طریق اخوان صفا
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
اصناف
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، لتنظر فيها وترى في معانيها، وتعرف حقائقها ومضارها ومنافعها، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار ...» (24: 2، 407-411).
هذه القوى الثلاث يميزها إخوان الصفاء عن القوى الحساسة بكونها روحانية، ويضيفون إليها قوتين أخريين هما الناطقة والصانعة: «اعلم وفقك الله، أن للنفس الإنسانية خمس قوى أخر روحانية، سيرتها غير سيرة الخمس الحساسة الجسمانية، وهي القوة المتخيلة والمفكرة والحافظة والناطقة والصانعة وذلك بإدراكها رسوم المعلومات إدراكا روحانيا من غير هيولاها. فأما الحساسة فلا تدرك محسوساتها إلا في الهيولى. وأيضا فإن هذه القوى الروحانية تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض، على غير سيرة الحساسة. وذلك أن القوى الحساسة كل واحدة منها مختصة بإدراك جنس من المحسوسات؛ وذلك أن الباصرة لا تدرك الأصوات ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الألوان. وهكذا الشامة والذائقة واللامسة، كل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها.
وأما القوى الخمس الروحانية، فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات. وذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها، وقبلتها في ذاتها كما يقبل الشمع نقش الفص، فإن من شأنها أن تناولها كلها إلى القوة المفكرة من ساعتها، فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم مصورة صورة روحانية في ذاتها، كما يبقى نقش الفص في الشمع المختوم مصورا بصور روحانية مجردة عن هيولاها، فيكون عند ذلك لها كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
ثم إن من شأن القوة المفكرة أن تنظر إلى ذاتها وتراها [أي رسوم المحسوسات] معاينة، وتتروى فيها وتميزها، وتبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها. ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار. ثم إن من شأن القوة الناطقة التي مجراها على اللسان، إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها، ألقت لها ألفاظا من حروف المعجم، وجعلتها كالسمات لتلك المعاني التي في ذاتها، وعبرت عنها للقوة السامعة من الحاضرين.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها [منها]، ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدت معاني تلك الألفاظ بصناعة الكتابة. ثم إن من شأن القوة الصانعة أن تصوغ لها من الخطوط الأشكال بالأقلام، وتودعها وجوه الألواح وبطون المطامير، ليبقى العلم مفيدا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرا من الأولين للآخرين» (24: 2، 414-415).
والآن، إذا كانت هذه هي القوى التي يحصل بواسطتها الإنسان على معلوماته، وأنواعها خمس حسية وخمس روحانية، فإلى أي حد تبلغ طاقته في المعارف؟ وإلى أي حد مبلغه من العلوم؟ «اعلم أن الله تعالى لما خلق جسد آدم، عليه السلام، أبي البشر، من التراب وصوره في أحسن تقويم ... ثم نفخ فيه من روحه، صار ذلك الجسد الترابي بتلك الروح الشريفة حيا عالما قادرا. ثم فضله بما علمه من الأسماء على بعض الملائكة لا عليهم كلهم، وأمرهم بالسجود له من أجل تلك الروح الشريفة التي نفخ فيه، لا من أجل الجسد الترابي. وإبليس اللعين لما نظر إلى الجسد الترابي، وعرف ورأى تلك الروح الشريفة الفاضلة العالمة، قال: ... أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
32
إذ النار خير من التراب؛ لأن النار جسم مضيء متحرك يطلب العلو، والتراب جسم مظلم ساكن يطلب السفل. وكان هذا منه قياسا خطأ؛ لأن السجود لم يكن للجسد الترابي، بل لتلك الروح الشريفة؛ لأن الإنسان إنما يأكل ويشرب وينام من أجل الجسد، ويتحرك ويحس ويتكلم ويعلم بالنفس الشريفة التي من أمر الله.
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس وحياة لها، كما أن الطعام وجميع المتناولات غذاء وشراب للجسد وحياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء، بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرك بالحواس ومثل ما في أوائل العقول [= البديهات]، وبعضها تعليمي مكتسب مثل الرياضيات والآداب، وما يأتي به الناموس. فمن الناس من لا يرغب في التعلم والتأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس أو ما في قرائح العقول، ومنهم من يرغب في التعلم والتأدب، لكن من الناس من لا يقبل من العلم إلا ما يتصور في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي، ومنهم طائفة لا تقبل إلا ما يدل عليه قول الشاعر، وطائفة لا تقبل إلا برواية وخبر، ومنهم طائفة لا تقبل إلا بالاحتجاج والجدل، ومنهم من يرضى بالتقليد ويقنع بذلك.
نامعلوم صفحہ