طریق اخوان صفا
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
اصناف
يعنون وهم في محل الأجسام في دار الدنيا» (جا: 65).
فقوى النفس الكلية المنبعثة عنها والسارية فيما دونها في عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر هي: «آثار جزئية مرتبطة بعالم الكون والفساد، كائنة في محل الأجساد، وهي الأرواح الهابطة للزلة التي كانت منها، والخطيئة التي جنتها، فأخرجت من الجنة وأبعدت عن دار الكرامة، فبقيت معذبة مربوطة بالطبيعة الحسية، والتكليفات اللازمة لها في الشرائع الناموسية، جزاء لها بما أسلفت، وليكون ذلك قربة لها إذا قبلت أوامر الشرع ... فعند ذلك يكون رجوعها إلى محلها النوراني» (جا: 79). وأيضا: «وإذا قالت الحكماء النفوس الجزئية، فإنما يعنون بها القوة المنبعثة الهابطة إلى المركز السفلي والمشتاقة إلى عالم الطبيعة، المتخلفة عن قبول الإفاضة العقلية، التي لحقها الفتور عن التسبيح والتقديس في محل الأنوار، فأهبطت إلى قرار المركز، ووقع بها تكليف العبادة وصعوبة الطاعة ... وإليه [أي إلى محل الأنوار] ترجع إذا تابت من خطيئتها واستقالت من عثرتها» (جا: 196-197).
في هبوطها إلى عالم الكون والفساد، تقطعت النفس الجزئية الخاطئة إلى ثلاث فرق: فرقة اتحدت بجوهرية المعدن، وفرقة بجوهرية النبات، وفرقة بجوهرية الحيوان. فعناصر الأرض ومعادنها ونباتاتها تمتلك نفوسا جزئية مثل التي للحيوان والإنسان: «واعلم يا أخي أن النفس قد أتى عليها دهر طويل قبل تعلقها بالجسم. وذلك أنها تحركت حركة طويلة، غير متوهمة كتوهم الحركات المحسوسات الكائنة في الزمان الفلكي، وكانت في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ومركزها العقلي ودارها الحيواني، مقبلة على علتها العقل الفعال، تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وتتراءى فيها المثالات العقلية أنوارا ذاتية وأشباحا نورانية ملكية ... فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات، أرادت التشبه بعلتها، وأن تكون مفيدة ... فلما رأى الباري سبحانه ذلك منها، مكنها من عالم الجسم وهيأه لها، وخلق من ذلك الجسم [بتوسط النفس] عالم الأفلاك وأطباق السماوات، من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وركب الأفلاك بعضها فوق بعض فتحركت النفس فيها حركة اختيار، فوجدت في الأشياء المخلوقة لها قوة لقبول آثارها منها، وصورت فيها صورة ما في ذاتها ... وأقام أمر النفس جاريا على هذه الحال مدة ما شاء الله الباري عز وجل، على أحسن النظام وأكمل التمام، إلى أن كان من آدم ما كان، فأهبطت النفس الجزئية إلى مركز الأرض ... وتقطعت ثلاث فرق: فرقة اتحدت بجوهرية المعادن، وفرقة اتحدت بجوهرية النبات، وفرقة اتحدت بجوهرية الحيوان الذي أفضله عالم الإنسان. ثم عطفت النفس الكلية بعد ذلك راجعة إلى قبول الفيض العقلي، بالتوبة والإنابة والاستغفار لمن في الأرض، وطلب الرحمة والرضوان لهم من ربهم ... ولا تزال الأشياء موجودة على ما هي به، من اجتماع الكثيف [= الجسم] باللطيف [= النفس]، ما دامت النفوس الجزئية متحركة بالنشوء والبلى، والكون والفساد، والترقي من الحال الأدنى إلى الحال الأعلى، حتى تترقى كلها، وتصعد بأجمعها كما تتصاعد المياه مع البخارات وتصير في الغمام، ولا يبقى في الأوان إلا تفالاتها فيرمى بها، إذ لا حاجة إليها. واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنه سترجع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية بأجمعها، وتصير في عالمها الروحاني ... وسيخرب العالم الأرضي والمركز السفلي إن فارقته النفس، وسكن الفلك عن الدوران والكواكب عن المسير والأركان عن الاختلاط والامتزاج، وبلي النبات والحيوان والمعادن، فتخلع النفس الصور والأشكال والنقوش، ويبقى الجسم [المطلق] فارغا كما كان في البداية إذا أعرضت عنه النفس، وأقبلت نحو عالمها، ولحقت بعلتها [العقل] ... وأقبل عليها دفعة واحدة، فتخلت عن الجسم دفعة واحدة. فعند ذلك تبطل الحركات الدنياوية» (جا: 271-273).
27
في كيفية ارتباط النفس الجزئية بالأجسام
لا يكفي لكي تعرف نفسك أن تستنبط أعماق ذاتك وتنظر في الآفاق، بل لا بد أيضا من أن تعرف تاريخك منذ أن تكونت في الرحم جسدا وحلت فيك روحك الجزئية. وهنا يأخذنا الإخوان في رسالتهم «مسقط النطفة» في نزهة علمية وأسترولوجية، نقتطف منها ما يلي: «واعلم بأن مثل الأركان الأربعة التي هي الأمهات في جوف الفلك كاللبن في الوعاء، وحركات الكواكب من محيط الأفلاك كالمخض
28
به، والكائنات [المتولدة] عنها كالزبدة المجتمع من لطائفها.
ثم اعلم أنه إذا تمخضت الأركان من تحريك الأشخاص الفلكية لها، واجتمع من لطائف زبدتها شيء، وشخص، وامتاز عن البسائط، ربطت به في الوقت والساعة قوة من قوى النفس الكلية الفلكية ... وتشخص تلك القوة، وتمتاز عن سائر القوى لتعلقها بتلك الزبدة واختصاصها بتلك الجملة. فعند ذلك تسمى تلك القوة نفسا جزئية. وعند ذلك تقع الإشارة إلى تلك الجملة؛ لأنها حادث كائن، حيوانا كان أو نباتا أو معدنا.
واعلم يا أخي أنه لا بد من أن يكون في ذلك الوقت وتلك الساعة درجة طالعة من أفق المشرق من الفلك، على أفق تلك البقعة التي حدثت تلك الزبدة هناك، ويكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على هيئة ما ... فعند ذلك يضاف إلى تلك القوة قوى روحيات سائر الكواكب، وتجذب معها تلك الزبدة المواد المشكلة لها، ويكون قبولها بحسب ما في طباع أشخاص أنواع ذلك الجنس من الأفعال والأخلاق والخواص، حيوانا كان أم نباتا أم معدنا.
نامعلوم صفحہ