تصوف: روحانی انقلاب
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
اصناف
ولو وقعت له مخالفة - غير مقصودة - فيما أشار عليه شيخه، يجب أن يبادر بالإقرار بها بين يدي شيخه في الوقت، ويستسلم لما يحكم به عليه من العقوبة، وقد تذكرنا هذه القاعدة بمبدأ «الاعتراف» عند بعض الطوائف المسيحية، ولكن الفرق بينهما جوهري وأساسي: إذ «الاعتراف» المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، والاعتراف الصوفي جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.
ولا تبدأ صحبة المريد للشيخ على الحقيقة إلا بعد أن يصح عزم المريد على الدخول في الطريق، ولا يصح هذا العزم إلا باجتياز المريد «عتبة» الطريق أو المقام الأول فيه، وهو مقام التوبة، ومعناه ليس الإقلاع عن المعاصي والاستغفار عما سلف منها وحسب، بل التصميم على دخول حياة جديدة تختلف في أهدافها وبواعثها عن كل ما ألفه السالك من قبل؛ ولهذا شبه الصوفية مقام التوبة بالميلاد الجديد لأنه الحد الفاصل بين حياتين: الحياة في الدنيا ومن أجل الدنيا، والحياة في الله ومن أجل الله.
أما الأسباب التي تدعو إلى التوبة بهذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، وقد سجل لنا التاريخ عددا كبيرا منها في تاريخ أولياء المسلمين وغير المسلمين، منها الرؤى الخارقة والأزمات الروحية الحادة كأزمة الغزالي وأزمة القديس أوغسطين وغيرهما، ولكن هذه مسألة تعني علماء النفس أكثر مما تعنينا هنا.
وإذا أيقن الشيخ صدق توبة المريد قبل صحبته والإشراف عليه، وراقبه في مراحل الطريق التالية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه المراحل بالمقامات، وسموا ما يعرض فيها للسالك من أحداث روحية باسم الأحوال، وقد ذكر أبو نصر السراج في كتاب «اللمع» - وهو أقدم كتاب عربي في التصوف - سبعة من هذه المقامات هي: التوبة، والقناعة، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. كما ذكر عشرة أحوال هي: الذكر، والقرب، والمحبة، والرجاء، والشوق، والأنس، واليقين، والمراقبة، والسكون.
أما القشيري والهجويري فيذكران عددا أكبر من المقامات والأحوال، ولهما أساليبهما الخاصة في عرضها وشرحها، وربما كان القشيري أدق في تعريفاته للأحوال الصوفية التي كثيرا ما يعرضها أزواجا متقابلة مثل: «القبض والبسط»، و«الهيبة والأنس»، و«التواجد والوجد»، و«الجمع والفرق»، و«الفناء والبقاء»، و«الصحو والسكر»، و«المحو والإثبات»، و«الستر والتجلي»، وما إلى ذلك. أما الهجويري فيمتاز بدقة التحليل الصوفي لمفاهيم هذه المصطلحات، ومناقشتها والتعقيب عليها بأسلوب علمي بارع، كما يمتاز بإرشاداته إلى اختلاف آراء الصوفية فيها إذا كان هنالك اختلاف.
ولا ينتهي الطريق إلا بقطع المقامات كلها، ولا ينتقل السالك من واحد منها إلى آخر إلا إذا كان قد وصل إلى درجة الكمال في المقام السابق. فإذا اجتاز جميع المقامات انتقل إلى مرتبة روحية أعلى هي مرتبة المعرفة والشهود، وكمال المعرفة أن يدرك الصوفي ذوقا وحدة العارف والمعروف. (1) الفرق الصوفية
وكما يختلف كبار مشايخ الصوفية في تفصيل التكاليف العملية في الطريق الصوفي، كما هو واضح من تعاليم أصحاب الطرق التي ظهرت في الإسلام ابتداء من القرن السادس، كذلك يختلفون في وجهات نظرهم في المسائل النظرية والحياة الإشراقية ومظاهرها في المقامات والأحوال، وقد ظهر لنا بعض جوانب هذه الفوارق فيما عالجناه من ظواهر الحياة الصوفية كالمحبة الإلهية والذكر والفناء والبقاء وغير ذلك، وهذه الفوارق قديمة قدم التصوف ذاته، ولكنها لا ترتفع بأصحابها إلى مرتبة «الفرق» على النحو الذي نفهمه من علم الكلام، بل ولا مرتبة أصحاب المذاهب على النحو الذي نفهمه في الفقه. فالفرق في علم الكلام تمثل اتجاهات مختلفة في تفسير وفهم أصول العقائد الدينية، أو مسائل متفرعة عن هذه الأصول كمسألة خلق القرآن أو قدمه المتفرعة عن مسألة الصفات الإلهية وصفة الكلام الإلهي بوجه خاص، وكمسألة حرية الإرادة الإنسانية أو جبريتها المتفرعة عن مسألة العدل الإلهي، وغير ذلك.
وكذلك تختلف الفرق الكلامية في مناهجها في استنباط العقائد وتدعيمها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية، ومن أصحاب الفرق من يلتزم ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم المتأول لها، وهم يختلفون في أساليب التأويل وتوجيهه وجهات تتفق وروح المذهب العام الذي تدين به الفرقة، وفي كل حالة يظهر موقف المتكلم لا من مسألة اعتقادية خاصة، بل من الدين كله: فالمشبهة والمجسمة من المتكلمين غير المنزهة، والمعتزلة غير الأشاعرة والكرامية والحشوية، والشيعة غير أهل السنة، وهكذا. بل إن كل واحدة من هذه الفرق تتمثل الدين في صورة غير الصورة التي تتمثله فيها الفرق الأخرى على الرغم من اتفاقها جميعا في المبدأ العقيدي الأول وهو مبدأ التوحيد.
أما الفرق الصوفية فلا خلاف بينها في مسائل العقائد، بل في الحياة الصوفية، ماهيتها ومقوماتها وغاياتها وأساليبها ومظاهرها. بعبارة أخرى يختلف الصوفية من حيث هم صوفية لا من حيث هم أشاعرة أو معتزلة أو ظاهرية، فقد يكون الصوفي واحدا من هؤلاء أو من غيرهم. فهم يختلفون في نظرتهم إلى ذلك اللون من الحياة التي اختاروها وتميزوا بها عن غيرهم، وإلى ما ينكشف لهم فيها من غريب الأحوال والأطوار وإلى حقيقة هذا الكشف وقيمته الروحية، وأخيرا يختلفون فيما يعدونه طريقا ناجحا موصلا إلى مطلوبهم، ويتبعهم في هذا الطريق أصحابهم ومريدوهم.
وقد عقد الشيخ أبو الحسن علي بن عثمان بن علي الجلابي الهجويري المتوفى سنة 456 فصلا ممتعا في كتابه «كشف المحجوب» - وهو أقدم وأفضل مرجع في التصوف باللغة الفارسية - فيما سماه «فرق الصوفية»
نامعلوم صفحہ