طریق اخوان صفا
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
اصناف
واعلم أن النفس بمجردها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحدثان؛ لأن هذه كلها تعرض لها من أجل [= بسبب] مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغير، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم، لتركهم النظر في علم النفس، والبحث عن معرفة جواهرها، والسؤال من العلماء العارفين بعلمها؛ ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة ...
وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء ... فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل [= المتغير من حال إلى حال]، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا ... وصيروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم، وأجسادهم مالكة لنفوسهم ...
فهل لك يا أخي بأن تنظر إلى نفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها ... وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء [= إخوان الصفاء]، وادين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم ... بأن تسلك مسلكهم، وتقصد قصدهم، وتخلص سرك معهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم، لتعرف اعتقادهم ... إذا دخلت مدينتنا الروحية، وسرت بسيرتنا الملكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيد بروح الحياة، لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، مخلدا مسرورا أبدا، بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني» (15: 2، 21-23). «واعلم يا أخي أنما ذهب على الذين ينكرون فعل الطبيعة، علم النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فأنكروا وجودها. وأما الذين أقروا بالنفس وأدركوا وجودها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام؛ وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجوده لمجرده لا فعل له البتة، ولا للأعراض الحالة فيه، وإنما الأفعال كلها للنفس؛ وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدوات وآلات لصانع يظهر بها ومنها أفعاله، كما يرى ذلك من الصناع البشريين، فإنهم بأدوات جسمانية يظهرون صناعاتهم في الأشياء، مثال ذلك النجار، فإنه يظهر أفعاله في الخشب، الذي هو جسم طبيعي، بآلات وأدوات جسمانية، كالفأس والمنشار وما شاكلها، وكلها أجسام صناعية. وأجسام الصناع هي أيضا من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم وأدوات لها، يظهرون بها [= الأجسام] صناعتهم وأفعالهم ... إذ قد بان أنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوتها في الأجسام، وأن الأجسام كلها أدوات ومفعولات لها، كما أن الفكر والعلم آلات للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوة إلى الفعل» (18: 2، 63-64). «ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطا من السعادة قلت أم كثرت، وهي أن يبقى ذلك الشيء موجودا أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأتم نهاياته. ولكن أسعد السعادات وأتم النهايات وأرفع المقامات، ما يناله أولياء الله الذين هم صفوته وأهل مودته، وهو ثلاث خصال: أولاها معرفتهم بربهم، والثانية قصدهم نحوه بهممهم، والثالثة طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم. فأما معرفتهم بربهم، فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة من النفس الكلية؛ ويعلم أن النفس الكلية هي أيضا قوة منبجسة فائضة من العقل الكلي؛ ويعلم أن العقل الكلي هو أيضا نور فائض من وجود الباري تعالى؛ ويعلم أن الله تعالى هو نور الأنوار ومحض الوجود ومعدن الجود ومعطي الفضائل والخيرات والسعادات، وهو باق أبدا سرمدا، وأن النفس الجزئية هي أيضا أنوار وضياء وإشراقات فائضة من النفس الكلية منبثة منها في العالم ... فهذا أصل علم أولياء الله تعالى ومعرفتهم بربهم. وأما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم، فإنه فكرتهم [= تفكرهم] آناء الليل وأطراف النهار في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وأصناف خلائقه، واعتبارهم تصاريف أحوالها، وكيفية الوصول إليها وإلى صانعها وبارئها ...» (39: 3، 342). «واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه لا يمكن الوصول إلى هناك إلا بخلتين: إحداهما صفاء النفس، والأخرى استقامة الطريقة. فأما صفاء النفس فلأنها لب جوهر الإنسان، فإن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والبدن؛ فأما البدن فهو هذا الجسد المرئي المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد، وما شاكله، وهذه كلها أجسام أرضية مظلمة ثقيلة متغيرة فاسدة؛ وأما النفس فإنها جوهرة سماوية روحانية حية نورانية خفيفة متحركة غير فاسدة، علامة دراكة لصور الأشياء؛ وإن مثلها في إدراكها صور الموجودات، من المحسوسات والمعقولات، كمثل المرآة، فإن المرآة إذا كانت مستوية الشكل مجلوة الوجه، تتراءى فيها صور الأشياء الجسمانية على حقيقتها ... وأيضا إن كانت المرآة صدئة الوجه، فإنه لا يتراءى فيها شيء البتة.
فهكذا أيضا حال النفس ، فإنها إذا كانت عالمة ولم تتراكم عليها الجهالات، طاهرة الجوهر لم تتدنس بالأعمال السيئة، صافية الذات لم تتصدأ بالأخلاق الرديئة، وكانت صحيحة الهمة لم تعوج بالآراء الفاسدة، فإنها تتراءى في ذاتها صور الأشياء الروحانية التي في عالمها، فتدركها النفس بحقائقها، وتشاهد الأمور الغائبة عن حواسها بعقلها وصفاء جوهرها، كما تشاهد الأشياء الجسمانية بحواسها، إذا كانت حواسها صحيحة سليمة. وأما إذا كانت النفس جاهلة غير صافية الجوهر، وقد تدنست بالأعمال السيئة أو صدئت بالأخلاق الرديئة أو اعوجت بالآراء الفاسدة، واستمرت على تلك الحال، بقيت محجوبة عن إدراك حقائق الأشياء الروحانية، وعاجزة عن الوصول إلى الله تعالى، ويفوتها نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون .
11 ... واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله بروح منه، أن النفس إذا عميت عن آمر عالمها، وتوهمت أنه لا وجود لها إلا على هذه الحال التي هي عليها الآن في دار الدنيا، فتحرص عند ذلك على البقاء في الدنيا، وتتمنى الخلود فيها، وترضى بها وتطمئن إليها، وتيأس من الآخرة وتنسى أمر المعاد، كما ذكر الله تعالى: ... ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ...
12
وقال: ... يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
13 ... فإذا جاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد وترك استعمال الجسم، وفارقته على كره منها وبقيت عند ذلك فارغة من استعمال البدن وإدراك المحسوسات، تراجعت إلى ذاتها لتنهض فلا يمكنها النهوض من ثقل أوزارها، ومن أعمالها السيئة وعادتها الرديئة،
نامعلوم صفحہ