وفي وسط هذا الضجيج قرأت في الصحف أنه سيؤدي امتحان الدكتوراه في جامعة فؤاد الأول فأرجأت ما كان عندي من الأعمال الحافزة وقصدت إليها لأشاهد الدكتوراه الثالثة؛ لأنه كان قد نقل ميدان مشاغباته إلى جامعة باريس وكذلك حضرت مع النظارة لأرى «هذا التلميذ» الذي اشتركت في امتحانه منذ ثلاثة عشر عاما وكونت فيه رأيه قد لا يرضيه لو اطلع عليه فماذا رأيت؟ وماذا لاحظت؟
رأيت طالب الدكتوراه في سنة 1924 غير طالب الدكتوراه في سنة 1937 كان الطالب الأول يجادل لجنة الامتحان بلا تهيب ولا تلطف ولا أقول بلا تأدب أما الطالب الجديد فكان آية من آيات الأدب والذوق، وكان مثالا من أمثلة التواضع والاستحياء: يستمع السؤال بهدوء، ويجيب عليه بذكاء مقرون بالتحفظ والاحتراس، فماذا صنعت الثلاثة عشر عاما بالدكتور زكي مبارك؟
لقد تغير تغيرا تاما وانقطعت الصلة بين حاضره وماضيه أشد انقطاع، وكذلك يصنع العلم بأبنائه الأوفياء فهو يجعلهم متواضعين مهذبين لا يعرفون العنف ولا الغطرسة ولا الكبرياء. (3)
وبالغ الدكتور في الأدب والذوق فعرض علي رسالته الجديدة لأقدم إليه بعض الملاحظات، بوصف أني من المشتغلين بدراسة فلسفة الأخلاق وقد نظرت في الرسالة الجديدة فرأيت الدكتور زكي مبارك لم يتغير ولم يتبدل، فمؤلف كتاب «التصوف الإسلامي» هو عينه مؤلف كتاب «الأخلاق عند الغزالي» بل هو في كتابه الجديد أخطر وأفتك، ولكن ماذا أملك في مقاومته هذه المرة؟
إن جامعة فؤاد الأول منحته درجة الدكتوراه في الفلسفة برتبة الشرف وهي شديدة الضن بالألقاب إلا على المستحقين، ولا سيما أن اللجنة التي أدى امتحانه أمامها قد ضمت نخبة من أكابر العلماء من بينهم معالي الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك والدكتور منصور فهمي بك والدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ شفيق غربال .
ومن واجبي أن أحترس في الثناء فأصرح بأني لا أتفق والدكتور زكي مبارك في كل ما عرضه من الآراء في كتاب التصوف الإسلامي، ولا غرو في ذلك فالباحثون قلما اتفقوا على رأي واحد، إن المهم عندي وعند جميع المنصفين أن يكون الباحث حسن النية مستقلا في آرائه الفلسفية، والدكتور مبارك من هذه الناحية متفوق كل التفوق: فهو في كتابه هذا يدرس التصوف دراسة من يفهم أسرار التصوف.
والعقل الفلسفي ظاهر كل الظهور في هذا الكتاب، فالمؤلف أثابه الله يدرس الوجوه المختلفة للرأي الواحد، وقد يصل حاله إلى الغرابة في بعض الأحايين حين يعرض عليك عدة صور لرأي من الآراء ثم تراه متشيعا لكل صورة كأنها رأيه الوحيد وكأنه أشخاص يتحاورون لا شخص واحد.
وذلك هو العقل الفلسفي فيما أعرف، وهو لا يتوفر للباحث إلا حين تنضج مواهبه ويكبر عن التعصب لرأي من الآراء.
لقد ألف المسلمون مئات أو ألوفا من المصنفات في التصوف، وما كنا في حاجة إلى كتاب جديد.
فالمزية الصحيحة للدكتور زكي مبارك هي أنه لم يؤلف كتابه في الدعوة إلى التصوف، أو الهجوم على التصوف، وإنما ألف كتابه في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما فيه من ضعف وقوة، بصراحة فائقة وحماسة رائعة، وأسلوب متين.
نامعلوم صفحہ