عنه التفاصيل تتلوها فتفهمها
وفي الحال أنفذ إليه هذه الرسالة الفارغة مع رسول، فلما رآها بالدون اندفع بمزيد من الاهتمام إلى استلامها وفضها بشوق فائق، لكنه أسقط في يده اندهاشا حين وجدها خاوية خالية، وبعدما قلبها ظهرا لبطن بغية الوقوف على تفاصيل نصيبه استطلع الرسول طلع الأمر، فأجابه: «المراد منها كما أنه ليس فيها شيء كذلك أنت لا يكون لك شيء».
على أنه مهما يكن من الفتور الذي أصاب الصلات على أثر هذه الحادثة، لم تلبث أن عادت العلاقات إلى متانتها، ورجعت المياه إلى مجاريها، ونال وليم شيئا من مساعدة حكومة فنلدرس حين حمل على إنكلترا.
الفصل السادس
الأميرة «أما»
لم يكن في الحسبان - حتى في نفس الوقت الذي نؤرخ الآن حوادثه - أن أميرا مثل وليم يهاجم مملكة عظيمة كإنكلترا واسعة الأطراف قوية الجانب بالنسبة إلى إمارة نورماندي لو لم يكن لدى وليم حجة ولو على سبيل الادعاء، أما حجته فكانت أنه هو الوريث الأصيل لعرش إنكلترا، وأن الملك الذي تربع على دست مملكتها في زمان مهاجمته لها كان مغتصبا؛ ولكي يفهم القارئ طبيعة هذا الطلب ومبدأ هذه الحجة رأينا من الضروري أن نبسط الكلام قليلا عن تاريخ «أما».
فمن مراجعة سلسلة أمراء نورماندي المثبتة في الفصل الثاني من هذا التاريخ، يظهر أن «أما» كانت ابنة رتشرد الأول، وقد اشتهرت في ريعان صباها بحسن صورتها وجمال منظرها حتى كانت تدعى لؤلؤة نورماندي، وقد تزوجت بأحد ملوك إنكلترا المدعو أشرلد أيام كانت تلك البلاد مجروفة بسيول حرب أهلية بين حزبي السكسون والدانمارك، وكان فيها سلسلتان مختلفتان من الملوك تتنازعان السيادة، وتتزاحمان إلى الاستيلاء على قضيب السلطنة المطلقة، وفي تلك الحرب الدائمة كان السكسون ينتصرون تارة والدانمارك أخرى، وأحيانا يقيم كل من الحزبين لنفسه هيئة حاكمة، ويناصب الآخر في التملك على أقسام مختلفة من تلك الجزيرة الكبيرة العظيمة، وهكذا اتفق أنه كان في إنكلترا في وقت واحد يقوم ملكان يساور كل منهما الآخر ويناظره في السطوة والحكم - ملكان وعاصمتان وإدارتان - لشعب واحد قضى عليه نكد الطالع أن يرزح تحت أثقال المطامع، ويكابد ويلات الحروب الناتجة عنها.
وكان أشرلد أحد ملوك السكسون، وعندما اقترن بأما كان أرملا في سن الأربعين وله من امرأته الأولى أولاد من جملتهم ابن يدعى أدموند، وهو شاب نشيط الهمة قوي العزم صار فيما بعد ذلك ملكا، وكان من جملة ما قصده أشرلد باقترانه بأما أن يعزز جانبه ويزيده مناعة بضم النورمانديين إليه؛ لأن أعداءه الدانمارك نورمانديون أيضا، فحذرا من أن حكومة نورماندي تمدهم بالقوة والرجال سبق إلى التقرب منهم، وعقد معهم زواجا مكنه من اكتساب قرابتهم ومساعدتهم إياه على أعدائه.
فنجح فيما قصد واستنهض رتشرد أبا زوجته إلى شد أزره، لكنه لم ينصر على الدانمارك، بل بالعكس استظهروا عليه وضايقوه حتى اضطروه أن يفر إلى نورماندي بزوجته وابنيه، وكان اسماهما إدوارد وألفرد، فاستقبله رتشرد الثاني أخو أما بلطافة فائقة لا يستحق شيئا منها، ولم يكن بالأمر الغريب أنه طرد من مملكته؛ لأنه لم يكن على شيء من تلك الصفات العقلية السامية التي تؤهل الإنسان للحصول على قوة الغلبة والحكم، بل كان كبقية الظلام الخاملين يضحي الحكمة على مذبح الشراسة والقساوة، ويسرف بالقوة في طريق الجور والاعتساف ضد أعدائه، وحالما تزوج بأما أشعر بعظم القوة التي توهم الحصول عليها بداعي تلك الزيجة، فمنى الدانمارك بمجزرة هائلة في يوم معين بواسطة مؤامرة سرية أهلك فيها منهم خلقا كثيرا، فاشتد البغض ونما الحقد بين الحزبين، حتى إن الذين تلقوا منه أوامر إتمام هذه المذبحة الدموية أنفذوها بقساوة وحشية تشيب لهولها الأطفال.
فمن جملة فظائعهم فيها أنهم طمروا النساء في حفر إلى أوساطهن، وأطلقوا عليهن الكلاب فمزقت أجسادهن العريانة وأماتتهن ألما ووجعا ، ومن عجيب ما اتفق في تاريخ هذه الحرب الأهلية أن الملك ألفرد الملقب بالعظيم لما حارب الدانمارك في إنكلترا، وذلك قبل زمان أشرلد بمائة سنة عاملهم في استظهاره عليهم بمزيد الرقة وكرم الأخلاق، وبهذه السياسة تغلب عليهم في النهاية، أما أشرلد فبخلافه سامهم أشد القساوة، وكانت النتيجة في الختام أنه بعثهم على التألب ضده والخروج عليه طلبا للانتقام والأخذ بالثأر، حتى جلوه - كما تقدم الكلام - من إنكلترا بمزيد الخزي والخجل والعار، وكما مر بنا استقبله رتشرد ابن حميه بما لا يوصف من الترحاب والتأهيل جبرا لخاطره المكسور، وإكراما لشقيقته أما وولديها، وقد كانت رغبة أما في الاقتران بأشرلد موقوفة به على حب الشهرة والطمع بنوال المجد حين تصبح ملكة إنكلترا، وهذا ما يحكم به عليها كل قراء تاريخها من مجرد اطلاعهم على سيرة حياتها التالية.
نامعلوم صفحہ