تنهد بعمق، ثم قال: لعله من الخير ألا أقطع بأنه أبي. - ذلك كان رأيي، ولكنني وجدتك متعطشا لمعرفة أي شيء. - وماذا عرفت؟ يخيل إلي أنني لم أعرف شيئا مجديا. - بلى للأسف. - وفضلا عن عدم جدواه فما زال بعيدا عن اليقين. - للأسف. - وبسبب هذه المعرفة الطارئة أصبح الرجل أعز منالا من الأول. - هذا راجح جدا. - وقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام وإلهام وكريمة.
فلاذ المحامي بالصمت مرة أخرى، فقال صابر: ولم يبق إلا حبل المشنقة.
فقال المحامي بنبرة عتاب: هنالك النقض.
وتردد مليا متفكرا، ثم قال مبتسما: وثمة خبر آخر حدثني به الأستاذ برهان. - ما هو؟ - ما يدري الأستاذ يوما إلا والرحيمي يطرق بابه.
هتف صابر: حقا؟ - كان ذلك في أكتوبر الماضي.
صرخ صابر بلا وعي: أكتوبر! - أجل. - كنت في ذلك الوقت أبحث عنه في الإسكندرية. - وقد أمضى في الإسكندرية ستة أيام. - يا للجنون! كنت أسأل مشايخ الحارات ولكنني أجلت فكرة الإعلان في الصحف طالما كنت في الإسكندرية أن أتعرض لسخرية أعدائي وجها لوجه. - ألم تكن المهمة أخطر من سخرية الأعداء؟ - بلى، وا حسرتاه! - لا تحزن، لعله لم يكن يطلع على الصحف. - هيهات أن يهون ذلك من حسرتي! - لا تجعلني أندم على مكاشفتي لك.
وجعل ينظر إليه في حسرته، ثم قال محاولا انتزاعه منها: كان في طريقه إلى الهند، وقد أهدى إلى صاحبي كتاب: «كيف تحتفظ بشبابك مائة عام» كما أهداه صندوقا فاخرا من الخمر المعتقة. - لا يبعد أن يكون هو الذي رأيته في السيارة، وهل وقع على هديته بإمضائه؟ - أظن ذلك. - ألا يمكن أن أرى الكتاب؟ - سآتيك به. - وإذا أردت الاحتفاظ به المدة الباقية؟ - لا أظن صاحبي يرفض طلبك. - شكرا، وماذا أيضا؟ - وقال صاحبي إنه ما زال محتفظا بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته، وقال له: «إني أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول أصبعك بين طرفي شاربك!» وقال له أيضا: «لا تعد نفسك من الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب.» - ألم يذكر في الحديث أحدا من أبنائه؟ - محتمل أن يكون له في كل قارة أبناء، ولكنه لا يتحدث إلا عن الحب، وقد شرب حتى ثمل، ثم غنى أغنية غرامية سمعها في إحدى قبائل الكنغو. - يسكر ويغني ولا يخطر له أن يسأل عن أبنائه؟ - ربما تغير مفهوم الأبوة إذا امتدت فوق كثرة غير عادية. - لكن الأبناء هم الأبناء قلوا أو كثروا! - كثيرا ما تقع متناقضات غريبة إذا تصور أب قوي أبناءه على مثاله. - يا له من دفاع! - نحن نغتفر لبعض الشواذ هفوات لا نغتفرها لغيرهم، فما بالك بشخص غريب الأطوار كذلك الرجل! - آه .. رأسي يدور! - لا تجعلني أندم. - لعله ما زال بمصر. - لقد أرسل إليه بطاقة تحية من الخارج. - لعله يزورنا قبل الإعدام. - لا شيء مستحيل. - آه .. كنت أزور إلهام وأخاك الأستاذ إحسان كل أسبوع، ولا أدري أنني بطريقة ما قريب منك، وأنك جار لبرهان صديق الرحيمي! - هكذا تقع الأمور عادة. - كانت هناك فرصة نادرة للبحث. - الأمل مع ذلك لم ينعدم. - كيف؟ أي أمل؟ - أن نستبدل المؤبد بالإعدام. - أي أمل؟ - ستجد عند ذاك فرصة لاستئناف البحث. - وإذا تأيد الإعدام؟
بسط المحامي راحتيه في تسليم، ثم قبضهما في وجوم. - في حالة الإعدام يبقى لي من الزمن ما يستنفده النقض، ثم الفترة السابقة للتنفيذ، ألا تستطيع أن تقدم لي في تلك المدة خدمة حقيقية بمحاولة الاتصال بالرجل؟ - يا بني، القانون هو القانون، والرحمة والواجب يقتضيانني ألا أضيع وقتي فيما لا طائل وراءه، والأجدى أن أراجع ملف القضية والقانون الجنائي. - بالرغم مما سمعت عنه لا تريد أن تقتنع بقوته؟ - أنا رجل قانون، وأعلم أن مصيرك بيد القانون وحده. - قد يدركني في فترة الانتظار، أفلا تأخذني على قد عقلي؟ - إن يكن حقا كما تتصوره فأهلا به وسهلا، ولكن لا سبيل من ناحيتي إليه. - إنك رجل ذو خبرة وعلم، وجارك يبدو أثيرا لديه. - الاتصال به إن لم يكن مستحيلا فهو يستلزم وقتا لن يتسع لك، ولا أملك وسيلة بحال، وسوف يتطلب منا الاتصال بجميع سفاراتنا في الخارج كخطوة أولى، ولا يبعد أن ينتقل في أثناء الاتصالات إلى بلد لا تمثيل سياسي لنا فيه للأسباب التي تعرفها.
آه .. الذكرى التي تموت وهي على طرف اللسان، وتشكيلات السحب التي تعبث بها الرياح، وعصارة الألم المنصهرة وراء القضبان، والسؤال الأعمى والجواب الغشوم.
وقال: يبدو أنه لا جدوى من الاعتماد على الغير.
نامعلوم صفحہ