عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
اصناف
ثم إن شيرويه بعد أن تسلطن بعث إلى باذان ألا يتعرض للرسول العربي، وكان ذلك بدء نشوء الإسلام في اليمن، وأسلم باذان فأبقاه الرسول في إمارته، وكانت اليمن أول بلاد خاضعة للفرس دخلت تحت لواء الإسلام، ثم تبعتها بلاد البحرين وبلاد عمان وكانتا تحت حماية الفرس أيضا. فلما مات رسول الله واستخلف أبو بكر وانتهى من فتنة الردة وكان سيف الله خالد بن الوليد هو أجل من أظهر جرأة على المرتدين في بلاد اليمامة حين بعثه الصديق إليها، ثم انتدبه ليكون أول من يضع الحجر الأساسي للبناء الإسلامي في بلاد العراق وديار فارس وما إليهما، ويرفع الراية الإسلامية في هاتيك الديار العريقة في الحضارة والعلم، الغريقة في الوثنية والجهالة، فكتب إلى خالد في المحرم من السنة الثانية عشرة أن يهيئ نفسه وجنده للمسير من اليمامة إلى بلاد العراق، فدخلها من أسفلها، كما كتب إلى عياض بن غنم أن يسير حتى يأتيها فيدخلها من أعلاها، وأيما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، فأخذ خالد يستعد للقاء العدو ويرتب جيشه، ولم يقبل أن يجند أحدا ممن كانوا قد ارتدوا عن الإسلام ولا أن يسافروا معه تلبية لأمر الخليفة الذي أمره ألا يكره أحدا من المجاهدين على السفر، كما أمره ألا يقبل سفر أحد من المرتدين سابقا معه؛ لأن رأيه ألا يستعان بمن ارتدوا على غزو أبدا، وأمره أن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وأن يتألف أهل فارس ومن كان في مملكتهم من الأمم. وهناك رواية للطبري تقول: إن خالدا قدم المدينة على أبي بكر، ثم خرج منها إلى العراق، ولكن الرواية الأولى هي الأشهر والأكثر وثوقا.
ومهما يكن من أمر، فإن خالدا سار نحو العراق وغرضه الحيرة عاصمة عرب الجزيرة حتى يسيطر عليها ويقضي على النفوذ الأعجمي في بلاد العرب. أما عياض بن غنم فإنه سار وهو بين النباج والحجاز، حتى أتى المصيخ ودخل العراق من أعلاه. وكتب أبو بكر إلى حرملة والمثنى بن حارثة ومن معهما أن ينضموا جميعا تحت إمرة خالد، فبعث إليهم خالد أن موعدهم الأبلة، فساروا جميعا إليها حتى اجتمعوا بخالد، فكان عدد أجنادهم ثمانية عشر ألفا، وجرت بين المسلمين وأهل تلك المواطن معارك نجملها في المباحث التالية:
كان على الأبلة هرمز الفارسي، فلما علم بمقدم العرب إليه كتب إلى كسرى شيرويه ينبئه بالخبر، وما عتم أن جاءه كتاب من خالد قبل أن يصل إليه يقول له فيه: «أما بعد فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك؛ فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما يحبون الحياة.» ثم إن خالدا فرق جنده ثلاث فرق: الأولى : عليها عثمان بن حارثة وقد سرحه قبله بيومين، والثانية: عليها عدي بن حاتم، وعاصم بن عمرو، والثالثة: عليها خالد نفسه، وتواعدوا جميعا أن تكون الحفير ملتقاهم.
ولما سار خالد علم أن هرمز سبقهم إلى الحفير في جموعه، فأمال خالد الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز فبادره إلى كاظمة وسيطر على الماء، وبقي المسلمون بلا ماء، فنادى خالد في المسلمين ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. ثم احتدم القتال، وأرسل الله سحابة فأغدرت ما وراء المسلمين فقواهم الله بها، ولما طال القتال برز هرمز طالبا خالدا للبراز، فنزل إليه خالد وتضاربا ضربتين، ثم احتضن خالد هرمز فقتله وانهزم الفرس، وركب المسلمون أكتاف الفرس إلى آخر الليل، وجمع خالد الأسلحة وفيها السلاسل، فكانت ألف رطل وقر بعير، فسميت تلك المعركة بذات السلاسل، وغنم خالد مغانم كثيرة، وبعث بالخمس وبالفيل الذي كان مع الفرس إلى أبي بكر، فلما قدم رسول خالد على أبي بكر ضج المسلمون فرحا وسجدوا لله شكرا.
ثم إن خالدا بعث حارثة في آثار فلول الفرس، وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليجمع له أموالها وخيراتها وسبيها، فأتاها معقل ونزلها وجمع الأموال والسبايا، وقد بلغ سهم الفارس يوم السلاسل ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
9
معركة المذار (الثني)
كان هرمز كتب إلى أردشير شيرويه ملك فارس يخبره عن خالد وبمسيره إليه، فأمده بالقائد قارن بن قريانس، وسيره من المدائن حتى إذا انتهى إلى المذار - وهي من أعظم مواطنهم الحصينة - بلغته هزيمة هرمز ولحق به المنهزمون، فجمعهم وحصن نفسه بالمذار، فسار إليه خالد، وانقض المسلمون على قادة الجيش الفارسي فمزقوهم وقتلوا صناديدهم وفرقوا جموعهم، وكانت مقتلة عظيمة فاز فيها المسلمون بنصر مؤزر ومغانم كثيرة، ولولا أن المياه حالت دون تخطي المسلمين للحقوا بفلولهم. وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء، ونفل من الأخماس أهل البلاد، وبعث ببقية الأخماس، ووفد وفدا مع سعد بن النعمان إلى أبي بكر.
وقد روى الطبري أن من قتل من الفرس في وقعة المذار كانوا ثلاثين ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى خالد على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا العراة وأشباه العراة. وقد عامل خالد الفلاحين أطيب معاملة عملا بوصية أبي بكر، فأبقى لهم أراضيهم، وحفظ لهم حقوقهم بعد أن أخذ منهم الجزية، وكان ذلك في صفر من السنة الثانية عشرة للهجرة.
معركة الولجة
نامعلوم صفحہ