طریق اخوان صفا
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
اصناف
نلاحظ من هذا العرض لأجناس العلوم أن الإخوان قد وضعوا العلوم الفلسفية في نقطة المركز، وأولوها العناية القصوى. فالفلسفة هي أشرف الصنائع بعد النبوة: «واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف. وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان، هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته. هذا هو معنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير. فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء، فلعلك توفق لذلك فتصلح أن تلقاه، فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأيب الشرعي والرياضيات الفلسفية» (13: 1، 427-428).
وإذا كانت الفلسفة أشرف الصنائع بعد النبوة، فإن الفلاسفة والحكماء يأتون في سلم الارتقاء الإنساني بعد الأنبياء مباشرة: «اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض، كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتم الحيوانات هيئة، وأكملها صورة، وأشرفها تركيبا هو الإنسان؛ وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء، عليهم السلام، ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء» (47: 4، 124). ولكن الفرق الأساسي بين الأنبياء والفلاسفة يكمن في أن معرفة الأنبياء إلهاما، أما معرفة الفلاسفة فاستنباطا: «واعلم أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة أن لا ينسب إلى رأيه واجتهاده وقوته شيئا مما يقول ويفعل ويأمر وينهى في وضع الشريعة، لكنه ينسبها إلى الواسطة التي بينه وبين ربه من الملائكة التي توحي إليه في أوقات غير معلومة. وأما الحكماء والفلاسفة إذا استخرجوا علما من العلوم، وألفوا كتابا أو استخرجوا صنعة من الصنائع، أو بنوا هيكلا، أو دبروا سياسة، نسبوا ذلك إلى قوة أنفسهم واجتهادهم وجودة رأيهم وفحصهم وبحثهم» (47: 4، 136).
من هنا فإن الحكماء والفلاسفة هم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في الإرشاد والتوجيه إذا مضوا لسبلهم: «ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه، ليعبروا عنه المعاني، ويفهموها الناس بلغات مختلفة، لكل أمة ما تعرفه على قدر احتمال أفهامهم. فإذا مضت الأنبياء لسبلها خلفهم العلماء والحكماء، وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويعلمون الناس من معالم الدين وطريق الآخرة ومصالح الدنيا. فمن قبل منهم ما قالوه وعمل بما أمروه، فهو على طريق النجاة والفوز، ومن أبى وكفر به فهو على خطر عظيم وخوف من الهلاك. فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء ومعاندة العلماء، بل كن منهم إذا استوى لك، وينبغي ألا ترضى لنفسك إلا بأعلى مرتبة في العلم والحكمة، فإن بذلك يكون القربة إلى الله، كما ذكر بقوله: ... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب »
14 (40: 3، 347).
فالفلسفة هي الحكمة ومحبة النفس إياها، كما ورد في أكثر من موضع في رسائل الإخوان: «لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة. والحكيم هو الذي أفعاله تكون محكمة، وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية. وهي [أي الحكمة] معرفة حقائق الأشياء وكمية أجناسها، وأنواع تلك الأجناس، وخواص تلك الأنواع واحدا واحدا، والبحث عن عللها ...» (40: 3، 345).
والأصل في الحكمة اتفاقها مع الشريعة لا اختلافها معها، فكلاهما يتفقان في الغرض المقصود، وهو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها والارتقاء بها: «ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما، الذي هو الأصل، ويختلفان في الفروع. وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل: إنها التشبه الإله بحسب طاقة البشر، كما بينا في رسائلنا أجمع. وعمدتها أربع خصال؛ أولاها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة ، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الأعمال الزكية والأفعال الحسنة. والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور، لتنال بذلك البقاء والدوام ... وهكذا الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها وتخليصها من جهنم عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها ...
وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس، وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد ... ومثال آخر في اختلاف سنن الديانات النبوية والفلسفية جميعا، وفنون مفروضات النواميس، والمقصد واحد، كاختلاف طرقات القاصدين نحو بيت الله الحرام وتوجههم شطره بحسب مواضع بلدانهم» (27: 3، 30).
وما التناقض الذي يبدو أحيانا بين الحكمة والشريعة إلا لقصور فهم جماعة من العاملين في العلوم الحكمية وجماعة من العاملين في العلوم الشرعية. ولهذا فقد جهد الإخوان في رسائلهم من أجل تبيان الاتفاق بين الدين والفلسفة: «ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب، وغرائب من الحكم لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار. فمنها من تكلم في تركيب الأفلاك وأحكام النجوم، وتكلموا أيضا في الطب والطبائع والكائنات التي تحت فلك القمر؛ وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره، إما لقصور فهمهم عما وصف القوم، أو لتركهم النظر فيها واشتغالهم بعلم الشرع وأحكامه، أو لعناد بينهما. وكذلك أيضا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكمية من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله، ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفا وكرها ... كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة ولقلة علمهم أيضا بماهيات الكائنات. ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحكمية والنبوية جميعا، وكان هذا العلم بحرا واسعا وميدانا طويلا، احتجنا أن نتكلم في ما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن» (27: 3، 29). «فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وصف في الفلسفة وصبر عليه مدة ... فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني، واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها، ووصلوا إلى هناك، وتخلصوا من دركات عالم الكون والفساد» (25: 2، 449). «وإن مكث الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي يتم الجسد وتستكمل صورة البدن. والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة. وكذلك أيضا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل، الذي هو تحت الأمر والنهي، إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما [في هذه الدنيا] إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتستكمل أخلاقها المختلفة، ومعارفها الربانية، بالتأمل والبحث في النظر، والسعي والاجتهاد في العمل ... أو بما رسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي، كل ذلك لكيما تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها. والغرض من هذا كله هو أن يمكنها ويتهيأ لها الصعود إلى عالم الأفلاك والدخول في سعة السماوات ...
اعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارا طبيعية على التمام، ولا يتركون في الدنيا زمانا طويلا تهذب فيها نفوسهم وتستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المرضية، إذا استعملوها على نحو ما رسم لهم من السيرة العادلة، استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم [حتى] وإن كانوا قصيري الأعمار ... وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين، فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين ... وإذ قد تبين لك يا أخي ما الغرض من المكث في الرحم مدة ما، وما الغرض من المكث في الدنيا مدة ما أيضا، فبادر الآن وتشمر وتزود، فإن خير الزاد التقوى، وشد وسطك للرحيل من الدنيا الفانية إلى دار القرار الباقية، قبل فناء العمر وتقارب الأجل» (25: 2، 453-455). «فاجتهد يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه ، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعل كما فعلت الحكماء ووضعت في كتبها ، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، وصف نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة، فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت ... واعلم يا أخي أن الموت ليس شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئا سوى مفارقة الجنين الرحم. قال المسيح عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء» (5: 1، 226). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أجل نتائج العقول وأشرف وجدانها، الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة المصلحة لنفوس معتقديها. وذلك أن الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة معينة لنفوس معتقديها على الانبعاث من نوم الغفلة ومن رقدة الجهالة ... ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة المنجية لنفوس معتقديها اعتقاد الموحدين بأن العالم محدث مخترع مطوي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه مفتقر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين ولا عن إمداد الفيض عليه ساعة فساعة، وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة لتهافتت السماوات وبادت الأفلاك وتساقطت الكواكب وعدمت الأركان وهلكت الخلائق ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان، كما ذكر الله تعالى بقوله:
نامعلوم صفحہ