طریق اخوان صفا
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
اصناف
14
كما قال تعالى: ... يحملون أوزارهم على ظهورهم ...
15
فعند ذلك يتبين لها أنها قد فاتتها اللذات المحسوسات التي كانت لها بتوسط البدن، ولم تحصل لها اللذات المعقولات التي في عالمها، فعند ذلك تبين لها أنها قد خسرت الدنيا والآخرة» (43: 4، 6-8).
ويورد الإخوان في الرد على من ينكر وجود النفس هذا الخطاب المنطقي: «أخبرنا أيها الأخ: هل أنت عالم ومتيقن بأن مع هذا الجسد الطويل العريض العميق، أعني الجسد المركب من اللحم والعظم والعصب والعروق، المؤلف من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان [= المرة الصفراء والمرة السوداء]، التي كلها أجسام أرضية مظلمة غليظة منتنة، متغيرة فاسدة، جوهرا آخر هو أشرف منه وهو النفس التي هي جوهرة روحانية، بسيطة حية، سماوية شفافة، وهي المحركة لهذا الجسم، المدبرة له، المظهرة به ومنه أفعالها وأقوالها وعلومها؟ أو تقول إنه ليس ها هنا شيء آخر غير هذا الجسد المرئي المحسوس، المتغير الفاسد، المستحيل الهالك، الذي إذا أصابه حر ذاب، أو إن أصابه برد جمد، وإن نام بطلت حواسه، وإن انتبه لا يشعر بوجوده، وإن نقل لا يدري أين كان، وإن ترك لا يتحرك، وإن حرك لا يحس بذاته، جاهل لا يعلم شيئا، وإن لم يسق جف عطشا، وإن لم يطعم ذبل، وإن طعم امتلأ من الدم والصديد والبول والغائط، كأنه ربع مجصص ظاهره؛ مملوء من القاذورات باطنه، إن مات نتن، وإن لم يدفن افتضح، وإن عاش فهو في العذاب والشقاء؟
أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة، والصنائع المتفننة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده؟ والناطق بهذه اللغات المتباينة والمتكلم بهذه الأقاويل المختلفة، والمخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية ... والمستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد وأشكال الهندسة، وتأليف اللحون، وتشريح الأجساد، وتركيب الأفلاك، وحساب حركات الكواكب ... هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تنسب هذه العلوم والأقاويل والفضائل إلى مزاج الجسد ... والمزاج عرض من الأعراض، وهو أحد الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعد من الصواب من قال هذا القول، وعمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي؛ وأول غفلة دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه وتركه طلب معرفة ذاته ... ... وإن كنت مقرا، أيها الأخ البار الرحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو أشرف منه، وأن هذه الأفعال والأقاويل والعلوم والفضائل إليه تنسب، ومنه تبدو، وهو المظهر من هذا الجسد هذه الأشياء، فقد قلت صوابا، وأقررت بالحق وأنصفت في الجواب. فخبرنا عن هذا الجوهر الشريف، هل يمكن أن يعرف ما هو ؟ وكيف كونه مع الجسد؟ باختيار منه، أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يقرن بهذا الجسد، وأين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول إني لا أدري؟ وهل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول: إن هذا العلم ليس في طاقة الإنسان أن يعلمه، وكيف يسوغ لك هذا القول، والعلماء مقرون أجمع، وأنت منهم، بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ وكيف يستوي للعبد إذا معرفة ربه وهو لا يعرف نفسه؟ ... وأنت تعلم أيها الأخ أن نفس الإنسان أقرب إليه من كل قريب، فكيف يستوي لك أن تقول: لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه ويعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه وعقله؟» (48: 4، 191-193).
وفي تعريفهم للحياة والموت يرى الإخوان أن الحياة هي استعمال النفس للجسد بعد ارتباطها به، وأنه لا حياة للجسد بمفرده؛ لأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، فإذا فارقته بلي وعاد إلى التراب، بينما تستأنف النفس حياتها إما في مستوى أعلى من الوجود أو في مستوى أدنى تبعا لأعمالها. فالموت هو فناء للجسد وولادة للروح: «فاعلم أنه إذا فكر العاقل العالم في تركيب هذا الجسد وما هو عليه من إتقان البنية وإحكام الصنعة ... وكيفية ابتدائه من النطفة، وتتميمه في الرحم، ونشوئه في أيام الصبا، وتكميله في أيام الشباب، وتنضيجه في أيام الكهولة، فيرى أنه في غاية الكمال والحكمة والإتقان. ثم إذا تفكر في أيام الشيخوخة وفي ذهاب قوته وتغييرات رونقه وإدباره، ثم هدمه بالموت، وتغيره بعد ذلك بالانتفاخ والنتن، وفساده، ثم كيف يبلى في التراب ويضمحل، ولا يعرف ما وجه الحكمة فيه، فيتحير ويتشكك ويضل عن الصواب. فمن أجل هذا احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة الموت والحياة، ونبين ما الحكمة في خلقهما وكونهما.
واعلم أنه إذا فكر العاقل اللبيب في خلقة الرحم وحال المشيمة، وكون الجنين من النطفة، وكيفية ذلك المكان [أي الرحم]، وما قد أعد هناك من المرافق والمرافل لتتميم الخلقة وتكميل الصورة، فيراها في غاية الحكمة وإتقان الصنعة من الصواب، وما يتعجب منه أولو الألباب. ثم إذا فكر في حال الولادة، وكيف ينقلب [الجنين] في الرحم، وتنخرق المشيمة وتنقطع تلك الأوتار، وتسترخي تلك الرباطات التي كانت تمسك الجنين هناك، وكيف يسيل الدم والرطوبات المعدة التي كانت هناك لمرافقه، وما تلقاه الوالدة من الجهد والشدة، فإنه يرى شيئا يدهش العقل ويحير أولي الأبصار والألباب.
ولكن لما كان من حال ما ينقل إليه الجنين من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق أنواره، وما يستأنف الطفل من العمل في مستقبل العمر من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وإذا قدر الله ونجاه من ذلك المكان الضيق المظلم الناقص الحال [= الرحم]، بالإضافة إلى أحوال هذه الدار من التصرف والتقلب، فيرى أن الحكمة والصواب كان في الخروج من هناك.
فهكذا ينبغي لك يا أخي أن تعتبر لتعلم أن حال النفس مع الجسد كحال الجنين في الرحم، وأن حالها بعد الموت كحال الطفل بعد الولادة؛ لأن موت الجسد ولادة النفس، وكذلك ولادة الطفل ليست شيئا سوى خروجه من الرحم، وكذلك ولادة النفس ليست هي شيئا سوى مفارقة النفس إياه [أي للجسد الذي خرج من الرحم]. [أما في ماهية الحياة] فنقول: اعلم أن الموت والحياة نوعان: جسداني ونفساني. والحياة الجسدانية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسداني ليس شيئا سوى تركها استعماله، مثلما أن اليقظة ليست سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئا سوى تركه استعمالها.
نامعلوم صفحہ