أجاب وهو يمد بصره إلى لا شيء: ابن مفقود من أيام الحرب.
هز صابر معلنا عن أسفه، ثم قال: لكن الحرب انتهت وعرف مصير كل من اشترك فيها. - أن أعتبره مفقودا خير من التسليم بموته.
وسأل الخواجا عن موقع جريدة أبو الهول فوصفه له بميدان التحرير. ذكره مبناها الأبيض المربع، والفناء الذي تتوسطه فسقية بفيللا ثري يوناني بالأزاريطة. ومضى نحو الباب الداخلي فرأى فتاة واقفة على عتبته، وما لبثت أن أشارت إليه. دهش صابر وأحد إليها بصره، ولكن ساعيا مرق من جانبه متجها نحوها، فأدرك أن الإشارة لم تكن له. وسلمها الساعي شيئا ثم اختفى وراء الباب، ووجد صابر نفسه أمامها. رشيقة، نحيلة، لفت انتباهه في وجهها تناقض محبوب جمع بين سمرة البشرة وزرقة العينين، وتكوين الرأس والوجه غاية في الأناقة والبداعة، انبعث إليه منه شعور بالجذب والطمأنينة، ثم استعاد نشوة نبيذ بتافرنا وهو يسمع عزف كمان. وحياها باسما، ثم سألها عن قسم الإعلانات، فقالت بصوت موح بالثقة بالنفس: أنا ذاهبة إليه.
ولحظها منقبا عن موضع للإثارة، ولكن طرفه رد ممتلئا بالإعجاب وحده. ودخلا الإدارة فأشارت إلى رجل في الصدر حملت لافتة مكتبه اسم «إحسان الطنطاوي» فحياه، ثم دعاه الرجل إلى الجلوس على كرسي يقع بين مكتبه ومكتب الفتاة التي جاءت به. وأبان صابر عن مقصده قائلا إنه يرغب في الاهتداء إلى شخص يدعى سيد سيد الرحيمي، فتساءل الرجل: دكتور القلب؟
فأجاب بالنفي، وتوقع أن يسمع منه مزيدا عن الشخصيات التي تحمل هذا الاسم ولكنه لم يفعل، فقال: في الحق أنني لا أعرف سوى اسمه. - أليس لديك فكرة عن عمله أو مكانه؟ - كلا البتة، كل ما أعلمه عنه أنه من الوجهاء، ومحتمل أن تكون له مهنة تناسبه، ولكني لم أجد في الدليل إلا الدكتور. - قد يكون رقمه سريا، وقد يكون من أعيان الريف، وعلى أي حال فالإعلان أوجز سبيل إليه. - ليكن إعلانا صغيرا بقدر الإمكان، ويوميا لمدة أسبوع، في شكل دعوة للاتصال بي بفندق القاهرة سواء بالمراسلة أو بالتليفون. - لا بد من ذكر اسمك في الإعلان.
وفكر بسرعة وقلق، ثم تمتم: صابر سيد.
ولم تتحقق مخاوفه فراح الرجل يخطط صورة للإعلان، فلاحظ صابر أن الفتاة تتابع حديثه فلم يشك في أن غرابة الإعلان هي التي أغرتها بذلك. ورأى ثمة مكاتب أخر يجلس إليها موظفون وموظفات، وعرف اسم الفتاة «إلهام» وهي تخاطب به، وسمع إحسان الطنطاوي يسأله: ألا تشير إلى الغرض من إعلانك؟ - كلا.
ثم بعد هنيهة صمت: المؤسف أنني ظننت أن الذين يعرفونه في القاهرة لا حصر لهم، ولكني لم أجد حتى الآن أحدا يعرفه. - موضوعك غريب، الاسم وحده! وكيف تتأكد من هوية من يتقدم إليك مدعيا أنه سيد سيد الرحيمي؟ - لدي ما أستدل به على ذلك.
وقالت إلهام وقد غلبها حب الاستطلاع: في المسألة سر عجيب، كأسرار السينما.
فقال صابر باسما وهو يرحب في أعماقه بتدخلها في الحديث: أود أن يكشف بالسهولة التي تكشف بها أسرار السينما. - على الأقل أنت تعلم أنه وجيه من الوجهاء، فكيف عرفت ذلك؟
نامعلوم صفحہ