تصوف: روحانی انقلاب
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
اصناف
فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر.
فكأن «الحقيقة» في نظر الغزالي تأييد - عن طريق الشهود - لما ورد في ظاهر الشرع.
فالشريعة تدعوك إلى القيام بأعمال العبادة ونحوها، والحقيقة تشهدك معاني الألوهية وتصرف الحق في الكون، وتوقفك على ما خفي عنك من أسرار القضاء.
هذا معنى من معاني الشريعة والحقيقة فهمه جمهور الصوفية، ولكن من الصوفية من نظر إلى الشريعة والحقيقة نظرة أخرى واتجه في فهمها اتجاهات مختلفة نذكر من أهمها ما يأتي:
اعتبر بعضهم الشريعة أسلوبا من أساليب السلوك الخلقي، أو نوعا من أدب النفس يراعى فيه اتباع الرسول، فلم ينظروا إلى تعاليم الدين في حدودها التي وضعها القدماء، ولم يقسموها إلى فروض وسنن، بل أطلقوا الأمر إطلاقا ولم يفرقوا بينهما، وربما وضعوا النوافل في مرتبة أعلى من الفرائض؛ لأنها - في زعمهم - الوسيلة التي يتقرب بها العبد من ربه.
يروي الصوفية فيما يروونه من الأحاديث القدسية أن الله تعالى قال: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... إلخ.» فأداء الفرائض طاعة، وأداء النوافل محبة، وأداء الفرائض يوصل إلى الجنة، وأداء النوافل يوصل إلى صاحب الجنة.
كذلك خالفوا الفقهاء في اعتبارهم النية أفضل من العمل، وفي تقديمهم التأمل على العبادة، والتحريم على الإباحة. أما أن النية أفضل من العمل؛ فلأنها أساسه ومبنى قوامه، وقيمة العمل ليست فيه من حيث ذاته، بل من حيث الباعث عليه والدافع إليه. يقول الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.» أي إنما قيمة الأعمال بحسب النية التي تدفع إليها، «ولكل امرئ ما نوى» معناه لكل إنسان نصيبه من الجزاء على قدر نيته، وأما تفضيلهم التأمل على العبادة؛ فلأن التأمل عمل روحي بحت، والعبادة عمل روحاني بدني، وأما تقديمهم التحريم على الإباحة فهو اعتبارهم أن الأصل في الأشياء أن تكون محرمة على الإنسان وأن ما أحله الشرع منها استثناء من هذه القاعدة.
نظر هؤلاء الصوفية إلى باطن الشريعة دون ظاهرها، وإلى الحكمة في التشريع دون القيام بالأمر المشرع: فالإنسان مكلف من قبل الشرع لا ليقوم بأداء فرض فرضه الله عليه وحسب، بل لأن التكليف يحقق غاية عليا قصد إليها المشرع، وهذه الغاية تتحقق بالأمر المكلف به كما تتحقق بغيره من الأمور التي تمثاله، وإذا كان الأمر كذلك، ظهرت ضآلة الأداء الفعلي للأمر المكلف به بإزاء النية الصادقة في أدائه، وظهرت ضآلة رسوم العبادة بإزاء التأمل الذي هو جوهر العبادة، ومعنى هذا أن مناط التكليف عند هؤلاء الصوفية هو القلب لا الجوارح، وخلاص العبد هو في إخلاص نيته لا في القيام بالعمل.
وإذا اتجه العبد الاتجاه الذي يريده هؤلاء الصوفية، حصل الفوائد الروحية من العبادة وكان لهذه الفوائد أثرها في تطهير النفس وتصفية القلب وتقريب العابد من الله، وإذا تمت تصفية القلب وحصل القرب من الله، تحقق العبد بمعرفة الله، وهي في نظرهم الغاية القصوى والمقصد الأسمى الذي قصد إليه الشارع من التكليف.
وهذا موقف، على ما فيه من نبل الغاية وصدق النظرة الروحية، كثيرا ما أخذ به ضعفاء القلوب من الصوفية فزلت أقدامهم وأدى بهم آخر الأمر إلى الوقوع في نحو من الإباحية والقول برفع التكاليف، استنادا إلى أن الغاية إذا تحققت استغني عن الوسيلة، فإذا وصل العبد إلى مقام القرب من الله أصبح في غنى عن مخاطبة الشرع له.
نامعلوم صفحہ