وعجب زين الرفاعي من سرعة حفظ سامي ومأمون للقرآن، واستجابة كل منهما استجابة نورانية لآيات القرآن الكريم. وكان سامي يمتاز بشيء لم يشهد له زين ولا أحد من أبناء القرية مثيلا.
فقد كان يحلو لأبيه أن يطلب إليه أن يرتل شيئا من الذكر الحكيم، وكان سامي يسارع إلى الاستجابة. وكان الأب يجد نفسه يحس في صوت ربيبه خشوعا تحف به أجواء إلهية سامقة، ولا يملك ذلك الجبار السفاح دموعه، فإذا هي تتبادر مترسلة من عينيه.
وقد كان زين يحسب أن هذه الدموع لا تطفر إلا من عينيه، وهو يرى ربيبه قد كبر، وأصبح يقرأ القرآن، إلا أنه في يوم كان يجلس بالدوار، وكان الديوان مليئا بالزوار، مكتظا بالقادمين إليه للتحية أو للسمر، أو لحاجة لهم عند العمدة. وقدم إليهم سامي ومأمون يشاركان الجمع الجلسة، ويستمعان إلى ما يدور من حديث.
وفجأة وجد زين نفسه يقول دون أن يملك زمام تفكيره أو عنان لسانه. - سامي، اقرأ لنا عشرا مما حفظته.
وعجب الجالسون أن يعرف زين الله أو يهفو إلى سماع كلماته. وتهيأ جميعهم للنفاق يعلقون به على تلاوة سامي.
وبدأ سامي يقرأ ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
اقتربت الساعة وانشق القمر ، ومضى في قراءته مرتعش الصوت بإيمان عميق عربي اللسان بين الحروف ينطقها في حب وخشوع وإخبات، يحسب سامعه أن صوته يسجد بالقراءة لمالك الملك. والصوت خفيض، ولكن الصمت حوله مرهوب يكاد كل سامع منهم يمسك أنفاسه، لا يعلو منه شهيق أو زفير. لحظات ربانية هومت على الجمع، ويمضي سامي في القراءة، فإذا القلوب كلها وجيب، والنفوس متعلقة بالسموات العلا بعيدة غاية البعد عن الأرض وما فيها، والدموع من الجمع سواجم هاملات، لا يطيق فرد منهم أن يمسكها لا تهمى، بل إن أحدا لا يحاول أن يذودها ... لقد كانت كل دمعة تسبيحة مرفوعة إلى رب العرش، وأحس الجمع إحساسا واحدا أنهم جميعا أصبحوا عند سدرة المنتهى قريبين غاية القرب من العرش، وسامي يقرأ لا يلتفت أمر الجمع حوله أنه هو في الملكوت الأعلى هناك عند الملك القدوس في الساحة العلوية التي لا يبلغها إلا ذو حظ عظيم.
وحين قال سامي: صدق الله العظيم، شمل الصمت الذاهل المكان، وتملكت الرهبة قلوب الحاضرين، فهزهم هزا، ثم علا فجأة نحيب مأمون، واندفع إلى أخيه يقبله ويحتضنه، وصحا الجمع من البهر الذي لفهم، وراحوا يحيطون بسامي تتعالى أصواتهم: ما هذا بصوت بشر، سبحان من أعطاك! ما هذا الذي ترتله؟! كأننا نسمع القرآن لأول مرة، وتوالت التعليقات، والتفت سامي إلى أخيه مأمون. - مأمون اقرأ. - بعدك؟ - نعم. - هيهات. - بل تقرأ. - أمرك.
وجلس مأمون جلسة القارئ، وبدأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
نامعلوم صفحہ