تصوف: روحانی انقلاب
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
اصناف
7
لا شك أن أحمد بن حنبل كان يفكر في جواب فقهي يتصل بعدد الصلوات وأوقاتها، وفي مخرج فقهي أو حيلة فقهية تخرج ذلك المصلي من ورطته، ولكن شيبان لم يفكر في هذا كله وإنما فكر في أساس الصلاة وجوهرها وهو ذكر الله وعدم الغفلة عنه.
وقد اعتبر الصوفية أنفسهم أيضا حماة الدين بمعناه الحقيقي - لا الظاهري - فوضعوا حدودا لأحكام الباطن وأعمال القلوب وعدوا ذلك جزءا من الدين، بل عدوه الفقه الحقيقي في الدين. ذلك أنهم اعتبروا الدين معاملة شخصية بين العبد وربه، وقاسوا طاعة العبد لا بمطابقة فعله لأحكام ظاهر الشرع فحسب، بل بمطابقته لروح الشرع وحقيقته أيضا، وبمقدار ما ينطوي عليه الفعل من إخلاص وبعد عن الرياء، ومن هنا كان الفقيه الحقيقي في نظرهم هو البصير بأمر دينه، الفاهم لحقيقة شرعه، لا العالم بظاهر أحكام ذلك الشرع.
قيل للحسن البصري يوما: فلان فقيه، فقال: «وهل رأيت فقيها قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه.» فالفقه الحقيقي في نظر الحسن هو البصر بأمور الدين وإدراك أسرار الأحكام، لا مجرد العلم والعمل بالأحكام، ونتيجة ذلك الإدراك هو الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
ولكن نستطيع أن نقول إن جمهور الصوفية مجمعون على أن الفقه في الدين يشمل العلم بأحكام الظاهر وأحكام الباطن جميعا، وأن الفقه في أحكام الأحوال ومعاني المقامات ليس بأقل خطرا من الفقه في أحكام الطلاق والعتاق والقصاص. يقول أبو نصر السراج:
8 «لأن تلك الأحكام (أي أحكام الظاهر) ربما لا يقع في العمر حادثة تحتاج إلى العلم بحكمها، فإذا وقعت فيكفي فيها التقليد وبذلك يسقط الفرض.
9
أما الأحوال والمقامات والمجاهدات التي يتفقه فيها الصوفية ويتكلمون عن حقائقها؛ فالمؤمنون مفتقرون إليها، ومعرفتها واجبة عليهم، وليس لها وقت مخصوص دون وقت. مثال ذلك الصدق والإخلاص والذكر ومجانبة الغفلة؛ وذلك أن العبد واجب عليه أن يعلم في كل لحظة قصده وإرادته وخاطره، فإن كان حقا من الحقوق لزمه، وإن كان حظا من الحظوظ جانبه. قال تعالى:
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .» فالفقه في أحوال النفس - أي معرفة النفس وأحوالها وخواطرها وقصودها - فرض عين على كل مؤمن، بل هو الفقه الحقيقي لأنه أساس الفقه الشرعي، ويرى السراج أن الصوفية لا غنى لهم عن الفقهاء، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا عنهم علومهم ليجانبوا الابتداع في الدين والانسياق مع الهوى. فإذا لم يبلغ أحد منهم مرتبة الفقيه في الدراية والفهم، رجع إلى أصحاب الفقه في الأمور التي تشكل عليه، ولكن السراج يفضل الصوفية على أصحاب الفقه والحديث حيث يقول: «إنهم (أي الصوفية) ارتفعوا إلى درجات عالية وتعلقوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة، ولهم في معاني ذلك تخصص ليس لغيرهم من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث.» •••
كل ذلك لم يرق في نظر الفقهاء واعتبروه خطوة نحو الإباحية والتحلل من الشرع، ولكنه كان في نظر الصوفية تدرجا طبيعيا في مطالب الحياة الروحية، فقد كان المسلمون مقبلين على حياة روحية أعمق وأقرب اتصالا بالله، ولم يكن الفقه الشرعي وحده كافيا في تحقيق هذه الغاية؛ ولذلك وجد الصوفية طلبتهم في التصوف كما فعل الغزالي.
نامعلوم صفحہ