وبالاختصار نقول: إنه بينما كان وليم يجد في إنكلترا بمطاردة أعدائه كان روبرت في نورماندي يشب على الصلف والبطالة، ويرد الرذائل لا يترك في كأسها أدنى ثمالة، وكان أبوه كثيرا ما يشتبك معه في تردده من إنكلترا على نورماندي في منازعات ومخاصمات كانت متيلدا في كلها تتصحب للابن، وكان ابن وليم الثاني المسمى وليم روفوس يغار من أخيه الأكبر، ويغتاظ من سلوكه، ولا يصبر على عجبه وكبريائه، ويميل إلى جانب أبيه في هذه القلاقل العائلية، فكان فظا شرس الخلق كأخيه غير أنه لم يكن مثله منعما، وبالنتيجة كان مالكا روحه وحاكما على نفسه، وعالما كيف يروض الأمور، ويرود مداخل الأحوال وخارجها، ويخفي في حضرة أبيه ما عنده من العواطف والانفعالات، وكان لهما أخ ثالث أوطأ منهما جانبا، وألين عريكة، وأسهل مراسا، فكان يعتزل المداخلة ويلزم جانب الحيادة في الخصام ما لم يبعثه على ذلك مكرها أخوه وليم روفوس؛ لأنه كان صديقه ورفيقه حتى إن روبرت كان يعده له عدوا.
وبالحقيقة إن الجميع ما عدا متيلدا كانوا ضد روبرت الذي كان ينظر إلى إخوته الأصاغر بعين العجب والسيادة، شأن كل ابن أكبر يرى نفسه وليا ووارثا لبيت عامر بالعظمة، وآهل بالغنى، وأبوه الملك عوضا عن كبح جماحه واستئصال جراثيم الكبرياء منه تارة بواسطة الحنو والرقة وأخرى بواسطة إظهار السيادة الوالدية - كان يزيده نكاية وغيظا بسلقه بتوبيخ حاد صارم، وكان يلقبه في أثناء هذه التأنيبات الهزلية ب «حذاء القصير» نظرا لقصر قامته، وإذ كان روبرت قد بلغ رشده كان يشق عليه ويكسر قلبه أن يسمع أباه يلقبه لقبا مهينا كهذا، ويوغر صدره حقدا وحب انتقام.
وفضلا عما ذكر كان لديه أسباب أخر للتشكي من أبيه أعظم شأنا وأجل اعتبارا، فإن أباه كان قد خطب له وهو بعد طفل حسب عادة الأيام ابنه أحد الأمراء المجاورين، ووريثته الوحيدة، وكانت طفلة نظيره، واسمها مرغريتا، والمقاطعة المعدة لها ميراثا كانت ماين، وهي بلاد غاية في جودة التربة والخصب والغنى على متاخمة نورماندي، وكان من شروط الخطبة أن تسلم أملاك الخطيبة الصغيرة لأبي الخطيب، وهذا يظل قائما في نظارتها والوكالة عليها حتى يبلغ الخطيب أشده، وتزف إليه العروس، وبالحقيقة إن امتلاك مقاطعة كهذه كان الباعث الوحيد الذي حدا وليم على القبول بمثل هذه الخطبة.
فإن صح أن هذه كانت بغية وليم فقد جرت التقادير على أكثر من مرامه وأعظم من انتظاره؛ لأن تلك الوريثة الصغيرة ما لبثت أن توفيت بعد أن تسلم حموها أملاكها ، ولم يكن حينئذ من يستردها منه، فبقيت في حوزته حتى أدرك ابنه العريس سن الرشاد، وإذ ذاك طلبها من أبيه مدعيا أنها له، فأبى وليم تسليمها بحجة أن ما حدث بين ابنه في طفوليته ومرغريتا لم يكن زواجا بل خطبة - عربون قران في المستقبل يعقد عند بلوغ العروسين سن الزواج الشرعي - وإذ قد حال موت مرغريتا دون إتمام هذا القران، فروبرت لم يكن زوجها، وبالنتيجة لا يسوغ له طلب حقوق زوج، بل ينبغي أن تبقى الأراضي في يدي وصيها، ومهما يكن من الحقوق التي يدعيها ورثة مرغريتا، فواضح أن ابنه ليس له شيء من ذلك.
وهب أن هذا الاحتجاج كان مقنعا وسديدا في عيني وليم، فروبرت لم يعده سوى ضرب من المماحكة والتعنت والنكاية، وحسبه جورا وخسفا من أبيه الذي لم يقنع بما لديه من الأملاك والمقتنيات حتى طمع في سلب ما لابنه، وكانت أمه متيلدا من رأيه في هذا، أما وليم روفوس وهنري فلم يباليا بالمسألة من وجه حقانيتها أو بطلانها، بل سرا بنتيجتها وابتهجا برؤية أخيهما يلتهب حنقا ويتميز غيظا من جراء فشله في محاولة امتلاك تلك المقاطعة.
وكان لخصام روبرت مع أبيه داع آخر لا يقل عما ذكر شأنا وأهمية، وهو أن وليم - كما سبق معنا - كان قبل حمله على إنكلترا قد أقام متيلدا وروبرت نائبين عنه في الحكم مدة غيابه، ففي بداءة الأمر كان روبرت بعد صغيرا فكان مرجع الحكم في كل القضايا لوالدته، وعندما أخذ يشب وينمو طفق يتظاهر بالنفوذ والسطوة، وإذ كان أليف الطمع وحب الذات، وعزيزا عند والدته؛ تمكن شيئا فشيئا من حصر القوة والسيادة في يده، وقد مر على وليم منذ بارح نورماندي ثماني سنوات قبلما استطاع أن يمكن سلطانه في إنكلترا، ويوطد سيادته عليها على دعائم الرسوخ والثبات، وعند خروجه من نورماندي فارق روبرت صبيا في سن الرابعة عشرة عديم القوة والنفوذ بالكلية، وإن كان عندئذ في غاية الشكاسة والطياشة، وفي رجوعه من إنكلترا وجده رجلا ابن اثنتين وعشرين سنة، وأشد شكاسة وطياشة، وفوق ذلك رآه قابضا على زمام السلطة والنفوذ، وغير راض في التنحي عن الحكم وتسليمه له.
وبالواقع أبى أن يتخلى لأبيه عن إدارة السيادة في نورماندي محتجا أن أباه كثيرا ما وعده بهذه الإمارة عندما يبلغ طور الشباب، والآن فهو يطلب منه إنجاز وعده، ثم زاد على ذلك قوله: أن هذه الإمارة لم تعد ذات شأن عظيم في عيني أبيه الذي أصبح الآن ملك إنكلترا، ولبس في بقائها تحت سلطانه ما يزيده شهرة وعظمة، فيمكنه - إن أراد - أن يمنحها لابنه بدون تكبده خسارة عظيمة في ذلك، على أن وليم لم يحتفل بكل هذه التمحلات، ولا وافق على أنه وعده بإمارة نورماندي، ومن جهة منحه إياها فهو لا يصوب سياسة الرجل الذي يسلم قوته أو أملاكه لأولاده قبلما يكونون قد استحقوا ذلك كوارثين له بعد موته، ومن ثم فلا يفعل ذلك مطلقا، ولم يكن قط ليفتكر «بخلع ثيابه قبل ساعة نومه».
وكان شر الاستياء والغيظ يزداد بفعل هذه المعاكسات، وخطبهما يتفاقم يوما بعد يوم، لكنه بقي مدة سريا بيتيا لا تتجاوز أنباؤه أبواب القصر، على أنه حدث بعد ذلك ما رفع عنه الخفاء، وهتك حجاب كتمانه، فاستحالت المخاصمة العائلية السرية إلى منازعة علنية جهارية، وتفصيل ذلك ما يأتي:
خرج وليم سنة 1076 بعائلته ورجال حكومته إلى إحدى قلاعه في نورماندي المدعوة ليغل (النسر)؛ ليقضي فيها فضلا من السنة، ففي ذات يوم كان ابنه وليم روفوس وأخوه هنري في إحدى غرف الطابق العلوي من القلعة يلعبان بالنرد، ويأخذان بأطراف التسلية والمنادمة مع نخبة من شبان الحكومة بألعاب مختلفة، وكان لتلك الغرفة شباك يقود إلى شرفة أمامه يطل منها على دار الحكومة في أسفل القلعة، فروبرت كان في فسحة تلك الدار مع نفر من أتباعه يتمشى مدفوعا بفواعل الغيظ الناشئة عن بعض مخاصمات سابقة مع أخويه، فأطل وليم روفوس من الشرفة ورآه.
فحاول إضرام جمرة غيظه بأن صب عليه قليلا من الماء، وذلك بعث بروبرت على أن ينشط من عقال الغيظ الساكن ، ويهب من ضجعة الحرد الهادئ الداخلي إلى هيجان وحب انتقام لا ينقصهما شيء من مظاهر الجنون، فجرد حسامه ووثب نحو درج طبقة العليا وهو يقذف بالشتائم واللعنات المخيفة، ويتوعد من ارتكب هذا الفعل المهين بالقتل ولو كان أخاه، وعندها أصدي جو تلك الدار بالصياح والصراخ، وعلت فيها أصوات الصخب والضوضاء، وتزاحمت إلى ساحتها أقدام المتراكضين، واختلطت فيها إشارات المنذرين بالويل والثبور، وأخذ كل يهرول صاعدا نحو الغرفة التي صب الماء من شرفتها بعضهم لمجرد المشاهدة، والبعض الآخر لملاقاة الشر ومداركة تفاقم الخطب، واتفق أن الملك ذاته كان أوانئذ في القلعة فخف مسرعا إلى الغرفة؛ ليحول دون منازعة بنيه، ويصدهم عن ارتكاب هذا الإثم العظيم، وكان ذلك كما رآه هو نفسه غاية في الصعوبة يتطلب بذل كل سلطته الأبوية وسيادته الوالدية، على أنه أخيرا تمكن بواسطة مساعدة الحضور من الفصل بين المتخاصمين، وإخراج روبرت منقطع الأنفاس منهوك القوى من شدة الغيظ والغضب إلى خارج.
نامعلوم صفحہ