وقال بشر: ما سألت أحدا قط شيئا إلا سريا السقطي؛ لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عونا له على ما يحب.
والبلاغة في هذه الأجوبة ترجع إلى معانيها، وهي معان شريفة متصلة بالأحوال النفسية، وما فيها من مراقبة النفوس يسمو بها إلى أرفع درجات البيان.
كيف تقرأ كتب التصوف
ولا ينبغي أن ننسى ما كتب الصوفية في الترغيب والترهيب. لا ينبغي أن ننسى ما صوروا به الفضائل والرذائل، وما جرت به أقلامهم في مصاير الصالحين والطالحين، فلهم في هذا الباب صور تخلب العقول وتفتن القلوب، ولا ينظر في كتبهم رجل له ذوق إلا عجب من غفلة الناس عن أدبهم الأصيل.
انظروا قوة التصوير في شرح قول عمر بن الخطاب: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فقد عرض الغزالي لشرح هذا النصح فقال:
وإنما حساب المرء لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا، ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى، ويرد المظالم حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه، ويده، وسوء ظنه، بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة: فهذا يدخل الجنة بغير حساب وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه: فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلببه، وهذا يقول: ظلمتني، وهذا يقول: شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني وأخفيت عني عيب سلعتك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول: رأيتني محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتني، وهذا يقول: وجدتني مظلوما وكنت قادرا على دفع الظالم عني فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخالبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم، حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم، أو جالسته في مجلس، إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم، ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم، إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله:
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
فعندئذ ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله حيث قال:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم! وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا. فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك، وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم.
نامعلوم صفحہ