تأسیس میٹافزیقا اخلاق
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
اصناف
لنضرب مثلا حالة امرئ يحس بالضجر من الحياة، نتيجة لسلسلة من الشرور وصلت به إلى حد اليأس، ويظل مالكا لزمام عقله؛ بحيث يمكنه أن يسأل نفسه، إن لم يكن مما يتعارض مع الواجب تجاه نفسه، أن يضع حدا لحياته. إنه عندئذ يحاول أن يعرف إن كان من الممكن أن تصبح مسلمة فعله قانونا طبيعيا عاما. ولكن مسلمته تبدو على النحو التالي: إنني أجعل مبدئي الذي أستمده من حبي لذاتي أن أختصر حياتي إذا وجدت أن امتداد أجلها يهددني من شرورها بما يزيد على ما يعدني به من مباهجها. والمشكلة عندئذ هي أن تعرف إن كان مبدأ حب الذات هذا يمكن أن يصبح قانونا طبيعيا عاما. ولكن الإنسان سرعان ما يدرك أن طبيعة يهدف قانونها إلى تحطيم الحياة، عن طريق الإحساس الذي تقوم وظيفته على دفع عجلة التطور في الحياة، إنما تناقض نفسها بنفسها ولا يمكن أن تحتفظ تبعا لذلك بما يجعلها طبيعة، وأن من المستحيل على تلك المسلمة أن تصبح قانونا طبيعيا، وأنها نتيجة لذلك كله تناقض المبدأ الأعلى للواجب مناقضة تامة. (2)
وهناك حالة امرئ آخر تدفعه الحاجة إلى اقتراض مبلغ من المال. إنه يعلم تمام العلم أنه لن يستطيع سداده، ولكنه يرى كذلك أنه لن يحصل على شيء حتى يعد وعدا ثابتا أن يرده في موعد محدد. إن لديه من الرغبة ما يحفزه على أن يبذل مثل هذا الوعد، ولكن لديه أيضا من وازع الضمير ما يجعله يسأل نفسه: أليس محرما على الإنسان ومنافيا للواجب أن يتخلص المرء من الضائقة التي يعانيها بهذه الطريقة؟ لنفترض أنه قرر بالفعل أن يلجأ إلى ذلك فإن مسلمة فعله ستكون على هذا النحو: حين أعتقد أنني أعاني ضائقة مالية، فسوف أعمد إلى اقتراض المال وبذل الوعد بتسديده، وإن كنت أعلم أن ذلك لن يحدث أبدا. وقد يكون من المحتمل التوفيق بين مبدأ حب الذات هذا أو مبدأ المنفعة الشخصية وبين كل ما أنتظره لنفسي في المستقبل من حياة هنيئة، بيد أن السؤال الآن هو إن كان هذا المبدأ عادلا؟ عندئذ سأجد على الفور أنها لا يمكن أن تصبح قانونا طبيعيا عاما ولا أن تتفق مع نفسها، بل إنها لا بد أن تناقض نفسها بالضرورة؛ وذلك لأن التسليم بقانون عام مؤداه أن كل إنسان يعتقد أنه في ضائقة يستطيع أن يعد بما يخطر على باله، مع النية المعقودة على عدم الوفاء بهذا الوعد، سيجعل الوعد نفسه والغاية التي يطمع في تحقيقها عن طريقه أمرا مستحيلا؛ إذ لن يصدق أحد ما يبذل له من وعود، بل إنه سيهزأ بمثل هذا القول كما لو كان ادعاء باطلا سخيفا. (3)
وثالث يلمس في نفسه موهبة يمكن أن تجعل منه، مع شيء من التثقيف والتهذيب، أمرا نافعا من نواح كثيرة. غير أنه يرى نفسه يعيش في ظروف ميسرة ويؤثر أن يجري وراء اللذات بدلا من أن يبذل جهده في تنمية استعداداته الفطرية السعيدة وتحسينها. ولكنه يسأل نفسه إن كانت مسلمته التي تحثه على إهمال مواهبه الطبيعية، التي تتفق في ذاتها مع نزعته الطبيعية إلى التمتع باللذات، تتفق كذلك ما مع يسمى بالواجب. عندئذ يرى أن الطبيعة بحسب قانون عام كهذا يمكنها حقا أن تظل باقية، حتى لو ترك الإنسان (كما يفعل سكان بحر الجنوب) موهبته تصدأ ولم يفكر إلا في توجيه حياته إلى الفراغ، واللذة، والتناسل، والاستمتاع على وجه الإجمال، غير أنه لا يمكنه على الإطلاق أن «يريد» لهذا أن يصبح قانونا طبيعيا عاما، أو أن يغرس بحالته التي هو عليها في نفوسنا عن طريق غريزة فطرية؛ ذلك لأنه، بما هو كائن عاقل، يريد بالضرورة أن تنمى جميع ملكاته لكونها نافعة له، ولأنها أعطيت له ليبلغ ألوانا عديدة من الغايات والأهداف. (4)
وهناك رابع توافرت له أسباب الحياة الرغيدة، ينظر حوله فيرى غيره من الناس يكافحون في حياتهم كفاحا شاقا (وإن كان في استطاعته أن يمد إليهم يد المساعدة) ونجده يفكر على هذا النحو: وما شأني أنا بهذا؟ فليفز كل من السعادة بما تشاء له السماء أو بما يشاء هو لنفسه، فلن أسلبه شيئا أو أحسده على شيء، لكنني لا أشتهي أن أسهم بشيء في إسعاد حياته أو الوقوف إلى جانبه في أوقات الشدة! أجل، إن مثل هذا اللون من التفكير لو أصبح قانونا طبيعيا فإن الجنس البشري سيواصل بقاءه بغير شك، بل لا نزاع في أنه سيظل أفضل مما لو تشدق كل واحد بكلمات التعاطف والإحساس ، أو دفعه التحمس إلى أن يضع بعضها من حين إلى حين موضع التنفيذ، بينما يعمد إلى الخداع كلما واتته الفرصة، وبيع حقوق الناس والافتئات عليها بوسيلة أو بأخرى. ومع أن من الممكن تماما أن يكتب البقاء لقانون طبيعي عام يطابق هذه المسلمة، فإن من المستحيل أن «يراد» لمثل هذا المبدأ أن يكون صالحا صلاحية قانون طبيعي عام؛ ذلك أن الإرادة التي تقرر ذلك إرادة تناقض نفسها بنفسها؛ فقد يحدث في كثير من الحالات أن يحتاج مثل هذا الإنسان إلى حب الآخرين وعطفهم وأن يجد نفسه محروما من كل أمل في الحصول على المساعدة التي يتمناها؛ إذ يحول بينه وبينها ذلك القانون الطبيعي المنبثق من إرادته ذاتها.
هذه إذن هي بعض الواجبات الحقيقية العديدة، أو بعض الواجبات التي نعدها على الأقل كذلك، يتضح استنباطها
29
من المبدأ الوحيد الذي ذكرناه من قبل وضوحا جليا. إن علينا أن يكون في استطاعتنا أن نريد لمسلمة أفعالنا أن تصبح قانونا عاما؛ فهذا هو معيار الحكم الأخلاقي على أفعالنا بوجه عام. إن من طبيعة بعض الأفعال أن مسلمتها لا يمكنها، بغير أن تقع في التناقض، أن تتصور كما لو كانت قانونا عاما، ومن الخطأ البالغ أن نظن أن الإرادة تستطيع أن تفرض عليها أن تصبح كذلك. حقا إن تلك الاستحالة الداخلية لا وجود لها في بعض الأفعال الأخرى، ولكن من المستحيل مع ذلك أن «يراد» لمسلمتها أن ترتفع إلى مستوى العموم الذي للقانون الطبيعي؛ لأن مثل هذه الإرادة سوف تتناقض مع نفسها.
من السهل أن نرى أن [مسلمة] الأفعال الأولى تعارض الواجب الصارم، أو الضيق، بينما لا تتعارض مسلمة الأفعال الثانية إلا مع الواجب الأعم (أو واجب الاستحقاق). وهكذا نجد أن جميع الواجبات، من حيث نوع الإلزام الذي تفرضه (لا من حيث موضوع الأفعال الذي تحدده) تبدو من خلال هذه الأمثلة معتمدة اعتمادا واضحا على المبدأ الواحد.
إذا راقبنا أنفسنا في كل مرة نخرق فيها واجبا، لوجدنا أننا لا نريد في حقيقة الأمر أن تصبح مسلمتنا قانونا عاما؛ لأن هذا شيء يتعذر علينا [أن نريده ]، بل الأولى أن يبقى عكس تلك المسلمة قانونا يحمل طابع العموم، غير أننا قد نعطي لأنفسنا الحرية فنجعل منه «استثناء» لنا أو لصالح ميولنا (ولو كان ذلك مقصورا على هذه المرة وحدها).
30
نامعلوم صفحہ