وفي هذه السنة أمر أحمد ببنيان المارستان للمرضى في أرض العسكر
16
ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان، ولما فرغ منه حبس عليه جملة من الأعيان من الدور والأسواق، وكان ينفق من هذا الوقف أيضا على مسجد التنور وعين وسقاية أنشأهما بالمعافر، وشرط في المارستان ألا يعالج فيه جندي ولا مملوك، وعمل حمامين للمارستان؛ أحدهما للرجال والآخر للنساء، وحبسهما على ما ذكر، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويراح عليه بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، فإذا أكل فروجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطي ماله وثيابه، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها، والأطباء وينظر إلى المرضى.
قناطر ابن طولون وبئره: قال القضاعي: كان السبب في بناء هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمر بمسجد الأقدام وحده وتقدم عسكره وقد كده العطش، وكان في المسجد خياط فقال: يا خياط، أعندك ماء؟ فقال: نعم، فأخرج له كوزا فيه ماء، وقال: اشرب ولا تمد، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمد فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى سقيتنا وقلت: لا تمد، فقال: نعم، أعزك الله، موضعنا ها هنا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية، فقال له: والماء عندكم ها هنا معوز؟ فقال: نعم، فمضى أحمد بن طولون فلما حصل في داره قال: جيئوني بخياط في مسجد الأقدام، فما كان بأسرع من أن جاءوا به فلما رآه قال: سر مع المهندسين حتى يخطوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها، وابتدأ في الإنفاق، وأجرى على الخياط في كل شهر عشرة دنانير، وقال له: بشرني ساعة يجري الماء فيها، فجدوا في العمل، فلما جرى الماء أتاه مبشرا فخلع عليه وحمله، واشترى له دارا يسكنها، وأجرى عليه الرزق السني الدار ...
وبنى ابن طولون عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم
17 («المقريزي» الجزء الثاني، ص457). (13) تقليده خراج مصر سنة 259 هجرية
ثم ورد كتاب من المعتمد إلى أحمد بن طولون يستحثه في حمل الأموال، فأجابه: لست أطيق ذلك والخراج بيد غيري، وكان بلغه أن ابن المدبر وشقير الخادم - وكان على البريد - يكيدان له، وقد كتبا إلى الحضرة يقولان: إن أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها، وكان ابن المدبر ابتدع بمصر بدعا كثيرة، فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعدما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعم الله من البحر مالا وسماه المصايد، إلى غير ذلك، فانقسم حينئذ مال مصر إلى خراجي وهلالي، وكان الهلالي يعرف في زمنه وما بعده بالمرافق والمعادن، وقد عرف فيما بعد على عهد الدولة الفاطمية بالمكوس.
فلما وصل جواب ابن طولون إلى المعتمد أنفذ المعتمد إليه بتقليده الخراج على مصر وبولايته على الثغور الشامية، فرغب أحمد بنفسه عن المعادن والمرافق، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، وكانت تبلغ بمصر خاصة مائة ألف دينار في كل سنة. قال المقريزي: «وقد أظفره الله عقيب ذلك بكنز فيه ألف ألف دينار.» ولهذا الكنز أيضا خبر أورده المقريزي (في الجزء الثاني، ص267)، ونكتفي بالإشارة إليه. (14) الخلاف بينه وبين الموفق
ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين واستفحل أمره أنفذ أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى رسولا في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق نفاه إليها، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوض، وبعد المفوض تكون الخلافة للموفق طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوض وشرقها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده شق ذلك عليه وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذ نفسه من الصيد واللعب والتفرد بجواريه، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال، وفاز كل من كان متقلدا عملا بما تقلده، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوض والموفق أنه ما حدث في عمل كل واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابنه المفوض موسى بن بغا، فاستكتب موسى ابن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدم إلى كل منهما ألا ينظر في عمل الآخر، وخلد كتاب الشروط بالكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش، فلما كبر أمره وطالت محاربته إياه وانقطعت موارد خراج المشرق عن الموفق وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كل عام واحتجوا بأشياء، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوض لأنها من الممالك الغربية، إلا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال، فما هو إلا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السر: إن الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وإنه قد كاتب بعض أصحابك، فاحترس منه، واحمل المال إلينا، وعجل إنفاذه، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، ومنعه من الركوب، ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول ، وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وأرسل إلى ماجور متولي الشام فقدم عليه بالعريش وسلمه إليه هو والمال، وأشهد عليه بتسليم ذلك، ورجع إلى مصر ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير، فإذا هي إلى جماعة من قواده باستمالتهم إلى الموفق، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول: إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت، وبسط لسانه بالقول والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه؛ لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة، فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأي حساب بيني وبينه؟! أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره؟! وكتب إليه جوابا شديد اللهجة أورده جامع السيرة ونقله المقريزي في الجزء الثاني ص179، فلما وصل إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، وأحضر موسى بن بغا، وكان عون الدولة وأشدها بأسا وإقداما، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجور، فامتثل لذلك، وكتب إلى ماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته.
18
نامعلوم صفحہ