تشیع فی شاعری مصری
التشيع في الشعر المصري في عصر الأيوبيين والمماليك
اصناف
إن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تعبد من دون الله وتعظم وتفخم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غره تقلب الذين كفروا في البلاد ... ووصلنا البلاد، وبها أجناد عددهم كثير وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف كلهم أغنام أعجام، إن هم إلا كالأنعام لا يعرفون ربا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه وامتثال أمره، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة وحمة وحمية، ولهم حواش لقصورهم من بين داع تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل، ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف فيها غير الكبير، ومهابة تمنع ما يكنه الضمير، فكيف بخطوات التدبير، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكفر سمي بغير اسمه، وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيف الليل والنهار، بعجائب تدبير لا تحملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصل، ما كان من صلة البشر ولا قدرتهم لولا إعانة المقادير ...
1
هذه صورة لحالة الدعوة الفاطمية في مصر حين قام صلاح الدين الأيوبي بمحوها من البلاد، رسم هذه الصورة رجل عاش في بلاط الفاطميين في أواخر أيامهم، فقد كان كاتبا من كتابهم، مطلعا على أسرارهم، ثم انقلب عليهم، واستوزر لصلاح الدين فكان عضده الأيمن في القضاء على الفاطميين، ولسنا في مجال الحديث عن القاضي الفاضل، وإنما الذي يهمنا في وصفه أن العقيدة الإسماعيلية قد خالطت من المصريين اللحم والدم، وأنه دبر تدابير مختلفة للقضاء على الفاطميين، وكان نجاحه من المقادير، والذي يقرأ هذه الرسالة للقاضي الفاضل يروعه وصف القاضي الفاضل بتغلغل العقيدة الفاطمية في المصريين، بينما نذهب نحن إلى أن العقيدة ضعفت عند المصريين، فالقاضي الفاضل قد وصف القصر والحاشية من كبار رجال الدولة من دعاة وكتاب، وهؤلاء بحكم صلتهم بالإمام الفاطمي كانوا على نحو ما ذكره القاضي الفاضل، ثم إن القاضي الفاضل قد بالغ في تصويره هذا ليضفي على ما قام به صلاح الدين الأيوبي من تقويض أركان الدولة الفاطمية قيمة وخطرا، ولم يتحدث القاضي الفاضل عن الشعب نفسه، فالشعب المصري كان موزع الهوى بين هذه التقاليد الفاطمية التي ورثها عن قرنين من الزمان، وبين ما طرأ على هذه العقيدة الفاطمية من ضعف؛ لهذا تحول عدد من شيعة مصر إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وبقي عدد آخر على تشيعه وتأثره بالفاطميين، ولا سبيل لصلاح الدين الأيوبي ولا لغير صلاح الدين إلى انتزاع عقيدة من العقائد بحد السيف، أو بالتدابير التي أشار إليها القاضي الفاضل في رسالته السابقة، فليس من السهل اليسير أن يقتلع دين من الأديان بمجرد تغيير النظام السياسي في بلد من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة، وإلى تدابير ليست هي من تدابير القوة والبطش فحسب، وإذا نظرنا إلى الذين استجابوا لصلاح الدين وناصروه فسنجد أن جلهم بين هؤلاء الذين لم يعتنقوا المذهب الإسماعيلي، ولم يتحولوا عن عقيدتهم، عقيدة أهل السنة والجماعة، وثبتوا أمام دعاة الإسماعيلية وسلطان أئمتهم، وبين هؤلاء الذين استجابوا إلى مذهب الإسماعيلية، ولكن ضعفت عقيدتهم من نفوسهم؛ لما رأوا أن القائمين على هذه العقيدة انحرفوا عنها، ولم يعملوا بأصولها ولا بفروعها، فتحول هؤلاء عن إسماعيليتهم وهم مطمئنون بعد أن دب الشك في نفوسهم، وفريق ثالث من الذين ساعدوا صلاح الدين في قطع الخطبة للفاطميين وتحويلها إلى العباسيين هم هؤلاء الذين يعرفون بأنهم يأكلون على كل الموائد، ولا يعملون إلا لأنفسهم، ويحاولون الإفادة من كل تغيير، فهم أتباع كل جديد لا لشيء سوى الإفادة من النظم الجديدة، فكثير من رجال الدولة الفاطمية أصبحوا من ألد أعدائها في عصر الأيوبيين، ومن هؤلاء القاضي الفاضل نفسه، والقاضي ابن سناء الملك، والقاضي ابن الزبير وابنا القاضي الجليس ابن الحباب وغيرهم. أما الشعب ولا سيما طبقة الجهال فقد ظلوا على إسماعيليتهم.
هكذا انقسم المصريون بين مؤيد لصلاح الدين وحركته في إبادة التشيع من مصر، وبين مستمسك بتشيعه يندب أيام الفاطميين ويبكي على أئمته، وقد حاول هؤلاء مرارا أن يعيدوا الخلافة الفاطمية، فكان يظهر من حين لآخر من كان يدعو في البلاد إلى الفاطميين فيلتف الناس حوله، وتخف جنود الأيوبيين للقضاء على حركته، فمن ذلك ما كان في سنة 569ه إذ قام بعض رجال الدولة الفاطمية برياسة هبة الله بن كامل قاضي القضاة، وداعي الدعاة بحركة لإعادة ملك الفاطميين في مصر، وأسهم في هذه الحركة عمارة اليمني بالرغم من تسننه، والداعي عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي وغيرهما، وامتدت هذه الثورة إلى حد أنهم كاتبوا الصليبيين وشيخ الجبل «راشد الدين سنان» زعيم الإسماعيلية النزارية في الشام، ولكن هذه الحركة فشلت وقبض على رؤسائها وقتلوا صلبا، كذلك نقول عن حركة الداعي قديد القفاص بالإسكندرية، وهي الحركة التي وصفها القاضي الفاضل في إحدى رسائله بقوله: «وما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، أطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية قد فشت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون جزءا من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن. ووجدت في منزله بالإسكندرية عند القبض له والهجوم عليه كتب مجردة فيها خلع العذار وصريح الكفر الذي ما عنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها، فيها ما تقشعر منه الجلود، وبالجملة فقد الإسلام أمره، وحاق به مكره وصرعه كفره.»
2
ونذكر ثورة كنز الدولة بن المتوج أمير أسوان الذي جمع حوله عددا كبيرا من السودان وحاول أن يعيد الأمر للفاطميين، فتقدم بجنوده حتى بلغ مدينة قوس، فسار إليه الملك العادل أخو صلاح الدين في جيش كثيف سنة 570ه فهزم كنز الدولة وهرب رجاله إلى بلاد النوبة،
3
فطاردهم العادل وشتت شملهم، فاستقروا في السودان ولم يعودوا إلى إقليم أسوان إلا بعد سنة 790ه.
4
وكان ابن المتوج مقصد الشعراء في عصره، اتصل به عدد كبير، نذكر منهم أحمد بن محمد الأسواني الفقيه البولاقي،
نامعلوم صفحہ