تَشْنِيفُ المَسَامِعِ
بِجَمْعِ الجَوَامِعِ
لِتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
المُتَوَفَّى ٧٧١ هِجْرِيَّةً
تأليفُ
الإمامِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بنِ بَهَادِرَ بنِ عبدِ اللهِ الزَّرْكَشِيِّ
(المُتَوَفَّى ٧٩٤ هـ)
1 / 1
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، والصلاةُ والتسليمُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلاَنِ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ.
أمَّا بعدُ:
فلَمَّا كانَ كِتَابُ (جَمْعِ الجوامعِ) في أُصُولِ الفِقْهِ لِقَاضِي القُضَاةِ أبي نَصْرٍ عبدِ الوَهَّابِ بنِ الشيخِ الإمامِ أبي الحَسَنِ السُّبْكِيِّ - بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعَهُ - مِن الكُتُبِ التي دَقَّتْ مَسَالِكُها، ورَقَّتْ مَدَارِكُها؛ لِمَا اشْتَمَلَ عليه مِن النُّقُولِ الغريبةِ، والمسائلِ العجيبةِ، والحدودِ المنيعةِ، والموضوعاتِ البديعةِ، معَ كثرةِ العِلْمِ، ووَجَازَةِ النَّظْمِ، قد عَلاَ بَحْرُهُ الزاخِرُ، وأَصْبَحَ اللاحِقُ يقولُ: كم تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ؟ - قد اضْطُرَّ الناسُ إلى حَلِّ مَعَاقِدِهِ، وبيانِ مقاصدِهِ، والوقوفِ على كُنُوزِهِ، ومَعْرِفَةِ رُمُوزِهِ، وليسَ عليه ما نَمَى بهذه المسالِكِ، بَيْدَ أنَّ مُؤَلِّفَه أجابَ عن مواضعَ قليلةٍ مِن ذلكَ، فاسْتَخَرْتُ اللهَ تعالَى في تعليقٍ نافعٍ عليه، يَفْتَحُ مُقْفَلَه، ويُوَضِّحُ مُشْكِلَه، ويُشْهِرُ غَرَائِبَه، ويُظْهِرُ عَجَائِبَه، مُرْتَفِعًا عن الإقلالِ المُخِلِّ، مُنْحَطًّا عن الإطنابِ المُمِلِّ، واللهَ أَسْأَلُ أنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكريمِ، مُقَرِّبًا للفوزِ بجَنَّاتِ النعيمِ، وسَمَّيْتُهُ (تَشْنِيفَ المَسَامِعِ بِجَمْعِ الجَوَامِعِ).
ص (نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ على نِعَمٍ يُؤْذِنُ الحمدُ بازْدِيَادِها).
1 / 97
ش: الحمدُ: الثَّنَاءُ بالوصفِ الجميلِ على جِهَةِ التعظيمِ. هذا أحسنُ حُدُودِهِ، فـ (الثَّنَاءُ) جِنْسٌ، وبـ (الجميلِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ إطلاقَه على غيرِهِ، ومِنه (فَأَثْنَوْا عليها شرًّا)، والفصلُ الثاني يُخْرِجُ التَّهَكُّمَ، نحوُ: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾.
وافْتَتَحَ المصنِّفُ بالجملةِ الفعليَّةِ دونَ الاسميَّةِ؛ لِدَلالَةِ الفعليَّةِ على التجَدُّدِ والحُدُوثِ، بخلافِ الاسميَّةِ؛ فإنَّها مَسْلُوبَةُ الدَّلالةِ على الحُدُوثِ وَضْعًا. ولَمَّا كانَ هذا الكِتابُ مِن النِّعَمِ المُتَجَدِّدَةِ، نَاسَبَ أنْ يُؤْتَى بِمَا يَدُلُّ على التجدُّدِ، وانْفَصَلَ المؤلِّفُ بهذا عن سؤالِ عدمِ تَأَسِّيهِ بالقرآنِ في الافتتاحِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ فإنَّه قديمٌ لم يَحْدُثْ ولم يَتَجَدَّدْ، فالاسميَّةُ به أنسبُ، قالَ: وهذا معنًى لطيفٌ اسْتَنْبَطْتُه،
1 / 98
وبه يَعْتَضِدُ مَنِ افْتَتَحَ كتابَه بالجملةِ الفعليَّةِ؛ كالغَزَالِيِّ والرَّافِعِيِّ.
قلتُ: وحينَئذٍ فكانَ حَقُّه التعبيرَ بالصيغةِ المُتَعَيَّنَةِ للإفرادِ، وهي: (أَحْمَدُكَ)، لا (نَحْمَدُكَ)؛ لأنَّ النونَ لا تَصْلُحُ هنا للجماعةِ؛ فإنَّ تصنيفَ الكتابِ خاصٌّ به، وهي إنَّما تكونُ للمتكلِّمِ وَحْدَهُ إذا كانَ مُعَظِّمًا نفسَه، وهو غيرُ لائقٍ هنا، وقد يَلْتَزِمُ الأَوَّلَ ويَدَّعِي شُمُولَ النِّعْمَةِ بذلكَ له ولغيرِهِ بالانتفاعِ، أو يكونُ الجَمْعُ باعتبارِ التجريدِ البيانِيِّ، لكِنْ يَمْنَعُ من هذا قولُه فيما بعدُ: ونَضْرَعُ إليكَ في منعِ الموانِعِ عن إكمالِ (جمعِ الجوامعِ). فإنَّ هذا خاصٌّ به، وقد حَكَى الحَرِيرِيُّ في (شرحِ المُلْحَةِ)
1 / 99
خِلافًا في عِلَّةِ نونِ الجمعِ في كلامِ اللهِ تعالَى، فقِيلَ: للعَظَمَةِ، وليسَ لمخلوقٍ أنْ يُنَازِعَه فيها، فعلى هذا يُكْرَهُ استعمالُ الملوكِ لها في قَوْلِهِم: نحنُ نَفْعَلُ.
وقِيلَ في عِلَّتِها: لَمَّا كانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِه تعالَى تَجْرِي على أَيْدِي خَلْقِهِ، نَزَلَتْ أفعالُهم مَنْزِلَةَ فِعْلِه؛ فلذلك وَرَدَ الكلامُ مَوَارِدَ الجمعِ، فعلى هذا القولِ يَجُوزُ أنْ يَسْتَعْمِلَ (النونَ) كلُّ مَن لا يُبَاشِرُ العملَ بنفسِه، فأمَّا قولُ العالِمِ: نحنُ نَشْرَحُ، ونحنُ نُبَيِّنُ. فمفسوحٌ له؛ لأنَّه يُخْبِرُ بنونِ الجمعِ عن نفسِه وأهلِ مقالتِه. انْتَهَى.
وذكَرَ ابنُ السيِّدِ في (الاقتضابِ) نحوَه، وزادَ فيه وَجْهًا آخرَ، وهو أنَّ الرجلَ الجليلَ القَدْرِ يَنُوبُ وَحْدَهُ مَنَابَ جماعةٍ، ويَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عَدَدٍ كثيرٍ في فَضْلِهِ وعِلْمِهِ؛ ولهذا قالَ ﷺ لأبي سُفْيَانَ:
1 / 100
«كُلِ الصَّيْدَ فِي جَوْفِ الْفَرَا».
والزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَفْتَحَ (المُفَصَّلَ) بالجملةِ الفعليَّةِ، و(الكَشَّافَ) بالاسميَّةِ؛ لأنَّ النعمةَ التي ذَكَرَها في (المُفَصَّلِ) خاصَّةٌ به، وفي (الكَشَّافِ) عامَّةٌ، وفي التعبيرِ بالمُضَارِعِ فائدةٌ أُخْرَى؛ فإنَّ التجَدُّدَ في الماضي معناه الحُصولُ، وفي المضارِعِ معناه الاستمرارُ، يعني: أنَّ مِن شأنِهِ أنْ يَتَكَرَّرَ ويَقَعَ مَرَّةً بعدَ أُخْرَى، كما قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ عندَ قولِهِ تعالَى: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾.
1 / 101
وأمَّا (اللَّهُمَّ) فلا خِلافَ - كما قالَه ابنُ السيِّدِ - أنَّ المرادَ به: يا اللهُ، وأنَّ الميمَ زائدةٌ، لَيْسَتْ بأصلٍ في الجملةِ. ثمَّ اخْتَلَفُوا بعدَ ذلكَ في هذه (الميمِ) على ثلاثةِ مذاهِبَ: فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والبَصْرِيُّونَ إلى أنَّهم زَادُوا (المِيمَ) في آخِرِهِ عِوَضًا عن حرفِ النداءِ؛ ولهذا لا يُجْمَعُ بينَهما؛ لِمَا فيه مِن الجمعِ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ.
وقالَ الكُوفِيُّونَ: (الميمُ) عِوَضٌ عن جملةٍ محذوفةٍ، والتقديرُ: يا اللهُ أُمَّنَا بخيرٍ؛ أي: اقْصِدْنَا، ثمَّ حُذِفَ للاختصارِ، ولكثرةِ الاستعمالِ وَرَدَ بعدمِ اطِّرَادِ هذا التقديرِ في أكثرِ المواضِعِ؛ قالَ تعالَى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. ولو كانَتِ (الميمُ) عِوَضَ (أُمَّنَا) لَمَا احتاجَ الشرطُ إلى جوابٍ؛ لأنَّ الفعلَ يكونُ الجوابَ، وهو أُمَّنَا.
والثالثُ: أنَّ (الميمَ) زائدةٌ للتعظيمِ والتفخيمِ؛ لِدَلاَلَتِها على معنَى الجمعِ، كما زِيدَتْ في: زُرْقُمٍ؛ لِشِدَّةِ الزُّرْقَةِ، وابْنُمٍ في الابنِ، قالَ ابنُ السيِّدِ: وهذا غيرُ خارجٍ عن مذهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ أنْ تكونَ للتعظيمِ، وأنْ تكونَ عِوَضًا عن
1 / 102
حَرْفِ النداءِ، كما أنَّ (التاءَ) في قَوْلِنا: تَاللهِ. بَدَلٌ مِن (الباءِ)، وفيها زيادةُ معنى التعجُّبِ. قالَ: وهذا القولُ أحسنُ الأقوالِ.
وذَكَرَ ابنُ ظَفَرٍ في أوَّلِ (شَرْحِ المُقَامَاتِ)، أنَّ (اللهَ) للذَّاتِ، و(الميمَ) للصفاتِ، فجَمَعَ بينَهما؛ إيذانًا بالسؤالِ بجميعِ أسمائِهِ وصفاتِهِ. وقَوَّاهُ بعضُهم واحْتَجَّ بقولِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: اللَّهُمَّ مُجَمِّعَ الدعاءِ. وقولِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ: مَن قالَ: اللَّهُمَّ فقد دَعَا اللهَ بجميعِ أسمائِهِ، وكأنَّه قالَ: يا اللهُ الذي له الأسماءُ الحسنَى. ولهذا قيلَ: إنَّه اسمُ اللهِ الأعظمُ. وبذلك يَظْهَرُ أيضًا حُسْنُ ابتداءِ المصنِّف بها.
وقولُه: (على نِعَمٍ) التنكيرُ فيها للتعظيمِ؛ بدليلِ الوصفِ. و(على) إمَّا للتعليلِ على رأيِ الكُوفِيِّينَ، أو على بابِها للاستعلاءِ؛ لِمَا فيه مِن الإشارةِ إلى تفخيمِ الحمدِ،
1 / 103
لكِنَّ الاستعلاءَ على النعمةِ غيرُ مُنَاسِبٍ، وكانَ الأحسنُ تَجَنُّبَها هنا؛ فإنَّها إنما تُسْتَعْمَلُ في جانبِ النِّقْمَةِ، وتُتْرَكُ في جانبِ النعمةِ، واستعمالاتُ القرآنِ والسنَّةِ على ذلك، وفي الحديثِ: كانَ إذا رَأَى ما يَكْرَهُ قالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»، وإذا رَأَى ما يُعْجِبُهُ قالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ».
وأمَّا قولُه تعالَى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾. فلِمَا كانَ في ذلك المَحَلِّ مِن استعلاءِ التكبيرِ برفعِ الصوتِ.
و(النِّعَمُ) جمعُ نعمةٍ، وهي اليدُ والصَّنِيعَةُ والمِنَّةُ، وما أَنْعَمَ به عليكَ؛ قالَه الجَوْهَرِيُّ، والمرادُ هنا الجميعُ.
و(يُؤْذِنُ) بمعنَى يُعْلِمُ، يُقالُ: آذَنْتُكَ بالشيءِ، أَعْلَمْتُكَهُ، وفَسَّرَهُ الراغبُ بالعلمِ الذي يُتَوَصَّلُ إليه بالسماعِ، لا مُطْلَقِ العلمِ.
1 / 104
و(الازْدِيَادُ) أَبْلَغُ من الزيادةِ، كما أنَّ الاكتسابَ أَبْلَغُ مِن الكَسْبِ، وهو أخذُ الشيءِ بعدَ الشيءِ. و(الدالُ) بدلٌ عن (التاءِ)، وأصلُه ازْتِيَادٌ، أَبْدَلَ من التاءِ دالًا؛ لِتَوَافُقِ الزايِ والدالِ في الجَهْرِ؛ لِيَتَشَاكَلَ اللفظُ، وهو مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
ص: (ونُصَلِّي على نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ هادِي الأُمَّةِ لِرَشَادِها).
ش: الصيغةُ صِيغَةُ خَبَرٍ، والمقصودُ الطَّلَبُ؛ لِيَكُونَ امْتِثَالًا لقولِهِ تعالَى: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾، وهو مِن عَطْفِ الإنشاءِ على الإنشاءِ؛ إذ لو قُدِّرَ خَبَرًا لَزِمَ عَطْفُ الخبرِ على الإنشاءِ، وهو مُمْتَنِعٌ عندَ البَيَانِيِّينَ، ولو قُدِّرَ هنا إرادتُهما لم يَبْعُدْ، وفَسَّرُوا الصلاةَ مِن اللهِ ﷿ بالرحمةِ، ومن الآدَمِيِّ بالدعاءِ.
ورُدَّ الأوَّلُ بأنَّ الرحمةَ فِعْلُها مُتَعَدٍّ، والصلاةَ فِعْلُها قاصِرٌ، ولا يَحْسُنُ تفسيرُ القَاصِرِ بالمُتَعَدِّي، وبأنَّه يَلْزَمُ جوازُ رحمةِ اللهِ عليه والتَّكْرَارُ في قَوْلِهِ تعالَى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾. ولهذا فَسَّرَها بعضُهم من اللهِ بالمغفرةِ؛ لأجلِ ذِكْرِ الرحمةِ بعدَها.
ورُدَّ الثاني بأنَّه يَلْزَمُ جوازُ: دَعَا عليه، وأُجيب بأنَّها لَمَّا ضُمِّنَتْ معنى العطفِ والتحَنُّنِ عُدِّيَتْ بـ (على)، والأحسنُ ما قاله الغَزَالِيُّ وغيرُه: إِنَّ الصلاةَ موضوعةٌ للقَدْرِ المشترَكِ، وهو الاعتناءُ بالمُصَلَّى عليه.
و(النبيُّ) اخْتُلِفَ في لفظِه ومعناه: أمَّا لفظُه فاختُلِفَ في أنه مهموزٌ أم لا؟ فقيلَ: ليسَ بمهموزٍ، مِن النَّبْوَةِ: وهو ما
1 / 105
ارْتَفَعَ من الأرضِ، سُمِّيَ نَبِيًّا؛ لارتفاعِهِ وشَرَفِهِ، ولهذا ذَكَرَه الجَوْهَرِيُّ في بابِ المُعْتَلِّ، واحْتَجَّ عليه الأخفشُ بقولِهِ تعالَى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ﴾. قالَ: فهذا جمعُ غيرِ المهموزِ؛ كصَفِيٍّ وأَصْفِيَاءَ، ولو كانَ مهموزًا لقيلَ: نُبَآءُ؛ ككَريمٍ وكُرَمَاءَ. وقيلَ: مهموزٌ مِن النَّبَأِ بمعنى الخبرِ، واحْتَجُّوا بقراءةِ نافعٍ: النَّبِيْء والأَنْبِياء والنُّبُوءَة في جميعِ القرآنِ بالهمزِ، إلاَّ في موضعيْنِ: ﴿إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾، و﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾.
وفي (مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ) أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا نَبِيءَ اللهِ.
1 / 106
فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «لاَ تُغَيِّرِ اسْمِي».
وقالَ الجَوْهَرِيُّ: نَهَى عن ذلك؛ لأنَّه يُقالُ: نَبَاتُ من أرضٍ إلى أرضٍ؛ إذا خَرَجْتَ مِنها إلى أُخْرَى، وهذا المعنى أرادَ الأعرابيُّ بقولِهِ: يا نَبِيءَ اللهِ. أي: يا مَن خَرَجَ من مكَّةَ إلى المدينةِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مِن النَّبْوَةِ بمعنى الرفعةِ، فهو أبلغُ من الهمزِ؛ لأنَّه ليسَ كلُّ مُنْبِئٍ رَفِيعَ المَحَلِّ؛ ولهذا نَهَى عن الهمزِ.
وقالَ ابنُ خَرُوفٍ في (شَرْحِ الكِتابِ): إنَّما نَهَى مَن خَفَّفَهُ من أهلِ التحقيقِ، وهم قليلٌ، وجماعةٌ من العربِ من أهلِ التحقيقِ، والتحقيقُ على البدلِ، والقراءةُ بالتحقيقِ ضعيفةٌ، لم يَقْرَا بها في السبعِ غيرُ المَدَنِيِّ. انتهَى.
وكذا قالَ ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ: كلُّ ما لَزِمَ من البدلِ فإنَّه لا يَجُوزُ رَدُّه إلى الأصلِ، إلاَّ في ضرورةٍ؛ فلذلك أَنْكَرَ النبيُّ ﷺ الهمزةَ، وإنْ كانَ هو الأصلَ. قالَ: وقد حَمَلَ هذا الحديثَ قومٌ مِن الجُهَّالِ باللغةِ، حتَّى زَعَمُوا أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبْوَةِ، وهذه فِرْيَةٌ على الأنبياءِ؛ لأنَّ النَّبْوَةَ ليسَتْ بالارتفاعِ كما ظَنُّوا، وإنما يُقالُ للسيفِ: نَبَا فهو نابٍ، وللفرسِ: النابِي، وكذلك النابِي من الأرضِ؛ لِمَا غَلُظَ وشَقَّ على سالِكِهِ، فامْتَنَعَ منه الناسُ، وليسَ هو ارتفاعًا فقطْ، بل هو وَصْفٌ له معَ ذَمٍّ.
وقالَ الفَارِسِيُّ في كتابِ (الحُجَّةِ): مَن حَقَّقَ الهمزَ في
1 / 107
النبيِّ، صارَ كأنَّه رَدَّ الشيءَ إلى أصلِهِ المرفوضِ استعمالُه؛ كوَذَرَ ووَدَعَ، فمِن ثَمَّ كانَ الأمرُ فيه التخفيفَ؛ ولذلك قالَ سِيبَوَيْهِ: بَلَغَنَا أنَّ قَوْمًا من أهلِ الحِجازِ من أهلِ التحقيقِ يُحَقِّقُونَ (نَبِيّ وبَرِيَّة). قالَ: وذلك رَدِيءٌ، وإنَّمَا اسْتَرْدَأَهُ؛ لأنَّ الغالبَ في مِثْلِهِ التخفيفُ على وجهِ البدلِ من الهمزِ، وذلك الأصلُ كالمرفوضِ، فضَعْفُه عندَهم لاستعمالِهِم فيه الأصلَ الذي قد تَرَكَه سائِرُهم، لا لأنَّ النبيَّ الهمزُ فيه غيرُ الأصلِ.
قالَ الفَارِسِيُّ: أمَّا ما رُوِيَ من إنكارِ النبيِّ ﷺ الهمزَ، فأَظُنُّ أنَّ مِن أهلِ النقلِ مَن ضَعَّفَ إسنادَه. قالَ: ومِمَّا يُقَوِّي تضعيفَه أنَّ مَن مَدَحَ النبيَّ ﷺ فقالَ: يا خَاتَمَ النُّبَآءِ. لم يُؤْثَرْ فيه إنكارٌ عليه، ولو كانَ في واحدِهِ نَكِيرٌ لَكَانَ الجمعُ كالواحدِ، وأيضًا فلم يُعْلَمْ أنَّه ﵊ أَنْكَرَ على الناسِ أنْ يَتَكَلَّمُوا بِلُغَاتِهِم.
وأمَّا معناه: فقيلَ: هو والرسولُ بمعنًى واحدٍ. والصوابُ تَغَايُرُهما، واخْتُلِفَ في التمييزِ بينَهما، والمُعْتَمَدُ ما قالَه الحَلِيمِيُّ وغيرُه؛ مِن أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبَأِ، وهو الخبرُ، إلاَّ أنَّ المُرَادَ هنا خَبَرٌ خاصٌّ عمَّن يُكْرِمُه اللهُ تعالَى بأنْ يُوقِفَه على شَرِيعَتِهِ، فإنِ انْضَافَ إلى هذا التوقيفِ أَمْرٌ بتبليغِهِ الناسَ ودُعَائِهِم إليه كانَ نَبِيًّا ورسولًا، وإلاَّ
1 / 108
كانَ نبيًّا غيرَ رسولٍ. ثمَّ ذَكَرَ سِتَّةً وأربعينَ خَصْلَةً يَخْتَصُّ بها النبيُّ ﷺ.
وحاصِلُه أنَّ النبيَّ هو مَن أُوحِيَ إليه، فإنِ انْضَافَ إليه الأمرُ بالتبليغِ كانَ رسولًا ونبيًّا، وإلاَّ كانَ نبيًّا لا رسولًا، فالنبيُّ أعمُّ، فكلُّ رسولٍ نَبِيٌّ ولا يَنْعَكِسُ. وفي كلامِ الحَلِيمِيِّ فائدةٌ، وهي: تقييدُ الوحيِ بالشريعةِ، فإنْ صَحَّ هذا خَرَجَ وَحْيُهُ إلى مَرْيَمَ وأُمِّ مُوسَى ﵈، ولَعَلَّه بَنَاهُ على عَدَمِ ثُبُوتِهِما، وفيه خِلافٌ ذَكَرْتُهُ في أُصُولِ الدِّينِ مِن هذا الشرحِ.
فظَهَرَ بما ذَكَرْنَاهُ أفضلِيَّةُ الرسالةِ على النُّبُوَّةِ، وتَخْرُجُ منه مُنَازَعَةُ المُصَنِّفِ في إِيثَارِهِ هنا صِفَةَ النُّبُوَّةِ على الرسالةِ، ولَعَلَّه لَحَظَ ما صارَ إليه الشيخُ عِزُّ الدِّينِ من تفضيلِ النبوَّةِ على الرسالةِ مِن جِهَةِ شَرَفِ التعلُّقِ، والراجِحُ خِلافُه، وعليه نَقْدٌ آخَرُ، وهو: عَدَمُ تَسْلِيمِهِ، وقد قالَ العلماءُ: يُكْرَهُ إفرادُ الصلاةِ عن التسليمِ.
وقولُه: (هَادِي الأُمَّةِ) مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
1 / 109
مُسْتَقِيمٍ﴾. وفَسَّرَ الراغِبُ الهِدَايَةَ بالدَّلالةِ بِلُطْفٍ، قالَ: وأمَّا قولُه تعالَى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾. فهو على التهَكُّمِ.
وفي الحديثِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». قالَ الرَّازِيُّ: الكثيرُ ضَمُّ (الميمِ)، بمعنى أنَّ اللهَ تعالَى أَهْدَاهُ إلى الناسِ، وكانَ ابنُ البرْقِيُّ يقولُ: بكسرِ (الميمِ) مِن الهِدَايَةِ. وكان ضابِطًا فَهِمًا مُتَصَرِّفًا في الفِقْهِ واللُّغةِ، والذي قالَه أجودُ؛ لأنَّه بُعِثَ للهِ هَادِيًا؛ كما قالَ تعالَى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. و(الرَّشَادُ) ضِدُّ الغَيِّ.
1 / 110
ص: (صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه، ما قَامَتِ الطُّرُوسُ والسطورُ لِعُيُونِ الألفاظِ مَقَامَ بَيَاضِها وسَوَادِها).
ش: كانَ الأَوْلَى إضافةَ الآلِ إلى الظاهرِ؛ لأنَّه الوارِدُ في السنَّةِ، وللخروجِ من خِلافٍ مِن مَنْعِ إضافتِهِ إلى الضميرِ؛ كالكِسَائِيِّ والنَّحَّاسِ والزُّبَيْدِيِّ، قالَ ابنُ
1 / 111
مالِكٍ: وقد ثَبَتَتْ إِضَافَتُه إلى مُضْمَرٍ. وقيلَ لرسولِ اللهِ ﷺ: مَن آلُكَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». أَخْرَجَهُ تَمَّامٌ في فَوَائِدِهِ. وقيلَ: إنَّه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، وفَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ فيما حَكَاهُ ابنُ عَطِيَّةَ: بالقومِ
1 / 112
الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إلى المضافِ إليه، وهو نَصٌّ في أنَّ (آل) ليسَ أصلُه أَهْلًا كما زَعَمَ النحَّاسُ، وقالَ الإمامُ في تفسيرِ سورةِ مَرْيَمَ: الآلُ: خاصَّةُ الرجُلِ الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه، ثُمَّ قد يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه للقَرَابَةِ تَارَةً وللصُّحْبَةِ أُخْرَى؛ كآلِ فِرْعَوْنَ، وللموافقةِ في الدِّينِ؛ كآلِ النبيِّ ﷺ. انْتَهَى.
وهو حَسَنٌ يَجْمَعُ الأقوالَ ويَقْتَضِي أنَّه مُشْتَرَكٌ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ في التعظيمِ، وآلُهُ بنو هَاشِمٍ والمُطَّلِبِ، وقيلَ: جميعُ الأُمَّةِ. وقيلَ: أولادُ فاطمةَ ﵂. والأصحابُ: جمعُ صاحبٍ، وهو كلُّ مُسْلِمٍ رَأَى النبيَّ ﷺ. وقَدَّمَ الآلَ لِشَرَفِهِم، وعَطَفَ الأصحابَ عليهم؛ لأنَّ بينَهما عُمُومًا وخُصُوصًا مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ التابعيَّ الذي هو من بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ من
1 / 113
الآلِ، وليسَ من الصحابةِ، وسَلْمَانُ - مثلًا - بالعكسِ، وعليٌّ - مثلًا - صَحَابِيٌّ وآلٌ.
وقولُه: (ما قَامَتْ) ما: في وَضعِ الظرفِ؛ أي: مُدَّةَ. و(الطُّرُوسُ): جَمْعُ طِرْسٍ، بكسرِ الطاءِ، فَسَّرَهُ الجَوْهَرِيُّ بالصَّحِيفَةِ، ثمَّ قالَ: ويُقالُ: هي التي مُحِيَتْ ثمَّ كُتِبَتْ. وعلى هذا اقْتَصَرَ في (المُحْكَمِ)، وحكَى فيها لغةً أُخْرَى: طِلْسٌ، باللامِ بدلَ الراءِ، وقالَ الفَرَّاءُ في (الجامِعِ): الطِّرْسُ: الكتابُ الذي قد مُحِيَ ما فيه ثمَّ كُتِبَ. وقيل: هو الصحيفةُ بعينِها، وإنما يُقالُ للذي مُحِيَ: طُلِسَ، وحُكِيَ فيها: طِرْسٌ وطِرْصٌ، بالسينِ والصادِ، واستعمالُ المصنِّفِ (عُيُونَ الألفاظِ) استعارةٌ بليغةٌ، ورَشَّحَها بالبياضِ والسوادِ؛ فإنَّهما من لَوَازِمِ العيونِ، وفيه لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فالبَياضُ للطُّرُوسِ، والسوادُ للسطورِ، وفيه استعمالُ الطُّرُوسِ للصحيفةِ البَيضاءِ، وفيه ما سَبَقَ، وفي الطُّرُوسِ والسُّطُورِ جِناسُ القَلْبِ؛ لاخْتِلافِهِما في ترتيبِ الحروفِ، فهو نظيرُ: (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وآمِنْ رَوْعَاتِنا) .. ومقصودُ المُصَنِّفِ تَابِيدُ الصلاةِ عليه على الدوامِ؛ إذ لا تَزَالُ طائفةٌ مِن الأُمَّةِ على الحقِّ
1 / 114
حتَّى تَقُومَ الساعةُ، ووجودُ الطُّرُوسِ مِن لَوَازِمِ بَقَائِها، فعَبَّرَ باللازِمِ وأرادَ الملزومَ، وخَصَّ التعليقَ على ذلك دُونَ غيرِهِ مِن الأشياءِ المُؤَبَّدَةِ؛ لِشَرَفِ العلمِ المبعوثِ به النبيُّ الكريمُ صَلَّى اللهُ تعالَى عليه وسَلَّمَ.
ص: (ونَضْرَعُ إليكَ في مَنْعِ الموانعِ عن إكمالِ جمعِ الجوامِعِ، الآتي مِن فَنَّيِ الأصولِ بالقواعدِ القواطِعِ، البالِغِ مِن الإحاطةِ بالأصليْنِ مَبْلَغَ ذَوِي الجِدِّ والتَّشْمِيرِ، والوارِدِ مِن زُهَاءِ مِائَةِ مُصَنَّفٍ مَنْهَلًا يُرْوِي ويَمِيرُ، المُحِيطِ بِزُبْدَةِ ما في شَرْحِي على المُخْتَصَرِ والمِنْهَاجِ معَ مَزِيدِ كَثِيرٍ).
ش: ضَرَعَ الرجُلُ ضَرَاعَةً؛ خَضَعَ وذَلَّ، قالَ الفَرَّاءُ: يُقالُ: جاءَ فلانٌ يَتَضَرَّعُ ويَتَعَرَّضُ: بمعنَى إذا جاءَ يَطْلُبُ إليكَ الحاجةَ. ولا شكَّ أنَّ التضَرُّعَ أبلغُ؛ فإنَّه نهايةُ السؤالِ؛ فلهذا آثَرَهُ المصنِّفُ.
و(في مَنْعِ) مُتَعَلِّقٌ بِنَضْرَعُ، و(عن) مُتَعَلِّقٌ بِمَنْعِ، وحذفُ تاءِ المضارعةِ فيه تَسْهِيلًا، وأصلُه نَتَضَرَّعُ، ثمَّ أُدْغِمَ. وكأنَّه طَلَبَ مِن اللهِ تَعَالَى دَفْعَ الموانِعِ العائقةِ له عن إكمالِ هذا الكتابِ، وذلك يَسْتَلْزِمُ
1 / 115