فأنتم الآن بين أمرين إما أن تقرروا أني على حق في تجنبي الإضراب وتتبعوني عليه، وإما أن تقرروا أني مخطئة، وأن نقرر الإضراب، وفي تلك الحالة يجب أن نضرب نحن - أي الناظرة والمعلمين - علنا دون خوف أو مواربة، ولست أخرج عن إجماعكم الذي تجمعون عليه، فإذا اخترتم الأولى؛ وهي العمل، فيجب أن لا تكونوا ضعفاء؛ لأن المعلم الضعيف لا يصلح للتدريس، ويجب أن تظهر قوتكم في قيادة طالباتكم، فلا تمكنوهن من الإضراب بتاتا، وسأضطر إلى إخبار الوزارة عن كل ضعيف منكم؛ أي عن كل معلم أضربت طالباته في وجهه.
انفض الاجتماع، وخرج كل معلم، وهو أحرص ما يكون على أن لا تضرب طالباته، وهكذا أضربت جميع المدارس إلا مدرسة معلمات الورديان، وضاعت من يد المفتش الوسيلة التي كان يريد أن يهاجمني بها، فكان مغربي باشا - رحمه الله - يخاطب المدرسة تليفونيا كل يوم، فيسألني هل أضربت الطالبات؟ فلما كنت أجيبه بالسلب كان يضحك بملء فيه، ويقول: إن عملك هذا قد فاق عمل السحرة والمشعوذين، ولا أدري كيف تضرب جميع المدارس، ولا تضرب مدرستك وأنت وطنية؟ فكنت أقول: إن وطنيتي يا سيدي تقضي علي بعدم الإضراب؛ لأني أريد أن أخرج أمتي من هذا الجهل المخيم على العقول.
وهكذا أضربت جميع المدارس، وسافر طلابها، ولم يبق بالإسكندرية إلا مدرسة معلمات الورديان، وقطعت المواصلات، ثم أعيدت، وتلقيت أمرا كتابيا من الوزارة بمسامحة الطالبات، أو بالإضراب، لا أدري، وهكذا اضطرت الوزارة أن تأمرني بالإضراب بعد أن أعياها احتمال إضراب تلك المدرسة.
إضراب إجباري
أمرتنا الوزارة بمسامحة المدرسة كما قدمت، أو بالإضراب بعبارة أخرى، وكانت المواصلات في ذلك الوقت قد قطعت ثم أعيدت، وأمرت الحكومة بأن لا يسافر أحد في قطارات السكك الحديد إلا بتصريح من الحكومة، وذهبنا إلى المحافظة، وكتبت للطالبات وللمعلمات التصاريح ولي أيضا، وكانت والدتي معي فرفض الضابط الإنجليزي أن يصرح لها بالسفر، وأدهشني هذا الرفض فأخذت أناقشه في معنى رفضه هذا، وكيف أستطيع أنا البقاء في الإسكندرية بعد إغلاق المدرسة، وكيف تستطيع والدتي البقاء وحدها، وقد كانت تقيم معي في بناء المدرسة نفسه بأمر من الوزارة؟
وبعد جهد استطعت أن أقنعه بوجهة نظري، ويظهر أن الرجل لم يكن يعلم في ذلك الحين أن الفتاة المصرية كانت تستطيع التعبير عما تريده باللغة الإنجليزية، فأدهشته مناقشتي، وقال إنه سيساعدني عند الحكمدار، أو نائب الحكمدار لا أدري، وكان إذ ذاك المرحوم «أنجرام بك»، وقبل أن يذهب إلى الحكمدار سألني في شيء من الزهو: ألا ترين أنه ليس من صالح مصر أن تستقل، وأن من الخير لها أن تبقى تحت سيطرتنا؟ قلت: إنك يا سيدي تكلفني الإجابة على سؤال لو صدقت فيه لأسيء إليك، فأنتم المستعمرون بهذه الأسئلة تعلموننا الكذب والجبن، وليس من المعقول أن يفضل أحد الاستعباد على الحرية؛ فالوحوش في الصحراء، والطيور على الأشجار تفضل حريتها عن أن تحبس في أقفاص من الذهب أو في حدائق غناء مهما عوملت بالحسنى، ونحن بشر مثلكم، فكيف نرضى أن تقودونا، وكيف نعترف بذلك؟ إنك لو سألتني التفضيل بين استعمار إنجلترا وفرنسا لما ترددت في الإجابة عليك، بل كنت أؤكد أننا نفضل الإنجليز على كل من عداهم، أما أن تطلب مني المفاضلة بين حريتنا واستعبادنا فهذا هو الأمر المدهش، ويكفي أن يكون في سؤالك هذا ما يظهر خطر الاستعمار، فإنكم بمثل هذه الأسئلة تسلبوننا أخلاقنا وفضائلنا، وتعلموننا الكذب والخداع، وهما شر الصفات. قال: أوتظنين أن فيكم الكفاية لحكم أنفسكم بأنفسكم ؟ قلت: ولم لا يكون ذلك؟ ألسنا بشرا مثلكم؟ إن فينا من الذكاء ما قد يعوزكم أنتم الإنجليز، فمنا من يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية كما يتكلمها أهلها، أما أنتم فلم أر منكم من أتقن لغة أجنبية عن بلاده. قال: صدقت أنت على شيء من الحق في ذلك.
ثم تركني، ودخل على المرحوم «أنجرام بك»، ويظهر أنه روى له ما جرى بيني وبينه من المناقشة، فأراد المرحوم أن يراني، واستدعاني إلى مكتبه، فلما دخلت عليه حياني، وكان لطيفا، ثم جلس ينظر إلي، وأخيرا قال لي: لم طلبت مقابلتي؟ قلت: أنا لم أطلب ذلك بل ولم أكن أعرف أن في هذه الغرفة ضابطا عظيما اسمه أنجرام بك، ولكنهم قالوا لي إن أنجرام بك يريد مقابلتي. قال: ألم تطلبي ترحيل والدتك؟ قلت: نعم طلبت هذا. قال: ولكني لا أستطيع ترحيلها لأنها ليست بمعلمة، ولا طالبة. قلت: ولكنها امرأة تريد أن تصل إلى منزلها، فالعطف عليها لا يقل عن العطف على أي معلمة أو طالبة. فابتسم وقال: ولكني لا أستطيع ذلك العطف. قلت: ولم طلبت مقابلتي إذن؟ قال: لأقول لك إني لا أستطيع ترحيل والدتك. قلت: أما كان خيرا لي ولك أن ترسل إلي بذلك النبأ المحزن، فلا تؤلمني بسماعه منك، ولا تؤلم نفسك باحتجاجي؟ فضحك ضحكة عالية، وقال: لا ألم، فقد أمرت لها بالتصريح. وهنا شكرت له ما صنع، وخرجت.
إرهاق واستفزاز
لم يصلوا إلى ما أرادوه من اتهامي بتحريض الطالبات على الإضراب؛ لأن المدرسة خيبت ظنهم، ولم تضرب بتاتا، فعمدوا إلى استفزازي وإرهاقي بكل الوسائل، وكانوا يعلمون أني أحرص على إبعاد المعلمين عن المعلمات، حتى إني أعددت لمعلمي مدرسة المعلمات غرفة لها باب يفتح على الشارع مباشرة، وبجانبها دورة مياه؛ فهي لا تتصل بالمدرسة بأية حال.
أما المدرسة الملحقة فقد كان جميع معلماتها سيدات، وكانت هي داخل الفناء، فلم يكن يدخلها رجل، وأرادوا مضايقتي فعينوا لها ناظرا، وكان شابا لا بأس بجماله، أنيق الملبس، فكان عليه أن يبقى طول النهار بالمدرسة الملحقة؛ أي وسط معلماته ومعلمات مدرسة المعلمات أيضا؛ لأن معلمات التربية كن يذهبن مع طالباتهن إلى التدريس بالملحقة، فكان هو يستطيع أن يرى أو يجالس كل من في المدرسة من معلمات أو طالبات على ما كان عليه من شباب وجمال، فساءني ذلك، وأرسلت أطلب من وزارة المعارف نقله، فلم تقبل، ثم سألتني الوزارة عن سبب النقل، وأرادت بذلك أن توقعني مع الناظر، فقلت: إن الرجل كريم الأخلاق، ولا عيب فيه إلا أنه رجل، أو بعبارة أخرى شاب جميل، وما كان للوزارة أن تضع يوسف بين الفتيات، وهي تعلم أن يوسف على فضائله وعفته قد ذهب جماله بعقول السيدات، فقالت الوزارة: إن السبب غير معقول، وأخيرا بلغني أن هناك مركز ناظر مدرسة خاليا، فنصحت للرجل أن يطلب تعيينه فيه، وقلت له: إنك إذا لم تظفر بذلك المركز فقد تضيع عليك الفرصة؛ لأني سأعمل على إخراجك من هنا مهما كانت الظروف، وقد يضطرون إلى إخراجك من عندي حسب طلبي في وقت لا يجدون فيه مركز ناظر خاليا من صاحبه، فاقبل نصيحتي، وتشدد في طلب النقل.
نامعلوم صفحہ