،
ونمد له يدنا عن طيب خاطر؟
ألفونس :
الأفضل من ذلك أن نحاول شفاءه،
ونسرع بتجربة العلاج الذي ينصح به الطبيب،
ثم نمضي فرحين مع الرفيق المعافى،
على الطريق الجديد للحياة المستبشرة
ومع ذلك فإنني أرجو يا أحبائي
ألا يقال عني إنني تحملت وزر الطبيب القاسي.
إنني أفعل كل ما أستطيع،
لكي أبث في قلبه الثقة والأمان.
وأقدم له أمام الكثيرين
من الدلائل ما يؤكد رضاي.
فإذا جاء إلي شاكيا، أمرت على الفور بالتحقيق،
كما فعلت أخيرا حينما صور له الخيال
أن اللصوص قد داهموا حجرته،
فإذا لم يتم الكشف عن شيء
شرحت له رأيي في اتزان.
وكما أن على الإنسان أن يجرب كل شيء،
فإنني أجرب الصبر مع تاسو، لأنه يستحقه.
وإني لأعلم أنكما تؤيداني
لقد أتيت بكما إلى الريف،
وسأعود إلى المدينة في المساء
سوف تريان أنطونيو لبضع لحظات،
إذ سيحضر من روما ليأخذني معه.
أمامنا أمور كثيرة لا بد من بحثها والانتهاء منها،
وقرارات لا بد من اتخاذها، ورسائل لا بد من كتابتها؛
وكل هذا يدعوني للرجوع إلى المدينة.
الأميرة :
هل تأذن لنا بمصاحبتك؟
ألفونس :
بل ابقيا في بلرجواردو، وسافرا معا إلى كونساندولي!
9
واستمتعا بالأيام الجميلة كما يحلو لكما.
الأميرة :
ألا يمكنك حقا أن تبقى معنا؟
وتدبر هنا شئونك كما تدبرها في المدينة؟
ليونورا :
وهل تحرمنا على الفور من أنطونيو،
الذي ننتظر منه أن يروي الكثير عما شاهده في روما؟
ألفونس :
مستحيل ما تطلبان يا صغيرتي،
ومع ذلك فسأعود معه، بأسرع ما نستطيع.
وعندئذ تستمعان إلى حكاياته، وتساعدانني على مكافأته،
وهو الذي يبذل في خدمتي الكثير.
فإذا فرغنا من الحديث،
فليأت الضيوف كجماعات النحل،
ليشيعوا الفرح في حدائقنا،
ولألق تحت الظلال الرطبة
الجمال الذي أفتش عنه ويحن قلبي إليه.
ليونورا :
سنحاول أن ننظر من خلال الأصابع.
10
ألفونس :
وسترين إلى أي حد يذهب بي التسامح.
الأميرة (وهي تستدير ناحية المسرح) :
أرى تاسو يتقدم نحونا من مدة طويلة
إنه يسير بخطى بطيئة، ويقف كالمتردد
فجأة بلا حراك.
تم يعود فيحث السير نحونا،
وها هو ذا يتوقف من جديد.
ألفونس :
حين تريانه يتأمل ويبدع،
فلا تزعجا أحلامه، بل اتركاه يتجول كما يشاء.
ليونورا :
لا، لقد رآنا، وها هو ذا قادم نحونا.
المشهد الثالث (السابقون - تاسو)
تاسو (ومعه كتاب مجلد بالرق) :
ها أنا ذا أتقدم في بطء، لأعطيك كتابا،
وما زلت أتردد في تسليمه إليك.
أعلم تمام العلم أنه لا يزال ناقصا،
وإن بدا عليه أنه تم وانتهى
إذا كنت قد أحسست بالهم
لأنني أهديه إليك قبل إتمامه،
فقد استولى علي هم جديد
من أن أبدو شديد الخوف،
أو أظهر في مظهر الجاحد.
وكما يستطيع امرؤ أن يقول: ها أنا ذا،
فيفرح به الأصدقاء ويسامحونه،
كذلك لا أملك أنا أيضا إلا أن أقول: خذه من يدي! (يقدم له الكتاب.)
ألفونس :
أنت تفاجئني بهديتك،
وتجعل من هذا اليوم الجميل عيدا.
ها أنا أحمل الكتاب أخيرا بين يدي،
وأعده على نحو من الأنحاء كتابي!
طالما تمنيت أن تحزم أمرك،
وتقول في النهاية: هاك الكتاب! لقد اكتفيت!
تاسو :
إن رضيتم به، فقد تحقق غرضي
لأنه كتابكم، من كل ناحية
لو أنني فكرت في الجهد الذي بذلته فيه،
ورأيت الخطوط التي رسمتها ريشتي
لقلت لنفسي: إن هذا الكتاب كتابي
ولكنني كلما أمعنت النظر
وبحثت عما يعطي هذا القصيد
قيمته العميقة ومنزلته العالية
عرفت أنني لم أستمده إلا منكم.
إن كانت الطبيعة الحنون قد وهبتني
نعمة الشعر الرائعة،
فقد شاء القدر العنيد
أن يبطش بي بطشه القاسي؛
وإن كان العالم بكل ما فيه من جمال
قد سحر عيون الصبي الصغير،
فسرعان ما كدر روحه الشاب
ما حاق بأبويه الحبيبين
من بؤس لم يستحقاه.
11
كنت كلما تفتحت شفتاي للغناء
انسكبت منهما الأغنية الحزينة،
ورحت أصاحب بالأنغام الهامسة
الآم الأب وعذاب الأم.
أنت وحدك الذي خلصتني من هذه الحياة الخانقة،
ورفعتني إلى سماء الحرية الجميلة.
أنت الذي أزحت الهموم عن جبهتي،
وحررت روحي فرفرف جناحاها بالغناء،
وسواء ما كان الجزاء الذي ينتظر كتابي،
فإنني أدين لك به؛ لأنه منك وإليك.
ألفونس :
تستحق الحمد مرتين،
فأنت تكرم نفسك في تواضع،
وتكرمنا سمعك.
تاسو :
آه لو استطعت أن أعبر لك
عن إحساسي الخالص بأن ما أحمله لك
إنما يأتي منك أنت!
ذلك الشاب الذي لم يكن قد جرت شيئا،
أكان في مقدوره أن يستمد هذه القصيدة من نفسه؟
هل كان في استطاعته أن يدرك
كيف تدبر الحرب الخاطفة تدبيرا حكيما؟
فنون البراعة في السلاح، التي يبديها الأبطال
في اليوم الموعود
ألمعية القائد وشجاعة الفرسان،
وكيف يتنافس الدهاء مع اليقظة في النزال،
ألم تكن أنت. أيها الأمير الحكيم الشجاع،
من بث في نفسي هذا كله، وكأنك شيطاني الملهم
الذي يحلو له أن يكشف عن طبيعته السامية
في جسد إنسان فان؟
الأميرة :
تمتع الآن إذن بالعمل الذي أسعدتنا به!
ألفونس :
ابتهج بحفاوة الطيبين!
ليونورا :
وافرح بالمجد الذي لا حد له!
تاسو :
هذه اللحظة تكفيني
ما فكرت إلا فيكم، حين تأملت وكتبت،
رضاكم كان أقصى مناي،
وإسعادكم كان أسمى أهدافي.
من لا يرى العالم بعيون أصدقائه
لا يستحق أن يلتفت العالم إليه
هنا وطني، وهنا دائرة الصحاب
الذين ترتاح نفسي إلى المقام بينهم
هنا تصغي روحي، وتلتقط كل إشارة،
هنا تتكلم التجربة، والمعرفة، والذوق،
أجل، وهنا تضل الفنان وتملؤه ذعرا.
أما من يشبهكم، فهو وحده الذي يفهم ويحس،
وهو وحده الذي يحق له أن يحكم ويثيب.
ألفونس :
إذا كنا نمثل العالم في الحاضر والمستقبل
فلا يخلق بنا أن نأخذ بغير أن نعطي.
العلامة الجميلة، التي تشرف الشاعر
والتي يراها البطل نفسه - وهو الذي يحتاج إليها
على الدوام - تتوج رأسه فلا يشعر بالحسد،
أراها هنا تزين جبهة سلفك العظيم. (مشيرا إلى تمثال فرجيل النصفي.)
أكانت هي المصادفة، أم هي يد الجان
التي عقدتها وجاءت بها؟ إني لا أراها هنا عبثا.
أسمع فرجيل يقول: ما الداعي لتكريم الموتى؟
لقد لقوا في الحياة جزاءهم، وأخذوا نصيبهم من السعادة؛
إن كنتم حقا تعجبون بنا وتبغون أن تكرمونا،
فأعطوا الأحياء كذلك نصيبهم.
يكفي ما وضعوه على تمثالي المرمري من أكاليل،
أما الغصن الأخضر فقد خلق للحياة. (ألفونس يشير إلى شقيقته فتنزع الإكليل من فوق تمثال فرجيل وتقترب من تاسو الذي يتراجع إلى الوراء.)
ليونورا :
أترفض؟ انظر أي يد تمد إليك،
التاج الجميل الذي لا يذبل!
تاسو :
دعوني أتردد! فلست أدري
كيف يمكنني أن أعيش بعد هذه اللحظة.
ألفونس :
عش لتستمتع بالهدية الرائعة
التي أفزعك في اللحظة الأولى أن تنالها.
الأميرة (وهي ترفع الإكليل إلى أعلى) :
أتح لي السعادة النادرة يا تاسو،
لأعبر لك في صمت، عما يدور في فكري.
تاسو :
هذا العبء الجميل من يديك الغاليتين
دعيني أتلقاه راكعا على رأسي الضعيف. (يركع على قدميه. الأميرة تضع التاج على رأسه.)
ليونورا (مصفقة) :
ليعش من يتلقى الإكليل لأول مرة!
كم يزين رأس الرجل المتواضع! (تاسو ينهض واقفا.)
ألفونس :
ليس إلا رمزا لذلك التاج،
الذي سيجلل جبهتك في «الكابيتول».
الأميرة :
هناك ستحييك الهتافات العالية؛
أما هنا فتكافئك الصداقة بشفاه هامسة.
تاسو :
انزعوه من على جبهتي، أبعدوه!
إنه يلهب خصلات شعري!
كمثل شعاع الشمس الحارق الذي يقع على رأسي
أحس به يبدد قدرتي على التفكير.
وأشعر بحرارة الحمى تعصف بدمي.
أعذروني. إنه كثير علي!
ليونورا :
بل إن هذا الغصن يحمي رأس شاعر
يسير في بلاد المجد الدافئة،
ويرطب جبهته.
تاسو :
لست جديرا بهذا الترطيب
الذي لا يخلق إلا بجباه الأبطال.
أيتها الآلهة! ارفعيه بين السحب
حتى يظل عاليا خفاقا لا يدركه أحد.
واجعلي حياتي سعيا خالدا نحو هذا الهدف!
ألفونس :
من نال متع الحياة الصافية في سن الشباب،
تعلم في ربيع العمر كيف يقدر قيمتها العالية؛
ومن ذاق طعمها وهو في عنفوان صباه،
لم يشعر بالحرمان مما امتلكه ذات يوم.
ومن ملك فقد تحصن.
تاسو :
ومن أراد أن يتحصن،
وجب أن يحس في قلبه بالقوة التي لا تخونه أبدا.
آه! إنها تخونني الآن!
هذه القوة المفطورة تتخلى عني،
وهي التي علمتني كيف أصمد للقدر،
وأواجه الظلم في كبرياء.
هل أذاب الفرح قوتي، هل بددت النشوة النخاع من أعضائي؟
ركبتاي تسقطان بي! ها أنت ذي أيتها الأميرة
ترينني راكعا أمامك للمرة الثانية!
استجيبي لدعائي: انزعي هذا التاج عن رأسي
حتى أحس كأنني أستيقظ من حلم جميل،
لأبدأ حياة منتعشة جديدة.
الأميرة :
ما دمت قادرا على حمل الموهبة التي أسبغتها عليك الآلهة
بقلب متواضع رضي،
فتعلم كذلك كيف تحمل هذه الفروع الخضراء،
فهي أجمل ما نستطيع أن نهديه إليك.
من يلامس هذا الشرف رأسه مرة،
فسوف يرف حول جبهته إلى أبد الآبدين.
تاسو :
إذن فاتركيني أغادر خجلا هذا المكان!
دعيني أخفي سعادتي في الغابة العميقة،
كما تعودت أن أخفي فيها أحزاني.
أريد أن أتجول هناك وحيدا،
فلا تذكرني عين بالسعادة التي لا أستحقها.
فإذا رأيت صورة رجل يحمل تاجه الرائع،
منعكسة على مرآة نبع صافية،
يتنكر في سكون بين الأشجار والصخور،
وتسقط عليه ظلال السماء الزرقاء،
فسوف يبدو لي كأني أرى الإليزيوم
12
منعكسا على صفحة المياه الساحرة.
هناك أتأمل في هدوء وأسأل نفسي:
ظل من هذا؟ أهو الشاب الذي عاش قديما؟
أهو الذي يحمل تاجا رائعا على رأسه؟
من الذي يقول لي اسمه؟ من يحكي أمجاده؟
ويطول بي الانتظار فأتمنى
لو أن شابا آخر جاء، وبعده ثان
وجمع بينهما حديث ودود!
آه لو أرى الأبطال، لو أرى شعراء العصر القديم،
مجتمعين حول هذا النبع!
آه لو استطعت أن أراهم هنا،
متحدين إلى الأبد، كما كانوا في عالم الأحياء
كذلك تؤلف قوة المغنطيس بين الحديد والحديد،
كما يؤلف النزوع الواحد بين البطل والشاعر.
لقد نسي هوميروس نفسه، ووهب حياته كلها
في تأمل رجلين اثنين،
والإسكندر لن يسعد في الإليزيوم
حتى يلتقي بأخيل وهوميروس.
آه لو استطعت أن أكون معهم،
لأرى كيف تتحد أعظم النفوس!
ليونورا :
أفق! أفق! لا تحملنا على الإحساس
بأنك تنكر الحاضر أو تتجاهله.
تاسو :
بل إن الحاضر هو الذي يسمو بي،
وإن بدوت في الظاهر غائبا عن البال،
فإن روحي في أوج النشوة.
الأميرة :
تسعد نفسي حين أسمعك تحادث الأرواح،
بصوت يفيض إنسانية، وأنصت إليك في سرور. (تتقدم إحدى الوصيفات من الأمير وتهمس شيئا في أذنه.)
ألفونس :
لقد حضر! اختار اللحظة المناسبة!
أنطونيو! - أحضريه إلى هنا - ولكن ها هو قادم!
المشهد الرابع (السابقون - أنطونيو)
ألفونس :
مرحبا بك! يا من جئتنا
بشخصك وبالبشارة السعيدة.
الأميرة :
تقبل تحيتنا!
أنطونيو :
لا أكاد أقوى على التعبير عما يغمرني من فرح
وأنا أجد نفسي بينكم من جديد.
كل ما حرمته وطال حرماني،
أراه الآن مرة أخرى أمامكم.
يبدو عليكم الرضا بما فعلت، وما حققت يداي؛
وهكذا أراني، وقد كوفئت على ما لقيت من متاعب،
على أيام ثابرت فيها فارغ الصبر،
وأيام أضعتها عن قصد وتدبير.
الآن قد حصلنا على ما نتمناه
ولم يعد هناك محل للنزاع.
ليونورا :
أنا أيضا أحييك، وإن كان يحزنني
أنك لم تأت إلا في اليوم الذي ينبغي علي أن أسافر فيه.
أنطونيو :
ألكي لا تتم سعادتي
تسلبينها أجمل نصيب؟
تاسو :
وأنا كذلك أحييك! وأرجو أن أجد السعادة
بالقرب من الرجل المجرب الحكيم.
أنطونيو :
ستجد مني الصدق والإخلاص،
إذا استطعت أن تلقي من دنياك نظرة على دنياي.
ألفونس :
على الرغم من أنك أخبرتني في رسالتك
بما بذلت من جهود وما حققت من نجاح،
فما زلت أريد أن أسالك
عن الوسائل التي أنجزت بها مهمتك.
هناك على تلك الأرض العجيبة
يتحتم على الإنسان أن يحسب خطاه
إذا أراد أن يصل إلى الهدف المقصود.
ومن لا يفكر إلا في مصلحة سيده،
يجد نفسه في روما في موقف عصيب؛
فروما تريد أن تأخذ كل شيء، ولا تعطي شيئا،
وإذا قصدها الإنسان لينال شيئا
لم يفز منها بغير ما جاء به معه،
والسعيد من لا يخرج منها فارغ اليدين.
أنطونيو :
أيها الأمير! لم يكن سلوكي ولا براعتي
هما اللذان أعاناني على تحقيق مشيئتك.
فأي إنسان مهما كانت فطنته،
لا يجد في الفاتيكان من يتفوق عليه؟
اتفقت ظروف كثيرة
استطعت أن أستغلها لصالحنا.
إن «جريجور»
13
يقدرك، ويحييك، ويباركك.
هذا الشيخ الهرم، أجدر من يحمل عبء التاج على رأسه،
يطيب له أن يتذكر ذلك اليوم البعيد
عندما عانقك وضمك إلى صدره.
هذا الرجل، الذي يفهم كيف يميز بين الرجال،
يعرفك جيدا ويضعك في منزلة عالية!
ولذلك فقد دفعه حبه لك، على أن يفعل لك الكثير.
ألفونس :
يسعدني أن يحسن الظن بي
على قدر إخلاص نيته.
غير أنك تعلم تمام العلم
أن من يقف في الفاتيكان وينظر من عل إلى الممالك
يراها ضئيلة تحت قدميه،
فما بالك بمن ينظر إلى الأمراء والبشر؟
صارحني إذن، ما الذي أعانك في مهمتك؟
أنطونيو :
حسنا! ما دمت تريد ذلك، فهي حكمة البابا العالية
إنه يرى الصغير صغيرا، والعظيم عظيما.
ولكي يحكم العالم، يحلو له
أن يتساهل مع جيرانه عن طيب خاطر.
إنه يقدر الأرض التي يتركها لك
كما يقدر صداقتك حق التقدير.
إنه يريد أن تظل إيطاليا هادئة،
وأن يكون جيرانه أصدقاءه،
ويسود السلام على حدوده
حتى يستطيع المسيحيون أن يكونوا قوة
تتحد تحت قيادته، لتقضي على الأتراك والملحدين.
الأميرة :
هل هناك أحد يعرف الرجال المقربين إليه،
والذين يؤثرهم بالمودة والألفة؟
أنطونيو :
الرجل المجرب وحده هو الذي يملك سمعه، والنشيط
هو الذي ينال ثقته ورضاه.
الدولة التي خدمها وهو شاب
يحكمها الآن ويؤثر على البلاط ،
الذي رآه وعرفه، وكثيرا ما ساس أموره
عندما كان رسولا إليه منذ سنوات.
إن نظرته النافذة تحيط بالعالم كله،
كما تعرف مصلحة بلاده.
من رآه وهو يدبر شئون الحكم أثنى عليه،
وأسعده أن تكشف الأيام
عما أعده في صبر وصمت، حتى حققه.
ما من مشهد في العالم أجمل
من أن يرى الإنسان أميرا يحكم عن بصيرة
ومملكة يطيع فيها كل فرد وهو فخور،
ويؤمن بأنه لا يخدم إلا نفسه،
لأنه لا يأمر إلا بالحق والإنصاف.
ليونورا :
ما أشد شوقي لمعرفة هذا العالم عن قرب!
ألفونس :
وللمشاركة بالفعل فيه بغير جدال؟
فمثل ليونورا لن تقنع بالتأمل من بعيد.
كم يكون جميلا يا صديقتي، في بعض الأحيان،
أن نشارك بأيدينا الرقيقة في لعبة الصراع
الدائرة بين الدولة. أليس كذلك؟
ليونورا (لألفونس) :
إنك تريد أن تثيرني، ولكن بغير طائل.
ألفونس :
ألست مدينا لك بهذا من قديم الأيام؟
ليونورا :
لا بأس، ولأبق أنا اليوم مدينة لك!
معذرة، ولا تقاطع أسئلتي (لأنطونيو): هل فعل الكثير من أجل أبويه؟
أنطونيو :
لم يفعل أكثر مما تقضي به التقاليد.
إن الحاكم الذي لا يعرف كيف يرعى شئون أهله،
يلومه الشعب نفسه على ذلك.
إن جريجور يعرف كيف ينفع أقاربه،
الذين خدموا الدولة كرجال أشداء،
في هدوء واعتدال؛
وبذلك يؤدي واجبين متلازمين
بلفتة واحدة.
تاسو :
هل تسعد المعرفة أيضا، ويسعد الفن برعايته؟
وهل يحذو في ذلك حذو الأمراء العظام في قديم العصور؟
أنطونيو :
إنه يكرم المعرفة بقدر ما تفيد في تدبير شئون الحكم،
وتعلم الإنسان أن يتعرف الشعوب؛
ويقدر الفن، بقدر ما يشيع الزينة والجمال،
ويضفي البهاء والروعة على روما،
ويجعل من قصوره ومعابده معجزات على الأرض.
لأنه لا يسمح لشيء حوله أن يعيش في اللهو والفراغ.
فلا بد لمن يريد أن يثبت قيمته من أن يعمل ويخدم.
ألفونس :
وهل تعتقد أننا نستطيع عن قريب أن ننهي قضيتنا،
قبل أن يخلقوا لنا المصاعب هنا وهناك؟
أنطونيو :
إن لم يستطع توقيعك،
أو بعض الخطابات التي تحررها بيدك
أن تفض هذا النزاع،
فلا بد أن أكون مخطئا تمام الخطأ.
ألفونس :
فلأحي إذن هذه الأيام التي أحياها
ولتكن أيام سعادة وفوز.
أرى حدودي قد اتسعت وأمنت.
أديت هذا العمل بغير أن تجرد سيفا،
واستحققت عليه تاج المدينة.
أريد من سيداتنا أن يعقدنه من فروع البلوط الناضرة،
وأن يضعنه على جبهتك مع إشراقة الفجر الجميل.
تاسو أيضا سخا علينا في العطاء؛
لقد فتح لنا بيت المقدس، وأخجل بذلك المسيحيين،
وأدرك الهدف النائي والمقصد الرفيع
بالجهد الشاق والحماس البهيج،
وها أنت ذا ترى التاج يزين رأسه.
أنطونيو :
أنت بهذا تكشف لي اللغز.
فقد عجبت إذ رأيت رأسين متوجين
وأنا في طريقي إلى هذا المكان.
تاسو :
إن كنت ترى سعادتي أمام عينيك،
فكم أتمنى لو استطعت أن ترى
بالنظرة نفسها وجداني الخجلان.
أنطونيو :
كنت أعرف دائما أن ألفونس
عندما يكافئ، يجاوز كل الحدود،
وأنت الآن تتعلم بدورك
ما يعلمه المقربون منه.
الأميرة :
ستعرف عندما تطلع على العمل الذي أنجزه،
أننا كنا معتدلين منصفين.
لسنا هنا إلا أول الشهود
على المجد الذي لن يبخل به العالم عليه،
والذي سيغدقه عليه المستقبل عشرات الأضعاف.
أنطونيو :
إن رعايتكم له هي التي تضمن له المجد
ومن ذا يخامره الشك حين تكافئون؟
ولكن خبريني، من الذي وضع هذا الإكليل على رأس أريوست؟
ليونورا :
هذه اليد.
أنطونيو :
وقد أحسنت صنعا فهو يزينه
بأجمل مما كان للغار نفسه أن يفعل.
كالطبيعة التي تدثر صدرها الغني العميق
بثوب أخضر بهيج،
كذلك يدثر برداء الخرافة المتألق
كل ما يجعل الإنسان محبوبا وكريما.
القناعة، والتجربة، والفهم،
قوة العقل، والذوق، والحس الصافي
بالخير الحق، تبدو في أغانيه كأنها رموز،
ومع ذلك تسري فيها حياة شخصية،
وكأنها تستريح في ظلال الأشجار المزدهرة،
تغطيها ثلوج الزهرات الخفيفة الحمل، وتتوجها الورود،
بينما تحيط بها آلهة الحب العابثة،
وتلعب لعبها الساحر كالأطفال
نبع الفيض يهمس بجانبها
ويرينا أسماكا عجيبة الألوان،
الهواء يزدحم بالطيور النادرة،
والأيكة والمرعى بالقطعان الغريبة.
الخبث يتصنت بين الأشجار، ويتكشف ثم يتخفى،
والحكمة التي يرن صوتها في سحابة ذهبية
ترسل عباراتها السامية من حين إلى حين،
بينما يبدو كأن الجنون يهذي في وحشية
على قيثارة محكمة الأوتار،
ويلتزم مع ذلك بإيقاع الأنغام.
من أحس أنه جدير بأن يضع نفسه بجانب هذا الرجل،
فقد استحق على جسارته هذا الإكليل،
اعذروني إذا كنت أحس بالحماس يغمرني،
وأندفع كالملهم النشوان، فلا أفكر في الزمان أو المكان
ولا أتدبر ما أقول؛
فهؤلاء الشعراء، وهذه الأكاليل،
وهذه الثياب البديعة على نسائنا الجميلات،
تنسيني نفسي وتنقلني إلى عالم غريب.
الأميرة :
من عرف كيف يقدر فضلا واحدا،
لم يعجزه أن يقدر فضلا آخر.
سيكون عليك أن تكشف لنا في قصائد تاسو
عما نشعر به وتفهمه أنت وحدك.
ألفونس :
تعال يا أنطونيو! ما زالت هناك أشياء كثيرة، أحب
أن أسالك عنها.
بعدها تستطيع أن تفرغ للنساء إلى أن تغرب الشمس.
تعال! الوداع. (أنطونيو يتبع الأمير، وتاسو يتبع السيدتين.)
الفصل الثاني
قاعة
المشهد الأول (الأميرة - تاسو)
تاسو :
خطواتي تتبعك مترددة يا أميرتي،
وأفكار بلا قيد ولا نظام تضطرب في روحي.
يبدو لي كأني أرى الوحدة تشير إلي
وتهمس قائلة في صوت حنون.
تعال أخلصك من هذه الشكوك التي تثور في صدرك.
غير أني حين أنظر إليك،
وتسمع أذني المتلهفة كلمة واحدة من شفتيك
يتجلى لي نهار جديد
وتتكسر عني الأغلال.
أريد أن أعترف لك
بأن الرجل الذي جاءنا على غير انتظار،
قد أيقظني بلا رحمة من حلم جميل؛
إن وجوده وكلماته قد صدمتني على نحو غريب،
حتى لأشعر كأنني نفسان تتصارعان في كياني،
وأنني بدأت أرتبك وأتنازع مع ذاتي.
الأميرة :
من المستحيل على صديق قديم
طالت غيبته وعاش حياة غريبة
أن يعود في اللحظة نفسها، التي يرانا فيها
الصديق نفسه الذي عرفناه من قبل.
إنه في صميم قلبه لم يزل كما كان؛
انتظر حتى نقضي معه أياما قليلة،
وسوف تتناغم الأوتار هنا وهناك،
ويؤلف بينها الانسجام السعيد.
فإذا تم له كذلك أن يتعرف
على العمل الذي حققته في هذه الفترة،
فلن يتردد في أن يضعك إلى جانب الشاعر
الذي يعارضك به الآن ويصوره في صورة العملاق.
تاسو :
آه يا أميرتي! إن ثناءه على أريوست
لم يسيء إلي بل أسعدني.
ذلك أن عزاءنا نحن الشعراء،
أن نجد الناس يمتدحون الرجل،
الذي نعده المثل العظيم.
هنالك يهمس الواحد منا لنفسه في الخفاء.
إن استطعت أن تدرك نصيبا من قيمته
فلا شك أنك ستنال نصيبا من مجده.
لا. إن ما أثار قلبي من الأعماق،
ولا يزال يملأ نفسي كلها،
هي أشباح ذلك العالم المهول،
التي تلتف حول رجل عظيم بالغ الذكاء
يرسم لها المسار كأنه نصف إله.
لقد استمعت في لهفة واستمتاع
إلى الكلمات الرصينة، تخرج من فم الرجل الحكيم،
ولكن آه! لقد كنت كلما أمعنت في الانتباه
أسقط شيئا فشيئا في نظر نفسي،
حتى خشيت أن أتلاشى كالصدى على الصخور،
وأن أضيع كالرنين أو كالعدم وأفقد ذاتي.
الأميرة :
وكنت قبل ذلك بقليل تحس إحساسا صافيا
بأن البطل والشاعر متلازمان،
وأن البطل والشاعر يبحث أحدهما عن الآخر،
ومن المستحيل أن يحسد أحدهما صاحبه.
حقا إن الفعل الذي تحتفل به الأغنية
شيء رائع وعظيم، غير أنه لا يقل عن ذلك جمالا
أن تحمل الأغنية للأجيال القادمة،
روعة الأعمال الكبار.
حاول وأنت تعيش في مملكة صغيرة ترعاك،
أن تقنع بالنظر إلى العالم المضطرب
نظرة المتأمل الذي يقف على الشاطئ.
تاسو :
ألم أفتح عيني هنا لأول مرة في دهشة
لأرى كيف يكافئون الرجل الشجاع مكافأة رائعة؟
أتيت إلى هنا كصبي غرير،
في وقت كانت فيه الاحتفالات والأعياد
تكاد تجعل من «فرارا» مركز الشرف والأمجاد.
يا لذلك المشهد البديع! حول الميدان المتسع،
الذي ستدور عليه ألعاب الفروسية الرائعة،
كانت هناك دائرة يصعب أن تشرق الشمس على مثلها مرتين.
هنالك أجمل النساء كن يجلسن متراصات،
وكان يجلس أفضل الرجال في هذا الزمان.
راحت النظرة المدهوشة تستعرض الجمع النبيل،
وهتفت الأصوات: «هؤلاء جميعا أرسلهم الوطن
إلى هنا، أرسلتهم الأرض الواحدة الضيقة،
التي تحيط بها البحار.»
إنهم جميعا يؤلفون أروع محكمة،
فصلت في الشرف، والحق، والفضيلة .
إن تأملتهم واحدا واحدا لم تجد
من يحتاج أن يخجل من جاره!
ثم فتحت الحواجز، فدقت أرجل الخيول،
ولمعت الخوذات والدروع،
واندفع الفرسان، ودوت الطبول،
وتطاير الشرر وصلصلت السهام،
حين ارتطمت بالخوذات والدروع،
وثارت دوامات الغبار
فغطت مجد المنتصر وعار المهزوم.
آه! دعيني أسدل ستارا على هذا المشهد الناصع
حتى لا أشعر في هذه اللحظة الجميلة
بفداحة الإحساس بهواني.
الأميرة :
إن كانت تلك الجماعة النبيلة وتلك الأمجاد،
قد أشعلت في نفسك لهيب الطموح والاجتهاد،
فقد كان في استطاعتي، يا صديقي الشاب،
أن أعلمك في ذلك الحين درسا صامتا في الصبر
والاحتمال.
هذه الأعياد التي تثني عليها،
والتي لم تنقطع مئات الألسنة في ذلك الحين عن امتداحها لي،
لم أرها قط. كنت أرقد في مكان منعزل،
حيث تضيع آخر أصداء الفرح البعيد دون أن يعكرها شيء
أعاني آلام المرض وتضنيني الأفكار الحزينة.
كان الموت يتمثل أمامي ناشرا جناحيه،
ويخفي العالم الجديد إلى الأبد عن عيني.
ثم بدأ يبتعد في بطء، لأرى ألوان الحياة الزاهية،
شاحبة لا تزال وإن كانت رقيقة،
وكأني أراها من خلال قناع.
رأيت الصور الحية تتحرك ناعمة من جديد.
كنت أغادر غرفة المرض لأول مرة، مستندة على وصيفاتي،
حين أقبلت لوكريتسيا في بهجة الشباب
وهي تسحبك من يدك.
كنت في حياتي الجديدة
أول وجه مجهول يلاقيني.
هنالك رجوت الكثير من أجلك ومن أجلي،
وإلى هذه اللحظة لم يخب الرجاء.
تاسو :
وأنا، أنا الذي أعياني الزحام المختلط،
وأعشى عيني بريق المجد، واضطربت في نفسي الأحاسيس.
كنت أسير صامتا إلى جانب شقيقتك في طرقات القصر الهادئة.
حتى دخلت الحجرة التي طلعت علينا فيها،
مستندة على وصيفاتك،
يا لها من لحظة في حياتي! آه فلتغفري لي!
فكما ينعم القرب من الآلهة بالشفاء
على المفتون بالوهم والخيال،
كذلك شفتني نظرة في عينيك،
من كل أوهام الخيال وزيف الطموح والاشتهاء.
من قبل كانت أشواقي الغريرة
موزعة بين آلاف الأشياء
فثبت خجلا إلى نفسي،
وتعلمت أن أحب ما يستحق الحب.
كذلك يبحث الإنسان عبثا عن لؤلؤة
في رمال البحر المترامية، بينما هي مستكنة في جوف محارة.
الأميرة :
بدأنا نعيش أياما سعيدة،
ولولا أن أمير أوربينو حرمنا من شقيقتي
لقضينا السنوات في سعادة حلوة صافية.
وها نحن وا أسفاه نفتقد الكثير؛
نفتقد الروح المرحة، والقلب الممتلئ بالشباب والحياة،
والخيال الخصب، بعد أن ذهبت عنا السيدة الحبية.
تاسو :
أعرف أن إنسانا لم يستطع
أن يعوضك عن تلك البهجة الصافية
منذ ذلك اليوم الذي رحلت فيه.
كم مزق هذا فؤادي!
كم شكوت للغابة الصامتة ما أقاسيه من أجلك!
كم هتفت صائحا: هل من حق هذه الأخت وحدها
أن تشغل قلبها الخالي؟!
أما من قلب آخر يستحق أن تثق فيه؟
أما من روح أخرى تشعر معها بالانسجام؟
هل انطفأ العقل وخمد الخيال؟
ومهما يكن حظ هذه السيدة من الكمال،
فهل كانت هي وحدها كل شيء؟
غفرانك يا أميرتي! فقد كنت أحيانا أفكر في نفسي،
وأتمنى أن أصبح شيئا بالنسبة إليك.
شيئا قليلا بالطبع، ولكنه شيء أحققه بالفعل لا بالكلام.
وتبين حياتي كيف وهب لك قلبي نفسه في صمت.
غير أنني لم أنجح في هذا،
فكثيرا ما دفعني الخطأ إلى ارتكاب ما يؤلمك ،
وكثيرا ما أهنت الرجل الذي أوليته رعايتك،
وأشعت بغبائي التعقيد والاضطراب
فيما أردت له التبسيط والنظام،
وفي كل لحظة حاولت أن أقترب فيها منك
أحسست بأنني أبتعد عنك وأزداد ابتعادا.
الأميرة :
أنا ما أسأت فهم نيتك أبدا يا تاسو،
بل أعلم كيف تسعى إلى إيذاء نفسك بنفسك.
وبينما عرفت أختي كيف تحيا مع الناس وتأخذهم على علاتهم،
فما زلت في حاجة إلى سنين عديدة، حتى تفتح
قلبك لصديق واحد.
تاسو :
عاتبيني كما تشائين. ولكن خبريني
أين هو الرجل، أين هي المرأة،
التي أجرؤ على أن أفتح لها صدري
وأتكلم معها في حرية كما أفعل معك؟
الأميرة :
عليك أن تضع ثقتك في أخي.
تاسو :
إنه أميري! ولكن لا تظني
أن الرغبة العارمة في الحرية تنسيني نفسي.
إن الإنسان لم يولد ليكون حرا،
وما من شيء يمكن أن يسعد النبيل
كما يسعده أن يخدم الأمير الذي يجله.
إن ألفونس سيدي، وأنا أشعر
بكل ما في هذه الكلمة الكبيرة من معنى.
إن علي أن أتعلم كيف أسكت حين يتكلم،
وكيف أطيع حين يأمر،
مهما عارضه عقلي وقلبي.
الأميرة :
إن أخي يختلف عن ذلك تماما
ولكن ما دام أنطونيو قد رجع إلينا
فستجد فيه الصديق العاقل الذي تطمئن إليه.
تاسو :
كنت أطمع في هذا من قبل، أما الآن فقد كدت أيأس.
كم كنت أرجو أن أتعلم من صحبته،
وأنتفع بمشورته في ألف شيء!
أستطيع أن أقول إن لديه كل ما ينقصني
ومع ذلك فإن كانت الآلهة كلها قد أقبلت
لتقدم الهدايا إلى مهده
فقد تخلفت، ويا للأسف، ربات المحبة،
ومن أعوزته عطاياها فربما استطاع
أن يملك الكثير ويهب الكثير،
ولكنه لن يجد أحدا يستريح على صدره.
1
الأميرة :
ولكنه سيجد من يثق فيه، وليس هذا بالقليل.
أتريد أن تطلب كل شيء من رجل واحد؟
إن أنطونيو ينجز ما يعدك به.
وما هو إلا أن يعلن صداقته لك،
حتى يتولى من شئونك ما أخطأت أو جهلت.
عليكما أن تتحدا. وسوف أغبط نفسي،
إذا استطعت أن أحقق هذا الهدف الجميل عما قريب.
ولكن حذار أن تعاند كما تعودت أن تفعل!
ها هي ليونورا تقيم عندنا منذ وقت طويل،
وما أرقها وألطفها، وما أسهل أن يحيا معها الإنسان،
غير أنك لم تفكر أبدا
في أن تكسب ودها كما كانت تنتظر.
تاسو :
أنت أمرت فخضعت لأمرك،
ولولا هذا لفررت منها بدلا من التقرب إليها.
بالرغم من مظهرها الرقيق، فلست أدري
لماذا كان يصعب علي أن أفتح لها صدري،
وعندما كنت أشعر بأنها تقصد أن تتلطف إلى أصدقائها
فقد كان الشعور بالقصد يعكر علي صفوي.
الأميرة :
لو سلكنا هذا الطريق يا تاسو
فلن نعثر أبدا على صديق!
إن هذا الدرب يضلنا،
ويجعلنا نتوه في الغابات الوحيدة والوديان الساكنة؛
وشيئا فشيئا يرضى الوجدان عن نفسه
ويحاول عبثا أن يخلق في داخله
ذلك العهد الذهبي
2
الذي لم يجده في الخارج.
تاسو :
أي كلمة تنطق بها أميرتي!
أين إذن هرب هذا العهد الذهبي،
الذي تتلهف عليه القلوب بغير طائل؟
عندما كان الناس ينتشرون على الأرض الحرة؛
3
كالقطعان السعيدة الراضية؛
عندما كانت الشجرة العريقة المزهرة
تمد ظلالها للراعي والراعية؛
وعندما كانت الأيكة الناضرة تلف غصونها الميادة
لتضم الحبيبين الملهوفين؛
والنهر الرقيق ينسكب في هدوء وصفاء
على الرمل النقي ويعانق حورية الماء،
والحية المذعورة تتوه في العشب دون أن تؤذي أحدا،
والحيوان الجسور يلوذ بالفرار
بعد أن نال العقاب من فتى شجاع،
وكل طائر يخفق حرا في الهواء،
وكل حيوان يهيم في الجبال والوديان
يكلم الإنسان فيقول: كل ما يرضيك فهو مباح!
الأميرة :
انقضى العهد الذهبي يا صديقي،
وليس غير الأخيار من يحييه من جديد.
هل أصارحك بما يدور في خاطري؟
أحسب أن هذا العهد الذهبي الذي يتغنى به الشعراء،
هذا العهد الجميل لم يعرفه الناس قديما
إلا كما نعرفه نحن اليوم،
وحتى لو كان قد وجد في يوم من الأيام،
ففي وسع كل منا أن يعثر عليه من جديد.
ما برحت القلوب المتحابة تتلاقى،
وما برحت تستمتع بهذا العالم الجميل،
وإنما تتغير يا صديقي في الشعار،
كلمة واحدة: كل ما يليق فهو مباح!
تاسو :
ليت أن محكمة عامة تجتمع
من الطيبين والنبلاء،
كي تقرر ما يليق وما لا يليق!
بدلا من أن يعتقد كل إنسان
أن ما يصح ويجوز هو ما يعود عليه بالمنفعة.
إننا نرى كيف أن الجبار والداهية
لا يضيره شيء ويستبيح لنفسه كل شيء.
الأميرة :
إن أردت أن تعلم ما يليق،
فعليك أن تسأل النساء النبيلات
ذلك؛ لأن أكثر ما يهمهن
ألا يحدث في الحياة إلا ما يليق.
إن الذوق يحيط كالسور
بهذا الجنس الحساس الرقيق
حيث تحكم الفضيلة يحكمن،
وحيث تغلب الوقاحة لا تعثر لهن على أثر.
فإن سألت الجنسين وجدت
أن الرجل يسعى إلى الحرية،
والمرأة تسعى إلى الفضيلة.
تاسو :
هل ترين أننا غلاظ شرسون،
مجردون من كل عاطفة؟
الأميرة :
لا! ولكنكم تطمحون دائما إلى الأغراض البعيدة
وطموحكم لا يخلو أبدا من العنف.
إنكم تخاطرون حين تعملون من أجل الخلود،
بينما لا نطمع نحن من خيرات هذه الأرض
إلا في شيء متواضع قريب، نتمنى ألا يزول.
نحن لا نضمن قلب أحد من الرجال،
مهما بلغ صدقه في يوم من الأيام
الجمال الذي يبدو أنكم لا تجلون سواه، يفنى ويزول،
ما يبقى منه لا يجذب أحدا، وما لا يجذب فلا أثر فيه للحياة.
لو أن الرجال عرفوا كيف يقدرون قلب المرأة،
لو تبينوا أي كنز نقي من الحب والوفاء،
يمكن أن يضمه صدر امرأة.
لو أن ذكرى الساعات الجميلة النادرة
بقيت حية في نفوسكم،
لو أن نظرتكم النفاذة بطبعها
استطاعت كذلك أن تنفذ خلال القناع
الذي تلقيه الشيخوخة أو المرض علينا.
لو أن التملك، الذي كان ينبغي أن يكون مصدرا للسلام،
لم يوقظ فيكم التعطش إلى المجهول البعيد.
إذن لأشرق علينا يوم جميل
ولاحتفلنا بعصرنا الذهبي.
تاسو :
كلماتك أيقظت فجأة
هموما كادت تهجع في قلبي.
الأميرة :
ماذا تقصد يا تاسو؟ تكلم معي بحرية.
تاسو :
سمعت أكثر من مرة، وأسمع في هذه الأيام - ولو لم أسمع عن ذلك شيئا، لوجب علي أن أتصوره -
أن بعض الأمراء النبلاء يسعون إلى طلب يدك!
هذا الذي كان ينبغي أن نتوقعه
أصبحنا الآن نخشاه حتى يكاد اليأس يصيبنا.
سوف تتركيننا، هذه مشيئة الطبيعة،
لكنني لا أدري كيف سنحتمل هذا الفراق؟!
الأميرة :
لا تحمل الآن هما!
بل أكاد أقول: لا تحمل أبدا أي هم!
إنني أحب الحياة هنا، وأحب أن أبقى في هذا المكان.
لست أعرف إلى الآن أن هناك صلة يمكن أن تغريني.
وإذا كنتم تريدون أن تستبقوني معكم
فأثبتوا لي ذلك بالتآلف بينكم،
وتعلموا أن تسعدوا أنفسكم لكي أسعد بكم.
تاسو :
آه، علميني أن أفعل ما أستطيع!
إن أيامي كلها ملك يديك
حين يزدهر قلبي بثنائك وشكرك،
أحس بأصفى سعادة يمكن أن يحسها بشر.
حقيقة الألوهية السامية لم أعرفها إلا فيك.
كذلك تتميز آلهة هذه الأرض عن بقية البشر،
كما يتميز القدر الأعلى عن مشورة أحكم الناس وإرادتهم
إنهم يتركون أشياء كثيرة، هي في حسباننا أمواج عالية صاخبة،
تمر كالموجات الخفيفة تحت أقدامهم بغير أن يلحظوها،
إنهم لا يسمعون العاصفة التي تدوي حول رءوسنا وتدحرنا،
لا يكادون يحسون شكوانا ويتركوننا،
نحن الأطفال الضعفاء المساكين،
نملأ الهواء بالتنهد والصياح.
أنت قد تحملتني كثيرا، يا أيتها الصديقة الإلهية،
وكالشمس جففت نظرتك الندى من أجفاني.
الأميرة :
تنصف النساء إذ تعاملك معاملة رقيقة،
فأغانيك تترنم بالمرأة بمختلف الألحان.
وسواء كن رقيقات أو جريئات،
فقد استطعت دائما أن تصورهن
في صورة محبوبة ونبيلة
وإذا كانت «أرميد» تبدو في أول الأمر كريهة
4
فسرعان ما نسلم السلاح أمام فتنتها وحبها.
تاسو :
مهما تنوعت الأنغام في قصائدي
فأنا أدين بها جميعا لواحدة، لامرأة واحدة!
ليست صورة مثالية غامضة، تلك التي تطوف أمام عيني،
وتقترب مرة لتبهر روحي بضيائها وتختفي مرة أخرى.
لقد رأيتها بعيني، نموذج كل فضيلة ومثال كل جمال.
كل ما أبدعته على صورتها سوف يبقي
حب تانكريد البطولي لكلورند،
5
وفاء أرمينيا الهادئ الذي لا يلفت أحدا،
6
عظمة سوفرونيا وتعاسة أولنده،
7
ليست هذه أشباحا ولدها الخيال،
فأنا أعلم أنها خالدة، لأنها كائنة.
وهل يحق لشيء أن يعبر القرون،
ويواصل النمو والإشعاع في سكون
كما يحق لسر حب نبيل
لم يثق إلا في أغنية عذبة؟
الأميرة :
هل أحدثك أيضا عن فضيلة أخرى،
تجعل هذه الأغنية تتسلل إلى قلوبنا؟
إنها تسحرنا وتغوينا، فنسمع ونسمع،
ونظن أننا فهمناها
وما فهمناه منها لا نملك أن نعيبه،
وهكذا تغزو هذه الأغنية أفئدتنا.
تاسو :
أي سماء، يا أميرتي، تفتحين أبوابها لي!
إن لم يعمني هذا البريق،
فسوف أرى، أنا الذي يئست من كل شيء،
سعادة خالدة تهبط إلي على أشعة ذهبية.
الأميرة :
لا تتماد يا تاسو! هناك أشياء كثيرة
ينبغي علينا أن نتشبث بها بعنف،
غير أن هناك أشياء أخرى يمكن بالاعتدال
وبالحرمان أن تصبح ملك أيدينا،
هكذا يريد الحب، كما يقولون، وتريد الفضيلة
التي هي شقيقته. فتذكر ذلك جيدا!
المشهد الثاني
تاسو (وحده) :
أمن حقك أن تفتح عينيك؟
أتجرؤ أن تتلفت حولك؟
أنت هنا وحدك!
هل سمعت هذه الأعمدة ما قالته؟
وهؤلاء الشهود، هؤلاء الشهود الخرس،
على سعادتك الرائعة، هل تشك فيهم؟
ها هي الشمس تشرق على يوم جديد في حياتي
لا يمكن أن تقاس به الأيام الخالية.
الآلهة تهبط إلى الأرض وترفع البشر الفاني إليها.
يا للأفق الجديد الذي يتفتح لعيني، يا للمملكة الجديدة!
وأي مكافأة حلوة يجزى بها الشوق الحار!
كنت أحلم بأنني أقترب من السعادة السامية
فإذا بهذه السعادة تفوق كل الأحلام!
تفكر من ولد أعمى في النور وفي الألوان كما يشاء
حتى إذا تجلى له النهار الجديد، ولد له فكر جديد!
ها أنا ذا أسير على هذا الدرب، مفعما بمشاعر الأمل والرجاء،
نشوان أتمايل من الفرحة.
أنت تمنحينني الكثير، كما تمنحنا الأرض والسماء
فتفيض علينا بكفين غنيتين،
وكل ما تطلبينه الآن مني
حق تقتضيه عطاياك.
على أن أتعلم الحرمان وأظهر الاعتدال
لكي أستحق أن تثق بي.
ماذا فعلت إذن حتى تختارني؟
ماذا علي أن أفعل حتى أكون بها جديرا؟
لقد وثقت بك، وبذلك جعلتك محلا للثقة.
أجل يا أميرتي! فلأهب روحي إلى الأبد
لأجل كلماتك ونظراتك!
أجل! اطلبي ما تشائين، فأنا ملك يديك.
لترسلني إلى البلاد البعيدة بحثا عن المجد والمتاعب والأخطار،
ولتمد إلي يدها في الغابة الساكنة بالقيثارة الذهبية،
ولأنشد من أجلها أناشيد الراحة الهنيئة.
أنا ملكها، فلتخلقني من جديد لأكون لها.
قلبي احتفظ بكنوزه من أجلها.
لو أن ربا وهبني أن أتكلم بألف صوت
ما استطعت أن أعبر عن تقديسي لها.
لو أن لي فرشاة الرسام وشفة الشاعر،
أحلى ما ذاق عسل الصيف من شفاه!
لا، لن يهيم تاسو بعد الآن
وحيدا بين الأشجار وبين الناس
ضائعا وضعيفا ومحزونا!
لم يعد وحيدا، إنه الآن معك.
آه لو أن أنبل الأعمال تمثل الآن أمامي
محاطا بأبشع الأخطار!
إذن لأقدمت وخاطرت بهذه الحياة
التي تلقيتها من يديك،
ولدعوت أفضل الناس أن يكونوا من أصحابي،
ولسرنا في موكب نبيل ، كي نحقق المستحيل
بإشارة صغيرة من يديها.
أيها الملهوف، لم لم تكتم شفتاك ما أحسست به
حتى تجد نفسك جديرا بالسجود عند قدميها؟
كانت تلك هي نيتك، وكانت هي رغبتك الحكيمة،
ومع ذلك فليكن ما يكون! فأجمل بكثير
أن تتلقى هذه الهدية الصافية التي لم تستحقها
على أن تتوهم أنها كانت من حقك!
كن سعيدا! فما أروع الأفق الذي يمتد أمامك؟
وما أعظمه! وها هو الشباب المفعم بالآمال
يغريك بالمستقبل المضيء المجهول.
ترنم يا قلبي! ويا سماء الحظ،
باركي هذه النبتة التي تشرئب إليك!
إنها تتطلع إلى السماء آلاف الأفرع.
تبزغ منها وتتفتح زهرات.
آه، فلتعطنا الثمار، ولتعطنا الأفراح!
حتى تمتد يد حبيبة فتقطف الحلية الذهبية
من أغصانها الخصبة الناضرة!
المشهد الثالث (تاسو - أنطونيو)
تاسو :
مرحبا بك، يا من أراه اليوم لأول مرة!
ومن لم أكن أتوقع أفضل منه. مرحبا بك!
أنا الآن أعرفك وأعرف قدرك،
وبغير ما تردد أقدم لك قلبي ويدي،
وأطمع بدوري ألا تستصغر شأني.
أنطونيو :
أنت تحبوني بهداياك الجميلة
التي أعرف قدرها كما ينبغي،
ولكن دعني أتردد قبل أن أمد إليها يدي؛
فلست أدري إن كنت أستطيع أن أرد عليك بمثلها.
لست أحب أن أبدو متعجلا أو جاحدا،
فاسمح لي أن أكون حكيما وحريصا من أجلنا معا.
تاسو :
من ذا الذي يلوم هذه الحكمة؟
إن كل خطوة في الحياة تقنعنا بضرورتها.
ولكن الأجمل من ذلك أن تحدثنا النفس
بأن في استطاعتنا أن نستغني عن الحرص.
أنطونيو :
ليرجع كل إنسان في هذا إلى إحساسه
لأن عليه أن يتحمل بنفسه وزر خطئه.
تاسو :
ليكن الأمر كذلك. لقد قمت بواجبي،
واحترمت كلمة الأميرة التي تريد أن نكون أصدقاء،
وسعيت بنفسي إليك.
لم يكن في وسعي أن أتراجع يا أنطونيو؛
ولكنني لا أنوي أن أفرض نفسي عليك.
ليبق الأمر على ما هو عليه. فربما جاء اليوم
الذي نزداد فيه ألفة، فتحتفي بهديتي
التي ترفضها الآن في برود وتكاد تحتقرها.
أنطونيو :
كثيرا ما يبدو الرجل المعتدل باردا
بالنسبة لمن يعتقدون أنهم أدفأ من غيرهم إحساسا؛
لأن حرارة الحمى قد تمكنت منهم.
تاسو :
أنت تلوم ما ألومه وأتحاشاه.
وأنا، وإن كنت لا أزال شابا،
أعلم تمام العلم أن الاتزان خير من الاندفاع.
أنطونيو :
تلك هي الحكمة بعينها! فلتبق دائما على هذا الرأي.
تاسو :
من حقك أن تسدي إلي النصح وتحذرني؛
لأن التجربة تقف إلى جانبك كالصديقة الوفية.
ولكن صدقني: إن هناك قلبا هادئا،
ينصت إلى الدرس الذي يلقيه كل يوم وكل ساعة عليه،
ويجتهد في الخفاء أن يصل إلى ذلك الخير،
الذي تعتقد بقسوتك أنك تستطيع أن تعلمنا فيه درسا جديدا.
أنطونيو :
من الممتع حقا أن يشغل الإنسان بنفسه
إذا كان في ذلك بعض الفائدة.
إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة نفسه بالتأمل
في نفسه؛ ذلك لأنه يحتكم إلى مقياسه وحده،
فيستصغر نفسه أو يضخمها للأسف في أغلب الأحيان.
إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا من خلال الإنسان،
والحياة وحدها هي التي تعرف كل امرئ بحقيقته.
تاسو :
إنني أسمعك في احترام وأرحب بكل ما تقول.
أنطونيو :
ومع ذلك فربما فهمت من هذه الكلمات
شيئا، يختلف عما أريده كل الاختلاف.
تاسو :
إذا سرنا على هذا الطريق فلن نقترب من بعضنا.
ليس من الحكمة ولا من الخير أن نتعمد إساءة الظن بإنسان أيا كان.
إن دعوة الأميرة لم يكن لها داع؛ فقد عرفت من زمن بعيد،
أي إنسان أنت. أعلم أنك تريد الخير وتفعله.
إن قدرك لا يهمك. ولهذا تفكر في غيرك وتقف إلى جانبه،
ويظل قلبك ثابتا على أمواج الحياة المتقلبة.
هكذا أراك. وماذا يكون شأني إن لم أسع إليك؟
ألم أتلهف على نصيب من الكنز الذي تضن به؟
أعلم أنك لن تندم إذا فتحت لي صدرك،
وأعلم أنك ستصادقني إذا عرفتني على حقيقتي،
وقد كنت من زمن طويل في حاجة إلى مثل هذا الصديق.
إنني لا أخجل من قلة تجربتي ولا من شبابي.
لم تزل سحابة المستقبل الذهبية ترف حول جبهتي.
آه فلتأخذني، يا أيها النبيل، على صدرك،
ولتعلمني، وأنا الطائش الجاهل،
سر الاعتدال في الحياة.
أنطونيو :
إنك تطلب في لحظة واحدة
ما لا يكفله الزمن إلا بالحكمة والروية.
تاسو :
إن الحب يكفل في لحظة واحدة
ما لا يدركه الجهد في زمن طويل.
لست أرجوك وإنما أطالبك.
إنني أدعوك باسم الفضيلة
التي تجاهد في الربط بين القلوب النبيلة.
وهل أسمي لك اسما؟
إن الأميرة هي التي تأمل هذا، هي التي تريده.
اليونورا هي التي تريد أن تقربني منك، وتقربك مني.
فلا تجعلنا نرفض رغبتها!
دعنا نتقدم إلى الربة متحدين،
لنهبها صلاتنا ونمنحها روحنا،
ولنحقق معا ما يليق بها.
مرة أخرى. هذه يدي! فصافحها!
لا تتراجع أيها النبيل ولا تتأب
ولتتح لي أجمل متعة يتذوقها الفضلاء،
الذين يهبون أنفسهم للأفضل في ثقة وبغير تحفظ.
أنطونيو :
أراك تبحر بملء شراعك!
فقد تعودت فيما يبدو على أن تنتصر في كل معركة،
وأن تجد الطرق ممهدة أمامك والأبواب مفتوحة.
إنني أرضى لك بالفضل والسعادة عن طيب خاطر.
غير أنني أرى بوضوح أن كلينا ما زال بعيدا كل البعد عن صاحبه.
تاسو :
ربما فرقت بيننا السنون والتجارب،
أما الشجاعة والإرادة الطيبة
فلست أقل فيهما عن أحد.
أنطونيو :
الإرادة لا تكفي للإتيان بجلائل الأعمال؛
والشجاعة تصور الطرق أقصر من حقيقتها.
من يصل إلى الهدف يوضع التاج على رأسه،
وكثيرا ما يحرم منه من هو أولى به.
إن التيجان اليسيرة موجودة، ومتعددة الأنواع،
وكثيرا ما ينالها من يتنزه بغير مجهود.
تاسو :
إن ما تمنحه يد الرب لهذا أو تمنعه باختيارها عن ذاك،
ليس شيئا يمكن أن يدركه كل من أحب أو شاء.
أنطونيو :
أرجع هذا إلى الحظ دون غيره من الأرباب،
بذلك أوافقك لأنه أعمى عن الاختيار.
تاسو :
العدالة أيضا معصوبة العينين،
تغمض البصر عن كل بريق خداع.
أنطونيو :
هل يمجد الحظ إلا المحظوظ؟!
إنه يجعل له ألف عين ترى فضله،
ويمتدح اختياره الصائب وعنايته الشديدة.
وسواء سماه «مينرفا» أو ما شاء من أسماء،
فهو يعد المنحة مكافأة،
والحلية التي خلعتها عليه المصادفة
زينة نالها عن جدارة واستحقاق .
تاسو :
لست في حاجة إلى أن تكون أوضح من هذا.
كفى! إنني أنظر في أعماق قلبك وأعرفك مدى الحياة.
آه، لو أن أميرتي أيضا عرفتك على حقيقتك!
لا تبذر في سهام عينيك ولسانك!
لقد حاولت عبثا أن توجهها إلى هذا التاج،
هذا التاج الذي لن يذبل على جبيني.
كن كبير القلب ولا تحسدني عليه؛
فقد تستطيع عندئذ أن تنازعني إياه.
إنه عندي أقدس وأسمى ما أملك.
أرني مع ذلك الرجل الذي نال ما أطمح إليه،
أرني البطل الذي لم أسمع عنه إلا من حكايات التاريخ؛
دلني على الشاعر الذي يستطيع أن يقرن نفسه بهوميروس أو فرجيل،
لا بل إنني لأطلب منك أن تدلني
على رجل استحق هذه الهدية ثلاث مرات،
وأخجله هذا التاج أكثر مما أخجلني ثلاث مرات.
إن فعلت هذا، فستراني أركع على قدمي
أمام الربة التي أسبغت علي هذه النعمة؛
ولن أنهض عندئذ قبل أن تمد يديها
وتخلع هذه الزينة من على جبيني لتضعها على جبينه.
أنطونيو :
إلى أن يتم ذلك، فسوف تظل بالطبع جديرا بها.
تاسو :
لأوضع موضع الاختبار، فلست أعترض على هذا،
أما الاحتقار فلم أفعل ما يجعلني أستحقه.
إن التاج الذي كرمني به أميري،
وضفرته أميرتي بيديها،
لا يستطيع أحد أن ينكره علي أو يسخر به.
أنطونيو :
هذه اللهجة المتعالية، وهذا الغضب الملتهب،
لا يصح أن توجههما إلي، ولا يليقان بك في هذا المكان.
تاسو :
إن ما تسمح به هنا لنفسك، يليق أيضا بي
هل نفيت الحقيقة من هذا المكان؟
هل سجنت الروح الحرة في هذا القصر؟
وهل يتحتم على النفس النبيلة أن تتحمل الاضطهاد؟
أعتقد أن النبل وسمو الروح هنا في مكانهما الصحيح.
أحرام عليها أن تسعد بالقرب من عظماء هذه الأرض؟
بل إن في استطاعتها ومن واجبها أن تفعل.
إننا لا نقترب من الأمير
إلا بالنبالة التي ورثناها عن الآباء؛
فلماذا لا نقترب منه بالوجدان العظيم،
الذي لم تشأ الطبيعة أن تعطيه لكل إنسان
كما لم تشأ أن تمنح الجميع سلسلة من الأسلاف العظام؟
لا يشعر بالرعب هنا إلا الصغار،
وإلا الحسد الذي يكشف عن عاره؛
كذلك لا يصح لنسيج عنكبوت قذر
أن يعلق بهذه الجدران المرمرية.
أنطونيو :
أنت تعطيني بنفسك الحق في امتهانك!
أيريد الصبي المتهور أن يغتصب ثقة الرجل وصداقته؟
أتظن نفسك خيرا وأنت عديم الأخلاق؟
تاسو :
خير لي أن أوصف بما تسميه عدم الأخلاق
من أن أوصف بما يمكن أن أسميه بالانحطاط.
أنطونيو :
ما زلت صغيرا إلى الحد الذي تستطيع معه التربية
الصحيحة، أن تعلمك السير على طريق أفضل.
تاسو :
لست صغيرا إلى حد أن أركع أمام الأصنام،
بل كبير إلى الحد الذي يجعلني أواجه التحدي بالتحدي.
أنطونيو :
حيثما تكون الكلمة للشفاه والأوتار،
فأنت البطل والمنتصر بلا جدال.
تاسو :
ربما كان من الجرأة أن أفتخر بيميني؛
فهي لم تفعل شيئا، ومع ذلك فإنني أعتمد عليها.
أنطونيو :
إنما تعتمد على التسامح الذي دللك كثيرا
في حين تابع حظك طريقه الوقح.
تاسو :
الآن أشعر أنني تجاوزت الطفولة.
كنت آخر من يمكن أن أجرب معه لعبة السلاح،
لكنك تزيد النار اشتعالا؛ النخاع يغلي،
والشهوة الأثيمة إلى الانتقام تفور في صدري.
إن كانت لديك الرجولة التي تتباهى بها فهيا إلى النزال.
أنطونيو :
أنت تجهل من أنت كما تجهل مكانك.
تاسو :
ما من قداسة تدعونا إلى احتمال الهوان.
أنت الذي تكفر وتدنس هذا المكان،
لا أنا الذي جئت أقدم لك أجمل قربان
من الثقة والمحبة والتكريم.
إن روحك هي التي تلوث هذا الفردوس،
وكلماتك تلوث هذه القاعة النقية،
لا الإحساس الذي يثور في قلبي ويفور.
ويأبى أن يلطخه أدنى عار.
أنطونيو :
أي روح عظيم في قلب ضيق!
تاسو :
لا يزال فيه متسع للتنفيس عن الصدر.
أنطونيو :
العامة تنفس أيضا عن غضبها بالكلام.
تاسو :
إن كنت نبيلا مثلي فاثبت ذلك.
أنطونيو :
إنني كذلك بالفعل، ولكني أعرف مكاني.
تاسو :
تعال معي إذن إلى حيث يحكم السلاح.
أنطونيو :
كما لم يكن لك أن تطلبني للنزال، فكذلك لن أتبعك.
تاسو :
بمثل هذه العقبة يرحب الجبن.
أنطونيو :
الجبان لا يتوعد إلا حين يشعر بالأمان.
تاسو :
يمكنني أن أزهد في هذه الحماية عن طيب خاطر.
أنطونيو :
اغفر إن شئت ما أذنبته في حق نفسك،
ولكن لا تغفر ما أذنبت به في حق هذا المكان.
تاسو :
فليغفر لي المكان أنني احتملت هذا. (يجرد سيفه.)
جرد سلاحك أو اتبعني،
إلا إذا كنت تريد،
أن أحتقرك إلى الأبد كما أكرهك!
المشهد الرابع (ألفونس - السابقون)
ألفونس :
ماذا أرى؟ أي نزاع لم أكن أتوقعه؟
أنطونيو :
أنت تراني، يا أمير، أقف في اتزان
أمام انسان تملكه الغضب.
تاسو :
أتوسل إليك كما أتوسل لإله
أن تمسك زمامي بنظرة واحدة منك.
ألفونس :
قل لي يا أنطونيو، وأنت يا تاسو،
كيف نفذ الشقاق إلى بيتي؟
كيف استولى عليكما، كيف استطاع
أن ينتزع حكيمين مثلكما
عن سبيل الشرائع والأخلاق؟!
إنني في عجب من الأمر.
تاسو :
أعتقد أنك لا تعرفنا حق المعرفة.
هذا الرجل، المشهور بالحكمة والخلق الطيب،
عاملني معاملة فظة لئيمة
كما يفعل مخلوق لا حظ له من الأدب أو النبل.
سعيت إليه راجيا فصدني،
لم أيأس، فظللت أتقرب منه
لكنه احتد في مرارة فلم يسترح
حتى أحال أصفى قطرة في دمي إلى علقم.
معذرة ! لقد وجدتني أجن من الغضب.
ولكن إذا كنت قد أخطأت، فهذا هو المسئول.
لقد أشعل نار الغضب التي استولت علي وجرحتني وجرحته.
أنطونيو :
إن حماس الشعراء قد ذهب به بعيدا!
لقد بدأت، يا أمير، بتوجيه السؤال إلي،
فأذن لي الآن، بعد هذا الحديث المندفع، بالكلام.
تاسو :
أجل، ارو ما حدث، اروه كلمة كلمة!
وحاول إن استطعت أن تصف
كل مقطع وكل إشارة أمام هذا القاضي!
أهن نفسك مرة أخرى، واشهد على نفسك!
أما أنا فلن أنكر نفسا ولا نبضة قلب.
أنطونيو :
إن كان لديك ما تقوله فتكلم،
وإلا فاسكت ولا تقاطعني.
إن كنت أنا، يا أميري، الذي بدأت النزاع،
أو كان هذا الرأس المندفع هو الذي بدأ به،
ومن منا الذي يتحمل الخطأ؟
فتلك أسئلة طويلة لا ضرورة الآن للإجابة عنها.
تاسو :
كيف هذا؟! إن السؤال الأول في رأيي
هو من المخطئ فينا ومن المصيب؟
أنطونيو :
ليس هذا صحيحا، كما قد يخيل لعقل أفلت منه الزمام.
ألفونس :
أنطونيو!
أنطونيو :
مولاي! إنني أخضع لإشارتك، ولكن مره بأن يلزم الصمت.
فإذا فرغت من كلامي، أمكنه أن يستطرد الحديث،
وسوف تقرر الأمر بنفسك.
هذا هو ما أريد أن أقول:
إنني لا أستطيع أن أجادله،
كما لا أستطيع أن أتهمه أو أدافع عن نفسي،
ولا أن أحاول الآن أن أسترضيه؛
ذلك لأنه الآن لم يعد إنسانا حرا.
إن قانونا ثقيل العبء يرزح فوق رأسه.
ولن يخفف منه سوى عفوك ورحمتك.
لقد هددني في هذا المكان، وطلب مني النزال؛
ولم يكد يخفي أمامك السيف العاري.
ولو لم تتدخل بيننا يا مولاي
لرأيتني أقف الآن خجلا أمامك،
وقد نسيت واجبي وشاركته في إثمه.
ألفونس (لتاسو) :
لم تحسن التصرف.
تاسو :
إن قلبي يبرئني يا مولاي،
ولا شك أيضا أن قلبك يبرئني.
لقد هددت حقا، وطلبت النزال، وجردت سيفي.
ولكنك لن تتصور كيف راح لسانه اللئيم
ينتقي الكلمات الجارحة،
ولا كيف راح نابه السريع الحاد
يسكب السم الرهيف في دمي،
ولا كيف مضى يشعل نار الحمى ويزيدها اشتعالا ،
لقد ظل يثيرني في هدوء وبرود ويخرجني عن طوري.
آه! إنك لا تعرفه! لا تعرفه ولن تعرفه أبدا!
حملت إليه من القلب أجمل صداقة،
فألقى عطاياي عند قدميه؛
ولو لم تشتعل نفسي غضبا،
لما كانت أبدا جديرة بنعمتك،
ولا استحقت أن تكون في خدمتك.
إن كنت نسيت القانون
وحرمة هذا المكان فاغفر لي.
لا يصح أن أحتقر في أي مكان،
ولا يصح في أي مكان أن أحتمل الهوان.
وإذا حدث لهذا القلب، أينما كان،
أن يقصر في حقك وفي حق نفسه،
فعاقبني واطردني،
ولا تجعل عينك تقع مرة أخرى على وجهي.
أنطونيو :
ما أخفف ما يحمل الشاب الأعباء الثقال!
وما أيسر أن ينفض الأخطاء عن ثوبه كما ينفض الغبار!
لو كنا نعرف سحر الشعر الذي يهوى العبث مع المستحيل،
أقل مما نعرفه، لكان في هذا ما يبعث على العجب.
ولا أكاد أصدق يا أميري،
أنك ستستهين بهذا الفعل،
أو يستهين به أحد من خدمك.
إن الجلالة تظل بحمايتها
كل من يدنو منها ومن مسكنها الحرام،
كما يدنو من إله.
وكل عاطفة تكبح جماحها
حين تلامس عتبتها،
كأنها تقترب من مذبح مقدس.
هناك لا يلمع سيف، ولا يتوعد صوت،
ولا تصرخ الإهانة نفسها مطالبة بالثأر.
أما وراء ذلك، ففي الميدان متسع
للغضب والحقد والصراع.
هناك لا يهدد الجبان، ولا يهرب الشجاع.
هذه الأسوار قد أقامها آباؤك
على قاعدة من الطمأنينة والأمان،
وشادوا لعزتهم قدسا حصينا،
وحافظوا في جد وذكاء
بالجزاء الرادع على هذا السلام،
وأخذوا المذنب بالنفي والطرد والموت.
لم يكن هناك اعتبار للأشخاص
ولم توقف الرأفة ذراع العدالة،
وأحس المستهتر نفسه بالفزع.
وها نحن بعد السلام الجميل الممدود
نرى الغضب المجنون يعود إلى حمى الأخلاق.
احسم يا مولاي وعاقب؛
ألا يستحق من يلتزم بحدود الواجب
أن يتمتع بحماية القانون ونصرة الأمير؟
ألفونس :
إن ضميري المحايد ليستمع
إلى أكثر مما تقولان أو يمكنكما أن تقولاه.
ليتكما أحسنتما أداء الواجب،
ولم تلجئاني إلى النطق بهذا الحكم.
ذلك لأن العدل والظلم هنا متقاربان .
إذا كان أنطونيو قد أساء إليك،
فإن من واجبه بطريقة أو بأخرى
أن يقدم لك التعويض الذي تشاء.
وسوف يسرني أن تجعلاني حكما بينكما.
إن خطأك يا تاسو يجعل منك سجينا.
إنني أعفو عنك، وأخفف القانون من أجلك.
اتركنا يا تاسو، والزم حجرتك،
واجعل من نفسك حارسا على نفسك.
تاسو :
أهذا هو الحكم الذي تقضي به يا أمير؟
أنطونيو :
ألا تتبين فيه رأفة الأب الحنون؟
تاسو (لأنطونيو) :
لم يعد لي من الآن معك حديث. (لألفونس): إن كلمتك الصارمة يا أمير
تسلمني، وأنا الحر، للسجن
لتكن مشيئتك. ما دمت تعتقد أنها الحق.
ها أنا ذا أحترم أمرك المقدس.
وأسكت الصوت الذي يصرخ في أعماق قلبي.
إن الأمر جديد علي، جديد إلى الحد الذي لا أملك معه
أن أتعرف عليك أو على نفسي أو على هذا المكان الجميل .
أما هذا الرجل فإنني الآن أعرفه.
سأطيع أمرك، وإن بقي الكثير
مما أستطيع وما ينبغي علي أن أقول.
إن الصمت يخرس شفتي. أكانت جريمة؟
إنها على الأقل تبدو كذلك، فإنني أعد الآن مجرما.
وسواء ما يقوله لي قلبي، فأنا الآن سجين.
ألفونس :
أنت تهول الأمر يا تاسو أكثر مما يستحق.
تاسو :
إن الأمر يبدو لي لغزا،
أو لعله ليس لغزا، فأنا لم أعد طفلا.
وأكاد أقول لا بد أن أفهمه.
إنني ألمح نورا على حين فجأة
وفي لحظة أراه قد خمد.
لا أسمع غير الحكم علي، فأنحني له.
أقول لنفسي: لقد تكلمت كثيرا بغير طائل
فتعود من الآن أن تخضع.
أيها العاجز! لقد نسيت مكانك،
وظننت أن قاعة الآلهة على الأرض،
وها هي السقطة المباغتة تفاجئك.
ارض بالخضوع، فخليق بالرجل
أن يفعل ما يكرهه عن طيب خاطر.
خذ أولا هذا السيف الذي أعطيته لي
عندما تبعت الكاردينال إلى فرنسا،
لقد حملته فلم أكسب به مجدا،
ولم أجر يوما على نفسي العار.
ولا فعلت ذلك اليوم.
هذه الهدية التي علقت عليها الآمال
أتنازل عنها بقلب متأثر كسير.
ألفونس :
أنت لا تدري بشعوري نحوك.
تاسو :
كتب علي أن أطيع لا أن أفكر!
كما أراد القدر، للأسف مني،
أن أزهد في هدية أروع.
إن التاج لا يناسب السجين،
ولذلك أنزع بنفسي الزينة،
التي حسبت أنها خلعت على جبهتي إلى الأبد.
لقد نعمت بالسعادة الفائقة في أول الصبا،
غير أنها سرعان ما سلبت مني
وكأنني تبطرت عليها.
إنك تنزع عن نفسك ما لا يستطيع أحد أن ينزعه عنك،
وما لا يهبه إله للمرة الثانية.
إننا نحن، البشر، نمتحن امتحانا عجيبا،
وما كان لنا أن نصبر أو نحتمل،
لو لم ترزقنا الطبيعة بالاستخفاف البريء.
تعلمنا الشدة كيف نبدد
في النعم التي لا تقدر،
ونفتح أكفنا بإرادتنا
لتفلت منها النعمة إلى غير رجعة.
مع هذه القبلة أذرف دمعة
تهبك للزوال! إنها من حقنا،
هذه العلامة الرقيقة على ضعفنا.
من الذي لا يبكي حين يرى
أن الخلود نفسه لا يأمن الدمار؟
الحق الآن بهذا السيف، الذي لم يكسب من أجلك شيئا!
اقترب منه وارقد على قبر سعادتي وأملي،
كما ترقد على تابوت الشجعان!
ها أنا ذا أضعهما طائعا عند قدميك،
فمن ذا الذي يملك سلاحا أمام غضبك؟
ومن يتزين، يا مولاي، إن أنت أهملته؟
إنني أمضي سجينا، وأنتظر حكمك. (يشير الأمير فيرفع أحد الخدم السيف والإكليل ويحملهما بعيدا.)
المشهد الخامس (ألفونس - أنطونيو)
أنطونيو :
إلى أين يهيم الغلام؟ بأي الألوان
يرسم قيمته وقدره؟
إن الشباب، بجهله وقصوره،
يتوهم نفسه شيئا فريدا مختارا،
ويستبيح لنفسه كل شيء عن كل إنسان.
فليشعر بأنه معاقب، فالعقاب يحسن إلى الفتى
الذي سيشكرنا عليه حين يصبح رجلا.
ألفونس :
لقد لقي عقابه، وأخشى أن يكون قد زاد عليه العقاب.
أنطونيو :
إن شئت أن ترأف به
فأعد إليه حريته يا أمير،
وليحسم السيف ما بيننا من خلاف.
ألفونس :
إن اتفقت الآراء على هذا فليكن لك ما تريد.
ومع ذلك قل لي، كيف أثرت غضبه؟
أنطونيو :
لا أستطيع تفسير ما حدث.
ربما أسأت إليه كإنسان،
غير أنني ما أهنت فيه الرجل النبيل.
إنه في قمة غضبه لم تفلت من شفتيه كلمة نابية.
ألفونس :
هكذا بدا لي ما وقع بينكما من خلاف.
وحديثك يؤيد ما خطر لأول مرة على بالي.
عندما يتنازع رجلان فالعقل يميل
إلى إلقاء الذنب على أكثرهما حكمة.
لم يكن ينبغي عليك أن تثير غضبه،
بل كان الأولى بك أن ترشده وتهديه.
ما زال في الوقت متسع،
وليس في الأمر ما يضطركما إلى الخلاف.
وما دام السلام يرفرف على بلادي،
فإنني أحب أن أتمتع به في بيتي.
أعد الطمأنينة إليه - إن هذا أمر يسير عليك.
لتبدأ ليونورا سانفيتاله ولتحاول
أن تهدئه بكلماتها الرقيقة.
ولتذهب إليه بعد ذلك، كي تعيد
إليه حريته الكاملة على لساني،
ولتكسب ثقته بالكلام الصادق النبيل
أنجز هذا الأمر بأسرع ما تستطيع،
وليكن حديثك معه حديث الوالد والصديق.
أريد أن أطمئن إلى عودة السلام قبل الرحيل،
وما من شيء يستحيل عليك ، ما دمت تريد.
لنمد إقامتنا ساعة أخرى،
وبعد ذلك فلنترك للنساء
أن يتممن في حنان ما بدأت؛
فإذا رجعنا لم نجد
أثرا لهذا الحادث السريع.
يبدو يا أنطونيو أنك لا تريد
أن تخلي يديك من العمل. فلم تكد تفرغ من مهمة،
حتى رجعت تبحث عن أخرى،
أرجو أن تكلل فيها بالنجاح.
أنطونيو :
لقد أخجلتني وجعلتني كلماتك
أرى خطئي كما لو كنت أنظر في مرآة صافية!
ما أسهل أن يطيع المرء سيدا نبيلا
يقنعنا، حين يلقي علينا أوامره!
الفصل الثالث
المشهد الأول
الأميرة (وحدها) :
أين ليونورا؟ كل لحظة تمر علي
تحرك الألم في صميم الفؤاد.
لا أكاد أدري ما حدث،
لا أكاد أدري من منهما المخطئ.
آه، ليتها تجيء! فلست أحب
أن أتحدث مع شقيقي ألفونس،
قبل أن يعود إلى نفسي الهدوء،
وقبل أن أعرف ما حدث،
وما يمكن أن تصير إليه الأمور.
المشهد الثاني (الأميرة - ليونورا)
الأميرة :
ماذا تحملين معك يا ليونورا؟ أخبريني،
كيف حال صديقينا؟ ماذا جرى؟
ليونورا :
لم يصل إلى علمي أكثر مما نعلم.
وقع صدام بينهما، فجرد تاسو سيفه
وفرق شقيقك بينهما. بيد أنه يبدو
أن تاسو هو الذي بدأ النزاع
إن أنطونيو يذهب ويجيء حرا
ويتكلم مع أميرة؛ أما تاسو
فهو منفي وحيد في حجرته.
الأميرة :
لا بد أن أنطونيو استفزه،
وأهان الروح الشاعرة في برود وجفاء.
ليونورا :
أنا أيضا أعتقد هذا. فقد رأيت
سحابة تطوف بجبهته حين أقبل عليه.
الأميرة :
آه! لماذا نغفل في مثل هذا الموقف
عن طاعة الإشارة النقية الهادئة التي تأتي من القلب؟
بصوت هامس يتحدث إله في صدورنا،
بصوت خافت، ولكنه مسموع، يدلنا
على ما نغتنمه وما نتحاشاه
بدا لي أنطونيو صباح اليوم
أكثر غلظة مما عهدت وأشد انزواء.
أحسست بأن روحي تنذرني
حين رأيت تاسو يقترب منه.
قلت يكفي أن أرى مظهريهما،
الوجه والتعبير والنظرة والخطوة
إنهما مختلفان في كل شيء،
ولن يستطيعا أبدا أن يتبادلا الحب.
ومع ذلك فإن الأمل، هذا المنافق،
راح يقنعني بقوله «إنهما عاقلان
نبيلان وبصيران وصديقان لك»
وأي رباط أوثق من رباط
يجمع بين القلوب الكبيرة؟!
ما كان أجمل وأصدق ما وهب نفسه لي!
آه، ليتني تكلمت على الفور مع أنطونيو،
ترددت، وكان الوقت ضيقا؛
تهيبت أن أبدأ كلامي معه
فأوصيه بالشاب وألح عليه،
اعتمدت على التقاليد والآداب
والعرف المألوف بين الناس
الذي يرعاه حتى الأعداء؛
ولم أخش على الرجل المجرب
من اندفاع الشباب المتهور.
ولكن حدث ما خشيت. ظننت الشر بعيدا،
وها هو الآن قريب. ماذا أفعل؟ أشيري علي!
ليونورا :
أنت تعرفين أنه من الصعب علي أن أشير
بعد ما قلته بنفسك. فليس الأمر هنا أمر سوء تفاهم
بين أناس متشابهين في التفكير،
فذلك أمر تصلحه الكلمات، أو يصلحه السلاح
إن دعا الأمر في يسر وبغير عناء.
شعرت من زمن بعيد أنهما رجلان
يعادي أحدهما الآخر، لأن الطبيعة
عجزت أن تكون منهما رجلا واحدا،
ولو فطنا إلى مصلحتهما لأصبحا صديقين،
ولوقفا كرجل واحد وتقدما في الحياة،
قويين سعيدين مرحين،
هكذا كنت أرجو، غير أنني أرى الآن عبث الرجاء.
إن الخلاف الذي وقع اليوم، أيا كان أمره،
يمكن أن ننهيه؛ غير أن هذا
لا يضمن لنا المستقبل ولا يؤمننا على الغد.
لقد فكرت أنه من الأفضل أن يسافر تاسو
ويغادر هذا المكان إلى حين،
إنه يستطيع أن يتجه إلى روما أو إلى فلورنسا؛
هناك ألتقي به بعد أسابيع قليلة،
وقد أؤثر على وجدانه تأثير الصديق.
أما أنت فتستطعين أن تحاولي من جديد،
أن تقربي أنطونيو منك ومن أصدقائك،
وهو الذي كاد يصبح غريبا عنا.
كل هذا الذي يبدو الآن مستحيلا
قد يحققه الزمن الطيب الذي يحقق الكثير.
الأميرة :
تريدين، يا صديقتي، أن تستأثري بالمتعة،
وتتركينني للحرمان، فهل هذا من الإنصاف؟
ليونورا :
لن تحرمي في هذه الحالة إلا من شيء،
لن يمكنك أن تستمتعي به.
الأميرة :
أأنفي صديقا لي بكل هذا الهدوء؟
ليونورا :
بل ستحتفظين به، وإن نفيته في الظاهر.
الأميرة :
لن يوافق شقيقي على تركه.
ليونورا :
إذا رأى الأمر كما نراه فسوف يقبل.
الأميرة :
من الصعب أن يجني الإنسان على نفسه بجنايته على صديق.
ليونورا :
ومع ذلك فالصديق هو الذي تنقذينه فيك.
الأميرة :
لا لن أوافق على أن يحدث هذا.
ليونورا :
انتظري إذن أن يحدث ما هو أسوأ.
الأميرة :
أنت تعذبينني ولا تدرين كيف تحسنين إلي.
ليونورا :
عما قريب نتبين من المخطئ فينا.
الأميرة :
إذا لم يكن مفر من ذلك فلا تلحي علي بالسؤال.
ليونورا :
من يصمم يهزم الألم.
الأميرة :
لا أستطيع أن أصمم، ولكن ليكن لك ما تريدين
ما دامت غيبته عنا لن تطول،
ولنرع شئونه يا ليونورا،
حتى لا يقاسي في المستقبل من الحرمان،
وحتى يرضى الأمير أن يرسل إليه في غربته
راتبه الذي يكفل له الحياة.
تكلمي مع أنطونيو، فهو يملك أن يؤثر على شقيقي،
ولن يحفظ هذا النزاع قلبه
على صديقنا أو علينا.
ليونورا :
كلمة واحدة منك يا أميرة أقوى في التأثير.
الأميرة :
تعلمين يا صديقتي أنني لا أستطيع
أن ألتمس شيئا لنفسي أو لأصدقائي،
كما تفعل شقيقتي التي تعيش في أوربينو.
إنني أحب أن أقضي حياتي في هدوء
وأتلقى من شقيقي امتنان
كل ما يستطيع أو يريد أن يعطيه لي.
كثيرا ما لمت نفسي على هذا،
لكنني الآن قد تغلبت على هذه النزعة.
وكثيرا ما عاتبتني صديقة على هذا وقالت لي
أنت تحبين بطبعك الإيثار، وهذا شيء جميل،
غير أنك تبالغين في ذلك، فلا تحسين
بما يحتاج إليه أصدقاؤك.
نعم إنني أدع الأمور تجري في سبيلها
ولا بد لي أن أتحمل هذا العتاب
ولكن مما يزيدني سعادة، أن أتمكن الآن
من أن أمد يد العون لصديقي،
لقد ورثت هذا عن أمي،
وأود الآن أن أرعاه.
ليونورا :
وأنا يا أميرة أرى الفرصة سانحة
لكي أبرهن له على صداقتي.
لقد كان دائما يسيء تدبير شئونه،
وسأعرف كيف أساعده كلما احتاج.
الأميرة :
خذيه إذن، وإن كتب علي الحرمان
فلتكوني أنت أولى به من كل إنسان
أجل! إنني أرى أن هذا هو الأفضل.
أحتم علي أن أثني على هذا العذاب
وألتمس فيه من جديد الخير والشفاء؟
هكذا كان حظي منذ الطفولة،
وأنا الآن قد تعودت عليه.
نحن لا نفقد السعادة الرائعة كل الفقدان
حين نعلم أنها لم تكن من نصيبنا.
ليونورا :
أتمنى أن أراك في يوم من الأيام،
تنعمين بالسعادة التي تستحقينها.
الأميرة :
اليونورا! سعادة؟ ولكن أين هو السعيد؟
ربما استطعت أن أقول عن شقيقي إنه سعيد،
فقلبه الكبير يتحمل صروف القدر وهو صبور؛
غير أنه لم ينل أبدا ما هو به جدير.
هل شقيقتي التي تعيش في أوربينو سعيدة؟
1
هذه المرأة الجميلة، هذا القلب النبيل الكبير!
إنها لم تهب زوجها الذي يصغرها أطفالا
وهو يجلها ولا يشكو منها،
ومع ذلك فالفرح لا يسكن بيتها.
ماذا استفادت أمنا من حكمتها؟
2
ماذا جنت من علمها الزاخر ومن فكرها الرفيع؟
هل استطاع أن يحميها من الخطأ الغريب؟
لقد انتزعونا منها، وهي الآن في التراب،
ولم تترك لنا نحن الصغار العزاء،
الذي يشعرنا بأنها ماتت على وفاق مع الله.
ليونورا :
آه، لا تتطلعي إلى ما يفتقر إليه كل إنسان،
بل فكري فيما بقي لكل واحد منا،
فكري فيما بقي لك يا أميرة.
الأميرة :
ما بقي لي؟ الصبر يا إليونورا!
تعلمت أن أمارسه من عهد الشباب.
عندما كان أصحابي وإخوتي
يستمتعون معا بالأعياد والألعاب،
كان المرض يحبسني في حجرتي،
وكان علي أن أرافق الأحزان،
وأن أتعلم الحرمان قبل الأوان.
شيء واحد كان يسليني في وحدتي،
هو متعة الغناء؛
كنت أسلي نفسي بنفسي،
وأهدهد الألم والشوق والأمنيات
على رنين الأنغام الهادئة.
هنالك كان يتحول الألم في كثير من الأحيان
إلى متعة والشعور الحزين نفسه إلى انسجام
غير أن هذه الفرحة لم تدم طويلا
فسرعان ما حرمني منها الأطباء،
وحكموا علي بالصمت. كان علي أن أعيش وأتعذب،
وأحرم من عزائي الوحيد المسكين.
ليونورا :
ولكن الكثيرين من الأصدقاء وجدوا طريقهم إليك،
وأنت الآن صحيحة وفرحة بالحياة.
الأميرة :
صحيحة، نعم، أعني أنني لست مريضة؛
وعندي من الأصدقاء من يسعدني وفاؤهم
كذلك كان لي صديق.
ليونورا :
وما زال.
الأميرة :
وسوف أفقده عن قريب .
كانت اللحظة التي رأيته فيها أول مرة
لحظة حافلة بالمعانق. كنت لم أكد أشفى من عذابي؛
الألم والمرض لم يكونا قد فارقاني،
عدت أنظر إلى الحياة نظرة هادئة رضية،
وأبتهج بالنهار وبالقرب من أخواتي،
وأذوق بلسم الأمل العذب في ثقة ورجاء.
وجدت الشجاعة التي تجعلني أنظر إلى المستقبل،
وطالعتني من على البعد وجوه صديقة.
هنالك، يا إليونورا، قدمت إلى شقيقتي ذلك الشاب،
كان يضع يده في يدها، وأستطيع أن أعترف لك
بأن قلبي تشبث به، وسوف يحتفظ به على الدوام.
ليونورا :
آه يا أميرتي، لا تأسفي على شيء!
فالنفس التي تتعرف على النبل،
تحصل على كنز لا ينتزع منها إلى الأبد.
الأميرة :
كل ما هو جميل ورائع
يخشى منه كما يخشى اللهب،
الذي يتألق ويزدهر،
ما دام يرسل نوره في مسكنك،
وما دامت شعلته تضيء لك.
ما أرق هذا الضوء! ومن ذا الذي يريد
أو يستطيع أن يستغني عنه؟
فإذا مضى يلتهم ما حوله.
فما أبشع الشقاء الذي يسببه!
دعيني الآن. إنني أثرثر، وكان يحسن بي
أن أخفي ضعفي ومرضي،
عنك أنت أيضا.
ليونورا :
إن أسهل ما يبدد مرض الروج.
أن يثق الإنسان بأصحابه ويبثهم شكواه.
الأميرة :
إذا كانت الثقة تشفي، فسوف أشفى سريعا؛
فأنا أثق فيك ثقة خالصة وكاملة.
آه يا صديقتي! لقد صممت، فليرحل إذن!
لكنني أحس من الآن
بالألم الطويل الممل على مدى الأيام،
حين يكتب علي الحرمان من مصدر سعادتي.
الشمس لن تقوى أن تزيل من جفوني
صورته الجميلة المضيئة؛
والأمل في رؤياه لن يملأ الروح،
والذي كاد يستيقظ بالشوق البهيج.
ونظرتي الأولى في حدائقنا
ستبحث عنه عبثا في ندى الظلال.
كم كنت أحس بالرضا الجميل
حين أمضي معه أمسياتي الهادئة!
وكم كان اللقاء معه يزيد
رغبتنا في معرفة أنفسنا وفهمها!
وفي كل يوم يرقى الوجدان
إلى سماء الانسجام الصافية.
يا للغيوم التي تسقط الآن على عيني!
روعة الشمس وبهجة الضحى،
وسنون العالم البهي الألوان،
قد غاصت الآن في هوة الفراغ،
ولفها الضباب الذي يحيط بي
كل يوم عشته كان حياة كاملة،
تسكت الهموم فيه وتخرس الهواجس
ويحملنا التيار كالمسافرين السعداء
على موجه الهادئ بغير مجداف.
ها هو الحاضر يظلم
والخوف من المستقبل يتسلل إلى قلبي.
ليونورا :
سيعيد إليك المستقبل أصدقاءك،
وسيحمل إليك فرحا جديدا وسعادة جديدة.
الأميرة :
أود أن أحتفظ بما أملكه
فالتغيير قد يسلي، لكنه لا يكاد يفيد.
أبدا لم يدفعني حماس الشباب؛
لأن أمد يدي في وعاء الأقدار،
الذي يحتشد بمصادفات العالم الغريب
طمعا في شيء يرضي قلبي المتلهف الغرير.
لقد حملني على احترامه، ولذلك أحببته؛
ووجدتني أحبه؛ لأن حياتي معه
تحولت إلى حياة لم أعرفها من قبل.
في أول الأمر قلت لنفسي: ابتعدي عنه!
وكلما هربت منه، وجدتني أزداد قربا،
وأحس عذوبة الانجذاب وقسوة العقاب!
واختفت السعادة الصافية الحقة من حياتي،
وجاءت روح شرير فخدعت أشواقي
وأبدلت بالآلام سعادتي وأفراحي.
ليونورا :
إن عجزت كلمات صديقة أن تحمل إليك العزاء،
فسوف تستطيع القوى الخفية للعالم الجميل
ويستطيع الزمن الرحيم على غير انتظار،
أن يعيدا البهجة إليك.
الأميرة :
حقا إن العالم جميل! وفي أرجائه الواسعة
ينتشر الخير هنا وهناك.
آه! لماذا يبدو لنا الخير على الدوام،
كأنه لا يبتعد عنا إلا خطوة واحدة،
ويظل الحنين إليه على مدى الحياة،
يجذبنا خطوة فخطوة إلى القبر؟
من النادر أن يدرك الناس
ما كانوا يحسبونه من نصيبهم،
ومن النادر أن يحتفظوا طويلا
بما استطاعت اليد السعيدة أن تمسك به!
السعادة التي لم تكد تهب نفسها لنا تفلت منا،
وأيدينا تتخلى عما تشبثت به في نهم.
السعادة موجودة، لكننا نجهلها؛
أو نحن نعرفها، ولكننا لا نعرف كيف نقدرها.
المشهد الثالث
ليونورا (وحدها) :
أيها القلب النبيل الجميل، كم أرثي لك!
ويا للقدر الحزين الذي نزل بروحها السامي!
آه! إنها تفقده، وتفكرين أنت في أن تكسبيه؟
أمن الضروري حقا أن يبتعد؟
أم تراك تدبرين هذا الرحيل، كي تستحوذي
على القلب والمواهب، التي اقتسمتها حتى الآن
مع غيرك، وما كانت القسمة عادلة؟
أمن الأمانة أن تسلكي هذا السلوك؟
أليست لديك الثروة التي تكفيك؟ هل يعوزك شيء؟
عندك الزوج والولد والغنى، ولديك المركز والجمال،
تملكين هذا كله، وتطمعين أن تضيفيه إلى ما تملكين؟
أتحبينه؟ لماذا يشق عليك إذن أن تزهدي فيه؟
تستطيعين أن تصارحي نفسك - فما أجمل أن ترى صورتك
منعكسة على روحه الجميلة!
ألا تتضاعف سعادتك وتزداد روعة
حين ترفعك أشعاره فوق السحاب؟
هنالك تكونين جديرة بالحسد! ولا تقنعين
بما يحلم به كثيرون سواك،
بل يفرحك أن تبهري عيون الجميع!
وينادي الوطن باسمك. ويتطلع إليك،
وتلك هي ذروة السعادة والهناء.
أتكون «لاورا»
3
هي الاسم الوحيد
الذي تترنم به شفاه المحبين؟
وهل كان من حق «بتراركا» وحده
أن يرفع الجميلة المجهولة إلى السماء؟
أين الذي يستطيع أن يقارن نفسه بصديقي؟
إذا كان العالم يكرمه اليوم،
فسوف تهتف باسمه الأجيال القادمة.
ما أجمل أن تعيشي بجانبه
في هذا المجد الرائع!
وتمضي معه إلى المستقبل
بخطى خفيفة مجنحة!
لا الزمن عندئذ ولا الشيخوخة
يستطيعان أن ينالا منك،
ولا الصيحات الوقحة.
التي تتقاذفها أمواج النجاح.
إن أشعاره تخلد ما من طبعه الفناء،
وسوف تظلين جميلة وسعيدة
حين تكون دورة الحياة،
قد جذبتك معها من زمن بعيد.
يجب أن يكون لك،
ولن تسلبي صديقتك شيئا،
فعاطفتها نحو الرجل النبيل
لا تختلف عن بقية عواطفها.
إن نورها كضوء القمر الشاحب
الذي لا يكاد يكشف للمسافر
طريقه في عتمة الليل.
وهي لا تنشر الدفء حولها
ولا تسكب الفرح والبهجة بالحياة
ستكون سعيدة حين تعلم،
أنه على البعد سعيد،
كما كانت تفعل حين تراه كل يوم
ثم إنني لا أريد أن أنفي نفسي،
أو أنفي صديقي عنها أو عن هذا البلاط،
بل سأعود مرة أخرى وأحضره معي.
ليكن الأمر كذلك! ها هو ذا الصديق الغليظ.
لنر إن كنا سنستطيع ترويضه!
المشهد الرابع (ليونورا - أنطونيو)
ليونورا :
بالحرب جئتنا لا بالسلام،
وكأنك قادم من معسكر أو معركة،
حيث تحكم القوة وتحسم الذراع،
لا من روما حيث ترفع الحكمة الحفية
يدها لتبارك عالما تراه
يركع عند قدميها ويطيعها عن طيب خاطر.
أنطونيو :
لا بد لي، يا صديقتي الجميلة، أن أقبل العتاب.
لكنني لن أبحث بعيدا عن وجه للاعتذار.
من الخطر على الإنسان أن يضطر طويلا
إلى الظهور في مظهر الحكمة والاعتدال.
فهناك روح شريرة تقف إلى جانبنا وتترصدنا
ويصرح على طلب الضحية من حين إلى حين.
ويشاء سوء الحظ في هذه المرة،
أن أقدم لها الضحية على حساب الأصدقاء.
ليونورا :
لقد عنيت طويلا بشئون الغرباء،
وبذلت الجهود في كسب رضاهم،
والآن بعد أن عدت إلى الأصدقاء
تسيء فهمهم وتجادلهم كأنهم غرباء.
أنطونيو :
هنا، يا صديقتي العزيزة، يكمن الخطر!
فالإنسان يتحكم في نفسه مع الغرباء،
ويظل متيقظا، وهدفه أن يرضيهم لكي يخدموه،
أما مع الأصدقاء فيترك نفسه على سجيتها،
ويطمئن إلى حبهم، فيبيح لنفسه
أن يبدي نزوة أو يطلق لعواطفه العنان،
وهكذا يكون أول من نجرح شعورهم،
هم أكثر من نكن لهم الحب.
ليونورا :
بهذه الخواطر الهادئة يا صديقي العزيز
يسعدني أن ألقاك كما عهدتك من جديد.
أنطونيو :
نعم يؤلمني - وهذا ما أود أن أعترف به -
أن أكون اليوم قد فقدت الاعتدال.
ولكن صارحيني، ألا يشعر الرجل الذي يعود
من عمله الشاق مجهود الجبين،
ويطمع في أن يلتمس الراحة في آخر المساء،
في الظل الحبيب كي يتأهب لعمل جديد،
نجد إنسانا خالي البال
يتمدد في الظل على هواه.
ألا يحس عندئذ بعاطفة
بشرية تثور في صدره؟
ليونورا :
إذا كان إنسانا بحق، فسوف يسعده
أن يقتسم الظل مع رجل آخر
يجعل الراحة حلوة والعمل خفيفا
بحديثه العذب وأنغامه الرقيقة.
الشجرة كبيرة يا صديقي والظل كريم
ولا حاجة بأحد لأن يزحزح غيره.
أنطونيو :
لا نريد يا ليونورا أن نلعب بالأمثال
كما نلعب بالكرة من يد إلى يد،
فكم في هذا العالم من أشياء
نحب لغيرنا أن يفوز بها، كما نحب أن نشاركه فيها؟!
على أن هناك كنزا لا نحب أن يفوز به
إلا من يستحقه،
وكنزا يعز علينا أن يشاركنا فيه
إنسان مهما ارتفعت مكانته.
فإذا سألتني عن هذين الكنزين
قلت هما إكليل الغار والحظوة عند النساء.
ليونورا :
أيكون الإكليل الذي توج جبين الشاب،
قد أهان الرجل الجاد؟ أكان في استطاعتك
أن تجد لمجهوده وشعره البديع مكافأة أكثر تواضعا؟
ذلك لأن الفضل الذي يسمو فوق العالم الأرضي
ويرف في الهواء، فلا تسحر أرواحنا
إلا بأنغامه وصوره اللطيفة،
يستحق كذلك أن يكافأ
بصورة جميلة أو رمز لطيف.
وإذا كان هو نفسه لا يلمس الأرض
فإن مكافأته السامية لا تكاد تلمس جبينه.
إن الغصن اليابس هو الهدية،
التي تقدمها له العواطف اليابسة،
التي يحس بها المعجبون نحوه
لكي تتخفف بأيسر وسيلة من دينها له
أيمكنك أن تحسد تمثال الشهيد
على الهالة الذهبية التي تحيط برأسه الأصلع؟
أينما بدا لك إكليل الغار، فهو بغير جدال،
علامة العذاب قبل أن يكون علامة الفرح.
أنطونيو :
أتريدين أن أتعلم من فمك الرقيق
كيف أحتقر كل ما على الأرض من غرور؟
ليونورا :
لست بالطبع في حاجة إلى أن أعلمك
كيف تقدر كل شيء بميزانه الصحيح.
ولكن يبدو أن الحكيم يحتاج
من حين إلى حين كغيره من الناس
أن يريه الإنسان النعم التي يملكها
ويعرضها عليه في ضوئها الصحيح.
أنت يا صديقي النبيل لن يغريك الطموح
بالسعي وراء أوهام الحظوة والشرف.
إن الخدمات التي تعرف كيف تربط بها
بينك وبين الأمير والأصدقاء
هي خدمات واقعية وحية،
ولذلك ينبغي أن تكون مكافأتك عليها
مكافأة من الواقع والحياة نفسها.
إن إكليل الغار الذي يليق بك هو ثقة الأمير،
وهو العبء الجميل الذي يستقر
على كتفيك كحمل خفيف؛
وسمعتك هي الدليل
على ثقة الجميع فيك.
أنطونيو :
ألا تقولين شيئا عن الحظوة عند النساء؟
أم تريدين أن تصوري لي أنه من السهل الحرمان منها؟
ليونورا :
لتتصور ما تشاء. فأنت لست محروما منها،
ومن السهل عليك أن تحتمل هذا الحرمان،
الذي لا يقوى عليه صديقنا الطيب.
قل لي: إن أرادت امرأة أن ترعاك على طريقتها،
وأن تهب نفسها لك،
فهل يمكنها أن تجد فرصة للنجاح؟
كل شيء لديك نظام وأمان،
إنك تهتم بنفسك كما تهتم بغيرك،
وتملك دائما ما يود الإنسان أن يعطيك إياه.
أما هو، فيحرك فينا طبيعة النساء؛
فهناك ألف شيء صغير ينقصه،
ويسعد كل امرأة أن تقدمه إليه؛
إنه يحب أن يلبس الرداء من الكتان الجميل،
أو يرتدي الثوب من الحرير المشغول.
وهو يحب أن يتزين، بل إنه لا يحتمل
القماش الخشن الذي يدل على الخدم والرقيق،
ولا يرضى بشيء لا تجتمع فيه
الأناقة والجودة والنبل والجمال،
ومع ذلك، يعجزه أن يحصل على هذا،
وإن حصل عليه فشل في المحافظة عليه،
ودائما ما نراه في حاجة إلى المال والنظام.
يترك قطعة من ملابسه هنا، وقطعة أخرى هناك،
وما من مرة عاد من سفر،
إلا وقد ضيع ثلث حاجاته.
وأسرع الخادم بسرقته.
هكذا يا أنطونيو يظل الإنسان
في قلق عليه طول العام.
أنطونيو :
وهذا القلق يجعله أعز وأحب.
ما أسعده من شاب تحسب عيوبه فضائل،
ويتاح له في سن الرجولة أن يمثل دور الغلام،
ويجعل من ضعفه الرقيق ذريعة للمجد والافتخار!
يجب أن تعذريني يا صديقتي الجميلة،
إذا كنت أعبر عن نفسي بشيء من المرارة
إنك لا تقولين كل شيء، بل تسكتين
على ما يتجرأ عليه، ولا تقولين
إنه أخبث بكثير مما يتصور الإنسان
إنه يفتخر بإشعال نارين!
ويربط عقدة هنا ويحلها هناك
ويكسب ممثل هذه الألاعيب أمثال هذه القلوب!
أيمكن أن يصدق الإنسان هذا؟
ليونورا :
حسن! إن هذا نفسه يكفي لإثبات
أن المحبة وحدها هي التي تحيي القلوب
وإذا بادلنا الحب بالحب، ألا نكون
قد كافأنا القلب الجميل مكافأة ضنينة،
وهو الذي نسي نفسه وعاش في حلم جميل
واهبا حياته كلها لأصدقائه؟
أنطونيو :
دللنه وزدن في تدليله،
اجعلن من أنانيته حبا،
أهن كل الأصدقاء الذين وهبوا نفوسهم الوفية لكن،
قدمن للمغرور الطاعة والولاء،
حطمن روابط الثقة، التي كانت
تؤلف بيننا في وئام جميل!
ليونورا :
لسنا متحيزات بالقدر الذي تظن،
فكثيرا ما ننبه صديقنا وننهاه؛
ونسعى لتربية وجدانه، بحيث يستطيع
أن يسعد نفسه ويقدم السعادة لسواه.
أما العيوب التي تأخذها عليه
فهي كذلك لا تخفى علينا .
أنطونيو :
ومع ذلك، فكثيرا ما تمدحن ما يستوجب الملام.
أنا أعرفه من زمن طويل،
وإنه من السهل التعرف عليه،
لأنه من الغرور بحيث لا يخفي نفسه.
أحيانا يغوص في نفسه، وكأن العالم كله
قد استقر في صدره، أو كأنه اكتفى بعالمه
فتلاشى عنده كل شيء من حوله،
إنه عندئذ يتغاضى ويزهد،
ويطرح كل شيء، كي يعكف على نفسه -
وكما يتفجر اللغم فجأة من شرارة غير منتظرة،
كذلك يتفجر فرحه أو حزنه أو غضبه أو نزوته
هنالك يبغي أن يضم كل شيء، ويحوز كل شيء،
4
وهنالك يطالب بأن يتحقق كل ما كان يحلم به؛
وأن يتولد في لحظة واحدة،
ما يحتاج إلى سنوات عديدة،
ويحل في طرفة عين،
ما لا تحله الجهود في أعوام
إنه يطالب نفسه بالمستحيل،
لكي يبيح لنفسه أن يطالب به غيره.
ويريد أن يضم عقله
من كل شيء طرفيه البعيدين؛
قد لا يدرك ذلك واحد من المليون،
وما هو في الحقيقة ذلك الواحد
وهكذا يعود إلى الانطواء على نفسه،
بغير أن يصلح من أمره شيئا.
ليونورا :
إنه لا يؤذي غيره، بل يؤذي نفسه.
أنطونيو :
ومع ذلك فهو يجرح إحساس الآخرين.
هل تنكرين أنه حين يستولى عليه الانفعال
يتجرأ على إهانة الأمير والأميرة نفسها
ويتطاول على أي إنسان؟
صحيح إنه يفعل ذلك في لحظة واحدة،
ولكن هذه اللحظة تذهب وتعود،
وهو عاجز عن التحكم في فمه،
عجزه عن التحكم في قلبه.
ليونورا :
أظن أنه إذا ابتعد عن هنا فترة قصيرة
فربما ينفعه ذلك وينفع الآخرين.
أنطونيو :
لست أدري. فقد يفيد هذا وقد لا يفيد.
ومع ذلك فليس هذا هو أوان التفكير فيه.
لا أريد أن يقع الخطأ على كتفي؛
فقد يبدو أنني أنفيه، وأنا في الحقيقية لا أنفيه.
إنني لا أمانع في بقائه في البلاط؛
وإذا أراد أن يتصالح معي
وإذا استطاع أن يستمع لنصيحتي
فقد نستطيع أن نحتمل الحياة معا.
ليونورا :
أنت ترجو إذن أن تؤثر على الوجدان
الذي اعتقدت منذ لحظة أنه لا أمل فيه.
أنطونيو :
نحن لا نقطع الرجاء،
فالأمل دائما أفضل من اليأس.
ومن ذا الذي يضمن ما قد يحدث؟
إنه يتمتع بتقدير الأمير.
ولا بد أن نحتفظ به بيننا.
وإذا لم تفلح جهودنا في تقويمه،
فليس هو الوحيد الذي نصبر عليه.
ليونورا :
لم أكن أتصور أنك تستطيع
أن تتجرد من التحيز والانفعال.
لقد تحولت تحولا سريعا.
أنطونيو :
لعل مزية السن الوحيدة
أنه، وإن لم يجنبنا الخطأ،
فهو يجعلنا أقدر على التحكم السريع في نفوسنا.
لقد بذلت جهدك في أول الأمر
لكي توفقي بيني وبين صديقك.
وأنا الآن أطلب هذا بدوري منك.
افعلي ما تستطيعين حتى يعود إلى رشده
ويرجع كل شيء إلى حاله القديم.
سأذهب بنفسي إليه إذا عرفت منك
أنه قد استعاد هدوءه،
وإذا رأيت أن زيارتي له
لن تزيد الحالة سوءا.
ولكن افعلي الآن ما تريدين أن تفعليه؛
فسوف يعود ألفونس مساء اليوم، وسأكون في صحبته.
والآن الوداع!
المشهد الخامس
ليونورا (وحدها) :
لم نتفاهم، يا صديقي العزيز، في هذه المرة على رأي،
فمصلحتي لا تسير اليوم يدا في يد مع مصلحتك.
سأحاول أن أستغل الساعات الباقية
وأكسب تاسو إلى جانبي.
الوقت قد أزف!
الفصل الرابع
حجرة
المشهد الأول
تاسو (وحده) :
هل صحوت من حلم
وتخلى عنك الوهم الجميل؟
أم هبط عليك النوم في يوم رائع البهجة
ولم يزل يأسر روحك ويخيفها بقيوده الثقال؟
نعم، أنت تحلم في اليقظة.
أين ذهبت الساعات التي كانت
تلف حول جبهتك أكاليل الزهور؟
وأين الأيام التي كانت روحك فيها،
تعبر زرقة السماء على جناح الشوق الطليق؟
ومع ذلك فما زلت تعيش وتحس بوجودك،
تحس بوجودك ولا تدري إن كنت تعيش.
أهو خطئي، أم خطأ إنسان غيري
أن أحيا هنا حياة المذنبين؟
هل اقترفت جريمة، حتى يحق علي العذاب؟
أليس في خطئي كله فضل يحسب لي؟
رأيته فامتلأ قلبي بالأمل
وغرتني الإرادة الطيبة،
فظننت أن من يحمل وجه إنسان
لا بد أن ينطوي على روح إنسان.
اندفعت إليه مفتوح الذراعين
فوجدت مكان القلب، القفل والمزلاج.
آه! لقد كنت دبرت الطريقة التي أستقبل بها
ذلك الرجل الذي كنت أرتاب فيه من زمن طويل!
لتكن تجربتك مع ذلك ما تكون،
فعليك أن تتمسك بهذا اليقين
لقد رأيتها! لقد وقفت أمامي!
وتكلمت إلي، وسمعت كلامها!
نظرتها، وصوتها، ومعنى كلامها الرقيق
أملكها إلى الأبد، ولا يسلبها مني الزمان،
ولا ينتزعها القدر ولا الحظ الغدار!
وإذا كانت روحي قد سارعت بالتحليق في الأعالي،
وإذا كنت قد رعيت في قلبي اللهيب الذي يأكلني الآن،
فلست نادما على هذا، ولو دمر إلى الأبد حياتي
وهبت لها نفسي وأطعت الإشارة
التي دعتني إلى الهلاك وأنا فرحان.
ليكن! فقد أثبت أنني جدير
بالثقة الغالية التي تعزيني
حتى في هذه الساعة التي تنفتح لي فيها
البوابة السوداء التي تتوالى منها الأحزان.
أجل، لقد تم كل شيء! وها هي شمس رضاه الجميل
تأفل فجأة وتغيب؛
والأمير يحرمني من نظرته الحنون،
ويتركني تائها على طريق ضيق كئيب.
ها هي الطيور البشعة تحوم حولي،
والموكب الملعون الذي يتبع الليل العجوز يدور حول رأسي.
إلى أين، إلى أين أحرك خطاي،
لأفر من هذه الأسراب الكريهة التي تحاصرني
وأنجو من الهاوية التي تفتح فوهتها لي؟
المشهد الثاني (ليونورا - تاسو)
ليونورا :
ماذا جرى؟ أي غضب يا عزيزي،
وأي تهور دفعك إلى هذا؟
كيف حدث ما حدث؟
إننا جميعا في ذهول
أين دماثتك وطبعك الرقيق،
ونظرتك النافذة، وعقلك السديد،
الذي يجعلك تؤدي لكل إنسان حقه،
وصبرك وجلدك الذي علمك أن تحتمل
ما يحتمله النبيل، وما يندر أن يتعلمه المغرور،
والتحكم الذكي في الشفتين واللسان؟
يا صديقي العزيز، إني أكاد أنكرك.
تاسو :
وإذا كان كل هذا قد تبدد الآن؟
وإذا كنت ترين الصديق الذي حسبتيه غنيا
يقف أمامك الآن كما يقف الشحاذ؟
معك الحق، فلم أعد كما كنت،
ومع هذا، فما زلت كما كنت تعرفين
الأمر يبدو لغزا، ومع ذلك فلا لغز فيه.
القمر الوديع، الذي يسعدك بالليل،
ويسحر نوره عينيك ووجدانك
سحرا لا يقاوم، يلوح بالنهار
سحابة شاحبة ضئيلة تطوف بالسماء.
لمعان النهار قد أخفي ضيائي،
إنكم ترونني، وتعرفونني،
أما أنا فما عدت أعرف نفسي.
ليونورا :
لست أفهم يا صديقي ما تقوله لي
على النحو الذي تقوله. أوضح لي ما تريد.
هل كدرتك إهانة الرجل الفظ
إلى الحد الذي أصبحت معه
تسيء فهم نفسك وتسيء فهمنا؟
ضع ثقتك في.
تاسو :
لست أنا المهان ما دمت ترين
أنني عوقبت عقاب المهين.
كان في استطاعة السيف أن يحل الكثير
من عقد الكلام في خفة وسهولة،
غير أنني الآن سجين.
هل تعلمين - لا تفزعي يا صديقتي الرقيقة -
أن صديقك الآن في زنزانة؟
إن الأمير يؤدبني كما يؤدب التلميذ.
أنا لا أحاسبه، ولا أستطيع.
ليونورا :
يبدو عليك التأثير أكثر مما ينبغي.
تاسو :
هل تحسبينني ضعيفا وطفلا،
إلى حد أن تفسد هذه الحادثة عقلي؟
إن ما حدث لا يؤذيني في الصميم،
ولكن يؤذيني ما يعنيه بالنسبة لي
دعي حسادي وأعدائي يفعلون ما يشاءون!
فالميدان خال ومتسع لهم.
ليونورا :
إنك ترتاب بغير حق في الكثيرين،
وقد استطعت أن أقتنع بنفسي بهذا،
وأنطونيو نفسه لا يعاديك كما تتوهم.
إن النزاع الذي حدث اليوم ...
تاسو :
إنني أدعه جانبا، وأكتفي بالنظر إلى أنطونيو
كما كان قديما، وكما هو الآن.
كانت تضايقني منه دائما حكمته الجامدة
وحبه لتمثيل دور المعلم على الدوام
بدلا من أن يبحث إن كان عقل المستمع إليه،
قد اهتدى بنفسه إلى الطريق الصحيح،
تجدينه يعلمك يعظك بأشياء
تحسين بها أفضل منه وأعمق،
ولا يستمع إلى كلمة واحدة تقولينها،
بل يسيء فهمك على الدوام.
هكذا يساء فهمك، يساء فهمك من مغرور،
يعتقد أنه يستطيع أن يتجاهلك بابتسامته!
أنا لم أبلغ من العمر ولا من الحكمة ما يجعلني
أكتفي بالصبر وأرد عليه بالابتسام.
لم يكن من الممكن أن نستمر على هذه الحال،
وكان لا بد أن نتصادم في وقت قريب أو بعيد،
ولو تأخر الأمر لازداد سوءا.
لست أعترف إلا بسيد واحد، هو السيد الذي يطعمني.
إنني أخضع له عن طيب خاطر، ولست أريد سيدا سواه.
أريد أن أكون حرا في تفكيري وإبداعي،
فالعالم يضع لأفعالنا ما يكفي من القيود.
ليونورا :
إنه كثيرا ما يتكلم عنك بالتقدير والاحترام.
تاسو :
تريدين أن تقولي بالحيطة والاحتراس، في براعة وذكاء.
وهذا هو الذي يغيظني؛ ذلك لأنه يعرف
كيف يتلاعب بالألفاظ ويتحكم فيها
بحيث يصبح الثناء على لسانه هجاء،
وبحيث لا يجرحك شيء كما تجرحك
كلمة ثناء تخرج من فمه.
ليونورا :
وددت يا صديقي لو سمعت ما يقوله عنك،
وعن الموهبة التي أثرتك بها الطبيعة الخيرة.
إنه يحس بالتأكيد من أنت وماذا تملك
وهو يقدره كذلك حق التقدير.
تاسو :
آه، صدقيني! إن الوجدان الذي لا يحب إلا ذاته
لا يمكنه أن يتخلص من عذاب الحسد الخالق.
مثل هذا الرجل قد يستطيع أن يغفر لغيره.
الثروة والمكانة والجاه، لأنه يقول لنفسه
أنت تملك هذا كله، وتستطيع أن تملكه إن شئت،
وإن أصررت وكان الحظ في جانبك.
أما هذا الذي تمنحه الطبيعة وحدها،
هذا الذي لا يستطيع الجهد ولا التعب أبدا أن يدركه،
ولا الذهب أو السيف أو الذكاء أن يغتصبه،
فذلك ما لا يمكنه أن يغتفره.
أتقولين إنه لا يحسدني على هذه الموهبة؟
هو الذي يظن أنه إذا أجهد عقله البليد
استطاع أن ينتزع الحظوة من ربات الفنون؟
وإذا جمع أفكارا من بعض الشعراء
ظن أنه قد أصبح شاعرا؟
لا، إنه قد يسلم لي برضاء الأمير،
الذي يود لو يستطيع أن يقصره على نفسه،
ولكنه لن يسلم لي بالموهبة التي أنعمت بها
ربات السماء على الشاب اليتيم المسكين.
ليونورا :
آه! ليتك ترى مور بوضوح كما أراها
إنك تخطئ الظن به، فليس في الحقيقة كما تراه.
تاسو :
إن كنت أخطئ الظن به، فما أحب هذا الخطأ إلى نفسي!
إنني أعده ألد أعدائي، ولن يعزيني الآن
أن أخفف من نقمتي عليه. من الحمق أن يكون الإنسان
منصفا في كل شيء؛ إن معناه أن يدمر نفسه بنفسه.
هل ينصف الناس في معاملتهم لنا؟ لا. لا!
إن الإنسان بكيانه المحدود
في حاجة إلى الإحساس المزدوج بالحب والكره.
ألا يحتاج إلى الليل حاجته إلى النهار؟
وإلى النوم كما يحتاج إلى اليقظة؟
لا. لا بد من اليوم أن أجعل هذا الرجل
موضوعا لكرهي العميق؛ ولا شيء يستطيع
أن ينتزع مني لذة الإحساس بكرهه
وإساءة الظن به على مر الأيام.
ليونورا :
إن كنت تريد الإصرار على هذا الرأي
فلست أدري، يا صديقي الغالي،
ما الذي يدعوك إلى البقاء في البلاط.
إنك تعلم منزلته فيه.
تاسو :
وأعلم، يا صديقتي الجميلة، منذ عهد طويل
أنني أصبحت هنا شيئا يمكن الاستغناء عنه.
ليونورا :
لست كذلك، ولا يمكن أبدا أن تكون!
إنك تعلم كم يحب الأمير، وكم تحب الأميرة أن تعيش معهما؛
وإذا جاءت شقيقتهما التي تعيش في أوربينو،
فهي تجيء من أجل شقيقتها كما تجيء من أجلك.
إنهم جميعا يضمرون لك الخير،
ويثقون فيك ثقة بغير حدود.
تاسو :
آه يا ليونورا! أي ثقة هذه!
هل تحدث معي مرة بكلمة واحدة في شئون الدولة،
بكلمة واحدة جادة؟
كانت كلما عرضت مسألة في وجودي
راح يستشير فيها شقيقته وبقية الحاضرين
ولا يسألني رأيي أبدا. إنه لا يفتأ يقول
أنطونيو قادم! لا بد أن تبلغوا أنطونيو!
اسألوا أنطونيو!
ليونورا :
أنت تتهم، حيث ينبغي عليك أن تشكر.
إنه إن كان يحب أن يترك لك حريتك المطلقة،
فذلك لأنه يكرمك بقدر ما يستطيع.
تاسو :
بل يتركني على راحتي، لاعتقاده بأنني لا أفيد في شيء.
ليونورا :
لا يمكن أن تكون عديم الفائدة، لأن راحتك هي مصدر قوتك.
ها أنت منذ وقت طويل ترعى الهم والضيق
في قلبك، كما يفعل الطفل المدلل الحبيب.
لقد طالما فكرت في الأمر وعدت للتفكير فيه
على هذه الأرض الجميلة، التي يبدو كأن الحظ
اختارها لك،
لا يمكن أن تنمو مواهبك أو تزدهر. آه يا تاسو!
هل أشير عليك؟ هل أجرؤ أن أقول لك ما في نفسي؟
إن عليك أن تبتعد!
تاسو :
لا تترفق، يا طبيبي العزيز، بالمريض!
ناوله الدواء حتى ولو كان مرا
اسألي نفسك، يا صديقتي الحكيمة الطيبة،
إن كان يمكن أن يشفي!
إني أرى كل شيء بنفسي. وا أسفاه! لقد فات الأوان!
أستطيع أن أغفر له، أما هو فلن يغفر لي.
وهم محتاجون إليه، أما أنا فلا يحتاج إلي أحد.
وهو ذكي، وأنا لست على شيء من الذكاء.
وهو يؤذيني، وأنا لا أحب ولا أقوى على رد أذاه.
أصدقائي يتغاضون عما يجري، وبعيون أخرى يرونه.
إنهم لا يبدون أي مقاومة، حين كان ينبغي عليهم أن يكافحوه.
أتعتقدين أنه علي أن أذهب؟ أنا نفسي أعتقد هذا.
الوداع إذن! وسوف أصبر على هذا الامتحان
لقد تخليتم عني، فلأجد القوة والشجاعة
التي تعينني على أن أتخلى بدوري عنكم!
ليونورا :
آه! إن الإنسان يميز على البعد في نقاء
ما يضل عقولنا على القرب.
ربما استطعت حينئذ
أن تعرف الحب الذي كان يحيط بك من كل جانب،
وربما استطعت أن تقدر قيمة الوفاء
الذي يصدر عن قلوب الأصدقاء الخلصاء،
وكيف أن العالم الواسع لا يغني
عن أولئك الذين وجدوا الطريق إلى قلبك.
تاسو :
هذا ما سوف نراه! فأنا أعرف العالم منذ الشباب،
وأعرف كيف يسهل عليه أن يتركنا وحيدين عاجزين،
ويواصل طريقه في غير اكتراث،
كما تفعل الشمس والقمر وبقية الآلهة!
ليونورا :
إذن أنصت إلي يا صديقي،
فلن تكرر التجربة الحزينة أبدا
إن كان لي أن أشير عليك،
فاذهب أولا إلى فلورنسا
حيث تتلقاك صديقه أحر لقاء.
لا تقلق! فأنا نفسي هذه الصديقة،
سأرحل في خلال أيام
لألقى زوجي هناك، وليس شيء أحب إليه أو إلي
من أن نراك بيننا.
لن أقول لك شيئا، فأنت تعرف بنفسك
ومن هو الأمير الذي ستعيش بقربه،
ومن هم الرجال والنساء الذين ترعاهم
هذه المدينة الجميلة بين ضلوعها.
ألا تقول شيئا؟ فكر في الأمر! وصمم على رأي!
تاسو :
يجذبني ما تعرضينه علي، ويتفق كل الاتفاق
مع الرغبة التي أكتمها في نفسي؛
غير أنه شيء جديد علي
أرجوك أن تتركي لي فرصة التفكير
وسوف أستقر على رأي عن قريب.
ليونورا :
سأذهب وفي نفسي أجمل الآمال
من أجلك، ومن أجلنا، ومن أجل هذا البيت.
فكر في الأمر ، وإذا أحسنت التفكير
فسوف يتعذر عليك أن تجد خيرا منه.
تاسو :
شيء واحد، يا صديقتي العزيزة!
خبريني، ما هو إحساس الأميرة نحوي؟
هل غضبت علي؟ ماذا قالت؟
هل اشتدت في لومي؟ كوني صريحة معي.
ليونورا :
كان من السهل عليها أن تلتمس العذر لك، لأنها تعرفك.
تاسو :
هل فقدت تقديرها لي؟ تكلمي بغير تملق.
ليونورا :
رضا النساء لا يفقده الإنسان بهذه السهولة.
تاسو :
وإذا رحلت، فهل تتركني أمضي وهي راضية؟
ليونورا :
لا شك في هذا، إذا عرفت أن الرحيل في صالحك.
تاسو :
ألن أفقد عطف الأمير؟
ليونورا :
تستطيع أن تطمئن إلى كرمه.
تاسو :
وهل نترك الأميرة في هذه الوحدة؟
أنت سترحلين، وأنا، على قلة شأني،
أعرف مع ذلك أن لي مكانة في عينيها.
ليونورا :
إننا نظل ننعم بصحبة الصديق
ما دمنا نعلم أنه على البعد سعيد.
سيسير كل شيء على ما يرام، فأنا أراك سعيدا
ولن ترحل ساخطا عن هذا المكان.
الأمير هو الذي أمر بهذا، وأنطونيو سيسعى إليك.
وهو يلوم نفسه على المرارة التي جرح بها إحساسك.
أتوسل إليك أن تستقبله بغير جفاء.
تاسو :
إنني أستطيع أن أواجهه في كل الأحوال.
ليونورا :
ولتوفقني السماء ، يا صديقي العزيز،
أن أفتح عينيك قبل أن ترحل،
لأريك أنه ليس في الوطن كله إنسان
يضطهدك أو يكرهك أو يتآمر عليك!
إنك تخطئ حقا! وكما تؤلف الشعر لتسعد الآخرين
أراك الآن - ويا للأسف! - تؤلف نسيجا غريبا من الأوهام
لتؤذي به نفسك. أريد أن أفعل كل ما أستطيع
لكي أمزق هذا النسيج، حتى تسير حرا
على طريق الحياة الجميل.
وداعا! وأنتظر منك ردا سعيدا.
المشهد الثالث
تاسو (وحده) :
إذن فهذا هو الآن واجبي؟
أن أعرف أنه لا أحد يكرهني، ولا أحد يضطهدني،
وأن المكر كله والدسائس الخفية كلها؛
إنما هي من نسيج خيالي!
أن أعترف بأنني أخطأت
وأنني أظلم كثيرين
لا يستحقون مني هذا الظلم!
وهذا في الوقت الذي يتجلى فيه
حقي المطلق وخيانتهم الدنيئة
واضحة أمام وجه الشمس!
علي أن أشعر عميق الشعور
بأن الأمير يفتح لي صدره ويهبني رضاه،
ويغدق علي دون حساب عطاياه،
في حين أن أعدائي يستغلون ضعفه
فيعكرون نظرته إلي، ويقيدون بالطبع يديه!
هو لا يستطيع أن يرى أنه مخدوع،
وأنا لا أستطيع أن أثبت أنهم خادعون،
وعلي أن ألزم الصمت، لا بل أنسحب من الميدان
لكي يخدع في هدوء،
ويضللوه على هواهم!
ومن الذي يقدم لي النصيحة؟
من الذي يلح علي في رفق وإصرار وذكاء؟
إنها ليونورا نفسها، ليونورا سانفيتاله.
الصديقة الرقيقة! آه. إنني أعرفك الآن!
ما الذي جعلني أصدق شفتيها!
لم تكن أمينة حين جاءت تؤكد لي
إخلاصها ورقتها بكلماتها المعسولة!
لا، لقد كانت وستظل خبيثة القلب،
تتسلل بخطى خافتة بارعة لتتقرب مني.
كم من مرة خدعت نفسي بنفسي فيها!
وما خدعني في الحقيقة إلا الغرور
كنت أعرفها ولكنني كنت أداهن نفسي،
وأقول لها: هكذا تعامل غيرك،
ولكنها معك صريحة ووفية.
الآن أراها بوضوح، وأراها بعد فوات الأوان
حين كنت أتمتع بالحظوة عند الأمير، كانت تتقرب مني
وتبدي رقتها لي، أنا المحظوظ.
وما كدت أهوى، حتى أدارت ظهرها
عندما تنكر الحظ بدوره لي.
وها هي تقبل الآن، أداة في يد عدوي
تتسلل نحوي وتصفر أنغامها الساحرة كالحية الصغيرة،
كم كانت تبدو رائعة! أروع من كل وقت مضى؟!
وما أعذب كل كلمة كانت تخرج من شفتيها!
ومع ذلك فلم يستطع النفاق طويلا
أن يخفي عني نيتها الخبيثة. على جبهتها.
كنت أقرأ بوضوح عكس ما كانت تقوله شفتاها،
فسرعان ما أحس بمن يبحث عن الطريق إلى قلبي
دون أن يكون صادقا من قلبه.
أعلي أن أبتعد؟ أن أذهب إلى فلورنسا بأسرع ما أستطيع؟
ولكن لماذا أذهب إلى فلورنسا؟ إنني أرى الأمر بوضوح.
هناك يحكم بيت الميديشي الجديد،
صحيح إنهم لا يجهرون بالعداء ل «فرارا»،
ولكن الحسد الصامت يفرق
بين القلوب النبيلة بيده الباردة.
وإذا حدث أن تلقيت من أولئك النبلاء
ما يدل على رضاهم السامي علي - وذلك ما أتوقعه عن يقين.
فما أسرع ما سيحاول رجل البلاط
أن يثير الشك في ولائي وعرفاني،
وسهل أن يتم له هذا.
نعم، أريد أن أذهب، ولكن لا كما تريدون؛
أريد أن أمضي بعيدا، وأبعد مما تتصورون.
وماذا أفعل هنا؟ من الذي يحرص علي؟
آه! لقد فهمت كل كلمة تصيدتها من شفتي ليونورا!
رحت أحدس بمعناها، مقطعا، بعد مقطع
وأعرف الآن تماما، ما تفكر الأميرة فيه.
أجل! أجل! كل هذا حق، فلا تيأس! «ستتركني أرحل وهي راضية
إذا عرفت أن ذلك في صالحي»
لو أنها أحست بعاطفة في قلبها
ستدمر سعادتي وتدمرني!
الموت أحب إلي من هذه اليد،
التي تتخلى عني في برود وجمود.
سأرحل! فحاذر الآن أن تنخدع
بالصداقة والطيبة. ولن يقوى أحد على خداعك،
ما دمت لا تخدع نفسك.
المشهد الرابع (أنطونيو - تاسو)
أنطونيو :
ها أنا يا تاسو قد جئت لأتكلم معك،
إن أردت واستطعت أن تستمع إلي في هدوء.
تاسو :
إن الفعل، كما تعلم، محرم علي؛
فخليق بي الآن أن أنتظر وأسمع.
أنطونيو :
إنني ألقاك هادئا، كما كنت أتمنى
وأحب أن أتحدث إليك بقلب مفتوح.
وأبدأ فأنزع عنك باسم الأمير
القيد الواهي الذي بدا أنه يقيدك.
تاسو :
التعسف هو الذي قيدني، وهو الذي يفك الآن قيدي .
إنني أقبل ما تعرضه علي، ولن أطالب بالتقاضي.
أنطونيو :
إذن دعني أتكلم الآن عن نفسي،
ربما جرحتك كلماتي
جرحا كان أعمق وأبعد من أن أحس به.
كنت في ذلك الحين معذب القلب بالأحزان
على أن كلمة واحدة مهينة
لم تفلت من شفتي بلا تدبر،
ولن تجد فيها كرجل نبيل ما تثأر له
ولن تبخل كإنسان عليها بالغفران.
تاسو :
لن أبحث الآن إن كانت الإهانة
أو كان السب أشد إيذاء؟
فتلك تنفذ إلى النخاع، وهذا يخدش الجلد.
إن سهم السب يعود فيصيب
من ظن أنه أصاب غيره بالجراح،
والسيف الذي يجد اليد التي تحسن تسديده،
من السهل أن يرضي رأي الآخرين.
أما القلب المهان فمن العسير أن يجد الشفاء.
أنطونيو :
الآن أرى من واجبي، أن ألح عليك وأقول:
لا ترجع إلى الوراء، وحقق رغبتي،
التي يريدها منك ، كذلك الأمير.
تاسو :
أنا أعرف واجبي، وسوف أطيع.
ولقد صفحت، بقدر ما أستطيع.
إن الشعراء يحكون لنا عن رمح
يستطيع بملمسه الرقيق
أن يشفي الجرح الذي أصابه
1
إن لسان الإنسان يملك هذه القدرة؛
ولن أجعل الحقد يغلق دونها فؤادي.
أنطونيو :
أشكرك وأرجوك أن تضع رغبتي
في خدمتك على الفور موضع الاختبار.
قل لي: هل أستطيع أن أؤدي لك خدمة؟
إنني أرحب بهذا كل الترحيب.
تاسو :
إنك تقدم لي ما كنت أتمناه.
لقد أعدت إلي حريتي، وأرجوك
أن تعطيني القدرة على استخدامها.
أنطونيو :
ماذا تقصد؟ أوضح ما تقول.
تاسو :
أنت تعلم أنني انتهيت من قصيدتي
ولكنها لا تزال بعيدة عن الكمال
لقد سلمتها اليوم للأمير
وكنت أرجو أن أشفعها بالتماس.
إن عددا كبيرا من أصدقائي
مجتمعون اليوم في روما
وقد كتبوا إلي على حدة
برأيهم في بعض الفقرات،
استطعت أن أفيد بكثير من هذه الآراء،
ولكن لا يزال الكثير فيما يبدو لي بحاجة إلى التفكير.
ولست أحب أن أغير في مواضع كثيرة،
قبل أن ألقى منهم مزيدا من الإقناع.
ولا بد من وجودي لأحل عقدة بالحديث
فكرت اليوم أن أطلب هذا من الأمير،
غير أنني لم أجد الفرصة سانحة؛
وليس من حقي الآن أن أتجرأ بالسؤال
لهذا أرجو أن أحصل على هذه الإجازة عن طريقك.
أنطونيو :
لست أرى من العقل أن تبتعد الآن
بعد أن أنجزت عملك الذي يرضي عنك الأميرة والأمير.
إن يوم الرضا كيوم الحصاد
إذا نضجت الثمار كان على الإنسان أن يعمل،
ولو ابتعدت الآن، فلن تكسب شيئا،
بل ربما خسرت ما كنت قد كسبت.
إن الحاضر إلهة قوية وقادرة،
فتعلم أن تعرف تأثيرها، وابق هنا!
تاسو :
لست أخاف شيئا؛ فألفونس نبيل،
وقد كان دائما كريما معي؛
وما أرجوه منه أحب أن أناله من قلبه فحسب،
ولست أحب أن أتسول رضاه؛
لا أريد أن آخذ منه شيئا
قد يندم لأنه أعطاني إياه.
أنطونيو :
لا تطلب منه إذن أن يسمح لك بالرحيل؛
إنه لن يفعل ذلك إلا كارها
وأخشى ألا يفعله على الإطلاق.
تاسو :
سيرضى إذا عرف الإنسان كيف يرجوه
ولن يستطيع هذا، إذا شئت، سواك.
أنطونيو :
ولكن قل لي: ما هي الحجج التي أقدمها إليه؟
تاسو :
دع كل مقطع من قصيدتي يعبر لك عنها!
إن ما أردته جدير بالحمد والثناء،
وإن ظل الهدف أبعد من أن تدركه قواي.
إنني لم أبخل عليها بالجهد والعناء.
كم من نهار جميل مشمس،
وكم من ليلة عميقة هادئة
وهبتها لهذه الأغنية التقية.
كنت أرجو، على تواضع حالي، أن أقترب
من أولئك المعلمين الكبار القدماء،
وتجاسرت أن أوقظ المعاصرين الأحياء
من نومهم الطويل لينهضوا بأعمال البطولة
ويشاركوا مع الجيش المسيحي العظيم
في أمجاد الحرب المقدسة وأخطارها.
فإن استطاع نشيدي أن يوقظ أفضل الرجال
فلا بد كذلك أن يكون جديرا بهم.
إنني أدين لألفونس بما فعلت؛
وأحب الآن أن أشكره على إتمامه.
أنطونيو :
ولكن الأمير هنا، ومعه كثيرون
يستطيعون أن يهدوك كما يفعل أهل روما.
أتمم قصيدك هنا، فهنا المكان الذي يلائمه.
فإن أردت التأثير على الناس، فأسرع بعدها إلى روما.
تاسو :
كان ألفونس أول من بعث في الحماس للقصيدة،
وإذا لم أجد حكما سواه، فسوف أستمع يقينا إلى نصيحته.
أما رأيك، ورأي الحكماء الذين جمعهم البلاط
فتأكد من أنني سأعرف قدره وقيمته،
عليكم أن تقرروا إن كان أصدقائي
لم ينجحوا في إقناعي بالسفر إلى روما،
ولكن لا بد لي أن أراهم.
إن جونزاجا قد ألف المحكمة التي ينبغي علي
أن أقدم نفسي إليها، ولست أطيق الانتظار.
فلا مينيودي نوبيلي، أنجيليودا بارجا.
أنطونيانو وسبيرون سبيروني!
2
لا شك أنك تعرفهم جميعا.
يا لها من أسماء رائعة! تبعث الثقة
كما تشيع الخوف في روحي،
التي ستخضع لرأيهم عن طيب خاطر.
أنطونيو :
أنت لا تفكر إلا في نفسك وتنسى الأمير.
أؤكد لك أنه لن يوافق على رحيلك؛
وإذا فعل، فسيكون ذلك بغير رضاه.
فهل تطلب منه مالا يحب أن يعطيه؟
وهل أمد يدي للتوسط في شيء
لا أستطيع أنا نفسي أن أحبذه؟
تاسو :
أترفض أن تقدم لي الخدمة الأولى،
التي أريد أن أختبر بها الصداقة التي تعرضها علي؟
أنطونيو :
إن الصداقة الحقة هي التي تعرف
كيف ترفض في الوقت المناسب،
وكم يجلب الحب من أضرار،
كلما استجاب لنزوة الصديق بدلا من مصلحته.
يبدو لي أنك في هذه اللحظة
تعد ما تتلهف عليه خيرا،
وتريد أن تحقق في طرفة عين
ما تشتاق إليه نفسك.
إن من يخطئ ويضل الطريق،
يضع العنف والجموح
مكان الحقيقة والقوة
اللتين يفتقر إليهما.
إن من واجبي، بقدر ما أستطيع
أن أخفف بالاعتدال من الغلواء
التي تؤذيك وتجني عليك.
تاسو :
طغيان الصداقة هذا، أعرفه من وقت طويل،
وهو عندي أشد ألوان الطغيان.
إن تفكيرك يختلف عن تفكيري،
وهذا ما يجعلك تعتقد بأنه هو التفكير الصحيح.
إنني أعترف بأنك تريد الخير لي؛
فلا تطلب مني أن أسير على طريقك كي أفتش عنه.
أنطونيو :
وهل تطلب مني أن أسعى في برود إلى أذاك
وأضرك عن اقتناع كامل وواضح؟
تاسو :
أحب أن أخلصك من هذا الهم!
فلن يصدني عن هدفي شيء مما تقول.
لقد أعدت إلي حريتي، وهذا الباب
الذي يؤدي إلى الأمير مفتوح أمامي.
أنت أو أنا! إنني أترك لك الخيار.
الأمير ينوي السفر. وليست هناك لحظة نضيعها في الانتظار.
اختر على وجه السرعة! فإذا لم تذهب أنت؛
فسأذهب أنا إليه، وليكن ما يكون.
أنطونيو :
دعني أطلب إليك أن تتريث قليلا،
وتنتظر على الأقل حتى يعود الأمير،
لا تذهب اليوم إليه!
تاسو :
بل سأذهب إليه الساعة، إن استطعت!
إن نعلي يلتهبان فوق هذا الرخام،
ولن تستريح روحي حتى يثور الغبار
ورائي على طريق الحرية. أتوسل إليك!
أنت ترى كم يتعذر علي في هذه اللحظة
أن أحسن الحديث مع مولاي،
أنت ترى - وكيف لي أن أخفي هذا؟ -
أنني لا أستطيع في هذه اللحظة أن أتحكم في نفسي،
ولن تستطيع قوة على الأرض أن تسيطر علي
الأغلال وحدها هي التي تقيدني الآن!
ليس ألفونس طاغية، فقد أعاد إلي حريتي.
وما أحب إلى نفسي أن أطيع أوامره
لولا أنني اليوم لا أستطيع!
دعوني أتمتع بحريتي اليوم فحسب
حتى أعود إلى نفسي! وسوف لا أتأخر عن أداء واجبي.
أنطونيو :
أنت تثير الحيرة في نفسي. ماذا أفعل؟
أرى الآن أن الخطأ يعدي.
تاسو :
إن أردت مني أن أصدقك، إن أردت حقا أن تعينني
فافعل ما أطلبه منك وما تستطيع،
عندئذ يوافق الأمير على سفري
دون أن أفقد عونه أو رضاه.
وسأحفظ لك هذا الجميل بالشكر والعرفان.
أما إن كنت تطوي في صدرك حقدا قديما،
أو كنت تريد أن تنفيني من هذا البلاط
وتجني على سعادتي إلى الأبد
وتلقيني إلى العالم الشاسع بغير معين،
فابق على رأيك وقف في طريقي!
أنطونيو :
ما دمت يا تاسو تريد أن أؤذيك،
فسوف أختار الطريق الذي اخترته بنفسك.
وستكشف النهاية عمن المخطئ منا والمصيب!
أنت تصر على الرحيل! فاسمع رأيي الآن.
لن تدير ظهرك لهذا البيت، حتى يحن قلبك للرجوع،
ويدفعك عنادك على طريق الهروب،
العذاب والاضطراب والاكتئاب
تنتظرك في روما،
وستخطئ الهدف هنا وهناك.
على أنني لا أقول لك هذا لأنصحك؛
وإنما أتنبأ بما سيقع عن قريب،
وأدعوك مقدما، من هذه الساعة
أن تثق بي في أسوأ الأحوال.
وسأذهب الآن إلى الأمير
لأتكلم معه كما تريد.
المشهد الخامس
تاسو (وحده) :
نعم! اذهب الآن وأنت على يقين
من أنك أقنعتني بما تريد.
سأتعلم أن أضع قناعا على وجهي،
فأنت المعلم الكبير، وأنا التلميذ الذي يفهم بغير عناء.
هكذا تضطرنا الحياة أن نتظاهر،
لا بل أن نكون كأولئك الذين
كان في مقدورنا أن نحتقرهم بجسارة وكبرياء.
الآن تتضح لي كل ألاعيب البلاط!
أنطونيو يريد أن يطردني ولا يريد
أن يظهر كأنه هو الذي يطردني.
إنه يمثل دور المتسامح الحكيم
حتى يبين للناس أنني مأفون ومريض.
ويفرض وصايته علي، كي يجعلني طفلا
بعد أن أعجزه أن يجعل مني عبدا.
وهكذا ينشر الضباب حول جبهة الأمير
ويعكر نظرة الأميرة إلي،
لا بد من التمسك بي، هذا ما يفكر فيه؛
فقد أهدتني الطبيعة موهبة جميلة،
لكنها، ويا للأسف، قد قرنت الهدية
بألوان من الضعف التي أسات إلي
بالغرور الجامح، والحساسية المفرطة
والشعور المتجهم العنيد.
لا حيلة لنا، فهكذا صور القدر هذا الرجل الفريد،
وعلينا الآن أن نقبله على علاته،
ونصبر عليه، ونحتمله، وليس ببعيد،
أن يأتي اليوم الجميل الذي نستمتع فيه
بالبهجة التي لم نكن ننتظرها منه.
وبعد هذا فلنترك له أن يعيش
أو فلندعه كما ولد يموت!
أهذا هو ألفونس وعزمه المكين،
الذي يرغم الأعداء بالشجاعة ويحمي الأصدقاء بالوفاء؟
أأستطيع الآن أن أتعرف عليه،
وهو يعاملني هذه المعاملة؟
أجل! إنني أعرف الآن شقائي كله!
هذا هو قدري الذي يجعل كل إنسان
يتغير نحوي في نفس واحد ولحظة واحدة.
بينما يظل مع غير الصديق الوفي الأمين.
ألم يكن ظهور هذا الرجل كافيا،
ليحطم مصيري كله في لحظة واحدة؟
أليس هو الذي هدم سعادتي
من أساسها ولم يترك حجرا على حجر؟
هل كان حتما أن أقاسي هذه التجربة،
هل كان حتما أن أقاسيها اليوم؟
نعم. كان الجميع يتدافعون علي
والآن يتخلى عني الجميع،
وكل من كان يحاول أن يشدني إليه،
وكل من كان يريد أن يستأثر بي
يصدني الآن عنه ويتجنب طريقي.
وما السبب في هذا؟ أترجح كفته في الميزان
كل ما كنت أحظى به من حب وتقدير؟
نعم! كل شيء يهرب الآن مني.
حتى أنت! حتى أنت! يا أميرتي المحبوبة
تتخلين الآن عني!
إنها لم ترسل إلي في هذه الساعات الكالحة
بعلامة واحدة تنبئ عن رضاها.
أكنت أستحق هذا منها؟ يا قلبي المسكين!
يا من فطرت على عبادتها!
كنت لا أكاد أسمع صوتها، حتى ينفذ
إلى قلبي شعور لا سبيل للتعبير عنه!
ولا أكاد ألمحها حتى يظلم في عيني
ضوء النهار الوضاح؛
تسحرني عيناها وشفتاها،
قدماي لا تعودان تحملاني،
وأهيب بكل ما في من قوة الروح
كي أتماسك أمامها ولا أسقط عند قدميها؛
وما من شيء ينقذني من هذا الدوار.
تثبت يا قلبي! وأنت يا عقلي المنير،
لا تدع الضباب يلفك ويغشاك؛
نعم! هي أيضا! أأقولها بلساني؟ ولا أكاد أصدق !
بل إنني أصدق، وأريد لو أخدع نفسي بالكتمان.
حتى هي! حتى هي! اعذرها من كل قلبك،
ولكن لا تخف الحقيقة عن نفسك،
حتى هي! حتى هي!
آه من هذه الكلمة، التي كنت أريد
أن أرتاب فيها،
ما دام تردد في صدري نفس من الإيمان،
أجل، هذه الكلمة، إنها خاتم القدر
الذي يحفر رسمه على إطار من حديد
في لوحتي التي امتلأت سطورها بالعذاب.
الآن سلبت إلى الأبد من كل قوة.
وكيف أحارب، وهي تقف في جيش أعدائي؟
وكيف أصبر، وهي لا تمد يدها إلي من بعيد؟
ونظرتها لا تستجيب لدعائي؟
لقد تشجعت على التفكير، واستطعت أن ترفع صوتك،
وها هو الأمر حق، وبأسرع مما كنت تخشى!
يكفيك قبل أن يقبض اليأس على عقلك
ويمزقه بمخالب من حديد،
أن تشكو القدر المرير
وتكرر لنفسك: حتى هي! حتى هي!
الفصل الخامس
بستان
المشهد الأول (ألفونس - أنطونيو)
أنطونيو :
ذهبت، كما أشرت، للمرة الثانية
أبحث عن تاسو، وها أنا قادم من عنده،
بذلت جهدي لأقنعه، لا بل ألححت عليه،
غير أنه لا يريد أن يحيد عن رأيه،
ويتوسل إليك أن تأذن له
بالسفر إلى روما لفترة قصيرة.
ألفونس :
لا أريد أن أخفي عنك سخطي،
وأفضل عندي أن أصارحك به،
على أن أكتمه وأزيد حدته.
أيريد أن يسافر؟! حسنا. لن أمنعه،
أيريد أن يتركنا ويذهب إلى روما؟ ليكن له ما يشاء!
على ألا يأخذه سكيبيو جونزاجا
أو ينتزعه المديشي البارع مني!
1
إن ما جعل إيطاليا بهذه العظمة
هو أن كل أمير ينافس جاره
في الاستئثار بالموهوبين والانتفاع بهم.
والأمير الذي لا يجمع المواهب حوله
هو عندي كالقائد بلا جيش؛
ومن لا يهزه صوت الشعر
فهو متوحش، مهما علا شأنه.
لقد اكتشفت شاعري واخترته بنفسي،
وأنا أعتز به واحدا من رعاياي
فهل أتركه إلا مرغما
بعد أن فعلت كل ما فعلت؟
أنطونيو :
إنني في حرج، لأنني أحمل
أمامك ذنب ما حدث اليوم؛
أنا أيضا أريد أن أعترف بخطئي
الذي لا يغتفره إلا عفوك.
غير أنني سأظل بلا عزاء
إذا تصورت أنني لم أفعل
كل ما استطعت لأصالحه.
آه لا تحرمني من نظرتك الحنون،
حتى أتماسك وأستعيد الثقة في نفسي.
ألفونس :
لا يا أنطونيو، فلتهدأ نفسك،
فأنا لا ألقي عليك أي ذنب؛
أنا أعرف تفكير هذا الرجل خير المعرفة،
وأعلم تمام العلم ما فعلت من أجله،
وكيف ترفقت به وتسامحت معه،
ونسيت ما كان من حقي أن أطلبه منه.
قد يستطيع الإنسان أن يسود الكثير،
لكنه يحتاج للزمن كما يحتاج للمحن والخطوب.
لكي يتمكن من السيادة على نفسه.
أنطونيو :
أليس من الإنصاف أن يسأل الإنسان نفسه
حين يرى ما يفعله الآخرون من أجله،
ماذا أستطيع أن أقدمه لمنفعتهم؟
ومن ثقف عقله إلى هذا الحد،
وجمع العلوم من أطرافها،
وحصل ما في طاقة الإنسان تحصيله
ألا يكون ملزما أكثر من غيره
بالتحكم في نفسه؟
أليس عليه أن يفكر في هذا؟
ألفونس :
كتب علينا ألا نذوق طعم الراحة!
فلا نكاد نفكر في التمتع بها
حتى نصادف عدوا نختبر معه شجاعتنا،
أو نرزق صديقا نجرب معه صبرنا.
أنطونيو :
هل تراه يحقق الواجب الأول على الإنسان،
الذي يفرض عليه أن يختار طعامه وشرابه،
ما دامت الطبيعة لم تقيده كما قيدت الحيوان؟
ألا يضعف كما يضعف الأطفال
أمام كل ما يثير لعابه؟
ومتى رآه أحد يمزج خمره بقليل من الماء؟
إنه ينتقل من التوابل إلى الحلوى إلى المشروبات القوية
ليبتلعها في نهم واحدة بعد الأخرى
ثم يشكو بعد ذلك من كآبة روحه،
واضطرام دمه وحدة طبعه
ويلقي اللوم على الطبيعة والقدر.
كم من مرة رأيته يجادل طبيبه؟
ويلقي الكلام في مرارة وحمق؟
وكم أوشكت على الضحك، لو كان يضحك
ما يعذب الإنسان ويضايق غيره؟
إنه يقول في قلق: أشعر بهذا الألم.
ثم في ضيق: فيم تفاخر بفنك؟ أوجد لي العلاج!
ويرد الطبيب: حسن! فامتنع عن هذا وذاك. - لا أستطيع. - إذن فاشرب هذا الدواء. - لا. إن طعمه البشع يملؤني بالاشمئزاز. - إذن فاشرب ماء. - أشرب ماء؟ مستحيل! إنني أخاف الماء كما يخافه من عضه كلب. - إذن فلا أستطيع أن أفعل لك شيئا. - وما السبب؟ - لأن الداء سيجر غيره معه، وإذا لم يقتلك
فسوف يزيد عذابك كل يوم. - شيء جميل! وما الفائدة إذن من أن تكون طبيبا؟
إنك تعرف دائي، ومن واجبك أيضا أن تعرف الدواء،
وتحبب طعمه إلي، حتى لا أضطر إلى العذاب.
لكي أتخلص من العذاب.
أراك تبتسم، أليس هذا هو الذي يحدث؟
ألم تسمعه بنفسك من فمه؟
ألفونس :
كثيرا ما سمعته وغفرته له.
أنطونيو :
حقا إن حياة بعيدة عن الاعتدال،
تملأ نومنا بالكوابيس الثقال،
وتسوقنا إلى الحلم في وضح النهار.
حيثما ذهب، ظن نفسه محاطا بالأعداء.
وظن أن كل من يعترف بموهبته يحسده،
وكل من يحسده يحقد عليه ويضطهده.
كم من مرة ضايقك بشكواه؟
بالأقفال التي كسرت، والرسائل التي فتحت،
والسم والخنجر! وكل ما يطوف بخياله!
ولقد أمرت بالبحث، وبحثت بنفسك،
فهل وجدت شيئا؟ لا أثر!
لا رعاية أمير تشعره بالأمان،
ولا قلب صديق يرويه بالحنان.
ألمثل هذا، تريد الراحة والهناء؟
أترجو لنفسك منه السعادة والصفاء؟
ألفونس :
لو كنت أريد منه منفعة قريبة
لكان لك الحق فيما تقول يا أنطونيو!
أليس في صالحي أنني لا أنتظر
منفعة عاجلة مباشرة؟
إن كل شيء يخدمنا على طريقته؛
ومن أراد أن يستخدم الكثير،
فليستخدم كل شيء بما يتفق وطبيعته؛
وبهذا تتحقق له المنفعة.
هذا هو الدرس الذي علمنا إياه آل مديشي،
وهذا ما برهن عليه البابوات بأنفسهم.
كم من عبقري رعاه هؤلاء الرجال
بالسماح والصبر وطول الأناة؟
وكان يظن أنه في غنى عن نعمتهم
ومع ذلك لم يستطع أن يحيا دونها!
أنطونيو :
ومن يجهل هذا يا أميري؟ إن التعب في الحياة
هو وحده الذي يعلمنا تقدير عطاياها.
لقد نعم بالكثير حين كان لا يزال صغيرا
فلم يقنع بالمتع القليلة.
ليته يعرف أولا كيف ينعم
بما تغدقه الأيدي السخية عليه.
إذن لاستطاع أن يحزم قواه،
ويشعر بالرضا خطوة فخطوة.
إن الرجل النبيل الذي لا يملك ثروة
يستطيع أن يبلغ أسمى أمانيه،
إذا جعله أمير عظيم من رفاقه
وحرره بيده الرقيقة من الضيق.
فإذا حباه، كذلك ثقته ورضاه
واصطفاه بجواره على كل من عداه،
في الحرب والحكم والحديث،
فقد يبدو لي أن الرجل المتواضع
يستطيع أن يشكر حظه في صمت،
وتاسو يزيد على هذا كله
أروع ما يمكن أن يحظى به شاب.
فالوطن يكرمه ويعقد عليه الآمال.
صدقني إن قلت إن مزاجه الغريب
يتقلب على مخدة حظه السعيد.
ها هو قادم. فسرحه في كرم
ليلتمس في روما أو نابولي أو حيث شاء
ما يتفقده هنا، وما لن يجده في غير هذا المكان.
ألفونس :
أيريد أن يسافر أولا إلى «فرارا»؟
أنطونيو :
بل يرغب أن يبقى في «بلرجواردو»،
ويكلف أحد أصدقائه أن يرسل إليه
أهم ما يحتاجه في رحلته.
ألفونس :
بكل سرور. ستبادر شقيقتي بالعودة إلى المدينة
مع صديقتها، وسأسبقهما على جوادي.
وستلحق بنا بعد أن ترعى شئونه.
مر الحاجب بأن يقوم بما يلزم
ليبقى في القصر إلى ما يشاء،
حتى يرسل أصدقاؤه إليه المتاع
وتصله الرسائل التي أحب أن أعطيها له
ليأخذها معه إلى روما. ها هو قادم.
الوداع!
المشهد الثاني (ألفونس - تاسو)
تاسو (في تحفظ) :
عطفك الذي طالما غمرتني به
يتجلى لي اليوم في أبهى ضياء.
الإثم الذي ارتكبت في جوارك
عن طيش، غفرته لي.
خصمي جعلته يمد يديه إلي
وتريد الآن أن تأذن لي
بالبعد قليلا عن جوارك،
ويشاء مع ذلك قلبك الكريم
ألا يحرمني من رضاه.
سأرحل عنك وملئي الثقة،
وأبعد عنك وكلي رجاء،
بأن غيابي هذا القصير
سيشفي هموم الفؤاد الكسير.
أريد أن تسمو روحي من جديد،
وأسعى على الدرب، الذي شجعتني نظرتك الحنون
على السير عليه في سعادة وجرأة،
لكي أعود جديرا بعطفك.
ألفونس :
أتمنى لك الحظ السعيد في رحلتك،
وأرجو أن نراك بيننا من جديد
مبتهج النفس في أطيب حال.
عندئذ ترد إلينا المكسب مضاعفا
عن كل لحظة حرمتنا منها.
سأعطيك رسائل لرجالي وأصدقائي في روما،
وأرجو أن تعدهم جميعا أصدقاء أوفياء،
أما أنا، فسوف أظل أنظر إليك
على البعد كصديق حميم .
تاسو :
أنت تغمر بفضلك يا أمير
إنسانا يشعر أنه لا يستحقه،
ولا يكاد في هذه اللحظة يستطيع
أن يعبر لك عن شكره.
وبدلا من أن أقدم لك امتناني
جئت أرفع إليك التماسا!
أنت تعلم كم أعتز بقصيدي،
لقد بذلت فيه الكثير ولم أبخل عليه
بجهد ولا عناء، ومع ذلك فلم يزل
أبعد بكثير عما أتمناه.
أريد أن أعود تلميذا من جديد،
هناك حيث لا تزال أرواح العباقرة
تطوف في السماء وتؤثر على القلوب،
فربما تصبح أنشودتي جديرة باستحسانك.
أتوسل إليك أن تعيد إلي الأوراق
التي يخجلني أن أعرف أنها بين يديك.
ألفونس :
أتريد اليوم أن تسترد الهدية
التي أعطيتني في هذا اليوم نفسه؟
دعني أتوسط بينك وبين قصيدك.
حاذر أن تفرط في الجهد والعمل،
فتؤذي الطبيعة الرقيقة التي تنبض في أبياتك،
ولا تنصت إلى النصائح التي تنهال عليك من كل ناحية؛
إن آلاف الأفكار التي تصدر عن أناس مختلفين
يناقضون بعضهم في الرأي والحياة،
يضمها الشاعر الذكي في كل واحد،
فلا يهاب أن يغضب القليلين
ما دام سيفوز بالمزيد من رضا الآخرين.
ومع ذلك فلست أريد بهذا أن أقول
إنك لا تحتاج أن تمر عليها في هدوء،
فتهذب فيها هنا وهناك،
ولذلك أعدك الآن أن أعطيك
نسخة منها بعد وقت قصير.
أما المخطوطة فسأحتفظ بها،
لأستمتع بها مع شقيقاتي،
فإذا رجعت إلينا بنسخة أكمل
فسوف تزيد متعتنا بها،
وقد نلفتك إلى بعض الملاحظات
التي نبديها لك كأصدقاء.
تاسو :
أتوسل إليك من جديد في خشوع،
دعني أحصل على هذه النسخة على وجه السرعة!
إن كياني كله يعيش الآن في هذا القصيد
وإذا قدر له أن يكون شيئا، فليكن الآن!
ألفونس :
إني أحيي هذه الرغبة التي تملك عليك نفسك!
ومع ذلك، فمن واجبك يا عزيزي تاسو
أن تفرج عن نفسك بقدر ما تستطيع،
وتستمتع بالعالم الواسع قليلا،
وتأخذ علاجا ينقي دمك.
هناك يستعيد وجدانك الانسجام الجميل
ويعطيك ما لن تناله بالانفعال الكئيب.
تاسو :
قد يبدو الأمر كذلك يا أميري
ولكنني بمجرد أن أنكب على عملي
أحس بأنني صحيح معافى،
وأستمد من العمل قوة جديدة.
إنك تعرفني منذ وقت طويل،
وتعرف أنني أضيق بحياة الفراغ؛
إن الراحة هي آخر ما يريحني،
وهذا الوجدان، ويا للأسف، لم تهيئه الطبيعة،
ليطفو مرحا على نهر الأيام،
ويسبح في بحر الزمان الواسع.
ألفونس :
كل ما تفكر فيه أو تفعله،
يغوص بك إلى أعماق نفسك!
كم من هاوية حفرها القدر حولنا؟
لكن أعمقها هنا في قلبنا!
وهي تجذبنا إلى التردي فيها.
أتوسل إليك أن تنتزع نفسك من نفسك!
وسترى أن ما ستفقده كشاعر ستكسبه كإنسان.
تاسو :
عبثا أحاول التحكم في هذا الدافع،
الذي يموج في صدري ليل نهار.
إنني إن توقفت عن الفكر والإبداع،
لم تعد الحياة في عيني حياة.
أتستطيع أن تمنع دودة الحرير
من أن تغزل النسيج، الذي يؤدي لموتها؟
من قلبها تنتزع الخيط النفيس،
فلا تتوقف حتى تغلق الكفن على نفسها
ليت إلها محسنا ينعم علينا،
بنصيب هذه الدودة، الذي تحسد عليه!
ليتنا نستطيع ذات يوم
أن نفرد الجناحين المشعين
في وادي الشمس البعيد،
في بهجة وبغير ميعاد.
ألفونس :
استمع إلي! إنني أرجوك - وأنت الذي تضاعف للكثيرين بهجة الحياة -
أن تتعلم أنت نفسك، قيمة هذه الحياة،
التي أغدقت عليك عطاياها بسخاء.
وداعا! وكلما أسرعت بالرجوع
زدتنا فرحة بعودتك.
المشهد الثالث
تاسو (وحده) :
تماسك يا قلبي، فأنت على الدرب الصحيح!
المهمة عسيرة، إنها المرة الأولى
التي تجرب فيها أن تتنكر ولا تخيب.
ها أنت قد سمعت: لم يكن هذا قلبه
ولا الكلمات كما عهدتها كلماته.
لكأني ما سمعت إلا صوت أنطونيو.
آه، كن على حذر! فسوف تسمعه الآن
يأتيك من كل ناحية. تماسك. تماسك!
لم تبق غير لحظة وتدرك الهدف.
من تعلم التنكر في أواخر الحياة،
أنقذته سمعته الطيبة من العيون،
فتعلم كيف تحذق فنونهم، وسيتم كل شيء على ما يرام. (بعد فترة صمت.)
أنت تتباهى بالانتصار قبل الأوان! ها هي قادمة هناك!
الأميرة الرقيقة قادمة! يا له من شعور!
إنها تدخل. والشك والسخط اللذان تجمعا في قلبي،
يذوبان الآن في دموع الأحزان.
المشهد الرابع (الأميرة - تاسو - ثم يدخل الباقون قبل نهاية المشهد)
الأميرة :
هل تفكر إذن في أن تتركنا؟
أم تريد أن تبقى قليلا في بلرجواردو
حتى يأتي اليوم الذي ترحل عنا فيه
لفترة قصيرة، كما أتعشم يا تاسو؟
أتذهب إلى روما؟
تاسو :
سأذهب أولا إلى هناك،
فإذا أحسن الأصدقاء استقبالي كما أرجو،
فقد أستطيع أن أحشد صبري وعنايتي،
لأضع اللمسة الأخيرة في قصيدتي،
سأجد هناك رجالا كثيرين،
يحق لهم أن يصفوا أنفسهم
بأنهم سادة في كل الفنون.
ألا ينطق كل مكان في تلك المدينة العظيمة؟
ألا يتحدث كل حجر إلى قلوبنا؟
وكم من ألف معلم صامت يشير إلينا
إشارة الصديق في هيبة وجلال؟!
وإذا لم أستطع أن أكمل قصيدتي هناك،
فأين إذن أستطيع أن أكملها؟
بيد أني، ويا للأسف، أحس من الآن
أنني لن أنجح فيما سأقدم عليه.
لا شك أنني سأغير فيها، لكنني لن أستطيع إتمامها.
إنني أشعر الآن، أشعر بكل وضوح
أن الفن العظيم الذي يغذو الجميع،
وينعش العقل السليم ويقويه،
سوف يدمرني ويطردني بعيدا عنه.
أريد أن أهرب! أريد أن أذهب الساعة إلى نابولي!
الأميرة :
وهل يمكنك أن تخاطر بهذا؟ إن حكم النفي
الذي نزل بك وبأبيك لم يرفع بعد.
تاسو :
أنت على حق في تحذيرك، ولكنني فكرت في المسألة.
سأذهب إلى هناك متنكرا،
مرتديا ثوب الحجاج أو الرعاة المساكين.
سأدخل المدينة خفية،
حيث يضيع الفرد في زحام الألوف.
سأسرع إلى الشاطئ، حيث أجد هناك
قاربا يركبه أناس طيبون من مدينة سورنت،
وفلاحون عائدون إلى بيوتهم من السوق؛
ذلك لأنني لا بد أن أسرع إلى سورنت،
فهناك تعيش شقيقتي التي كنت وإياها
بالنسبة لأبوينا كل العذاب والسرور.
سألزم الهدوء في القارب، وأدلف إلى الشاطئ في صمت
وأصعد في حذر على الطريق المؤدي إلى بوابة المدينة،
وهناك أسأل: أين تعيش كورنيليا؟ دلوني على مسكنها
كورنيليا سير سالي؟
وسأجد غازلة تبتسم لي وتدلني على البيت والطريق.
وأواصل الصعود. وحولي الأطفال ينظرون مدهوشين
إلى الشعر المضطرب والوجه الغريب الحزين.
وأبلغ العتبة، فأجد الباب مفتوحا، وأدخل.
الأميرة :
افتح عينيك يا تاسو إذا استطعت،
وانظر إلى الخطر الذي تريد أن تهوي فيه.
لولا إشفاقي عليك لسألتك
أمن النبل أن تقول هذا الكلام؟
أمن النبل ألا تفكر إلا في نفسك،
وكأنك لا تعذب قلوب الأصدقاء؟
هل يخفى عليك رأي شقيقي فيك؟
هل تجهل كيف تقدرك شقيقتاي؟
ألم تحس بهذا التقدير وتتأكد منه؟
هل يتغير كل شيء في لحظات قليلة؟
تاسو! إن كنت تريد أن تفارقنا
فلا تترك لنا الألم والعذاب. (تاسو يشيح بوجهه بعيدا.)
الأميرة :
كم يعزي النفس حين يرحل صديق
في رحلة قصيرة، أن نقدم له هدية صغيرة،
ولتكن معطفا جديدا وسلاحا!
أما أنت فلا يستطيع الإنسان أن يهديك شيئا؛
لأنك تطرح عنك كل ما تملكه في نفور.
إنك تختار عباءة الحجاج وبردتهم السوداء
وعكازهم الطويل، وتتعمد أن تذهب إلى هناك
في زي المساكين، وتسلب منا
ما لم تكن لتتمتع به إلا معنا.
تاسو :
إذن فأنت لا تنبذينني تماما؟
يا للكلمة العذبة، يا للعزاء الغالي الجميل!
دافعي عني! خذيني في حماك!
دعيني هنا في بلرجواردو، أو انقليني إلى كونساندولي،
أو إلى حيث تشائين!
ألا يملك الأمير من القصور الجميلة والبساتين
ما يحتاج إلى العناية طوال العام،
ولا تكادون تقيمون فيه يوما واحدا أو ساعة واحدة؟
اختاري أبعدها جميعا، ذلك الذي لم تزوريه مند سنوات،
وقد يكون الآن مهجورا، وأرسليني إلى هناك!
دعيني هناك أهب حياتي كلها لكم!
كم أتمنى أن أتعهد أشجارك!
وأغطي في الخريف أشجار الليمون بالألواح والقرميد،
وألفها بعناية بأعواد القصب!
ستمد الأزهار الجميلة جذورها العريضة في الأحواض،
وسيبدو كل ممشى وكل خلوة في أبهى زينة.
واتركي لي كذلك العناية بالقصر!
سأفتح النوافذ في الوقت المناسب،
فلا تفسد الرطوبة اللوحات؛
والجدران المزدانة بمعجون المرمر
سأنظفها بالريش الخفيف،
وستلمع الأرضية الخشبية وتتألق،
ولا يتزحزح حجر أو طوبة عن مكانهما،
ولا ينبت عشب في أحد الشقوق!
الأميرة :
لست أجد في عقلي رأيا
ولا في قلبي عزاء لك أو لنا.
إن عيني تتلفتان حولي، لعل إلها
يمد إلينا يد المساعدة،
أو يدلنا على بلسم أو نبات شاف،
ينزل السلام على نفسك ويهدئ نفوسنا.
إن أخلص الكلمات التي تخرج من الشفاه،
وهي الدواء الساحر، لم يعد لها تأثير.
لا بد أن أتركك تسافر،
ولكن قلبي لا يستطيع أن يهجرك.
تاسو :
أيتها الآلهة! إنها هي
التي تتكلم معك وتعطف على بؤسك!
ومع ذلك أسأت في فهم القلب النبيل؟
كيف استولى الضعف عليك،
وكيف قهرك اليأس وأنت منها قريب؟
لا لا! إنها هي! وأنت أيضا قد ولدت من جديد.
تكلمي تكلمي ودعيني أستمد
من بين شفتيك الأمل والعزاء!
لا تحرميني من نصيحتك! قولي: ماذا أفعل؟
لكي ينعم شقيقك بالعفو علي،
ولكي أكون جديرا بعفوك،
ولكي يسعدكم من جديد
أن تعدوني واحدا منكم
قولي لي!
الأميرة :
إن ما نطلبه منك قليل،
ومع ذلك يبدو أكثر من الكثير.
يكفيك أن تترك نفسك لنا، وتطمئن لمودتنا.
نحن لا نريد منك إلا ما في طاقتك،
إذا استطعت فحسب، أن ترضى عن نفسك.
أنت تسعدنا، حين تكون سعيدا،
وتؤلم قلوبنا حين تهرب من السعادة.
وإذا كنت تجعلنا نفقد الصبر أحيانا،
فلأننا نتمنى أن نساعدك، ونرى، ويا للأسف،
أن كل مساعدة لا جدوى منها،
ما دمت لا تريد أن تمسك بيد الصديق
التي تمتد إليك في شوق ولا تصل إليك.
تاسو :
ما زلت أنت التي رأيتها أول مرة
حين أقبلت علي كالملاك الطاهر!
اغفري للبشر الفاني نظرته،
التي غشيت لحظات فلم تعرفك،
إنها تراك الآن! وروحي كلها تتفتح،
لتعبدك أنت وحدك إلى الأبد،
والقلب يفيض كله بالحنان
إنها هي. أراها أمامي. يا له من شعور!
أهي الحيرة التي تدفعني إليك؟
أهو الجنون؟ أم حس عال
ينتشي بالحقيقة السامية الصافية؟
نعم! إنها العاطفة التي تستطيع وحدها
أن تهبني السعادة على هذه الأرض.
وهي وحدها التي قدرت شقائي،
حين قاومتها وأردت أن أنفيها من القلب.
هذه العاطفة هي التي حاولت أن أحاربها،
وصارعت وصارعت صميم كياني
وهدمت في غضبي الأحمق ذاتي،
التي عرفت أنك لها وحدها.
الأميرة :
تاسو! إن كنت حريصا على أن أسمعك،
فكفكف هذا اللهب الذي يفزعني.
تاسو :
هل تمنع حافة الكأس النبيذ
من أن يطفح ويزيد ويفور؟
كل كلمة منك تزيد سعادتي،
ومع كل كلمة تتألق عيناك.
أحس أنني تغيرت في أعماقي،
وأنني تخلصت من كل همومي وأعبائي
وأصبحت حرا كإله، وكل هذا بفضلك!
القوة الغامضة التي تتحكم في حياتي
تتدفق من شفتيك. نعم! أنت تملكين وجودي.
لم يعد لي شيء أملكه من نفسي.
عيني تعشى في وميض السعادة والنور،
وجداني يترنح ويضطرب. ساقي ترتعش.
أنت تشدينني نحوك فلا أملك أن أقاوم،
أو أمنع قلبي الذي يندفع إليك.
ملكتني إلى الأبد بين يديك
فخذي وجودي كله إليك! (يلقي نفسه بين ذراعيها ويضمها بشدة إلى صدره.)
الأميرة (تدفعه عنها وتبتعد بسرعة) :
ابتعد!
ليونورا (التي ظهرت منذ قليل في مؤخرة المسرح تسرع مقبلة) :
ماذا حدث؟ تاسو! تاسو! (تتبع الأميرة.)
تاسو (الذي يريد أن يتبعهما) :
آه يا إلهي!
ألفونس (الذي اقترب منذ قليل مع أنطونيو) :
لقد جن جنونه! أوقفوه! (يخرج.)
المشهد الخامس (تاسو - أنطونيو)
أنطونيو :
أنت يا من تعتقد دائما أن الأعداء يحيطون بك،
كم يحس العدو بالانتصار لو رآك الآن!
أيها الشقي! إنني لا أكاد أفيق من ذهولي!
عندما نفاجأ بشيء لم نكن نتوقعه،
عندما تقع أنظارنا على شيء رهيب
يتوقف العقل لحظة كالمشلول،
ولا نجد وصفا لهذا الشيء المجهول.
تاسو (بعد فترة صمت طويلة) :
أتمم مهمتك. إني أراك الآن على حقيقتك!
نعم! إنك تستحق ثقة الأمير فيك،
أتمم وظيفتك! استمر في تعذيبي!
انكسرت عصاي فعذبني في بطء حتى أموت!
اغرز! اغرز السهم حتى أحس بالكلاب
يغوص في لحمي ويمزقني!
أنت أداة طيعة في يد الطاغية؛
كن السجان وكن الجلاد،
فكلاهما يليق بك! (يدير وجهه ناحية المشهد.)
نعم! استمر أيها الطاغية!
لم تستطع أن تلبس القناع للنهاية، انتصر!
عرفت كيف تقيد العبد بالأغلال،
وكيف تدخره لعذاب أفظع.
استمر في عملك، فإنني أكرهك،
وأحس بالبشاعة التي تثيرها في نفسي
القوة المستبدة التي تفتك بالأبرياء (بعد فترة صمت.)
وهكذا أراني في نهاية المطاف
طريدا منفيا كأنني شحاذ!
لم يتوجوا رأسي إلا ليزينوا
الضحية التي يقدمونها إلى المذبح،
هكذا جردوني في يومي الأخير،
بألفاظهم المعسولة، من كنزي الوحيد،
من قصيدي الذي لن يردوه إلي!
من ملكي الوحيد الذي كان ممكنا
أن يضمن لي الحفاوة في كل مكان،
أزوره ويحميني من الجوع!
الآن أرى لماذا أردتم لي أن أستريح،
إنها مؤامرة، وأنت رأس المتآمرين؛
لكي تبقى قصيدتي إلى الأبد ناقصة،
لتحرموا اسمي من المجد والشهرة،
ليجد حسادي ألف عيب يأخذونه علي،
ولأسقط أخيرا في هوة النسيان.
ألهذا أردتم لي الراحة والفراغ؟
ألهذا دعوتموني لأحفظ نفسي وأدخر قواي؟
يا للمحبة الصادقة! يا للعناية الرءوم!
كنت أتخيل بشاعة المؤامرة
التي تحاك لي بلا هوادة في الظلام،
وها هو الواقع أبشع من كل خيال! •••
وأنت أيتها الساحرة الخئون!
يا من جذبتني برقة السماء،
ها أنا ذا أراك الآن على حقيقتك!
يا إلهي! لماذا لم تفتح عيناي قبل الآن. •••
بيد أننا نحب أن نخدع أنفسنا بأنفسنا،
ونكرم كل نذل دنيء يكرمنا.
إن الناس يجهلون بعضهم البعض؛
أما عبيد الحرب الذين يجلسون لاهثين مغلولين على مقعد واحد،
فأولئك هم الذين يعرفون بعضهم البعض؛
وحيث لا يطلب أحد من صاحبه شيئا،
ولا يخشى أن يفقد شيئا،
وحيث يكشف كل واحد عن خبثه،
ولا ينتظر من جاره إلا الخبث،
فأولئك يعرف بعضهم البعض.
لكننا لا نجامل غيرنا حين نخدع أنفسنا فيهم،
إلا لكي يكون من حقنا أن نطلب منهم المجاملة نفسها. •••
صنمك الذي عبدته كل هذا الزمن
كان يحجب عن المرأة اللعوب.
سقط القناع، وأرى الآن أرميد
عارية من كل سحرها، نعم! أنت هي!
وكم تغنت قصيدتي بهذه الأحاسيس! •••
والوسيطة الصغيرة الماكرة
كم سقطت الآن من عيني!
ما زلت أسمع حفيف خطواتها الناعمة حولي،
وأعرف الآن الهدف من دسها وكيدها.
إنني أعرفكم الآن جميعا! ويكفيني هذا!
وإذا سلبني حظي الشقي من كل شيء
فسأعرف فضله علي؛ إذ كشف لي الحقيقة.
أنطونيو :
إنني أسمعك يا تاسو في ذهول،
بالرغم من علمي أن عقلك المندفع
يتذبذب في سهولة من طرف إلى طرف.
عد إلى نفسك! تحكم في هذا الغضب!
إنك تجدف من كلمة إلى كلمة،
وتأتي ذنوبا إن غفرتها لك آلامك،
فلن تغفرها لنفسك أبدا.
تاسو :
آه، لا تخاطبني بكل هذه الرقة، ولا تحاول
أن تعيد إلي الهدوء بكلماتك العاقلة!
دعني أتمتع بلذة الجنون الكئيبة،
لكيلا أعود إلى عقلي لحظة فأفقده.
أحس في أعماقي أن هيكلي تهشم،
ولست أعيش إلا لأجل هذا الإحساس.
اليأس يقبض علي بكل قسوته،
وفي جحيم العذاب الذي يفنيني
لا يكون التجديف إلا شكوى ضعيفة.
أريد أن أرحل! فإن كنت صادقا
فأثبت لي هذا، ودعني أفر في هذه اللحظة!
أنطونيو :
لن أتخلى عنك في هذه الشدة؛
وإذا كنت قد فقدت التحكم في نفسك،
فإني لن أفقد الصبر معك.
تاسو :
أعلي إذن أن أستسلم لك؟
ها أنا قد سلمت، وتم الأمر
لن أقاوم، وها أنا قد استرحت -
ودعني أكرر الآن في ألم،
كم كان جميلا ما أضعته من يدي.
ها هم قد ابتعدوا - يا إلهي!
إني أرى الغبار الذي يرتفع خلف عرباتهم.
الفرسان في المقدمة. إنهم يسيرون
على الطريق نفسه، الذي جئت منه.
إنهم يرحلون غاضبين علي
لو أنني استطعت أن أقبل يده!
لو أنني استطعت أن أودعه
وأقول له للمرة الأخيرة: اعف عني!
وأسمعه يقول: اذهب فقد عفوت عنك!
لكنني لا أسمعها منه ولن أسمعها أبدا.
أريد أن أذهب إليه! دعوني أودعه
ولا أطلب شيئا غير هذا الوداع!
أعطوني! آه، أعطوني هذه اللحظة مرة واحدة!
فربما شفيت. لا. إنني طريد. إنني منفي.
أنا الذي نفيت نفسي بنفسي.
لن أسمع هذا الصوت أبدا
لن ألاقي هذه النظرة أبدا.
أنطونيو :
حاول أن تنصت إلى صوت رجل،
لا يستطيع أن يسمعك بغير تأثر!
لست شقيا إلى الحد الذي تظن
تمالك نفسك! جرب أن تقاومها!
تاسو :
هل بلغت من البؤس ما يبدو علي؟
هل بلغت من الضعف ما يظهر لك ؟
هل ضاع إذن كل شيء؟
هل زلزل الألم بنياني،
وحوله إلى ركام من الأنقاض؟
ألم تبق لدي موهبة تحميني وتقدم لي ألف عزاء؟
هل انطفأت كل القوة التي كانت تجيش في صدري؟
هل أصبحت عدما؟ هل فني وجودي؟
لا! إن كل شيء كما هو، لكنني أصبحت عدما.
لقد تخليت عن نفسي وتخلت عني.
أنطونيو :
إذا ظننت أنك قد فقدت كل شيء
فقارن نفسك بغيرك، واعرف من أنت!
تاسو :
أجل! إنك تذكرني بنفسي في اللحظة المناسبة!
ألم يبق لي مثل أعلى، أستمده من التاريخ؟
ألا يتمثل لي بطل، تعذب أكثر مما تعذبت
فأتماسك حين أقارن نفسي به؟
لا! لقد ذهب الجميع! ولم يبق لي سوى شيء ؛واحد
الدمعة التي أهدتها لنا الطبيعة، وصرخة الألم
التي يطلقها الإنسان حين يعجز عن الاحتمال.
وأنا الذي احتفظت بهذه الهدية السامية،
تركت لي في الألم اللحن والخطاب،
لأشكو همومي كلها في نشيدي.
وإذا ما أخرس الإنسان عذابه
وهبني الرب أن أعبر عن عذابي. (أنطونيو يتقدم نحوه ويتناول يده.)
تاسو :
آه، أيها الصديق النبيل! إنك تقف ثابتا وهادئا،
بينما أبدو كالموجة التي تتقاذفها العاصفة.
ولكن تريث ولا تغتر بقوتك!
فالطبيعة الجبارة التي بنت هذه الصخرة الراسخة،
قد أعطت الموجة القدرة على الحركة.
إنها ترسل عواصفها، فتفر الموجة
وتتأرجح وتنفخ وتثور مزبدة.
على هذه الموجة كان ينعكس ضياء الشمس الجميل،
وفوق هذا الصدر الذي تحركه نسمة خفيفة
كانت تستريح النجوم.
الآن اختفى الضياء، وتبددت الراحة.
لم أعد أعرف نفسي في وسط الأخطار
ولا عدت أشعر بالخجل من هذا الاعتراف.
انكسر المجداف، وبدأت السفينة تتحطم من ناحية.
والأرض راحت تنشق تحت قدمي!
ها أنا ذا أمسك يديك، وأضمك بذراعي
كما يتشبث الملاح في النهاية
بالصخرة التي سيتحطم عليها. (تمت)
نامعلوم صفحہ