الخليفة الراشد الأول: أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
1 - في نسبه وأوليته وإسلامه
2 - استخلافه وسيرته
3 - في أعماله، في خلافته
4 - في وفاته ومناقبه وأسرته
5 - في أعماله الإدارية والتنظيمية
6 - في مشهوري رجال عصره
الخليفة الراشد الثاني: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
1 - في نسبه وأوليته في الجاهلية وثقافته
2 - في إسلامه وأحواله أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
3 - في خلافته وأعماله فيها
4 - في أعماله الإدارية والتنظيمية
5 - في مقتله ومناقبه وأسرته
6 - في مشهوري رجال دولته
الخليفة الراشد الثالث: عثمان بن عفان
1 - في نسبه وأوليته في الجاهلية
2 - في إسلامه وأحواله قبل الخلافة
3 - في خلافته
4 - أعماله في خلافته، وفتوحاته
5 - في الأحداث الكبرى في خلافته
6 - في تنظيماته وأعماله الدينية والدنيوية
7 - في مناقبه وأسرته
8 - في كبار رجال الدولة في عهده
الخليفة الراشد الرابع: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
1 - في نسبه وأوليته وإسلامه
2 - في إجمال حياته وسيرته عليه السلام
3 - في أعماله الجليلة في خلافته
4 - في مقتله، ومناقبه، وآثاره العلمية والدينية
5 - في أعماله الإدارية وتنظيماته
6 - في أولاده وأسرته الطاهرة
7 - في مشهوري رجال دولته
8 - في المختار من أدبه عليه السلام
9 - باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام
الخليفة الراشد الأول: أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
1 - في نسبه وأوليته وإسلامه
2 - استخلافه وسيرته
3 - في أعماله، في خلافته
4 - في وفاته ومناقبه وأسرته
5 - في أعماله الإدارية والتنظيمية
6 - في مشهوري رجال عصره
الخليفة الراشد الثاني: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
1 - في نسبه وأوليته في الجاهلية وثقافته
2 - في إسلامه وأحواله أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
3 - في خلافته وأعماله فيها
4 - في أعماله الإدارية والتنظيمية
5 - في مقتله ومناقبه وأسرته
6 - في مشهوري رجال دولته
الخليفة الراشد الثالث: عثمان بن عفان
1 - في نسبه وأوليته في الجاهلية
2 - في إسلامه وأحواله قبل الخلافة
3 - في خلافته
4 - أعماله في خلافته، وفتوحاته
5 - في الأحداث الكبرى في خلافته
6 - في تنظيماته وأعماله الدينية والدنيوية
7 - في مناقبه وأسرته
8 - في كبار رجال الدولة في عهده
الخليفة الراشد الرابع: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
1 - في نسبه وأوليته وإسلامه
2 - في إجمال حياته وسيرته عليه السلام
3 - في أعماله الجليلة في خلافته
4 - في مقتله، ومناقبه، وآثاره العلمية والدينية
5 - في أعماله الإدارية وتنظيماته
6 - في أولاده وأسرته الطاهرة
7 - في مشهوري رجال دولته
8 - في المختار من أدبه عليه السلام
9 - باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام
عصر الخلفاء الراشدين
عصر الخلفاء الراشدين
تاريخ الامة العربية (الجزء الثالث)
تأليف
محمد أسعد طلس
الخليفة الراشد الأول: أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
10-13ه/632-634م
مقدمة
توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر بالسنح، وهو من ضواحي المدينة حيث كان يسكن، وعمر حاضر، فلما بلغت أسماع أبي بكر أخبار النازلة خف إلى بيت رسول الله، وعمر يخطب الناس، وجمهور المسلمين في صخب واضطراب، فدخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ودموعه على لحيته، فكشف على وجه رسول الله وقبله، ثم رد الثوب على وجهه وخرج وعمر ما زال يخطب في الناس ويقول فيما يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
توفي، وأن رسول الله مات، والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات.
ولما خرج أبو بكر وسمعه يقول ذلك أقبل على الناس وعلى عمر، فقال له: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى عمر أن ينصت لشدة اضطرابه وعظم ما فيه، فلما رأى أبو بكر منه تلك الحكمة التفت إلى الناس وقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، والله تعالى يقول:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
1
فلما سمع الناس ذلك صفعوا وكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك هذه الآية حتى تلاها أبو بكر. قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت ساعتئذ أن النبي قد مات، وأراد أبو بكر وعمر أن يرجعا إلى بيت رسول الله، ولكنهما فوجئا بأن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون ويتذاكرون فيمن يخلف النبي، فتوجها إليهم.
الفصل الأول
في نسبه وأوليته وإسلامه
هو أبو بكر عبد الله عقيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب سعد بن تيم بن حرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ... بن معد بن عدنان. وأمه: هي أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن معد بن عدنان. وكان أبو قحافة من سادات قريش في الجاهلية، ولد سنة 83 قبل الهجرة، فنشأ سريا نبيلا تاجرا ذا مكانة رفيعة في قومه، فلما أعلن الرسول دعوته كان أبو بكر أول من أسلم، ولم يسلم أبوه إلا عام فتح مكة، وبايع رسول الله وكان قد كف بصره فجاء به ابنه يقوده إلى رسول الله، فلما رآه الرسول قادما قال لأبي بكر: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آت، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه. ثم مسح الرسول صدره، وكان رأس أبي قحافة أبيض كالثغامة، فقال: «غيروا هذا بشيء وجنبوه السواد»، فكان أبو قحافة أول مخضوب خضب في الإسلام. وأما أمه فهي ممن أسلمن قديما وبايعن النبي أيام الدعوة الأولى في دار الأرقم.
1
ولد أبو بكر لسنتين من مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكانا صديقين حميمين، تصادقا ولأبي بكر ثمان عشرة سنة وللنبي عشرون في تجارة إلى الشام، وكان لا يفارقه في أسفاره وحضره، وقد وصف أبو بكر بأنه كان أبيض البشرة نحيفا خفيف العارضين، منحنيا لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، معروقا غائر العينين ناتئ الجبهة عاري الأشاجع (أصول الأصابع)، يخضب بالحناء، وشب كما يشب نبلاء فتيان قريش كاتبا عالما بأنساب قومه عاقلا نبيلا وجيها رئيسا من رؤسائهم، وكانت إليه الأشناق، وهي من الديات، كان إذا تحمل شنقا صدقته قريش وأمضت حمالته، وإذا حملها غيره خذلوه ولم يقبلوه، وكان يتاجر بالبزر والمنسوجات، وبلغ رأسماله أربعين ألف درهم، وكان مشهورا بالعفة والاستقامة والأمانة، ولم يشرب الخمر قط.
ولما كانت الإرهاصات تأتي النبي قبل البعثة كان يقص ذلك على أبي بكر؛ فقد روى شرحبيل أن النبي كان إذا برز سمع من يناديه: «يا محمد»، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا، فأسر ذلك إلى أبي بكر، وكان رسول الله قد قال لخديجة: «إني إذا خلوت سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا»، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك أمرا؛ فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. ودخل أبو بكر مرة - وليس رسول الله موجودا - فذكرت خديجة له حديثه
صلى الله عليه وسلم ، وقالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلما دخل رسول الله أخذ أبو بكر بيده فانطلق به إلى ورقة، فقص عليه ما يسمع، فصار ورقة يثبته ويقول له: والله إن هذا هو الناموس الذي أنزله على نبيه موسى
صلى الله عليه وسلم .
ولما بعث الله محمدا برسالته كان أبو بكر أول من آمن به وصدقه، وأعلن إسلامه، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: لما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه فيما بلغني: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا، وكان هؤلاء مع علي وزيد وأبي بكر النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام وصدقوا رسول الله.
وكان أبو بكر قد اتخذ مسجدا بفناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن فيجتمع عليه الناس ويستمعون إلى قراءته وينظرون إلى صلاته وبكائه،
2
ولقد لقي أبو بكر على الرغم من مكانته كثيرا من عنت جهال قريش وسفهائها لإسلامه ولدفاعه عن النبي؛ فقد قالت أسماء بنت أبي بكر وقد قيل لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: كان المشركون قعدوا في المسجد الحرام فتذاكروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله المسجد، فقاموا إليه بأجمعهم يضربونه حتى غشي عليه، فأتى الصريخ أبا بكر فخرج فوجد رسول الله والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! فتركوا الرسول وتناولوا أبا بكر يضربونه، فرجع إلى أهله وهو لا يحس شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام،
3
ولما اشتد تعدي المشركين على رسول الله وأبي بكر أذن الرسول لصاحبه بالهجرة، فضاق بذلك أول الأمر، ثم قبل أن يهاجر نحو الحبشة، فلما بلغ قارة «برك الغماد»
4
لقيه سيد القارة المعروف بابن الدغنة، فسأله: أين تريد؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، إنك لتكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فارجع فاعبد ربك، فارتحل ابن الدغنة وأرجع أبا بكر، وكان ابن الدغنة في كفار قريش، وقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر ليعبد ربه في داره وليصل ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا.
فكان أبو بكر يصلي في مسجد داره ويقرأ القرآن، فتقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه ، وكان يكاد لا يملك دموعه حين يتلو القرآن ويرتله، فأفزع ذلك مشركي قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا أجرنا لك أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، فأعلن الصلاة، وخشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره خفية، وإن أبى فليرد ذمتك. فأتى ابن الدغنة أبا بكر وطلب منه ما طلبته قريش، فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله. ورجعت قريش تؤذيه، فتحمل ذلك صابرا محتسبا كل ما يلقاه في سبيل الله، إلى أن ضاق ذرعا بما يلقاه من أذى قريش، فاستأذن النبي في الهجرة، فقال له الرسول: على رسلك يا أبا بكر، فإني أرجو الله أن يأذن لي بها فنخرج معا، ففرح أبو بكر وقال: أوترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ فقال الرسول: نعم، ففرح أبو بكر وأخذ يعد عدة السفر وعلف راحلتين كانتا عنده.
وروي عن السيدة عائشة أنها قالت: بينما نحن جلوس يوما في بيتنا في الظهيرة إذ قال قائل لأبي: هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقبل متقبع، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبي: فداه أبي وأمي، إن به في هذه الساعة لأمرا. قالت: فجاء الرسول فاستأذن فدخل فقال لأبي: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي وأمي أنت، فقال الرسول: قد أذن لي بالخروج، فقال أبو بكر: فالصحبة بأبي وأمي أنت يا رسول الله، فقال الرسول: نعم، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، فخذ إحدى راحلتي هاتين، فقال الرسول: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب، وقطعت أسماء من نطاقها وأوكت به الجراب؛ ولذلك سميت: ذات النطاقين، ودخل رسول الله بغار في جبل ثور، ولحق به أبو بكر فمكثا فيه ثلاث ليال، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، وكان يدلج من عندهما سحرا فيصبح عند قريش كبائت بينهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
5
ولما قدم أبو بكر المدينة مع رسول الله كان عونه وعضده وسميره ووزيره، وكان لا يبخل عليه بماله، وينفق كل ما يملكه في سبيل الدعوة، وروى عروة بن الزبير قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفا أنفقها كلها على رسول الله وفي سبيل الله. وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر كل ماله معه وهو خمسة آلاف درهم أو ستة خرج بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.
وقد تجلت بطولة أبي بكر في شجاعته وتفانيه في نصرة الدعوة الإسلامية وفي تنظيمه لشئون المسلمين في دار الهجرة وفي الغزوات التي رافق النبي
صلى الله عليه وسلم
وأظهر فيها كل ضروب النبل والإخلاص والمروءة، وفي معاونته للنبي وحله للمشاكل والمعضلات التي كانت تعتوره، قال ابن خلدون: كان
صلى الله عليه وسلم
يفاوض أصحابه ويشاورهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى، فكان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في بلاد كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره.
6
الفصل الثاني
استخلافه وسيرته
توجه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة - وهي صفة مظللة كانوا يجتمعون فيها، وهي لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج
1 - وكان الأنصار قد اجتمعوا فيها يريدون مبايعة سعد بن عبادة الخزرجي سيد الأنصار، وأخذوا يتداولون في الأمر، وكان سعد بن عبادة يومئذ مريضا، فقال لابنه: إني لا أقدر أن أخطب وأسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعه إياهم، فقال بعد أن حمد الله: «يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن محمدا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله، ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حتى أثخن الله عز وجل لرسولكم بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.»
فأجاب كل الأنصار الدعوة وقالوا أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر؛ فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضي. ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم،
2
وطال جدل القوم في الأمر حتى قال بعضهم: نقول للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير.
فلما دخل أبو بكر وصاحباه عليهم أخذ يتكلم، فلم يترك شيئا نزل في الأنصار أو ذكره النبي
صلى الله عليه وسلم
من شأنهم إلا وذكره، ثم قال: «لقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا سلكت وادي الأنصار»، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم.
3
فقام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: يا معشر الأنصار، إن تقدموا قريشا اليوم يقدموكم إلى الخير يوم القيامة، فأنتم الأنصار وفيكم كتاب الأمر وإليكم الهجرة وفيكم أمر رسول الله، فاطلبوا رجلا تهابه قريش وتأمنه الأنصار، فقال الأنصار: ومن ذلك؟ فقال: سعد بن عبادة، فقالوا: فسعدا نريد.
ثم قام أسيد بن حصين الأوسي، وهو يومئذ من أثبات الأنصار وأهل الطاعة فيهم، فقال: يا معشر الأنصار، إنه قد عظمت نعمة الله عليكم أن سماكم الأنصار، وجعل فيكم الهجرة، وقبض فيكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، واجعلوا ذلك شكرا، فإن هذا الأمر في قريش دونكم ، فمن قدموه فقدموه، ومن أخروه فأخروه، فشتم الرجل واضطر أن يلحق بالمهاجرين.
ثم قام بشير بن سعد الخزرجي فقال: يا معشر الأنصار، إنما أنتم بالمهاجرين وإنما المهاجرون بكم، فإن كانت دعواكم حقا لم يعترض فيكم المهاجرون، وإن قلتم نصرنا وآوينا فما أعطاكم الله خير ما أعطيتم أنفسكم، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار يصلونها فبئس دار القرار، فشتم الرجل ولحق بالمهاجرين.
ثم قام عويمر بن ساعد الأنصاري فقال: يا معشر الأنصار، إن يكن الأمر فيكم دون قريش فانفردوا حتى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم فسلموا لهم بذلك، فوالله ما مات رسول الله حتى عرفنا أن أبا بكر خليفته حتى أمره أن يصلي بالناس ... فشتم الرجل أيضا فلحق بالمهاجرين.
ثم قام ثابت بن قيس - وهو يومئذ خطيب الأنصار - فقال: يا معشر المهاجرين، إن الله بعث محمدا فأقام بمكة، سمع الأذى والتكذيب، وأمره الله بالكف والصفح الجميل، ثم أمره بالهجرة وكتب عليه القتال، فنقله عن داره إلينا فكنا أنصاره، وكانت دارنا مهاجره، ثم قدمتم علينا فقاسمناكم معاشر المهاجرين الأموال، وأنزلناكم الديار، وكفيناكم العمل، وآثرناكم بالمرافق، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معاشر المهاجرين بضعة منا، وقد دقت إلينا من قومكم داقة، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار»، فاسلكوا شعب رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فقام حينئذ أبو بكر، فقال: أما ما ذكرتم من فضلكم فأنتم كذلك، ولكن العرب لا تقر بهذا الأمر إلا لقريش؛ لأنهم أوسط العرب دارا، وأنهم دعوة إبراهيم، وقد رضيت أحد هذين الرجلين: إما عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة بن الجراح.
فقام عمر وأهوى على يد أبي بكر ليبايعه، فضربها بشير بن سعد بيده وقال: والله لا بايعه أحد قبلي، ولا تخلف عن بيعته أنصاري من الخزرج والأوس فيضحك إليه سني. فلما رأى ذلك الأوس والخزرج بايعوا، وازدحم الناس على أبي بكر فبايعوه، وأراد عمر أن يتكلم، فقال له أبو بكر : على رسلك يا عمر، ثم قال: نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرمهم أحسابا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم وأوسطهم رحما من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنا عترته التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه، أسلمنا قبلكم وقدمنا في القرآن عليكم، وأنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا في العدد، وأنتم واسيتم فجزاكم الله خيرا، ونحن الأمراء وأنتم الوزراء، ألا لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، وأنتم محقون لا تنافسون على إخوانكم من المهاجرين ما ساقه الله إليهم من خلافة النبوة والقيام بأمر الإمامة، والسلام.
4
وتزعم الأوس أن أول من بايع أبا بكر هو بشير أبو النعمان، وتزعم الخزرج أنه أسيد بن حضير، فلما بايع أهل السقيفة أبا بكر ازدحم الناس عليه ليبايعوه، فقال قائل منهم: قتلتم سعدا - وكان جالسا متزملا بثوبه - فقال عمر: اقتلوه فإنه صاحب فتنة، وتدخل أبو بكر في الأمر، وانتهت الفتنة، وظل سعد منزويا في بيته ولم يبايع أبا بكر.
ثم اجتمعت جماعات الأوس والخزرج وبايعت أبا بكر، وأنكر على سعد بن عبادة وجماعته ما كانوا أجمعوا أمرهم عليه، وزفوا أبا بكر إلى المسجد فبايعه المهاجرون، ثم أقبل الأنصار والمهاجرون يتعاتبون في الأمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنكم وإن كنتم كما قلتم فليس فيكم مثل أبي بكر، ولا مثل عمر، ولا مثل أبي عبيدة، فقال زيد بن أرقم: ما ينكر فضل من ذكرت، وإن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة، وفينا من أمر الله رسوله أن يقرئه السلام: أبي بن كعب، وفينا من أمضى الله شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، وإن فيمن سميت من قريش لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد - يعني علي بن أبي طالب - ثم طال الجدال والعتاب بين الجانبين، وانتهت هذه الأزمة بسلام إلا ما كان من أمر أبي سفيان؛ فقد روى الطبري أن الناس لما اجتمعوا على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ وقال لعلي: يا أبا الحسن، أبسط يدك حتى أبايعك، فأبى علي، فجعل يتمثل بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خسف يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمحته
وذا يشج فلا يبكي له أحد
فزجره علي وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتن، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا، لا حاجة لنا في نصيحتك، وكان هذا كله قبل دفن الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أهله حجبوه عن الناس، فلما بايع الناس أبا بكر ورجع إلى المسجد جلس على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا، وإن الله أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» فبايع المسلمون بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله .»
5
ولما أتم القوم الصلاة نظر أبو بكر في وجوه القوم فلم ير عليا فسأل عنه، وذهب زيد بن ثابت وجماعة من الأنصار فأتوا به إليه، فقال له: أنت ابن عم رسول الله وختنه، وأردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي: لا تثريب يا خليفة رسول الله، وكذلك فعل الزبير، ثم انصرف أبو بكر والقوم إلى دفن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما أتموا ذلك لزم علي بيته حينا من الدهر يترضى السيدة فاطمة حين لم يقض لها أبو بكر بما طالبت به من مال أبيها، وظلت غضبى إلى أن ماتت، فبعث علي إلى أبي بكر: ائتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما يعلم من شدته، فقال عمر: لا تأته وحدك، فقال أبو بكر: لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي؟ فانطلق حتى دخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده، فقام علي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارا لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا ... ثم ذكر قرابته من رسول الله وحقه، فلم يزل يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر.
فلما صمت علي تشهد أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فوالله لقرابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أحب إلي أن أصلهم من قرابتي، وإني والله ما آلو بكم في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم على الحد، ولكن سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»، إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أذكر صنعة فيه إلا صنعته إن شاء الله تعالى، ثم قال علي: موعدك للبيعة العشية، فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر، فذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه وأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت.
6
وهكذا تمت البيعة لأبي بكر فقبلها وهو كاره، ولما رأى إجماع الناس على بيعته دعته نفسه إلى الاستقالة؛ فقد روي عن زيد بن أسلم أنه قال: دخل عمر على أبي بكر وهو آخذ بطرف لسانه: إن هذا أوردني الموارد، ثم قال: يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم، فقال عمر: والله لا نقيلك ولا نستقيلك؛ قدمك رسول الله، فمن ذا الذي يؤخرك؟ ولما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين.
الفصل الثالث
في أعماله، في خلافته
(1) تسيير بعث أسامة
أول عمل قام به أبو بكر بعد الفراغ من تجهيز الرسول ودفنه هو أنه أمر مناديه أن ينادي من الغد من متوفى الرسول
صلى الله عليه وسلم
ألا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة بن زيد الذي كان جهزه رسول الله إلا خرج إلى عسكره بالجرف قرب المدينة، ثم قام أبو بكر فخطب الناس بعد أن تجمعوا، فقال: «أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، ألا وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد والوجاء الوجاء ، والنجاء النجاء ، فإن وراءكم طالبا حثيثا أجلا مره سريع، احذروا الموت واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.»
ثم إنه اهتم في إنفاذ بعث أسامة، فقال له أصحابه: أما ترى ارتداد العرب عامة وخاصة؟ ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم
صلى الله عليه وسلم
وقلتهم وكثرة عدوهم، وأن هؤلاء جل العرب والمسلمين على ما ترى، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين! فقال لهم: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذنه.
وكان الرسول قد أعد هذا البعث إلى أبنى لفتح أطراف الشام، وجعل فيه بعض كبار الصحابة وأمر عليهم أسامة بن زيد، ولم يكن تجاوز آخرهم الخندق حتى بلغهم نبأ وفاة الرسول، فوقف أسامة، ثم بعث إلى خليفة رسول الله يستأذنه في أن يرجع بالناس، فقال له أبو بكر: لا بد والله من تسيير البعث، ثم إنه أخذ يعد العدة لتسيير البعث، فأعدها وخرج بنفسه يودع أسامة ويشيعه، ولما قدم على أسامة وهو بالجرف خطب الناس فقال: «أيها الناس، قفوا أوصكم: أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا ولا بقرة إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان من الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيوف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون.»
1
ثم أمره أن ينفذ كل ما أمره رسول الله به من أن يبدأ بقضاعة، ثم يأتي آبل، وألا يقصر في شيء من أمر الرسول ؛ فمضى أسامة مغذا على ذي المروة والوادي، وانتهى إلى ما أمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل، فسلم وغنم، وكان فراغه في أربعين يوما سوى مقامه ومنقلبه راجعا، وقد كان تسيير هذا البعث سياسة حكيمة وطدت أمر الإسلام وأرهبت أهل الردة والمشركين الذين قالوا: لو لم يكن أبو بكر على بصيرة من أمره وقوة من نفسه وكثرة من جنده لما بعث هذا البعث في مثل هذا الظرف. وقد صرف الله لسبب هذا البعث عن أبي بكر والمسلمين كثيرا من الفتن التي كان المشركون وأهل الردة يعدونها للفتك بالإسلام وأهله. (2) فتنة الردة وحروبها
مني الإسلام بفتنة عظمى بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن زعيم المسلمين أبو بكر هو المتولي لإخماد تلك الفتنة لعمت مصيبتها وفتكت بالإسلام، ولكن حكمة الصديق وعقله هما اللذان حالا دون تشتت كلمة الإسلام وتفرق أمر المسلمين؛ وذلك أنه لما بلغ الأعراب نبأ وفاة الرسول وانتشر المنافقون ومن في قلوبهم مرض يحرضون على الردة وترك الإسلام. كثر المرتدون عن الإسلام، وانقسموا قسمين: قسما خرج عن الإسلام بالمرة، وهم: بنو طي، وغطفان، وأسد؛ جماعة المتنبي طلحة بن خويلد الأسدي، وحنيفة؛ جماعة مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين تزعمهم الأسود العنسي؛ وقسما ظلوا على إسلامهم، ولكنهم عطلوا شعيرة الزكاة، وهم: بعض بني تميم وغيرهم بزعامة مالك بن نويرة، وقد اختلف بعض الصحابة مع أبي بكر في وجوب قتال القسم الثاني كالقسم الأول، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن هؤلاء كما أقاتل أولئك؛ لأن تعطيل الزكاة كتعطيل الصلاة وسائر شعائر الإسلام، وقال عمر: وكيف نقاتلهم وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني مالهم وأنفسهم»؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقا أو عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، وقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدري لما قال أبو بكر، فعلمت أنه الحق، ثم إن أبا بكر شمر لقتال هؤلاء المرتدين والقضاء على هذه الفتنة.
وكان سبب ارتداد أكثر العرب أنهم كانوا يظنون أن الرسول حي خالد لن يموت، وأنه سفير الله يبلغه أوامره ونواهيه، وأنه معصوم عن كل خطأ وزلل وموت، فلما انتقل الرسول إلى جوار ربه طاش صوابهم، وأخذ بعض شياطين العرب الطامعين في الملك والسلطان ينشرون الفتن بين الناس، ويكررون ما كان قاله شاعر المرتدين الخطيل بن أوس أخو الحطيئة:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
ثم إن جماعة من هؤلاء الطامعين أخذوا يشيعون في قبائلهم أن قريشا تريد أن تستعبد الناس وأن تجعل النبوة ملكا لها تتوارثه في أبنائها، وقد تجلى شيء من هذا الخوف في يوم السقيفة كما أسلفنا، ولكن حزم أبي بكر ورصانة الأنصار وطهارة قلوبهم وعمق الإيمان في قلوبهم جعل هذه الفتنة قصيرة الأمد، فاستسلمت أصحابها لأمر أبي بكر وخضعت للأمر الواقع، ولكن أعراب الأطراف وزعماء النواحي الطامعين لم يقبلوا بهذا الأمر الواقع فاستغلوها فرصة لشق عصا الطاعة وتفريق كلمة المسلمين.
وأول من شق العصا هم بنو عبس وذبيان؛ فإنهم خرجوا من ديارهم بنجد وجبل طيء، وساروا نحو المدينة حتى نزلوا بالأبرق وذي القصة، وبعثوا وفدا منهم إلى أبي بكر يطلبون إليه أن يعفيهم من الزكاة، وأن يقتصروا على أركان الإسلام الأربعة الباقية، فلما سمع أبو بكر مقالتهم اشتد غضبه وعزم على حربهم، وقال: والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. ثم رجع الوفد إلى أصحابهم وأخبروهم بقلة من في المدينة من الرجال؛ لأن بعث أسامة لم يكن قد عاد بعد، وأحس أبو بكر بسليم فطرته أن القوم يبيتون أمرا، فجعل على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، ودعا الناس إلى المسجد، وقال لهم: «إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد. وكان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا.» فما لبث المرتدون إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم ردءا، فلما بلغوا الأنقاب قاتلهم أهلها، وبلغ الخبر أبا بكر فبعث إلى أمراء الأنقاب أن الزموا أماكنكم، ثم خرج في أهل المدينة على النواضح - وهي إبل السقي - فلما علم المرتدون بقدوم أبي بكر هربوا، فتبعهم المسلمون إلى أن بلغوا وادي «ذي خشب»، فخرج عليهم الردء الذين خلفهم المرتدون بذي حسى والتقى الجمعان، وكادت الدائرة تدور على المرتدين لولا أنهم لجئوا إلى حيلة غريبة، هي أنهم نفخوا الأنحاء - أي القرب - التي كانت معهم وجعلوا فيها الحبال، ثم أخذوا يدهدهونها بأرجلهم في وجوه الإبل، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر الإبل من شيء مثل نفارها من الأنحاء - فثارت الإبل وقفلت راجعة بالمسلمين حتى دخلت بهم المدينة، ولكن لم يقتل من المسلمين أحد ولا صرع، وفي ذلك يقول الخطيل بن أوس أخو الحطيئة الشاعر:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي
عشية يحدي بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدي بالرجال فهبنه
إلى قدر ما أن تقيم ولا تسري
ولله أجناد تذاق مذاقه
لتحسب فيما عد من عجب الدهر
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وخدنا بزمانه
وهلا خشيتم حس راعية البكر
وإن التي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى إلي من التمر
وقد ظن المرتدون بالمسلمين في المدينة الضعف والانكسار، فبعثوا إلى إخوانهم بالخبر وتجمعوا كلهم يريدون احتلال المدينة والقضاء على أبي بكر، ولكن لما أدرك الليل المسلمين أخذ أبو بكر يعبئ جمعه، ثم خرج بهم في أعجاز الليل، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فوضع المسلمون السيوف في المرتدين حتى ولوهم الأدبار، ثم رجعوا إلى المدينة، فلم يلبث أسامة بن زيد أن رجع من غزاته ، فرحب به أبو بكر وهنأه واستخلفه على المدينة وترك معه جنده ليستريحوا في المدينة، وخرج هو قاصدا «ذا خشب» و«ذا القصة» حتى بلغ الربذة فقاتل من فيها من المرتدين وهزمهم وأسر منهم جماعة، وكان الحطيئة الشاعر فيمن أسر، وأظهر أبو بكر من ضروب البطولة في هذه الحملة ما دهش له المسلمون حتى قال له بعضهم: ننشدك الله يا خليفة رسول الله ألا تعرض نفسك للهلاك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا فإن أصيب أمرت آخر، فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي. فخرج حتى أتى بلاد ذبيان وجعلها حمى لدواب المسلمين، ثم رجع إلى المدينة حتى إذا استراح جيش أسامة وثاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة
2
معسكرا بها، وعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا، وهم: (1)
سيف الله خالد بن الوليد، ووجهه إلى طلحة بن خويلد الأسدي، فإذا فرغ منه قصد مالك بن نويرة بالبطاح. (2)
عكرمة بن أبي جهل، ووجهه إلى مسيلمة الكذاب باليمامة. (3)
شرحبيل بن حسنة، ووجهه في إثر عكرمة بن أبي جهل. (4)
المهاجر بن أبي أمية، ووجهه إلى جنود العنسي، ومعاونة الأبناء (الفرس) ثم يمضي إلى كندة. (5)
حذيفة بن محصن، ووجهه إلى أهل دبا. (6)
عرفجة بن هرثمة، ووجهه إلى أهل مهرة. (7)
سويد بن مقرن، ووجهه إلى تهامة باليمن. (8)
العلاء بن الحضرمي، ووجهه إلى البحرين. (9)
طريفة بن حاجز، ووجهه إلى بني سليم ومن معهم من هوازن. (10)
عمرو بن العاص، ووجهه إلى قضاعة. (11)
خالد بن سعيد بن العاص، ووجهه إلى عرب مشارف الشام.
3
ثم كتب لكل قائد من هؤلاء كتابا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان ... حيث بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهده إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام ، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة، لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.»
وبعث كتابا إلى كل من وجهه إلى قتالهم من المرتدين هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء، ونكفر من أبى ونجاهده.
أما بعد: فإن الله تعالى أرسل محمدا بالحق من عنده، إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفي رسول
صلى الله عليه وسلم
وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال:
إنك ميت وإنهم ميتون ، وقال:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ، وقال للمؤمنين:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه يجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاء به نبيكم
صلى الله عليه وسلم ، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه الله فهو مخذول، فمن هداه الله كان مهتديا، ومن أضله كان ضالا.
قال الله تعالى:
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يقبل منه في الآخرة عدل ولا صرف. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان.
قال الله تعالى:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ، وقال:
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .
وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه ، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإن أذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا اسألوا ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.»
4
وسير أبو بكر هذه الكتب قبل أن تسير الجيوش، ثم خرجت الجيوش كل أمير إلى جهته. (2-1) أجناس المرتدين وأحوالهم
خبر الأسود العنسي
هو عبهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي الملقب بذي الخمار، كان بطاشا جبارا عاتيا، أسلم لما قدمت وفود المسلمين على النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه ارتد في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ، فكان أول مرتد في الإسلام، ثم ادعى النبوة وأخذ يعمل المخاريق والأعاجيب، واستهوى نفرا من عوام العرب، واتبعته بنو مذحج، فتملك أكثر جنوبي بلاد العرب، وامتد نفوذه على أعراب تلك الضواحي، وبلغت أخباره إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكتب إلى من بقي على الإسلام من أهل اليمن يأمرهم بمحاربته والتحريض على قتله.
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد موت باذان الفارسي الذي استعمله على اليمن بعد إسلامه قد قسم اليمن في سنة 10ه إلى مقاطعات، جعل على كل مقاطعة أميرا، ففي صنعاء: «شهر بن باذان»، وفي مأرب: «أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري»، وفي بلاد همدان: «عامر بن شهر الهمداني»، وفي زبيد وبلاد عك والأشعريين: «الطاهر بن أبي هالة»، وفي نجران وزمع: «خالد بن سعيد بن العاص»، وفي نجران: «عمرو بن حزم»، وفي حضرموت: «زياد بن لبيد البياضي»، وفي بلاد السكاسك والسكون شمال حضرموت: «عكاشة بن ثور»، وفي بلاد بني معاوية: «المهاجر بن أبي أمية»، وفي الجند: «يعلى بن أمية».
وجعل معاذ بن جبل معلما ومفتيا للجميع ينتقل في كل بلد، فلما أظهر الأسود دعوته وأجابته بنو مذحج، وثب على نجران وأخرج عامليها: خالد بن سعيد، وعمرو بن حزم؛ فلحقا بالمدينة، ثم سار الأسود في سبعمائة من جماعته إلى صنعاء فقتل صاحبها شهر بن باذان، واستولى على المدينة، وتزوج بامرأته، ثم استولى على ما بين صنعاء وحضرموت من الجنوب إلى أعمال طائف من الشمال إلى البحرين من الشرق. وعظم أمره حتى هدد أكثر أمراء اليمن، وكاد يفتك بمعاذ بن جبل، فهرب منه حتى أتى أبا موسى الأشعري وهو ببلاد مأرب، فخرج معه وأتيا حضرموت، فنزل معاذ في السكاسك، ونزل أبو موسى في السكون، وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عك.
فلما بلغت هذه الأنباء مسامع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أرسل إلى من بقي في اليمن من أمراء المسلمين والأبناء أن يجتمعوا على قتاله وقتله إما غيلة وإما مصادمة، فقام بذلك من الأبناء: فيروز، وداذويه، ومعاذ، والطاهر، وجمعوا قواهم واهتموا بقتاله، ثم إنهم اتفقوا مع امرأته التي كانت تحت شهر بن باذان فسهلت لهم الوصول إليه، ودخل عليه فيروز فقتله ليلا، ولما أصبح فيروز نادى بشعار المسلمين، وهو الأذان، فوقعت الفتنة وانقسم الناس قسمين: قسما ظل على ردته، وقسما رجع إلى الإسلام، وتقاتل الفريقان، لكن الغلبة كانت للمسلمين، فرجع عمال رسول الله إلى بلادهم، وأقام معاذ بن جبل في صنعاء يصلي بالناس.
وبعثوا وفدا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ينبئه بما جرى، فلم يصل الوفد إلى المدينة حتى علم بوفاة الرسول، وكانت هذه أول بشارة قدمت على أبي بكر الصديق،
5
ولما بلغت أهل اليمن وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قوي عزم من أبطن الكفر، وأعلنوا خروجهم على الإسلام بزعامة أحد قادة الأسود وهو «قيس بن عبد يغوث»، فأخذ يكاتب المنهزمين من جماعات الأسود، فانضووا تحت لوائه، وأراد الفتك بزعماء أهل اليمن فدعاهم إلى وليمة وهو يبطن الغدر بهم، وكان فيهم «فيروز» و«داذويه» و«جشيش» من الأبناء، فظفر بداذويه ونجا الآخران، فخرج قيس في أثرهما، فاحتميا بقبيلة حولان فحمتهما، واضطر قيس على الرجوع، فاحتل صنعاء واتخذها له مقرا، ففتك بأهلها وطرد من فيها من عيالات الأبناء وشردهم فهربوا في البر والبحر، وانتهب أموالهم وديارهم، فلما علم بذلك فيروز جمع له جمعا واستعان ببني عقيل وعك وسار إليه.
ثم إن أبا بكر سير إليه المهاجر بن أبي أمية، وعكرمة بن أبي جهل، فساعدا فيروز والأبناء على قتال قيس بن عبد يغوث وجنوده حتى انهزموا، وأسرا قيسا وعمرو بن معديكرب الزبيدي الذي كان ارتد وتبع الأسود، فسيراهما إلى أبي بكر، فلما دخلا عليه قال أبو بكر لقيس: يا قيس، قتلت عباد الله واتخذت المرتدين وليجة دون الله من دون المؤمنين؟ فأنكر قيس أن يكون قد فارق أمرا، كما أنكر أنه قتل داذويه، ولم يكن هناك دليل ظاهر على أنه قتله؛ لأن القتل كان خلسة، فتغاضى له أبو بكر عن دمه، ثم قال لعمرو بن معديكرب: وأنت يا عمرو! أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله، فقال: لا جرم، لأقبلن ولا أعود، ورجعا إلى عشائرهما مؤمنين صادقين.
ثم إن المهاجر بن أبي أمية أخذ يتتبع جنود الأسود وجماعته بكل مكان ويقتلهم حتى استأصل شأفتهم ولم يبق لهم من أثر، وكانت مدة الأسود منذ أن ظهر إلى أن هلك قرابة أربعة أشهر.
خبر طليحة بن خويلد الأسدي
كان طليحة بن خويلد الأسدي كاهنا طموحا ذكيا، ادعى النبوة في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
وتبعه بعض العرب واليهود، فاتخذ فلطقة (سميراء) من بلاد بني أسد مقرا لحركته، وبلغ أمره النبي
صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليه ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته والقضاء على فتنته، فسار إليه ولم يكد يصل إلى «سميراء» حتى بلغه خبر وفاة النبي الكريم، فرجع.
واستطار أمر طليحة، وانضم إليه جموع من قبائل غطفان وهوازن وغيرهما، وعظم شأنه، فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد في عدد كبير من مقاتلة المسلمين، فيهم بعض وجوه العرب أمثال عدي بن حاتم الطائي. ولما ساروا واستأذن عدي خالدا أن يتعجل ويدعو قومه إلى الرجوع إلى الإسلام ويتركوا طليحة، فسار إليهم ودعاهم، فأجابوه وتركوا طليحة وانضموا إلى جيش المسلمين، ودعا بني جديلة أحلاف طيء، فتركوا طليحة وانضموا إلى المسلمين.
وسار خالد حتى التقى بجموع بني أسد عند «بزاخة»، فقاتلهم قتالا شديدا، وكان طليحة متلفعا في كساء له بفناء بيته يتنبأ ويتكهن، والناس يقتتلون، فلما اشتد القتال جاء عيينة بن حصن الأسدي زعيم بني أسد إلى طليحة فقال له: هل جاءك جبريل؟ قال: لا، بعد. ثم رجع يقاتل حتى إذا بلغ القتال أشده رجع فسأله: هل جاءك جبريل؟ فقال طليحة: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: أظن أنه قد علم الله أنه سيكون حديثا لا تنساه. يا بني فزارة هكذا فانصرفوا؛ فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس، وقام طليحة فأخذ امرأته النوار وهرب بها حتى لحق بالشام، وارفضت جموعه وتغلب عليهم خالد فأرجعهم إلى حظيرة الإسلام.
إلا نفرا من بني غطفان التفوا حول سلمى بنت مالك بن حذيفة ب «الحوأب»، تزعمتهم وأعلنت ثورتها على الإسلام وأهله، فتوجه إليها خالد في كوكبة من المسلمين فقاتلها، وقتلها وهي راكبة على جمل دونه نحو مائة رجل. وهكذا انتهت الفتنة الأسدية التي شنها طليحة الذي ما علم بانتهاء الفتنة في دياره ودخول قومه في الإسلام حتى رجع فنزل في بني كلب وأعلن الإسلام، ولم يزل مقيما بينهم طول عهد أبي بكر، ثم خرج معتمرا، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به؟ خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام. ولما توفي أبو بكر وتولى عمر أتاه فبايعه واعتذر، وأبلى بلاء حسنا في فتوح العراق.
خبر مالك بن نويرة التميمي
لما أسلم بنو تميم أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
عليهم ستة من وجوههم، وهم: (1) الزبرقان بن بدر. (2) قيس بن عاصم. (3) صفوان بن صفوان. (4) مالك بن نويرة. (5) سبرة بن عمرو. (6) وكيع بن مالك. فأقاموا في حياة النبي يجيئون بصدقات قومهم إليه وينفذون أوامر الإسلام، إلى أن انتقل النبي إلى جوار ربه، فأعلن مالك بن نويرة ووكيع بن مالك ارتدادهما عن الإسلام، ومنعا إرسال زكاة قومهما إلى أبي بكر، وتبعه بعض قومه، وظل الآخرون على الإسلام، فأخذوا يختصمون فيما بينهم ويتقارعون بالسيوف والحراب.
وبينما هم كذلك جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد، وهي امرأة داهية نصرانية من بني تغلب، كانت تقيم مع قومها في الجزيرة، فلما علمت بوفاة النبي ادعت النبوة، وتبعها نفر من قومها وأوشاب العرب؛ حتى عظم جمعها، وأرادت أن تغزو أبا بكر في المدينة، فلما وصلت إلى ديار بني تميم دعت مالكا إلى الدخول في دينها، فدخل فيه، ووادعها وثناها عن غزو أبي بكر، وأغراها بقتال مسلمي تميم، فقاتلتهم وهزمتهم، ثم جمعت جموعها وسارت إلى الحجاز تريد المدينة، حتى إذا بلغت النباج اعترضتها جموع من تميم فحاربوها وقتلوا بعض رجالها وأسروا بعضهم وأسرت هي بعض رجالهم، ثم تحاجزوا على أن تطلق الأسرى ويطلقوا أسراهم وترجع فلا تجتاز ديارهم، فيئست بذلك من الوصول إلى المدينة وانقلبت إلى اليمامة.
أما بنو تميم فإنهم رجعوا إلى الإمام وندموا على فعلتهم إلا مالك بن نويرة، فإنه ظل مرتدا متحيرا حتى قدم عليه خالد بن الوليد في البطاح، فبث السرايا في النواحي، وأمرهم أن يدعوا الناس للإسلام وأن يأتوه بكل من لا يجيب إليه، وإن امتنع قتلوه، فكان من أمر مالك أن وقع أسيرا في يد بعض سرايا خالد، فجاءوا به مع نفر من بني ثعلبة، وقد اختلف رجال السرية في أقوالهم أمام خالد، فنفر قالوا إن مالكا وقومه قد أذنوا وصلوا، ونفر قالوا إنهم لم يفعلوا ذلك، فلما رأى خالد اختلاف القوم في أمرهم أمر بحبسهم، فحبسوا في ليلة باردة، وأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم، وكان في لغة كنانة أنهم إذا «أدثروا» الرجل فأدفئوه: قصدوا قتله، فظن القوم أنه أراد القتل، فقتل ضرار بن الأزور مالكا، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال امرأة مالك. ولما بلغت هذه الأخبار أبا بكر وسمع عمر بمقتل مالك وتزوج خالد بامرأته أشار على أبي بكر بمعاقبة خالد، وقال : إن في سيف خالد رهقا، فإن لم يكن هذا حقا، حق عليه أن نقيده. وأكثر عمر على أبي بكر في خالد، وكان أبو بكر لا يقيد من عماله، فقال لعمر: هيه يا عمر، تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، فأقبل وسأله عن الأمر فأخبره به، فعذره وعنفه في تزوج المرأة، ثم قدم متمم بن نويرة أخو مالك على أبي بكر ينشد أبا بكر دم أخيه ويطالبه برد السبي، فرد السبي إليه، وألح عمر على أبي بكر بعزل خالد، فقال أبو بكر: لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.
6
خبر مسيلمة الحنفي
كان مسيلمة الحنفي فيمن وفد من زعماء بني حنيفة على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأسلم، ولكنه ما لبث أن ارتد وادعى النبوة، وكتب إلى النبي كتابا يقول له فيه قد أوحي إليه، وأن جبريل نزل عليه يخبره بأن الله قد قاسمه النبوة مع محمد، وشاطره الملك والسيادة في جزيرة العرب. فكتب إليه الرسول كتابا نصه: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.» وكان ذلك عقب حجة الوداع، فاستمر مسيلمة في ضلاله، فبعث إليه النبي الكريم أحد وجوه بني حنيفة من المسلمين، وهو الرجال بن عنفوة، وكان ممن أسلم وتفقه وقرأ القرآن، فأمره الرسول بأن يأتي قومه بني حنيفة فيفقههم في الدين ويقرئهم القرآن، ويعلمهم أهداف الإسلام، ويشغب على مسيلمة ويشد أمر المسلمين، فما كان من مسيلمة إلا أن خدعه واجتذبه إلى جهته، فتابع مسيلمة وشهد له بالاشتراك في الرسالة مع النبي، فكان بهذه الشهادة أعظم فتنة على الإسلام من مسيلمة. ولم يلبث الرسول أن توفي فعظم أمر مسيلمة، وانضمت إليه جموع كثيرة من بني حنيفة والقبائل المجاورة لها. فلما استخلف أبو بكر وبعث القواد لمحاربة المرتدين بعث إليه بعكرمة بن أبي جهل وألحق به شرحبيل بن حسنة، فتعجل عكرمة في قتاله ولم ينتظر مجيء المدد إليه مع شرحبيل، فقاتله مسيلمة فهزمه وشتت شمل جموعه، وبلغت أخبار هذه الكسرة مسامع أبي بكر، فأمر خالد بن الوليد أن يتوجه إلى قتاله على رأس جيش كثيف فيه صناديد المسلمين من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى شرحبيل يأمره بانتظار خالد حتى يجتمعا على جنود مسيلمة التي تبلغ عدتها أربعين ألفا. فلما علم مسيلمة وبنو حنيفة بدنو خالد خرجوا فعسكروا في منتهى ريف اليمامة، وأخذوا يستنفرون الناس ويحرضون الشبان على حمل السلاح ضد خالد، فنفر معهم عدد كبير، ولما قدم خالد وشرحبيل التقى بسرية لبني حنيفة، فأمر خالد بقتل أفرادها إلا قائدها مجاعة بن مرارة، فإنه استبقاه لشرفه.
ثم إن خالدا سار حتى لقي حنيفة، فتقاتل الفريقان بشدة، وكادت الدائرة تدور على المسلمين حتى وصل المرتدون إلى فسطاط خالد، وأرادوا أخذ امرأته فمنعهم من ذلك مجاعة بن مرارة، وقال: نعم الحرة هي. ثم إن خالدا أخذ يحرض المسلمين ويدعوهم إلى الاستبسال، فأنزل الله سكينته على المسلمين، وحمل خالد حملة شديدة على المرتدين فردهم ناكصين على أدبارهم، ثم طلب مسيلمة للبراز فبرز إليه، فلما اشتد خالد عليه وكاد أن يفتك به فر هاربا وزال أصحابه عن أمكنتهم، ثم نادى خالد بجموع المسلمين أن يهجموا، فانقضوا على المرتدين واضطروهم على أن يدخلوا متحصنين في بستان مسيلمة الذي كان يسميه «حديقة الرحمن»، فقال البراء بن مالك أحد أبطال الأنصار: ألقوني عليهم، فألقوه، فقتل من على الباب وفتحه، فدخل المسلمون وأكثروا القتل في المرتدين، وأراد مسيلمة الفرار فلحق به وحشي - قاتل حمزة - فقتله، ثم تفرق بنو حنيفة وركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقال مجاعة لخالد: تعال أصالحك. ورأى خالد ما لحق بالمسلمين من التعب، وظن أن في حصون بني حنيفة رجالا وسلاحا، فجنح إلى الصلح مصالحة على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والسلاح وبستان ومزرعة من كل قرية، فأبوا، فصالحهم على الربع فصالحوه، وفتحت الحصون فلم يجد خالد فيها إلا النساء والمستضعفين، فقال لمجاعة: خدعتني! فقال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت. ثم إن أبا بكر بعث إليه بكتاب يأمره فيه إن ظفر ببني حنيفة بقتل كل محتلم منهم، فوفى لهم بصلحه ولم يغدر بهم، وبعث وفدا منهم إلى أبي بكر فأعلنوا إسلامهم، وأحسن إليهم أبو بكر وسألهم عن بعض أسجاع مسيلمة، فأسمعوه بعضها، كقوله: «يا ضفدع نقي نقي، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم معتدون.» فقال أبو بكر: سبحان الله، هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين يذهب بكم عن أحلامكم؟ ثم إنه ردهم إلى قومهم.
خبر ربيعة
كانت بلاد البحرين مقرا لقبائل بني عبد القيس، وبكر بن وائل من بني ربيعة، وكانوا قوما متحمسين، دعاهم الرسول إلى الإسلام فأسلموا، وأمر عليهم زعيمهم المنذر بن ساوى. فلما مات الرسول ومات بعده المنذر ارتدت قبائل البحرين، فأما بنو بكر فظلت على ردتها، وأما بنو عبد القيس فلم تلبث أن رجعت إلى الإسلام بفضل الجارود بن المعلى العبدي الذي ناقشهم، وأخذ يدعوهم بالحسنى ويقول لهم: «هل تعلمون أن الله بعث أنبياء قبل محمد؟ فقالوا: نعم. فقال: هل تعلمون أنهم أحياء أم ماتوا؟ فقالوا: قد ماتوا. فقال لهم: إن محمدا مثلهم قد مات، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.» فرجعوا معه إلى الدين وهدأت ثورتهم.
وكان زعيم بني بكر هو الحطم بن ضبيعة، وكان جبارا عاتيا، فأعلن ارتداده عن الإسلام، وأخذ يدعو إلى قتال أبي بكر ومنع الزكاة، فالتف حوله كثير من المنافقين والمرتدين، وسار بهم حتى نزل «القطيف» و«هجر»، فلقي رجال الجارود، فقاتلهم وآذاهم، ثم إن أبا بكر بعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ولحقه ثمامة بن أثال الحنفي في نفر من مسلمي بني حنيفة وقيس بن عاصم المنقري في قومه، وأتاه كثير من أهل اليمن، فسلك بهم الدهناء حتى كادوا أن يهلكوا ولكن الله سلم، وبلغ البحرين وحاصر المرتدين مدة شهر، وخندق كل فريق على نفسه وأخذوا يتبادلون القتال في النهار ، فإذا أمسوا رجع كل إلى خندقه، حتى إذا كانت ليلة سمع المسلمون منها جلبة وضوضاء في معسكر المرتدين، فبعث العلاء من يأتيه بحقيقة الخبر، فرجع الرسول فأخبره أن القوم سكارى، فعزم العلاء على أن يبيتهم تلك الليلة شر بيات، وهجم عليهم واضطرهم إلى الهرب نحو «دارين»، وهي إحدى جزر الخليج الفارسي، فعبر المسلمون البحر خلفهم سباحة وقاتلوهم هناك حتى ظفروا بهم وبمن انضم إليهم من الزط والسيابجة. وللعلاء بن الحضرمي خطبة رائعة في حضهم على اقتحام البحر، قال فيها: «إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين، وشرد الحرب في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم، فإن الله قد جمعهم ...» فقالوا له: نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولا ما بقينا، فارتحل وارتحلوا، وغنموا مغانم كثيرة من مال وسبي، وبلغ نفل الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلل بحره
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذي شق البحار فجاءنا
بأعجب من فلق البحار الأوائل
وكتب العلاء إلى أبي بكر يقول: «أما بعد فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضا لا ترى غواربه، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب، لنحمد الله ونمجده، فادع الله واستنصره لجنده وأعوان دينه.» فلما قرأ أبو بكر كتاب العلاء أخذ يحمد الله ويقول: «ما زالت العرب فيما تحدث عن بلدانها تقول: إن لقمان حين سئل عن الدهناء أيحتقرونها أو يدعونها؟ نهاهم وقال: لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون، وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها.»
7
خبر أهل عمان
أسلم أهل عمان في عهد النبي، فأمر عليهم الأخوين جيفرا وعبادا ابني الجلندي العماني، وظلا على أحسن سيرة إلى أن مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان في وجوه عمان رجل يسمى: لقيط بن مالك الأزدي، وكان يغار من الجلندي ويساميه، فلما مات رسول الله وارتدت العرب ادعى لقيط النبوة ، وتبعه كثير من أعراب الأزد وأهل عمان وأجلاف البادية، وكثرت جموعه فخافه ابنا الجلندي، ثم هاجمهما ففرا منه والتجآ إلى الجبال، وكاتبا أبا بكر بأمر لقيط، فبعث حذيفة بن محصن إلى عمان، وعرفجة بن هرثمة إلى مهرة، فلما وصلا كاتبا جيفرا فأمدهما بما يقدر عليه.
وبعث إليهما أبو بكر عكرمة بن أبي جهل مددا بعد هزيمته في اليمامة، فلحق بهما قبل أن يصلا عمان، فلما قاربوا الوصول إلى عمان لحق بهم جيفر في عسكره، واتخذوا «صمار» مقرا لهم، وأخذوا يعدون العدة للقاء لقيط في «دبا»، فالتقى جمعاهم واشتد القتال بين الطرفين، وكاد المسلمون ينهزمون لولا أن بني ناجية أمدتهم بأبطالها، فانهزم المشركون وانتصر المسلمون وغنموا وسبوا وبعثوا إلى أبي بكر بالخمس مع عرفجة، وأقام حذيفة بعمان يرتب أمور المسلمين ويسكن الناس، أما عكرمة فإنه خرج إلى «مهرة» ودعا أهلها إلى العودة إلى الإسلام، فقبل قسم ورفض قسم، فقاتل المرتدين وظفر عليهم وبعث بالخمس إلى أبي بكر.
8
خبر كندة
كانت كندة ممن ارتد عن الإسلام في عهد الأسود العنسي بسبب ما وقع بينهم وبين زياد بن لبيد في أمر فريضة من فرائض الصدقة، فقاتلهم زياد وهزمهم، فاتفقوا مع بني معاوية من كندة على منع إرسال الصدقة إلى المدينة، وأخذوا يحرضون بطون بني كندة على منع الصدقة، فانضموا إليهم إلا آل شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهم قالوا: إنه لقبيح بالأحرار التنقل، وإن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن ينتقلوا إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق إلى الباطل القبيح؟! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على ذلك. وانتقلا ونزلا مع زياد وقالا له: بيت القوم، فإن لم تفعل خشينا أن يتفرق القوم عنا. فبيتهم في محاجرهم فأصاب رؤساءهم فقتلهم، وهرب منهم جماعات. وعاد المسلمون بالغنائم والسبايا، فمروا على بني الحارث بن معاوية في ديارهم وفيهم الأشعث بن قيس، فخرج إليهم واستخلص السبي منهم، فكتب زياد إلى المهاجر بن أبي أمية يستحثه، فاستخلف المهاجر على جنده عكرمة بن أبي جهل ، ثم قدم على زياد بجيش كبير، فالتقوا ببني معاوية وبني الحارث، فهرب هؤلاء منهم وتحصنوا بالنجير - وهو من أقوى حصونهم - في حضرموت، وحصرهم المسلمون، وأظهر الأشعث بن قيس بطولة فائقة، ثم اضطر أن يطلب الصلح على أن يسلم الحصن بمن فيه على شريطة أن تؤمن تسعة نفر سماهم من الرؤساء، وكتب بذلك كتابا، ولكنه نسي أن يذكر نفسه، فدخل المسلمون الحصن وقتلوا المقاتلة، وغنموا وسبوا وأمنوا التسعة نفر، فإذا الأشعث ليس بينهم، فأراد المهاجر قتله ولكن أصحابه أشاروا عليه أن يكتب إلى أبي بكر في أمره، فأرسل إلى أبي بكر موثقا ليرى رأيه، فأطلقه أبو بكر وعفا عنه وزوجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في فتوح العراق كلها، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفين على راية كندة، وحضر معه موقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها إثر اتفاق الحسن ومعاوية.
وبعد؛ فهذه حركات فتنة الردة وأخبارها، وقد قضى عليها جميعها أبو بكر بعزمه وحزمه وصدق إيمانه وحسن اختياره للقادة الأبطال الذين بعث بهم للقضاء عليها. ولولا إيمان أبي بكر بسمو هدفه وشرف غايته لتخاذل أمام ذلك التيار المخيف من المرتدين الذين انقضوا على المسلمين يريدون أن يفتكوا بهم، وعلى الإسلام يريدون أن يهدموا أركانه. وقد كان هؤلاء المرتدون قسمين: قسما متعنتا ركبته العصبية الجاهلية فثار طامعا في أن يرجع إلى تقاليده الجاهلية، وهؤلاء طبقة الرؤساء وأصحاب المطامع، وقسما ضعيف الإيمان ينعق مع كل ناعق، رأى أولئك يحرضونه فاستجاب لهم، وقد ضرب له أولئك على وتر حساس وهو الوتر المالي، فتحمس للفكرة ودافع عنها وقاتل في سبيلها. ولكن قوة أبي بكر كانت أشد، فقضت عليهم وعلى فكرتهم الخبيثة.
هذه أسرار فتنة الردة، وأما ما يزعمه المستشرقون من أنها دليل على أن الإسلام قد قام بالسيف والإرهاب، وأن الخوف والنفاق هما اللذان أدخلاهم في الإسلام إلى آخر ما هنالك من ترهات يمليها التعصب؛ فكله باطل لا أصل له أبدا؛ لأن جمهرة أهل الردة لم يكفروا بالإسلام تماما ويرجعوا إلى دينهم الوثني القديم، وإنما طلبوا إسقاط فريضة الزكاة زاعمين أنها نوع من الإتاوة التي لم تطب نفسهم بأخذها منهم، على أن هناك نفرا ارتد عن الإسلام ارتدادا كاملا لا لأنه دخل فيه بالقوة، بل لأنه طمع في الملك والسيطرة، فحاول تلك المحاولة، ولكنه فشل فرجع عنها صاغرا تائبا. (3) أخبار الفتوح الإسلامية في عهده (3-1) فتوح العراق
معركة ذات السلاسل
بعد أن تم للصديق القضاء على فتنة الردة، وأرجع العرب إلى دين الله ووطد قواعد الإسلام في الجزيرة العربية، عزم على أن يتمم خطوات النبي الكريم في نشر راية الإسلام ولواء العروبة في الخافقين، ووجد أن مملكتي الفرس والروم هما أعظم الممالك المجاورة للعرب، وأن هاتين الدولتين قد طغتا واستعبدتا الناس، وأن كسرى أبرويز إمبراطور الفرس لما تلقى كتاب الرسول الكريم مزقه استكبارا وجبروتا، وبعث إلى عامله على اليمن - باذان - أن يبعث إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رجلين جلدين يأتيانه به، فتوجها إليه، ولما دخلا إلى المدينة وكلمهما رسول الله دعاهما إلى الإسلام، وأبان لهما أن عاقبة الظلم وخيمة، وأن كسرى ظالم قد علا في الأرض وطغا، وأن الله قد انتقم منه وسلط عليه ابنه شيرويه فقتله، وكان الأمر كما أخبر رسول الله، فلما تحقق الرجلان صدق قول الرسول أسلما.
ثم إن شيرويه بعد أن تسلطن بعث إلى باذان ألا يتعرض للرسول العربي، وكان ذلك بدء نشوء الإسلام في اليمن، وأسلم باذان فأبقاه الرسول في إمارته، وكانت اليمن أول بلاد خاضعة للفرس دخلت تحت لواء الإسلام، ثم تبعتها بلاد البحرين وبلاد عمان وكانتا تحت حماية الفرس أيضا. فلما مات رسول الله واستخلف أبو بكر وانتهى من فتنة الردة وكان سيف الله خالد بن الوليد هو أجل من أظهر جرأة على المرتدين في بلاد اليمامة حين بعثه الصديق إليها، ثم انتدبه ليكون أول من يضع الحجر الأساسي للبناء الإسلامي في بلاد العراق وديار فارس وما إليهما، ويرفع الراية الإسلامية في هاتيك الديار العريقة في الحضارة والعلم، الغريقة في الوثنية والجهالة، فكتب إلى خالد في المحرم من السنة الثانية عشرة أن يهيئ نفسه وجنده للمسير من اليمامة إلى بلاد العراق، فدخلها من أسفلها، كما كتب إلى عياض بن غنم أن يسير حتى يأتيها فيدخلها من أعلاها، وأيما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، فأخذ خالد يستعد للقاء العدو ويرتب جيشه، ولم يقبل أن يجند أحدا ممن كانوا قد ارتدوا عن الإسلام ولا أن يسافروا معه تلبية لأمر الخليفة الذي أمره ألا يكره أحدا من المجاهدين على السفر، كما أمره ألا يقبل سفر أحد من المرتدين سابقا معه؛ لأن رأيه ألا يستعان بمن ارتدوا على غزو أبدا، وأمره أن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وأن يتألف أهل فارس ومن كان في مملكتهم من الأمم. وهناك رواية للطبري تقول: إن خالدا قدم المدينة على أبي بكر، ثم خرج منها إلى العراق، ولكن الرواية الأولى هي الأشهر والأكثر وثوقا.
ومهما يكن من أمر، فإن خالدا سار نحو العراق وغرضه الحيرة عاصمة عرب الجزيرة حتى يسيطر عليها ويقضي على النفوذ الأعجمي في بلاد العرب. أما عياض بن غنم فإنه سار وهو بين النباج والحجاز، حتى أتى المصيخ ودخل العراق من أعلاه. وكتب أبو بكر إلى حرملة والمثنى بن حارثة ومن معهما أن ينضموا جميعا تحت إمرة خالد، فبعث إليهم خالد أن موعدهم الأبلة، فساروا جميعا إليها حتى اجتمعوا بخالد، فكان عدد أجنادهم ثمانية عشر ألفا، وجرت بين المسلمين وأهل تلك المواطن معارك نجملها في المباحث التالية:
كان على الأبلة هرمز الفارسي، فلما علم بمقدم العرب إليه كتب إلى كسرى شيرويه ينبئه بالخبر، وما عتم أن جاءه كتاب من خالد قبل أن يصل إليه يقول له فيه: «أما بعد فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك؛ فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما يحبون الحياة.» ثم إن خالدا فرق جنده ثلاث فرق: الأولى : عليها عثمان بن حارثة وقد سرحه قبله بيومين، والثانية: عليها عدي بن حاتم، وعاصم بن عمرو، والثالثة: عليها خالد نفسه، وتواعدوا جميعا أن تكون الحفير ملتقاهم.
ولما سار خالد علم أن هرمز سبقهم إلى الحفير في جموعه، فأمال خالد الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز فبادره إلى كاظمة وسيطر على الماء، وبقي المسلمون بلا ماء، فنادى خالد في المسلمين ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. ثم احتدم القتال، وأرسل الله سحابة فأغدرت ما وراء المسلمين فقواهم الله بها، ولما طال القتال برز هرمز طالبا خالدا للبراز، فنزل إليه خالد وتضاربا ضربتين، ثم احتضن خالد هرمز فقتله وانهزم الفرس، وركب المسلمون أكتاف الفرس إلى آخر الليل، وجمع خالد الأسلحة وفيها السلاسل، فكانت ألف رطل وقر بعير، فسميت تلك المعركة بذات السلاسل، وغنم خالد مغانم كثيرة، وبعث بالخمس وبالفيل الذي كان مع الفرس إلى أبي بكر، فلما قدم رسول خالد على أبي بكر ضج المسلمون فرحا وسجدوا لله شكرا.
ثم إن خالدا بعث حارثة في آثار فلول الفرس، وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليجمع له أموالها وخيراتها وسبيها، فأتاها معقل ونزلها وجمع الأموال والسبايا، وقد بلغ سهم الفارس يوم السلاسل ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
9
معركة المذار (الثني)
كان هرمز كتب إلى أردشير شيرويه ملك فارس يخبره عن خالد وبمسيره إليه، فأمده بالقائد قارن بن قريانس، وسيره من المدائن حتى إذا انتهى إلى المذار - وهي من أعظم مواطنهم الحصينة - بلغته هزيمة هرمز ولحق به المنهزمون، فجمعهم وحصن نفسه بالمذار، فسار إليه خالد، وانقض المسلمون على قادة الجيش الفارسي فمزقوهم وقتلوا صناديدهم وفرقوا جموعهم، وكانت مقتلة عظيمة فاز فيها المسلمون بنصر مؤزر ومغانم كثيرة، ولولا أن المياه حالت دون تخطي المسلمين للحقوا بفلولهم. وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء، ونفل من الأخماس أهل البلاد، وبعث ببقية الأخماس، ووفد وفدا مع سعد بن النعمان إلى أبي بكر.
وقد روى الطبري أن من قتل من الفرس في وقعة المذار كانوا ثلاثين ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى خالد على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا العراة وأشباه العراة. وقد عامل خالد الفلاحين أطيب معاملة عملا بوصية أبي بكر، فأبقى لهم أراضيهم، وحفظ لهم حقوقهم بعد أن أخذ منهم الجزية، وكان ذلك في صفر من السنة الثانية عشرة للهجرة.
معركة الولجة
بعد أن أتم خالد ترتيب أموره عقب فتح المذار بعث إليه أردشير بقائد قوي الشكيمة يدعى «أندرزغر»، ثم ألحق به القائد «بهمن جاذويه»، فسار «أندرزغر» حتى أتى كسكر، ثم سار نحو الولجة، وسار بهمن في طريق آخر وسط السواد، ولما بلغ خالدا قدوم هذين الجيشين عليه نادى المسلمين أن يتأهبوا ويحذروا ويتركوا الغفلة والاعتزاز، حتى إذا بلغ بهم «الولجة» تلقاه «أندرزغر»، فاقتتلوا أشد قتال حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، ثم إن الله ثبت جنده وأعانهم، فغلبوا الفرس وهزموهم وتفرقت جموعهم، وانهزم أندرزغر يهيم على وجهه والقوم من ورائه حتى مات عطشا، والمسلمون يتبعون الفرس وخالد يحثهم على اتباعهم، ويقول للعرب مرغبا إياهم ببلاد العجم، ومزهدا إياهم ببلاد العرب، فكان مما قاله: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكتب إلا للمعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف، حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.» حتى كتب الله النصر للعرب، وفتحت «بلاد الولجة»، وسار خالد بالفلاحين سيرته بهم في المذار فلم يقتلهم بل أبقاهم في أرضهم بعد أن أخذ الجزية، ولم يسب إلا ذراري المقاتلة ومن أعانهم من عرب بكر بن وائل الذين انضموا إليهم.
فتح أليس وأمغيشيا
رأينا أن خالدا أسر وسجن بعض ذراري المحاربين، وفيهم بعض العرب مثل ذراري بكر بن وائل؛ فغضب لهم قومهم البكريون وكاتبوا الفرس على الانتقام من خالد وأصحابه، واتعدوا «أليس» فاجتمعوا عندها بجيش كبير من الفرس والعرب، وكان على الفرس «بهمن روز» وعلى العرب عبد الأسود العجلي، وعلم خالد بمجمعهم، فسار إليهم حتى بلغ أليس، فتقدم جيشه ونادى: أين عبد الأسود؟ أين مالك بن خالد؟ فقال له خالد: يا ابن الخبيثة! ما جرأك علي من بينهم وليس فيك عزم ولا غناء؟ فضربه فقتله، فدهش العرب والأعاجم، ثم التقى الجمعان والمشركون يزيدهم كلبا وضراوة ما كانوا يتوقعون من قدوم «بهمن جاذويه» إليهم، فصادوا المسلمين، واشتد عليهم خالد، وهجم على القوم وهو يقول: «اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا أقدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم.» ثم إن الله أظفر خالدا وقومه بالمشركين فأعملوا سيوفهم وفتكوا بهم وأجروا دماءهم في النهر حتى صار ماؤه أحمر عبيطا، ولحق بهم جيش المسلمين وفتح أمغيشيا، ثم بعث خالد إلى أبي بكر يخبره بفتح «أليس» و«أمغيشيا» وبالخمس وبقدر الفيء وبعدة السبي، ولما دخل الرسول على أبي بكر مبشرا قال له: ما اسمك؟ قال: جندل، فقال أبو بكر:
نفس عصام سودت عصاما
وعودته الكر والإقداما
ثم أمر له بجائزة، وخطب أبو بكر في الناس، فكان فيما قاله لهم: «يا معشر قريش، عدا أسدكم على الأسد فغلبه، ولقد عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.»
10
فتح الحيرة
بعد أن تم لخالد فوزه في «أمغيشيا» سار إلى «الحيرة» في البر والفرات، فهدم المرازبة السدود، وأمرهم زعيمهم «أزادبه» وابنه أن يقطعوا مياه الفرات، فتوقفت سفن المسلمين واضطروا أن يخرجوا منها إلى البر، فجمع خالد جموعه وسار نحو جيش ابن «أزادبه» فتلقاه على فم الفرات عند بادقلى، واقتتل الجمعان أشد قتال حتى كان الفوز لخالد عند فرات بادقلى، ثم سار خالد حتى نزل بين الخورنق والنجف، ففر «أزادبه» لما بلغه من تفرق جيش ابنه وموت أردشير، فلحق به خالد حتى حاصر الحيرة والقصر الأبيض وقصر العدسيين وقصر بني مازن وقصر ابن بقيلة، وجعل على حصار كل واحد من هذه القصور قائدا يحاصر من فيه، فجعل على القصر الأبيض ضرار بن الأزور، وعلى قصر العدسيين ضرار بن الخطاب، وعلى قصر ابن مازن ضرار بن مقرن، وعلى قصر ابن بقيلة المتين بن حارثة الشيباني، وحاصر هو نفسه الحيرة، وأمر القادة أن يطلبوا إلى من في تلك القصور من المقاتلين التسليم والخضوع للإسلام ودفع الجزية، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولهم يوم وليلة يفكرون في الأمر، وقال لأمرائه: لا تمكنوا أعداءكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا تردوا المسلمين عن قتال عدوهم.
ولما مضى الأجل انقض عليهم المسلمون من كل صوب يرشقونهم بالسهام والحجارة والنبال حتى ضاق سكان القصور والمحاربون بالحصار، وضج أهل الأديار من القسيسين والرهبان المقيمين في الديور المجاورة بهذا الحصار، وصاحوا بأهل القصور: ما يقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا اختيار واحدة من الثلاث: الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فكفوا عنا حتى يقابل زعماؤنا زعيمكم، ثم خرج من القصور زعماؤهم، وهم: إياس بن قبيصة، وعدي بن عدي، وأخوه عمرو، وعمرو بن عبد المسيح الملقب ببقيلة، وحيري بن أكال، وذهبوا إلى خالد فخلا بأهل كل قصر على حدة، وبدأ بعدي فقال له ولمن معه: ويحكم، ما أنتم؟ أعرب، فما تنقمون من العرب؟ أو عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، ثم خيرهم بين الأمور الثلاثة، فاختاروا إعطاء الجزية، فقال خالد: تبا لكم! ويحكم! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها! ولكنهم أصروا على طلبهم فلم يعارضهم خالد، ثم استقبل الآخرين فكان من أمرهم ما كان من أمر عدي، ثم إن خالدا كتب لهم جميعا كتابا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة، وحيري بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به؛ عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسيهم، إلا من كان على غير ذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها، وسائحا تاركا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة، وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة.»
11
وفي وقائع الحيرة وما سبقها من الفتوح يقول القعقاع بن عمرو الشاعر:
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة
وأخرى بأثباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا
وبالثني قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت
على الحيرة الروعاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كان عرشهم
يميل به فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا
غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا
إلى الريف من أرض العريب المقانف
12
فتح السواد
لما تم لخالد فتح الحيرة والقصور، دخل الحيرة فصلى صلاة الفتح - وهي ثماني ركعات بتسليمة واحدة - ثم خطب الناس، فحمد الله وشجع المسلمين على الاستمرار في الفتح، وكان مما قاله في ذلك الحين قوله: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، ثم صيرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل «أليس».
ثم إنه بعث المقداد إلى ضواحي السواد، فعلم بذلك زعماؤها، فتقاطروا إليه يعلنون خضوعهم، وكان أول القادمين دهاقين الملطاطين، والدهقان زادن بن بهيش، ودهقان فرات سربا، فصالحوه على ما بين «الفلاليج» إلى «هرمز جرد» على ألفي ألف درهم، وأن للمسلمين ما كان لكسرى، وكتب لهم كتابا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهيش وصلوبا بن نسطوتا، إن لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل «البهقباذ» الأسفل والأوسط، على ألفي ألف تقبل في كل سنة في كل ذي يد سوى ما على «بانقيا وبسما»، وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين، وإنا قد أرضيناكم وأهل «البهقباذ الأسفل» ومن دخل معكم من أهل «البهقباذ الأوسط» على أموالكم، ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم . وشهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصية، وحنظلة بن الربيع، وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر.»
ثم بعث خالد عماله إلى أراضي السواد لينظموا أموره، كما بعث إلى أمراء فارس كتابا هذه صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم نفعل ذلك كان شرا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
وكتب إلى المرازبة كتابا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فالحمد لله الذي فض حدتكم، وفرق كلمتكم، وجفل كرمكم، وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا في الذمة وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.» وبعث خالد هذه الرسائل وأخذ يعد العدة ويرتب أموره، وبينما هو منصرف إلى ذلك جاءه خبر الحرب الأهلية تقع بين الفرس بعد موت ملكهم «أردشير» واختلاف أمراء البيت المالك فيما بينهم، فلما وصلتهم كتب خالد اجتمع الأمراء واتفقوا على تولية «فرخ زاد» والتفوا حوله، فأخذ ينظم أمورهم ويرتب جيوشهم لعله يستطيع أن يوقف الزحف الإسلامي المنحدر نحوهم.
فتح الأنبار
علم خالد بأن الفرس أخذوا يرتبون جيوشهم لوقف زحفه، فخرج بنفسه على رأس جيش كثيف يريد الأنبار، فلما وصلها تحصن صاحبها «شير زاد» بقلاعها وخندقها، فأحاط المسلمون بخندق المدينة وأخذوا يرامون المشركين، فقال خالد: إني أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا تتوخوا غيرها، فأخذ المسلمون يرمون عيون المشركين ففقئ أكثر من ألف عين، حتى سميت تلك الوقعة: وقعة «ذات العيون»، وتصايح القوم: «ذهبت عيون أهل الأنبار».
ثم هجم المسلمون على المدينة والتقوا بالمشركين عند الخندق، واشتد القتال وأحس المشركون بالفشل والانخذال، فطلب «شير زاد» من خالد أن يصالحه، فرفض الصلح وأبى إلا احتلال المدينة، فقاتل المشركون أشد قتال، فنحر خالد ضعاف إبل حبيشة ورماها في الخندق، ودخل الجانب الآخر من الخندق، ولما رأى «شير زاد» أن لا قبل له بخالد صالحه على ما أراد على أن يخلي سبيله ويلحقه بمأمنه، وألا يأخذ معه شيئا من المال والمتاع، فقبل خالد وخلى سبيله، فنجا «شير زاد» بنفسه ولحق ببهمن.
13
وقعة عين التمر
لما فرغ خالد من فتح الأنبار ورتب أموره فيها استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وفيها يومئذ «مهران بن بهرام جوبين» في جمع عظيم من الفرس، وجمع من العرب من بني التمر وتغلب وإياد عليهم عقة بن أبي عقة، فلما سمع المشركون بقدوم خالد إليهم قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا، فقال له: صدقت، دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم، فلما مضوا نحو خالد قالت الأعاجم لبهرام: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب؟ فقال: دعوني فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون. فاعترفوا له بفضل رأيه.
ثم إن عقة سار للقاء خالد، وبقي مهران في حصن عين التمر، ولما التقى الجمعان برز خالد لعقة فأخذه أسيرا وانهزمت صفوفه ووقع كثير منهم في الأسر، فلما بلغت هذه الأخبار أذن مهران ترك حصنه وفر في جنده، فدخل خالد الحصن وضرب أعناق أهل الحصن كما ضرب عنق عقة وأعناق جماعته من مشركي العرب الذين ناصروا الفرس ليؤدب بهم سائر العرب، وغنم كثيرا وسبى كثيرا، وكان فيمن وقع أسيرا: نصير أبو موسى بن نصير، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وسيرين أبو محمد بن سيرين، ثم إن خالدا بعث بالمغانم والخمس والسبايا إلى أبي بكر مع الوليد بن عقبة.
14
معارك دومة الجندل والحصيد وخنافس والمصيخ
استخلف خالد في عين التمر عويم بن الكاهل الأسلمي، وسار هو منجدا عباس بن غنم الذي لقي عنتا من أهل دومة الجندل ومن حولها من قبائل: بهراء وغسان وتنوخ والضجاغم، فلما بلغهم خبر مقدمه اجتمعوا فتشاوروا، فقال أكيدر بن عبد الملك أحد رؤسائهم: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن منه طائرا في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوه. وقال الجودي بن ربيعة ووديعة الكلبي وابن رمانس الكلبي: لا بد من قتاله. وأخذوا يعدون عدتهم حتى قدم عليهم فقاتلوه وقاتلهم، فهزمهم وضرب عنق الجودي، ثم أقام بدومة، وأرجع أحد قادته وهو الأقرع بن حابس إلى الأنبار.
ولم يلبث أعراب الجزيرة والفرات ودجلة الذين قتل إخوانهم في عين التمر ودومة الجندل إلا أن تجمعوا وتحالفوا على خالد انتقاما لعقة وغيره من وجوه العرب الذين قتلهم خالد، فاتخذوا منطقتي الحصيد وخنافس مكانا يجتمعون فيه ليهاجموا خاعلى السفر، كما أمره ألا يقبللدا في دومة، فلما تم جمعهم وانضم إليهم «روزبة» و«زرمهر» من قواد الفرس وسمع بذلك القعقاع خليفة خالد في الحيرة، فأرسل سريتين حالتا بين المشركين وبين الريف.
ثم قدم خالد إلى الحيرة، عندما بلغه الخبر، فبعث القعقاع وأبا ليلى بن فدكي ليلاقيا المشركين، فالتقى الجمعان وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، وقتل القائدان «روزبة» و«زرمهر»، وغنم المسلمون مغانم كثيرة جليلة، وتجمع فلال الفرس إلى المصيخ، وكان به بعض العرب، فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى بن فدكي أن يلاقياه على المصيخ في ساعة حددها لهم، فلما اجتمعوا هاجموا المشركين من العرب والعجم فغلبوهم، وأتم الله نصره لجنده.
15
معارك الثني والفراض وسائر الجزيرة
بعد أن تم لخالد نصره في المصيخ سار نحو ربيعة بن بجير التغلبي، وقومه من بني تغلب النازلين في بلاد الثني والبشر «ويسمى الزميل» أيضا، فأحاط بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم مغانم كثيرة ولم يكد يفلت منهم أحد، وكان خالد قد أقسم أن يبغتن تغلب في دارها ويفتك بها إن هي رفضت الإسلام. ثم إنه بعث بالخمر والسبايا إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف الشيباني وقسم النهب والسبايا، فاشترى الإمام علي بن أبي طالب بنت ربيعة بن بجير الثعلبي واستولدها، فولدت له عمر ورقية.
ثم قصد خالد الفراض، وهي تخوم الشام والعراق، وكان الوقت صيفا والحر شديدا والشهر رمضان، فأفطر خالد وأفطر المسلمون في تلك السفرة التي تواصلت فيها الغزوات وتوالت الفتوح، فلما بلغ الروم في الشام خبر قدومه عليهم اتفقوا هم والفرس المقيمين على الحدود أن يبلغوا خالدا وصحبه ويعملوا على الفتك به وتشتيت جمعه؛ فقد اغتاظوا من مقدمه غيظا شديدا، فجمعوا له الجموع واستمدوا بني تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم، وحجز الفرات بين الطرفين فقال بعضهم لبعض: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال خالد: بل اعبروا إلينا، فقالوا: تنحوا حتى نعبر، فقال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا، فعبروا إليه واقتتل الجانبان قتالا عظيما، واستطاع خالد أن يفرق جمعهم ويقتل منهم جمعا كبيرا، ويقال إن قتلى المشركين يوم الفراض كان مائة ألف.
16
ومهما كان العدد مبالغا فيه فإنه يدل على كثرة القتلى من الفرس والروم والعرب، وقد كانت المعركة في أواخر ذي القعدة سنة 12ه.
ولما أتم الله لخالد فوزه أذن للجيش في الرجوع إلى الحيرة، فجعل على الجيش عاصم بن عمرو، وأظهر أنه سيظل في الساقة، ولكنه مضى في نفر قليل من أصحابه إلى مكة يريد الحج في طريق غير مطروقة، فأتم حجه ورجع مسرعا إلى الحيرة فتلقى كتابا من أبي بكر يأمره بالتوجه إلى الشام.
17
أما بعد، فهذه فتوح سيف الله في العراق، وهي - كما رأينا - فتوح خاطفة، فاز بها المسلمون بفضل عزم خالد وحنكته العسكرية وجرأته؛ فقد كان يقود الجيوش ويتقدمها بنفسه، ويبارز قواد خصومه فيفتك بهم ويشتت جموعهم. ومما هو جدير بالذكر أن العراق لم يكن غريبا عن المسلمين؛ فإن كثيرا منهم زاروه في الجاهلية واتصلوا بأعرابه وتاجروا إليهم. وقد كان العرب المقيمون فيه من بني تغلب وبكر وربيعة ذوي صلات بعرب الحجاز ونجد لعلاقاتهم الاقتصادية والدينية الجاهلية، وكان المظنون أن هؤلاء العرب سيقفون مع إخوانهم من عرب الحجاز ضد الفرس لجامعة اللغة ورابطة الدم، ولكن الفرس تمكنوا من اجتذابهم إليهم ظنا منهم أنهم سيفيدونهم في تشتت شمل المسلمين، ولكن خاب ظنهم فانكسروا هم وحلفاؤهم أمام الفتح الإسلامي الكاسح. ولا عجب في ذلك؛ لأن جيش خالد كان مؤلفا من خير قبائل العرب، بل من أفاضل المهاجرين والأنصار الذين أبلوا أفضل البلاء في غزوات النبي الكريم وحروب الردة ممن لم يدخل في قلوبهم زيغ ولا مرض، ولا اعتورهم شك في صدق الدعوة الإسلامية والتفاني في نشر لوائها عاليا والاندفاع في الحماسة لها؛ فقد كان في جيش خالد جماعة من كبار الصحابة والقراء، وكان خالد يعتز بهم ويفخر بقيادتهم، ويسأل الله دوما أن ينصره ببركتهم.
ولما بعث إليه أبو بكر يعفيه من قيادة العراق وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة الشيباني ويتوجه إلى الشام أحضر خالد صحابة رسول الله الذين كانوا في جيشه وأراد الانفصال بهم إلى الشام، فلم يقبل المثنى بن حارثة، وقال لخالد: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر في استصحاب نصف الصحابة.
18
وقد كان لهؤلاء الصحابة الكرام، فضلا عن الفتح المادي للعراق، فتح روحي؛ فقد عملوا على نشر مبادئ الإسلام في المواطن التي حلوا فيها منذ زمن مبكر جدا. ويظهر أن قسما كبيرا من العرب وبعض الفرس - المقيمين في العراق - قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، ولم يستقم على النصرانية إلا تغلب أو بعضها ونفر من تنوخ وإياد.
ويحدثنا الطبري أن خالدا حين ندب إلى الشام استخلف المثنى بن حارثة على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم، ولما سار خالد إلى الشام خرج المثنى من الحيرة حتى أتى بابل، فلقيه جيش هرمز في جيش كبير من الفرس واقتتلا قتالا شديدا وانهزم هرمز، وبلغت أخباره مسامع الملك «شهريران بن أردشير»، فاغتم لذلك أشد الغم، ثم إنه مرض ولم يطل عهده حتى مات، وكثرت الاختلافات الداخلية في بلاده، وصار غربي الفرات كله تحت السيطرة الإسلامية فانشغلوا عن المسلمين. ولما تم للمثنى فتح بابل ونشر سلطانه على ما بقي من أراضي العراق معه تأخر عليه رسل أبي بكر، فاستخلف على جيشه بشير بن الخصاصية وتوجه إلى المدينة يستأذن أبا بكر في الاستعانة بمن حسنت سيرته من أهل الردة، فلما وصل المدينة وجد أن أبا بكر قد مرض، فلما دخل على أبي بكر رحب به، وقال لعمر: إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلكم مصيبته عن أمر دينكم ووصية ربكم؛ فقد رأيتني يوم وفاة رسول الله وما صنعته، وما أصيب الخلق بمثله، وإذا فتح الله على أهل الشام فاردد أهل العراق إلى عراقهم، فإنهم أهله وولاة أمره، وأهل الجرأة عليهم. ثم توفاه الله فعمل عمر بوصيته كما سنرى تفصيله بعد في الفصل الخاص بعهد عمر (رضي الله عنه). (3-2) فتوح الشام
توطئة عن بلاد الشام في أواخر عهد البيزنطيين
كانت بلاد الشام تحت السيطرة البيزنطية، وكانت في أواخر عهدهم في حالة سيئة من النواحي الاقتصادية والسياسية والدينية، وكان السكان يلاقون ويلات جساما من الطغاة البيزنطيين. وقد أحس جيرانهم الفرس بفساد البلاد فأخذوا يشنون عليها الغارة تلو الغارة للسيطرة عليها ووضعها تحت حمايتهم، وقد كان الربع الأول من القرن السابع الميلادي فترة مشئومة على بلاد الشام؛ لأنها أصبحت ميدانا للحروب بين الفرس والروم، وقد رأى عاهلا المملكتين أن يضعا حدا لتلك الحروب، فعقد «شيرويه» إمبراطور الفرس صلحا مع «هرقل» إمبراطور الروم في سنة 628م، ورد إليه جميع من كانوا في حوزته من أسرى الروم، كما أعاد إليه خشبة الصليب المقدس التي كان القائد الفارسي «سربار» أخذها في حملته على القدس في سنة 614م، وقد استبشر الروم بعودة خشبة الصليب المقدس كثيرا، واحتفلوا بذلك احتفالات باهرة وبالغوا في تكريم هرقل الذي تم ذلك على يديه، فأدخلوه القسطنطينية في مظهر بهيج واحتفال كبير، ورأى هرقل أن يزور القدس ليشكر الله على تلك النعمة، واتخذ يوم الرد عيدا كنسيا ما يزال النصارى في سورية من روم وموارنة يحتفلون به في كل يوم 14 أيلول.
19
ولما دخل هرقل القدس طرد جميع من فيها من اليهود وحرم عليهم أن يقربوا منها، وأن تكون مسافتهم بعيدة عنها ثلاثة أميال، وهكذا استطاع هرقل أن يعيد إلى البلاد بعض هدوئها وطمأنينتها، ولكنه ما عتم أن انغمس في اللهو والعسف؛ فقد اتخذ مدينة حمص الجميلة مباءة للهوه وفسقه، وعاد الناس يقاسون منه ومن حكامه ما كانوا يلاقون منهم من ذي قبل، وبينما كان أهل الشام يعانون الويلات من فساد الإدارة البيزنطية على يد هرقل وعصابته إذا هم يسمعون بأنباء السيل الإسلامي العربي في جنوب بلاد الشام أواخر عهد رسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
وأوائل عهد خليفته أبي بكر الصديق، ولم يكن أهل الشام والبيزنطيون يظنون أن وراء ذلك السيل الإسلامي العربي أهدافا عميقة، بل ظنوا أنه كبعض غارات البدو والأعراب الذين كانوا يشنون أمثال هذه الغزوات في بعض السنوات.
قال المطران الفاضل الدبس في «تاريخ سورية»: إن هرقل عاد بعد انتصاره على الفرس إلى ترفه وانغماسه بملاذه، وأتى حمص التي كان يؤمها يومئذ محبو الترف وترويح القلوب، وكان ذلك في مبادئ خلافة أبي بكر الصديق، وكان العرب يشنون الغارة على سورية فيزدريهم هرقل، ويحسب أنهم لا يطمعون بمناوأة من قهر الفرس، ورأى أبو بكر فتح سورية متيسرا، فجهز عسكرا وخطب فيهم عند سفرهم قائلا: إذا لقيكم العدو فقاتلوه مستبسلين، والموت أولى بكم من القهقرى، وأمر أبا عبيدة على الجيش، وكان عشرين ألف مقاتل، ولما سمع هرقل أخبار حملة العرب أتى إلى دمشق وبعث «سرجيوس» والي قيصرية بخمسة آلاف جندي ليوقف العرب عن المسير ويقاتلهم إذا اضطر إلى قتالهم فلم يكن مفر من القتال، ومحق العرب جنوده القلائل وأخذوه أسيرا ثم أماتوه وأحرزوا غنائم وعادوا.
20
توطئة عن الأعمال العسكرية في الشام
كان الرسول الكريم أول من فكر في فتح الشام؛ فقد رأينا أنه كتب إلى أمراء عرب الشام يدعوهم إلى الإسلام، كما بعث في جمادى الأول من السنة الثامنة مولاه زيد بن حارثة في ثلاثة آلاف مقاتل، ووجهتهم «مؤتة» - وهي أول مدينة سورية تتاخم الجزيرة العربية - ولما وصل «معان» علم أن الروم قد عبئوا له جيشا عظيما بقيادة هرقل، وأنهم قد نزلوا مآب «موآب» من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم والعرب اللخميين وجذام وبلقين وبهراء وبلي، فأقام زيد بن حارثة في «معان» يومين، ثم تذاكر مع صحبه في أمر الروم وجموعهم، فقال بعضهم: نكتب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، وأبى آخرون أن يكتبوا إليه
صلى الله عليه وسلم
لما في ذلك من إظهار الخوف، ومن هؤلاء: عبد الله بن رواحة الشاعر؛ فقد شجع الناس وقال لهم: يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة من أجله، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهوره وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، وفي ذلك يقول رضي الله عنه:
فلا وأبي مآب لنأتينها
وإن كانت بها عرب وروم
بذي لجب كأن البيض فيه
إذا برزت قوانسها النجوم
فعبأنا أعنتها فجاءت
عوابس والغبار لها بريم
فمضى الناس، والتقوا بالروم عند «مؤتة»، فأظهر المسلمون جرأة ما بعدها جرأة حتى قتل زيد وهو يحمل الراية التي عقدها رسول الله له، فتناولها جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقاتل عنها حتى إذا اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل حتى قتل، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد وينشد، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أرقم العجلاني، فقال: يا معشر الناس، اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء، فلما أخذ خالد الراية دافع القوم ثم انحاز وتحيز عنه حتى انصرف بالناس وانكفأ راجعا، ولولا دهاؤه وبراعته لأتى الروم على كل جيش المسلمين، ولكن الله سلم، ولما دنا الجيش من المدينة تلقاه الرسول والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر (رضي الله عنه)، فأتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، وجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فرار، يا فرار، فقال رسول الله: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار في سبيل الله إن شاء الله.
21
ولم يكد الرسول يستقر بعد فتح مكة والطائف حتى أخذ يعد العدة من جديد لغزو الشام والانتقام مما لقي المسلمون يوم «مؤتة»، ثم استنفر الناس لقتال الروم، وقد كان ذلك زمن عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه،
22
ولكن هذا كله لم يعق بين المسلمين وبين تلبية أمر المطاع الأمين
صلى الله عليه وسلم ، فلبوا دعوته وجمعوا لهذه الغزوة الأموال الكثيرة، وأنفق كبار أغنياء الصحابة أموالا جساما؛ فعثمان بن عفان أنفق في ذلك اليوم نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته، وكذلك فعل عبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد. ولما استتب برسول الله سفره وتم له ما يحتاج إليه في غزوته هذه وعزم على السفر، خلف عليا في أهله، واستخلف سباع بن عرفطة على المدينة، وسار في ثلاثين ألف مقاتل، ومر بالحجر حتى أتى «تبوك»، فلما وصلها أراح الجند وأخذ يستعد للقاء عدوه، فلما استقر هناك علمت أمراء النواحي العربية بمقدمه وعدده، فتوافدت عليه، وأول من قدم عليه «يحنة بن رؤبة» صاحب «أيلة»، فصالح رسول الله وأعطاه الجزية، ثم جاء أهل «جرباء» و«أذرح» فأعطوه الجزية، وكتب لكل كتابا.
ثم إن الرسول بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي أمير «دومة الجندل»، فلما قدم عليه صالحه وجاء به إلى رسول الله، فحقن دمه وخلى سبيله، ولم يقم الرسول في تبوك إلا بضع عشرة ليلة قفل بعدها إلى المدينة، ولم يستقر طويلا حتى أخذ يعد العدة ليبعث بأسامة بن زيد إلى الشام، وكان من أمره ما ذكرناه سابقا. ولما انتقل الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى الرفيق الأعلى واستخلف أبو بكر وأنفذ جيش أسامة فدخل الشام، ونفذ ما كان أمره به الرسول، رجع سالما غانما، ثم كان من أمر الردة ما ذكرناه. (4) تفصيل الأعمال العسكرية في عهده
بعد أن أطفأ أبو بكر نيران الردة رأى أن يتمم ما بدأ به رسول الله من نشر الدين الإسلامي في العراق والشام ومصر، فاختار أفضل القادة لهذا العمل الجليل ووجههم إلى الفتح، وكان أول عمل عسكري قام به في ديار الشام هو توجيهه بعث أسامة بن زيد بن حارثة إلى منطقة «أوبتي» وبلاد قضاعة في مشارف الشام للانتقام من قتلة زيد بن حارثة كما رأينا تفصيل ذلك في أخبار عهد الرسول. أما في عهد أبي بكر فقد رأينا أن أبا بكر عقد لواء لخالد بن سعيد بن العاص ووجهه إلى مشارف الشام، ولكن أبا بكر لم يلبث أن عزل خالد بن سعيد، وتضطرب الروايات في سبب هذا العزل، وفي القول بأن خالدا سار أو لم يسر.
23
ومهما يكن من أمر فإننا لم نسمع بشيء عن قيادة خالد بن سعيد في فتوح الشام الأولى.
يذكر أكثر المؤرخين أن أبا بكر عقد أربعة ألوية لفتح الشام في أول السنة الثالثة عشرة للهجرة،
24
بعد منصرفه من مكة إلى المدينة، وهي: «لواء» يزيد بن أبي سفيان بدلا من خالد بن سعيد، «ولواء» شرحبيل بن حسنة، وأمرهما أن يتخذا طريق تبوك فالبلقاء، «ولواء» عمرو بن العاص، وأمره أن يسير بقرب الشاطئ إلى أيلة، «ولواء» أبي عبيدة عامر بن الجراح، وكانت عدة كل لواء ثلاثة آلاف، ثم تتالت إليه النجدات حتى تبلغ سبعة آلاف، ويقول بعضهم: إن أبا عبيدة لم يسر في ذلك الحين بل أرسله أبو بكر نجدة للقواد في معركة اليرموك. ومهما يكن من أمر فإن أبا عبيدة لم يظهر إلا في معركة اليرموك.
25
سارت جيوش المسلمين نحو سورية ، وكان أول فتح تم على أيديهم هو فتح يزيد لتبوك؛ فقد دخلها ولم يلق فيها كبير عناء، ثم خلفها وراءه وسار حتى التلال التي تشرف على وادي عربة فعلم بمقدمهم البطريق سرجيوس قائد فلسطين المقيم في قيسارية «قيصرته»، فاستعد للقائه والتقى جمعاهما عند «وادي عربة» وانتصر يزيد واضطر سرجيوس إلى الانسحاب إلى غزة، فلحق به المسلمون وجرت بين الطرفين معركة كبرى في شباط سنة 634م عند «دائن» من أعمال «غزة» قتل فيها سرجيوس، وكاد المسلمون أن يفنوا الجيش البيزنطي، فطاش صواب البيزنطيين وبلغت أخبار انهزامهم إلى مسامع الإمبراطور هرقل، فأمر أخاه الأمير «تذارق» تيودوروس أمير حمص أن يسير في جحفل كبير إلى جنوبي دمشق ويحميها من العرب، كما أمر بعض القادة بحماية «القدس» و«قيصرية»، ويظهر أن عدم وجود خطة معينة للعرب في فتوح الشام جعل البيزنطيين يضطربون في الاستعداد لهم؛ لأن كل قائد عربي كان يرتاد المنطقة التي يراها صالحة لغزوه.
وكانت أعظم معركة جرت بين الطرفين هي معركة «أجنادين» في تموز سنة 634؛ فقد جمع البيزنطيون جموعهم ليلاقوا الفرق العربية التي أخذت تغزو ديارهم جنوبي فلسطين. ويظهر أن خالد بن الوليد قد شعر بأن القوم أخذوا يتجمعون للقائه، فكتب إلى أبي بكر يستنجده، فأجابه بأن يترك القيادة العراقية للمثنى بن حارثة ويتوجه نحو الشام كما أسلفنا، ولا نعرف بالضبط موعد سفر خالد ولا مقدار الجند الذي سار بهم من العراق إلى الشام ولا الطريق التي سلكها، أما عدد جنوده فالروايات تختلف في تقديرها بين العشرة آلاف وبين الخمسمائة، وأما موعد سفره فيقال: إنه كان في المحرم، ويقال: بل في ربيع الثاني من سنة 13ه، وأما الطريق التي سلكها من الحيرة إلى الشام فقد اختلفوا فيها جدا، ولعل أقرب تلك الروايات من الصحة ما يذكره الطبري بقوله: وجه أبو بكر خالد بن الوليد أميرا على الأمراء الذين بالشام، وضمهم إليه، فشخص خالد من الحيرة في ربيع الآخر سنة 13ه في ثمانمائة، ويقال: في خمسمائة، واستخلف على عمله المثنى بن حارثة ، فلقيه عدوه «بصدوداء» فظفر بهم، وخلف بها ابن حرام الأنصاري، ولقي جمعا «بالمصيخ» و«الحصيد» عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم وسبى وغنم، وسار ففوز من «قراقر» إلى «شوى»، فأغار على أهل «شوى» واكتسح أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني، ثم أتى «أرك» فصالحوه، وأتى «تدمر» فتحصنوا ثم صالحوه، ثم أتى «القريتين» فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى «حوارين» فقاتلهم فهزمهم وقتل وسبى، وأتى «فصم» فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وأتى «مرج راهط» فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، ووجه بسر بن أرطاة وحبيب بن مسلمة إلى «الغوطة» فأتوا «كنيسة» فسبوا الرجال والنساء وساقوا العمال إلى خالد.
26
ولما وصل خالد إلى الشام قصد «بصرى» حيث التقى بيزيد وشرحبيل وأبي عبيدة، فعاونهم على فتح «بصرى» صلحا، وكانت أول مدن الشام فتحت في عهد أبي بكر، ثم اتجه الجميع إلى الجنوب لينجدوا عمرو بن العاص في «وادي عربة»، على أن البيزنطيين لما علموا بقدوم الجيش الإسلامي غيروا أمكنتهم وقصدوا أجنادين. (4-1) معركة أجنادين
أجنادين (أجنابتين) كانت مدينة بين «الرملة» وبين «جبرين»،
27
وقد جمع البيزنطيون فيها قواتهم بقيادة «تيودوس» أخي الإمبراطور «هرقل»، ويختلف المؤرخون في عدد الجيش البيزنطي، فيقول البلاذري: إنه كان مؤلفا من مائة ألف محارب، ويذكر لامنس أنه بضعة آلاف، فيقول: «إن تلك الآلاف القليلة من حاميات المدن وبعض الجنود الإمبراطورية التي لم تدرب التدريب الكافي لم تكن تتوقع الهيبة في قلوب المسلمين.»
28
ولا ندري المصدر الذي نقل عنه لامنس هذا الخبر.
وقد كان التقاء المعسكرين في جمادى الأولى عام 13ه/تموز من عام 634م، وقد انتصر المسلمون على قوات «بيزنطية» التي اضطروها إلى التراجع للقدس، وتختلف المصادر العربية في ذكر القائد العربي لهذه المعركة، فبعضها يذكر أن القيادة كانت لأبي عبيدة؛ لأن أبا بكر حين بعثه جعله قائدا عاما لأمراء المسلمين في فتوح الشام، وبعضها يذكر أنها كانت لخالد. ومهما يكن من شيء فإن فوز المسلمين بهذه المعركة كان فوزا مؤزرا تشتت به شمل الروم البيزنطيين. (4-2) معركة اليرموك الخالدة
بعد أن ظفر المسلمون في معركة «أجنادين» واضطروا البزنطيين إلى التراجع للقدس وقيصرته أخذوا يعدون العدة لضربهم ضربة قاضية، ورأى خالد أن يحل قضية القيادة، فإنه لما وجد تفرق القيادات وسوء نتائج ذلك حشد القوم وخطبهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «إن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به، وبالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» فقالوا له: وما الرأي؟ قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله؛ فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقص منه إن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينفعكم عند الله ولا عند خليفة رسوله، هلموا فإن هؤلاء قد تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم.»
فأمروه وخرجت الروم في تعبئة لم ير الراءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تعبئها العرب قبلا، خرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، وكان القاضي أبا الدرداء والقاص أبا سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود،
29
وكان في الجيش عدد كبير من عظماء المسلمين بينهم ألف من الصحابة، ومائة من أهل بدر، وكان القاص أبو سفيان يقص بين الصفوف يحرضهم على القتال والاستشهاد، ويصيح: الله الله إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، ثم نشب القتال وتطارد الفرسان.
وبينما المعارك ناشبة جاء صاحب البريد من المدينة فسألوه عن الخبر، فلم يخبر إلا بالسلامة - وإنما جاء بموت أبي بكر الصديق واستخلاف عمر، وعزل خالد، وتأمير أبي عبيدة، ثم إنه أبلغ خالدا ذلك وأعطاه كتاب عمر، فأخذه وجعله في كفانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن تنتشر الفوضى، ثم إن خالدا اشتد في القتال والاستبسال حتى صلى المسلمون إيماء وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى دخل في جند العدو وبين صفوفهم، وصار بين خيلهم ورجلهم، فأدار الخيالة ظهورهم للمسلمين وهربوا إلى الصحراء، أما الرجالة فقد سقطوا بين يدي المسلمين، كأنما هدم بهم حائط، وغنم المسلمون مغانم كبيرة، حتى كان سهم الفارس ألفا وخمسمائة (رضي الله عنهم وأرضاهم)، وبعث فينا من يسير بنا لتطهير الأرض من المستعمرين والصهيونيين اليوم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير سبحانه.
الفصل الرابع
في وفاته ومناقبه وأسرته
حم الصديق لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، فلما اشتد عليه المرض دعا كبار الصحابة فاستشارهم في استخلاف عمر من بعده، بعد أن أمره بالصلاة فيهم مدة حماه، فقالوا له: الأمر ما رأيت يا خليفة رسول الله، وقال بعضهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظه؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفونني؟ خاب من تزور من أمركم بظلم، أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، ثم اضطجع وجاءه عثمان بن عفان، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجا منها وعند عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذاك الظن به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ولا علم لي بالغيب،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1
ثم إنه دعا عمر، فقال له: يا عمر، اتق الله، واعلم أن الله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يكون فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يكون إلا الباطل فيه أن يكون خفيفا، وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف ألا ألحق بهم، وإن الله ذكر أهل النار وذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنها، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون مع هؤلاء؛ ليكون الصدر راغبا راهبا، لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمته، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت، ولست تعجزه، وإن لم تحفظ وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت.
2
ويظهر أن بعض الطامعين في الخلافة قد تألموا من عهد أبي بكر لعمر، فأخذوا يتقولون بعض الأقاويل، ولما علم أبو بكر بذلك قال لعبد الرحمن بن عوف وقد دخل عليه يعوده: إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الآذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا، فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البحر.
فقال عبد الرحمن: خفض عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك في أمرك، وإنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك ، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا ولم تزل صالحا مصلحا، وإنك لا تأس على شيء من الدنيا.
فقال أبو بكر: أجل، إني لا آسى على شيء من الدنيا.
3
ثم إنه لما اشتد عليه الوجع قال لأهله: ردوا ما عندنا من مال المسلمين، فإني لا أحب من هذا المال شيئا، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا هي للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فادفعوا ذلك إلى عمر ولقوحا وعبدا وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم. فقال عمر: لقد أتعب من بعده. ثم إنه أوصى أن تغسله السيدة أسماء بنت عميس، وأن يدفنوه من ليلته، ولا ينتظروا به الغد، وأن يدفن إلى جانب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولما قارب أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أتته عائشة، فأرادت أن تكلمه في طلحة بن عبيد الله، فإذا هو يحشرج، فقالت: إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر، فقال لها: يا بنية أو غير ذلك،
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد .
ثم مات رضوان الله عليه وله ثلاث وستون سنة، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال، ولما بلغ النعي أباه وكان بمكة، فقال: رزء جليل، ولم يعش بعده إلا قرابة نصف سنة وله سبع وتسعون سنة.
4
ولما بلغ أهل المدينة نبأ موته ارتجت له أحياؤها بالبكاء كيوم قبض رسول الله، ورثاه عمر وعلي وعثمان وعائشة للناس. ومما قالته عائشة على القبر: نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلا بإعراضك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان أجل رزء بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رزؤك، وأعظمها فقدك، إن كتاب الله ليعد بالعزاء عنك، حسن العوض منك، فأنا أنتجز من الله موعده فيك بالصبر عليك، وأستعيضه منك بالدعاء لك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
5 (1) مناقبه
كان أبو بكر من أفاضل رجال قريش عقلا وعلما، وكان رسول الله يقدر ذلك فيه حتى قال مرة لحسان: إيت أبا بكر ، فإنه أعلم قريش بأنسابها حتى يمحص لك نسبي. وقال علي عليه السلام: كان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة، وكان يفتي ويشير بمحضر رسول الله فيقر الرسول فتاواه وشوراه، وكان الرسول يشهد له في كثير من المواطن بمناقبه الحميدة وحسن خلقه وسعة صدره وأخلاقه في حبه وحب الإسلام وتفانيه في ذلك، وفي كتب السنة والسيرة والمناقب كثير من الأحاديث والأخبار الموثوقة التي تشير إلى فضله وتعدد مزاياه ومناقبه، فمن ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : «أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا ذلك له.» وقوله
صلى الله عليه وسلم : «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر.» وقوله
صلى الله عليه وسلم : «نعم الرجل أبو بكر!» وروت عائشة أن أبواب داره
صلى الله عليه وسلم
كانت مفتحة، فأمر بها فسدت، غير باب أبي بكر، فقال: «سدوا أبوابنا غير باب أبي بكر.» وبلغه
صلى الله عليه وسلم
كلام بعضهم في ذلك، فقام فيهم خطيبا فقال: «أتقولون سد أبوابنا وترك باب خليله؟ ولو كان لي منكم خليل كان هو خليلي، ولكن خليلي الله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فقد واساني بنفسه وماله، وقال لي: صدقت، وقلتم: كذبت.»
6
وكان النبي الكريم يقدر بلاء أبي بكر في خدمة الإسلام في أيامه الأولى، ويذكر دوما فضله وحسن صحبته وبذله، ويقول: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر.» فلما سمع أبو بكر ذلك بكى، وقال: ما أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وقال
صلى الله عليه وسلم : ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله بها.
وعن عائشة، قالت: أنفق أبو بكر على النبي أربعين ألفا.
7
وروى عروة أنه أعتق سبعة ممن كانوا يعذبون في الله، منهم: بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وزبيرة، وأم عبيس، والنهدية، وابنتها، وجارية بن عمرو بن مؤمل، وكانوا كلهم من الأرقاء الذين أسلموا في الصدر الأول فأخذ أسيادهم يعذبونهم، فبلغ أبا بكر ذلك فاشتراهم وأعتقهم في سبيل الله. وأبرز ما ينبغي ذكره في مناقبه رضي الله عنه: شجاعته الخارقة وقت الأزمات؛ فقد كان لموقفه يوم بدر أثر حميد في تثبيت الإسلام، فقد دافع عن الرسول دفاع المستميت وحماه من سيوف المشركين، وكذلك كان لموقفه يوم الحديبية، فقد أبى أن يخضع لقريش.
وأجل موقف تظهر فيه قوة شجاعته وثباتة موقفه يوم موت رسول الله كما رأينا؛ فقد اضطرب المسلمون كلهم لذلك حتى عمر، ولولا أبو بكر لطاش سهم الناس، واختل أمر الإسلام، ولكن عقل أبي بكر وثباته هما اللذان وطدا أمر الإسلام وقضيا على روح الفوضى التي كادت أن تطغى يومئذ، وما موقفه يوم ارتدت العرب بعد موت الرسول بأقل من موقفه يوم مات، فلولاه لانهدم ركن من أركان الإسلام، ولكن عزمه الصادق ومحافظته على التقيد بأحكام الدين وحفظ سنن سيد المرسلين قد دفعاه إلى قتال المرتدين والمتقلبين، وبعث جيش أسامة لغزو الشام، وما كان أحد غير الصديق يقف بوجه تلك الصدمات ويتغلب عليها بإيمانه وإخلاصه وقوته وجده وعقله.
ومن أجل مناقبه: زهده وورعه؛ فقد كان متقللا في الدنيا، متتبعا سيرة الرسول في البعد عن الملاذ والشهوات، متكفيا بتناول الضروري من الطعام لتقوية بدنه في طاعة الله؛ فقد كان على الرغم مما فتح الله عليه وأفاء على البلاد والعباد من الأموال في عهده زاهدا في الدنيا ورعا عن زهرتها.
قال ابن عباس: مات النبي وعليه إحدى عشرة رقعة بعضها من أدم، ومات أبو بكر وعليه ثلاث عشرة رقعة بعضها من أدم، وقالت عائشة: قال لي أبي في مرض موته: يا بنية، إني كنت أتجر قريش وأكثرهم مالا، فلما شغلتني الإمارة رأيت أن أصيب من هذا المال، فأصبت هذه العباءة القطوانية وحلابا وعبدا، فإذا مت فأسرعي به إلى ابن الخطاب، يا بنيتي ثيابي هذه كفنيني بها، قالت: فبكيت وقلت: يا أبت، نحن أيسر من ذلك، فقال: غفر الله لك، وهل ذلك إلا المهل؟ فقالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب، فقال: يرحم الله أباك، لقد أحب ألا يترك لقائل مقالا، ولقد أتعب من بعده، رضي الله عنه.
عائشة تطري مناقب أبيها وتعددها
روى القاسم بن محمد قال: قالت عائشة تطري مناقب أبيها: لما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اشرأب النفاق وارتدت العرب، وعاد أصحاب محمد كأنهم معزى بحظيرة في حفش، علت وسادتها وأرخت ستارتها، فحمدت الله وصلت على نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت: أبي وما أبيه، والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف، وظل مديد، هيهات، كذبت الظنون، أنجح والله إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها، حتى حليته قلوبها، ثم استشرى في دينه، فما برحت شكيمته في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانصفت عليه نسوان مكة وولدانهم يسخرون منه ويهزءون به:
الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ، وأكبرت ذلك ورجالات قريش، فحنت قسيها، وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضا فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومضى على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا، واختار الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم
ما عنده، فلما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اضطرب حبل الدين ومرج أهله، وبغى الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نهزها - جمعت فرصها - وتحققت أطماعها، ولات حين يظنون، وأبو بكر الصديق بين أظهرهم فقام حاسرا مشمرا، ونشر الإسلام على عزه، ولم شعثه بطيه، وأقام أوده بثقافته حتى امذقر (تقطع) النفاق بوطأته، فلما انتاش (خلص) الدين بنقشه، وأراح الحق على أهله، وقرت الرءوس في كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حفرت منيته فسد ثلمته بنظره في الشدة والرحمة، ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملته وردت عليه، لقد أوحدت به فديخ الكفرة وفتخها (دوخها وقهرها)، وشرك الشرك شذر مذر، فأروني ماذا ترون، وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذا عدل فيكم؟ أم يوم ظعنه إذا نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ثم التفتت إلى الناس فقالت: سألتكم بالله هل أنكرتم مما قلت شيئا؟ قالوا: اللهم لا.
8 (2) أسرته
تزوج أبو بكر امرأتين في الجاهلية، وثلاثا في الإسلام، فأول امرأة تزوجها في الجاهلية هي قتيلة بنت عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر، فولدت له أكبر أولاده: «عبد الله» و«أسماء»، ثم تزوج أم رومان بنت عامر بن عميرة فولدت له «عائشة» و«عبد الرحمن»، وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس، وكانت قبله تحت جعفر بن أبي طالب، فولدت له «محمدا»، ثم تزوج حبيبة بنت خارجة بن زيد، فولدت له بعد وفاته «أم كلثوم».
أما ابنه عبد الله فهو أكبر أولاده، أسلم مع أبيه مبكرا، وشهد فتح «مكة» و«حنينا» و«الطائف» مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأصابه أبو محجن الثقفي بسهم في الطائف لم يؤذه في جنبه، وبقي إلى خلافة أبيه، وانتقض عليه سهم الطائف فقتله في شوال سنة 11ه، وصلى عليه أبوه، ودخل قبره أخوه عبد الرحمن وعمر وطلحة، وكان ذكيا عاملا شجاعا، قال عنه في «أسد الغابة»: وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر، ولا عقب له.
وأما عبد الرحمن فكان شاعرا شجاعا لبيبا، ولم يسلم إلا في هدنة الحديبية، وشهد بدرا وأحدا مع المشركين، وكان من الرماة الشجعان، وله مواقف جليلة في الجاهلية والإسلام، وشهد اليمامة مع خالد بن الوليد، وشهد وقعة الجمل مع أخته، وشهد فتوح إفريقية ومصر، وبعث إليه معاوية بأموال ليبايع يزيد فردها وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة ومات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد، وكان موته فجأة في سنة 53ه.
وأما محمد فهو أصغر أبنائه، ولد من أسماء بنت عميس في ذي القعدة سنة 10ه أثناء سفرها إلى الحج في حجة الوداع، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب، فنشأ محمد في حجر علي عليه السلام، وكان من الزهاد العباد الصلحاء، أقام بالمدينة بعد وفاة أبيه وطول خلافة عمر وعثمان، فولاه عثمان مصر، واتفق مقتل عثمان قبل وصول محمد إلى مصر، ثم شهد مع الإمام علي عليه السلام وقعتى الجمل وصفين، وولاه الإمام إمارة مصر فدخلها سنة 37ه، ولما اتفق الإمام ومعاوية على التحكيم وانتهى أمره إلى ما انتهى إليه، بعث معاوية بعمرو بن العاص فاحتل مصر واختفى محمد بن أبي بكر، فعرف معاوية بن خديج بمخبئه، فأمسك به وقتله وأحرقه في سنة 38ه، (رضي الله عنه).
وأما البنات فكبراهن «السيدة أسماء» الملقبة بذات النطاقين، تزوجها الزبير بن العوام، وولدت عدة أولاد، منهم: «عروة» وهو من فقهاء المدينة السبعة، و«عبد الله»، وقد عمرت طويلا حتى جاوزت المائة ولم يسقط لها سن، إلا أنها عميت آخر عمرها بعد مقتل ابنها عبد الله من كثرة بكائها عليه، وكانت سيدة جليلة فصيحة، حاضرة القلب واللب، ولها أخبار كثيرة تدل على عظم نفسها، ومن أشهر تلك الأخبار: خبرها مع الحجاج بعد مقتل ابنها عبد الله، وقد روي لها في صحيحي الإمامين: البخاري ومسلم نحو ستين حديثا.
ثم «السيدة عائشة» زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم الكلام عنها وعن فضلها وأثرها الجليل في الإسلام؛ فقد كانت من أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين والأدب والشعر والنسب والحديث وأشعار العرب، وأصغر البنات هي «السيدة أم كلثوم» ولدتها أمها بعد وفاة أبي بكر، ولما كبرت أراد عمر أن يتزوجها فلم يتم له ذلك، ثم تزوجها طلحة بن عبيد الله، (رضي الله عنهم جميعا).
9
الفصل الخامس
في أعماله الإدارية والتنظيمية
رأينا في القسم الأول من عصر الانطلاق أن النبي الكريم لم يمت حتى رتب شئون حكومته، ونظم أعمالها الإدارية والقانونية وما يتعلق بذلك من أحوال الجيش والسياسة والمال والقلم، وفصل ذلك تفصيلا لم يسبقنا إليه أحد ممن تعرض لتاريخ العهد النبوي فيما نعلم، ولا شك في أن الصديق العظيم قد سار على غرار النهج النبوي في طراز حكومته وأسلوب إدارته حذو القذة بالقذة؛ لأنه كان شديد الحرص على أن يقلد النبي
صلى الله عليه وسلم
في حركاته وسكناته وإرشاداته وإصلاحاته، ولا عجب! فإن حب أبي بكر للنبي وحب النبي لأبي بكر وتقاسمهما مشاكل الحياة وظروفها في السراء والضراء، كان حبا عجيبا، وكانت أخوتهما ومودتهما مضرب الأمثال.
نهج أبو بكر في تراتيب حكومته على الطريقة المحمدية، فتمم كل أمر شرع فيه الرسول، سواء أدرك الحكمة منه أو لم يدركها؛ فقد أرسل جيش أسامة إلى الشام وهو أحوج ما يكون إليه لقتال المرتدين، ولما أشار عليه بعض الصحابة بإيقاف ذلك الجيش قال: لا والله، لا أوقف بعثا عقد الرسول لواءه بيديه، ولما طلب إليه أن يغير القيادة وينزعها عن أسامة فيضعها في يد بعض شيوخ الصحابة لم يقبل ذلك وثار على من طلب إليه ذلك، فالنبي أدرى بمن يؤمر وأعرف بمن هو أهل للقيادة. قال أبو هريرة: والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف بعد النبي ما عبد الله، ثم كررها ثلاثا، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول الله وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب وقبض رسول الله وارتدت العرب حول المدينة فاجتمع عليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، أيتوجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب؟! فقال: والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
ما رددت جيشا جهزه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله، وأمر أسامة أن يمضي لوجهه ذلك، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، لكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام، وكان ذلك بفضل أبي بكر وحسن إدارته.
وإن أول ما يلاحظه المرء في إدارة أبي بكر هو مضاء عزمه، فإنه كان إذا ما حزبه أمر فكر فيه ودرسه من جميع نواحيه ثم قرر أمره، فإذا قرر لم يكد يغير، وهذه مزية من أجل مزايا رجال الأعمال والإدارة، فإن التردد والتراخي والاتكال على الآخرين مضيعة للوقت ومقتلة للمواهب، وما كان أبو بكر إلا عزوما حارفا، اتخذ من كتاب الله مرشدا ومن رسوله دليلا، ومن السنة المطهرة قائدا، فسير بذلك أعماله الإدارية فأتت على أحسن سبيل وأقوم نهج، رأى أن خالد بن الوليد سيف من سيوف الله، فسله على المشركين والمرتدين، وتناسى كل الهفوات التي كانت قد صدرت منه على الرغم من مخالفة بعض كبار الصحابة له في رأيه فيه، وعلى مقدمتهم عمر، فاستمسك أبو بكر بخالد وشجعه، وكان في ذلك الفوز للإسلام والنصر للعروبة.
وكان أبو بكر في إدارته مثال الرجل الكامل العاقل الفاضل، لم تؤثر عنه هفوة، ولا اتهم بمحاباة، ولا وقع في غلطة سوى ما قال هو عن نفسه؛ فقد روى الطبري أنه قال يوم موته: إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ووددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن ووددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي، وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين،
1
فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا.
أما اللاتي تركتهن: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه، ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مددا، ووددت أني كنت إن وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله، ومد يديه، ووددت أني كنت سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد؟ ووددت أني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة؛ فإن في نفسي فيها شيئا.
2
والحق أن في هذه الأمور التي عددها بعض المآخذ التي تؤخذ عليه في إدارته، ولكنه كان في ذلك كالمجتهد الذي اجتهد وحاول وسعه أن يصل إلى الصواب فلم يصب الهدف، وسنحاول في المباحث الآتية تبيين بعض الأعمال التي قام بها أبو بكر في تنظيم الأعمال الإدارية، والتي حاول جهده أن يجعل حكومته تسير على المنهج المحمدي، وتسمو نحو الكمال الذي دعا إليه الإسلام، فيما يلي: (1) الخلافة
تحمل أبو بكر أعباء الخلافة النبوية وهو كاره للقيام بهذا الحمل الثقيل، وقد رأينا قوله في ذلك وتأسفه على أنه قبله ولم يلح على أي من عمر أو أبي عبيدة أن يحمله، ويكون له وزيرا ومرشدا، ولكن الظرف الذي استخلف فيه والبيئة التي اضطرته على أن يقبل الخلافة كانا ظرفا وبيئة لهما حالة خاصة، وقد رأينا تفصيل ذلك وكيفية استخلاف أبي بكر في الفصل الذي عقدناه لقصة يوم السقيفة.
كان أبو بكر من عقلاء العرب والمطلعين على تقاليدهم وأعرافهم ومصطلحاتهم، واسع المعرفة بماضيهم، نافذ البصيرة في كشف حقائق حاضرهم، فلما أتيح له أن يتولى أمورهم سار فيهم سيرة عاقل حصيف، ودبر تدبير حازم رشيد، لم يخالف تعاليم الإسلام، ولكنه لم يهدم ما لم يخالفه الإسلام من تعاليم الجاهلية، وقد رأى أن رسول الله كان يستوحي ربه فيعلم أمته ويرشدها إلى السراط السوي، فلما ولي أبو بكر وانقطع الوحي الرباني أخذ خليفة النبي يستوحي القرآن والسنة النبوية، ويسترشد بهديهما في حل القضايا التي تلاقيها خلافة المسلمين، فهو لا يقطع بأمر إلا ويستفتي فيه كتاب الله، وقلبه، وكبار أصحاب رسول الله، وقد سار بسياسة الشورى لإقرار الإسلام إياها، ولموافقتها لروح العرب المحبة للديمقراطية، الكارهة للاستبداد، النافرة من الديكتاتورية، ولكنه كان مع حبه للديمقراطية والشورى كان يفكر فيما يشار عليه به ويناقشه، فإذا رآه صوابا سار بمقتضاه، وإذا رآه معوجا تحاشاه.
لقد رأى أبو بكر أن الخلافة - كما يدل عليها مصدر استقامتها - هي نيابة الرسول في «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية والراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.»
3
وهكذا سار أبو بكر بأمور المسلمين سياسة مطابقة لروح الشرع في أمور الدين، ولم يخالف روح الشرع في أمور الدنيا. ومما يدل على أن أبا بكر كان يعتقد أن الخلافة هي نيابة عن النبي في تنفيذ أحكام الشرع أن المسلمين حين أرادوا أن يلقبوه أول الأمر بلقب يميزونه به قالوا له: يا خليفة الله، كما كانوا يخاطبون محمدا بقولهم: يا نبي الله، فلم يرض بذلك، ونهاهم عن مخاطبته به، وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله. ويعلق الفيلسوف الإمام ابن خلدون على هذا بقوله: «لا بد أن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وأما الحاضر فلا.»
4
لذلك لقب أبو بكر بخليفة رسول الله؛ لأنه كان خلفه في تنفيذ أحكام الشرع وترتيب شئون الدولة الإسلامية، وكان عمر يلقب أول الأمر بخليفة خليفة رسول الله، ولكنهم رأوا أن ذلك اللقب طويل، فاختاروا لقب إمارة المسلمين كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
أما نظام الخلافة في عهد أبي بكر فهو وإن كان ذا مظهر انفرادي، فإنه لم يكن استبداديا ولا دكتاتوريا، وإنما كان نظاما شوريا انتخابيا، وكان أبو بكر لا يقطع أمرا دون استشارة كبار الصحابة، وبخاصة عمر وأبي عبيدة، ولم يكن سبب ذلك أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد تآمروا فيما بينهم قبل وفاة الرسول ويوم السقيفة على أن تكون الحكومة
Trimvirat ، وأن يتقاسم الثلاثة منافعها؛ فيكون أبو بكر للرئاسة وعمر للقضاء وأبو عبيدة للمال، كما يزعم بعض المستشرقين وعلى رأسهم القس اليسوعي لامنس، ولكن أبا بكر كان مشبعا بروح الإسلام الديمقراطية الشورية، فكان لا يقطع بأمر دون أخذ آراء أصحاب رسول الله، وبخاصة عمر وأبو عبيدة أو غيرهما من جلة المسلمين الأولين، أمثال: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وابن عباس، وخالد، وغيرهم، وإن هذا النظام الشوري الانتخابي الذي وضع الرسول أسسه ظل عليه أبو بكر، ثم سار عليه الخلفاء الراشدون حتى في عهد عثمان الذي يتهم بأنه كان مستبدا متسلطا، ولم ينقلب هذا النظام الشوري عن جادته إلا في عهد بني أمية وبني العباس، كما سنرى تفصيله بعد.
أما الطريقة التي تم بها استخلاف أبي بكر فقد كانت طريقة إسلامية ديمقراطية عربية بالشروط وعلى النحو الذي كان مألوفا لدى عرب الجاهلية والإسلام في انتخاب رئيس العشيرة، بأن يكون من أكرمهم بيتا، وأشرفهم نفسا، وأكبرهم سنا، وأكثرهم جودا وفضائل. يقول المؤرخ السير توماس أرنولد: «ويلاحظ أن انتخاب أبي بكر قد تم كما ينتخب شيخ القبيلة العربية؛ لأنه انتخاب يتفق والروح العربية.»
5
وأما الأسس التي وضعها أبو بكر دستورا لخلافته فتتجلى في خطبته الأولى يوم بويع البيعة العامة بقوله: «أيها الناس، قد وليت عليكم، ولست بخيركم ... إلخ»، ويمكننا إجمال مواد ذلك الدستور في النقاط التالية: (1)
إن الناس متساوون في كافة الحقوق والواجبات، وإنه لا قوي إلا صاحب الحق، ولا ضعيف إلا صاحب الباطل. (2)
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما ركنان من أركان الدولة. (3)
إن الأخلاق الفاضلة هي عماد الدولة. (4)
إن الجهاد فريضة محكمة. (5)
إن الخلافة العادلة الصالحة هي قوام كل شيء.
أما ما يتعلق بشئون الخلافة البكرية من حيث تراتيبها الديوانية والكتابية فإنه قد سار فيها على غرار سيرة الرسول الكريم، فرتب لها ديوانا تكتب فيه الرسائل التي تصدر عنه، فإما أن يكتبها هو بنفسه أو يستكتبها فتقرأ عليه، وكان عمر هو مستشار الدولة ووزيرها، وكان يتولى بالإضافة إلى ذلك شئون القضاء وتوزيع الزكاة، وكان أبو بكر يكاد لا يقطع في أمر دون أخذ رأي عمر فيه، ويليه في ذلك رأي أبي عبيدة، وكان عثمان بن عفان كاتب أبي بكر وصاحب رسائله، وكان يعتمد عليه في كتابة كل ما يتعلق بأمور الدولة وتنظيماتها ويعهد إليه بذلك، فيكتب إليه ما يشاء يقرؤه عليه ، فإن أقره بعث به، وإن رأى تغيير شيء فيه بدله كما يريد. وكان عثمان كاتبا زكنا، يلقف من أبي بكر ما يريد، ويتقبل منه ملاحظاته بصدر رحب، وكان أبو بكر معجبا بأمانته وصدقه، وقد بينا في الفصل الخاص بالكتابة في العهد النبوي أساليب الكتابة واصطلاحاتها، وطرق الكتابة وأنواعها. (2) الإمارة
ونريد بها إمارة السلم، وإمارة الحرب، وإمارة الحج، وهذه الوظائف كلها كانت على عهد الرسول - كما أسلفنا في الفصل الخاص بذلك - وقد كان لأبي بكر أمراء ولاهم المدن والأمصار المفتوحة، كما كان له أمراء ولاهم أمور الحرب والفتوح، وأوصاهم بالوصايا المفيدة الحكيمة التي اشتهر أمرها، وقد أبقى كذلك إمارة الحج، وقد كان يقوم بها بنفسه، يحج بالناس ويخطبهم، وكان تولاها في عهد الرسول حينما ولاه الحج بالناس في السنة التاسعة. (3) الشئون الإدارية
استمر أبو بكر في تنظيم الشئون الإدارية كما كانت على عهد الرسول، فإنه أبقى المسجد النبوي دارا للحكومة الإسلامية، وأبقى وظيفة الحجابة، يحجبه غلامه في المسجد النبوي عمن يريد ألا يراه إما لانشغاله بتدبير بعض أمور المسلمين الهامة، أو لانهماكه بإعداد الخطط والرسائل الخطيرة إلى أمرائه وعماله. وكان يتولى هو نفسه وظيفة الحسبة، ويتشدد على الناس في محافظة تعاليم الاحتساب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد رأينا أنه قد مضى على ذلك في دستوره الذي أعلنه للملأ في خطبته الأولى، وكان كثيرا ما يطلب إلى عمر - وهو المتولي لشئون القضاء - أن يعس بالناس، ويحفظ حقوقهم، ويحمي المظلومين، ويبطش بالظالمين. (4) الشئون العسكرية
اهتم الصديق بالأمور العسكرية اهتماما شديدا، وكان ذا ملكة عسكرية عجيبة؛ لأن الظروف التي أحاطت به والأزمات الخطيرة التي أحدقت بدولته قد حنكته وجعلته يعنى بهذه الناحية عناية شديدة، وكان لخالد بن الوليد، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، والمثنى بن حارثة، الذين وفقهم الله لفتح ديار الشام والعراق في أقصر وقت وبأقل كلفة، وما ذلك إلا لحسن انتقاء أبي بكر إياهم أولا، ولسلامة توجيهاته وإرشاداته ثانيا، وليس صحيحا ما يقال من أن عمر بن الخطاب هو أول من أوجد ديوان الجند، فقد رأينا أن ذلك الديوان قد شرع به في عهد الرسول الكريم، وأن أبا بكر قد استمر على الخطة المحمدية، ولكن عمر وسع ذلك ونظمه لأن الفتوحات قد توسعت في عهده بشكل كبير؛ فاضطر إلى ترتيبها وتكبيرها للإشراف على أحوال الجند، وتسجيل أسمائهم ومقدار مرتباتهم وإحصاء أعمالهم، لئلا تضيع بعض الحقوق وتضطرب الشئون. (5) الشئون المالية
تكلمنا في الفصل الخاص بالشئون المالية في أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم
على ما وصل إلينا من معلومات عن القضايا المالية، ونقضنا القول الذي يذهب إليه أكثر مؤرخي هذا العصر من أن بيت المال لم يوجد إلا في عهد عمر، وبينما هو قد كان موجودا أيام أبي بكر، كما نقلنا ذلك عن الجلال السيوطي في تاريخه نقلا عن سهل بن أبي خثيمة، وأنه كان في السنح حيث يسكن أبو بكر ثم نقله إلى المدينة، وأن أبا بكر لما مات دخل عبد الرحمن بن عوف وعثمان ففتحاه ولم يجدا فيه درهما ولا دينارا.
والحق أنه لا يعقل أصلا أن أبا بكر لم يتخذ بيت مال؛ لأنه اهتم بتجهيز الجيوش وتغذيتها بالمال والسلاح والكراع، وقد كانت موارد بيت المال في عهد أبي بكر هي بعينها التي كانت في عهد الرسول من صدقات وجزية وخراج وعشور وفيء.
الفصل السادس
في مشهوري رجال عصره
نبغ في عصر أبي بكر جمهرة من مشهوري رجال الإسلام في الحرب والعلم والسياسة، أمثال خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وأبي عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، والعلاء بن الحضرمي، وأسامة بن زيد، وأبي بن كعب، وغيرهم من عظماء الصحابة الذين علت أسماؤهم في العصر الصديقي، ونكتفي بترجمة بعضهم، فنذكر: (1) يزيد بن أبي سفيان
أبو سفيان: هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، ولد قبل عام الفيل بعشر سنين (57ق.ه) ومات سنة 33ه، وكان من وجوه قريش جاها ومالا ومكانة، وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها، وكان يخرج بنفسه أحيانا للتجارة، وكان إليه حمل راية الرؤساء، إذا حميت نار الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية - واسمها العقاب - في يده، وكان يقال: أفضل قريش عقلا في الجاهلية ثلاثة: أبو جهل، وأبو سفيان، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
كان من رؤساء المشركين يوم الأحزاب، ويوم أحد، وقد اختلف في تاريخ إسلامه، فقال أكثر المؤرخين: إنه أسلم يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وروى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: رأيت أبا سفيان يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل ويقول: يا نصر الله اقترب، وإنه كان يقف على الكراديس ويقول للناس: الله الله، فإنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك. ويقول بعض المؤرخين: إنه ظل كهفا للمنافقين منذ أسلم، فكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة، وإنه دخل على عثمان لما استخلف فقال له: قد جاءت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. فصاح به عثمان: قم عني، فعل الله بك ما فعل. ولكن يغلب على ظن المرء أن هذه أحاديث مدسوسة، فإن عليها صبغة الصبغة، والله أعلم.
وكان له من الولد «يزيد» و«معاوية» و«عتبة» وغيرهم.
أما يزيد فكان أفضلهم، وكان يقال له: يزيد الخير، أسلم يوم فتح مكة، وشهد حنينا، وأعطاه الرسول من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال، وكان أبو بكر يحترمه ويقدر جرأته وفضله، أرسله يوم بعث البعوث إلى فلسطين بعد عودته من الحج سنة اثنتي عشرة، فاشترك في فتوح فلسطين. ولما مات أبو بكر واستخلف عمر أمره على فلسطين ونواحيها، ولما مات أبو عبيدة أمير الشام ولى عمر مكانه معاذ بن جبل، فلما مات معاذ ولى عمر مكانه يزيد بن أبي سفيان ، فأحسن تصريف الأمور، وفتح ما بقي من فلسطين، وخصوصا قيسارية، أحصن مدن الروم. ولما مات يزيد خلفه أخوه معاوية، وكان ذلك سنة 19، وكان يزيد من دهاة العرب وعقلائهم، برزت مواهبه في الفتوح والإدارة، وإليه يرجع الفضل الأكبر في توطيد أركان الأمن في الشام ونشر الإسلام في ربوعه. (2) عمرو بن العاص
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو القرشي السهمي أبو عبد الله، وأمه النابغة سلمى بنت حرملة، ولد سنة 50ق.ه. وكان أبوه من وجهاء قريش وأشرافهم وتجارهم ودهاتهم، فنشأ عمرو على طريقة أبيه في النبل والدهاء، ولما ظهر الإسلام كان من أشد أعدائه الذين أرادوا هدمه والكيد له ونصر الشرك، ثم أسلس قياده وأعلن إسلامه، وقد اختلف في الوقت الذي أسلم فيه، فقيل: إنه أسلم في السنة الثامنة للهجرة قبل فتح مكة، وقيل: بل أسلم بين غزوة الحديبية وخيبر، وقيل: بل إنه أسلم في الحبشة، والأشهر أنه أسلم قبل فتح مكة، جاء هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة إلى النبي وهو في المدينة فأعلنوا إسلامهم، فقال الرسول لأصحابه حين نظر إليهم: «قد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها.» وقد أمره رسول الله على سرية سيرها نحو الشام، وقال له: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك في جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، فبعثه إلى أخوال أبيه العاص بن وائل السهمي من بلي القاطنين في مشارف الشام يدعوهم إلى الإسلام، وسار إليهم عمرو، فلما كان في الطريق بأرض جذام (عند ذات السلاسل) رأى أن المشركين قد جمعوا جموعهم عليه، فبعث إلى الرسول يستمده، فأمده بجيش فيه مائتان من المهاجرين والأنصار وأهل الشرف، ومنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقاتلوا وغنموا ورجعوا، ثم إن رسول الله ولاه على عمان، فلم يزل عليها إلى أن قبض رسول الله، وفي عهد عمر تولى فتوح فلسطين والأردن، وولاه عمر إياها بعد موت أميرها يزيد بن أبي سفيان.
ثم إن عمر جمع بلاد الشام كلها لمعاوية، واستدعى عمرا إلى المدينة، فأخذ عمرو يحبذ له أن يسيره لفتح مصر، فإن فتحها قوة للإسلام لغناها وخيراتها وضعف أهلها عن المدافعة، فكره عمر ذلك أول الأمر، وما زال عمرو يكرر له رغبته ويهون له الأمر حتى أذن له وعقد له لواء على ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل، وقال له: سر على بركة الله، فسار إليها وفتحها في السنة الثامنة عشرة صلحا، واستمر واليا عليها طوال عهد عمر، وفي عهد عثمان بقي فيها أربع سنين ثم عزل عنها بعبد الله سعد بن أبي سرح العامري، فكان ذلك بدء الشر بين عثمان وعمرو، ولم يقدم عمرو على الحجاز بل قصد فلسطين، وأقام فيها معتزلا، وربما أتى المدينة يثير الناس على عثمان وينفخ في نار الفتنة حتى قتل عثمان ووقعت الفتنة، فكتب إليه معاوية يستقدمه، فقدم عليه واتفق معه على الإمام علي، وشهد معركة صفين وكان أحد الحكمين، وخبره في ذلك معلوم، ولما تم الأمر لمعاوية ولاه مصر، فلم يزل عليها إلى أن مات سنة 43ه، وله نحو نيف وثمانين سنة.
كان عمرو من أذكياء الناس ودهاتهم وفصحائهم، وله شعر جيد، وخطب متوارثة، روى ابن عبد البر الأندلسي أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقال له ابنه عبد الله: لم تبكي! أجزعا من الموت؟ قال: لا والله، ولكن لما بعده، فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبته الرسول وفتوحه الشام، فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك، شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول شيء كافرا، فكنت أشد الناس على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلو مت يومئذ وجبت لي النار. فلما بايعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت عيني من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حياء منه، فلو مت يومئذ كنت قال الناس: هنيئا لعمرو، أسلم وكان على خير، ومات على خير أحواله، فترجى له الجنة. ثم بليت بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري أعلي أم لي؟ فإذا مت فلا تبكين علي باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار ، وشدوا علي إزاري فإني مخاصم، وشنوا علي التراب شنا، فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة، ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها بينكم أستأنس بكم
1 (ابن عبد البر في الاستيعاب). (3) العلاء بن الحضرمي
الحضرمي، واسمه عبد الله بن عماد (وقيل: عمار) الخزرجي، أصله من اليمن من أسرة نبيلة فاضلة، وكان هو على جانب عظيم من حسن الخلق والإقدام والإخلاص، أسلم منذ زمن مبكر، فأعجب النبي
صلى الله عليه وسلم
بعقله وفطنته وشجاعته، فبعث به إلى المنذر بن ساوى أحد أمراء البحرين في سرية فيها نفر من كبار الصحابة أمثال: خالد بن الوليد، وأمره إن أصابه شيء أن يكون الأمر من بعده لخالد بن الوليد، وأوصاه بوصية رائعة جمعت آداب الإسلام وتعاليمه وأحكامه وسياسته، وكتب للمنذر بن ساوى كتابا يقول فيه: «سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك إلى الإسلام، أسلم تسلم، يجعل الله لك ما تحب، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر.» فلما وصله كتاب رسول الله أكرمه وأحسن استقبال البعثة الإسلامية وأعلن إسلامه، وكتب إلى الرسول كتابا يقول فيه: «أما بعد يا رسول الله، فإني قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث في ذلك أمرك.»
فكتب إليه رسول الله كتابا يقول فيه: «أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية.» ثم بعث إليه بكتاب آخر جاء فيه: «سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني وسمعت ما فيه، فمن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا، ومن لم يعقل فعليه دينار من قيمة المعافري، والسلام ورحمة الله، يغفر الله لك ذلك.»
وقد استقر العلاء في بلاد البحرين عاملا عليها للنبي
صلى الله عليه وسلم
عند المنذر بن ساوى، فكان المندوب النبوي طوال عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وقد كتب إليه: «إلى العلاء بن الحضرمي: أما بعد فإني قد بعثت إلى المنذر بن ساوى من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور. والسلام.»،
2
ولما توفي النبي
صلى الله عليه وسلم
واستخلف أبو بكر أقر العلاء في عمله، وفي عهد عمر تولى البصرة، ولكنه مات قبل أن يصل إليها سنة 21 (رضي الله عنه ورحمه). (4) أبي بن كعب
هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري، من بني النجار، كان من العقلاء الأفاضل، اعتنق اليهودية قديما وتعمق في أخبارها، وعرف أسرارها حتى اعتبر من أحبارها، كما أنه قرأ كتب الديانات القديمة وعلوم الأولين، ولما ظهر الرسول بالإسلام صدقه وآمن به، وشهد العقبة الثانية، وبايع النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم شهد بدرا وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها، واتخذه النبي
صلى الله عليه وسلم
كاتبا للوحي، فاعتنى بالقرآن وحفظه وقراءته، وكان الرسول الكريم يقول: أقرؤكم أبي بن كعب.
وروى ابن عبد البر الأندلسي في كتاب الاستيعاب عن أبي أن النبي قال له: أمرت أن أقرأ عليك القرآن، فقال: يا رسول الله سماني لك ربك؟ فقال: نعم، فبكى أبي، وكان أحد فقهاء المدينة، وعلى جانب كبير من الأخلاق الفاضلة والمعلومات الغزيرة، كتب للنبي غير القرآن كثيرا من الرسائل. قال الواقدي: هو أول من كتب لرسول الله الوحي مقدمه المدينة، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: «وكتب فلان».
وفي عهد عمر رحل في فتوح الشام، وشهد وقعة الجابية مع عمر، وهو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، وقد أمره أبو بكر أن يجمع القرآن الكريم مع جماعة من قراء الصحابة، فقام بالعمل أحسن قيام، وكان ذلك الجمع أول جمع للقرآن.
وقد اختلف في سنة موته، والأكثر على أنه مات في خلافة عمر بن الخطاب سنة 19ه، وقيل: بل ظل إلى سنة 32ه، فمات في صدر خلافة عثمان، وله في صحيحي البخاري ومسلم 164 حديثا (رضي الله عنه ورحمه).
3 (5) أسامة بن زيد
هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب الكلبي، كان أبوه زيد مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد أصابه سباء في الجاهلية فاشتراه حكم بن حزام لخديجة بنت خويلد، فوهبته للنبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه تبناه بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين، وكان نظام التبني معروفا في الجاهلية، فطاف به على حلقات قريش وهو يقول: «هذا ابني وارثا وموروثا.» يشهدهم على ذلك، وصار اسمه: زيد بن محمد، فلما حرم الإسلام التبني انتسب إلى أبيه حارثة، وعظم بلاؤه في الإسلام، وكان الرسول يحبه ويحنو عليه، وقد زوجه مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، وكان الرسول لا يبعثه في سرية إلا أمره عليها، وجعل له الإمارة في غزوة مؤتة، فاستشهد فيها.
ولد أسامة في السنة السابعة قبل الهجرة في ولاء النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونشأ في بيته، فأحبه حبا شديدا، وكان ينظر إليه نظرته إلى سبطيه: الحسن والحسين، فشب في كنف الإسلام ورعايته، ولما هاجر الرسول إلى المدينة هاجر معه، وأمره وهو شاب لم يبلغ العشرين في السرية التي بعث بها بعد غزوة مؤتة للانتقام من المشركين الذين قتلوا أباه زيدا، ولم تفصل السرية بسبب وفاة النبي، فأرسله أبو بكر كما قدمنا تفصيل ذلك، ولما رجع منصورا قربه وأكرمه طوال عهده، ولما فرض عمر بن الخطاب للناس الأموال من بيت المال فرض لأسامة خمسة آلاف، وفرض لابن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه كان أحب لرسول الله من أبيك . ولما وقعت الفتنة بين الإمام علي ومعاوية اعتزل بعد مقتل عثمان إلى أن مات في أواخر أيام معاوية، فترك الحجاز وقصد الشام، وسكن المزة (مزة كلب) من أعمال دمشق، ورجع قبل وفاته ليسكن المدينة، ومات فيها «بالجرف»، وقد اختلف في سنة وفاته، وصحح ابن عبد البر أنه توفي سنة أربع وخمسين، وقيل: بل مات سنة 58 أو سنة 59.
4 (6) خالد بن الوليد
سيف الله خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي القرشي أبو سليمان، وأمه: لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان أبوه الوليد بن المغيرة من وجهاء قريش وسراتها، فورث ابنه خالد المجد عن أبيه، وكانت إليه في الجاهلية أعنة الخيل والقبة. قال ابن عبد البر: أما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان يكون على خيل قريش في الحروب. واختلف في وقت إسلامه وهجرته، فقيل: هاجر بعد الحديبية، وقيل: بل كان إسلامه بين الحديبية وخيبر، وقيل: بل كان سنة خمس بعد فراغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غزوة بني قريظة، وقيل: بل كان إسلامه سنة ثمان مع عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، والأشهر أنه أسلم بين غزوة الحديبية وخيبر؛ فقد كانت الحديبية في ذي القعدة سنة 6ه، وكانت خيبر في المحرم وصفر سنة 7ه، وأن خالدا وعمرو بن العاص وعثمان قدموا عليه بعد الحديبية إلى المدينة مسلمين، فرحب بهم، وقال لصحابته لما رآهم: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها.
ولم يزل خالد من وقت إسلامه إلى أن هلك محاربا في سبيل الله، مجاهدا في نصرة الدين، وكان له الفضل الأكبر في القضاء على فتنة الردة وفي فتوح العراق والشام، كما أسلفنا تفصيله. وشهد فتح مكة ويوم حنين، وبعثه النبي إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب «دومة الجندل»، ولما ولي عمر عزله عن قيادة جيوش الشام، وولاها أبا عبيدة؛ لأنه كان يأخذ عليه أشياء، منها قتله مالك بن نويرة في حروب الردة، ولما علم خالد بعزله لم يثن ذلك عن عزمه في الفتوح، واستمر يقاتل تحت إمرة أبي عبيدة إلى أن أتم الله على يديهما نصر دينه، وفتح هاتيك البلاد.
ومات خالد سنة 21ه أو سنة 22 بحمص، وقبره هناك، وقيل: بل مات بالمدينة، وكان خطيبا فصيحا يشبه عمر بن الخطاب في خلقه وصفته، وكان أبو بكر يعجب به جدا ويحبه ويقول: إن النساء عجزت أن تلد مثل خالد، رحمه الله ورضي عنه.
5
الخليفة الراشد الثاني: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
13-23ه/634-644م
الفصل الأول
في نسبه وأوليته في الجاهلية وثقافته
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي العدوي القرشي، وكنيته أبو حفص، ولقبه الفاروق، لقبه بذلك سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة المخزومية القرشية.
ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة،
1
وروى ابن عبد البر عنه أنه قال: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين،
2
وكان ذلك حوالي سنة أربعين قبل الهجرة.
وقد وصفه مترجمون من الحجازيين بأنه كان أبيض أمهق - وهو الذي لا يكون له دم ظاهر - طويلا جسيما، أصلع، أجلح - وهو الذي انحسر الشعر على جانبي رأسه - شديد حمرة العينين، خفيف العارضين، أعسر، يسر، كث اللحية، أشيبها.
3
وكان أبوه من أشراف قريش، وأكثرهم فضلا وجاها وعقلا، ولما ولد له عمر عني به فأحسن تأديبه، وعلمه ما يتعلم أبناء الأشراف في زمانه من القراءة والكتابة وحفظ أخبار قومه، ونشأ على أفضل ما ينشأ عليه أبناء قريش من البراعة في الفروسية وحفظ أخبار الأولين، والعرب وأشعارهم، ورواية مناقبهم ومفاخرهم، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال بعد العشرين من العمر رأت قريش فيه مزايا النبل والفضل والعقل، فعهدت إليه بمنصب من أجل مناصبها وهو «السفارة» للإصلاح بين القبائل، والتوسط في حل الخصومات التي تقع بينها وبين الآخرين لما وهبه الله سبحانه - على حداثة سنه - من العقل الراجح والفضل الواضح؛ فقد كان من أفاضل قومه، وأصحاب الرأي فيهم ، ونال ما نال عن جدارة واستحقاق لهذا المنصب الرفيع الذي هو أحد المناصب العشرة التي اختصت بها قريش دون سائر العرب، يتولاه من تقدمه لينوب عنها في عقد المعاهدات والإصلاح بين القبائل، والتوسط في الخصومات، وسائر أحوال المنافرات والمفاخرات.
قال ابن عبد البر: كان عمر من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية؛ وذلك أن قريشا كانت إذا وقعت بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرا ومفاخرا.
4
أما صناعته التي كان يتعاطاها بالإضافة إلى هذا العمل الرسمي - على حد تعبيرنا اليوم - فقد كانت في ضروب التجارة، وكان يذهب إلى الشام مع قريش في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء، ونقل عنه أنه لم يكن من كبار التجار، بل كان مقلا، ولكن ما عرف عنه من الأمانة والشرف جعله يتاجر كأكبر التجار؛ فإن الأمانة وحسن السمعة والشرف رأس مال عظيم.
5
أما ثقافته فقد كانت ثقافة لداته، وهي الإلمام بعلوم عصره من علم وأدب وبراعة بالشعر الجاهلي، أمثال الجاهلية وخطبها وأنسابها، وكان يحض شباب قومه على حفظ أخبار أسلافهم وعلومهم وآدابهم. ويروى عنه أنه قال لابنه عبد الرحمن: انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقا ولم يقترف أدبا. وكانت له آراء في نقد الشعر العربي القديم، وأحكام صائبة في شعراء الجاهلية والمعاصرين له، وكان يشجع الشعراء على قول الشعر الجزل الجامع لمكارم الأخلاق، كما يحض على تعلم تاريخ الجاهلية وأخبارها وأنسابها وأيامها، ويقول: تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبيط السواد، إذا سئل أحدهم عن أهله قال: أنا من قرية كذا. ويقول أيضا: عليكم بطرائف الأخبار فإنها من علم الملوك والسادة، وبها تنال المنزلة والحظوة عندهم.
ولما جاء الإسلام حفظ كثيرا من آي القرآن وأحاديث الرسول، واستعمل في ذلك عقله وفهمه وبصيرته، حتى بلغ في الاجتهاد والتشريع مبلغا لم يصل إليه أحد سوى كبار فقهاء عصره كأبي بكر وعلي، حتى قال عبد الله بن مسعود: كان عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله. وقال: لو أن علم عمر بن الخطاب في كفة ميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. وكانت له توجيهات كثيرة وإرشادات صائبة لطلاب العلم ورواد الفقه وعلوم القرآن وأخبار الرسول وسننه، وسنرى تفصيل ذلك حين كلامنا عن صفاته ومزاياه فيما بعد.
الفصل الثاني
في إسلامه وأحواله أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
(1) إسلامه
ظهرت الدعوة المحمدية ولعمر بن الخطاب نيف وعشرون سنة، وكان فتى قرشيا معتزا بعشيرته وتقاليدها، عنيفا في الحفاظ على أمجادها وآثارها، رأى آباءه يدينون بدين فاعتنقه، واشتدت حماسته لهذا الدين، وما عتم أن رأى ظهور فتى من قريش أخذ يهاجم هذا الدين، ويتهم عقول أصحابه ويطعن في عقيدتهم ويسفه أحلامهم، وكان عمر، على الرغم من إيمانه بشرف نفس صاحب الدعوة الجديدة وثقته بأمانته ونبل خلقه، يعز عليه أن يراه يهاجم قومه وينتقد دينهم الذي توارثوه عن الآباء والأجداد؛ ولذلك اشترك عمر في الحملة التي كان يشنها مناوئو محمد عليه، فانتقده وعذب الذين صبئوا عن دين قومهم، واشترك في الإساءة إلى القوم الذين بدلوا دينهم، ولكنه حين رآهم يخرجون من ديارهم وأموالهم، وينادون بسقوط من اضطروهم على الخروج ومغادرة مسقط رأسهم إلى أرض بعيدة ولكنهم سيأمنون فيها على دينهم، رأى ذلك كله فأشفق عليهم، ورثى لحالهم، وتألم كما يتألم كل فتى حيي القلب ناشط الوجدان، يرى أحرار قومه من أرباب العقيدة الجديدة يفضلون حياة التشرد على أن يبقوا في أرضهم ويتابعوا ضلالهم وفجارهم.
روى ابن هشام صاحب السيرة عن أم عبد الله بن حنتمة أنها قالت يوم الهجرة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي : إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله ... آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا. فقال: «صحبكم الله.» ورأيت منه رقة لم أرها قط.
ولقد تعددت الروايات في أسباب إسلام عمر، ولكنها كلها تتفق في شيء واحد، وهو أنه أراد أن يضع حدا لهذا التبلبل النفسي الذي سيطر عليه لما ظهر الإسلام وأخذت دعوة الرسول تنتشر في أرجاء مكة؛ فقد رأى أن بعض عقلاء قريش كأبي بكر بن أبي قحافة، وعلي بن أبي طالب، وخديجة بنت خويلد، وغيرهم من الأذكياء الأمناء قد دخلوا في الدين الجديد، ولا يعقل أن يكون كل هؤلاء قد صبئوا عن الدين القديم دون أن يناقشوا الدين الجديد ويمحصوه، ويتبنوا صدق ما جاء به صاحبه، فلا بد أن يكون ثمة شيء جديد جدير بالتفكير والدرس، ولكن عزة الجاهلية ونخوتها التعسفية كانتا تحولان دون سؤاله عن هذا الدين وسماعه لما جاء به محمد من القرآن والحكمة، إلى أن كانت حادثة أخته وإسلامها ودخوله عليها وهي ترتل القرآن، فقد روى أنس بن مالك قال: «خرج عمر يوما متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، فقال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدا، قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه! قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه؛ فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب بن الأرت، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال لهما: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟
قال: وكانوا يقرءون سورة «طه»، فقالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟ فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده فدمي وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل أو توضأ. فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب، فقرأ:
طه
حتى أتى إلى قوله سبحانه:
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري .
فقال عمر: دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر! فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك ليلة الخميس: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، وبعمرو بن هشام.» قال: ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الدار التي في أصل الصفا؛ فانطلق عمر حتى أتى الدار، قال: وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى حمزة وجل القوم من عمر، قال حمزة: نعم، فهذا عمر، وإن يرد الله خيرا بعمر يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي داخل يوحى إليه، فخرج رسول الله حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه: «أما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب.» فقال عمر: «أشهد أنك رسول الله!» فخرج القوم مستبشرين فكبروا تكبيرة حتى سمعت من مكة.»
1
وروي عن ابن عمر أنه قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أفشى للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد علي كلمة حتى قام عامدا إلى المسجد، فنادى أندية قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذبت، ولكن أسلمت وآمنت بالله وصدقت رسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم، وحتى فتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي، فقال: ما بكم؟ فقالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: فمه امرؤ اختار دينا لنفسه، أتظنون أن بني عدي يسلمون إليكم صاحبهم؟ قال: فكأنما كانوا ثوبا انكشف عنه.
فقال ابن عمر: فقلت لأبي بعد بالمدينة: يا أبت، من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني ذاك العاص بن وائل،
2
وروت عائشة أن عمر قال للنبي
صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال: «يا عمر إنا قليل.» فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيا لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه، فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. فوثب المشركون عليه، فوثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه، وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد، ثم خرج رسول الله وعمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومن معه،
3
ولما أسلم عمر كمل عدد المسلمين أربعين شخصا، فنزل جبريل على الرسول بقوله سبحانه:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .
وثمة رواية أخرى تروى عن عمر نفسه ذكرها ابن إسحاق، وهي قوله: إن عمر كان يقول: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة عند دور آل عمر بن عمر عبد المخزومي، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أني جئت فلانا، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت فجئته فلم أجده، فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين، فجئت المسجد أريد الطواف، فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فكان مصلاه بين الركنين، الركن الأسود، والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت من محمد الليلة حتى أستمع ما يقول، فقلت: لئن دنوت أسمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت من تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت، ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله صلاته ثم انصرف.
وبعد؛ فإن هاتين الروايتين في سبب إسلام عمر هما أجمع الروايات وأقربها إلى المنطق والصواب، وهما - كما نظن - يبينان الأسباب الرئيسية التي حدت بعمر إلى اعتناق الدين الجديد، وهناك روايات أخرى لا تختلف في جوهرها عنهما إلا أنها تزيد أو تنقص في التفصيلات، والأخبار - وأكبر ظننا أن ذلك كله راجع إلى خبر واحد وقصة واحدة - بدأت باستماع عمر للرسول وهو يتلو القرآن ويصلي في الكعبة، وانتهت بذهابه إلى بيت أخته، ثم انتهت بإعلانه إسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
ولا ريب عندنا في أن العامل الحقيقي في سبب إسلامه هو تأثره الشديد بالقرآن، وبما تلي عليه من آياته المعجزة الباهرة، ولا غرو فقد كان عمر من أفصح العرب وأكثرهم علما بالقول البليغ؛ ولذلك لم يتمالك حين استمع إلى ما استمع من آي الذكر الحكيم إلا أن يسلس قياده ويركع أمام بلاغة القرآن، وكيف لا يركع لآي الذكر المجيد ويطرب لها، وهو يطرب لقول حكيم الشعراء زهير بن أبي سلمى حين يردد قوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
ثم يقول: ما أحسن ما قسم! وإنه لشاعر لا يعاظل بين القوافي، ولا يتبع حوشي الكلام . وروي عنه أنه ربما قضى الليلة وهو ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه: الآن اقرأ. وروى الأصمعي: أن عمر ما قطع أمرا إلا تمثل فيه ببيت من الشعر. ولما قدم وفد غطفان عليه سألهم: من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
فقالوا: نابغة بني ذبيان. فسألهم: من الذي يقول:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على وجل تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
فقالوا: النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم.
هذا هو عمر الذواقة للشعر، النقادة للأدب، العارف بأسرار العربية ودقائق الحكمة، فحري به أن يركع للقرآن ويؤمن به حين يسمعه.
وقد كان دخول عمر في الإسلام سببا من أسباب عزة المسلمين، لما كان له من الجاه والنفوذ والسمعة الطيبة بين قومه. قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، وقال: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة، ولقد رأيتنا ولم نستطع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا، وقال أيضا: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعا إلى الله علانية. وقال علي: لما أسلم عمر واعتز الإسلام والمسلمون به طلب إلى الرسول أن يظهر الدعوة، وألا يحفل بقلة المسلمين وكثرة المشركين ما دام المؤمنون على الحق والمشركون على الباطل. ويأبى الله إلا أن ينصر قلة المؤمنين ويذل كثرة المشركين، وقد قبل الرسول فكرة عمر، فلاقى المسلمون من جراء ذلك بعض العنت والإيذاء من فجار قريش، ولكنه كان أمرا لا بد منه، وما من دعوة حق ظهرت إلا وأوذي أصحابها وفتنوا عن دينهم، فالواجب يقضي على المسلمين أن يضحوا وأن يتلقوا من العذاب والشدة ما تلقاه أمثالهم من رجال الدعوات والأديان السابقة من الحواريين وأنصار الأنبياء والمرسلين، وأصحاب العقائد والمصلحين، وليكن عمر وإخوانه من المسلمين الأولين أول من يتلقى الأذى في سبيل الدعوة الجديدة، وقد فعلوا ذلك وتلقوا ما تلقوا بقلب ثابت، وجأش لا يخفق إلا خوفا من الله وحده، وتحملوا في سبيل ذلك من ضروب العسف ألوانا وهم يواصلون العمل ليل نهار لنشر دين الإسلام ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته وحماية رسوله، حتى إذا رأوا أن قوة الشرك قد طغت ، وبراثن الضلال قد قويت، ولم يعد للمسلمين إلا الهرب بدينهم والهجرة عن أوطانهم، فهاجروا من مكة إلى أرض الله الواسعة، ولكن عمر أبى أن يهاجر، فضاق المشركون به ذرعا، وعزموا على قتله، ولكن العاص بن وائل والد عمرو حماه منهم وأنذر من يصيبه بسوء.
ولكن لما اشتد الضغط عليه وعلى البقية الباقية من المسلمين ممن لم يهاجروا، عزم على ترك مكة في سبيل الله، ولكنه عزم إلا أن تكون هجرته علنية لا كما يفعل الآخرون مستخفين، فقد روى ابن عساكر عن علي أنه قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا متخفيا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما، واختصر عنزته - عكازته - ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى متمكنا، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، ومن أراد أن تثكله أمه وييتم ولده ويرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، قال علي: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم ومضى لوجهه.
4
وهكذا خرج أبو حفص مهاجرا في سبيل الله معلنا غضبته على قريش الظالمة التي أخرجت المؤمنين الآمنين من ديارهم، وقد حفظها عمر لقريش، فلم يترك فرصة أو مناسبة يفتك بها بقريش إلا وانتهزها، وقد كان له رضوان الله عليه وسلامه أعمال جليلة في غزوات النبي لقريش والفتك بفجارها. (2) هجرته وأعماله في المدينة
رأينا كيف أن عمر قد أنذر قريشا بهجرته، وتهدد أشرارها بالأذى إن هم لحقوا به أو تجرأ أحد منهم أن يفسد عليه هجرته، وكان قد اتفق هو واثنان من فتيان قومه، هما: العباس بن أبي ربيعة المخزومي، وهشام بن العاص بن وائل السهمي على أن يكونوا رفقاء في الطريق، قال عمر: اتعدت لما أردنا الهجرة أنا وعياش وهشام المناصب - من أحناة بني غفار فوق سرف - وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال عمر: فأصبحت أنا وعياش عند المناصب، وحبس عنا هشام، وفتن ما فتن.
5
وهشام: هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، وكان ممن أسلموا قديما، وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة حين بلغه مهاجر النبي إلى المدينة، ولما أراد أن يخرج مهاجرا مع عمر وصاحبه حبسه أبوه وقومه بمكة، وفتنوه إلى أن استطاع القدوم عليهم بعد غزوة الخندق.
6
أما عمر وصاحبه العياش فإنهما قدما المدينة ونزلا في قباء عند بني عمرو بن عوف، ولم يكد يصل عياش إلى المدينة حتى قدم عليه أخوه لأمه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام فذكرا له أن أمه حلفت ألا يدخل رأسها دهن، ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما، فأوثقاه وحبساه بمكة، فكان رسول الله يدعو الله، وقنت رسول الله شهرا يدعو للمستضعفين بمكة، ومنهم الوليد ومسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة.
7
ولما قدم عمر المدينة أخذ يوطد أقدام الدين فيها، ويعمل على نشر الدعوة إلى أن قدم الرسول فكان عضده وعونه في تأسيس أركان الدولة الإسلامية وتسهيل أمور رعاياها، وبخاصة المهاجرين منهم، وقضاء مصالحهم وتتبع عورات خصومهم من المشركين والمنافقين وإفساد دسائسهم، وكان شديد الوطأة على المنافقين، يكشف دخائل أمورهم، ويتفطن لأعمالهم ومكائدهم، ويعرف خبايا أمورهم، ويعلن ذلك للناس حتى لا يتورطوا في الوقوع بحبائلهم، كما كان شديد التحمس لحماية الرسول الكريم ونصرته.
ومن أعماله الجليلة ما قام به من أعمال لحماية الرسول
صلى الله عليه وسلم ، كالذي رواه ابن هشام: إن عمر رأى يوما يهوديا ممسكا برسول الله يطالبه بدين له، فعظم ذلك عليه وأخذ بخناق اليهودي وقال: دعني أقتله يا رسول الله، فقال له الرسول: دعه، فإن لصاحب الحق مقالا، ولما أسر سهيل بن عمرو يوم بدر جيء به إلى رسول الله، وكان من خطباء قريش وفصحائهم الذين يؤلبون الناس على الإسلام في المجامع والنوادي العامة ، وكان لقوله تأثير في الجماهير لبلاغته وفصاحته، وقد آذى المسلمين كثيرا، فلما جاء به آسره مالك بن الدخشم الأنصاري إلى رسول الله، وكان عمر حاضرا، نهض إليه وقال لرسول الله: دعني أنزع ثنيته فلا يقوم بعدها عليك خطيبا أبدا، فقال رسول الله: دعه يا عمر فسيقوم مقاما تحمده. فتركه. وكانت معجزة من معجزات النبي الكريم؛ إذ وقف سهيل بن عمرو بعدئذ يوم وفاة رسول الله، وأرادت قريش أن ترتد، فقام سهيل على باب الكعبة يخطب ويقول فيما يقول: يا أهل مكة، لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن هذا الأمر كما ذكر رسول الله، والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغيرنكم هذا من أنفسكم، يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلمه، ولكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم ... وأتى في خطبته بمثل ما جاء به أبو بكر الصديق بالمدينة، وكان ذلك معنى قول رسول الله فيه لعمر.
8
وكذلك كان عمر شديد الحرص على قراءة قسمات وجوه الناس، ومعرفة خبايا صدور جفاة الأعراب الأفظاظ الذين كانوا يفدون على النبي الكريم ولا يقصدون بمجيئهم إليه الإيمان، بل التعنت والإيذاء؛ فكان عمر يعرف الصالح من الطالح، ويقرأ صفحات وجوههم وما انطوت عليه قلوبهم، وكان يلذع القساة منهم بقوارع كلامه، ويعرف كيف يخاطب أشرارهم ويستل سخائم صدورهم، فيضرب بدرته كل من يرى عنده شرا ويبطن سوءا للنبي أو أحد من صحابته وقرابته، فقد روي أن عمير بن وهب الجمحي عاهد صفوان بن أمية القرشي بعد وقعة بدر على أن يأتي المدينة ويقتل الرسول الكريم، فقدمها واستأذن على الرسول، فخرج إليه عمر وتفرس في ما انطوى عليه صدره، فرأى الشر في عينيه والخبث في كلامه، فأخذ حمالة سيفه وقال لجماعة من الأنصار: ادخلوا على رسول الله واحذروا هذا الخبيث، فلما رآه الرسول قال لعمر: اتركه، فخلى عنه، ثم سأله الرسول عما جاء به، فقال: ما جئت إلا لهذا الأسير، يعني أباه وهب الذي كان في عداد أسرى المشركين يوم بدر، فقال له الرسول: اصدقني، فقال: ما جئت إلا لذلك، فقال الرسول: بل قعدت أنت وصفوان وجرى بينكما كذا وكذا، فدهش ابن وهب وأسلم لساعته.
قال ابن عبد البر الأندلسي: قدم عمير يريد الفتك برسول الله بالمدينة حين انصرافه من بدر، وضمن له صفوان بن أمية على ذلك أن يؤدي عنه دينه، وأن يخلفه في أهله وعياله، ولا ينقصهم شيئا ما بقوا، فلما قدم المدينة وجد عمر على الباب فلببه، ودخل به على النبي وقال: يا رسول الله، هذا عمير بن وهب شيطان من شياطين قريش ما جاء إلا ليفتك بك، فقال: أرسله يا عمر، فأرسله، فضمه الرسول إليه وكلمه وأخبره بما جرى بينه وبين صفوان، فأسلم وشهد شهادة الحق ثم انصرف إلى مكة، ولم يأت صفوان، وبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد ارتكس وصبأ، فلا أكلمه أبدا، ولا أنفعه ولا عياله بنافعة، فوقف عليه عمير وهو في الحجر وناداه فأعرض عنه، فقال له عمير: أنت سيد من ساداتنا رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له، أهذا دين؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة.
9
هذه بعض أعمال عمر بن الخطاب ومواقفه المحمودة بعد هجرته إلى المدينة، وهي كما ترى أعمال جليلة، ومواقف نبيلة، صانت الرسول وحفظت الدين. (3) آراؤه في التشريع وموافقة القرآن له
مما كان يتحلى به عمر هو عمق تفكيره ونفاذ بصيرته وفهمه لدقائق الأمور الدينية والاجتماعية فهما يوافق روح التشريع الإسلامي، وقد اختصه الله بخصائص لم ينلها صحابي آخر، فمن ذلك تأهله للنبوة لو وجدت بعد النبي، حتى إنه قال: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب.» وقال: «لو لم أبعث لبعث عمر.»
10
فهذا يدلنا على ما امتاز به من الروح النفاذة إلى حقائق الأشياء والفهم الصحيح لأسرار الدين، والإلهام بما يحتاج إليه المسلمون، فقد روي عن عائشة عن النبي أنه قال: «قد يكون في الأمم محدثون - أي ملهمون - فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب.» ولا شك في أن هذا الحديث نوع من الإلهام الإلهي أنزله الله على قلب عمر فبصره بأمور لم يبصر بها غيره من الصحابة، وقد تواترت الأخبار بأن عمر رأى أشياء كثيرة، فنزل الوحي مقرا لها، فوافقها موافقة تامة، وقد بلغت هذه الموافقات العمرية للقرآن نيفا وعشرين قضية، أشهرها: (1)
معارضته لأبي بكر وجمهور الصحابة في قبول الفدية من أسرى بدر، وكان يرى أن يقتلوا فلم يقبل رسول الله رأيه وأخذ برأي جمهور الصحابة، فقبل الفداء ونزل قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ، ولما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي: كاد يصيبنا في خلافك شر.
11 (2)
معارضته في وجوب حجاب زوجات النبي؛ فقد رأى وجوب لزومهن بيوتهن، وقال لهن: لتكفن عن رسول الله أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت آية الحجاب كما رأى، ونزلت آية:
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن . (3)
رأيه في تحريم الخمر في سائر الأزمان والأمكنة، وقد نزلت الآيات كما رأى في قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . (4)
رأيه في وجوب اتخاذ مقام إبراهيم مصلى للناس؛ فقد قال مرة للنبي: يا رسول الله، أليس هذا مقام إبراهيم أبينا؟ قال: بلى، قال عمر: فلو اتخذته مصلى، فأنزل الله قوله:
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . (5)
رأيه في وجوب الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت؛ فقد رأى ألا يدخل الرجل بيتا غير بيته قبل الاستئذان من أهله، وقد كانوا في الجاهلية وصدر الإسلام يدخلون بدون ذلك، فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها . (6)
رأيه في وجوب عدم الاستغفار للمنافقين؛ لأن ذلك لا يجدي، فقد طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي من النبي أن يستغفر لأبيه أبي رئيس المنافقين لعله يخلص في إسلامه، فاستغفر له النبي، وكره عمر ذلك، فنزل القرآن موافقا لرأي عمر حيث يقول:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم . (7)
رأيه في وجوب عدم الصلاة على موتى المنافقين لما صلى الرسول على عبد الله بن أبي، فنزلت الآية مؤيدة رأي عمر:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون . (8)
سماعه صيغة الأذان في نومه، وإقرار النبي له بناء على تلك الرؤيا ...
وهنالك أشياء كثيرة أخرى قال بها فنزل الوحي بما قال، حتى روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما اختلف أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في شيء فقالوا وقال عمر إلا نزل القرآن بما قال عمر. وقال علي: إن عمر ليقول القول فينزل القرآن بتصديقه. وقال علي أيضا: كنا نرى أن في القرآن لكلاما من كلامه ورأيا من رأيه. وقال علي أيضا: كنا نقول إن ملكا ينطق على لسان عمر.
12
وصفوة القول أن لعمر مواهب ومزايا انفرد بها عن جماعة الصحابة؛ فقد كان متفانيا في حب الله ورسوله، ومخلصا صادقا في الولاء لدينه ونبيه، منقبا عن الخير يهديه للمسلمين غير مقصر في نصحهم والسعي إلى إسداء المعونة إليهم. (4) أحواله في أيام أبي بكر
لما استخلف أبو بكر الصديق كان عمر أقرب الناس منه، يقدم إليه خالص النصح، ولا يقصر في معاونته وتسديد أموره، وكان عمر في جيش أسامة بن زيد الذي عزم الرسول على بعثه قبل وفاته، فلما توفي رسول الله واستخلف أبو بكر استأذن أسامة في أن يبقي عمر إلى جانبه يستشيره في أمور المسلمين ويستنير برأيه السديد، ولم يكتم عمر من أبي بكر شيئا مما فيه صلاح المسلمين ورشاد أمورهم، ولا عجب فإن عمر كان صاحب الكلمة المسموعة في عهد الرسول لإخلاصه ونقاوة سريرته وفهمه لحقائق الأشياء، فلما تولى الصديق وأحاطت به بعض الفتن والمشاكل لم يجد في غير عمر سندا وعضدا ووزيرا، ولما مات الرسول وارتدت العرب واضطرب حبل الإسلام ورأى بعض الصحابة وفيهم عمر أن يقبل الخليفة الصديق من المرتدين عدم إعطاء الزكاة، ثار أبو بكر ثورته التاريخية، واضطر عمر والصحابة أن يوافقوا أبا بكر ويقولوا بقوله، وكان قوله هذا الفصل الحق الذي أنجح الإسلام. والغريب في هذا الأمر أن أبا بكر المعروف بلينه وقف هذا الموقف الحازم، بينما وقف عمر المعروف بشدته هذا الموقف اللين، ولكنا حين نعرف أن عمر رجع على الفور إلى رأي الصديق نعرف أن عمر إنما قال ذلك حقنا للدماء وخوفا من الفشل في حرب أهلية والإسلام بعد ضعيف لم يقو القوة اللازمة، ولكنه ما لبث أن انشرح صدره (أي الفاروق) فقال بقوله، وسار بسيرته، وأيده في فكرته في قتال المرتدين، وقال: ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر حتى عرفت أنه الحق.
ولم يكن الصديق يقطع أمرا إلا استشار عمر فيه، فإن وافق عليه أمضاه وإلا عدل عنه إلى ما يراه، ومن ذلك ما يروى عن عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي أنهما قدما إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، ولعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا إن كانت أرضا سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها لعل الله ينفع بها بعد اليوم، فأقطعهما إياها، وكتب لهما كتابا بذلك، وقال لهما: أشهدا عمر، فانطلقا إليه يشهدانه، فوجداه يهنأ بعيرا له، فقالا: إن أبا بكر قال: اشهد بما في هذا الكتاب، فنقرأ عليك أو تقرأ، فقال: أنا على الحال التي تريان، فإن شئتما فاقرآ، وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ فأقرأ عليكما، قالا: بل نقرأ ، فقرآ، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما، وامتنع عن الإشهاد على ما جاء فيه، وقال لهما: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يتألفكما ، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما، فأقبلا على أبي بكر وهما يتذمران، فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟! فقال الصديق: لا بل هو لو شاء كان، ثم جاء عمر وهو مغضب، فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين: أأرض هي لك أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة، فقال: ما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟! قال: استشرت هؤلاء الذين حولي، فأشاروا علي بذلك، قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا! فقال أبو بكر: قد كنت قلت لك إنك أقوى مني على هذا، ولكن غلبتني.
13
فأنت ترى من هذه القصة أن أبا بكر يعترف بفضل عمر، ويرجع إلى أقواله وآرائه ولا يخالفه، بل يرى أنه أقوى منه على إدارة الأمور وتنظيم شئون الدولة وتصريف أحوالها، وكان أبو بكر يقول - كما روت ذلك السيدة عائشة: ما على الأرض أحد أحب إلي من عمر،
14
وكان أبو بكر يعهد إليه بالقضاء بين المسلمين، فيحكم فيهم بما أنزل الله، بينما جعل أبا عبيدة على المال، وجعل عليا وعثمان وزيد بن ثابت على كتابة شئون الدولة وتولي أمور الديوان.
الفصل الثالث
في خلافته وأعماله فيها
لما أحس أبو بكر بدنو أجله رأى أن خير من يعهد إليه بخلافته هو عمر بن الخطاب؛ لما عرف فيه من الإخلاص والإيمان والشرف والقوة، فاستدعى عثمان بن عفان، وأملى عليه كتابا يعهد بالأمر بعده فيه لعمر، هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن بها الكافر، ويتقي الفاجر، إني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.» فلما مات أبو بكر واستخلف عمر صعد المنبر، فقال: إني قائل كلمات فأمنوا عليهن ... وإنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.
1
وأما أعمال عمر في الدولة بعد أن تولى أمورها، فنجملها فيما يلي: (1) فتوح الشام
كان أول عمل دولي قام به أن كتب إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد في الشام،
2
وبعث إليه بكتاب قال فيه: «أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى سواه، هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك؛ فقد رأيت مصارعهم.»
3
وأمر خالدا أن ينضوي تحت لواء أبي عبيدة، فسمع وأطاع.
ثم خرج أبو عبيدة بجموعه حتى أتى مرج الصفر - وهو سهل يبعد عشرين كيلومترا جنوبي دمشق شرقي طبرية - فعلم أن جمع الروم قد استقر في مدينة «فحل» فزحف نحوهم، وبينا هو في الطريق علم أن أهل دمشق استنجدوا بأهل حمص، فزحفوا إليهم وجمعوا للمسلمين جمعا كبيرا، فلم يدر بأي الجهتين يبدأ، ولم ير بدا من الكتابة إلى عمر فكتب إليه، وأقام بمرج الصفر حتى ورد عليه جواب عمر، وفيه يقول له: أما بعد فابدءوا بدمشق فإنها حصن الشام، واشغلوا عنكم أهل «فحل» بخيل تكون بإزائهم، وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها، ودعوها وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على «فحل»، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته.
4
وما إن قرأ أبو عبيدة هذا الكتاب حتى سرح إلى «فحل» عشرة قواد، فساروا من «مرج الصفر» حتى نزلوا قريبا من «فحل»، فلما رأت الروم أن المسلمين يريدونهم فجروا المياه حول «فحل»، فوحلت الأرض وتألم المسلمون لذلك أشد الألم، وضاقوا ذرعا بما حل بهم من الحصار، وانقطعت أخبارهم عن المسلمين ووقعوا بين المياه والعدو.
وأما أبو عبيدة فإنه سار في اليوم السادس عشر من محرم سنة 14ه/13 شباط سنة 635م نحو دمشق فحاصرها، وكان على مقدمته عمرو بن العاص في تسعة آلاف فارس، ومن ورائه كتائب المسلمين، وعلى الساقة خالد بن الوليد وهو راية المسلمين «العقاب»، ولما وصلوا دمشق أحاطوا بها إحاطة السوار، وضيقوا الخناق على أهلها، ونزل عمرو بباب الفراديس، وشرحبيل بباب توما، وقيس بباب الفرج، وأبو عبيدة بباب الجابية (الباب الغربي)، وخالد بالباب الشرقي، ويزيد بن أبي سفيان بين بابي كيسان والصغير.
5
وكتب بطريق دمشق يستنجد بهرقل الروم - وهو من حمص - فأمدهم بفرسان ومشاة، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى دمشق، ولما أيقن أهل دمشق بالهلاك، وأن الأمداد لا تصل إليهم وهنت عزائمهم، وبخاصة حين قدم عليهم الشتاء واشتد البرد.
وقد اختلفت المصادر العربية والأجنبية في اسم بطريق دمشق وقائدها، فإن محمد بن إسحاق يذكر أن اسمه باهان
6 (فاهان)، ويقول سيف بن عمر: إن اسمه «نسطاس»،
7
ويقول الواقدي: إن اسمه «توما»، وهو صهر الملك هرقل، ويسمي رجلا آخر هو «هربيس»، ولعله كان مساعد البطريق،
8
ويقول ابن خلدون: إنه «منصور بن سرجون»،
9
وكائنا ما كان اسمه فإن القائد في ذلك الحين قد ضاق ذرعا بالحصار العربي، ويئس من الأمداد البيزنطية أن تصل؛ لأن ذا الكلاع الحميري الذي بعثه أبو عبيدة ليقطع كل صلة بين أهل حمص من الروم وبين أهل دمشق تمكن من تشتيت الأمداد التي بعثها الحمصيون إغاثة لأهل دمشق، وأتى الصيف وأهل دمشق على حالتهم اليائسة.
وقد اختلفت روايات المؤرخين في الفتح وكيفية وقوعه، وشرائطه، فيقول سيف بن عمرو ومن تبعه من المؤرخين: إن نصف المدينة فتح صلحا على يد أبي عبيدة، والنصف الآخر فتح حربا، وإن خالدا هو الذي دخل حربا. وروى الواقدي: أن سكان دمشق لما رأوا ثبات المسلمين طلبوا من حاكمهم توما صهر هرقل - وكان في حمص - النجدة وإلا سلموا المدينة، فوعدهم بالمساعدة، ولكنه فشل، فطلب نفر منهم الصلح مع أبي عبيدة، فصالحهم ولم يعلم خالد بذلك. ويروي ابن عساكر رواية ثالثة مؤداها أن أحد الرهبان صالح خالدا على شروطه التي سماها له، وأن يزيد بن أبي سفيان دخل المدينة قسرا، ويروي البلاذري أن بعض الرهبان خابر قومه واتفق مع خالد على أن يفتح له باب المدينة الشرقي، ففتحه ودخل المسلمون، وكان ذلك يوم عيد، أما أبو عبيدة فإنه دخل قسرا من باب الجابية.
وكما اختلف المؤرخون في الفتح وكيفيته وشرائطه اختلفوا في وقته، فذهب بعضهم إلى أن دمشق فتحت في أواخر سنة 13ه، وقال آخرون: بل إنها فتحت في محرم سنة 14ه، وذهب بعضهم إلى أن ذلك كان في رجب سنة 14ه، وأن الحصار دام ستة أشهر، وقيل: بل أربعة أشهر، وقيل: بل سبعين يوما.
10
والذي نراه أن المدينة قد فتحت صلحا من جانب، وأن بعض القادة قد عقد الصلح معه بطريقها، ولكننا لا نستطيع أن نسمي القائد الرومي الذي تولى الدفاع عن المدينة، كما لا نستطيع أن نسمي القائد العربي الذي عقد الصلح لتضارب الأقوال في ذلك، وعدم وجود الأدلة الكافية التي ترجح قولا على قول، كما نرى أن جزءا من المدينة قد أخذ حربا بدليل أمر قسمة الكنيسة الكبرى «الكاتدرائية» بين المسلمين وبين أهل المدينة؛ فقد أجمع مؤرخو المسلمين على ذلك بالرغم من معارضة بعض المستشرقين في هذا، ولكن لا حجة لهم، وإن شرائط التسليم التي كتبها خالد (أو أبو عبيدة) لأهل دمشق تؤيد ما قلناه، وإليك نص الكتاب الذي كتبه أبو عبيدة على لسان أهل دمشق بمناسبة عقد الصلح نقلا عن ابن عساكر: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا، وإنا اشترطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسة ولا ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما تهدم من كنائسنا ولا شيئا مما كان في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا، ولا نكتم على من غش المسلمين، وعلى ألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر الصليب عليها، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا، ولا نخرج باعوثا ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا بموتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركا في نادي المسلمين، ولا نرغب مسلما في ديننا، ولا ندعو إليه أحدا، وألا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليه سهام المسلمين، ولا نمنع أحدا من قرابتنا إن أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم ديننا حيثما كنا، ولا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نتسمى بأسمائهم، ونجز مقادم رءوسنا، ونفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ينقش في خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نجعله في بيوتنا، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوها، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نشارك أحدا من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد، ونطعمه فيها ثلاثة أيام، وعلينا ألا نشتم مسلما، ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده.
ضمنا بذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما اشترطنا لك وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق، على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، فأقرونا في بلادكم التي ورثكم الله إياها، شهد الله على ما شرطنا على أنفسنا، وكفى بالله شهيدا.»
11
وبعد أن تم عقد الصلح وكتابة عهده أخذ المسلمون يرتبون أمورهم لمقابلة الجيش البيزنطي الذي تجمع في جنوبي سورية عند بحيرة الحولة بقيادة تيودوروس أخي هرقل، أما عدد هذا الجيش فقد اختلفت الروايات فيه بين المائتي ألف جندي والمائة ألف، والخمسين ألفا، والثلاثين ألفا،
12
وقد ظل هرقل يجمع قواه هذه طوال الشتاء حتى إذا ما جاء الربيع عام 636م/14ه التقى الجمعان في جنوب شرقي اليرموك عند سهل الياقوصة، وكان عدد جيش المسلمين يتراوح بين أربعة وعشرين ألف مقاتل، وأربعين ألف مقاتل، وقد اشتد القتال بين الطرفين وطال أمده حتى انضم نصارى العرب الذين كانوا يحاربون في صفوف البيزنطيين إلى جانب إخوانهم العرب المسلمين، وتم النصر للمسلمين في رجب عام 15ه/آب سنة 636م وتمزق الجيش البيزنطي شذر مذر، وهرب هرقل إلى أنطاكية.
وانشطر الجيش الإسلامي شطرين: واحدا اتجه نحو الشمال، وآخر اتجه نحو الجنوب إلى قيسارية والرملة وإيلياء (القدس)، أما الجيش الشمالي فإنه أتى دمشق وفتحها الفتح الثاني؛ لأن أهلها عادوا فأعلنوا العصيان، ثم سار الجيش بقيادة أبي عبيدة ومعه خالد بن الوليد نحو حمص، فحاصرها ثم صالحه أهلها على صلح أهل دمشق،
13
ثم بعث أبو عبيدة خالدا إلى قنسرين، فلما نزل بحاضرها زحف إليهم الروم تحت زعامة منياس، فقاتلهم خالد قتالا عظيما حتى قتل منياس، وأرسل أهل الحاضر إلى خالد يخبرونه أنهم عرب وأنهم إنما حشروا حشرا مع الروم، وأنهم لم يكن الحرب من رأيهم، فقبل منهم وتركهم، وتم لخالد في قنسرين النصر العظيم في سنة 15،
14
وبلغت أخبار هذا النصر مسامع الخليفة عمر فقال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال.
ولما أتم خالد فتح قنسرين وحلب صعد يريد فتح سائر مدن الشمال، كمنبج، وأنطاكية، وكانت حصن المسيحية الأعظم، كما توجهت الجيوش نحو مدن الجزيرة، ففتحت الرها ونصيبين وبلاد أرمينية، وهكذا تم الاتصال بين فتوح الشام وفتوح العراق، وأما الجيش الجنوبي - وكان بقيادة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة - فإنه سار نحو بيسان والأردن، وبعد أن استولى على تلك الديار اتجه نحو الجيش الإسلامي المرابط في فلسطين بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وكان الخليفة قد كتب إلى معاوية يقول له: «أما بعد فإني قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا نعم المولى ونعم النصير.» وكان معاوية قد سار إلى قيسارية، وهي أعظم الثغور وقتئذ، فحاصرها واشتد القتال بينه وبين صاحبها، وأبلى المسلمون بلاء عظيما حتى تم له الفتح، ثم سار نحو عمرو بن العاص بعد أن فتح نابلس وعسقلان وغزة، وتجمعت الجيوش الإسلامية حول القدس فحاصرت بطريقها «سفرونيوس»، وضيقت عليه الخناق، ودام الحصار أربعة أشهر لقي فيها الروم الأذى الشديد والجوع والعطش، ثم تكاتب بطريق القدس وعمرو بن العاص في شرائط الصلح، وخاف الروم على الكنيسة العظمى، وطلب البطريق أن يباشر عقد الصلح مع الخليفة نفسه، فكتب عمرو إلى عمر يستدعيه إلى القدس، وكان عمر وقتئذ بالجابية، فقدم إلى القدس ودخلها وصالح أهلها، وكتب لهم كتابا أورد لنا الطبري نصه حيث يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة.»
15
وهذا النص يؤيد أن فتح القدس كان في أواخر سنة خمس عشرة، وقيل: بل كان ذلك في أوائل سنة ست عشرة،
16
وبفتح القدس (إيلياء) وقيسارية (قيصرية) ودمشق اضمحل السلطان الرومي في سورية، فهرب من هرب من أهلها مع الروم إلى آسية الصغرى، وقضي على الدولة البيزنطية في الشام كله بعد أن فقدت عددا كبيرا من أبطالها وقادتها، وبخاصة يوم اليرموك وأجنادين، وقد توج هذه الفتوح حضور عمر وعقده صلح القدس المشرف للإسلام المحافظ على كيان المسيحية وتقاليدها، وقد أشاد بهذا الحدث كثير من شعراء العصر، فمن ذلك قول زياد بن حنظلة:
تذكرت حرب الروم لما تطاولت
وإذ نحن في عام كثير نزائله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا
مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده
يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها
سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صواله
أتوه وقالوا: أنت ممن يواصله
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها
وجيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب
مواريث أعقاب بنتها قرامله
وقال أيضا:
سما عمر لما أتته رسائل
كأصيد يحمي حرمة الحي أغيدا
وقد عضلت بالشام أرض بأهلها
تريد من الأقوام من كان أنجدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم
بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذي
أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسط فيما بينهم كل جزية
وكل رفاد كان أهنا وأحمدا
17 (2) فتوح العراق
خلفنا الفتوح الإسلامية في العراق على عهد الصديق، تنتهي في الجزيرة الفراتية على يد سيف الله خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة، ورأينا أن الصديق قد كتب إلى خالد أن يترك العراق وينجد الجيش الإسلامي في الشام، فخلف المثنى بن حارثة في الجزيرة وسار نحو الشام، وكان من أمره ما كان.
أما المثنى فإنه اتخذ الحيرة مقره، وأخذ يجيش فيها الجيوش، ويهيئها للمعركة الكبرى التي علم بأن الفرس قد استعدوا لها أيما استعداد، فكتب إلى الخليفة يستمده، فندب الخليفة الناس للذهاب إلى أهل فارس ومعاضدة جيش المثنى بن حارثة الشيباني في العراق، وخطبهم خطبة أثارت غيرتهم وحماستهم قال فيها: «أيها الناس، إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين الطراء يهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فإنه قال:
ليظهره على الدين كله ، والله مظهر دينه ومعز ناصره، ومولي أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون ...»
فكان أول منتدب أبا عبيد بن مسعود، ثم سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، فبعث عمر أبا عبيد قائدا على الجيش، وأوصاه أن يسمع لأصحاب رسول الله، ويشركهم في الأمر، ولا يجتهد مسرعا حتى يتبين، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة، وسار أبو عبيد حتى أتى المثنى، فسارا جميعا حتى التقوا بالجيش الفارسي الذي يقوده «جابان» عند الخارق، وكان قتال شديد بين الطرفين، وهزم الله الفرس وأسر «جابان»، وقسم أبو عبيد الغنائم، وبعث بالأخماس إلى الخليفة، ثم قصد أبو عبيد «كسكر» وعليها «نرس»، وبينما هو في الطريق عند «السقاطين» لقيه جمع من الفرس، فقاتلهم وهزمهم، وغنم منهم غنائم كثيرة فيها كثير من الأطعمة، وسار نحو «كسكر» فالتقى بالقائد «نرس» وقاتله أشد قتال حتى اضطره إلى الهرب، وخلف خلفه خزائن وأموالا جسيمة وأطعمة كثيرة، فاستولى على ذلك، وبعث بالخمس إلى الخليفة وكتب إليه: «إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يجمعونها وأحببنا أن تروها، ولتذكروا إنعام الله وأفضاله.» ثم سرح أبو عبيد المثنى إلى «باروسما» فهزم من تجمع منها، وأخرب وسبى وغنم، ولما عظمت نكبات الفرس استمدوا «بوران»، وكانت على العرش، فأمدتهم بالجالينوس - وهو من صناديد أبطالهم - في جيش كبير، وسار الجالينوس نحو «باقسياتا»، فهل له أبو عبيد في جمع من المسلمين وهزم «الجالينوس»، وتم النصر لأبي عبيد، وفي ذلك يقول عاصم بن عمرو:
صبحنا بالبقايس رهط كسرى
صبوحا ليس من خمر السواد
صبحناهم بكل فتى كمي
وأجرد سابح من خيل عاد
ولما تتابعت الهزائم على الفرس وضاق «رستم» بهذا الفشل المريع، عزم على أن يضرب المسلمين ضربة قاسية، فجيش جيشا هائلا عقد لواءه لبطل من أبطالهم، هو: «بهمن جاذويه» المعروف بذي الحاجب، ومعه الجالينوس وسائر أبطال الفرس، وعدد كثير من الفيلة، وفي المقدمة راية كسرى العظمى المعروفة «بدرفش كابيان»، وسار الفرس حتى بلغوا شاطئ الفرات عند «قس الناطق».
وكان أبو عبيد معسكرا على شاطئ الفرات عند المروحة قرب «البرج» و«العاقول»، فبعث بهمن يخبر أبا عبيد أن يعبر أحدهما إلى صاحبه، فقال أبو عبيد: نحن نعبر إليكم، ولم يوافق قواد المسلمين على العبور، وأشاروا على أبي عبيد أن يدعوهم إلى العبور، فقال لهم: لا يكونوا أجرأ منا على الموت، بل نعبر إليهم. فعبروا إليهم، واشتد القتال بين الجيشين، وأسرعت السيوف في أهل الفرس، وأصيب منهم عدد كبير، ولم يبق بين المسلمين وبين النصر إلا القليل - على الرغم مما لقوا من الفيلة - ولكن أحد الفيلة تمكن من أبي عبيد فقتله، وأخذ اللواء نفر كان سماهم أبو عبيد قبل دخول المعركة إن أصابه شيء، إلى أن أخذ اللواء المثنى، وكان الناس قد هربوا، فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ذلك بادر إلى الجسر فقطعه وقال: أيها الناس، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، فانتهى إليه الناس وسيوف الفرس تأخذهم من ورائهم، وغرق في الفرات من لم يصبر على الماء، وحمى المثنى من لقي من فرسان المسلمين ، وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف ما بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقي ثلاثة آلاف، وجرح المثنى، وانهزم بعض المسلمين حتى أتوا المدينة واستخفى بعضهم بين القبائل، وبعث المثنى بالخبر إلى عمر فاشتد حزنه على ذلك، ولكنه لم يتخاذل، بل أخذ يشجع الناس ويسكن الهاربين ويلاطفهم ويقول لهم: لا تجزعوا أيها المسلمون، أنا فئتكم إنما انحزتم إلي، ولم يتمكن الفرس من استثمار ذلك النصر الذي أحرزوه، فإنهم لم يتعقبوا فلول المسلمين؛ لأن بعض الثورات الداخلية كانت قد نشبت في بلادهم وثار الناس في المدائن على رستم، وانقسموا قسمين، فاضطر «بهمن جاذويه» على أن يرجع بجنده إلى المدائن.
أما عمر فإنه أخذ يفكر في طريقة لمحو آثار هذه الهزيمة النكراء التي مني بها الجيش الإسلامي، فأخذ يحث الناس على السفر إلى العراق للانضمام إلى المثنى بن حارثة، ولكنه لقي في ذلك عنتا وحرجا، وحين أراد أن يبعث بني بجيلة سار زعيمها جرير بن عبد الله وهو مكره، فإنه كان يفضل السير إلى الشام، ولكن عمر ترضاه وقومه بربع الخمس استصلاحا لهم مع نصيبهم من الفيء، ثم بعث بني ضبة بزعامة عصمة بن عبد الله، فساروا جميعا للعراق إمدادا للمثنى.
وكتب عمر إلى أهل الردة من بني عبد القيس وغيرها ممن لم يكن يسمح لهم بالجهاد أن يخرجوا إلى العراق، فسارت جموع كثيرة منهم حتى أتت المثنى، فسار بهم حتى أتى «البويب» في المكان الذي بنيت فيه الكوفة بعدئذ، والتقى الجمعان في رمضان سنة 13ه، وأظهر المثنى دربة فائقة، فتغلب المسلمون على الفرس، وقتل «مهران» قائدهم وجمع كبير جدا من الفرس، واطمأن المسلمون إلى هذا النصر الكبير الذي عوضوا فيه انكسارهم «يوم الجسر»، وانتقم المسلمون من الفرس حتى سمي هذا اليوم: «يوم الأعشار»؛ فقد أحصي فيهم مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة رجال في المعركة، عدا من قتل تسعة أو ما دونها، وعد يوم البويب نصرا عظيما، لا لأنه غسل عن المسلمين عار يوم الجسر، ولا لأنه قهر الفرس القهرة الكبرى، بل لأنه مكن المسلمين من السيطرة على السواد كله، وصار لهم ما بين دجلة والفرات يتصرفون فيه تصرف الفاتح المسيطر، وأخذوا يهيئون أنفسهم لغزو بلاد العراق العجمي وفارس، قال الطبري: «لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدا، ولا يلقون فيها مانعا.»
ولما بلغت أخبار هذا النصر آذان الخليفة استبشر بذلك، وأراد أن يعزز الجيش الإسلامي في العراق بقائد آخر وعدد من الدهاة، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص - وكان على صدقات هوازن في نجد - أن يقدم إلى المدينة، فأمره على حرب العراق، وأوصاه فيما أوصاه بقوله: «يا سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
عليه منذ بعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنه الأمر، هذه الوصية إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.»
ثم بعثه إلى العراق في أربعة آلاف، فلم يصل سعد وجنده إلى العراق حتى وجد أن المثنى قد مات متأثرا بجراحه التي كان جرحها يوم الجسر فانتفضت عليه ومرض، فاستخلف بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعد «زرودا» توفي المثنى، فكتب عمر إلى سعد أن يتوجه إلى «القادسية»، وأخذ يوالي إرسال النجدات والبعوث إليه حتى بلغ عدد جيش المسلمين بضعة وثلاثين ألفا، كثير منهم من ربيعة، وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم، وكانت ربيعة تسمى في الجاهلية: ربيعة الفرس، فسمتها العرب ربيعة الأسد، وكان العرب في جاهليتهم يقولون: «فارس الأسد»، فأطلقوا ذلك على ربيعة، وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي، والترجمان هلال الهجري، والكاتب زياد بن أبي سفيان، وكان فيهم سبعون بدريا وستمائة وبضعة عشر صحابيا، وسبعمائة من أبناء الصحابة، وكتب عمر إلى سعد كتابا يقول فيه: «أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع، وإذا انتهيت إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي جمع تلك الأبواب لمادتهم ولما يريدونه من تلك الآصل، وهو منزل رغيب خصيب حصين، دونه مناظر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر والجراع بينهما، ثم الزم مكانك فلا تبرحه.»
ثم كتب إليه رسالة أخرى يقول له فيها: «... اكتب إلي أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه.»
فكتب إليه سعد بصفة البلدان الفارسية بين «الخندق» و«العتيق»، وأن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين، فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض، يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وأن ما عن يمين «القادسية» إلى «الولجة» فيض من فيوض مياههم، وأن جميع من صالح المسلمون من أهل السواد قبلي إلب لأهل فارس قد خفوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدد لمصادمتنا رستم. فكتب إليه عمر: «قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن، فإنه خرابها إن شاء الله.»
فأقام سعد في القادسية شهرا لا يأتيه من الفرس خبر، فبعث سراياه بين «كسكر» و«الأنبار»، فأغارت على من ليس لهم ذمة أو عهد ومن غدر بالمسلمين من أهلها، فأرسل أهل السواد إلى «يزدجرد» ملك الفرس يخبرونه بما عند المسلمين من القوة والعدد، واستنجدوه، وأنه إن تأخر عن نجدتهم ألقوا بأنفسهم للعرب، فأرسل رستم وأمره أن يستعد للقاء المسلمين، وأمره أن يسير من فوره، فسار رستم وهو مكره؛ لأنه كان من رأيه أن يطاول الفرس حتى يهنوا ويضعف أمرهم، وخرج رستم حتى عسكر «بساباط»، وبلغت أخباره سعدا، فكتب بذلك إلى عمر فأجابه بكتاب يقول له فيه: «لا يكربنك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث رجالا من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم.»
18
فأرسل سعد جماعة من الأشراف العقلاء منهم النعمان بن مقرن، وقيس بن زرارة، والأشعث بن قيس، وعاصم بن عمرو، وفرات بن حيان، وعمرو بن معديكرب، والمغيرة بن شعبة يدعون رستم، فلما وصلوا المدائن ودخلوا على «يزدجرد» سألهم عما جاء بهم، ودعاهم إلى غزو الفرس، فقال النعمان بن مقرن: «إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلا قاربه منها فرقة وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا، فدخلوا معه على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن، وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.» فقال يزدجرد: «إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم؛ فقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغركم منا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.» فقام قيس بن زرارة، فقال: «أما ما ذكرت من سوء الحال، فكما وصفت وأشد، ثم ذكر شيئا من عيش العرب ورحمة الله لهم بإرسال النبي
صلى الله عليه وسلم
كما قال النعمان، ثم قال ... اختر إما الجزية وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام.» فقال يزدجرد: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي.»
ثم استدعى بوقر من تراب، وقال لجنده: احملوه على ظهر أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، فقام عاصم بن عمرو فقال: أنا أشرفهم، وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له: أبشر، فوالله قد أعطانا الله إقليد ملكهم، ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل الذي قيل إنه بلغ مائة ألف أو يزيدون من «ساباط»، فلما بلغ «كوثى» لقيه رجل من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله، أرضكم وأبناءكم إن أبيتم أن تسلموا، قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي أنجزه الله وعده، فنحن على يقين، فقال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم، قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل الإنس، إنما تجادل القضاء والقدر، فاستشاط وأمر فضربت عنقه، وخرج رستم من «كوثى» حتى نزل «برس»، فأخذ جنده يغصبون أموال الناس، ويقعون على النساء، ويشربون الخمور، حتى ضج الناس واشتكوا إلى رستم ، فخطب جنده وقال لهم فيما قال: «والله لقد صدق العرب، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان، فأما إذا تحولتم عن ذلك لهذه الأعمال، فلا أرى الله إلا مغيرا ما بكم، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم.» ثم بعث الرجال فأتوه من اشتكي منه فضرب أعناقهم، ثم سار حتى نزل حيال «النجف» قرب «الخورنق»، ودعا أهل «الحيرة» فأوعدهم وهددهم، فقال ابن بقيلة أميرها: لا تجمع علينا اثنتين أن تعجز نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا، فسكت.
ثم إن سعدا بعث عمرو بن معد يكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا طويلا حتى رأوا العدو منتشرا على الطفوف والبقاع، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل ماشيا حتى دخل بين العدو وعلم خبره، ورجع إلى سعد، فأخبر خبر القوم وأحوالهم، ثم إن رستم سار بجيوشه من أرض «الحيرة» حتى نزل «القادسية» عند «العتيق»، وهو جسر القادسية، وليس بينهم وبين المسلمين إلا النهر، وكان مع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلا: ثمانية عشر فيلا مع رستم، وخمسة عشر فيلا مع الجالينوس، منها فيل سابور الأبيض.
ثم إن رستم بعث إلى سعد أن أرسل إلينا رجلا نكلمه، فبعث إليه ربعي بن عامر، فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب، بسطت النمارق والزرابي من حوله، والوسائد المذهبة والأبسطة المزركشة تحيط بمجلسه، فأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة بالية، ورمحه مشدود بعصب، فلما انتهى إلى البساط الكسروي وطئه بفرسه، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل بينهما، ثم أخذ عباءة فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه فأبى، وقال: لو أتيتكم فعلت ذلك بأمركم، ولكنكم أنتم دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب من خطوه ويسير بخيلاء حتى دخل على رستم، فلما دنا منه جلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله جاء بنا لنخرج من شاء من العباد إلى عبادة الله، من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه، يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحب إليكم أيوما أو يومين؟ قال: بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساءنا، فقال: إن مما سن لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك، وإن كنت محتاجا إليه منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي وعلى جميع من ترى، قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم.
ثم خلا رستم برؤساء قومه، فقال: ما ترون؟ هل رأيتم كلاما قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى ثيابه؟ فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الكلام والرأي والسيرة، إن العرب لتستخف باللباس والمأكل، وينظرون إلى الأعمال ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، فلما كان الغد بعث رستم إلى سعد أن أرسل إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي حتى وقف أمام رستم وهو على عرشه، فقال له: أين صاحبنا الذي جاء بالأمس؟ فقال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، فهذه نوبتي، ثم كلمه بمثل ما تكلم به ربعي، ثم ذهب، فلما كان اليوم الثالث طلبوا شخصا يكلمونه، فبعث إليه سعد بالمغيرة بن شعبة، فلما قدم عليه دخل وجلس معه على السرير، فوثبوا عليه وأنزلوه، فقال: ويحكم! كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة، ثم تكلم بكلام طويل شبيه بما قاله أخواه السابقان وذهب، فخلا رستم بقومه وتذاكروا طويلا، ثم أجمعوا على الحرب والمنابذة، وأن يعبروا نهر العتيق، فعبروا.
وعبأ «رستم» جيشه وجعل بينه وبين «يزدجرد» بريدا يخبره بالحوادث توا، وعبأ سعد جنده وأرسل القصاص يحضون الناس على الاستشهاد في سبيل الله، وأمرهم بقراءة «سورة الأنفال»، وخطبهم سعد فقال: الزموا مصافكم، فإذا صليت الظهر فإني مكبر، فإذا كبرت فكبروا واستعدوا، وإذا كبرت الثانية فكبروا والبسوا عدتكم، وإذا كبرت الثالثة فكبروا ونشطوا الناس، وإذا كبرت الرابعة فارجعوا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم» وكان ذلك في محرم سنة 14ه، فلما كبر سعد تكبيرته الرابعة خرج أهل النجدات ونشب القتال وعظم جهاد المسلمين، فأبلوا أحسن البلاء، ولم يكن أشد عليهم من الفيلة، فدارت رحى الحرب على بني أسد والفيلة تفتك بهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو زعيم بني تميم أن ينظر حيلة للفيلة، فنادى رماة قومه فقال لهم: افقئوا أعين الفيلة عنهم بالنبل، وقال لآخرين: استدبروا الفيلة فاقطعوا وضنها - حازم أقتابها - ففعلوا ذلك، وصاحت الفيلة، فقتل أصحابها، واستمرت المعركة إلى أن غربت الشمس، فانفض الجيشان، وكان هذا اليوم أول يوم من أيام القادسية، ويسمى «يوم أرماث»، وتسمى ليلته «ليلة الهدأة»؛ لأنه لم يحصل فيها قتال، وعني سعد في الليل بالجرحى، فوكل بهم من يواسيهم ويداويهم، وبالقتلى من يدفنهم، ولما أصبح الصباح عبأ جيشه كما كان بالأمس، وبينما كان يهيئ جنده للزحف رأى مددا أقبل عليه من عند أبي عبيدة عامر بن الجراح بأمر عمر بن الخطاب، وكان على المدد هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الملقب بالمرقال، ومعه القعقاع بن عمرو، فضربت بذلك حقوب المسلمين، ولم يكد القعقاع يصل حتى برز يطلب النزال، فنزل إليه ذو الحاجب صاحب وقعة الجسر، ونادى يا لثارات أبي عبيد وأصحاب الجسر، ثم تضاربا فقتل القعقاع ذا الحاجب، واستبشر المسلمون بقتله، ثم حمي الوطيس وألبس المسلمون إبلهم الأقتاب المجللة المرقعة يتشبهون بالفيلة، فلقيت فيها خيل الفرس ما لاقت خيول المسلمين من الفيلة، وأظهر القعقاع في ذلك اليوم جرأة رائعة، واستمر القتال إلى منتصف الليل، وتسمى هذه الليلة «الليلة السوداء»، ويسمى يومها «يوم أغواث»، وهو اليوم الثاني من أيام القادسية.
وفي الصباح زحف المسلمون يتقدمهم المرقال، وانتدب سعد القعقاع لقتل الفيل الأبيض الأكبر، كما انتدب آخرين لقتل الفيلة الأخرى وفقء عيونها، وحمي الوطيس واشتدت المعركة وقتل من الجانبين جمع كبير، ولكن الغلبة كانت للمسلمين، وقد أبلى فيها بنو أسد خير البلاء، واستمر القتال إلى ساعة متأخرة من الليل بل إلى الصباح، وكان القعقاع ينادي: إن الدائرة تكون لمن صبر ساعة، فاصبروا ساعة فإن النصر لمن صبر، واستمر القتال إلى الظهيرة، فأخذت كفة المسلمين ترجح، وأخذ الفرس يتقهقرون، وكان أول من زال عن موضعه من قواد الفرس «الهرمزان» و«الفيرزان»، ثم حمل هلال بن علقة بنفسه على القلب حيث رستم، فاستطاع أن يصل إليه ويقتله، فلما رأى قومه ذلك أخذوا يتسللون ويهربون وينهزمون، وأخذ ضرار بن الخطاب الراية الفارسية العظمى «درفش كابيان»، وانتهى اليوم والنصر معقود لواؤه للمسلمين، ويسمى هذا اليوم «يوم عماس»، وليلته «ليلة القادسية»، وبعد تمام الهزيمة وتضعضع الجند الفارسي أمر سعد بجمع الأسلاب والغنائم، وكانت لا تكاد تحصر، فقسمها سعد كما أمر الله، وهنأ الجند الإسلامي بهذا الفوز الباهر، وكتب إلى عمر يبشره ويبعث إليه بالخمس، وكان عمر يخرج كل يوم إلى ضواحي المدينة يتنسم الأخبار حتى يرده حر الظهيرة، فلما جاءه البشير لاقاه عمر وهو يسير سيرا حثيثا، فسأله عمر: من أين؟ فأخبره الرجل أنه آت من قبل سعد، فقال: يا عبد الله، حدثني ، فقال: هزم الله المشركين، وعمر يخب وراءه والرجل لا يعرفه حتى دخل المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، فقال البشير: هلا أخبرتني رحمك الله يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لا بأس عليك يا أخي، وكان في كتاب سعد إلى عمر قوله: «أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، ونزال شديد، وقد لقوا من المسلمين ما لم ير الراءون مثله، فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى ضفاف الآجام وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم الله بهم عالم كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم.»
وكانت هذه المعركة هي المعركة الفاصلة للفتح الإسلامي في بلاد فارس، وقد قتل فيها من أبطال فارس ورجالاتهم عدد عظيم، وأقام سعد بعدها بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر حتى جاءه الأمر بالسير إلى المدائن وفتحها، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند يحوطهم، وأمره أن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالهم، ففعل. ثم سار سعد بالجيش يتتبع فلول المنهزمين عند «بروس»، ففتحوها وهزموا من فيها، ثم ساروا نحو «بابل» ففتحوها وهزموا من فيها أيضا، وهرب «الهرمزان» إلى الأهواز، و«الفيرزان» إلى نهاوند.
ثم سار سعد فافتتح «كوثى» و«ساباط» وساروا نحو «المدائن»، ولما رأوا إيوان كسرى تذكروا وعد رسول الله لهم بفتح إيوان كسرى، فقويت قلوبهم، ونادى ضرار بن الخطاب: الله أكبر، هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الله وصدق رسوله، وكبر وكبر المسلمون، وحاصر سعد المدينة في ذي الحجة من سنة 14ه، وكتب إلى عمر يبشره ويخبره ويستشيره في أمر فلاحي السواد، فجمع عمر أهل الشورى من المسلمين في المسجد، وخطبهم فقال: «إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه، ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع وينته إلى الشرائع ويلزم سبيل النهج ابتغاء ما وعد الله لأهل الطاعة أصاب أجره وظفر بحظه، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيما زعم أنه استكره وحشر، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا ولم يحل، وفيمن استسلم؟» فأجمعوا على الوفاء لمن أقام وكف ولم يزده غلبه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفى فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا دعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم، ولم يعطوا إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم بهذا الجزاء والجلاء.
فكتب عمر إلى سعد بذلك، فخلى سعد عن الفلاحين، وأرسل إلى الدهاقين، ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة، فتراجعوا إلى ديارهم، ولم يبق غربي دجلة سوادي إلا دخل ذمة المسلمين، وفرح الأعاجم بذلك، ولما اشتد الحصار على المدائن القريبة نزلها «يزدجرد» ولحق بالمدائن الشرقية، فرأى سعد أن يعبر النهر، فعبره هو وجمع من أبطال المسلمين، فلما رأى الفرس ذلك اضطرب يزدجرد، ورأى أن لا مفر له من الهرب والنجاة بنفسه، فقصد حلوان، ودخل سعد وإخوانه المدائن، وحلوا في القصر الأبيض، فصلى فيه، وقرأ قوله تعالى:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم .
ثم أخذ يجمع الأسلاب والغنائم، وأصاب الفارس اثني عشر ألفا، وصارت المدائن قاعدة الأعمال الحربية في العراق والمشرق، وأقيمت فيها أول جمعة في صفر من سنة 16ه، وبعث سعد بالأخماس وذخائر كسرى إلى عمر، ومنها بساط كان لكسرى طوله ستون ذراعا في ستين، ونفائس أخرى كثيرة، وأفاء الله على المسلمين ما كان لكسرى ولآله ، وما كان في بيوت النيران، وبعث عمر إلى سعد بولاية الصلاة على كل مسلم من ملل فارس، وولى على الخراج النعمان بن مقرن على ما سقت دجلة، وولى أخاه سويدا على ما سقى الفرات، ثم استعفياه، فولى على ذلك حذيفة بن أسيد، وجابر بن عمرو المزني، ثم عزلهما، وولى عملهما حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف.
ثم أخذ سعد يتبع فلول الفرس الذين لجئوا إلى «جلولاء» وقد تحصنوا بخندقها، فهجم عليه القعقاع في صفر من سنة 16ه فقاتلهم قتالا مريرا وفتك بهم، فهرب قادتهم إلى «خانقين» فتبعهم المسلمون، وعلم سعد أن يزدجرد ترك «حلوان» إلى «الري»، فبعث من احتل «حلوان» وفتح «نينوى» و«الموصل»، وهكذا سيطر سعد على العراقين العربي والعجمي، وانحصر الفرس في بلادهم، فكتب سعد إلى عمر يسأله في لحاق الفرس إلى داخل بلادهم، فكتب إليه عمر ينهاه عن التوغل، وقال له في كتاب: «وددت أن بين السواد والجبل سدا حصينا من ريف السواد؛ فقد آثرت سلامة المسلمين على الفيء والأخماس.» ثم بلغ سعدا أن جمعا عظيما من الفرس تجمعوا للقائه بسهل «ماسبذان»، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب الفهري، فشتت شملهم وأقام بماسبذان مرابطا، وراح سعد يرتب أمور السواد ويتمم تخطيط الكوفة، كما سنرى تفصيله بعد. (3) في فتوح إيران
كانت أول هجمة عربية على أراضي القادسية هي محاولة العلاء بن عبد الله الحضرمي أمير البحرين الذي تولاها أيام الرسول وأبي بكر وعمر، فإنه لما رأى فتوح سعد بن أبي وقاص في العراق أراد هو أن يوجه إليهم بجند يغزونهم من البحر، فبعث ثلاث فرق لفتح الخليج الفارسي، على إحداها الجارود بن المعلى العبدي، وعلى الثانية السوار بن همام، وعلى الثالثة خليد بن المنذر بن ساوى، ولكن مما يؤسف له أن هذا العمل كان نوعا من المغامرة التي لم يستشر فيها الخليفة عمر؛ فقد كان يرهب البحر على العرب، ولا يرى أن يغامر العرب في الدخول إليه والمحاربة فيه، ولما سارت سفن المسلمين نحو «برسوبوليس» لقيهم الفرس في جمع عظيم، وحالوا دون وصول المراكب الإسلامية إلى الميناء، فقام خليد في الناس فقال: أما بعد فإن الله إذا أراد أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم والسفن والأرض لمن غلب،
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر، ثم ناشدهم فاقتتلوا قتالا شديدا، ودارت الدائرة على المسلمين، فهلك منهم السوار والجارود، ولما أراد المسلمون الرجوع إلى بلادهم عن طريق البر لم يمكنهم الفرس، فحصروهم من كل جانب، وبلغ عمر ما فعله العلاء، فغضب عليه أشد الغضب، وكتب إليه يعزله ويتوعده.
ثم كتب إلى سعد يؤمره على العلاء ويطلب إلى عتيبة بن غزوان أمير البصرة أن ينقذ المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألف مقاتل، وجعل عليهم أبا سبرة بن أبي رهم، فسار حتى التقى بالفرس فقاتلهم حتى هزمهم واستخلص المسلمين المحصورين، وغنم مغانم كثيرة، واستأذن عتيبة عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فهلك في الطريق. وبعد أن تم لعتيبة استخلاص الجند الإسلامي علم أن الهرمزان الذي كان انهزم من القادسية ولجأ إلى الأهواز قد أخذ يهيئ جيشا لغزو المسلمين، كتب عتيبة إلى عمر يخبره بخبره، فكتب عمر إلى سعد أمير الكوفة أن يمد عتيبة بجيش، فبعث إليه فرقة من المقاتلين الأبطال، عليهم نعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا إلى «ميسان» حتى يكونا بين البصر، ويدعوا من يقيم هناك من العرب ليكونوا مع المسلمين في قتال الفرس، فتجمع الكل ولاقوا «الهرمزان» فهزموه، ودخل «خوزستان» وكتب فيها يطلب الصلح، فصولح على ما دون «الأهواز» و«مناذر» و«نهر تيري»، وكان ذلك الصلح في السنة السابعة عشرة، وكتب عتيبة بذلك إلى عمر، ووفد إليه وفدا من وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، فلما قدموا على عمر رحب بهم وسألهم حاجاتهم، فطلبوا لأنفسهم ما يريدون إلا الأحنف، فإنه قال: يا أمير المؤمنين ، إنك لقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير ويسمع بآذانهم، وإنا لم ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الفاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة زعقة نشاشة طرف لها في الفلاة، وطرف لها في البحر الأجاج.
فلما سمع قوله أقطعهم ما كان لأهل كسرى، ثم قال: إن هذا سيد قومه، وكتب إلى عتيبة أمير البصرة أن يسمع منه، وأرجعهم إلى بلدهم، ولم يكادوا يصلون حتى ثار الهرمزان ونقض عهد الصلح واستعان بالأكراد، فكتب عتيبة بذلك إلى عمر، فأجابه بأن يقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، فأتى البصرة وقصد الهرمزان فقاتله وهزمه وفتح «سوق الأهواز»، وكتب بذلك إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس، وأحس الهرمزان بضعفه، فصالح حرقوصا، وفي هذه الأثناء مات عتيبة بن غزوان أمير البصرة، فولاها عمر المغيرة بن شعبة، ثم أبا موسى الأشعري، وأعانه على إدارتها ببضعة وعشرين من أصحاب رسول الله، فيهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر، فلما قدموا عليه جهز حملة كبيرة بقيادة أبي سبرة بن أبي رهم، وسار نحوه، فتحصن الهرمزان فحاصروها، ولما اشتد الحصار على الفرس صالحوا المسلمين، ووقع الهرمزان أسيرا، فطلب النزول على حكم عمر.
ثم سار الجيش الإسلامي ففتح «السوس»، و«جنديسابور»، وغنم المسلمون مغانم كبيرة، وبعث أبو سبرة وفدا مبشرا إلى عمر بعث معه بالغنائم والأخماس، وأرسل الهرمزان معهم إلى المدينة، وكان في الوفد الأحنف بن قيس، وأنس بن مالك، فلما قدم الوفد المدينة ألبس الهرمزان تاجه المرصع ليراه الخليفة والمسلمون على تلك الحال، وساروا نحو المسجد، فإذا عمر نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هذا هو، فقال: أين حرسه وحجابه؟ فقالوا: ليس له حاجب ولا حارس، قال: فينبغي أن يكون نبيا! قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء، ثم استيقظ عمر فأخبر بأمر الهرمزان، فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه، ثم أمر أن ينزع ما عليه وأن يلبس ثوبا صفيقا، وقال له: كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية؛ لأن الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا بالجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، ثم قال عمر: ما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، فقال عمر: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به، فقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأ الهرمزان الماء، فقال عمر: أعيدوا عليه الماء، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال الهرمزان: لا حاجة لي في الماء، وإنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: أمنتني، فقال: كذبت، فقال أنس بن مالك: صدق، ثم أسلم الهرمزان وسكن المدينة، وفرض له عمر ألفين، وقال للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى، فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: فكيف هذا؟ فقال الأحنف: إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في أرضهم، فقال عمر: صدقني، وأذن في الانسياح ببلاد فارس وفتحها. (4) في وقعة نهاوند
رأى الفرس بعد أسر الهرمزان وانسياح المسلمين في بلادهم أن يقفوا صفا واحدا بزعامة «يزدجرد» أمام الخطر الداهم، فتجمعوا عند «نهاوند»، وتكاتب حكام المقاطعات وملوكها على لقاء المسلمين بجيش موحد، فتجمعوا من «مرو» و«الباب» و«السند» و«خراسان»، وعلم سعد بخبرهم فكتب إلى عمر بذلك، وحدث في ذلك الحين أن اشتكى جماعة من أهل الكوفة على سعد واتهموه بالظلم، فقال عمر: والله لا يمنعني ما نزل بأمر المسلمين عن النظر بشكواهم، واستقدم إليه سعدا فخلف على عمله عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وتوجه إلى المدينة، فلما دخل على عمر حقق معه في التهم المنسوبة إليه، فوجد أن القوم متحاملون عليه، ولكنه رأى أن يعزله، وولى الكوفة النعمان بن مقرن، وكان قد اقتحم «جنديسابور» و«السوس» في جمع أهل الكوفة، فأرسل إليه عمر كتاب العهد وكتاب الحض على الجهاد، وهذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم «بمدينة نهاوند»، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار، والسلام عليك.»
ثم أمره أن يسير حتى يبلغ «ماه» وينتظر هناك حتى تجتمع لديه الجيوش، ثم يسير بها إلى «نهاوند»، وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان خليفة سعد على الكوفة يأمره باستنفار الناس للتوجه إلى النعمان، وأرسل إلى جند الأهواز يأمرهم بالمقام ليكونوا حائلا بين أهل إقليم فارس وبين المجتمعين بنهاوند، فلما اجتمعت الجيوش عند النعمان سار بهم، وعلى مقدمته أخوه نعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه أخوه سويد بن مقرن، وحذيفة بن اليمان، وعلى المجردة القعقاع، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، وجاءهم من دق المدينة عليهم المغيرة بن شعبة.
فلما وصلوا «نهاوند» نشب القتال بينهم وبين الفرس، فتقاتلوا ثلاثة أيام، ثم انحجز الفرس في خنادقهم، فخاف المسلمون أن يطول ذلك الانحجاز، وأن يكون وراءه خطة مدبرة ضد المسلمين، فتشاور المسلمون في الأمر، ثم اتفقوا على أن يقاتلهم القعقاع ويظهر الهزيمة، فإذا تبعه الفرس وصاروا بين المسلمين وبين القعقاع أعمل فيهم القتال، ويقضي الله بعده ما يشاء، فقاتلهم القعقاع، وخرج إليه الفرس من خنادقهم، فأظهر القعقاع الهزيمة أمامهم، فتتبعوه فرحين؛ لأنهم لم يروا مثل ذلك من المسلمين قبل الآن، ولم يزالوا كذلك حتى قاربوا جيش المسلمين، فزحف عليهم، وقتل النعمان فسجاه أخوه نعيم، وكتم موته عن الجند ليلا، وأخذ الراية حذيفة، واستمر القتال إلى آخر النهار، فلما أظلم الليل انهزم الفرس، ونجا الفيرزان بنفسه نحو «همذان»، فلحق به بعض الجند وقتلوه هناك، وفتحوا همذان صلحا، ولما علم أهل «ماه» بذلك طلبوا الصلح من حذيفة، فكتب له كتابا هذا نصه: «هذا ما عاهد حذيفة بن اليمان أهل «ماه بهراذان» أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة، وشهد القعقاع بن عمرو ونعيم بن مقرن وسويد بن مقرن، وكتب في المحرم سنة 19ه.»
وكانت مغانم المسلمين يوم «نهاوند» لا تحصى من الرياش والجواهر والذهب، ومن بين ذلك ذخيرة كسرى من الجوهر الذي كان أعده لذلك الزمان، فأجمع رأي المسلمين على إرسال ذلك إلى عمر، وقسم حذيفة غنائم كل فرد من الناس فبلغت مبلغا جسيما، قيل: إنه ستة آلاف درهم. وسمي فتح نهاوند: فتح الفتوح، وبعث حذيفة بالبشرى إلى عمر، فلما قارب البشير المدينة وجد عمر خارجا يتنسم الأخبار؛ لأنه قدر الواقعة، فبات يتململ حتى وصل البشير، فقال له عمر: ما وراءك؟ فقال: خيرا يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم بكى فنشج، وتسلم الغنائم والخمس ووضعها في بيت المال، وشكر الله على هذا الفتح المبين.
أما حذيفة فإنه بعد فتح نهاوند علم أن أهل همذان قد نقضوا عهد الصلح، فكتب بذلك إلى عمر، فأمره أن يبعث إليها نعيم بن مقرن، فرجع إليها من الطريق، واستولى عليها وعلى ما حولها، ثم جاء أمر عمر لحذيفة بالتوجه إلى «الري» و«أصفهان»، فسار إليهما وصالحه أهلهما، وبعث سويد بن مقرن إلى «قومس» فذهب إليها، وصالحه أهلها وكتب لهم كتابا جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى سويد بن مقرن أهل قومس من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، أن يؤدوا الجزية عن كل فرد بقدر طاقته، وعلى أن ينصحوا ولا يغشوا، وعلى أن يدلوا، وعليهم أن يقروا من نزل بهم من المسلمين يوما وليلة من أوسط طعامهم، وإن نكثوا واستخفوا بعهدهم فالذمة منهم بريئة.»
ثم سار سويد إلى «جرجان» و«خراسان» و«طبرستان» و«جيلان» ففتحها صلحا، وكتب لأهلها كتابا جاء فيه: «هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان صاحب خراسان على طبرستان وجيل وجيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان الله عز وجل، على أن تكف لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤدي لنا بغية، وتتقي من ولي فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك ...»
ولما رأى عمر تخاذل الفرس رأى أن يوجه الجيوش إلى سائر الأنحاء الباقية من بلاد فارس، فكتب إلى أبي موسى الأشعري أمير البصرة أن يوجه الأمراء الآتية أسماؤهم لفتح ما بقي من البلاد، وهم: الأحنف بن قيس ووجهته «بلاد خراسان»، والمجاشع بن مسعود السلمي ووجهته «أردشير خره» و«سابور»، وعثمان بن أبي العاص ووجهته «اصطخر»، وسارية بن زنيم الكناني ووجهته «فسا»، وسهيل بن عدي ووجهته «كرمان»، وعاصم بن عمرو ووجهته «سجستان»، والحكم بن عمير التغلبي ووجهته «مكران»، فسار الأمراء في أول سنة 18ه إلى وجهاتهم، وأتم الله على المؤمنين هذه الفتوح العظمى، وغنم المسلمون أعظم المغانم، وامتد سلطان الإسلام في بلاد فارس جميعها حتى بلغ نهر السند.
19 (5) في فتوح مصر
لما أتم المسلمون فتح الشام، وقدم عمر إلى الجابية سنة 18ه الموافق سنة 639م أتى إليه عمرو بن العاص، وكان أحد القواد الأربعة التي تمت على أيديهم فتوح الشام، واستأذنه في فتح مصر، وذكر له أنها أكثر الأرض مالا، وأوفرها خيرات، وأقلها مقاتلين، وأن المسلمين إذا فتحوها كانت لهم قوة وعونا، فتردد عمر أول الأمر؛ لأنه أشفق على المسلمين من الفشل، ولا سيما أن أقدامهم في الشام والعراق لم تثبت بعد، فلم يزل عمرو يهون عليه الأمر؛ لأنه يعرف أحوالهم في الجاهلية معرفة «صادقة»، وأن فتح مصر يغني المسلمين، ويثبت أقدامهم في الشام؛ لأن بقاء مصر في يد الروم يعرض البلاد الشامية للخطر المحقق، فوافق عمر على ذلك، وعقد له لواء على أربعة آلاف رجل وبعثه في سبيل الله، فسار عمرو حتى بلغ العريش ففتحها بدون مقاومة، ثم سلك طريق مصر حتى بلغ «العريش»، وهي أول مدينة مصرية، فلقيته الحامية الرومانية، وهي مفتاح مصر، وكانت منيعة الحصون، فحاصرها عمرو شهرا ونصف شهر حتى تم له فتحها في أول المحرم سنة 19ه/كانون الثاني 640م.
وكان «الأرطبون» صاحب فلسطين الذي هرب منها إلى مصر في بلبيس، فهزمه عمرو واستولى على المدينة، ثم سار عمرو نحو - بابليون - حيث يعسكر البيزنطيون متحصنين، فحاصرهم عمرو، وكتب إلى الخليفة يستمده فأمده بأربعة آلاف أخرى فيهم نفر من كبار الصحابة أمثال: الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، والمقداد بن الأسود، وكتب إليه كتابا يقول فيه: قد أمددتك بأربعة آلاف، فيهم رجال الواحد منهم بألف رجل.
وخرج القائد البيزنطي «تيدور» رئيس الحامية المصرية البيزنطية في عشرين ألف مقاتل لملاقاة العرب، فبعث إليه عمرو كمينا جعله عند الجبل الأحمر، فانقض الكمين على الجيش البيزنطي وضعضع نظامه، ثم لقيه عمرو، فتفرقت صفوف «تيدور»، وهرب من جنده قسم في النيل، ولجأ قسم إلى حصن بابليون فتحصنوا به، ودام الحصار إلى فجر سنة عشرين للهجرة، ولما رأى المقوقس صاحب مصر أن لا قبل له بالعرب، وأن حصارهم سيطول، وأنهم لا بد سيقتحمون الحصن عليه، خرج هو ونفر من الأشراف، فطلب من عمرو أن يصالحه، فقال عمرو لرسله: ليس لكم إلا واحدة من ثلاث: الدخول في الإسلام، ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، أو إعطاء الجزية عن يد وأنتم صاغرون، أو المناجزة حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فلما رجع الرسل إلى المقوقس وأخبروه بخبر المسلمين وثباتهم بعث إلى عمرو يطلب إليه من يفاوضه على الصلح، فبعث إليه عشرة نفر عليهم عبادة بن الصامت، فلما دخلوا على المقوقس أخذ يسلك في حديثه مسلك القوة.
فقال له عبادة: «لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غير هذه الثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب.» فقال المقوقس لقومه: «أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم به من طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم من هذه كرها.»
20
فلم يقبل القوم، وكتب المقوقس بذلك إلى هرقل، فرد عليه بكتاب يوبخه فيه، ويحقر قوة المسلمين ويأمره بالحرب، فلم يستمع لقوله، وأعلم عمرا أنه يصافحه ويضمن له الجسور، ويقيم الضيافة والإنزال للمسلمين بين الفسطاط والإسكندرية، وهكذا استولى المسلمون على «منف»، وضرب عمرو فسطاطه ووطد أمر المسلمين هناك.
ثم أخذ يستعد لغزو الإسكندرية عاصمة مصر، وثانية حواضر الدولة الرومانية الشرقية، وقد أيقن هرقل أن سقوط الإسكندرية معناه سقوط الدولة نفسها، لمكانتها العالمية من جهة، وشهرتها الاقتصادية التجارية من جهة أخرى، فلذلك بادر بإرسال الجيوش إلى الإسكندرية بحرا، ونشط للدفاع عنها، وأمر القائد «تيودورس» بتحصين المدينة وحماية طريقها، وسار عمرو إليها عن طريق طرنوط (الطرانة) ففتحها، ثم سار نحو «نقيوس» و«سلطيس» و«الكريون» ففتحها جميعها، حتى وصل إلى الإسكندرية، فحاصرها أشد حصار، وحمي الوطيس بين الجانبين، ودام الحصار أربعة أشهر، فقلق بال عمر بن الخطاب، وكتب إلى عمرو يلومه على ما ورط المسلمين فيه، فشحذ ذلك من همة عمرو، وبذل المسلمون قصارى جهدهم، وأبلوا أحسن البلاء، فمكنهم الله من الفتح عنوة واضطروا البيزنطيين إلى الهرب، ولكن عمرا جعل أهلها ذمة على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم، ثم إن المقوقس عقد هدنة مع عمرو تتضمن النقاط الآتية: (1)
أن يدفع كل من فرضت عليه الجزية دينارا في السنة. (2)
أن مدة المهادنة أحد عشر شهرا. (3)
أن يحتفظ العرب بمراكزهم وألا يباشروا أعمالا حربية ضد الروم، كما أن الروم يكفون عن منابذة المسلمين. (4)
ألا يتعرض المسلمون للكنائس بسوء، وأن يتركوا للمسيحيين أمورهم الدينية. (5)
أن ترحل الحامية البيزنطية من المدينة مع ما تملك من المال، مال متعة، على أن يدفعوا الجزية عن شهر عن رجلين. (6)
ألا يؤذى يهود المدينة. (7)
ألا يعود إلى مصر جيش رومي أو يحاول استرداد ما أخذه المسلمون. (8)
أن يكون لدى المسلمين من الروم 150 جنديا، و50 ملكيا بمثابة رهينة لتنفيذ هذه المعاهدة وضمان إبرامها.
على أن الروم لم يوفوا بعهدهم؛ فقد بعث قسطنطين بن هرقل جيشا بقيادة «مانويل»، ودخل الإسكندرية فقتل من فيها من المسلمين وحاميتهم، واضطر المسلمون أن يتراجعوا إلى «نقيوس»، فلما علم عمرو بذلك سار إليهم واشتبك مع الروم بقتال حام واسترد «الإسكندرية»، وقتل «مانويل»، وهدم عمرو سور الإسكندرية، وأخذ يبعث البعوث إلى أرض مصر وفتحها، وكتب عمرو بذلك إلى عمر، وأمر المقوقس والقبط على الصلح الذي صالحهم عليه عمرو، وبقي المقوقس على رياسة قومه، وكان المسلمون يشاورونه فيما ينزل بهم من المهمات إلى أن توفي، وكان يقيم «بالإسكندرية» تارة و«بمنف» تارة أخرى.
الفصل الرابع
في أعماله الإدارية والتنظيمية
اتسعت الدولة الإسلامية العمرية اتساعا عظيما، ففتحت في عهد عمر بلاد الشام ومصر والعراق وفارس، وعظمت موارد الدولة، وشيد المسلمون مدنا ثلاثة، هي: الكوفة، والبصرة، والفسطاط، وكان الرأس المدبر والعقل المنظم لهذه الدولة العظمى هو رأس الخليفة العظيم وعقله الجبار، ويمكننا إجمال تلك الأعمال الإدارية في النقاط التالية: (1) تنظيم الدواوين والعطايا والخراج والنفقات وتوسيعها عما كانت عليه أيام الرسول الأعظم والخليفة الصديق
وقد رأينا أن نواة ذلك كانت موجودة في عهد الرسول وخليفته الأول، فلما جاء عمر وسع ذلك، واستعان بالنظم الفارسية، وجعل لها الدفاتر العظام، سجل فيها أسماء المجاهدين، وأصحاب السابقة في الإسلام، وآل بيت الرسول، وكل صاحب حق في بيت المال، ونظم الجداول بالنفقات الشهرية من المال المتجمع لديه في الفتوحات من أموال الفيء والعشر والخراج والأخماس.
ومما عني به تنظيم دواوين البريد؛ لشدة حاجته إلى الاتصال بعماله وتعرف أخبارهم وأحوالهم، والاطلاع على أحوال الجند الإسلامي وإيصال أخبارهم إلى أهلهم، وجعل في البلاد المفتوحة دواوين للقضاء والإحصاء والمحاسبة والبريد، وجعل ذلك بلغات أهل البلاد، وأقام عليها أناسا من أمنائهم وثقاتهم؛ لأنهم أعرف بإدارة ذلك من العرب، ووضع الأنظمة في جمع الجزية والخراج والعشور.
وهذا ما جعل مؤرخي الإسلام يجعلون عمر هو واضع هذه الدواوين في الإسلام، مع أنها كانت موجودة قبله، ولكنه هو الذي أسبغ عليها الصفة الرسمية حتى اعتبر أنه واضعها. يقول الماوردي: «والديوان موضوع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال»، ويقول أيضا: «كان عمر أول من دون الدواوين من العرب في الإسلام، وكان السبب في ذلك أن أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ قال: خمسمائة ألف درهم، فقال عمر: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، فقال عمر: أطيب هو؟ قال: لا أدري، فصعد عمر المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلناه كيلا، وإن شئتم نعد عدا.» فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديوانا لهم. فقال عمر: دونوا الدواوين.»
1 (2) التنظيمات الإدارية للدولة في عهده
كانت رقعة الدولة في العهد العمري تشتمل على جزيرة العرب وبلاد الشام ومصر والعراق وإيران، وقد رأى عمر أن تقسم هذه الدولة إلى عدة ولايات أو عمالات، وقد كانت الجزيرة العربية مقسمة في عهد الصديق إلى: (1) ولاية مكة. (2) ولاية المدينة: وهي مقر الدولة. (3) ولاية الطائف. (4) ولاية صنعاء. (5) ولاية حضرموت. (6) ولاية خولان. (7) ولاية زبيد. (8) ولاية زمع. (9) ولاية الجند. (10) ولاية نجران. (11) ولاية جرش. (12) ولاية البحرين.
ولما وسعت الدولة في عهد عمر قسم بلاد إيران إلى ثلاث ولايات: (1) ولاية الأهواز والبحرين. (2) ولاية سجستان ومكران وكرمان. (3) ولاية طبرستان وولاية خراسان .
وقسم بلاد العراق إلى قسمين: (1) ولاية الكوفة. (2) ولاية البصرة.
وقسم بلاد الشام إلى ثلاث ولايات: (1) ولاية حمص. (2) ولاية دمشق. (3) ولاية فلسطين.
وقسم مصر إلى ثلاثة أقسام: (1) مصر العليا. (2) مصر السفلى. (3) غرب مصر مع ليبيا.
وكانت لعمر سياسة واحدة يأمر بتطبيقها في كافة ولايات الدولة الإسلامية، وغرضه إيجاد أمة واحدة موحدة الأنظمة، موحدة الأهداف والمقاصد، وكان حريصا على أن يمتزج العرب امتزاجا بالأمم المفتوحة، يحافظون معه على تقاليدهم وعاداتهم، وألا تفسد نفوسهم؛ ولهذا أمر بتخطيط مدينتي البصرة والكوفة في العراق، والفسطاط في مصر، وكان عمر حريصا كل الحرص على تقوية الأواصر بين العرب حيثما كانوا. يقول السيد أمير علي: «لو أن عمر عاش أطول مما عاش لاستطاع بما وهبه الله من قوة الشكيمة والشخصية البارزة القوية أن يقوي من شأن الوحدة العربية ويحول دون وقوع الحروب الأهلية الطاحنة التي وقعت فيما بعد وهدمت كيان الوحدة الإسلامية.»
2 (3) العمالات
جعل عمر على رأس كل ولاية واليا أو عاملا يقوم بالأمور الدينية والإدارية في بلاده، ولكنه لم يكن يطلق السلطة لهؤلاء العمال يتصرفون كما يشاءون، بل إنهم كانوا يرجعون في المشاكل الكبرى إلى أمير المؤمنين نفسه، يستفتونه فيما يعرض لهم مما لم يتضمنه كتاب عهدهم، وكان من الأمور التي يجب على العامل أن يقوم بها: إقامة الصلاة، والفصل في الخصومات، وقيادة الحروب، وجمع الأموال من فيء وخمس وزكاة وصدقات وخراج وجزية، ولهذا الأمير العامل أن يولي بعض هذه المصالح من يشاء إذا سمح له الخليفة بذلك، وكان في كثير من الأحيان يجعل أمر الخراج والجبايات إلى رجل آخر غير العامل.
وكان عمر لا يختار عماله إلا من كبار الصحابة العرب وفضلائهم، وهذه السنة كانت أيام الرسول وأبي بكر، وعمل بها عثمان ومن بعده خلائف بني أمية، وكان عمر إذا ولى عاملا أوصاه بأن يعدل ويسير في الناس سيرة طيبة، ومما قال لبعض عماله: إني لم أستعملكم على أمة محمد على أشعارهم وأبشارهم، وإنما استعملناكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل ، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تحجروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جودوا القرآن، وأقلوا الرواية عن محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأنا شريككم.
وكان يقتص من عماله، وإذا اشتكي إليه من عامل جمع بينه وبين من شكاه، فإذا صح عليه أمر يجب به أخذه اقتص منه، وكان في كثير من الأحوال إذا اشتكي من عامل لم يبقه بين ظهراني مرءوسيه ولو كان بريئا؛ لأن فساد الصلات الودية بين الرئيس والمرءوس أمر يضر بالمصلحة العامة.
وكان عمر يعنى باستشارة كبار أهل الرأي من الصحابة في المسائل التي تعترضه، وفي إدارة شئون الدولة، وكان أبو بكر من قبله قد أوجد مجلسا من كبار شيوخ الصحابة يسألهم رأيهم في القضايا العامة، فلما استخلف عمر أقر ذلك، وكان يستشيرهم ولا يقطع بأمر كبير إلا دعاهم وخطبهم واستطلع آراءهم، وكانوا يجتمعون في المسجد النبوي ويتداولون الأمور. (4) التنظيمات العسكرية
عني عمر بالجيش والجهاد والتنظيمات العسكرية عناية شديدة، وجعل للجند امتيازات، وخصوصا بعد أن تمت الفتوحات الكبرى وتواردت الأموال على بيت المال، فنظم ديوان الجند، ورتب الأموال لتزويدهم بالسلاح والخيل والميرة، وكان القتال في العهد النبوي والعهد الصديقي والعهد العمري معتمدا على العواطف الدينية الصادقة، والرغبة الأكيدة في نشر الدين الحنيف ورفع راية الإسلام عالية، فاستطاعت الجيوش الإسلامية في فترة وجيزة أن تسيطر على العالم المتمدن المعروف آنئذ.
ولما تمكنت أقدام المسلمين في مصر والشام والعراق وإيران رأى عمر أن يقيم الجنود الإسلاميون في هاته البقاع في معسكرات خاصة بهم، وأباح لهم امتلاك الأرضين، وتثمير الثروات، وشراء الأملاك، ولكن عمر ما لبث أن أحس بأن ذلك العمل غير ناجح، فمنعهم من ذلك، وضمن لهم نفقاتهم وكل ما يحتاجون إليه هم وأولادهم وأسرهم. وإلى عمر يرجع الفضل في إقامة الحصون والقلاع الإسلامية، كما أنه أمر بإقامة المعسكرات والفساطيط الدائمة المتضمنة كل ما تحتاج إليه الجنود لراحتها.
وفي عهده وبمعونة كبار القادة أمثال: أبي عبيدة، وخالد، وعمرو بن العاص، تم تنظيم الجيش الإسلامي، وترتيب أحوال القيادة العسكرية، وتنظيم تعبئة الجيوش، وكانوا في القيادة يقسمون الجيش خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، ومجنبتان، وقلب، وكانوا يجعلون لكل قسم أميرا يصدر عن أمر قائد الجيش، وكانوا يقسمون الجيش بعد ذلك إلى كراديس (أي صفوف)، كل كردوس ألف رجل، وعلى كل كردوس رجل من أهل النجدة والفروسية يكون الأمير عليهم.
ثم يقسمون الكردوس إلى عشرات عشرات، على كل عشرة رئيس يسمى عريفا، وكانوا يقاتلون على أنواع، منها: «قتال الزحف»، الذي ذكره الله تعالى في قوله:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وهو قتال شديد على الأعداء؛ لأنه قتال يستميت فيه المسلمون، ومنها قتال «الكر والفر»، وهو القتال الذي كانوا يقاتلون عليه في الجاهلية.
أما الغنائم التي كانوا يربحونها في الحروب فكانوا يقسمونها أخماسا، فأربعة أخماس منها تعطى للمجاهدين في سبيل الله، يأخذ الراجل ثلث الفارس، والخمس الباقي يقسم حسبما أمر الله في سورة الأنفال، أما الأسرى فحكمهم ما أمر الله به في قوله:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ، والمن هو أن يعفو الخليفة عن الأسير فيطلقه من غير فداء، والفداء يختلف قلة وكثرة حسب حال الأسير من غنى وفقر.
أما سلب القتلى وأموالهم وسلاحهم فحق للقاتل لا ينازع في ذلك.
وأما عدد الجيش فلم يكن معلوما في العصر النبوي، ولا العصر الراشدي، بل كل مسلم عاقل قوي قادر على حمل السلاح هو مدعو للقتال ملزم بالنفرة، فإذا تخلف ظن فيه النفاق، وعوقب أشد العقاب. وكان كل مسلم يعتقد أن الجهاد أول واجب عليه حتى ينصر دين الله، ولم تكن النساء والشبان الأحداث أقل حماسة في الجهاد من الرجال، ولقد ظهر لبعض النساء من الجرأة والبطولة ما خلدهن في بطون التاريخ، وكان كثير من الصبيان والأحداث يتسابقون إلى تسجيل أسمائهم في جداول الغزاة، ويحزنهم أن يردوا ويكتشف أن أعمارهم لا تخول لهم الانخراط في سلك الغزاة المجاهدين.
أما الروح المعنوية للجيش الإسلامي فكانت عجيبة، وكان المسلمون إذا خفوا للجهاد لم يردهم عن هدفهم إلا الموت أو النصر، وليس لهم غرض إلا إعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام، وكان من عادة قادة الجيش أن يبثوا القراء والمحرضين والمنشدين والقصاص يدعون الجنود إلى الاستماتة والاستشهاد في سبيل الله، وبذلك تمكن المسلمون بعددهم القليل وعدتهم المحدودة أن يفتكوا بتلك الدول العظمى التي تفوقهم عددا وعدة ومالا وسلطانا ونفوذا. (5) التنظيمات المالية
رأينا أن بيت المال كان موجودا منذ عهد النبي والصديق، ولكن المشهور أن عمر هو أول من نظم بيت المال، ولا ريب في أن الأموال التي تقاطرت إلى المدينة في العهد العمري كانت جد كثيرة امتلأ بها بيت المال، من زكاة المسلمين، وجزية أهل الذمة، وخمس الغنائم، ومواريث من لا وارث لهم، وقد عني الخليفة الراشد الثاني بتنظيم مصارف هذه الأموال تنظيما صحيحا لا يتطرق إليه الاضطراب أو الفساد.
أما مصارف الزكاة فهي كما أمر الله بتوزيعها عليهم في قوله:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ، أما الفقراء والمساكين: فهم من لا يملكون قوت يومهم، وأما العاملون عليها: فهم العمال الذين يسميهم الخليفة لقبض تلك الأموال من أصحابها الذين وجبت عليهم.
وأما المؤلفة قلوبهم: فهم قوم من الأشراف والكبراء أسلموا، وفي إسلامهم ضعف، أو إنهم لم يسلموا ولكنهم بعد هذا العطاء قد يسلمون.
وأما الرقاب: فيراد بها رقاب العبيد الذين كاتبهم أسيادهم على شيء من المال يعطونه إياهم، فإذا أعطوهم إياه أعتقوهم، أو أن تشترى الرقاب فتعتق في سبيل الله.
وأما الغارمون: فهم الذين ركبتهم الديون الباهظة ولم يستطيعوا تسديدها.
وأما سبيل الله: فهو سبيل الجهاد لنصرة دين الله.
وأما ابن السبيل: فهو المرء الضائع المنقطع عن أهله وماله.
وأما أموال الجزية والأخماس فتصرف في سبيل الله وتهيئة عدة الجيوش من سلاح وخيل وقوة، وأما مواريث الموتى فتصرف فيما يراه الإمام، ولم يكن للجنود شيء مسمى من المال، وإنما كان النبي وأبو بكر يعطيان ما يتيسر للمقاتلة، فلما جاء عمر ودون الدواوين وكثرت الأموال فرض للمقاتلين الأموال، فجعل للعباس خمسة وعشرين ألف درهم في السنة، وجعل لأزواج رسول الله عشرة آلاف عشرة آلاف، وجعل لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ولنسائهم خمسمائة خمسمائة، وألحق بأهل بدر أربعة ليسوا منهم، وهم : الحسن، والحسين، وأبو ذر، وسلمان الفارسي، ولمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ولنسائهم أربعمائة أربعمائة، ولمن بعد الحديبية إلى آخر عهد أبي بكر ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ولنسائهم ثلاثمائة ثلاثمائة، ولمن شهد القادسية واليرموك ألفين ألفين، ولنسائهم مائتين مائتين، ولأهل البلاد النازع منهم ألف وخمسمائة، ولنسائهم مائتين مائتين، ولمن بعد القادسية واليرموك ألفا ألفا، ولنسائهم كمن قبلهم، وللروادف المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم ثلاثمائة ثلاثمائة، وفرض للروادف الربيع مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم، وهم أهل هجر والعباد مائتين مائتين، سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وللصبيان مائة مائة، وكل مسكين جريبتين في الشهر، وقال عمر لأهل الشورى: إني كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنه يحل لي من هذا المال؟ فقال علي: لك ما أصلحك وعيالك بالمعروف، ليس لك غيره، فأخذ قوته واشتدت بعد ذلك حاجاته، فاجتمع نفر من أهل الشورى فيهم عثمان وعلي وطلحة والزبير، وقالوا: لو قلنا لعمر في زيادة نزيده إياها في رزقه، فقال عثمان: هلم بنا فلنعلم ما عنده من وراء وراء، فأتوا أم المؤمنين حفصة بنت عمر، فأعلموها الحال، وأوصوها ألا تخبر بهم، فلقيت حفصة عمر بذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسوأنهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم، قال: أنت بيني وبينهم، ما أفضل ما اقتنى رسول الله في بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد والجمع، قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: حرفا من خبز شعير فصببنا عليه وهو حار أسفل عكة لنا فجعلها دسمة حلوة فأكل منها، قال: فأي مبسط يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنا نربعه في الصيف، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه، قال: يا حفصة، أخبريهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالترجية، فوالله لأضعن الفضول مواضعها، ولأتبلغن بالترجية، وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا، فمضى الأول لسبيله وقد تزود فبلغ المنزل، ثم اتبعه الآخر فسلك سبيله فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث، فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يلقهما.
الفصل الخامس
في مقتله ومناقبه وأسرته
(1) مقتله
كان مقتل الخليفة عمر بن الخطاب جريمة فظيعة ائتمر فيها نفر من أعداء الإسلام والعروبة الذين قضى على ممالكهم، وأذل نفوسهم، ونشر فيهم راية الإسلام من الفرس واليهود والنصارى الذين تظاهروا بالإسلام وهم يكيدون له ويتربصون به الدوائر، بالخليفة الذي تم زوال ملكهم على يديه، وجعلهم خاضعين لهؤلاء العرب الذين كانوا بالأمس لا شأن لهم ولا رأي ولا فضل ولا مكانة.
تآمر بمقتل عمر يهودي مجرم تظاهر بالإسلام وأبطن الكفر والكيد والفتنة اسمه كعب الأحبار، عرف بفساد طويته وبنشره الأباطيل والأكاذيب بين المسلمين، كما تآمر بمقتله الهرمزان، ذلك الأمير الفارسي المجوسي الذي رأينا كيف جيء به إلى عمر بعد أن عاث في الأرض فسادا ونقض العهد مرات، وأراد عمر أن يقتله فاحتال عليه، وأعلن إسلامه وأبطن الشرك، فعفا عنه وأسكنه المدينة، وخصص له ما خصص لكبار المجاهدين من أموال بيت مال المسلمين، ولكنه كان مجوسيا مجرما، يبطن الشر ويتحين الفرص.
وكان ثالث المتآمرين عبد لئيم زنيم اسمه فيروز أبو لؤلؤة، كان مولى للمغيرة بن شعبة، وكان شديد الحقد على العرب والمسلمين، ولم يزل كلما جيء إلى المدينة ببعض أسرى الفرس ورقيقهم يمسح رءوسهم ويتوعد المسلمين.
ورابع المتآمرين هو نصراني اسمه جفينة، قالوا إنه كان من أهل الأنبار، وكان شديد الحقد على العرب وعلى عمر خاصة. ويروي بعض المؤرخين أن عبد الرحمن بن أبي بكر رأى قبل مقتل عمر أبا لؤلؤة مع الهرمزان وجفينة جالسين يتحدثون، فلما فاجأهم قاموا وقوفا، فسقط بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي حمله فيروز أبو لؤلؤة لقتل عمر، وقتل نفسه بعد أن أخذ بفعلته.
ولا شك في أن مقتل عمر كان أعظم مصيبة حلت بالمسلمين بعد موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كانت الفجيعة بعمر - وهو الذي نشر راية الإسلام من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وهو يريد أن يتمم رسالة محمد - فجيعة كبرى قضت على آماله الجسام، وحطمت أهدافه الجليلة. وقد روى البخاري تفصيل حادث القتل رواية عن عمرو بن ميمون، نورده فيما يلي:
قال عمرو: إني لواقف ما بيني وبينه (بين عمر) عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا. حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النمل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة، فسار العلج بسكين ذي طرفين لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، فمات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ غز نفسه. وتناول «عمر» يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر رأى ذلك الذي أرى.
وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون «سبحان الله! سبحان الله!» فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم قال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، والحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، وقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا، فقال: إن شئت فعلت (أي: إن شئت قتلنا)، قال: كذبت، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى قبلتكم، وحجوا حجكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول : لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه، فخرج من جوفه، فقالوا: إنه ميت. فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقدم الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه، وقال: إن وفى بذلك مال آل عمر فأدوه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم أمير المؤمنين، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن فدخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه داخلا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا، لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني (يعني أبا بكر)، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني (يعني رسول الله)، فقال عبد الله بن عمر: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله أنه غير مستخلف، ثم قال عمر: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله وهو راض عنهم، فسمى عليا وعثمان والزبير وسعدا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
ثم أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يدفع لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، وأن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وألا يأخذ عنهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.
فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر وقال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: ادخلوا، فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه، رضوان الله عليه وسلام عليه في العادلين الصالحين، ورحم الله بطنا أنجبت ذلك العبقري الخالد الذي بكاه الإسلام، وصدق رسول الله إذ يقول مرددا قول جبريل له
صلى الله عليه وسلم : يا محمد، ليبكين الإسلام من بعد موتك على موت عمر.
1 (2) مناقبه
كان عمر من عباقرة الدنيا عقلا وفطنة وشرفا وأخلاقا، وكان أجل صفاته العدل، وإحقاق الحق، وإدحاض الباطل، وكان جنديا شريفا طاهرا مؤمنا مقلدا للرسول متبعا للسنة، لا يخرج عما أمر به الإسلام من آداب، ولا يتصف بغير ما أمر به من مناقب ومزايا نبيلة، قال الطبري: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج، وكان يخافه ملوك فارس والروم وغيرهم. ولما ولي بقي على حاله قبل الولاية في لباسه وزيه وأفعاله وتواضعه، يسير مفردا في حضره وسفره من غير حرس ولا حجاب، لم تغيره الإمرة ولم تبطره النعمة، ولا استطال على مؤمن بلسانه، ولا حابى أحدا في الحق لمنزلته، لا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييئس الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم، ونزل نفسه من مال الله منزلة رجل من المسلمين، وجعل فرضه كفرض أي رجل من المهاجرين، وكان يقول: إنما أنا ومالكم كوالي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فقيل له: ما ذلك المعروف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا تقوم البهيمة الأعرابية إلا بالقضم أو الخضم.
2
والحق أن عمر كان يكتفي بأقل القليل ولا يتعداه، وكيف يتعدى على أموال المسلمين أو يمد يده إلى ما ليس له وهو يحاسب الناس أدق الحساب؟ فيفتك بكل من يمد يديه إلى مال غيره، ويضرب بدرته كل من توحي إليه نفسه بالتطاول إلى ما ليس له، فهابه الناس من كبير وصغير وامرأة وطفل، وربما هابه الناس أكثر من الرسول؛ فقد روت كتب السيرة أن النبي أذن لأمة سوداء نذرت على نفسها إن رأت النبي
صلى الله عليه وسلم
يعود سالما أن تضرب بدفها فرحا بمقدمه وسلامته، وبينما كانت كذلك دخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، والصحابة مجتمعون مستأنسون، فما هي إلا أن دخل عمر فوجمت الجارية وأسرعت إلى دفها تخفيه، والنبي يقول: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر.» بل رووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يهابه؛ فقد روت السيدة عائشة (رضي الله عنها) أنها طبخت له عليه الصلاة والسلام حريرة، ودعت سودة أن تأكل معها فأبت، فعزمت عليها لتأكلن أو لتلطخن وجهها، فلم تأكل سودة، فوضعت يدها في الحريرة ولطخت بها وجه سودة، والنبي يضحك، ثم وضع الحريرة بيد سودة وقال لها: لطخي أنت وجهها، ففعلت، ومر في ذلك الوقت عمر فناداه النبي: يا عبد الله، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما: قوما فاغسلا وجهيكما ، قالت عائشة (رضي الله عنها): فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياه، وقد كان الرسول العظيم يرعى تلك الهيبة العمرية ويقدرها حق قدرها لما فيها من نصرة الحق، وإحقاق العدل، وإيقاع الخشية في قلوب كل من تحاول نفسه الاستهانة بالدين أو نصرة الباطل أو إعانة الظالم.
قال الطبري: وهاب الناس عمر هيبة عظيمة، حتى ترك الناس المجالس بالأفنية، قالوا ننتظر ما رأي عمر، وقالوا: بلغ من أبي بكر أن الصبيان كانوا إذا رأوه يسعون إليه ويقولون: يا أبت، فيمسح رءوسهم، وبلغ من هيبة عمر أن الرجال تفرقوا من المجالس هيبة حتى ينتظروا ما يكون من أمره، قالوا: فلما بلغ عمر أن الناس هابوه، فصيح في الناس: «الصلاة جامعة»، فحضروا، ثم جلس من المنبر حيث كان أبو بكر يضع رجليه، فلما اجتمع الناس قام، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي، ثم قال: «بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي، وقالوا قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف إذا صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق؛ فقد كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، فكنت سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، حتى قبض رسول الله وهو عني راض والحمد لله وأنا أسعد بذلك.
ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله وهو عني راض والحمد لله، وأنا أسعد بذلك. ثم إني وليت أموركم أيها الناس، واعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والفضل فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا ويتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم علي ألا أخبئ شيئا من خراجكم إلا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع عندي ألا يخرج إلا بحقه، ولكم علي أن أرد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم.» هذه منقبة من مناقب العبقري الفذ عمر.
وله مناقب جليلة أخرى، نذكر منها: علمه، وفهمه، وفراسته، وتلطفه في استنباط الأحكام الشرعية وفهم روح الإسلام وتشريعه،
3
قال الأسدي: صحبت عمر فما رأيت أحدا أفقه في دين الله، ولا أعلم لكتاب الله، ولا أحسن مدارسة منه، وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهبت يوم ذهب عمر. وقال ابنه عبد الله بن عمر: لله تلاد عمر لقلما يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان.
ومن مناقبه رضوان الله عليه وسلامه: أنه كان مع شدته وهيبة الناس إياه رقيق القلب، كثير الحساسية، لطيفا، رءوفا بالناس، كثير الحدب عليهم، عظيم العناية بضعيفهم، وكان يقرأ في وجوه الناس ما تكنه ضمائرهم، فيخاطب كلا بما في قلبه ويلاطفه، وكان صاحب فراسات في أمور الناس تكاد لولا تواترها تظن أنها من نسج خيالات الرواة ومخترعات أفكارهم، فمن ذلك ما رووا أنه رأى رجلا أعرابيا، فقال لمن معه من الناس: هذا رجل مصاب بولده، وقد نظم فيه شعرا لو شاء لأسمعكم، قال: ثم ناداه وقال له: يا أعرابي، من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، قال: وما وضعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي، قال: وما وديعتك؟ قال: بني لي هلك فدفنته فيه، قال: فأسمعنا ما قلت فيه، فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما تفوهت بذلك وإنما حدثت به نفسي، ثم أنشد:
يا غائبا ما يئوب من سفره
عاجله موته على صغره
يا قرة العين كنت لي أنسا
في طول ليلي نعم وفي قصره
ما تقع العين حيثما وقعت
في الحي مني إلا على أثره
شربت كأسا أبوك شاربه
لا بد منه له على كبره
يشربها والآنام كلهم
من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له
في حكمه كان ذا وفي قدره
قدر موتا على العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره
فبكى عمر حتى بل لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابي.
4 (3) أسرته
كان لعمر ثلاثة عشر ولدا: تسعة بنين وأربع بنات، أما البنون: «فعبد الله» أسلم مع أبيه بمكة صغيرا وهاجر معه، وشهد المشاهد كلها بعد بدر وأحد، وكان عالما مجتهدا في السنة من عباد الله خوافا له، ناصحا للأمة، زاهدا في الدنيا وزخرفها، مات وله أربع وثمانون سنة في عام 73 للهجرة، و«عبد الرحمن» الأكبر، وهو شقيق عبد الله، وأمهما زينب بنت مظعون، و«زيد الأكبر» وأمه أم كلثوم بنت علي عليه السلام، و«عاصم» وأمه جميلة بنت عاصم، وكان فاضلا خيرا، مات سنة 70ه، و«عبد الرحمن» الأوسط وأمه لهية أم ولد، و«عبد الرحمن» الأصغر وأمه أم ولد، و«عباس» وأمه عاتكة بنت زيد، و«زيد» الأصغر و«عبيد الله» وأمهما مليكة بنت جرول الخزاعية.
وأما البنات فهن: «حفصة»: زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، شقيقة عبد الله وعبد الرحمن الأكبر، و«رقية»: شقيقة زيد الأكبر، و«فاطمة»: وأمها أم حكيم بنت الحارث، و«زينب»: وأمها فكيهة، وكن كلهن عالمات فاضلات مهذبات كريمات.
الفصل السادس
في مشهوري رجال دولته
(1) طلحة بن عبيد الله بن عثمان التميمي (28ق.ه.-36ه)
وهو الصحابي الجليل الشجاع، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بعده، وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، شهد بدرا وأحدا، وثبت مع رسول الله يوم أحد وبايع الرسول على الموت، فأصيب بأربعة وعشرين جرحا وسلم، ثم شهد الخندق وسائر المشاهد.
وكان غنيا سخيا، يضرب المثل بجوده فيقال: «أجود من طلحة.» وإذا قيل: «طلحة الجواد» أو «طلحة الفياض» لم يقصد غيره، لم يكن يدع أحدا من بني تميم إلا أغناه، وكانت له تجارة وافرة مع العراق والشام واليمن، وكان من خطباء الصحابة، إلا أنه كان حربا لعلي عليه السلام، خرج مع عائشة يوم الجمل، وقتل وهو بجانب السيدة عائشة، والمشهور أن مروان بن الحكم هو الذي قتله، رماه بسهم، وقال: أطلب بثأري بعد ذلك اليوم؛ فقد زعموا أن طلحة كان ممن حاصر عثمان واشتد عليه ، فلذلك قتله مروان وقال ذلك القول، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وكان له ستون سنة.
1 (2) الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي (36ه)
هو الجليل الشجاع، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أسلم وهو ابن ثماني سنين، فكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول: لا أكفر أبدا. وهو أول من سل سيفا في سبيل الله، ودعا النبي عليه الصلاة والسلام له بذلك، وكان النبي يقول: إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير وطلحة، وهو أحد أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب بعده ليروا من يصلح للخلافة بعد موته، وكان عمر يقول: الزبير ركن من أركان الإسلام، غنيا جوادا، خلف أملاكا قدرت بأربعين ألف درهم، وكان عثمان يحبه ويقربه، وولاه على إمرة الحج، وكان يقول: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، فإنه كان لأحبهم إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال مرة لابنه عبد الله: يا بني ما من عضو في إلا وقد جرح مع رسول الله. وكان شجاعا بطلا، أبلى يوم اليرموك أحسن البلاء، وخرج مع عائشة يوم الجمل وقتل ذلك اليوم، قتله ابن جرموز غيلة، وله نيف وستون عاما.
2 (3) عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي (44ق.ه.-32ه)
من أكابر الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر لينظروا في الأمر من بعده، وهو أحد السابقين الأول للإسلام، وكان اسمه عبد الكعبة فسماه الرسول «عبد الرحمن»، وشهد المشاهد كلها، وجرح يوم أحد 21 جراحة، وثبت مع رسول الله، وبعثه إلى دومة الجندل، وعممه بيده وسدلها بين كتفيه، وقال له: «سر باسم الله ...» ووصاه بوصايا، وقال له: فتح الله عليك، وكان عمر يجله ويرجع إلى رأيه في كثير من الأحوال.
وكان متواضعا عفيفا يخاف الله، أغناه الله كثيرا وفتح عليه في التجارة، فكان كثير الصدق والإحسان، قال الزهري: تصدق عبد الرحمن بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله عز وجل، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، ووردت مرة قافلة له من الشام فحملها كلها إلى رسول الله، فدعا له الرسول بالجنة، ويروى أنه أعتق ثلاثين ألف عبد، وأعتق في يوم واحد ثلاثين عبدا.
قال ابن عمر: خدمت عمر وكنت له هائبا ومعظما، فدخلت عليه ذات يوم في بيته وقد خلا بنفسه، فتنفس تنفسا ظننت أن نفسه خرجت، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقلت له: والله ما أخرج هذا منك إلا هم، فقال: هم والله هم شديد، إن هذا الأمر إلا الخلافة، ألم أجد له موضعا؟ فذكرت له عليا وطلحة والزبير وسعدا وعثمان، فذكر في كل واحد منهم معارضا، فذكرت له عبد الرحمن، فقال: أوه، نعم المرء، ذكرت رجلا صالحا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، والممسك من غير بخل، ومات سنة 32ه، وهو ابن سبعين ونيف، ودفن بالبقيع، وكان أوصى بألف فرس وبخمسين ألف درهم في سبيل الله.
3 (4) سعد بن مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهرة (55ه)
هو من أجلاء الصحابة وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو ممن أسلم قديما بعد ستة وهو سابعهم، وقد شهد المشاهد كلها، وتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو راض عنه، وهو أول من رمى سهما من العرب في سبيل الله، وكان على يديه فتح القادسية، ولاه عمر أمر بناء الكوفة فشكاه أهلها إليه، فقالوا له: لا يحسن الصلاة، فقال سعد: أما أنا فقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، أركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، ثم بعث رجالا يسألون عنه في مساجد الكوفة، فلم يأتوا مسجدا إلا أثنى عليه الناس خيرا، ثم عزله عمر وولى الكوفة جبير بن مطعم، وقد جعله عمر أحد رجال الشورى، وأوصى من يكون خليفة بعده بالاستعانة به، ولما وقعت فتنة عثمان ثم فتنة علي لزم بيته وأمر أهله ألا يخبروه بشيء من أخبار الناس حتى تجتمع الأمة على إمام، وكان زاهدا متواضعا وصادقا عادلا حريصا على فعل البر والصدقات، وهو آخر العشرة المبشرين بالجنة موتا، وكانت وفاته سنة 55، وله بضع وستون سنة، وقيل أكثر من ذلك. (5) سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي (50ه)
كان أبوه من الحنفاء الأتقياء في الجاهلية، وكان يحيي الموءودات، وكان يقول للرجل إذا أراد وأد بنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مئونتها. أما ابنه سعيد فقد كان من المسلمين الأول، أسلم هو وزوجته أم جميل بنت الخطاب، أخت عمر، وقد تقدمت قصة إسلام عمر، وقد هاجر هو وزوجته، وشهد له النبي وهو أحد العشرة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، وبعثه الرسول هو وطلحة إلى الشام يتجسسان أخبار قريش قبل يوم بدر، وكان ورعا زاهدا، توفي بأرضه في العقيق سنة 50ه، أو سنة 51ه في أيام معاوية وهو ابن بضع وسبعين. (6) أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال القرشي (18ه)
أسلم قديما، ولقبه رسول الله بأمين الأمة، وكان يقول: إن لكل أمة أمينا، وإن أمين أمتنا أبو عبيدة بن الجراح، وقد أبلى أحسن البلاء في فتوح الشام والمشاهد كلها مع رسول الله، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان عمر يجله ويكبر مكانته ويثق به، ولما رحل عمر إلى الشام أثناء الطاعون قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي فهو الخليفة بعدي، وإن أدركني أجلي وأبو عبيدة ميت استخلفت معاذ بن جبل، وكان عمر يقول : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة، وكان يكره مخالفته، وكان ورعا زاهدا خائفا من الله، متواضعا منصفا للرعية، مساويا بينهم. ولما وقع القحط بالحجاز كتب إليه عمر: الغوث الغوث، فكتب إليه أبو عبيدة: «قد أتتك العير يا أمير المؤمنين، أولها عندك وآخرها بالشام.» ومات في طاعون عمواس بالأردن سنة 18ه في خلافة عمر وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل (رضي الله عنهما).
4
الخليفة الراشد الثالث: عثمان بن عفان
23-35ه/644-656م
الفصل الأول
في نسبه وأوليته في الجاهلية
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن أمية بن عبد مناف الأموي القرشي (رضي الله عنه)، وأمه هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وشقيقة أبي طالب. ولد عثمان في السنة الخامسة لميلاد الرسول الأعظم، فعني أبوه بتهذيبه وتثقيفه، وكان عفان من أثرياء قريش ووجوهها وعقلائها، فنشأه على الأخلاق الكريمة، والمزايا النبيلة، وأدبه بأدب شبان قريش، فتعلم الكتابة، وروى الشعر، وحفظ أنساب قومه، وأخبارها وسيرها، ووعى الشعر والخطب.
قال هشام بن عروة: كان عثمان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة،
1
وقد وصفه مترجموه بأنه كان ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا الطويل، حسن الوجه، بوجنتيه نكتات من الجدري، وأنه كان أقنى شرف الأنف، رقيق البشرة، عظيم اللحية، أسمر اللون، كثير الشعر، له جمة أسفل من أذنيه، ولكثرة شعر رأسه ولحيته كان أعداؤه يسمونه نعثلا - وهو الضبع الذكر - وكان ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، أروح الرجلين، وكان أصلع، يصبغ لحيته، وقد وتد أسنانه بالذهب، وكان من أحسن الرجال وآنفهم وأوسمهم.
قال أسامة بن زيد: بعثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بصحفة فيها لحم إلى عثمان، فدخلت عليه، وإذا هو جالس مع رقية ابنة رسول الله زوجته فما رأيت زوجا أحسن منهما، فجعلت مرة أنظر إلى عثمان، ومرة أنظر إلى رقية، فلما رجعت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: دخلت عليهما؟ قلت: نعم، قال: هل رأيت زوجا أحسن منهما؟ قلت: لا، وقد جعلت مرة أنظر إلى رقية ومرة أنظر إلى عثمان. وكان محببا في قريش، وفيه يقول قائلهم: «أحبك الرحمن حب قريش عثمان.» وهو من أمثالهم.
الفصل الثاني
في إسلامه وأحواله قبل الخلافة
روى ابنه عمرو عن أبيه عثمان يصف إسلامه، فقال: كنت رجلا مستهترا بالنساء، وإني ذات يوم بفناء الكعبة قاعدا في رهط من قريش، إذا أتينا، فقيل لنا: إن محمدا قد أنكح عتبة بن أبي لهب ابنته رقية، وكانت رقية ذات جمال رائع، قال عثمان: فدخلتني الحسرة لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك، فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالة لي قاعدة، وهي: سعدى بنت كريز، وكانت قد تكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت:
أبشر وحييت ثلاثا تترى
أتاك خيرا ووقيت شرا
أنكحت والله حصانا زهرا
وأنت بكر ولقيت بكرا
وافيتها بنت عظيم قدرا
بنت امرئ قد أشاد ذكرا
فعجبت من قولها، فقلت: يا خالة، ما تقولين؟ فقالت: يا عثمان:
لك المال ولك اللسان
هذا نبي معه البرهان
أرسله بحقه الديان
فاتبعه لا تغتالك الأوثان
فقلت: يا خالة، إنك لتذكرين شيئا ما وقع ذكره في بلدنا فأبينيه لي، قالت: محمد بن عبد الله، رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الدباح، وسلت الصفاح، ومدت الرماح.
فانصرفت، ووقع كلامها في قلبي، فجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر فأتيته، فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه فرآني مفكرا، فسألني عن أمري، وكان رجلا متأنيا، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: ويحك يا عثمان! إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر؟! قلت: بلى والله إنها كذاك، فقال: والله لقد صدقت خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه فتسمع منه؟ قلت: بلى، فوالله ما كان أسرع من أن مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومعه علي يحمل ثوبا، فلما رآه أبو بكر قام فساره في أذنه بشيء، فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقعد، ثم أقبل علي، فقال: يا عثمان، أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه، فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وأشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله ... ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ولما اشتد أذى المشركين على رسول الله والمسلمين، وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة، كان عثمان من أول من فر بدينه إليها وأخذ معه زوجه، فكانا أول مهاجرين، ثم تبعه سائر المهاجرين. قال أنس بن مالك: لما خرج عثمان بابنة رسول الله إلى الحبشة وأبطأ خبرهما جعل
صلى الله عليه وسلم
يتوكف الأخبار، فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة، فسألها
صلى الله عليه وسلم ، فقالت: رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وهو يسوقها، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله عز وجل بعد لوط،
1
وقد ظل رضوان الله وسلامه عليه في الحبشة إلى ما بعد هجرة النبي إلى المدينة أو بعدها.
ولما قدم على رسول الله من الحبشة أنس به جدا، فكان يدعوه إلى مجلسه ويسامره في ليله، فيهش له وينشرح صدره بمقدمه، روت عائشة أنها كانت هي وحفصة عند رسول الله ذات يوم، فقال رسول الله: لو كان عندنا رجل يحدثنا، فقالت عائشة: أبعث إلى أبي بكر فيجيء فيحدثنا، قالت: فسكت
صلى الله عليه وسلم ، فقالت حفصة: أبعث إلى عمر فيجيء فيحدثنا، فسكت
صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا وصيفا بين يديه فساره، فإذا عثمان يستأذن، فأذن له وأقبل عليه بوجهه، فناجاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
طويلا.
2
وقد شهد المشاهد والغزوات مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان ممن هرب يوم أحد، وتخلف عن بدر؛ لأن النبي أذن له بالتخلف عنها لتمريض السيدة رقية، فكتب له النبي بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان؛ لأن النبي كان بعثه إلى مكة، فأشيع أنهم قتلوه، فضرب النبي إحدى يديه على الأخرى وقال: هذه يد عثمان، وكان الرسول يستكتبه الوحي ويستكتمه أسراره، ويقول: هو أشبه الناس بي خلقا وخلقا ودينا وسمتا، وهو أصدق أمتي حياء.
3
وقد كان من أجل أعماله التي قام بها في عهد الرسول تجهيزه لجيش العسرة يوم غزوة تبوك؛ فقد قال عبد الرحمن بن خباب: شهدت النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان فقال: يا رسول الله، علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه.
ومن أعماله الجليلة في عهد الرسول تسبيله بئر رومة؛ لما قدم المهاجرون إلى المدينة واستنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار بئر يقال لها «بئر رومة»، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
للرجل: تبيعها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي عين غيرها، لا أستطيع ذلك، فبلغ عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: اجعل لي مثل الذي جعلت له عينا في الجنة، فقال الرسول: نعم، قال عثمان: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين. ومن أعماله النبيلة أيضا أن المسجد النبوي لما ضاق بالمسلمين ابتاع عثمان مربدا كان إلى جانب المسجد لما سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: من يبتاع مربد بني فلان، غفر الله له، فابتاعه عثمان بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفا، وقال للرسول: قد ابتعته، فقال: اجعله في مسجدنا وأجره لك، فقال: اللهم نعم.
ولما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان للخلفين الراشدين بعده صاحبا أمينا يبذل لهما الجهد في إصلاح الأمور وتسديد الأحوال على خير ما فيه نجاح المسلمين، وكان أبو بكر وعمر يثقان به، ويعتمدان على أقواله وإرشاداته وتوجيهاته، ويستكتبانه ويرجعان في كثير من أحوال الدولة إليه.
الفصل الثالث
في خلافته
لما طعن عمر قيل له: لو استخلفت، قال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله، فقال له رجل: أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فشر عنا آل عمر، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إنهم من أهل الجنة: «سعيد بن زيد» بن عمرو بن نفيل منهم، ولست مدخله، ولكن الستة: «علي» و«عثمان» أبناء عبد مناف، و«عبد الرحمن» و«سعد» خالا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، و«الزبير» بن العوام حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وابن عمته، و«طلحة الخير» بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوا واليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه، ثم إنه دعا عليا وعثمان وسعدا وعبد الرحمن والزبير، فقال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض، إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكن أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة، فدخلوا فتناجوا ثم ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد، فانتبه عمر فقال: ألا أعرضوا عن هذا الأمر، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، وأرجو ألا يخالفكم إن شاء الله، وما أظن أن يلي إلا أحد هذين: علي وعثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على الطريق، وإن تولوا سعدا فأهلها هو، وإلا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعف، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه، ثم قال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم، وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد منهم فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم ابن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.
1
ولما مات عمر وخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا، وتلقاه العباس فقال: عدلت عنا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين منهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما، فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير، فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية
غدون خفافا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر مارئا
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة، فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لم ترع أبا الحسن.
فلما مات عمر وأخرجت جنازته تصدى علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: كلاكما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء، هذا والله صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام، فصلى صهيب، ثم اجتمع أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: بل في بيت المال، أو في حجرة عائشة، وهم خمسة ومعهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتموها، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون، فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها، فقال عثمان: أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: أمين في الأرض، أمين في السماء، فقال القوم: قد رضينا، وعلي عليه السلام ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تأل الأمة، فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل أو غير، وأن ترضوا من اخترت، لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله، فقال لعلي: إنك تقول: أنا أحق من حضر في الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن لو صرف هذا عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال له: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر النبي وابن عمه، لي سابقة وفضل، لم تبعد، فلم يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق؟ قال: علي، ثم خلا بسعد فكلمه بذلك، فقال: عثمان، ثم خلا بالزبير فقال: عثمان، ثم طاف عبد الرحمن بأصحاب رسول الله وأمراء الأجناد وأشراف الناس يدعو لعثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة، فاستدعى الزبير وسعدا، فقال الزبير: نصيبي لعلي، وقال سعد: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أولى، بايع لنفسك وأرحنا، فقال: يا أبا إسحاق، أنا خلعت نفسي منها على أن أختار.
ثم خرج سعد والزبير واستدعى عليا فناجاه طويلا، ثم ذهب وهو لا يشك في أنه صاحب الأمر، واستدعى عثمان فناجاه ووقع عليه اختياره، ثم جمع عبد الرحمن الناس، فقال: إني قد نظرت وشاورت، فإذا أكثر الناس لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، ثم قدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: بايع عثمان، فأتاه فقال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم، ثم وجد أن أكثر الناس بايعوه، فبايعه، وهكذا تمت بيعة عثمان، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:
صلى صهيب ثلاثا ثم أرسلها
على ابن عفان ملكا غير مقصور
خلافة من أبي بكر لصاحبه
كانوا أخلاء مهدي ومأمور
ولما تمت بيعة عثمان وتزاحم الناس في المسجد يبايعونه، وقف على المنبر فقال: «الحمد لله، أيها الناس، اتقوا الله، فإن الدنيا كما أخبر الله عنها
لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، فخير العباد فيها من عصم الله واستعصم بالله وبكتابه، وقد وكلت من أمركم بعظيم، لا أرجو العون عليه إلا من الله، ولا يوفق للخير إلا الله، وما توفيقي إلا بالله، توكلت عليه وإليه أنيب.» وكان ذلك يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة 23ه، فاستقبل بخلافة المحرم سنة 24ه، وقيل: بل استخلف لثلاث مضين من المحرم سنة 24ه.
الفصل الرابع
أعماله في خلافته، وفتوحاته
أول عمل قام به عثمان في خلافته هو أنه أقر عمال عمر على الأمصار، فأقر نافع بن الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منبه على صنعاء، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند، وأبا موسى الأشعري على البصرة، وعمرو بن العاص على مصر، وعمر بن سعد على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعثمان بن أبي العاص على البحرين وما والاها، ولم يعزل منهم سوى المغيرة بن شعبة، فإنه عزله من الكوفة وولاها سعد بن أبي وقاص، وقد كان أبرز هؤلاء الولاة نشاطا في عهد عثمان ولاة الكوفة والبصرة ومصر والشام، وفيما يلي تفصيل أحوال هذه الأمصار: (1) الكوفة
يظهر أن عثمان ولى سعدا على الكوفة عملا بوصية عمر، فإنه لم يعزله لخيانة، وإنما اقتضت ذلك المصلحة العامة، ولما سار سعد إليها بعث معه عبد الله بن مسعود على الخراج، فأقام سعد فيها سنة ثم عزله عثمان لخلاف وقع بينه وبين ابن مسعود، سببه أن سعدا اقترض من ابن مسعود مالا، فلما تقاضاه إياه لم يجد سعد مالا يفي دينه، فطلب منه التأجيل فلم يقبل، وحصل بينهما في ذلك نزاع انقسم بسببه المسلمون، فتعصب لهذا نفر ولذاك نفر، وبلغ ذلك عثمان فغضب وعزل سعدا، وولاها الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأمه أم عثمان، وعزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان التي كانت تابعة للكوفة، فانتقض أهلها، فغزاهم الوليد، فاضطروا إلى مصالحته.
ثم ثار أهل أرمينية، وكانت تابعة للكوفة أيضا، فبعث إليهم سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا فأخضعهم ورجع إلى الوليد بغنائمهم، ثم كتب عثمان إلى الوليد بن عقبة أن يمد أهل الشام بجيش يقوده رجل من أهل النجدة، فبعث الوليد ثمانية آلاف بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي، فقدم الشام وحارب الروم مع جيش معاوية، وأبلوا في ذلك أحسن البلاء،
1
وبقي الوليد بن عقبة أميرا على الكوفة حتى شهد عليه جماعة من أهلها بأنه شرب الخمر، فعزله عثمان عن إمارته، وجلده حد الشرب أربعين جلدة كما أفتى بذلك علي بن أبي طالب، وولى مكانه سعيد بن العاص، فلما وصل الكوفة صعد منبرها، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بدا إذ أمرت أن أأتمر، ألا وإن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينها، والله لأضربن وجهها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.» ثم إنه أخذ يرتب أحوال مدينته، فعلم أن طوائف من الأعراب قد نزلوا المدينة وسيطروا على أمورها، وأن أشراف أهلها الأقدمين قد غلب على أمرهم، فكتب إلى عثمان يستأمره في ذلك، فكتب إليه: «أما بعد ففضل أهل السابقة والقدم ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوه وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعهم بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس يصاب بها العدل.»
فأرسل سعيد إلى أهل القادسية وغيرها من أصحاب الأيام والفتوح فقال لهم: «أنتم وجوه الناس، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذوي الحاجة.» وأدخل معهم من يحتاج إليه من اللواحق والروادف، وقرب إليه القراء، ولكن ذلك لم يعجب الناس فاضطربوا. قال الطبري: فكأنما كانت الكوفة يبسا شعلته نار، وفشت القالة والإذاعة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فنادى منادي عثمان: «الصلاة جامعة!» فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كتب به إلى سعيد، وبالذي كتب به إليه، وبالذي جاءه من القالة والإذاعة، فقالوا: أصبت، فلا تسعفهم في ذلك ، ولا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها، فقال عثمان: «يا أهل المدينة، استعدوا واستمسكوا؛ فقد دبت إليكم الفتن.» ونزل فأوى إلى منزله.
2
أما سعيد فإنه اهتم بأمر الناس، ورأى أن خير وسيلة لتهدئة الاضطرابات هي في إرسالهم للفتح، فبعث جموعا فيها الحسن والحسين أبناء علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحذيفة بن اليمان، ففتحت طبرستان وصالحهم أهلها، وكان ذلك في سنة 30ه، وسار سعيد نفسه ومعه جمع من كبار الصحابة فيهم حذيفة بن اليمان مددا لعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الذي كان بالباب، فلما بلغوا أذربيجان سير سعيد حذيفة وقام هو ردءا له، فسار حذيفة وغزا وفتح، وفي سنة 32ه، بعث سعيد عبد الرحمن بن ربيعة لغزو الترك والخزر، فأوغل في بلادهم، ثم تجمعوا عليه ففرقوا جيشه وقتلوه، فلحقت فلول جيشه بأخيه سليمان بن ربيعة الباهلي الذي كان سعيد قد أرسله مددا لأخيه، وساروا نحو «جيلان»، و«جرجان» اللتين كان جيش المسلمين يحاصرهما، فأمدوهم وأعانوهم على العدو.
ثم إن سعيد بن العاص رحل إلى المدينة للقاء أمير المؤمنين بعد أن استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فقام جماعة من أهل الكوفة كرهوا ولاية سعيد واتفقوا على التوجه إلى عثمان، فلقيهم سعيد في الطريق وعلم ما يريدون، فسار إلى عثمان وأخبره أن القوم لا يريدونه، وأنهم يحبون أبا موسى الأشعري، فولاه عثمان عليهم، وكتب إلى أهل الكوفة يقول: «أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أصبتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم على الله حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون.» ثم جاء أبو موسى الكوفة، وخطب أهلها وأمرهم بلزوم الجماعة، ولم يزل أميرا عليها حتى مقتل عثمان. (2) البصرة
تولى أمر البصرة في خلافة عثمان أبو موسى الأشعري الذي كان عمر قد ولاه إياها ، فظل فيها إلى سنة 29ه، ثم عزله عثمان بعبد الله بن عامر بن كريز بعد أن ضم إليه عمان والبحرين، ولم يلبث عبد الله بن عامر أن يصل حتى علم بانتقاض أهل فارس بأميرهم عبيد الله بن معمر، فسار إلى فارس وقاتلهم وهزمهم، وفتح إصطخر عنوة، وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، ووطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وفي سنة 31 قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس، وأخبار المؤرخين مضطربة في كيفية قتله وأسبابه، إلا أنهم اتفقوا على أنه قتل وحيدا طريدا لم يغن عنه هذا الملك الواسع شيئا، واتفقوا على أنه قتل بيد أعجمية، وكان يتمنى أن لو كان وقع بيد العرب المسلمين، فإنهم كانوا يبقون عليه حيا.
3
وفي تلك السنة (31ه) سار عبد الله بن عامر في جمع كبير لفتح خراسان التي انتقض أهلها حين علموا بمقتل عمر (رضي الله عنه)، فلما وصل إلى «الطبسين» وهما: بابا خراسان، تلقاه أهلها بالصلح فصالحهم، ثم سار إلى قهستان فصالحه أهلها، ثم قصد نيسابور فصالحه أهلها كذلك، ثم بقي هناك ووجه الأحنف بن قيس إلى طخارستان ومرو الروذ، فلقيته جموع كثيرة من الفرس، فمكنه الله منهم، وتمكن الأحنف من فتح الطالقان وبلخ، وسار نحو خوارزم فلم يتمكن من فتحها، فعاد.
ثم رجع ابن عامر إلى البصرة بعد أن فتح الله على يديه ملك فارس كله بعد انتقاضه، وقال: لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج معتمرا من موقفي هذا، وفي عهد إمارة ابن عامر ظهر عبد الله بن سبأ في البصرة؛ فقد بلغ ابن عامر أن رجلا من اليهود أسلم وأظهر أقوالا غريبة، وأنه نزل في بني حكيم بن جبلة العبدي، وأن له آراء غير مقبولة، فاستدعاه ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الكتاب، رغبت في الإسلام وفي جوارك، فقال: ما بلغني عنك، اخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها، ثم أتى الشام فأخرج منها، ثم أتى الحجاز فأخرج منه، فأتى مصر فعشش فيها وباض وفرخ ، وكان له أقوال عجيبة، منها قوله: «عجبت ممن يصدق برجوع المسيح، ولا يصدق برجوع محمد!» وكان هذا ابتداء القول بالرجعة، وكان يقول: «إن عليا وصي محمد وقد غصبه من ولي قبله، فالواجب على المسلمين أن يعيدوا الأمر لأصحابه.» وقد تبعه بمصر وغيرها جمع كثير، وقد لعب دورا كبيرا في إثارة الفتن كما سنرى بعد إن شاء الله.
4 (3) الشام
كان الشام في عهد عمر بيد معاوية، فأقره عثمان على عمله، وانصرف معاوية إلى تقوية الثغور والاستعداد لقتال الروم، ففي السنة الثانية من ولاية عثمان غزا معاوية الروم وبلغ عمورية، وأنزل في الحصون التي بين «أنطاكية» و«طرسوس» ثم رجع، فأمره الخليفة أن يغزي حبيب بن مسلمة الفهري أرمينية وما إليها، فوجهه إليها، وفتح «قاليقلا» وصالح أهلها، ثم كتب إلى عثمان ينبئه أن بطريق أرمينية قد جمع جموعا كثيرة للمسلمين فأمده الخليفة بسلمان بن ربيعة، ومكن الله للمسلمين من الأرض، ففتح الله على أيديهم تلك البلاد حتى بلغ «تفليس» و«أران» و«برذعة» ففتحها صلحا.
وفي سنة 28ه فتح معاوية جزيرة قبرص بعد أن استأذن عثمان فأذن له، وقد كان عمر ينهاه عن ذلك خوفا على المسلمين، وكان في الأسطول العمري نفر كبير من الصحابة أمثال: أبي الدرداء، وشداد بن أوس، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان التي أخبرها رسول الله أنها ستكون في أول من يغزو البحر، وقد أمده أمير مصر عبد الله بن سعد بنفسه وبأسطول كبير، فاجتمعا على قبرص، واضطر صاحبها أن يصالحهم على سبعة آلاف كل سنة يؤدون إلى الروم مثلها، لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين منعهم ممن أرادوهم من ورائهم، وعليهم أن يعلموا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم، وفي هذه الغزوة ماتت أم حرام، ورجع معاوية بعد أن استعمل عبد الله بن قيس على غزو الروم، فغزا نحوا من خمسين غزوة بين صائفة وشاتية في البر والبحر.
وفي سنة 30ه. شكا معاوية أبا ذر لعثمان؛ لأنه كان يرى أنه لا ينبغي للمسلم أن يكون في ملكه أكثر من قوت يوم وليلة أو شيء قليل ينفقه في سبيل الله، وكان أبو ذر يقوم في أهل الشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء وأحسنوا إليهم، وقاسموهم أموالكم ...» وأخذ يحرض الفقراء على الأغنياء حتى خاف معاوية الفتن، فاستدعى عثمان أبا ذر إليه، ثم نفاه إلى «الربذة» بعد أن أقطعه قطعة من الإبل، وأجرى عليه العطاء، فبقي هناك إلى أن هلك رحمه الله. (4) مصر
ظلت مصر تحت إمرة عمرو بن العاص فاتحها في عهد عمر، ولما استخلف عثمان أقره على عمله، وفي السنة الثانية من خلافته علم عمرو أن روم القسطنطينية قد كتبوا إلى روم مصر يدعونهم إلى نقض العهد والثورة على المسلمين، فأجابوهم إلى ذلك وثاروا، حاشا المقوقس فإنه حافظ على عهده، ولما بلغ ذلك عمرا سار إلى الإسكندرية فلقيه رومها ومن جاءهم من روم القسطنطينية، وجرت بين الطرفين معارك كثيرة هزم فيها الروم وهدم سور المدينة.
وفي تلك السنة سير عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح غازيا في شمال إفريقية ففتح وغنم، وأنفله عثمان خمس الخمس، ثم رجع بعد أن صالحه ملك إفريقية، ولم يلبث أن أخذ يهيئ نفسه لغزو إفريقية ثانية، فخرج إليها في جمع عظيم، والتقى بملك إفريقية الذي ولاه الروم عليها من حدود طرابلس إلى طنجة، وامتدت المعارك بين الجانبين عند «سبيطلة» عاصمة الملك، وأمد عثمان المسلمين بجيش على رأسه عبد الله بن الزبير، فانهزم المشركون وقتل ملك إفريقية، وصالح عبد الله بن أبي سرح أهل إفريقية على ألف ألف وخمسمائة دينار، وأرسل إلى عثمان بالبشارة والأخماس وعاد هو من إفريقية، وكان مقامه فيها سنة وربعا. (5) الفتوحات في عهده
رأينا أن عمال عثمان في العراق ومصر والشام قد نشطوا في الفتوح، وفي إعادة من انتقض من أهل البلاد المفتوحة في عهد عمر، ويمكننا إجمال هذه الأحداث كما يلي: (1)
المشرق: أعاد المسلمون فتح إيران وخراسان وبلخ، وفتح بلاد طبرستان ومصر وسرخس وبلاد الخزر والديلم، حتى وصلوا «بلنجر» وهي أكبر مدنهم، وتقع خلف دربند - باب الأبواب - ولكن الترك تجمعوا عليهم فهزموهم. (2)
آسيا الصغرى: عني معاوية بفتح بلاد آسيا الصغرى وجزائر بحر الروم، فوصلت جيوشه إلى «عمورية» قرب «بروسة»، وافتتحها واستولى على جزيرتى: قبرص ورودس، وفتح كثيرا من الحصون، ودخل أرمينية حتى وصل إلى «قاليقلا» و«تفليس». (3)
إفريقية: سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى إفريقية الشمالية، ولما انقطعت أخباره أمده عثمان بعبد الله بن الزبير، فتمكن من إخضاع شمالي إفريقية كله، وغزا بلاد النوبة، فبلغ «دنقلة» وصالح أهلها.
الفصل الخامس
في الأحداث الكبرى في خلافته
(1) سقوط الخاتم النبوي من يد عثمان في «بئر أريس»
وهو بئر على ميلين من المدينة؛ فقد روى المؤرخون أن رسول الله لما أراد أن يكتب إلى الأعاجم كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام قيل له: إنهم لا يقبلون الكتاب إلا أن يكون مختوما، فأمر رسول الله أن يعمل له خاتم من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله»، فجعله في إصبعه، وكان هذا الخاتم في يده حتى قبضه الله إليه، ثم استخلف أبو بكر فتختم به حتى مات، فلما ولي عمر جعل يتختم به حتى مات، فلما ولي عثمان تختم به ست سنوات، ولما كانت سنة 30 للهجرة حفر «بئر أريس» للمسلمين، فقعد على رأس البئر، فجعل يعبث بالخاتم ويديره بأصبعه فانسل من يده ووقع في البئر، فطلبوه منها ونزحوا ما فيها من ماء، وجعل فيه مالا عظيما لمن وجده، فلم يجدوه، واغتم لذلك غما شديدا، فلما يئس منه أمر فصنع له خاتم آخر من فضة على مثاله، فلما قتل ذهب الخاتم من يده، فلم يدر من أخذه. (2) فتنة أهل الكوفة
اجتمع نفر من سراة أهل الكوفة ووجوههم إلى أميرهم سعيد بن العاص، وعاتبوه على أمور ظهرت في عهد عثمان، منها: استبداد قريش بأموال السواد العراقي، وتملكها لأطايب الأرض وخيراتها، وعظمت روح التمرد والفتنة بين صفوفهم، وأحس سعيد بن العاص ببادرة سوء فكتب بذلك إلى عثمان كما أسلفنا، فأجابه عثمان أن يبعث برؤساء أهل الفتنة إلى معاوية، فأتوه وهم بضعة عشر رجلا، وكان عثمان قد كتب إليه: «إن أمير الكوفة قد أخرج إليك نفرا خلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم، وإن أعيوك فارددهم عليه، فلما دخلوا الشام رحب بهم معاوية وأنزلهم في كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان يجري عليهم في العراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، وقال لهم يوما: إنكم من العرب ولكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، ولو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة، لتنتهن أو ليبتلينكم بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم، افقهوا ولا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في الجاهلية ولا إسلام إلا بالله عز وجل، ولم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة.»
1
وكتب معاوية إلى عثمان أنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثقلهم الإسلام وأضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم.
ثم خرج القوم من الشام ولم يذهبوا إلى الكوفة لئلا يشمت بهم الناس، بل تفرقوا في الجزيرة والشام.
2 (3) الفتنة العظمى
تولى عثمان الخلافة وهو شيخ قد ناهز السبعين من عمره ، وكان سهلا لينا مداريا، ولم يكن عنده حزم أبي بكر، ولا شدة عمر، وقد طمع المسلمون في لينه، وتنفسوا الصعداء من قوة عمر عليهم؛ فقد سمح لرجالات قريش وكبار الصحابة أن يخرجوا للأمصار ويتملكوا الدور والقصور والعقار، وترك للناس أمر زكاة أموالهم يتصرفون في إنفاقها بالطرق التي يرونها؛ فقد تدفقت الأموال على المدينة، واستغنى الناس كثيرا، وبدأت الثروات تمد أعناقها، فعمت حياة الترف وظهرت بعض الأمور المنكرة التي نهى عنها الإسلام. قال حكيم بن عباد بن حنيف: أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى وسع الناس: طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، فاستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان فقصها وكسر الجلاهقات،
3
وأخذ عثمان يضرب على أيدي هؤلاء، فتذمروا منه، وأخذوا يعلنون استياءهم من سياسته، ونصرهم أبناء عمومتهم وأهليهم.
وانتهز هذه الفرصة نفر من الصحابة الذين لم تعجبهم سيرة عثمان وليونته، أمثال: عبد الله بن مسعود الهذلي، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، فأخذوا ينشرون في المجالس أقوالا يتهجمون فيها على الخليفة عثمان ويبينون هناته، وانتصرت بنو هذيل لعبد الله بن مسعود، وكذلك فعلت بنو غفار انتصارا لأبي ذر، وأخذت بذور الثورة على حكم عثمان تغرس في الحجاز ومصر، وخصوصا حين أقدم عثمان على بعض الأمور التي لم يفعلها صاحباه أبو بكر وعمر من قبل، كإقطاع الأرضين، ومنح القطائع الكبيرة لبعض أقاربه، وهو أول من فعل ذلك، كما أنه أول من حمى الحمى، وأول من أخفض صوته في التكبير، وأول من أمر بالأذان الأول يوم الجمعة، وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوض إلى الناس إخراج زكاتهم، إلى أشياء أخرى أداه اجتهاده إلى إباحتها للناس ولم يكن الرسول ولا أبو بكر ولا عمر قد أذنوا بها ولا فعلوها، فغضبت العامة وجمهور المسلمين من ذلك.
وقد استغل نفر من كبار رجالات قريش وزعماء العرب ليونة عثمان فأخذوا يجمعون الأموال ويبذخون، فتقولت العامة عليهم وعلى عثمان، حتى قال المسعودي المؤرخ: «في أيام عثمان اقتنى جماعة من أصحابه الضياع والدور، منهم الزبير بن العوام؛ فقد بنى داره بالبصرة وهي المعروفة في هذا الوقت - وهو سنة 32 - تنزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهات من البحرين وغيرهم، وابتنى أيضا دورا بمصر والكوفة والإسكندرية، وما ذكروه من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية، وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا بحيث ذكرنا من الأمصار.
وكذلك كان طلحة بن عبيد الله التيمي ، ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت، وهي المعروفة بالكناس بدار الطلحتين، وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية سراة أكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج.
وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ ريع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا. وابتنى سعد داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاءها، وجعل أعلاها شرفات. وذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفئوس، غير ما خلف من الضياع والأموال بقيمة مائة ألف دينار.
وابتنى المقداد بن الأسود داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف، وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصصة الباطن والظاهر، ومات يعلى بن أمية وخلف خمسمائة ألف دينار وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار.»
4
ويعلق المسعودي على هذا بقوله: وهذا باب يتسع ذكره، ويكثر وصفه فيمن تملك من الأموال في أيامه، ولم يكن من ذلك في عصر عمر بن الخطاب، بل كانت جادة واضحة وطريقة بينة.
وكان إلى جانب هؤلاء الذين أثروا جماعات ظلوا فقراء كما كانوا في العهد السابق، يتحرجون من كنز الأموال، وعلى رأس هؤلاء: أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر اللذان كانا يكرهان أن ينصرف رجال الإسلام عن الدعوة السامية التي جاء الرسول من أجلها، والتي سار عليها خليفتاه الراشدان من بعده أبو بكر ثم عمر؛ ولذلك حنقوا على عثمان وعلى طلحة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ممن خرجوا إلى الأقاليم الإسلامية النائية عن الحجاز، وأنشئوا لأنفسهم وأهليهم أرستقراطيات دينية تعتمد على الإسلام، وصحبة الرسول، وسابقة الإسلام، وتستغل ذلك لكنز الذهب والفضة وبناء القصور، واستغلال جماهير العامة لمصلحتهم الفردية.
وكان وراء هذين الفريقين - المتمولين والزهاد - طبقة ثالثة قد حنقت لضيق ذات يدها وقلة الأموال التي وصلت إليها في الفتوح، وكان جل هذه الطبقة من البدو والأعراب الذين رأوا تمتع قريش وحدها بالمنافع فحقدوا عليها، وقد رأينا طرفا من أحوالهم وأحاديثهم مع معاوية في كلامنا عن الفتنة في الكوفة، وقد كان هؤلاء الأعراب منتشرين في العراق والشام ومصر والحجاز، وكانوا يؤمنون بأن قريشا هي المسئولة عن هذه الفوضى، وأن الخليفة عثمان هو المسئول الأول عن كل ذلك، فأخذوا يعلنون تذمرهم وينشرون فكرة إعلان الثورة والتمرد على الخليفة في المدينة وسائر الأقاليم، وانتهز بعض ذوي الأغراض الخبيثة هذه الفرصة لإثارة الرأي العام على الخلافة. وكان عبد الله بن سبأ على رأس هؤلاء المجرمين؛ فأخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ويحرض الناس على عثمان وعماله، ولقي من أبي ذر أذنا صاغية فانساق وراء دعوة ابن سبأ ونشط في حركته، حتى اضطر معاوية أن يبعثه أسيرا إلى الخليفة، فلم يرتدع عن الدعوة لفكرته الثائرة، واضطر الخليفة أن ينفيه إلى الربذة. ولا شك عندنا أن أبا ذر كان حسن النية، مخلصا في فكرته، ولكن ابن سبأ الخبيث استغل طيبة قلبه فأثاره من حيث لا يدري ما هي أهدافه، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت البصرة ومصر أخصب الأرضين لنمو فكرة الثورة.
ولكن عبد الله بن عامر أمير البصرة تمكن من طرد ابن سبأ، فرحل عن البصرة إلى الكوفة، فأخذ يشتم عثمان وعماله جهارا، فطرده أمير الكوفة، فأتى إلى الشام، ولكن معاوية كان له بالمرصاد، فهرب منها إلى مصر، فعشش فيها وفرخ، وأخذ يكاتب ثوار البصرة والكوفة وينقل أخبارهم إلى المصريين، وينقل أخبار المصريين إليهم، وأخذوا يتكاتبون ويتبادلون الرسائل، فتزعم ابن سبأ الفتنة، وبث الدعاة في الأقاليم يدعون لعلي بن أبي طالب، وينشرون فكرة رجوع النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
من جديد، ويتهمون أبا بكر وعمر وعثمان باغتصاب حق علي عليه السلام، ويؤلبون الناس على عثمان الغاصب للخلافة والمستهتر بها.
وكان ابن سبأ حين يبعث الدعاة يقول لهم: «أيها الناس، إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهذا علي وصي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فانهضوا في هذا الأمر وحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوا إلى هذا الأمر.»
5
وقد انضم إلى هذه الفئة الحانقة جماعة من أبناء كبار الصحابة أمثال: محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، أما محمد بن أبي حذيفة فقد كان تربى في كنف عثمان بعد وفاة أبيه، فلما تولى عثمان طلب إليه أن يوليه بعض الولايات فلم يقبل عثمان؛ إذ بلغه أنه شرب الخمر مرة، ثم إنه قصد مصر وخرج في غزوة ذات السواري مع ابن أبي سرح، فوقعت خصومة بينه وبين ابن أبي سرح، فحقد عليه وعلى عثمان، ولما جاء ابن سبأ إلى مصر وأخذ يدعو لعلي انضم إلى هذه الدعوة كرها في عثمان وعماله.
وأما محمد بن أبي بكر فقد كان ربيب الإمام علي عليه السلام؛ لأنه كان تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة أبي بكر، وكان محمد بن أبي بكر والحسين بن علي عديلين؛ لأنهما تزوجا ابنتي يزدجرد الثالث ملك فارس، فلذلك انضم إلى الحركة العلوية، ولما علم محمد بن أبي بكر بأن مروان بن محمد كاتب عثمان قد كتب إلى عامل مصر ابن أبي سرح أن يقتل محمد بن أبي بكر ازدادت نقمته على عثمان، وأخذ يحرض الناس عليه.
ولما بلغت عثمان أنباء هذه الاضطرابات والأقوال في مصر والبصرة والكوفة رأى أن يتحقق أسبابها بنفسه، فبعث محمد بن سلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، كما أراد أن يتبين حقيقة الحال في الشام فبعث عبد الله بن عمر إليها ، وذهب كل إلى حيث بعث به، ورجع الجميع إلا عمارا، فإن الثوار استمالوه إلى صفوفهم، وبين كل من محمد بن سلمة، وأسامة بن زيد، وابن عمر، أسباب هذه الفتنة وما ينقمه الناس على عثمان، وأن سبب ذلك كله هو السخط الذي سببه ضعف الخليفة ولينه واستبداد قريش بالأمر، فأراد عثمان إصلاح الأمر، ولكن الوقت كان قد فات، فإن ابن سبأ قد اتفق هو وابن حذيفة على أن يكتب إلى ثوار العراق أن يشخصوا إلى المدينة، واتفقوا على وقت معين على ذلك، فذهب ثوار مصر إلى الحجاز، واجتمعوا في الوقت المعين بثوار العراق خارج المدينة، وأخذوا يبحثون في الأمور، واتفقوا على وجوب خلع عثمان واستخلاف آخر مكانه، فقال الكوفيون: نوليها طلحة، وقال البصريون: نوليها الزبير، وقال المصريون: بل علي بن أبي طالب. ولكن عثمان بعث إليهم فاستدعاهم وفدا وفدا، فأما أهل مصر فإنه استدعاهم وألان لهم القول، واتفق وإياهم على تلبية كل ما طلبوه، فقفلوا راجعين إلى مصرهم، وبينما هم في الطريق رأوا راكبا يتعرض لهم تارة ويفارقهم تارة أخرى، فتعقبوه وفتشوه فوجدوا معه كتابا على لسان عثمان وعليه خاتمه إلى عامله على مصر يأمره فيه أن يستأصل شأفة هذا النفر من الثوار المصريين، وبخاصة محمد بن أبي بكر، وابن أبي حذيفة، فقفلوا راجعين إلى المدينة ودخلوا على عثمان وأروه الكتاب، فحلف أنه لا علم له به، فطلبوا منه أن يسلم إليهم كاتبه مروان بن محمد فأبى أن يسلمهم إياه، فرجعوا إلى إخوانهم من ثوار الكوفة والبصرة، واتفقوا على خلع عثمان.
وأتى المصريون عليا وأعلموه بما عزموا عليه، فصاح بهم وطردهم، وقال لهم: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم ، وكذلك فعل طلحة والزبير، فانصرف الجميع مظهرين الرجوع إلى بلادهم، وهم يبثون الثورة والفتك بعثمان، واتفق أمرهم على أن يحاصروا عثمان في داره ويطلبوا منه الاستقالة وأن يخلع نفسه، فقال عثمان: لا أخلع قميصا ألبسنيه الله عز وجل. وضيق الثوار الحصار عليه حتى منعوه من الصلاة في المسجد، فأرسل عثمان إلى الإمام علي وطلحة والزبير، فحضروا، فأشرف عليهم فقال: أيها القوم، اجلسوا، فجلسوا، ثم قال: «يا أهل المدينة، أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة بعدي، ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنكم عند مصاب عمر سألتم الله أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم؟ وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون هان على الله دينه فلم يبال من ولى، والدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة وإنما كان مكابرة، فوكل الله الأمة إذ عصته ولم يشاروا في الإمارة؟ أم تقولون إن الله لا يعلم عاقبة أمري؟ وأنشدكم الله، هل تعلمون أن لي من سابقة خير وقدم خير قدم الله لي بحق على كل من جاء منكم بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلا، لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفسا بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا.»
فقال الثوار: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خير، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسابقتك مع رسول الله فقد كنت كذلك، وكنت أهلا للولاية، ولكن أحدثت ما علمت، ولا نترك إقامة الحق عليك خوف الفتنة عاما قابلا، وأما قولك إنه لا يحق إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في دين الله غير الثلاثة الذين سميت، قتل من سعى في الأرض فسادا، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك، وقد تمسكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم تكابر عليها فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك.
فلم يجبهم عثمان إلى ما طلبوا، وأخذ ينصحهم ويهددهم، فلم يجد التهديد ولا النصح، وظلوا مصرين على طلب خلعه نفسه فلم يقبل، وقدم كثير من أهل المدينة يطلبون إليه أن يذبوا عنه، فأمرهم بالانصراف وعدم مقاتلة الثوار، فلعل عقولهم تحول دون إحداث الفتنة في حرم الله، وكان يكثر الخطب في الثوار، ويرسل إليهم كبار الصحابة كالإمام علي، وطلحة، وعبد الله بن عباس وغيرهم يعدهم بإجابة مطالبهم، فيأبون إلا عنادا وفسادا، ثم عزموا أن يقطعوا عنه الماء والغذاء، فنهاهم الإمام علي بن أبي طالب عن ذلك فلم ينتهوا، وجاءته أم حبيبة بنت أبي سفيان بإداوة ماء فضربوا وجه بغلتها بالسيف ونفرت، وكادت أم المؤمنين أن تسقط عنها، ثم تراجعت، ولما اشتد العطش بأمير المؤمنين أشرف على الناس، فقال: أنشدكم الله، هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي يستعذب بها، وجعلت رشائي كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: فلم تمنعوني أن أشرب الماء حتى أفطر على ماء البحر.
وحان موعد الحج وعثمان محصور، والمدينة في بلاء، فطلب عثمان من عبد الله بن العباس أن يحج بالناس، وكتب معه كتابا أبان للناس فيه ظلم الثوار إياه وبهتانهم عليه، وأنه إن كان قد أخطأ في أمر فإنه يتوب منه، والله يقبل التوبة من عباده، ويعتذر عما بدر من عماله، ويعد الناس بحسن السيرة والعدل وأنه لن يخلع نفسه، ولما قرأ ابن عباس كتاب عثمان يوم التروية وأراد نفر من المسلمين نصرته منعهم الثوار، وخافوا إن طال الأمد أن تأتي الأمداد من الأقاليم إلى عثمان، فقصدوا الدخول عليه واغتياله، ولكن أبناء الصحابة وقفوا دونهم، واستطاع الثوار أن يحرقوا باب الدار، ودخلوا على عثمان فوجدوه يقرأ القرآن، فأحاطوا به وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، فأبى، فقتلوه، وكان ذلك في ثاني عشر ذي الحجة من سنة 35ه، وكان له من العمر 82 عاما، وكان القاتل له رومان بن سرحان، ضربه بحديدة على رأسه، وجاء آخر ليضربه بسيفه فأكبت عليه زوجته السيدة نائلة بنت الفرافصة لتدافع عنه فقطع إصبعها، ثم قطعوا عنقه، وانتهبوا بيت المال، وكان مقتله يوم الأربعاء بعد العصر، فلم يدفن إلا يوم السبت وظل مطروحا يومه إلى الليل، فحمله بعض الرجال ليدفنوه يومه فتعرض لهم الثوار ومنعوهم، فدفنوه ليلا، وصلى عليه جبير بن مطعم وأخفي قبره.
هذه هي فصول مأساة الفتنة العظمى، ويظهر أن سكان المدينة قد تواكلوا عن نصرة الخليفة والدفاع عنه؛ لأنه من المستبعد جدا ألا يستطيع أهل المدينة كلها وفيهم الأبطال والفضلاء وكبار الصحابة وأصحاب الرأي أن يقفوا أمام تلك الشرذمة من الثوار، ولكن تهاون الخليفة وتسليمه الأمر إلى نفر لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة، وانصراف جماعة كبار الصحابة عن حل هذه المشكلة التي وقع بها الخليفة قد أدى إلى وقوع هذه الكارثة الكبرى التي مزقت الإسلام شر ممزق، واستمر جرحها العميق في قلب الإسلام إلى مدى بعيد. (4) تفصيل الأسباب التي تذرع بها الثوار في قيامهم في الفتنة
نقم الناس على عثمان في أمور تقدم إجمال بعضها، ونحب ها هنا أن نفصل تلك الأمور بذكر النقاط التالية:
الأول:
أول ما نقم الناس على عثمان أنه عزل جماعة من الصحابة من أعمالهم التي ولاهم إياها عمر، وولى مكانهم أناسا مطعونا فيهم، فمن ذلك أنه عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة، وتوليته إياها لعبد الله بن عمر، وعزله عمرو بن العاص عن مصر وتوليتها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتد زمن النبي ولحق بالمشركين، فأهدر النبي دمه بعد الفتح إلى أن أخذ عثمان له الأمان ثم أسلم، وعزله عمار بن ياسر عن الكوفة، وعزله عبد الله بن مسعود عن الكوفة.
والثاني:
زعموا أنه أسرف في إنفاق بيت أموال المسلمين في أمور منها أن الحكم بن العاص لما رده من الطائف إلى المدينة - وقد كان طرده النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الطائف - أعطاه من بيت المال مائة ألف درهم، وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يباع فيها، ومنها أنه وهب لمروان بن محمد خمس إفريقية، ومنها أنه أعطى عبد الله بن خالد بن أسد أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، ومنها ما حكاه أبو موسى الأشعري، قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة لم يلبث أن يقسمه بين المسلمين حتى لا يبقي منه شيئا، فلما ولي عثمان أتيت به، فكان يبعث به إلى نسائه وبناته، فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت.
والثالث:
أنه حبس بعض كبار الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود، فإنه منعه وحبس عطاءه، ونفاه إلى الربذة إلى أن مات لا لذنب أذنبه، وفعل مثل ذلك مع أبي ذر الغفاري.
والرابع:
رووا أنه حمى سوق المدينة، ومنع الناس أن يشروا منه حتى يشتري وكيله ما يحتاج إليه لعلف دوابه.
والخامس:
أنه حمى بقيع المدينة، ومنع الناس منه، وزاد في الحمى أضعاف البقيع.
والسادس:
أنه حمى البحر من أن تخرج منه سفينة إلا في تجارته.
والسابع:
أنه أقطع أصحابه إقطاعات كثيرة في بلاد الإسلام لم يفعل مثلها من سبقه.
والثامن:
أنه استدعى عبادة بن الصامت وعاتبه على فعله حين كتب إليه معاوية أنه قد تعرض إلى قطار جمال تحمل خمرا فأراقها عبادة.
والتاسع:
أنه قال عن عبد الرحمن بن عوف: إنه منافق. لما بلغه أنه ندم على توليته إياه لما عاتبه بعض الصحابة على توليته، فلما بلغت كلمته عبد الرحمن حلف أنه لا يكلمه حتى يموت.
والعاشر:
أنه ضرب عمار بن ياسر ووطئه حين حمل إليه كتاب الصحابة ينصحونه ويخوفونه نتائج إهماله، فرمى بالكتاب وداس عليه حتى أغمي عليه.
والحادي عشر:
أنهم زعموا أنه أحرق مصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أبي، وجمع الناس على مصحف زيد بن ثابت، فلما بلغ ذلك ابن مسعود وكان عند بعض أصحابه نسخة من مصحفه بالكوفة فأمرهم بحفظها وقال لهم: قرأت سبعين سورة وإن زيدا لصبي.
والثاني عشر:
أنه خالف الجماعة بإتمام الصلاة بمنى، مع أن رسول الله وأبا بكر وعمر قصروا بها الصلاة.
هذه هي التهم التي وجهت، وما نحب أن نطيل الوقت في مناقشتها والدفاع عن الخليفة، فإن بعضها صحيح وبعضها هفوات، وقد أراد الخليفة أن يتراجع عنها في آخر وقت، وندم ولات ساعة مندم، كما سنبين ذلك في الفصل الآتي.
الفصل السادس
في تنظيماته وأعماله الدينية والدنيوية
قام عثمان ببعض الأعمال الإدارية والتنظيمية على الرغم من اضطراب عهده، ويمكننا إجمال تلك الأعمال بما يلي: (1)
تدوين القرآن الكريم وجمع المسلمين على نسخة واحدة، وقد كان عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر بتدوين القرآن لما كثر قتل القراء، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن لما عرف عنه من رجاحة العقل وحسن السيرة والأمانة والحفظ، فجمع ذلك، وحفظه أبو بكر عنده، فلما استخلف عمر حفظه عنده إلى أن قتل، فلما كان عهد عثمان وانتشر المسلمون في أرجاء الأقاليم الإسلامية اختلفت قراءات القراء، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان أن يجمع المسلمين على مصحف واحد يقرؤه المسلمون، فاستحسن عثمان الفكرة، وطلب النسخة التي كتبت في زمن أبي بكر، والتي حفظت عند السيدة حفصة بنت عمر، وطلب إلى زيد بن ثابت كاتب الوحي أن يدون القرآن، فدونه ورتبه، وأمر عثمان بإحراق المصاحف المخالفة لما دونه زيد ورتبه، وبعث بنسخ عن هذا المصحف إلى العواصم الإسلامية، وأمر العمال أن يجعلوا هذه النسخ مرجعهم، وقد كان هذا عملا جليلا لا يقل عن عمل أبي بكر الذي أراد أن يستوعب آيات القرآن، ثم جاء عثمان فعمل على توحيد قراءات الناس. (2)
تنظيمه أمور بيت المال وحرصه عليه، وترتيبه أمور التجارة في المدينة وأسواقها ترتيبا جعل المدينة في عهده عاصمة الدولة تجاريا لا سياسيا فقط، وبهذا تنتقض أكثر التهم التي نسبها إليه الثوار المغرضون الذين اتهموه بالتفريط في أمور بيت المال، وإسرافه في توزيع ما فيه على الناس بالباطل، كما يبطل ما زعموه من أنه حمى الحمى وحمى الأسواق وحمى البحر لنفسه وتجاراته؛ لأنه إنما كان يفعل ذلك لمصلحة المسلمين العامة، ولما رأى أن عبد الله بن أرقم الذي كان على بيت المال في زمان أبي بكر وعمر قد كبر وضعف عن الإدارة المالية أعفاه من ذلك، وولاها فتى نبيلا أمينا هو زيد بن ثابت. (3)
ترتيبه بعض أمور الدين: فمن ذلك أنه زاد الأذان الأول في الجمعة، وهو أول من فعل ذلك ليؤذن أهل الأسواق فيتركوا تجارتهم ويقدموا إلى الصلاة، وهذا الأمر وإن كان بدعة فإنه بدعة حسنة، ومن ذلك أنه أول من رزق المؤذنين وأعطاهم الأموال على الأذان، ومن ذلك أنه أول من اتخذ مقصورة في المسجد؛ فقد ذكر الزبير بن بكار في تاريخ المدينة أن عثمان أول من اتخذ المقصورة في المسجد؛ خوفا من أن يصيبه ما أصاب عمر، وأنه صنعها من اللبن، واستعمل عليها السائب بن مروان، ومن ذلك أنه أول من خطب في العيد قبل الصلاة، وقيل إن معاوية هو الذي فعل ذلك، وهو أول من اتخذ دار الأضياف في الإسلام وجعلها في المدينة مضافة لمن يقصدها من أهل الأقاليم، وأقام لها ما يقوم بأمورها.
1
الفصل السابع
في مناقبه وأسرته
(1) مناقبه
كان عثمان من جلة الصحابة وعظمائهم وعلمائهم في أمور الدين والدنيا، أخلص في إيمانه، وجاد بأمواله لنصرة الإسلام وحماية الرسول، وقد أحبه الرسول حبا جما، وأثنى عليه أعطر الثناء، وقال في أقواله كلمات تدل على إكباره إياه وتعظيمه لسجاياه، فمن ذلك قوله: «أصدق أمتي حياء عثمان»، وقوله له مرة: «ألست حافر بئر رومة؟ ومجهز جيش العسرة؟ والزائد في مسجدي وباذل المال في رضى الله ورضاي؟ ومن تستحي منه ملائكة السماء؟» ولما قحط الناس في زمن أبي بكر وقدمت لعثمان وقتئذ تجارة فيها ألف راحلة بر وطعام، فغدا التجار إليه فقرعوا بابه، فقال لهم: ادخلوا، فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صب في بيت عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شراء ما جاءني من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني ربي بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا، قال: فاشهدوا أنها صدقة على فقراء المدينة.
وقال شرحبيل بن مسلم: كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل هو الخل والزيت، وقد تواترت الأخبار من كثرة إنفاقه في سبيل الله، وزهده في الدنيا على كثرة أمواله، وتواضعه على أن الله قد رفعه، ولما وقعت الفتنة العظمى وكان من أمر عثمان ما كان، أراد بعض المفسدين أن يوقعوا بينه وبين الإمام علي عليه السلام، فكان الإمام علي يدافع عنه، ويذكر فضائله ومزاياه، ويحضهم على السكينة وعدم إثارة الفتنة، وكان يقول: أيها الناس، إنكم تكثرون في عثمان، وإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ، أيها الناس، هذه لنا خاصة. ولما بلغه أن بعضهم زعم أن عليا هو الذي اشترك في تحريض الناس على قتله قال: إنهم يقولون: إن عليا قتل عثمان، لعن الله من قتل عثمان، وأنا وطلحة والزبير وعثمان كما قال تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين .
والحق أن الإمام عليا كان أعلم الناس بمزايا عثمان، وقد بايعه وهو عارف فضله وبلاءه بالإسلام، وحرصه على إقامة شعائر الدين، ولكن الفتنة إذا حلت عمي البصر وطاش عقل اللبيب، وقد ابتلى الله المسلمين في أواخر عهد عثمان بجماعة من الأعراب الجفاة والغوغاء، وبجماهير من السفلة الأشقياء، وببعض الموتورين ممن آلمهم أن تسموا دوحة الإسلام، فكادوا لها حتى كانت تلك الفتنة التي نجى الله المسلمين منها بعلي عليه السلام الذي أمرهم بالحكمة والعدل، بما حباه الله من الرصانة والعقل، ولكنه مع ذلك لم ينج من كيد الكائدين فقتلوه، ثم مكن الله معاوية، فوطد ملك العرب بعزمه وحزمه ودهائه وذكائه وقصده وكيده، ما كان يبطح بها ويشتت شملها. (2) أسرته
خلف عثمان ستة عشر ولدا، تسعة ذكور وسبع إناث، أما الذكور فمنهم: «عمرو» وهو أكبر أبنائه وأحبهم وأشرفهم عقبا، مات بمنى، وشهد الجمل مع عائشة، و«خالد» ولا عقب له، و«عمر» وله عقب، وأمهم جندب بنت الأزد، و«عبد الله الأصغر» وأمه رقية بنت الرسول، ومات وهو صغير، و«عبد الله الأكبر» وأمه فاختة بنت غزوان، و«سعيد » و«الوليد» وأمهما فاطمة بنت الوليد، و«عبد الملك» وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن، وأما الإناث فهن: «مريم» أخت عمر، و«أم سعيد» أخت سعيد، و«عائشة»، و«أم أبان»، و«أم عمرو» وأمهن رملة بنت شيبة بن ربيعة، و«مريم» وأمها نائلة بنت الفرافصة، و«أم البنين» أمها أم ولد.
الفصل الثامن
في كبار رجال الدولة في عهده
لمع اسم جمهرة من الصحابة والتابعين في الدولة العثمانية، نذكر منهم: (1) مروان بن الحكم بن أمية بن عبد شمس (2-65ه)
ولد بمكة، ونشأ بالطائف، وكان من وجوه بني عبد مناف وعقلائهم ودهاتهم، جعله عثمان في خاصته، واستكتبه وائتمنه على سره، ولما قتل عثمان خرج مروان مع عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، وقاتل يوم الجمل قتالا شديدا، ثم انهزم أصحابه فتوارى، وشهد صفين مع معاوية، ثم أمنه علي فأتاه وبايعه، وانصرف إلى المدينة إلى أن قتل الإمام وبويع معاوية فأتاه، وولاه المدينة سنة 42ه إلى أن أخرجه عبد الله بن الزبير من الحجاز، ولمع اسمه في الدولة الأموية إلى أن تولى الخلافة، وهو أبو الدولة الأموية المروانية، ومدة حكمه نحو من سنة، وهو أول من ضرب الدنانير الشامية فيما يقال، وقد كتب عليها:
قل هو الله أحد ، راجع: الإصابة: 3، 477، والتهذيب: 10، 91. (2) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري (؟-37)
قائد بطل من وجوه الصحابة وعقلائهم وشجعانهم، فتح إفريقية بقيادة جيش كان فيه الحسن والحسين، وعبد الله بن عباس، وعقبة بن نافع، وعبد الله بن الزبير، ودانت له إفريقية، ثم أتى المشرق فلما كانت الفتنة بين الإمام علي ومعاوية، وجرت معركة صفين، اعتزل الفتنة، وولي إمارة مصر، ومات بعسقلان فجأة وهو يصلي، وله أخبار كثيرة في تواريخ مصر. (3) عبد الله بن عامر بن كريز الأموي (4-59ه)
أمير شجاع فاتح، ولد بمكة، ونبغ في الحجاز، ولاه عثمان البصرة فوجه الجيوش لفتح المشرق حتى بلغ «سرخس» و«الفارياب» و«كابل»، وظل في إمارته إلى أن مات بالبصرة، وكان موصوفا بحب الخير والعمران، وقد قال عنه الإمام علي: إن عبد الله بن عامر سيد فتيان قريش، وقال معاوية: يرحم الله أبا عبد الله، بمن نباهي وبمن نفاخر؟ (4) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي (3-59ه)
صحابي بطل جليل، ربي في حجر عمر بن الخطاب، وولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فافتتح «طبرستان»، ولما وقعت الفتنة العثمانية الكبرى كان سعيد من المدافعين عن عثمان إلى أن قتل عثمان، فخرج إلى مكة وأقام إلى أن تولى معاوية، فعهد إليه بولاية المدينة فتولاها إلى أن مات، وكان من الصالحين، اعتزل فتنتي الجمل وصفين، وكان ممن جمع السخاء والفصاحة والفضل والنبل. (5) محمد بن أبي حذيفة بن عتيبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشي (؟-36ه)
صحابي ولد بأرض الحبشة في عهد النبوة، واستشهد أبوه يوم اليمامة فرباه عثمان، فلما شب رغب في غزو البحر، فبعثه إلى مصر، فغزا غزوة ذات السواري مع عبد الله بن سعد، ولما عاد منها جعل يتألف الناس فعظموه، ثم وقع الخلاف بينه وبين أمير مصر عبد الله بن سعد، فأظهر الخلاف، ولما عظم أمر الثوار على عثمان بمصر رأسوه عليهم، وكان منه في الفتنة العظمى ما كان، واستقر محمد بمصر، ولما أراد معاوية الخروج إلى صفين بدأ بحرب محمد في مصر، فأمسك به وسجنه في دمشق ثم قتله في السجن. (6) محمد بن أبي بكر الصديق (10-38ه)
نشأ في حجر علي بن أبي طالب؛ فقد كان ربيبه، وأقام بالمدينة، وشهد مع الإمام علي عليه السلام وقعتي الجمل وصفين، وولاه علي إمرة مصر فدخلها سنة 37، ولما اتفقا على التحكيم فات عليا ألا يقاتل أهل مصر وانصرف يريد العراق، فبعث معاوية عمرو بن العاص بجيش كبير إلى مصر فدخلها، واختفى محمد بن أبي بكر، ثم عرف مكانه فأمسكه وقتله ثم أحرقه.
الخليفة الراشد الرابع: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
35-40ه/656-661م
الفصل الأول
في نسبه وأوليته وإسلامه
هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي الهاشمي، عليه السلام، وأمه السيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها)، كانت من السابقات إلى الإسلام، وهي التي ربت النبي
صلى الله عليه وسلم
وتعهدت برعايته لما كفله أبو طالب، وقد ولدت لأبي طالب خمسة أولاد: طالبا، وعقيلا، وجعفرا، وعليا، وأم هانئ، وتوفيت بالمدينة، وشهد موتها الرسول الأعظم، وتولى دفنها وأشعرها قميصه، واضطجع في قبرها وبكى عليها وقال: جزاك الله من أم خيرا؛ فقد كنت أحسن خلق الله صنيعا إلي بعد أبي طالب وأمي رحمها الله ورضي عنها.
ولدت هذه السيدة الجليلة عليا قبل الهجرة بإحدى وعشرين سنة في الكعبة، وقال الذين وصفوه: كان علي ربعة من الرجال، أدعج العينين عظيمهما، حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، عظيم البطن، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري، لا تبين عضده من ساعده، أدمج إدماجا، شثن الكفين، عظيم الكراديس، أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كثير شعر اللحية أبيضها، لا يصبغها، وكان إذا مشى تكفأ، وإذا سار إلى الحرب هرول، وكان قويا؛ ما صارع أحدا قط إلا صرعه.
1
وكان علي هاشمي الأبوين، فورث عن بني هاشم كثيرا من صفاتهم المعروفة بهم من نبل.
وقد سمته أمه حيدرة، وهو الأسد، تشبها له بأبيها وتأسيا باسمه، ثم رأى أبوه أن يغير الاسم فسماه عليا، وعرف بالاسمين معا، ولكنه اشتهر بالثاني.
تربى علي في بيت النبي الكريم؛ فقد روى المؤرخون أن أبا طالب كان رقيق الحال ذا عيال، وأن النبي أراد أن يفي عمه أبا طالب ببعض حقه حين كفله وهو صغير، فطلب إلى عمه أن يربي عليا في بيته، فقبل أبو طالب، ونشأ علي في حضانة النبي ورعايته، فعلمه الرسول مكارم الأخلاق، وخرجه أفضل تخريج، ولما ابتعث الله نبيه محمدا كان علي من أوائل من أسلموا، وقد اختلف المؤرخون في سن علي وقت إسلامه، وقد أحصى ابن عبد البر روايات المؤرخين في ذلك فإذا هي خمس، أولها: رواية أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن الذي يقول إنه والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين، والثانية: رواية ابن إسحاق، وهي أنه أسلم وله عشر سنين، والثالثة: رواية عبد الله بن عمر، وهي أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنة، والرابعة والخامسة: هما روايتا الحسن الذي يتردد بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة.
2
وأقرب هذه الروايات إلى الصحة هي رواية المؤرخ ابن إسحاق؛ لأنها الأشهر والأقرب إلى تسلسل الحوادث التاريخية، وابن إسحاق أعلم بالنواحي التاريخية من غيره، وهو حجة ثقة في أخبار السيرة النبوية وحوادث كبار رجالات الإسلام. قال ابن حجر في الإصابة: «أبو الحسن أول الناس إسلاما في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل الهجرة بعشر سنين على الصحيح.»
3
وعلى هذا يكون علي هو أول من أسلم بعد السيدة خديجة، قال إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي رواية عن أبيه عن جده: كنت امرأ تاجرا، فقدمت للحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأ تاجرا، فوالله إني لعنده بمنى؛ إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت قام يصلي، قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام قد راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معهما يصلي، فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه فيما ادعى إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. وكان عفيف يقول بعد أن أسلم وحسن إسلامه: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثانيا مع علي.
4
ومهما يكن من أمر فإنه قد أسلم وقت ميلاد العقيدة الإسلامية؛ لأنه كان في حجر النبي الكريم حين إعلان الدعوة الجديدة، وكان النبي يرعاه خير رعاية، ويعلمه معالم الحنيفية، فملأ الدين قلبا خاليا إلا من الفطرة السليمة، طاهرا لم يكدره وضر الجاهلية، ولا أفسدته تقاليد الوثنية.
وهكذا نشأ الإمام علي عليه السلام في بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
فأحسن تعهده، وغذاه بروح الإسلام السمحة، وخلقه بأخلاق النبوة الطاهرة، فتغذى بذلك أحسن تغذية، وتخلق به أمكن تخلق، وهكذا يثبت ما يقال من أنه عليه السلام أول مسلم تمكن الإسلام من قلبه فلم يخالطه أوضار الوثنية، وأنه أول مسلم تعشق الإيمان قلبه تعشقا صادقا عميقا قويا ، جعله يضحي بكل شيء في سبيله، ويبذل راحته وروحه وماله وولده، وتسلسلت التضحيات منه ومن بنيه في خدمة الإسلام والذب عن تعاليمه منذ فجر يومه الأول، وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن في سيرة ابن أبي طالب وابنه الحسين - نضر الله وجهه - لعبرة لا تنفد، وهما كما قال فيلسوف الإسلام وشاعره أبو العلاء:
وعلى الأفق من دماء الشهيدي
ن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن وفي أولياته شفقان
وإن في تاريخ آل أبي طالب جميعا سجلا للبطولات والتضحيات في سبيل هذه الأمة العربية المسلمة، تبلى الأيام والليالي ولا يبلى؛ لما يجد المتعمق في دراسته من معالم قوة الإيمان، وصدق الإحسان، والإخلاص الواضح، والتفاني في رفع شأن كلمة الله وخدمة العروبة خاصة والأمة الإسلامية عامة.
الفصل الثاني
في إجمال حياته وسيرته عليه السلام
ولد علي عليه السلام في السنة الثانية والثلاثين من ميلاد الرسول؛ أي: سنة إحدى وعشرين ق.ه. ولما بعث الرسول بالنبوة كان علي دون سن البلوغ، وكان يساكنه في منزله كما أسلفنا، وقد كفله رسول الله وعني بأمره، ونشأه في بيته نشأة إسلامية، فلم يتدنس بدنس الجاهلية، وتهذب بآداب الديانة المحمدية، وكان ذا نفس كريمة طاهرة، شجاعا لا تلين قناته، ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة فداه علي بنفسه ونام في فراشه ليوهم أن الرسول لم يزل نائما فلا يتبعه المشركون المتآمرون عليه ويفسدون خطة الهجرة إلى المدينة كما رسمها الرسول لنفسه، ثم لحقه بعد قليل إلى المدينة وشهد معه كل غزواته إلا غزوة تبوك، فإنه
صلى الله عليه وسلم
استخلفه فيها على أهل بيته، ولما رأى في وجهه كرها لذلك ولبقائه مع النساء والولدان قال له
صلى الله عليه وسلم
يطيب نفسه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي؟
وقد زوجه الرسول
صلى الله عليه وسلم
ابنته فاطمة عليها السلام في السنة الثانية من الهجرة، فولد له منها: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وأم كلثوم (رضي الله عنهم).
وناب عن الرسول في قراءة أوائل سورة التوبة في موسم الحج إيذانا ببراءة الله ورسوله من المشركين، ولما توفي رسول الله وبويع أبو بكر، بايعه علي مع أنه كان يرى لنفسه حق الخلافة عن رسول الله لشدة قرابته منه، ولكنه كره انقسام المسلمين وتفريق كلمتهم.
ولما ولي عمر بايعه كذلك وزوجه ابنته، وكان عمر كثيرا ما يستخلفه على المدينة إذا ما غاب عنها، ولما أحس عمر بدنو أجله - على ما أسلفناه - كان يحب أن يخلف عليا عليه السلام لما يعهده فيه من الحنكة والإخلاص وقوة الشكيمة، ولكنه لم يفعل ذلك؛ لأنه خشي فيما يظهر أن يفرض على المسلمين رأيه، وليته فعل، وإنما ترك للمسلمين أنفسهم يختارون من يشاءون لخلافة رسول الله، ووكل هذا الأمر إلى جماعة من أشراف المسلمين وعقلائهم، وبعد اجتماع هؤلاء وتداولهم في الأمر قر رأيهم على انتخاب عثمان بن عفان كما سبق تفصيله فيما سلف.
وفي أيام عثمان ظهرت الاضطرابات السياسية، وقام الثوار على عثمان؛ لأنه عزل معظم العمال الذين كان عمر قد ولاهم واستعاض عنهم بعمال من أقربائه وعشيرته، وكان الإمام علي عليه السلام كثيرا ما يشير على عثمان ويرشده إلى سبيل الخير وطرق الصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكنه لم يسمع منه، فانصرف الإمام علي إلى تثقيف جمهور المسلمين هو وابن عمه عبد الله بن عباس، فكانا يقومان بوعظ الناس وتحليق الحلقات العلمية والدينية والأدبية، ولعل هذا هو أول نواة للحركة العلمية المنظمة في الإسلام على ما سنبينه فيما بعد.
ولما حم القضاء وقتل عثمان شهيدا دعا المسلمون الإمام عليا إلى أن يلي الخلافة، فكره ذلك أول الأمر لما رأى من اضطراب الأمة وانتشار روح الفوضى والفتنة بين صفوفها، ولكنه عاد فرضي بذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 53ه.
وقد نقل المؤرخ الهندي الثقة السيد أمير علي عن المؤرخ الفرنسي سديو أنه قال: يخيل للمرء حينما بويع الإمام علي بن أبي طالب أن الكل سيطأطئ هامته أمام هذه العظمة المتلألئة النقية، غير أنه قد كان قدر غير ذلك،
1
وقد علق السيد أمير علي على هذا الكلام بقوله: «فلقد أحاط به في بادئ الأمر أعداء بني أمية، ولكنه لم يحتط للدسائس، وأبى أن يقر عمال عثمان مدفوعا بشرف الغاية التي كانت من أبرز مميزاته، وبرغم النصائح التي أسديت إليه لمسايرة الظروف فقد انتزع الأملاك التي أقطعها عثمان لأتباعه من بيت المال، وقسم الخراج طبقا للقواعد التي سنها عمر، فجلبت عليه هذه الإجراءات الحازمة سخط من أثروا في العهد السابق، وقد تنازل بعض العمال عن مناصبهم دون مقاومة، بينما رفض آخرون النزول على أمر الخليفة الجديد، ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان.»
2
ولقد قام علي بأعباء الخلافة خمس سنوات، ولكن الاضطرابات لم تجعله يستريح يوما واحدا منها؛ فقد انقسم الناس في أمر بيعته، فقبل بعضهم بها، وتردد آخرون، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وتخلف آخرون، كحسان بن ثابت الشاعر، وأبي سعيد الخدري، وهرب بعض إلى الشام، كالمغيرة بن شعبة، ولكن البيعة تمت بالأغلبية الساحقة، وأول من بايعه عليه السلام هما: طلحة والزبير، ثم المهاجرون والأنصار، ثم بقية الناس.
3
وأول ما لقي عليه السلام من العقبات: خروج عائشة الصديقة عليه للمطالبة بدم عثمان، وقد انضم إليها نفر من كبار المهاجرين، وفي طليعتهم طلحة والزبير، فخرجت بجمع إلى البصرة تستنجد بأهلها، ولحق بها الإمام عليه السلام، والتقى الجمعان في منتصف جمادى الآخرة سنة 36ه على ما نفصله فيما بعد.
ثم إن الإمام بعث إلى معاوية في الشام يطلب إليه ألا يشق عصا الطاعة، فلما لم يصغ لقوله سار إليه من الكوفة إلى صفين في تسعين ألف مقاتل لخمس بقين من شوال سنة 36ه، وسار معاوية في خمسة وثمانين ألفا،
4
والتقى الجيشان بصفين، وكادت الدائرة تدور على أهل الشام، وكاد معاوية أن يفر من المعركة لولا أنه - فيما يروى عنه - تذكر أبيات ابن الإطنابة، وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
وأدرك عمرو بن العاص خطورة الموقف، فأشار على معاوية برفع المصاحف على الرماح والسيوف، وأن ينادي: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فانخدع العراقيون بذلك، وكان أمر التحكيم على ما سنفصله.
وبعد أن تم أمر التحكيم انصرف أهل الشام إلى معاوية يسلمون عليه بالخلافة، وانصرف العراقيون متفرقين واضطربوا على الإمام، بل خرجت منهم طائفة عليه تحاربه.
وشتان بين أنصار الإمام وأنصار معاوية؛ فقد ذهب أولئك مشتتي الكلمة، وذهب هؤلاء صفا واحدا، وقد أراد الإمام عليه السلام أن يعود ثانية لمحاربة معاوية، ولكن الخوارج أفسدوا عليه أمره؛ لأنهم ساروا نحو «المدائن» يفسدون الحرث والنسل ويحملون عليه، فاضطر إلى أن يلحق بهم ويحاربهم، ويقتل منهم مقتلة كثيرة في النهروان، وكانت حوادث النهروان السبب في مقتل الإمام عليه السلام كما سنشرح ذلك بعد. (1) مزاياه النبيلة عليه السلام
كان الإمام على جانب عظيم من المزايا الخلقية والخلقية الرفيعة كما أسلفنا، وكانت الشجاعة أبرز تلك المزايا؛ فقد كانت جرأته مضرب الأمثال، وليس أدل على ذلك من مخاطرته بنفسه ليلة هجرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة كما رأينا، مع معرفته بأن قريشا تريد قتل الرسول في تلك الليلة، وكان الإمام من أشد الناس وطأة على المشركين في الغزوات التي لم يتخلف عن واحدة منها، وعلى يديه الطاهرتين فتحت خيبر رغم شدة تحصينها، وكان زاهدا عفيفا، حريصا على ألا يضيع أموال المسلمين ، مؤثرا للخشونة، ومن أقواله في ذلك: تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه ...
وروى هارون بن عنزة عن أبيه قال: دخلت على علي بالخورنق، والفصل شتاء، وعليه خلق قطيفة وهو يرعد منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هكذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزأكم شيئا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
5
وأما علمه؛ فقد كان في أسمى الدرجات، وكان على جانب عظيم من الثقافة العربية الشائعة في ذلك الحين، وكان من أعلم الصحابة إن لم يكن أعلمهم بالقرآن والسنة وأحكام الدين، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» وكان عبد الله بن مسعود يقول: «أفرض أهل المدينة وأقضاها علي.»
6
وكان أبو بكر وعمر وعثمان يرجعون إليه في المشاكل العلمية والقضائية، وفي كثير من معرفة أحكام الدين، وكان عبد الله بن عمر يقول: «أعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن.»
7
وأما فصاحته، فكانت في أعلى الدرجات، بل كانت مضرب الأمثال، وكان يلقي بالقول فيأخذ بمجامع القلوب، ويخطب الخطبة فيثير النفوس، كما كان أشعر الخلفاء الراشدين. روى السيوطي في «تاريخ الخلفاء» أن أبا بكر الصديق كان يقول الشعر، وأن عمر كان يقوله، وأن عثمان كان يقوله أيضا، وكان علي عليه السلام أشعرهم،
8
وسنرى تفصيل هذا فيما بعد.
وأما أدبه فقد كان عليه السلام أفصح العرب؛ لأنه تربى في حجر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وتأثر به وبالقرآن كل التأثير من نعومة أظفاره، زد على ذلك تلك الهبة الإلهية التي يصطفي الله بها من يشاء من خلقه، فتنفجر بذلك منهم ينابيع البلاغة؛ كل هذه الأسباب، وكذلك الأحوال السياسية جعلت منه خطيبا فصيحا، وإماما من أئمة البيان، وهو كما قال الشريف الرضي: مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.
9
وقد كان للفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية أثرها القوي في إنتاجه عليه السلام وشيعته إنتاجا أدبيا عجيبا، كما كان لها الأثر العظيم في إنتاج الأمويين وجماعتهم وإن شقي بها المسلمون دهرا طويلا، وإنك لترى مصداق هذا إذا ما قرأت في «نهج البلاغة» قوله في بني أمية: «ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة، عمت خطتها، وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها، وايم الله لتجدن بني أمية بكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم، ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحد منكم إلا كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، وقطعا جاهلية، ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف، ولا يجلسهم إلا الخوف.»
10
ومن ذلك قوله عليه السلام في عمرو بن العاص: «عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس، لقد قال بطلا، ونطق إثما، أما - وشر القول الكذب - إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيلحف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الإل، فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو؟! ما لم تأخذ السيوف مأخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيانه الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرطه أن يؤتيه أتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.»
11
ففي هاتين الفقرتين اللتين أوردناهما من كلامه عليه السلام نرى قدرة عجيبة على البيان والخطابة، وانتقاء الألفاظ، ووضعها في مواضعها، وليس من شك في أن لصفاء ذهنه وسمو عقله وتربيته الأدبية الراقية أثرا كبيرا في ذلك، وليس أدل على صفاء ذهنه وسمو عقله مما يروى عنه أنه كان يصف الناس وحالاتهم النفسية، ويقرأ ما تكنه صدورهم، ويدرك ما تخفيه نفوسهم، ولعل كثرة مرافقته للرسول وتأدبه بأدبه واقتباسه من نوره قد أثر فيه هذا التأثير الطيب؛ فأنت ترى في خطبه ومناقشاته ووعظه ورسائله روحا جديدة كل الجدة عما كنت تراه في الآثار الأدبية العربية من قبل، وهو وراء هذا كله قد ضرب بسهم وافر في كل شأن من شئون الحياة الاجتماعية إذ ذاك، فإذا تكلم عن الزهد كان أخبر المتكلمين فيه، وإذا قال في ذم الدنيا وأهلها جاءك بالقول الفصل، وإذا حرض على القتال ومحو الفتنة كان سيد القائلين، وإذا أوصى أو حذر كان خير المتحدثين، كل هذا قد جاءه من حسن خبرته بالحياة، ومن نفسه الصافية، وأدبه منبعث عن فصاحة وبيان صادرين عن قلب عارف وعقلية سامية، وثقافة عربية إسلامية واسعة؛ فبينا هو يحدثك بأسلوب عليه مسحة من القرآن وبلاغته إذا هو ينتقل بك طفرة إلى أسلوب فيه قوة الجاهلية وجزالتها وتشبيهاتها وصورها، وهذه قدرة على البيان والخطابة لا نعرفها في أحد من العرب قبله أو بعده إلا في الرسول
صلى الله عليه وسلم .
وأما كتابته فلم تكن أقل إتقانا من خطابته، وهو إذا كتب كان يسلك مسلكا فنيا، يطيل حين يكتب ما تنبغي الإطالة فيه من عهد أو تولية يذكر فيهما بإسهاب ما ينبغي أن يكون عليه العامل الوالي من حسن السياسة وإدارة البلاد، ويوجز حين يرى الإيجاز أبلغ، وأنه لا فائدة من الإطالة، ودليلنا على ذلك أنك إذا قرأت له عهده الذي كتبه للأشتر النخعي حين ولاه مصر وأعمالها وقت اضطراب أمر محمد بن أبي بكر الصديق فيها،
12
أو قرأت كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري،
13
وجدت فيهما على طولهما طريقة فنية عجيبة في الكتابة والخيال الرائع والسجع الجميل المقبول، وتضمين ذلك شعرا وأمثالا وحكما، فالإمام عليه السلام في رأينا هو أول كاتب فني ظهر في الإسلام، ومنه استقى عبد الحميد بعده، وعلى غراره طبع ابن المقفع قوله، وعنه أخذا أسلوبهما، وبكلامه وطريقته الفنية تأثرا.
ولم يكن عليه السلام خطيبا وكاتبا وحسب، بل كان حكيما مفكرا، بل لعله أول مفكر ظهر في الإسلام، وتبصر في الحياة، وقال فيها أقوالا تدل على عقل حكيم، وفكر صائب، والحق أن حكمة الإمام تتجلى واضحة فيما أثر عنه من الحكم والنصائح، ونحن إذا رحنا نستقصي ما صح من آثاره نرى أن حكمته عليه السلام تنحصر في الموضوعات التالية: (1)
رأيه في الخالق سبحانه، وتقديسه وتنزيهه وتحليل صفاته. (2)
رأيه في المؤمن، وما يجب أن يكون عليه من صفات ومزايا تقربه من الله تعالى. (3)
إرشاداته للإنسان فيما ينبغي له عمله حتى يعيش بين إخوانه عيشة سعيدة كلها إخاء ومحبة. (4)
نصائحه للإنسان في تحديد واجباته نحو نفسه. (5)
رأيه في السياسة والحكومة والقضاء. (6)
رأيه في المرأة وأحوالها.
أما رأيه في الخالق فيتجلى في كثير من خطبه، فمن ذلك قوله: «الحمد لله الذي لا يبلغ حرمته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل محدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ... كائن لا عن حدث، وموجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة.»
14
هذا طرف من عقيدة الإمام عليه السلام في البارئ سبحانه وتنزيهه، وهي العقيدة التي جاء بها الإسلام، ولكن الإمام أرسل عليها قبسا من بلاغته، وكان عليه السلام يكره البحث في حقيقة الإله، والقضاء والقدر، وغيرها من الأمور الغيبية؛ فقد سأله مرة أحد الناس أن يصف له الله - تعالى عن ذلك - فوبخه ونهاه عن البحث في أمثال هذه الأمور، وقال فيما قال له: «اعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم، عن اقتحام السدود المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب.» والحق أن رأي الإمام عليه السلام في هذه القضية لا يتجاوز عقيدة الإسلام وعقيدة أهل السنة والتوحيد المطلق، وآراؤه بهذا الصدد منثورة في ثنايا «نهج البلاغة». وأما رأيه في المؤمن وما يجب أن يتصف به ليتقرب من الله سبحانه فيمكن تلخيصه في:
البعد عن الهوى ومطاوعة الشيطان وطول الأمل، والزهد في الدنيا، مع القيام بجميع واجبات الله سبحانه. ومما ورد عنه في ذلك قوله في وصف قوم خرجوا على الحدود الدينية: «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا، واتخذهم له أشراكا، فباض فيهم وفرخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه.»
15
وأما إرشاداته ونصائحه للناس فيما يجب أن يتصفوا به ليعيشوا سعداء متآخين آمنين، فتتجلى في دعوته إلى فاضل الأخلاق وكريمها، كقوله: «واحذر كل عمل يعمل به في السر ويستحى منه في العلانية.» وقوله: «إن أبغض الخلائق إلى الله جل جلاله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، ورجل قمش جهلا موضع في جهال الأمة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالما وليس به بكر، فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر.»
16
فأنت ترى من وراء هذه الكلمات نفسا عرفت حقائق هذه الحياة وخبرتها، ففاض بها لسان الإمام ببيان ساحر، ونظم عجيب، ولو رحت تستقصي ما قاله في هذا الباب لرأيت أن النظريات الأخلاقية والمواعظ الاجتماعية والخطط العسكرية التي أوردها في خطبه هي ملاك الحياة، وتضم نظاما اجتماعيا قويما نافعا للناس في حالتي: السلم والحرب.
وأما نصائحه للمرء في تحديد واجباته نحو نفسه ليعيش سعيدا هانئا، فهي كنصائحه إليه ليعيش مع الناس، وإن من أوجب ما حض الإنسان عليه في هذا الموقف أن يخالف هوى النفس؛ لأنها أمارة بالسوء، قائدة إلى الشر: «من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ.» و«لا يعجب الإنسان بنفسه، ولا يغتر بشبابه وماله، فإن هذا كله عرض فان.» و«إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.»
وأما رأيه في السياسة والحكومة والقضاء فقد أكثر من الكلام فيه، ويمكننا تلخيص أقواله بالنقاط التالية:
إنه يرى أنه لا بد للمسلمين من أمير ينصب نفسه لإقامة الحدود، وسياسة الدولة، و«لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ... ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر.»
17
أما صفات هذا الإمام عنده فتتجلى في قوله: «من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بعلم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه.» وقوله: «أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش.» وكان يرى أن لا بد من إطاعة الناس لإمامهم، وأنهم إن تفرقوا في ذلك شيعا وأحزابا ضل سعيهم. وقد أكثر الإمام من بيان ضرر الخروج على جماعة المسلمين وعدم إطاعة الأمير؛ لأنه عليه السلام لاقى آثاره السيئة في خروج الناس عليه وعدم إطاعتهم إياه في كثير من المواطن، قال: «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم ما تنتظرون ينصركم ربكم، أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمسكم؟ أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام.»
18
وكان يرى أن خير السياسة هي سياسة الشورى والمداولة مع أولي الحل والعقد من عقلاء الأمة، قال: «من استبد برأيه هلك، من شاور الرجال شاركها في عقولها.» وأما آراؤه في العمال والقضاة فخلاصتها أنه يطلب إليهم أن يتخلقوا بالتواضع والمواساة والمساواة بين الناس، وأن يكون آثرهم عندهم أفضلهم وأقولهم للحق وأبعدهم عن الأشرار، قال يوصي الأشتر النخعي لما ولاه على مصر: «إن شر وزرائك من كان للأشرار وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكون لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد فيهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه ... فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه ... ثم رضهم على ألا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو.»
19
وأما القضاة فكان له معهم شأن عظيم، ومن أجمع وصاياه إليهم قوله في كتاب عهد الأشتر النخعي: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به أمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأحزمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة عندك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا.»
20
فأنت ترى في هذه المقطوعة دستورا من دساتير الفصاحة والقضاء لا يقل كمالا عن أحدث ما وصلت إليه أرقى الأمم المتمدنة في عصرنا هذا.
أما رأيه في المرأة وأحوالها فهو شديد قاس عليها، وهو الذي قال: «المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها.»، وقال: «خيار خصال النساء شرار خصال الرجال.» وقال: «يا معشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول، فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة رجل واحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.»
21
ولكنه مع هذه الشدة في الحكم على المرأة كان رحيما بها، مشفقا عليها، راحما ضعفها؛ فقد قال من خطبته لجنده وهم بصفين: «لا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، وإن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالقهر أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده.»
22 •••
هذه آراء الإمام عليه السلام في الدين والدنيا. أما آثاره في الحياة فجليلة، ومن أعظمها آثاره في الأدب العربي، فقد رأيت قبسا من نور أدبه الذي لا يضاهيه أي قبس حاشا القرآن الكريم والحديث النبوي؛ لأنه عليه السلام كان أفصح الناس بعد الرسول، وأشدهم قوة على التعبير الفصيح، وأبرعهم حجة في الخطابة، وأملكهم لعنان اللغة واطلاعا على مفرداتها، يتصرف بها كما يريد، وهو الذي تربى في حجر النبي
صلى الله عليه وسلم
فأفاد من البلاغة النبوية، والحكمة الإلهية، ووعى ما لم يعه غيره من كلام الرسول وحالاته وحركاته في خطبه ومجالسه وأماليه، فلا غرو أن يصبح كعبة يحج إليها طلاب البيان الرفيع والفصاحة العالية، وهكذا قد كان؛ فقد تأثر الناس به في عصره وفي العصور التي جاءت بعده، فما من خطيب، وما من كاتب ولا من شاعر إلا نهل من معينه الصافي، وطبع على غراره السامي، وهذا عبد الحميد بن يحيى إمام الكتاب يجيب من سأله عن سر قدرته على الكتابة بقوله: «ضغط كلام الأصلع.» وهذا ابن المقفع يقول: «شربت الخطب العلوية ريا، ولم أضبط لها رويا، ففاضت ثم غاضت، فلا هي كلاما وليس غيرها نظاما.»
والحق أننا إذا فحصنا ما صحت نسبته إلى الإمام عليه السلام مما نجده في المصادر الموثوق بها ككتب الطبري والمسعودي والجاحظ والشيخ المفيد وابن قتيبة وجدنا لعلي عليه السلام أثرا بارزا في الأدب العربي.
23
الفصل الثالث
في أعماله الجليلة في خلافته
بويع الإمام بالخلافة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة؛ وذلك أنه لما قتل عثمان (رضي الله عنه) اجتمع أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار، وفيهم طلحة والزبير، فأتوا الإمام وقالوا له: إنه لا بد للناس من إمام، وإنك أفضل من بقي لها، فقال لهم: لا حاجة لي في إمارتكم، فاختاروا أحدا أبايعه، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مرارا، ثم قالوا له : ما نجد أحدا أحق بالخلافة منك، فإنك أقدمنا سابقة للإسلام، وأقربنا قرابة من رسول الله، فقال: لا تفعلوا فلأن أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله ما نحن بتاركيك حتى نبايعك، ثم قبل وذهب بهم إلى المسجد النبوي، فأقبل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه عامة الناس.
ولم يستقبل المسلمون خلافة الإمام علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان؛ فقد كان عثمان سمحا سهلا معهم، أما الإمام فكان شديدا عنيفا.
وليس غريبا ألا يستقبل جمهور الناس خلافة الإمام عليه السلام إلا قلقين عابسين، وزاد في هذا القلق والعبوس أن الثوار الذين قتلوا الخليفة عثمان ما زالوا في المدينة، بل إنهم هم أصحاب السلطان الفعلي في عاصمة الخلافة، وكذلك كان الحال في بعض الأمصار وبخاصة الشام، فإنهم كانوا يؤمنون بأن الخليفة الجديد مقدم على مشاكل، وأنه يجب عليه القضاء على الفتنة وتنفيذ حكم الشرع في قتلة الخليفة السابق، ولكنه لن يستطيع ذلك، الآن على الأقل.
بايع الناس عليا إلا أهل الشام ونفر من كبار الصحابة المهاجرين والأنصار، فإنهم تخلفوا عن بيعته، ويروي الطبري بسنده إلى عبد الله بن الحسن أنه قال: بايعت الأنصار والمهاجرون عليا إلا نفر منهم: عبد الله بن عمر، وحسان بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وقدامة بن مظعون، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وأسامة بن زيد، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة، وصهيب بن سنان، وكعب بني عجرة؛ فقد كان هواهم مع عثمان، وأخذ النعمان بن بشير أصابع السيدة نائلة - امرأة عثمان - التي قطعت يوم مقتله، كما أخذ قميص عثمان الذي قتل فيه، وهرب إلى الشام وأعطاه لمعاوية، فعلقه على المنبر، كما علق الأصابع، فلما رأى أهل الشام ذلك المنظر ازدادوا غيظا على قتلة عثمان، ثم رفع معاوية القميص والأصابع، وكان كلما أحس منهم بفتور أخرجه مع الأصابع وعلقه على المنبر ليثير صدورهم، ويحرك كوامن حقدهم، ومما زاد الأمر اضطرابا أن عمرو بن العاص كان يسير بين بلاد الشام محرضا على قتلة عثمان، وهرب كثير من بني أمية الذين كانوا في المدينة إلى مكة.
ولما تمت بيعة من بايع وقف الإمام فخطب الناس وقال: أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، من رغب عنها رغب عن دين الإسلام، واتبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا، وإني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم، وايم الله لأنصحن للخصم، ولأنصفن المظلوم، وقد بلغني عن سعد وابن مسلمة وأسامة وعبد الله وحسان أمور كرهتها، والحق بيني وبينهم، والسلام.
ولم يكن تخلف هؤلاء النفر عن بيعة الإمام لأنهم كانوا يعتقدون عدم أهليته للخلافة، بل لشبهة دخلت عليهم، يقول العلامة المرحوم السيد محسن الأمين: «إن امتناع من امتنع عن بيعته عليه السلام ليس لاعتقادهم عدم أهليته للخلافة ولا عنادا، بل لشبهة دخلت عليهم، فابن عمر وسعد ظنا أنها فتنة والأرجح عدم الدخول فيها، ثم بان لهما خطؤهما وندما على ترك القتال، وعدا أنفسهما مذنبين، وأسامة دخلت عليه شبهة عدم جواز قتل من أظهر الإسلام، ولم يتفطن للفرق بين المقامين وأنها شبهة واهية.»
1
والحق أن الموقف قد كان حرجا، ولولا أن عليا ساس الأمور بحكمته لوقع المسلمون يومئذ في فتنة سوداء، ولاندك صرح الإسلام.
استقبل علي عليه السلام عام 36 للهجرة، وقد سمى عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف إلى البصرة، وعمارة بن شهاب إلى الكوفة، وعبيد الله بن عباس إلى اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة إلى مصر، وسهل بن حنيف إلى الشام، ومخنف بن سليم إلى أصفهان وهمذان؛ فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان في تبوك لقيته خيول أهل الشام، فقالوا له: من أنت؟ قال لهم: أنا أمير الشام بعثني علي أميرا، فقالوا له: ارجع إلى المدينة سالما بنفسك وإلا قتلت ومن معك، ورأى كثرة عددهم فرجع إلى المدينة.
وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل، فقالوا له: من أنت؟ قال: بعثني علي أميرا على مصر، فأدخلوه إليها، وافترق أهل مصر إلى ثلاث فرق: فرقة دخلت في الجماعة وبايعت عليا، وفرقة اعتزلت وقالت: إن قتل علي قتلة عثمان كنا معه وإلا فلا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد إخواننا الذين اشتركوا في قتل عثمان.
وأما عثمان بن حنيف فإنه سار حتى دخل البصرة، فرأى الناس منقسمين إلى أقسام: قسم مع الجماعة، وقسم قال: نحن مع أهل المدينة نفعل ما يفعلون.
وأما عمارة بن شهاب فإنه لما بلغ مدينة زبالة لقيه طلحة بن خويلد الأسدي، وكان هذا قد خرج في طلب ثأر عثمان، فقال لعمارة: ارجع إلى من بعثك فإن القوم لا يريدون بأميرهم العثماني - وهو أبو موسى الأشعري - بديلا، فإن أبيت ضربت عنقك، فرجع عمارة إلى علي بالمدينة.
وأما عبيد الله بن عباس فانطلق إلى اليمن ودخلها. •••
أما علي عليه السلام فإنه كتب إلى معاوية يقول: «أما بعد: فإن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوني بمشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك.» فتلقى معاوية الكتاب وقرأه وطواه ولم يجب الإمام بشيء، وكان الرسول الذي أحضر الرسالة كلما تنجز معاوية ينشده قول الشاعر:
أدم إدامة حصن أو خذن بيدي
حربا ضروسا تشب الجزل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله
شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا الحسود بها والسيدون فلم
يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما
فلما مضى شهران ونصف دعا معاوية رجلا من عبس يقال له: قبيصة، فدفع إليه رسالة إلى الإمام، وقال له: إذا دخلت المدينة فأعلم الناس بمقدمك، فلما قدم المدينة قال لهم إنه قد جاء بجواب معاوية، فتبعوه، ودخل على علي ففض الرسالة، ولم يجد فيها شيئا سوى كلمة «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال للعبسي: ما وراءك؟ قال: أآمن أنا؟ قال : نعم، قال: تركت القوم لا يرضون إلا بالقود وقتل قتلة عثمان، وتركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه قبر دمشق، وهم يطلبون رقبتك، فقال الإمام: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا بعثمان كترتهم به؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم قال للعبسي: اخرج.
وفي هذه الفترة كتب معاوية كتابا إلى الزبير يقول له فيه: «من معاوية بن أبي سفيان إلى الزبير أمير المؤمنين، سلام عليك، أما بعد: فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنه لا شيء بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما.» فلما وصل الكتاب إلى الزبير فرح به كثيرا وأقرأه طلحة، فلم يشكا في صدق معاوية، وأجمعا على خلاف علي.
أما الإمام فإنه عزم على الحرب وقتال من لم يبايعه، واستدعى إليه ابنه محمد بن الحنفية، فدفع إليه لواء جيشه، وجعل عبد الله بن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي مسلمة على ميسرته، وأبا ليلى بن الجراح على المقدمة، واستخلف على المدينة قثم بن عباس، وكتب إلى قيس بن سعد وعثمان بن حنيف وأبي موسى الأشعري أن يندبوا الناس لقتال مخالفيه، فاشتعلت نيران الحرب، وكانت أعظم هذه الحروب معارك: «الجمل» و«صفين» و«النهروان». (1) حرب الجمل
كانت السيدة عائشة بنت الصديق يوم مقتل عثمان بمكة، فضاقت ذرعا بهذا القتل الظالم، وقامت تطالب بالانتقام من القتلة، وتصيح بالناس: «إن الغوغاء من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة قد سفكوا الدم الحرام في الشهر الحرام واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام في الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان بن عفان خير من طباق الأرض أمثالهم ... والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء - أي غسلوه.»
فلما سمع الناس ذلك تهيجوا وقال أحدهم، وهو عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا ذا أول طالب بدم عثمان، وتبعه بنو أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بن كريز من البصرة بمال كثير، كما قدم يعلى بن أمية من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، ولما رأى طلحة والزبير ذلك قالا لعلي: إننا نريد الخروج إلى مكة للعمرة، فقال لهما: والله إنكما لا تريدان العمرة، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا له بالله أنهما لا يريدان الغدر، وجددا له بيعتهما بأشد ما يكون من المواثيق والأيمان، فأذن لهما، ولما خرجا قال لصحبه: والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها، فقال الصحب: مر بردهما عليك، فقال: ليذهبا وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولما وصلا مكة قالا لعائشة: إننا قد تركنا في المدينة قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، ولا يمنعون أنفسهم، ثم استقر رأيهم على الخروج إلى البصرة، فأتت عائشة أم سلمة، إحدى زوجات النبي
صلى الله عليه وسلم
تطلب إليها أن تخرج معها وتقول: يا أم سلمة، كنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقمؤ - يعيش - في بيتك، وكان يقسم لنا في بيتك، وكان ينزل عليه الوحي في بيتك، فقالت لها أم سلمة: يا ابنة أبي بكر، لقد زرتني وما كنت زوارة، ولأمر ما تقولين هذه المقالة. فقالت: إن طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير أخبروني أن الرجل قتل مظلوما، وأن بالبصرة مائة ألف سيف يطاوعون، فهل لك أن نخرج أنا وأنت لعل الله يصلح بنا فئتين متناحرتين؟ فقالت لها: يا عائشة، أبدم عثمان تطلبين وقد كنت أشد الناس عليه؟! وقد بايعه المهاجرون والأنصار، وإن عمود الإسلام لا ترأبه النساء إن انثلم - في كلام طويل.
فقالت لها عائشة: شتمتني يا أختي، فقالت لها أم سلمة: ولكن الفتنة إذا أقبلت غطت على البصيرة، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل، ثم تركتها عائشة وأتت حفصة بنت عمر زوج رسول الله، فأجابتها إلى الخروج معها، ولكن أخاها عبد الله بن عمر منعها من ذلك، ثم نادى المنادي: إن عائشة وطلحة والزبير وجمهور المسلمين خارجون إلى البصرة، فمن أراد أن يعز دين الإسلام ويطلب بدم عثمان وليس له مركب ولا جهاز فليأت، ثم ساروا في نحو من ألف راكب، وقيل: بل كانوا ثلاثة آلاف، وكان في الطليعة: أبان بن عثمان، والوليد بن عثمان، ومروان بن الحكم، وسائر بني أمية.
قال ابن جرير الطبري: وأمرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وبعثت أم الفضل بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب كتابا إلى أمير المؤمنين علي تخبره بالخبر مع ظفر الجهني، فلما قرأ الرسالة وعلم نكث الزبير وطلحة بالبيعة واجتماعهما مع عائشة، وقف فخطب الناس في المسجد وقال: «أما بعد: فإن الله بعث محمدا للناس كافة وجعله رحمة للعالمين، فصدع بما أمر ربه، وبلغ رسالات ربه فلم به الصدع، ورتق به الفتق، وآمن به السبل، وحقن الدماء، وألف به بين ذوي الإحن والعداوة، والوغر في الصدور والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميدا، وكان من بعده ما كان من التنازع في الإمرة، فتولى أبو بكر، وبعده عمر، ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما عرفتموه ثم أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، فقلتم: بلى، فقلت: لا، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم فجذبتموها، حتى تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعضا، فبسطت يدي فبايعتموني مختارين، وبايعني في أولكم طلحة والزبير طائعين ثم مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، وألا يبغيا الأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي، ونكثا بيعتي ونقضا عهدي، فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي! ولست بدون أحد الرجلين، ولو شئت أن أقول لقلت: اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي وصغرا في أمري وظفرني بهما.»
وقال في خطبة ثانية حين بلغه مسيرة عائشة: «أما بعد : فإن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها، والله لو ظفروا بما أرادوا، ولن ينالوا ذلك أبدا، ليضربن أحدهما عنق الآخر بعد تنازع منهما شديد، والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة، أي والله ليقتلن ثلثهم، وليهربن ثلثهم، وليتوبن ثلثهم، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان، ورب عالم قتله جهله معه علمه لا ينفعه، حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ ما لي ولقريش؟ والله لقد قتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في صيرنا، والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، ثم إنه دعا وجوه أهل المدينة فقال لهم: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم ...»
ثم إن الإمام استخلف على المدينة سهل بن حنيف، وقيل: بل تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس، وخرج في تعبيته التي عبأها لأهل الشام في آخر ربيع الأول سنة 36ه حتى أتى «الربذة» فاجتمع إليه الناس وسار نحو «فيد».
أما عائشة وجماعتها فإنها بعد أن بلغت «الحوأب» تركته نحو «البصرة»، فلما قربت منها أرسلت عبد الله بن عامر بن كريز الذي كان أميرا على البصرة من قبل عثمان، فاندس إلى البصرة، وكتبت إلى الأحنف بن قيس وجماعة من وجوه المدينة تدعوهم لنصرتها، وأقامت «بالحفير» تنتظر الجواب، ولما بلغ ذلك مسامع عثمان بن حنيف أمير البصرة من قبل علي أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي، فلما دخلا عليها سلما وسألاها عن سبب مسيرها، فقالت: إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله وأحدثوا فيه، وآووا المحدثين، فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فسفكوا الدم الحرام، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام في الشهر الحرام، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا، ثم تلت قوله تعالى:
لا خير في كثير من نجواهم
إلى آخر الآية ... فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه، والسلام.
ثم خرجا من عندها وأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليا؟ قال: بلى، والسيف على عنقي، وما أستقيل بيعتي إن لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثم أتيا الزبير فقال لهما مثل ذلك، ثم رجعا إلى عثمان بن حنيف أمير البصرة، فقالا له: إنها الحرب فتأهب لها، فنادى عثمان بالناس ودعاهم إلى المسجد وأمرهم بالتجهز، ثم أقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى «المربد»، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه.
ثم تكلم طلحة فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عثمان بن عفان وفضله، ودعا إلى الطلب بدمه، ونزل، ثم وقف الزبير فقال مثل قوله، فقال أصحابهما: «صدقا وبرا»، وقال أصحاب ابن الحنيف: «فجرا وغدرا»، تحاثى الناس وتحاصبوا ووقعوا في أمر مريج، فوقفت عائشة - وكانت جهورية الصوت - فقالت: كان الناس يتجنون على عثمان، ويزرون على عماله، ويأتوننا في المدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنه، فننظر في ذلك فنجده برا تقيا وفيا، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والشهر الحرام، والبلد الحرام، بلا ترة ولا عذر، ثم قرأت قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، إلى آخر الآية، وسكتت، فافترق أصحاب ابن حنيف فرقتين، قالت إحداهما: صدقت وبرت، وإن من جاءوا معها يطالبون بحق، وقالت الأخرى: إن من جاءوا معها كاذبون ضالون، ثم تحاصب الطرفان ووقع الهرج والمرج، فجاء جارية بن قدامة السعدي فقال لها: يا أميرة المؤمنين، لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الأنكد عرضة للسلاح، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك ، إنه من رأى قتالك يرى قتلك، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس، فلم تعر قوله هذا التفاتا، ثم نشب القتال بين الجانبين حتى أدركهم الليل.
وفي الصباح نشب القتال من جديد، وكثر القتل في أصحاب ابن حنيف، وكثر الجرح في الفريقين وعضتهم الحرب، وكتب طلحة والزبير إلى أهل الشام كتابا يخبرانهم فيه بذلك ويحثانهم على النهوض، ومما جاء فيه قولهما: «إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله، فبايعنا خيار أهل البصرة وخالفنا أشرارهم قائلين: نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتهم بالحرب وحثتهم عليه، وإننا يا أهل الشام نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما نهضنا به.»
وكتبوا مثل ذلك إلى أهل الكوفة واليمامة والمدينة، وكتبت السيدة عائشة إلى أهل الكوفة تخبرهم بحقيقة الأمر، وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن الإمام علي، وتحثهم على طلب قتلة عثمان، ومما جاء في كتابها قولها: «قدمنا البصرة، فدعونا إلى إقامة كتاب الله، فأجابنا الصالحون واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني حتى منعني الله بالصالحين، واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها، فخانوا وغدروا، وكان ذلك الدأب ستة وعشرين يوما ندعوهم إلى الحق ويدعوننا إلى الباطل، وغدروا وخانوا، فغادروني في الغلس ليقتلوني، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي، فوجدوا نفرا على الباب، فدارت عليهم الرحى.»
أما الإمام علي فإنه سار حتى بلغ «ذا قار» وأتاه عثمان بن حنيف في جمع كبير من أهل البصرة، ثم أرسل ابنه الحسن وعمارا والأشتر النخعي إلى الكوفة يدعون أهلها لنصرة الإمام، فأحضروا جمعا كبيرا منهم، ورحب به قائلا: يا أهل الكوفة، أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم، فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على الفساد إن شاء الله.
وسار علي من ذي قار حتى نزل على عبد القيس، فانضموا إليه، ثم سار حتى نزل «الزاوية» يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة، والتقى الجمعان عند مكان قصر عبيد الله بن زياد، فلما نزل الناس أقاموا ثلاثة أيام لم يكن فيها قتال، وكان الإمام يرسل إلى جماعة عائشة يكلمهم ويدعوهم، حتى كان يوم الخميس منتصف جمادى الآخرة سنة 36، فوقعت الواقعة، وكان عسكر عائشة ثلاثين ألفا، وعسكر علي عشرين ألفا، ومما خطب به علي صحبه قوله: «عباد الله، انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم لقتالهم، فإنهم نكثوا بيعتي، وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي، وقتلوا رجالا صالحين، ثم تتبعوا منهم من يحبني يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية، ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم، وقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب ومبارزة الأقران، وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه، ولا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى، فإذا قاتلوكم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف العقول والأنفس، لقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والعصا والجريدة فيعير بها هو وعقبه من بعده.»
تراءى الجمعان، فرأى علي طلحة والزبير وقال لهما: «لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله سبحانه، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما؟ فهل حدث ما أحل لكما دمي؟» فقال طلحة: ألبت الناس على عثمان، فقال علي:
يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ، يا طلحة، تطلبني بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان، يا طلحة، جئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك، أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي.
ثم قال للزبير مثل ما قاله لطلحة، فأراد الزبير ترك الحرب، فقال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين العسكرين حتى إذا اشتبكت النصال أردت أن تتركهم وتذهب، ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فجبنت، فأحفظه ذلك، وقال: إني حلفت ألا أقاتله، فقال له ابنه عبد الله: كفر عن يمينك وقاتله، فدخل في المعركة، ثم رأى أن يتركها ويتوجه إلى وادي السباع قاصدا المدينة، فلما وقف يصلي طعنه من خلفه عمرو بن جرموز فقتله، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، ثم قدم على علي فأخبره بقتل الزبير، فتناول الإمام سيف الزبير وهزه وقال: «سيف طالما كشف الله به الكرب عن رسول الله، وما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء.»
ثم اشتد وطيس القتال بين الجانبين، فنزل علي إلى الساحة وهو يتلو قوله تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، اللهم أفرغ علينا الصبر، ثم رفع مصحفا بيده وقال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه ولهم الجنة؟ فقال غلام اسمه مسلم بن عبد الله فقال: أنا يا خليفة رسول الله، ثم تناول المصحف وزحف على القوم فقتلوه، فقال علي: الآن حل قتالهم، واقتتل الناس، وركبت عائشة الجمل، وألبسوا هودجها البسط وجلود النمر، وفوق ذلك دروع الحديد، وخطبت الناس عائشة فقالت: «أما بعد فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط وإمرة الفتيان، ألا وإنكم استعتبتموه فأعتبكم، ثم عدوتم عليه فارتكبتم منه دما حراما، وايم الله إنه كان أحصنكم فرجا وأتقاكم لله.»
ثم اقتتلوا حتى قتل طلحة وهو يقول: اللهم خذ لعثمان حتى ترضى، وحرضت عائشة الناس ، كما حرض علي جماعته، واحتدم القتال وتلاحم الناس، وأخذت عائشة لفا من حصى ورمت به وجوه أصحاب الإمام وصاحت بقولها: شاهت الوجوه، كما صنع رسول الله يوم حنين، فقال لها قائل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، ثم تقدم أصحاب علي إلى جمل عائشة وأصحابها يحيطون بها ويتساقطون صرعى دون الوصول إليها حتى قتل على الخطام أربعون رجلا، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، وحمل أصحاب علي حتى أداروا الجمل كما تدور الرحى، وصاح الإمام: ارشقوا الجمل بالنبل، فرشق حتى لم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل، ثم تقدم محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، فقطعا أنساع الهودج واحتملاه، فلما وضعاه أدخل محمد يده، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك محمد، فقالت: بل مذمم، قال: يا أخية، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك، ثم أمر الإمام بعقر الجمل، وأمر بحمل الهودج من بين القتلى، وطلب من محمد بن أبي بكر أن يضرب على أخته قبة، ثم أدخلها البصرة فأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكان الإمام يتمثل في ذلك اليوم قائلا:
إليك أشكو عجري وبجري
ومعشرا أعشوا على بصري
قتلت منهم مضري بمضري
شفيت نفسي وقتلت معشري
ثم إنه أمر بأن ينادى: لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على أسير أو جريح، ولا تدخلوا الدور، ولا ترزءوا سلاحا، ولا ثيابا ولا متاعا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ثم صلى علي على القتلى من أهل البصرة والكوفة وأمر بدفنهم، وكان عدد القتلى كبيرا تجاوز الخمسة آلاف، ثم كتب إلى أهل الكوفة بالفتح كتابا يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، إن الله حكم عدل، لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دون الله من وال، أخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة، ومن تأشب إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ونكثهم صفقة أيمانهم، فنهضت من المدينة حتى انتهى إلي خبر من سار إليها وما فعلوا بعاملي عثمان بن حنيف حتى قدمت «ذا قار»، فبعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر، فاستنفرتكم بحق الله وحق رسوله وحقي، فأقبل إلي إخوانكم سراعا، فسرت بهم حتى نزلت ظهر «البصرة» فأعذرت بالدعاء وقمت بالحجة وأقلت العثرة والذلة من أهل الردة من قريش وغيرهم، فاستتبتهم فأبوا إلا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغي، فناهضتهم بالجهاد، وقتل طلحة والزبير، وخذلوا وأدبروا وتقطعت بهم الأسباب، فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو عنهم، فقبلت، واستعملت على البصرة عبد الله بن العباس وأنا سائر إليكم، وقد بعثت «زحر بن قيس الجعفي» لتسألوه فيخبركم عنا وعنهم، والسلام.»
ثم إن الإمام ولى زيادا على الخراج وبيت المال وتوجه إلى الكوفة، فلما وصلها صعد المنبر بعد أن صلى ركعتين وقال: أما بعد يا أهل الكوفة، فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيروا، دعوتكم إلى الحق فأجبتم، وبدأتم بالمنكر فغيرتم، ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله، فأما في الأحكام فأنتم أسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه، ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، والآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، الحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعز أنصار الحق، وأذل الناكث المبطل، عليكم بطاعة الله وطاعة من أطاع الله من أهل نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله من المنتحلين المدعين.
بعد أن أقام علي بالكوفة استعمل العمال على العراق وفارس، ونظم أموره وأخذ يهيئ نفسه لحرب أهل الشام إلى أن كانت معركة صفين. (2) حرب صفين
بعد أن استقرت الأمور في العراق للإمام علي رأى أن يسير لقتال معاوية وإخضاع الشاميين ، فسار حتى أتى صفين في أواسط ذي القعدة سنة 36، وكان عدد جيشه نحوا من مائة ألف مقاتل كما ذكر الطبري في حوادث تلك السنة، وكتب علي إلى زعماء العرب في الأطراف يستقدمهم، فقدم عليه الأحنف بن قيس، وجارية بن قدامة، وحارثة بن بدر، وزيد بن جبلة، وأعين بن ضبيعة، وجرير بن عبد الله البجلي؛ ولما اجتمعوا عنده أراد علي أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير البجلي: ابعثني إليه فأدعوه إلى أن يسلم لك الأمر على أن يكون أميرا من أمرائك، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك، وجلهم قومي وقد رجوت ألا يعصوني، فقال له الأشتر النخعي: لا تبعثه فوالله إني لأظن أن هواه هواه، فقال له علي: دعه يذهب حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه وقال له: إن حولي من أصحاب رسول الله من أهل الدين والرأي من قد رأيت، وقد اخترتك عليهم، ائت معاوية، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه وأعلمه أني لا أرضى به أميرا، وانطلق جرير إلى الشام فقال لمعاوية: يا معاوية، إنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز واليمن ومصر وأهل العروض وعمان والبحرين واليمامة، ولم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها، ولو سال عليها سيل من أودية لغرقها، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل، ودفع إليه كتاب علي، وهذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه، فلم يك للشاهد أن يختار، وللغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما، كان ذلك لله رضى، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا، وإن طلحة والزبير كانا قد بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء، فإذا تعرضت له قاتلتك واستعنت الله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ...»
فلما قرأ معاوية الكتاب دعا ثقاته، فقال له عتبة بن أبي سفيان وكان نظيره: استعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا، فكتب معاوية إلى عمرو وهو بفلسطين: «أما بعد فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني، أقبل أذاكرك أمرا.» وقدم على معاوية فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه، وقتل الخليفة، وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة، وقطع الرحم، فقال عمرو: والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير (أي عدلي بعير)، ما لك هجرته، ولا سابقته، ولا صحبته، ولا جهاده، ولا فقهه، ولا علمه، والله إن له معك حدا وحدودا وحظا وحظوة، فماذا تجعل لي إن شايعتك على حربه؟ قال: حكم مصر، وكتب له معاوية بمصر كتابا على ألا ينقض طاعة.
وأبطأ جرير بن عبد الله عند معاوية، فكتب إليه علي يتعجله ويقول: إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الحزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم محظية، فإن اختار الحرب فانبذ له، وإن اختار السلم فخذ بيعته.
ثم إن معاوية جمع إليه وجوه أهل الشام وأخذ بيعتهم، وقال لجرير: الحق بصاحبك، وبعث معه إلى علي كتابا يقول له فيه: من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب، أما بعد؛ فلو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وليست لعمري حججك علي كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة؛ لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام، فأما شرفك في الإسلام وقرابتك من النبي
صلى الله عليه وسلم
وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم هيأ نفسه للسفر إلى صفين.
ولما أراد معاوية السير إلى صفين قال لعمرو: «إني رأيت أن نلقي إلى أهل مكة والمدينة كتابا نذكر لهم فيه أمر عثمان، فإما أن ندرك حاجتنا وإما أن يكف القوم عنا.» فقال عمرو: «إنما تكتب إلى ثلاثة نفر: راض بعلي فلا يزيده ذاك إلا بصيرة، ورجل يهوى عثمان فلن تزيده على ما هو عليه، ورجل معتزل فلست بأوثق في نفسه من علي.» ثم كثرت الكتب والرسائل بين الطرفين وكل منهما يهيئ نفسه، وكتب علي إلى عماله في الأمصار يأمرهم بالمسير إليه وحث الناس على الجهاد، وبلغ أهل العراق مسير معاوية إلى صفين فالتفوا نحو الإمام عليه السلام وتجمعت جموعهم حتى بلغت مائة وخمسين الفا،
2
ولكنهم كانوا غثاء كغثاء السيل، كثير الكمية، قليل الأهمية لاختلاف هواهم، وكأن الإمام قد أحس منهم ذلك فخطبهم خطبته الشهيرة التي يقول فيها : يا عباد الله، ما بالكم إذا أمرتم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلا؟ وبالذل والهوان من العز والكرامة خلقا؟ أفكلما دعوتكم إلى الجهاد دارت أعينكم في رءوسكم كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم قاسية، فأنتم أسود الشرى عند الدعة، وحين تنادون للبأس ثعالب رواغة تنتقص أطرافكم فلا تخاشون، ولا ينام عدوكم عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن لكم علي حقا، فالنصيحة لكم ما نصحتم، وتوفير فيئكم عليكم، وأن أعلمكم كيلا تجهلوا، أؤدبكم كي تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح في المغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.
ويظهر أن هذه الخطبة قد بلغت آذان القوم ولم تبلغ قلوبهم، فلم يهيئوا أنفسهم، وآثروا الدعة والسكون على الحركة والجهاد، ويظهر أن السبب في ذلك أنهم رأوا أن الإمام يدفع بهم إلى حرب مبيدة تقطع الأرحام وتوهي الصلات، ولا يفيدون منها أي مغنم مادي. أما أهل الشام فإن معاوية يوزع بينهم الأموال ويغريهم بوضع أيديهم على كل من ينتصرون عليهم وعلى أموالهم، وكان يتألف القادة والرؤساء وشيوخ القبائل بالأموال، أما الإمام علي فليس عنده شيء من ذلك؛ لأن المال مال الله، ولا يصح أن يعطى لإنسان إلا بحسب فريضة الله، وقد جاءه مرة أخوه عقيل يطلب منه بعض المال، فقال لابنه الحسن: إذا خرج عطائي من بيت المال فسر مع عمك إلى السوق، فاشتر له ثوبا جديدا ونعلين جديدتين. فيتركه ويذهب إلى معاوية فيعطيه من بيت المال مائة ألف.
سار معاوية على رأس جيوشه من الشاميين، وقدم بين يديه الطلائع والعيون، حتى وصل قبل علي إلى صفين، فأنزل جيشه البالغ نحو خمسين ألفا في مكان رحب كثير العشب والخير، قريب من الفرات، ثم جاء جيش علي الضخم فنزل بمكان قريب من جيش معاوية، ولكن لم يجد على الفرات شريعة يستقي منها، فأرسل إلى معاوية يطلب إليه أن يخلي الماء حرا للجيشين فلم يقبل معاوية، واضطرب أصحاب علي حتى اقتتل نفر من الطرفين على الماء، وأتيح لجماعة علي أن يأخذوا مورد الماء، ولكن الإمام عليا رأى أن ذلك ظلم، وأن الماء ماء الله يجب أن يشرب الناس منه جميعا، فغضب نفر من أصحابه لهذه السياسة، ولكنه لم يأبه لهم، واستمرت السفارات بين الجانبين، ولكنها لم تنته إلى شيء، بل عبأ كل جانب جنده وشرع في القتال الفردي الذي ظل نحوا من عشرة أيام، وكانت السفراء لا تنقطع، حتى دخل المحرم من السنة الجديدة، فسئم الإمام من هذه المطاولات وزحف بجميع جيشه، فلقيه معاوية بجيش مثله، والتحم الطرفان وانكشفت ميمنة جيش الإمام، وتضعضع قلب جيشه حتى اضطر إلى أن ينحاز الإمام نفسه إلى ميسرة الجيش في بني ربيعة، فاستقتلت لحمايته، وكان خطيبها يقول: «يا معشر ربيعة، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم.» فتحالفت ربيعة على الموت إلى أن انتظم حال الميمنة من جديد بفضل قيادة الأشتر الحكيمة، واشتد جيش الإمام على جيش معاوية في اليوم الثالث حتى كاد أن يبلغ فسطاط معاوية ويشتت شمله، وهم معاوية بالفرار ولم يثبته إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وكان أهل العراق لا يشكون في ظفرهم، لولا الحيلة التي احتالها معاوية وأصحابه حين رأوا أن المصاحف قد نشرت مرفوعة على رءوس الرماح والسيوف، بينما خرج مناد من أهل الشام يقول: هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، الله الله يا قوم في العرب، الله الله في الإسلام، الله الله في الثغور، من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام؟ ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق؟ فلما رأى العراقيون المصاحف وسمعوا الدعاء تداعوا إلى قبول الهدنة، وذهب رؤساؤهم إلى الإمام بذلك، فقال لهم: لا والله، إن القوم ليسوا بأصحاب قرآن، ولم يرفعوه على أرماحهم تائبين إلى ما فيه ، وإنما رفعوه كائدين يبغونكم الفتنة بالحيلة. ولكن أصحاب الإمام ألحوا عليه حتى أنذروه بمفارقته، ومنهم من أنذره بتسليمه إلى معاوية، ومنهم من قال له: امض في القتال، وتفرق بأس القوم بينهم، فاضطر الإمام إلى وقف القتال، ولم يكف الأشتر النخعي عن المضي في الحرب إلا بعد لأي، وذهب رسل علي إلى معاوية، فقال لهم: نختار منا رجلا ومنكم رجلا، ونأمرهما أن يفصلا بيننا بما في كتاب الله، ورجع رسل علي إليه بكلام معاوية، فلما سمعه حوقل، وتصايح القوم في حضرته يقول أكثرهم بالقبول، وأقلهم بالرفض ، واضطر الإمام أن يجيب الكثرة إلى ما رأت. •••
كانت الحيلة التي لجأ إليها عمرو بن العاص برفع المصاحف حيلة نافذة، ضعضعت صف جيش الإمام وشتتت شمله، ولو كان الغرض منها شريفا لهان الأمر، ولكن معاوية وعمرا قد بيتا مؤامرة خبيثة تهدف إلى عزل الإمام بالاتفاق مع بعض قادته، وفي طليعتهم: الأشعث بن قيس الكندي.
ومهما يكن الأمر، فإن الطرفين المتخاصمين اتفقا على أن يحكموا رجلين لحل هذه المعضلة، فاتفق جماعة معاوية على اختيار عمرو بن العاص، واتفق جماعة علي على أبي موسى الأشعري، واجتمع المفوضون من الطرفين فكتبوا شروط الهدنة من وقف القتال، واختيار الحكمين، وموعد اجتماعهما، وتأمينهما على أنفسهما وأموالهما مهما يكون حكمهما، كما اتفقوا على حرب من يخالف هذه الوثيقة التالي نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن كان معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين: إننا ننزل عند حكم الله، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله فإنهما يتبعانه، وما لم يجداه مما اختلفا فيه في كتاب الله نصا أمضيا فيه السنة العادلة الحسنة الجامعة غير المفرقة، والحكمان: عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليحكما بما وجدا في كتاب الله نصا، فما لم يجداه في كتاب الله مسمى عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرقة.»
وأخذا من علي ومعاوية ومن الجندين كليهما وممن تأمرا عليه من الناس عهد الله ليقبلن ما قضيا به عليهما، وأخذا لأنفسهما الذي يرضيان به من العهد ومن الثقة بالناس أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما وأموالهما، وأن الأمة لهما أنصار على ما يقضيان به من العدل على علي ومعاوية، وعلى المؤمنين والمسلمين من كلا الطائفتين، وأن على عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يصلحا بين الأمة، ولا يرداها إلى فرقة ولا حرب، وأن أجل القضية إلى شهر رمضان، فإن أحبا أن يعجلاها دون ذلك عجلا، وإن أحبا أن يؤخراها عن غير ميل منهما أخراها، وإن مات أحد الحكمين قبل القضاء فإن أمير كل شيعة وشيعته يختارون مكانه رجلا لا يألون عن أهل المعدلة والنصيحة والإقساط، وأن يكون مكان قضيتهما التي يقضيانها فيه مكان عدل بين الكوفة والشام والحجاز، لا يحضرهما فيه إلا من أرادا، فإن رضيا مكانا غيره فحيث أحبا أن يقضيا، وأن يأخذ الحكمان من كل واحد من شاءا من الشهود، ثم يكتبا شهادتهم في هذه الصحيفة أنهم أنصار على من ترك ما فيها: اللهم نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا أو ظلما، وشهد بما في هذا الكتاب من أصحاب الإمام: عبد الله بن العباس، والأشعث بن قيس، والأشتر مالك بن حارث، وسعيد بن قيس الهمداني، والحصين، والطفيل بن الحارث بن المطلب القرشي، وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي، وربيعة بن مالك الأنصاري، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وورقاء بن سمي، والحسن والحسين ابنا علي، وعبد الله بن حجل الأرحبي، ويزيد بن حجية التميمي.
ومن أهل الشام: أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وبسر بن أرطاة القرشي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق بن حارث الزبيدي، وزمل بن عمرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان القرشي، ويزيد بن الحر العبسي.
واتفق الحكمان على أن يجتمعا في «أذرح»، وأن يجيء علي بأربعمائة من أصحابه، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه يشهدون الحكومة، ثم خرج الأشعث بن قيس يتلو كتاب التحكيم على الناس، فمر به على أهل الشام ورضوا به، ثم مر به على أهل العراق فلم تقبل به طائفة منهم وخرجت تعلن أنها ترفض تحكيم الرجال في دين الله، وهكذا انتهى الجزء الأول من هذه الفتنة بوقوع الفرقة بين صفوف جند الإمام، ولم يمض يومان على كتابة الصحيفة ودفن القتلى من الجانبين حتى أذن مؤذن علي في أصحابه بالرحيل عن صفين إلى الكوفة وهم متفرقون متشاتمون، ومنذ ذلك اليوم نشأ في الإسلام جماعة جديدة، كان لها أثر عميق في الأحداث التي تعرض لها الإسلام، وهي جماعة الخوارج الذين اتخذوا حروراء مكانا لهم، وأخذوا يرسلون الرسل لمفاوضة الإمام ودعوته إلى استئناف القتال، ولكنه لم يقبل بعدما أعطى ميثاقه بالهدنة.
وقد أرسل إليهم عبد الله بن العباس في جماعة من أصحابه يناظرهم ويناقشهم وقد حفظت لنا كتب التاريخ والفرق نصوص مناظرة مشهورة بين ابن عباس ورؤساء الخوارج، عددوا له فيها ما نقموه على الإمام من أمر تحكيم الرجال في دين الله، فرد عليهم ابن عباس بقوله: إن الآمر قد أمر التحكيم في الصيد الذي يصيبه المحرم، كما أمر بتحكيم حكمين بين الزوجين إن وقع بينهما شقاق، فقال الخوارج لابن عباس: إنما نص عليه الله من الأحكام لا تجوز المخالفة فيه، وما أذن للناس فيه بالرأي جاز لهم أن يجتهدوا فيه برأيهم، ألا ترى إلى أمر الله في الزاني والسارق وقاتل النفس المؤمنة في غير حقها؟ فليس للإمام أن يخالف عن هذا الرأي على أن يغير فيه، وإن أمر الله في معاوية وأصحابه واضح في آية الطائفة الباغية، فلم يكن لعلي أن يغيره، وإنما كان الحق عليه أن يمضي في قتال هؤلاء البغاة حتى يفيئوا إلى أمر الله.
ثم تقدم الخطيب صعصعة بن صوحان يعظهم ويخوفهم، فرجع مع ابن عباس وصعصعة نفر قليل، وبقي جمهور خارجا على إرادة الإمام.
اجتمع الحكمان في «دومة الجندل»، ثم في «أذرح»، ولم تكن مفاوضاتهما على ملأ من الناس، بل كان كل واحد يجتمع بصاحبه ويتناقشان، وروايات المؤرخين لهذا الموضوع مضطربة متناقضة مختلفة، فإذا أضيف إلى ذلك أن الصحيفة نفسها كانت غامضة لم ينص فيها على موضوع الخلاف، تبين لنا مقدار حراجة الموقف في الحكم على هذه القضية.
ويظهر أن الطرفين اتفقا على أن الخليفة الثالث قد قتل مظلوما، وأن على معاوية أن يطالب بالاقتصاص من قاتليه؛ لأنه هو وليه، ولكن الخلاف دب حين بحث في موضوع من ينبغي أن يطلب إليه معاوية في الاقتصاص؛ أهو علي؟ ومعاوية يتهم عليا في التأليب على الخليفة القتيل، فلا بد إذن من اختيار خليفة حيادي يرتضيه الناس، ويعين معاوية على الانتقام من قتلة عثمان، وقد اقترح أبو موسى تسمية عبد الله بن عمر للخلافة لحياده ودينه، ولكن عمرا رفض هذا الاقتراح، وطال الجدل بين الحكمين ولم يتفقا على رجل حيادي، ثم قر رأيهما على أن يخلعا عليا ومعاوية جميعا، وأن يتركا للأمة أن تختار من تشاء، ولكنهما لم يضعا نظاما للاختيار.
ثم اجتمع الناس وتلي عليهم الاتفاق، وقدم عمرو أبا موسى ليبدأ بإعلان ما اتفقا عليه من خلع علي ومعاوية، فقام فقال: بعد حمد الله والثناء عليه، إنه يعلن أنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية، ورد الأمر شورى بين المسلمين، وطلب إلى الناس أن يستقبلوا أمرهم، ويختاروا لخلافتهم من يرضون. ثم قام عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا قد خلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه مثله، ولكني أثبت صاحبي. فقال أبو موسى: ما لك لا وفقك الله! غدرت وفجرت! وماج القوم واضطربوا وتضاربوا، وانطلق أبو موسى إلى مكة، وعاد أهل الشام إلى معاوية مهنئين مبايعين بإمرة المؤمنين.
وانتهت هذه الفتنة بفوز معاوية وتضعضع أمر علي وتفرق جماعته ، وذلك بخديعة عمرو، وسلامة قلب أبي موسى الذي كان يظن أن المسلمين ولا سيما أصحاب رسول الله لا يشغلون إلى الخديعة والغدر؛ ولذلك رأى أن يفر بدينه ونفسه إلى مكة كارها لكل ما يرى ويسمع.
أما الإمام علي فإنه حين بلغه ما جرى، خطب الناس فقال: «الحمد لله، وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فإن معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت لكم رأيي لو يطاع لقصير رأي، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما، فأماتا ما أحيا القرآن، وأحييا ما أمات القرآن، ثم اختانا في حكمهما، فكلاهما لا يرشد ولا يسدد، فبريء الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للسير.»
ثم كتب إلى أهل البصرة يدعوهم إلى نصرته، فجاءه منهم جمع كبير، ولم يشخص إليه ابن عباس هذه المرة، بل اكتفى بأن أرسل الجند، وأراد الإمام عليه السلام أن يسير إلى الشام، ولكن جاء خبر أقض مضجعه، وهو أن الخوارج تجمعوا بجموع كبيرة في النهروان، فكتب إليهم ينبئهم بأن الحكمين انتهيا إلى خلاف، وأنه يدعوهم لنصرته في حرب أهل الشام، فأبوا عليه وأغلظوا في القول لرسوله، فصبر عليهم وقال: لعلهم يثوبون إلى الرشاد والهدى والصواب، ولكن الأخبار وصلت إليه بأنهم أخذوا يعيثون في الأرض الفساد، ويقتلون الأبرياء والصالحين والنساء، فعزم على قتالهم، وسار نحو النهروان.
وهكذا انتهى حرب صفين على هذا النحو المخزي الفاجع، الذي فرق كلمة المسلمين وشتت شمل العرب. (3) حرب النهروان
لما وصل الإمام عليه السلام إلى النهروان - وهي كورة واسعة واقعة بين محل واسط وبغداد - كتب إليهم يوصيهم بالدخول في طاعته، وأن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت الذي قتلوه شهيدا بريئا، فأجابوه بأننا كلنا قتلته، فأخذ عليه السلام يردد رسله إليهم يعظونهم تارة ويخوفونهم تارة أخرى، فترك قوم من الخوارج إخوانهم ورجعوا إلى الكوفة، كما التحق نفر منهم بجيش الإمام، ولكن الكثرة الكاثرة منهم ظلت على عنادها بقيادة عبد الله بن وهب الراسبي ذي الثفنات، وكان عددها نحوا من ثلاثة آلاف مقاتل، فقرر عليه السلام ألا يقاتلهم حتى يبدءوه بالقتال، ورأى الخوارج أن الإمام مصر على قتالهم، فاستبسلوا وصاح صائحهم «هل من رائح إلى الجنة؟» فتبعوه وصاحوا: «نحن الرواح إلى الجنة .» وشدوا شدة واحدة على جيش الإمام فاضطر إلى أن يقاتلهم، ولكنهم كانوا أعنف من جند الإمام في حملتهم، فاستطاعوا أن يفرقوا الجيش العلوي قسمين، ولكن الجيش ما لبث أن حمل عليهم حملة قوية حتى قضى على الخوارج كلهم وفيهم رئيسهم ذو الثفنات.
وهكذا قضى الإمام على جميع الخوارج إلا من اندس منهم إلى الكوفة أو القرى المجاورة.
وقد ظن الإمام أن الحرب قد انتهت، وأن الأمور قد استقامت، وأن العراق قد خضع فلم يبق إلا الشام، فليجهز له من يقضي على معاوية وأصحابه، فأخذ يدعوهم إلى أن يهيئوا أنفسهم للذهاب إلى الشام، ولكنه فوجئ بأمر لم يحسب له حسبانا، وهو أن جموع قبائل الخوارج الذين قتلوا يوم النهروان قد تجمعت للانتقام من قتلة أبنائهم وإخوانهم وأصدقائهم، وأن كثيرا من جنوده يتسللون إلى عشائرهم وقبائلهم ومدنهم رافضين مساعدته والقتال معه حتى اضطر إلى أن يعود إلى الكوفة ويدعو الناس من جديد إلى قتال أهل الشام ويخطبهم، فلا تتجاوز خطبه آذانهم، فلا يتحركون إلا حركات اصطناعية وهم يؤثرون الهدوء والسكينة على الحروب والأسفار، حتى ضاق بهم يوما فخطبهم بقوله: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة قلوبهم وأهواؤهم، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا دعوتكم إلى الجهاد قلتم: كيت وكيت، وذيت وذيت، أعاليل بأباطيل، وسألتموني التأخير فعل ذي الدين المطول، لا يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد والعزم واستشعار الصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع في نصركم، ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأبدلني بكم من هو خير لي منكم، أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة يتخذها الظالم فيكم سنة، فيفرق جماعتكم ويبكي عيونكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وتتمنون عن قليل أنكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حق ما أقول، ولا يبعد الله إلا من ظلم.
ولكن أقواله وتهديداته لم تفدهم شيئا، وقد قاسى منهم ويلات شدادا وضاق بهم ذرعا، وزاد الأمر سوءا ظهور من كان قد اختفى من الخوارج وإعلانهم دعوتهم ضده عليه السلام جهارا، وتكاثرهم يوما بعد يوم، وأخذوا يكيدون له شخصيا ويحاولون الفتك به عليه السلام، ويخذلون الناس عنه ويبثون لهم أن «عليا» ظالم لا يختلف عن «عثمان»، حتى جاءه أحدهم - وهو الخريت بن راشد السلمي - فقال له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك، فقال له الإمام عليه السلام: ثكلتك أمك، إذا تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تغر إلا بنفسك، ولم تفعل ذلك؟ قال: لأنك حكمت الناس في كتاب الله، وضعفت عن الحق حين جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راز، وعليهم ناقم، فلم يغضب الإمام عليه السلام من قوله ولم يبطش به، وإنما دعاه إلى المناظرة والمناقشة، فقال له: أمهلني إلى غد، وهرب الرجل إلى قومه - وكان فيهم سيدا مطاعا - فقال لهم ما سمعه من الإمام، وما أجابه به، ثم خرج بهم وأخذ يجمع الجموع لقتال الإمام، فبعث إليهم الإمام بجيش لجب فتك بهم، فتزايدت الإحن والترات، وعظم الكرب، وهرب نفر من قادة العراق إلى الشام مفضلين هدوءه وأموال معاوية وجاهه.
أما معاوية فإنه بعد أن وطد الأمر في الشام عزم على الاستيلاء على مصر، وكان فيها أمير لعلي هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فزور معاوية على لسان قيس كتابا بعث به إلى الكوفة ، وفيه يعلن انحرافه عن علي وغضبه لعثمان وانضمامه إلى معاوية، فلما وصل الكتاب إلى الكوفة قال علي عليه السلام للناس: إنها كذبة، وإن الكتاب مدسوس على قيس. ولكن أصحاب الإمام ألحوا عليه في وجوب عزل قيس، فلم يجبهم إلى ذلك، بل كتب إليه يخبره بالخبر ويطلب إليه أن يقاتل كل من لم يبايع عليا في مصر، فرد عليه قيس بأنه لا يفضل سلوك طريق القوة، وأنه يرجو الإمام أن يخلي بينه وبين إقليمه، فلم يشك أهل الكوفة في أن قيسا قد أضمر شيئا، وألحوا على الإمام في وجوب عزله، فعزله، وولى محمد بن أبي بكر الصديق محله.
وكان الفرق بين الواليين شاسعا، فابن أبي بكر شاب حدث لم يجرب الأمور، وقيس رجل كبير عارك الدهر وعركه، ثم إن محمد بن أبي بكر كان ممن شاركوا في التسور على عثمان، وفي مصر جماعة من العثمانية، ولما وصل محمد إلى مصر رحل قيس إلى المدينة، واضطرب أمر مصر، فجهز معاوية جيشا بقيادة عمرو بن العاص واستولى عليها بعد أن قتل محمد بن أبي بكر، فلما علم الإمام عليه السلام بذلك غم غما شديدا.
ومما زاد في الوضع سوءا أن عبد الله بن عباس أمير البصرة أخذ يستبد بالأمر دون الإمام عليه السلام، حتى كتب أبو الأسود الدؤلي كتابا إلى الإمام يقول له فيه: «أما بعد فإن الله جعلك واليا مؤتمنا وراعيا مسئولا، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحا للرعية، توفر لهم وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم، وإن عاملك وابن عمك عبد الله بن عباس قد أكل ما تحت يده بغير علمك، ولا يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما قبلنا من أمرك، واكتب إلي برأيك إن شاء الله.»
فرد عليه السلام على كتاب أبي الأسود برسالة فيها: «أما بعد؛ فقد فهمت كتابك، ومثلك ينصح للإمام والأمة، ويوالي على الحق ويفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمر، ولم أعلمه بكتابك إلي فيه ، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك محقوق وهو عليك واجب، والسلام.»
وكتب إلى ابن عباس يقول: «أما بعد؛ فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين، بلغني أنك جردت الأرض، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك، واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس ...» فأجابه ابن عباس: «أما بعد فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق على الأظناء، رحمك الله، والسلام.»
فغضب الإمام من هذه الرسالة التي لا تشفي غلة، ولا تنفي تهمة، وكتب إليه يقول: «أما بعد فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية ومن أين أخذته؟ وفيم وضعت ما أنفقت منه؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام.»
فلما قرأ ابن عباس هذا الكتاب خرج عن هدوئه، فكتب إلى الإمام كتابا فيه شيء كثير من خطل الرأي وفساد الطوية، ويقول له فيه: إنه يؤثر أن يلقى الله وفي ذمته شيء من أموال المسلمين على أن يلقاه وفي ذمته تلك الدماء التي سفكها علي يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم النهروان، وإن تلك الدماء إنما سفكت في سبيل الملك.
هذا ما كتب به ابن عباس إلى ابن عمه الإمام عليه السلام، وقد نسي أو تناسى - على الأصح - أنه يكتب إلى خليفة رسول الله، وأنه شاركه في هذه الحروب كلها، بل كان قائده يوم الجمل ويوم صفين، وأنه سيلقى الله وفي ذمته أموال المسلمين ودماؤهم معا، وزاد ابن عباس الأمر تعقيدا أنه عزم على ترك البصرة إلى الحجاز ومعه أموال بيت المال، ولكن أهل البصرة لما علموا بنيته لم يخلوا بينه وبين المال، فاستعان عليهم بأخواله بني هلال، وكادت الفتنة أن تقع بين البصريين والهلاليين لولا أن تداخل العقلاء، وذهب ابن عباس بالمال إلى البيت الحرام، فكتب إليه الإمام عليه السلام يلومه بكتاب رائع، ولكن ابن عباس لم يعد المال، وكتب للخليفة أنه لم يأخذ إلا ما يحق له من بيت المال.
وقد أراد معاوية أن يستولي على البصرة كما استولى على مصر، وخصوصا بعد أن علم بغضبة ابن عباس؛ فقد كان ابن عباس قد ترك البصرة لزياد، ولكن أهل البصرة وأعرابها قد استهانوا بزياد، وأراد زياد أن يستجير ببني ربيعة، فلم تعره التفاتا، فاستجار بالأزد ونقل إليهم المنبر وبيت المال، وانقسمت البصرة إلى طوائف وشيع: طائفة مع معاوية، وطائفة مع الأحنف بن قيس، وطائفة مستقلة، وهي: بنو ربيعة، وطائفة حمت زيادا وهي الأزد، وهكذا عادت العصبية القبلية الجاهلية إلى البصرة بأجلى مظاهرها، وكتب زياد إلى الإمام ينبئه بالخبر، فبعث الإمام رسوله أعين بن ضبيعة إلى البصرة، فقتله أهلها، وأراد زياد أن يثأر له فلم يستطع، فأرسل الإمام كتيبة وعلى رأسها جارية بن قدامة، فظفر بأهل البصرة، وأعيد بيت المال والمنبر إلى المسجد حيث كانا، وحاول الإمام أن يعيد الأمور إلى نصابها، فيخطب الناس ويحرضهم بخطبة رائعة صورت لنا الحالة التي كان عليها شيعته ويأسه منهم، حيث يقول: «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيم الخسف وديث بالصغار، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتخاذلتم وتواكلتم وثقل عليكم قولي، واتخذتموه ظهريا حتى شنت عليكم الغارات، هذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالا منهم، ونساء كثيرا، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين، لم يكلم أحد منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا، يا عجبا كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان من تضافر هؤلاء على باطلهم، وفشلكم عن حقكم حتى أصبحتم غرضا يرمى ، ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فيكم وترضون، إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة الصيف، أنظرنا ينصرم الحر عنا، فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، وقد ملأتم جوفي غيظا حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب، ولله درهم ، ومن ذا يكون أعلم بها مني وأشد لها مراسا؟ فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع.»
ولقد أحس معاوية بحقيقة الوضع العراقي، فأخذ يهيئ الكتائب لغزو العراق، وأخذ الخوارج يعملون في الديار فسادا، وأخذت جموعهم تزيد يوما بعد آخر حتى شبت نيران حرب داخلية قوية، فأخذ الإمام يعد عدته لقتالهم وقتال الشاميين معا، ولكن قادة جنده خذلوه، ولم يتحمسوا لدعوته، فلما استيئس منهم دعا إليه رؤساءهم وخاطبهم بقوله: إنكم ألححتم علي في تولي هذا الأمر، فلما أجبتكم خذلتموني، وإنه قد سئم من مطاولتهم، وإنه قد أزمع على الذهاب إلى قتال خصمه ولو بمفرده، إلى أن يقول: «أيها الناس، إنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردكم عنها، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها، فتوثب متوثبون كفى الله مئونتهم وصرعهم لخدودهم وأتعس جدودهم وجعل دائرة السوء عليهم، وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثا، تعمل بالهوى، وتحكم بغير الحق، وليست بأهل لما ادعت، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدما تقدموا، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل كله، ولا يبطلون الباطل كإبطالهم الحق، أما إني فقد سئمت من عتابكم وطول خطابكم، فبينوا لي ما أنتم فاعلون، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي أمركم أر رأيي، فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين، لأدعون الله عليكم، ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة ...» فلما سمعوا كلامه استحيوا وذهبوا إلى قومهم وحرضوهم، فاجتمع جيش حسن، وجاءوا بهم إلى الإمام ليذهب إلى غزو الشام والقضاء على معاوية ودولته.
بينما كان الإمام يهيئ نفسه للخروج إلى الشام حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد رأى الخوارج أن الوسيلة الوحيدة لخلاصهم من خصومهم هي في القضاء على معاوية وعمرو بن العاص وعلي بن أبي طالب، وانتدبوا عبد الرحمن بن ملجم الحميري لقتل علي، كما انتدبوا الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية، وانتدبوا عمرو بن بكر التميمي لقتل عمرو بن العاص، واتفقوا على يوم مسمى لتنفيذ مؤامرتهم، كما حددوا ساعة القتل، وهي ساعة صلاة الصبح في اليوم السابع عشر من رمضان تلك السنة، وهي سنة أربعين للهجرة.
فأما صاحب معاوية فإنه هجم عليه في الساعة الموقوتة، ولكنه لم يصبه بأذى؛ لأنه كان دارعا.
وأما صاحب عمرو فإنه ذهب في الوقت الموعود، ولكن عمرا كان مريضا فبعث مكانه صاحب شرطته وهو خارجة بن حذافة العدوي فقتل عوضا عنه.
وأما صاحب الإمام عليه السلام فإنه أصاب منه مقتلا على الشكل الذي سنفصله بعد، رحمه الله ورضي عنه وسلم عليه.
الفصل الرابع
في مقتله، ومناقبه، وآثاره العلمية والدينية
لم يصب الإسلام بفاجعة بعد فاجعته برسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم من فاجعته بمقتل الإمام عليه السلام، فإن أبا بكر وعمر وعثمان قد لاقوا حتفهم في ظروف تكاد تكون عادية أو شبه عادية، ثم إنهم قد عاشوا فترة هادئة في ظل الخلافة الإسلامية، استطاعوا بها أن يتمموا رسالة الرسول الكريم، وينشروا راية الإسلام، وبخاصة الخليفتان الأول والثاني كما رأيت في الفصول الماضية.
أما الإمام علي عليه السلام فإن الظلمة والخوارج والطغاة خلقوا المشاكل في سبيله منذ يوم تسلم خلافة رسول الله إلى أن طعن بيد أحدهم، وهو ظالم آثم طاغ.
روى المؤرخون أن عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الحميري أقام في الكوفة يرقب الموعد لقتل الإمام، ثم إنه أقبل آخر الليل ومعه رفيق له يعينه في عمله المجرم، وأنهما انتظرا الإمام حتى خرج من بيته لصلاة الفجر، فلما رأياه قادما استقبلاه بسيفيهما، فأصابه ابن ملجم - لعنه الله - في جبهته حتى بلغ دماغه، ووقع سيف صاحبه في الحائط، وخر الإمام الأمين المأمون صريعا وهو يقول: لا يفوتنكم الرجل، وأحاط القوم بالفاسقين، فقتلوا الثاني، واستبقوا ابن ملجم، وحمل الإمام إلى داره فأقام ليلتين ويوما ثم مات كرم الله وجهه، قتل ابن ملجم ومثل به وأحرق بالنار عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم الدين، وكان ذلك ليلة الحادي والعشرين من رمضان سنة 70ه.
وقد اختلفت الأقوال في وصية الإمام عليه السلام، فبعضهم يقول: إنه أمر باستخلاف ابنه الحسن عليه السلام، وبعضهم يقول: إنه قال لهم حينما سألوه عن ذلك: «لا آمركم ولا أنهاكم، والله الله في جيرانكم، وزكاة أموالكم، الله الله في الفقراء والمساكين، فأشركوهم في معايشكم، والله الله في خولكم وما ملكت أيمانكم، فإنها كانت آخر وصية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقولوا للناس حسنا كما أمر الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وعليكم بالتواضع والذل لله، وإياكم والتقاطع والتفرق والتدابر.»
وهكذا قضى الإمام المأمون الذي أراد أن يعيد الدين كما كان على عهد الرسول، وأراد أن يقضي على سوء الإدارة والظلم الذي حل بالمسلمين فدفع لذلك بنفسه ثمنا.
وقد اختلفت الروايات في موضع قبر الفقيد الشهيد، فبعضهم يقول: إنهم دفنوه في رحبة الكوفة حيث يزار اليوم، وبعضهم يقول: إن الحسين أمر بنقله إلى المدينة ليدفن إلى جانب السيدة فاطمة، وآخرون يقولون: إنه نقل إلى الحجاز في تابوت وضع على بعير ولكن ناقليه ضلوا بعيرهم، فأخذه جماعة من الأعراب ظنوا أن عليه مالا في ذلك التابوت، فلما رأوا أن فيه جثة دفنوها في مكان ما من الصحراء.
ومهما يكن من أمر، فإن الكارثة العظمى قد حلت، واندك صرح العفة والدين والسماحة بمقتله، ولما انتهى خبره إلى الحجاز تباكى الناس فيه، وتمثلت السيدة عائشة حينئذ بقول الشاعر:
وألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
وكأنها أرادت أن تقول: إن موته قد أراحه، كما استراح الناس بذلك، ولكن الأمر كان على عكس ما تصورت، فإن موته كان باب الشرور والمصائب والفتن التي حلت بالأمة العربية الإسلامية.
أما عمره وقت استشهاده فقد اختلف المؤرخون فيه، يقول الحاكم في المستدرك نقلا عن محمد بن الحنفية: إن عمره ثلاث وستون سنة، وقيل: بل أربع وستون، وقيل: بل خمس وستون، منها اثنتا عشرة سنة قبل البعثة ، وثلاث وعشرون سنة مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، وثلاثون سنة بعد وفاة رسول الله، ويقول ابن شهراشوب في المناقب: قبض صلوات الله عليه قتيلا في مسجد الكوفة، وقت التنوير، ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة مضين من شهر رمضان، فبقي يومين إلى نحو الثلث من الليل، وله يومئذ خمس وستون سنة في قول الصادق عليه السلام، وقالت العامة: بل له ثلاث وستون سنة، وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر؛ لأنه بويع لخمس بقين من ذي الحجة سنة 35ه. (1) مناقبه وآثاره العلمية والدينية
ذكرنا في الفصل الثاني طرفا من مناقبه ومزاياه النبيلة، ونبين ها هنا أنه عليه السلام كان على جانب عظيم من المناقب الجليلة التي لو أريد إحصاؤها لاحتيج إلى مؤلف ضخم. قال أبو الفرج الأصفهاني في «مقاتل الطالبيين»: إن فضائله عليه السلام أكثر من أن تحصى، فأمير المؤمنين عليه السلام بإجماع المخالف والممالئ والمضاد والموالي على ما لا يمكن غمطه، ولا ينساغ ستره من فضائله المشهورة في العامة، المكتوبة عند الخاصة، وهي تغني عن تفصيله بقول، أو الاستشهاد عليه برواية.
ويقول ابن عبد البر الأندلسي في «الاستيعاب»: فضائله عليه السلام لا يحيط بها كتاب، وقد أكثر الناس من جمعها، فرأيت الاقتصار منها على النكت التي تحسن المذاكرة بها، وتدل على ما سواها من أخلاقه وأحواله وسيرته، وقال: كان بنو أمية ينالون منه وينقصونه، فما زاده الله بذلك إلا سموا وعلوا ومحبة عند العلماء.
قال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي: لم يرو في فضائل أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما روي من فضائل علي بن أبي طالب، وكذلك قال النسائي أحمد بن شعيب بن علي، وروى الحاكم في المستدرك قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن الحسن الجراحي، وأبا الحسين محمد بن المظفر الحافظ يقولون: سمعنا أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي يقول: سمعت محمد بن منصور الطوسي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب، وقد تتبع الإمام النسائي ما خص به الإمام علي من المناقب دون سائر الصحابة، فجمع من ذلك مجلدا كبيرا بأسانيد أكثرها جيد، وقد عقد المحب الطبري في الرياض النضرة فصولا عديدة عدد بها مناقبه، منها ما يلي:
باب في أنه أول من أسلم.
وباب في أنه أول من صلى.
وباب في أنه أحب الناس إلى الله - جل جلاله.
وباب في أنه أحب الناس إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم .
وباب في أنه من النبي
صلى الله عليه وسلم
بمنزلة هارون من موسى.
وباب في أنه أقرب الناس قرابة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وباب في أنه أخو رسول الله.
وباب في أن ذرية النبي
صلى الله عليه وسلم
في صلبه عليه السلام، وأنه وزوجه وأولاده هم آل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم .
وباب في أنه مولى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأن الله يوالي من والاه، ويعادي من عاداه.
وباب في أنه باب مدينة العلم، وأنه أعلم الناس بالسنة.
والحق أن مناقب الإمام عليه السلام جد عظيمة، كما أن شخصيته شخصية فذة، خلفت لنا تراثا رفيعا في القضاء، والسياسة، والأخلاق، والعلم، والأدب من شعر ونثر.
أما آثاره الأدبية التي خلفها فهي: (1-1) آثاره الشعرية
من آثاره الشعرية ديوان لطيف، فيه نحو ألف بيت من الشعر كله في الزهد والنصائح والحكم، والتضرع إلى الله تعالى، وهو في الغالب ذو أسلوب ضعيف، عليه مسحة الصوفية المتأخرة، ويزعم بعض الناس أنه من صنع الشريف الرضي،
1
والحق أن هذا مستبعد جدا، وأن نظرة واحدة إلى أسلوب الديوان المنسوب إلى الإمام وأسلوب ديوان الشريف الرضي تكفي للحكم ببطلان هذا الزعم، فشعر الشريف متين قوي جزل كثير الإغراب، فيه قوة وفيه إبداع، أما شعر ديوان الإمام فمهلهل الألفاظ غالبا، ضعيف التراكيب، وليس فيه شيء من قوة الإمام وأدبه، وآرائه الرفيعة، ثم إن الإمام ما عرف بكثرة قول الشعر، وما صح عنه إلا أبيات قليلة كما ذكر ذلك ياقوت في معجم الأدباء.
2
وقد طبع هذا الديوان مرات، وشرح، وترجم إلى اللغات التركية والفارسية والأجنبية واللاتينية.
ومما ينسب إليه من الشعر قصيدة مطولة تعرف بالقصيدة الزينبية، وقد ترجمت إلى التركية، وشرحت، كما شرحها بالعربية الشيخ عبد المعطي السملاوي. (1-2) آثاره النثرية
للإمام آثار نثرية كثيرة، نجمل الكلام عنها بما يلي: (1)
غرر الحكم ودرر الكلم: وهو مجموعة في الأمثال والحكم والنصائح، جمعها ورتبها على حروف الهجاء الشيخ العلامة عبد الواحد بن عبد الواحد، وقد نشرها المستشرق كبيرس
Kuypers . (2)
ألف كلمة: ذكرها ابن أبي الحديد في آخر شرحه على نهج البلاغة، ولم أعثر على وجود لها. (3)
نثر اللآلي: وهي مجموعة حكم وأمثال عددها 278 مثلا وحكمة، وقد طبعت عدة مرات. (4)
بعض الأمثال السائرة من كلام الإمام، وقد أحصاها أبو الفضل الميداني صاحب «مجمع الأمثال» المشهور، وعددها 48 مثلا. (5)
طفافة الأمثال: وهي أيضا مما جمعه الميداني، وهذه المجموعة والكتابان السابقان قد نشرهما المستشرق «كرنيلوس» مع كتاب غرر الحكم في مجلد واحد بعنوان «حكم الإمام علي بن أبي طالب» وطبعها في أوكسفورد سنة 1806. (6)
مطلوب كل طالب من كلام علي بن أبي طالب: وقد ذكره السيد سركيس في معجم المطبوعات العربية، وهو كتاب لطيف في الحكم والمواعظ. (7)
دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم، وهو كتاب في الخطب والمواعظ، جمعه القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي من كلام الإمام، وقد طبع مرات. (8)
نهج البلاغة: وهو كتاب ضخم في نحو 650 صفحة، جمع فيه أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين، الملقب بالشريف الرضي الموسوي العلوي (359-406ه) خطب الإمام ورسائله، وكلماته، ومواعظه، وقد انتهى من تأليفه في رجب سنة 400 بعد أن ترك أوراقا بيضاء في آخر كل باب رجاء أن يقف على شيء من خطبه بعد الجمع فيدرجه في المحل المناسب.
3
ويمكن تقسيم «النهج» إجمالا بحسب مواضيعه إلى ثلاثة أجزاء: «الأول» في الخطب، و«الثاني» في المواعظ، و«الثالث» في الرسائل والوصايا والحكم.
وقد عني الأدباء بهذا الكتاب عناية شديدة قديما وحديثا، فشرحوه وعلقوا عليه، ومن أفضل هذه الشروح المطولة في القديم: شرح الإمام اللغوي الأديب المؤرخ عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن أبي الحديد (586-655)، وهو من كبار مفكري المعتزلة والشيعة الإمامية، وكان حاد الذكاء، واسع الاطلاع، تشهد بذلك آراؤه الكثيرة التي نقف عليها في شرحه للنهج الذي يعد في الحقيقة دائرة معارف كبرى حوت العلوم والآداب التي عرفت إلى عصره، وهو شرح في عشرين جزءا، طبع مرات في مصر ولبنان وإيران.
وممن شرح النهج من القدماء أيضا: العلامة كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، وقد طبع في إيران سنة 1274، ومن شراح النهج المحدثين: الإمام محمد عبده المتوفي سنة 1905، وهو شرح لغوي ليس له كبير قيمة بالنسبة إلى شرح ابن أبي الحديد، فهو لا يحتوي على ملاحظات ولا آراء شخصية كالذي نجده عند ابن أبي الحديد، وإنما هو كتاب لغوي يفسر الكلمات الغامضة، مع أن الإمام محمد عبده كان يستطيع أن يبين كثيرا من القضايا الهامة في عالمي: الأدب والدين، ولكنه اكتفى بشرح المفردات، وقد طبع في بيروت ومصر. ومن الشراح المحدثين أيضا: شرح الشيخ محمد حسن نائل المرصفي، وقد طبع في دار الكتب العربية بمصر. أما النهج فقد طبع عدة مرات في الهند وطهران وتبريز ودمشق ومصر، أما عناية الكتاب والأدباء المحدثين بالنهج وتحليله فهي كثيرة جدا لما للإمام في نظر المسلمين والنصارى من مكانة سامية، وقد بحث في قيمة هذا الكتاب ونسبته إلى الإمام جمهرة من الأدباء القدماء والمحدثين، نورد آراءهم فيما يلي:
آراء القدماء
رأي ابن خلكان (608-681):
يرى ابن خلكان في وفيات الأعيان أثناء ترجمة الشريف الرضي أن في نسبة هذا الكتاب إلى الشريف المرتضى اضطراب، وإليك نص كلامه: «اختلف المؤرخون في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي (رضي الله عنه)، أهو جمعه؟ أم هو جمع أخيه الشريف الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه، والله أعلم.»
رأي الحافظ الذهبي (673-748):
يرى الحافظ مؤرخ الإسلام الكبير أبو عبد الله الذهبي في ميزان الاعتدال أن الكتاب مكذوب عليه جزما.
رأي المؤرخ الصفدي:
يرى المؤرخ الصفدي أن كتاب نهج البلاغة موضوع كله، وأنه من وضع الشريف الرضي، وأنه نحله الإمام عليا نحلا.
4
رأي ابن أبي الحديد (586-655):
يرى ابن أبي الحديد أن النهج كله من كلام الإمام، ويرد على المنكرين لذلك بقوله: «إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الشريف الرضي وغيره، وهؤلاء قوم قد أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج.»
5
آراء المحدثين
رأي الإمام محمد عبده:
لم يصرح محمد عبده في مقدمته على شرح نهج البلاغة بشيء يدل على شكه بنسبة النهج إلى الإمام، بل كل ما جاء فيها يدل على أنه مقتنع تماما بأن النهج من كلام الإمام، ويعلق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد على كلام الإمام، فيقول: «وعسيت أن تسأل عن رأي الإمام الشيخ محمد عبده في ذلك، وهو الذي بعث الكتاب من مرقده، ولم يكن أحد أوسع منه اطلاعا، ولا أدق تفكيرا، والجواب على هذا التساؤل أننا نعتقد أنه رحمه الله كان يعتقد مقتنعا بأن الكتاب كله للإمام علي وإن لم يصرح بذلك، والدليل على هذه العقيدة أنه يقول في مقدمته يصف الكتاب: «وأن مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.» بل يتجاوز هذا المقدار إلى الاعتراف بأن جميع الألفاظ صادرة عن الإمام علي، حتى إنه ليجعل ما في الكتاب حجة على معاجم اللغة، اسمع إليه وهو يقول: ج2، ص197 من هذه المجموعة: المواساة بالشيء: الاشتراك فيه ... قالوا: والفصيح في الفعل آسيته، ولكن نطق الإمام حجة، انتهى.»، وأعاد هذه الكلمة بنفسها في جزء 3، ص72، الحاشية 4 من هذه المطبوعة، وهو يذهب فيما ظنه أدباؤنا من علم الغيب إلى نحو ما قررناه من أنه تفرس واستنتاج، انظر إليه وهو يقول (ج3، ص13 من هذه المطبوعة): «تفرس فيما سيكون من معاوية وجنده فكان الأمر كما تفرس.»
6
رأي المستشرق كليمان هوار
Clément Huart :
أما المؤرخ المستشرق الإفرنسي كليمان هوار فإنه يشك في نسبة الكتاب إلى الرضي أو أخيه المرتضى، ويقول: «والشريف المرتضى - إذا لم يكن أخوه الرضي - هو مؤلف نهج البلاغة الذي هو عبارة عن مجموعة من الخطب نسبها المرتضى إلى علي.»
7
رأي الأستاذ أحمد أمين:
يشك المرحوم الأستاذ أحمد أمين في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام، وإليك نص كلامه: «ونسبوا إليه ما في نهج البلاغة، وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم، وقد شك في مجموعها النقاد قديما وحديثا، كالصفدي وهوار، واستوجب هذا الشك أمور، ما في بعضه من سجع منمق، وصناعة لفظية لا تعرف بذلك العصر، كقوله: «أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير.» وما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية، وبعد أن دونت العلوم كقوله: «والاستغفار على ستة معان ... والإيمان على أربع دعائم ...» وكالذي فيه من وصف الدار وتحديدها ... هذا إلى ما فيه من معان دقيقة منمقة تدل على أسلوب لم يعرف إلا في العصر العباسي، كما ترى في وصف الطاووس.»
8
رأي الأستاذ عبد الحميد:
ويرى الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد المدرس في الأزهر الشريف أن الكتاب من كلام الإمام، فيقول: «ليس من شك عند أحد من أدباء هذا العصر، ولا عند أحد ممن تقدمهم، في أن أكثر ما تضمنه «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، ولكن بعض المعروفين من أدباء عصرنا يميلون إلى أن بعض ما في الكتاب من خطب ورسائل لم يصدر عن غير الشريف الرضي جامع الكتاب ... وأهم ما يجده باحثو الآداب العربية في هذا العصر من أسباب يدعمون بها القول بأن الكتاب من صنع جامعه وتأليفه، ذلك الذي نوجزه لك في الأسباب الأربعة الآتية: (1)
إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما لا يصح أن يسلم صدوره عن مثل الإمام علي. (2)
إن فيه من السجع والتنميق اللفظي وآثار الصنعة ما لا يعهده عصر علي ولا عرفه، وإنما ذلك شيء طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام، وافتتن به أدباء العصر العباسي ... (3)
إن فيه من دقة الوصف، واستفراغ صفات الموصوف، وإحكام الفكرة، وبلوغ النهاية في التدقيق ... وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأول ولا أدباؤه وشعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية ... (4)
إن في عبارات الكتاب ما يشتم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي ...»
9
رأي الأستاذ محمود مصطفى:
يرى الأستاذ محمود مصطفى أن أسباب الشك في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام تنحصر في النقاط الآتية: (1)
خلو الكتب الأدبية والتاريخية التي ظهرت قبل الشريف الرضي من كثير مما في نهج البلاغة. (2)
ما ورد فيه من فكرة عويصة ونظرة دقيقة، مما لا يصح نسبته إلى عصر علي. (3)
إطالة الكلام إلى الحد الذي لم يؤلف إذ ذاك، كما في عهد الأشتر النخعي. (4)
ما في النهج من قول جارح وشتم صريح للصحابة. (5)
الأسلوب الصوفي والعبارات التي لم تعهد إلا في أزمان متأخرة عن زمن الإمام جرت على ألسنة المتكلمين. (6)
الخطأ اللغوي الذي لا يصح نسبته إلى عصر الإمام.
10
رأي الأستاذ جميل سلطان:
يختتم الأستاذ الدكتور جميل سلطان رسالته عن نهج البلاغة بالنتيجة الآتية: «إن الشك الذي خامرنا في صحة نسبة النهج قد تأكد في نهاية بحثنا هذا، ويستدل من التدقيق في نصوص نهج البلاغة أنها لم تجمع قبل نهاية سنة 120 للهجرة، زد على ذلك أن النصوص المنسوبة إلى علي والتي تناقلها الرواة والقصاصون والوضاعون تظهر عليها مسحة الأفكار الفلسفية والعلمية التي لم تعرف إلا في عصور جاءت بعد علي، ويدل أسلوبها على أنها كتبت في العصر العباسي، وهناك أيضا عناصر من النقد تؤيد الأسباب المذكورة آنفا، كوجود بعض خطب لا يمكن أن تصدر عن علي، ووجود قطع من آثار أدباء معروفين وجدوا بعد زمن الإمام ... والخلاصة أن النهج هو مجموعة وضعها الشريف الرضي حفيد الإمام ونسبها إليه، وهذا لا يحط من قيمة النهج الأدبية الذي يعتبر من الآثار الخالدة في الأدب العربي ، هذا رأينا نبديه بدون تحفظ.»
11
رأينا:
يقول الجاحظ (365ه) في البيان والتبيين: «وهذه خطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مدونة محفوظة ومخلدة مشهورة، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم).»
12
ويقول المسعودي (346ه) في المروج عن خطب الإمام إنها: «في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف، وثمانون خطبة يوردها على البديهة، تداول الناس ذلك عنه قولا وفعلا.»
13
فكلمة الجاحظ تدلنا على أنه كانت في القرن الثالث خطب معروفة مدونة للإمام، وكلام المسعودي صريح في عدد خطب الإمام، وأنها كانت متداولة في أوائل القرن الرابع بين الناس.
ولما أراد الشريف الرضي في أواخر القرن الرابع جمع أشتات هذه الخطب، لم يكن في ذلك مخترعا، وإنما كانت نواة هذه الخطب موجودة من قبله، وبهذا يبطل قول من قال بأن الشريف هو الذي اخترع كل خطب النهج، ولكن لا شك في أن بعض ما في النهج وغيره من كتب الأدب مما يذكر للإمام هو منحول، ولعل الشريف الرضي أدخل في النهج بعض هذه الخطب المنحولة مما لا يتصور صدوره عن الإمام، ولا عن الشريف الرضي نفسه؛ فقد كان معروفا بنبل النفس وشرف المكانة الاجتماعية والعلمية، وأغلب ظننا أن هذه الزيادات من دس بعض النساخ.
14 (1-3) آثاره الدينية
خلف الإمام عددا كبيرا من القضايا والفتاوى والأحكام الشرعية في القضاء والفتيا والفقه، ولا عجب؛ فقد كان من أقضى أهل زمانه وأعلمهم بالفقه، وأجدرهم على استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة والعرف، وكان عمر بن الخطاب كلما وجد مشكلة دينية عويصة، أو قضية فقهية دقيقة قال: «قضية ولا أبا حسن لها.»
وكان عليه السلام بارعا بعلم الفرائض والمواريث والحساب؛ وذلك لأنه كان صافي الذهن، ذا ذكاء وقاد وقريحة صافية، ولا أدل على ذلك مما روي عنه أن امرأة جاءت إليه وشكت أن أخاها مات عن ستمائة دينار، ولم يقسم لها سوى دينار واحد، فقال لها: لعل أخاك ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخا وأنت؟ فقالت: نعم، فقال لها: لقد أخذت حقك، وسئل مرة وهو على المنبر عمن ترك زوجة وأبوين وابنتين، فقال: صار ثمن الزوجة تسعا، وسميت هذه المسألة بالفريضة الخيرية.
ومما ينسب إلى الإمام: وضع مبادئ علم النحو، وأن أبا الأسود الدؤلي شيخ النحاة قد أخذ ذلك عنه، وليس في هذا الأمر أية غرابة، فقد يكون ذلك صحيحا، وخاصة حينما رأى الإمام أن اللغة العربية أخذت تفسد، فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يهتم بهذا الأمر على ضوء المبادئ التي رسمها له.
الفصل الخامس
في أعماله الإدارية وتنظيماته
(1) أعماله الإدارية
من الكلمات المشهورة: «إن علي بن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة»، وهي كلمة باطلة لا أساس لها من الصحة أصلا، وإن كان بعض الناس قالوها في عصره، وترددت في العصور التالية إلى أيامنا هذه.
إن الإمام كان على جانب عظيم من حسن الإدارة والسياسة وتنظيم الممالك، على الرغم من مخالفته لما كان يشير عليه به دهاة السياسة والإدارة في عصره، وعلى الرغم مما انتقده عليه رجال التاريخ ونقدة المؤرخين، فهم يزعمون أنه أخطأ في كثير من أعماله الإدارية والسياسية، وتكاد تنحصر انتقاداتهم لإدارته وتنظيمه في النقاط التالية: (1)
قبوله الخلافة في ذاك الظرف الحرج. (2)
عزله معاوية. (3)
سوء معاملته لطلحة والزبير. (4)
قبوله بالتحكيم. (5)
عدم تسليمه قتلة عثمان.
والحق أن الإمام عليه السلام منزه عن هذه التهم الباطلة، وسنبين ذلك فيما يلي: (1-1) قبوله الخلافة في ذلك الظرف الحرج
من المؤكد أن الإمام عليه السلام كان يعتقد أنه أحق الناس بخلافة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يرغب في ذلك فور وفاة النبي، وقد رأينا طرفا من ذلك في سير مباحث سيرة أبي بكر وعمر وعثمان، ولكنه وراء ذلك كان يكره انشقاق صفوف المسلمين، فهو يرغب في الخلافة ليرفع من شأن المسلمين، ويصلح أحوالهم، وينظم إدارتهم، ويتمم ما بدأ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإذا حيل بينه وبين ذلك لم يسع إليه بتفرقة المسلمين، وشق العصا؛ ولذلك لم يتطلع إلى الخلافة من خلال المعارك والدماء، بل آثر السلامة والدعة ، وبايع الخلفاء الثلاثة قبله وهو يعتقد أنه الأحق بها، وأنه الوريث الشرعي للنبوة، لا لصلة الدم والقربى، بل للمزايا الروحية العديدة التي كان يتمتع بها، ولكنه لما رأى أن الفتنة قد عظمت بعد قتل عثمان، وأن البلاد الإسلامية قادمة على إحن ومحن، وأن المسلمين قد طاش سهمهم، وأن الحكماء والحلماء منهم قد انزووا في عقر بيوتهم، آثر أن يسلك ذلك الطريق، ويبتعد عن محجة الثورة، فإن لهذا الدين ربا سيحميه من كل هذه الشرور والفتن.
لقد أحس الإمام بأن الناس قد أخذوا يبتعدون عن الطريق التي سنها رسول الله منذ أواخر عهد الصديق ومطلع عهد عمر، ولكن قوة شخصية هذين الرجلين قد استطاعت أن تفرض على الناس شيئا من الرهبة، وأن عهد عثمان كان كله عهد يسر ورخاء، وأن الناس مالوا في هذا العهد إلى الحياة الدنيا وزخرفها، وتطلبوا متعها، وأخذوا يشتطون في مطالبهم المادية.
ولكن الإمام عليه السلام يرى واجبا عليه أن يعمل على صيانة هذا الدين من الفتن، ويقف في سبيل مناهضيه، ولو كان سيدفع ثمن ذلك من أعصابه ومن راحته، ولو كان سيدفع في سبيله دمه وحياته؛ ولذلك قبل أن يتولى الأمر في الظرف الحرج، لا لشيء سوى أن يقيم عمود الدين، ويرأب الصدع الذي أصابه.
ولما استخلف عليه السلام سار بالناس سيرة صحيحة سليمة، وأراد أن يعيدهم إلى عهد النبوة الذي لا يعرف إلا الحق، والاستقامة، والمصلحة العامة؛ ولذلك لم يستطع إلا أن يحكم بما يراه مماشيا لروح الدين، فهو يعتقد أن عمل معاوية في الشام عمل غير شرعي، فيجب عليه أن ينحيه عن إدارة هذا القطر، وهو يرى أن تصرفات طلحة والزبير هي تصرفات تنافي السياسة الإسلامية فهو يحاربهما، وهو يرى أن قتلة عثمان يجب أن يطبق عليهم الحكم الشرعي لا الحكم القبلي، وهو يرى أن قضية التحكيم في صفين قد سارت على غير الطريق المستقيمة؛ فلذلك كله أعلن للملأ أنه لن يقبل إلا أن يسير بالناس على ما يوحيه إليه ضميره ودينه، ولو كان في ذلك عناء كثير.
إن الذين قبلوا خلافة الإمام عليه السلام في ذلك الظرف هم جميع سكان الأقاليم الإسلامية البعيدة عن روح الحكم القبلي العصبي الجاهلي، وهم: أهل اليمن، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل فارس، ولم يشذ عن ذلك إلا أهل الشام الذين استولى على قلوبهم معاوية بأمواله، واشترى دينهم بدراهمه.
والحقيقة أن الإمام لو سلك مسلك معاوية في اجتذاب الناس إليه بأموال بيت المال لاستطاع أن يسيطر حتى على الشام نفسه، ولكنه إنما قبل الخلافة ليعيد لها نضارتها، لا ليفسدها من جديد.
ولو أتيح له أن يظل في الخلافة فترة أطول لأعاد إليها رونقها ولسار بالمسلمين سيرة الرسول، ولكن الضالين من الأمة لم يرقهم وجوده، فتآمروا عليه وفتكوا به.
وهكذا قضى الشهيد أبو الشهداء، وخلف للأمة بعده ويلات جساما ما تزال تقاسي نتائجها إلى أيامنا هذه. (1-2) عزل معاوية
يقول نقدة التاريخ إن عزل معاوية وسائر عمال عثمان كان خطأ، وإن الواجب على الإمام أن يبقيهم حتى تستقيم له الأمور ثم يعزلهم، ويقولون أيضا إن المغيرة بن شعبة وهو من دهاة العرب والحازمين قال للإمام بعد استخلافه: «إن لك حق الطاعة والنصيحة، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت .» وإن الإمام لما سمع قوله هذا رد عليه بقوله: «لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري.» فقال له المغيرة: «فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإن فيه جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له، ولك حجة في إثباته إذ كان عمر قد ولاه.» فقال الإمام: «لا والله لا أستعمل معاوية يومين.»
ويقولون أيضا: إن عبد الله بن عباس لما سمع قول المغيرة هذا قال للإمام: «إنه قد نصحك؛ لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى شئت تثبتهم لا يبالوا من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا أخذ هذا الأمر بغير شورى ، وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك أهل الشام وأهل العراق.» ولكن الإمام عليه السلام لم يأبه لقولة ابن عباس، وقال له: لا والله لا أبقيه أميرا على الشام يومين وإنه لظالم.
والحق أن تصرف الإمام هو التصرف السليم، وأنه كان لا يستطيع أن يبقي معاوية أميرا على الشام، وأن السياسة - سياسة الحق لا الباطل - كانت تقضي بعزل معاوية، فإن عليا كان يصرح في خلافة عثمان بوجوب عزل معاوية وسائر العمال الأمويين، وإن إقرار هؤلاء العمال في الأقطار الإسلامية على ما يبلغه عنهم من سوء السيرة، والبعد عن الحكومة الدينية والطريقة الإسلامية هو إقرار الباطل، وإن الخليفة ليس تاجرا يعمل للربح المادي، بل هو صاحب السلطة العليا التي لا ترهب إلا الحق ولا تعمل إلا بالصدق، وإن العمال هم مظهر هذه السلطة، فإذا صابروا على الناس وظلموهم فسدت الأمور، وإن الحجة التي كان يتذرع بها بعضهم، وهي أن معاوية كان أميرا على الشام في عهد عمر؛ ولذلك يجب أن يبقى في عمله، أما الإمام عليه السلام فيرد على حجة هؤلاء بقوله: إن عمر كان رجلا مرهوبا، وإن معاوية كان - على شدته - يتقصف خوفا من درة عمر، وإنه كان أخوف لعمر من غلامه يرفأ، ولكنه بعد أن مات عمر لم يعد يخاف أحدا، فلذلك يجب أن يعزل فورا.
ثم إنه لو سلمنا جدلا أن إبقاء معاوية فترة من الزمن إلى أن يستقيم أمر الإمام عليه السلام هو من السياسة الضرورية كان ذلك غير ممكن أيضا؛ لأن أعمال معاوية منذ يوم مقتل عثمان هي أعمال استفزازية، ظالمة، جائرة، بعيدة كل البعد عن روح العامل الذي يبغي الخير لشعبه، والإخلاص لإمامه، بل هو يزعم أن هذا الإمام الجديد ظالم، وأنه مشارك في قتل الإمام السابق، فكيف يقره على عمله؟
الحق أن تفكير الإمام في أمر معاوية كان تفكيرا صحيحا، وأنه سلك الطريق السليمة، ولكن الأمور سارت على غير ما ينبغي. (1-3) معاملته لطلحة والزبير
لم يسئ الإمام معاملة طلحة والزبير، بل عرف لهما مكانتهما وسابقتهما، فقربهما يوم استخلافه، وبايعاه كما بايعه كبار الصحابة من مهاجرين وأنصار، ولو لم يثورا عليه وينكثا عهده لاتخذهما وزيرين له يستشيرهما بأمور المسلمين، ولكنهما آثرا أن ينخرطا في الفتنة؛ فقد بعثا إلى الإمام عقب استخلافه عبد الله بن عباس، فاقترحا على الإمام أن يوليهما بعض الأقطار الإسلامية كالعراقين مثلا، فلم يقبل الإمام ذلك، وقال لابن عباس: «إن العراقين بهما الأموال والرجال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع، ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان.» ولما أعلمهما ابن عباس مقالة الإمام خرجا عليه مع عائشة على الشكل الذي سبق تفصيله.
والإمام لم يسئ معاملة طلحة والزبير، بل أراد لهما أن يسيرا سيرة صالحة، ويرضيا بما قسمه الله لهما من المال الوفير والجاه الخطير، ولكنهما آثرا أن يدخلا في الفتنة فكذبا عليه عليه السلام وغشاه، وزعما له بعد أن بايعاه أنهما يرغبان في ترك المدينة والسفر إلى مكة لغرض ديني نبيل، وهو العمرة، وقد علم الإمام بسوء نيتهما، وكان باستطاعته أن يعتقلهما أسيرين، ولكنه لم يسلك معهما هذا السبيل، بل تركهما يذهبان إلى حيث يريدان، فذهبا إلى مكة ونكثا عهده وانضما إلى خصومه.
ولعل ثقة الإمام بنفسه، وإيمانه بأن العدل والحق يجب أن يكونا العنصر الأساسي في سياسة الدولة، هما اللذان أوحيا إليه بأن يتركهما يذهبان إلى حيث يريدان، ويعملان ما يوحيه إليه ضميرهما ووجدانهما، وخير للإمام العادل أن يترك خصومه يسرحون ويمرحون ويفسدون فيقبض عليهم وهم في الجرم المشهود - على حد تعبير الناس اليوم - من أن يأخذهم على الشبهة والنية حتى إذا أخذهما بعد الجريمة كان عقابهما شديدا، وكان عطف الناس عليه، وكانت حملة الناس عليهم. (1-4) مسألة التحكيم
الحق أن مسألة التحكيم كانت سيفا ذا حدين، وأن أي الجانبين استعمله كان قاطعا، فلو لم يقبل الإمام به قال الناس: إنه يحب إراقة الدماء ولا يعمل على إزالة الخلاف الناشب بين صفوف المسلمين، وحين قبله وأقره قال الناس: إنه قد حكم أهواء الناس في شرع الله، والإمام لم يقبل بالتحكيم إلا بعد أن رأى أن جمهرة جنده قد عزفت عن الحرب، وأن الناس قد أحاطوا به وهددوه بالقتل إن لم يقبل به.
والذين خطئوه بإرسال أبي موسى الأشعري حكما عنه وعدم إرسال آخر أدهى منه كالأشتر أو ابن عباس نسوا أن النتيجة كانت ستكون هي هي، ولو أرسل كائنا من كان حكما عنه؛ لأن المؤامرة بين معاوية وعمرو بن العاص كانت مبيتة على الشكل الذي جرى، وغاية ما في الأمر أن الحكمين قد يفترقان على تثبيت كل واحد منهما لصاحبه، فتعود الأمور إلى مثل ما كانت عليه قبل التحكيم. (1-5) قضية قتلة عثمان
تولى الإمام عليه السلام الخلافة والوضع قلق غير مستقر، فهناك خليفة مقتول، ولم يقتله رجل واحد معروف مقبوض عليه حتى ينتقم منه الخليفة الجديد، ثم إن الذين يطالبون بقتلة الإمام السابق جماعة لم يبايعوا الخليفة الجديد، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان المتهم بأنه إنما اتخذ هذه القضية لجر مغنم إليه لا لشيء آخر.
والحق أن جميع الذين يطالبون الإمام الجديد بالقود لم يبايعوه بالخلافة، والحكم الشرعي صريح في أن القود لا يكون إلا من ولي الأمر المعترف له بإقامة الحدود الشرعية.
ثم إن الخليفة الجديد لا يستطيع أن يقيم الحد في هذا الظرف المضطرب الهائج، وكان الإمام يقول: «إني لست أجهل هؤلاء ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، هم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم بينكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون ...»
وقال في خطبة أخرى: «إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وإن الناس في هذا الأمر الذي تطلبون على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.»
والحق أن قضية الاقتصاص من قتلة عثمان قبل استقرار الأمر لعلي هي قضية حق أريد بها باطل. (2) الأعمال التنظيمية
لم تشغل أعمال الحروب وأمورها والفتن العنيفة التي ظلت طوال عهد الخليفة الراشد عليه السلام كل وقته، بل استطاع أن يقوم بكثير من الأعمال التنظيمية للدولة الإسلامية، فضلا عن قيامه التام بالأمور الدينية من صلاة وخطابة وحج وتعليم وتفقيه في الدين وإفتاء وقضاء ووعظ وإرشاد، وقد حفظت لنا كتب الفقه والتشريع والأحاديث والأخبار كثيرا من الأقوال والأحكام والفتاوى التي تدل على سعة علم، وغزارة فهم، وتعمق في دراسة الشرع المطهر ومعرفة أحكامه؛ فقد كان الإمام عليه السلام معلما ومرشدا بسيرته المستقيمة، وأخلاقه القويمة، كما كان معلما ومرشدا بدروسه وفتاويه وقضائه وإرشاداته، وكان يمشي في الأسواق ويرشد الناس ويهذبهم ويقوم اعوجاجهم، ويريهم الطريق السوي في المعاملات الدنيوية، ويؤدبهم بالآداب الإسلامية، ويساوي بينهم في القسمة والحقوق، وقد كانت للإمام سياسة جديدة تخالف سياسة من سبقه من الخلفاء في الإدارة المالية؛ فقد خالف سيرة عمر في أمر توزيع الأموال التي كانت ترد على بيت المال؛ لأنه كان أشار على عمر حين كثرت الأموال أن يقسمها بين الناس ولا يترك في بيت المال شيئا، وأنه كان يفضل ذلك لتكون ذمة الخليفة بريئة من أموال الله بتوزيعها على أرباب الحقوق الذين أمر الله بتوزيعها عليهم، ولكن بعد استخلافه رأى أن بيت المال هو الخزينة التي يجب أن تعتمد عليها الدولة إبان الشدائد والمحن، ولا يصح أن تفاجأ الدولة بالأحداث وبيت المال خال، فلذلك رجع عن رأيه الأول، وقرر أن يحتفظ بالأموال في بيت المال.
وكان الإمام بالإضافة إلى هذه الخطة الرشيدة في صيانة أموال الدولة يأمر عماله أن يسلكوا نفس هذه الطريقة في الأموال التي تحت أيديهم، كما كان يعنى بمراقبة أموالهم وإرسال العون والأرصاد ليقف على حقيقة أطوارهم وطريقة معاملاتهم وسيرهم بالناس، فإن رأى أنهم يسيرون بهم سيرة صالحة، كتب إليهم يقرظهم ويثني عليهم، وإلا كتب مصلحا ومرشدا، فإن صلحوا ورشدوا أبقاهم، وإلا نحاهم، وقد رأينا طرفا من ذلك في سيرته مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وشدته على زياد، وقسوته على مصقلة بن هبيرة الذي أحس بالخطر فهرب إلى معاوية.
ولم تكن سيرة الإمام عليه السلام مع عماله وحدهم على هذه الطريقة، بل كانت مع سائر الناس والرعية، فهو يرشدهم ويصلحهم، فإن رشدوا وصلحوا قربهم وأحبهم وأحسن إليهم، وإلا حمل عليهم بعنف وقسوة حتى يعيدهم إلى المحجة.
الفصل السادس
في أولاده وأسرته الطاهرة
تزوج الإمام عليه السلام بالسيدة فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج عليها حتى توفيت عنده.
ثم تزوج بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى القرشية.
ثم تزوج أم البنين بنت حرام بن خالد بن دارم الكلابية.
ثم تزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية الدارمية.
ثم تزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، فلما قتل تزوجها أبو بكر، فلما مات تزوجها الإمام عليه السلام.
ثم تزوج أم حبيب الصهباء بنت ربيعة التغلبية من السبي الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر.
وتزوج خولة بنت إياس بن جعفر بن قيس الحنفية.
وتزوج أم سعد (أو سعيد) بنت عروة بن مسعود الثقفية.
وتزوج مخبئة بنت امرئ القيس بن عدي الكلبية.
وقد قتل وله أربع زوجات حرائر، وعدد من الإماء الجواري، فالحرائر هن: السيدة أمامة، والسيدة ليلى، والسيدة أم البنين، والسيدة أسماء بنت عميس، أما الإماء فهن ثماني عشرة أم ولد.
أما أولاده، فهم السادة: (1، 2) الحسن والحسين: وأمهما السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام. (3) محسن: وأمه فاطمة، وقد مات صغيرا. (4) محمد الأكبر: وأمه خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية. (5) عبد الله الأكبر: وأمه ليلى بنت معوذ، وقد قتله المختار الثقفي. (6) أبو بكر: وأمه ليلى بنت معوذ، وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (7) العباس الأكبر: وأمه أم البنين وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (8) عثمان: وأمه أم البنين وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (9) جعفر: وأمه أم البنين وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (10) عبد الله الأصغر: وأمه أم البنين وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (11) محمد الأصغر: وأمه أم ولد، وقد قتل مع الحسين في كربلاء. (12) يحيى: وأمه أسماء بنت عميس. (13) عون: وأمه أسماء بنت عميس. (14) عمر: وأمه أم حبيب الصهباء. (15) محمد الأوسط: وأمه أمامة بنت أبي العاص.
1
وأما بناته فهن السيدات: (1) أم كلثوم الكبرى: وأمها السيدة فاطمة الزهراء. (2) زينب الكبرى: وأمها السيدة فاطمة الزهراء. (3) رقية: وأمها السيدة أم حبيب الصهباء. (4) أم الحسن: وأمها أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي. (5) رملة الكبرى: وأمها أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي. (6) أم هانئ: وأمها أم ولد. (7) ميمونة: وأمها أم ولد. (8) رملة الصغرى: وأمها أم ولد. (9) زينب الصغرى: وأمها أم ولد. (10) أم كلثوم الصغرى: وأمها أم ولد. (11) فاطمة: وأمها أم ولد. (12) أمامة: وأمها أم ولد. (13) خديجة: وأمها أم ولد. (14) أم الكرم: وأمها أم ولد. (15) أم سلمة: وأمها أم ولد. (16) أم جعفر: وأمها أم ولد. (17) جمانة: وأمها أم ولد. (18) تقية: وأمها أم ولد.
وقد أعقب من أولاده عليه السلام: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر، والعباس عليهم السلام.
وتزوج بناته بنو عقيل وبنو العباس ما عدا السيدة زينب بنت فاطمة، فإنها كانت تحت عبد الله بن جعفر، والسيدة أم كلثوم بنت فاطمة، فإنها كانت تحت عمر بن الخطاب، والسيدة أم حسن بنت أم سعد، فإنها كانت تحت جعفر بن هبيرة المخزومي، والسيدة فاطمة وأمها أم ولد، فإنها كانت تحت سعد بن الأسود الحارثي.
2
الفصل السابع
في مشهوري رجال دولته
عبد الله بن العباس، طلحة، الزبير، السيدة عائشة، أبو موسى الأشعري، جرير بن عبد الله البجلي، أبو مسلم الخولاني، الأشعث بن قيس، بسر بن أرطاة، عبد الله بن سبأ. (1) عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي (3ق.ه-68ه)
هو الملقب حبر الأمة، وبحر الأمة، لسعة علمه وفضله، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان له ثلاث عشرة سنة يوم مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد دعا له رسول الله وقال: «اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن، وفقهه في الدين.» وكان عمر بن الخطاب يحبه ويدنيه منه، ويشاوره مع جلة الصحابة، وكان يقول عنه: ابن عباس أفتى الكهول، له لسان سئول، وقلب عقول. وكان عبد الله بن مسعود يقول: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا ما عاش منا رجل.» وقال مجاهد: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس إلا أن يقول قائل: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وقال طاووس: أدركت نحو خمسمائة من أصحاب النبي إذا ذكروا ابن عباس فخالفوه لم يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله. وقال يزيد بن الأصم: خرج معاوية حاجا ومعه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس؛ الحلال والحرام، والعربية، والأنساب، وأحسبه قال: والشعر. وقال عبيد الله بن عبد الله: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسنة ولا أجل رأيا ولا أثقب نظرا من ابن عباس، ولقد كان عمر يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين.
وقد كان ذا سلطان وجاه، شهد مع الإمام يوم الجمل وصفين والنهروان، وقد اعتزل الأمور العامة في أواخر أيامه، وعمي، وكان يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
وفي فمي صارم كالسيف مأثور
ويروي عبد الله بن صفوان بن أمية أنه مر يوما بدار عبد الله بن عباس، فرأى جماعات من طالبي العلم ، ثم مر بدار أخيه عبيد الله بن عباس، فرأى جماعات من طالبي الطعام والمال، فقال لعبد الله بن الزبير: أصبحت والله كما قال القائل:
فإن تصبك من الأيام قارعة
لم نبك منك على دنيا ولا دين
قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس، أحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة، فدعا عبد الله بن مطيع وقال له: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق وإلا فعلت وفعلت، فقال عبد الله بن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان: رجل يطلب فقها، ورجل يطلب فضلا، فأي هذين تمنع؟
ومات عبد الله بالطائف سنة ثمان وستين في خلافة ابن الزبير، وكان ابن الزبير أخرجه إليها، ومات وهو ابن سبعين سنة، وقيل: ابن إحدى وسبعين.
1 (2) طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب القرشي التيمي (28ق.ه-36ه)
هو صحابي جليل شجاع جواد، من العشرة المبشرة بالجنة، ومن أصحاب الشورى الستة، ومن الثمانية السابقين إلى الإسلام.
وأمه هي: الصعبة بنت عبد الله بن عماد بن مالك الحضرمية، ويكنى بأبي محمد، ويلقب بالجواد والفياض لكرمه.
هو من أوائل من أسلم في مكة، بل هو معدود في الثمانية الأول الذين صدقوا الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقد آخى الرسول بينه وبين كعب بن مالك حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وهو ممن لم يشهدوا بدرا، وإنما بعثه الرسول إلى الشام يتحسس له الأخبار، ثم قدم من الشام بعد رجوع النبي
صلى الله عليه وسلم
من بدر، وكلم الرسول في سهمه من هذه الغزاة فقال له الرسول: لك سهمك، قال: أجري يا رسول الله؟ قال: وأجرك، وأبلى يوم أحد بلاء عظيما ووقى رسول الله بنفسه، واتقى النبل عنه بيده حتى شلت إصبعه، وضرب الضربة في رأسه، وحمل الرسول على ظهره حتى استقل على الصخرة، كما شهد يوم الحديبية والمشاهد كلها، وتوفي رسول الله وهو عنه راض، وكان يقول عنه: من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة. وقد شهد طلحة يوم الجمل مع عائشة ضد الإمام. يقول ابن عبد البر الأندلسي: زعم بعض أهل العلم أن عليا دعاه فذكره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع طلحة عن قتاله على نحو ما صنع الزبير، واعتزل في بعض الصفوف، فرمي بسهم، فقطع من رجله عرق النساء، فلم يزل دمه ينزف حتى مات، ويقال إن الذي رماه: مروان بن الحكم ... وقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم :
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين .
ومات وهو ابن ستين سنة، وقيل: بل ابن اثنتين وستين، وكان رجلا آدم حسن الوجه، كثير الشعر، ليس بالجعد ولا السبط، وكان لا يغير شعره.
2 (3) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي (؟-36ه)
هو من كبار الصحابة، وأمه هي صفية بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولد هو والإمام علي وطلحة في سنة واحدة.
وأسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: بل ابن اثنتي عشرة سنة، ولم يتخلف عن غزوات النبي كلها، وآخى بينه وبين عبد الله بن مسعود حين آخى بين المهاجرين بمكة، فلما قدم المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة، وهو أول من سل سيفا في سبيل الله، فدعا له النبي وقتئذ بخير، وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يحبه ويقول: هو ابن عمتي وحواريي من أمتي، وكان أبو بكر يحترمه ويجله، وكان عمر يقول: ممن توفي رسول الله وهو راض عنهم، وجعله في الستة أهل الشورى، وكان من تجار قريش المياسير المبارك لهم، روي عن الأوزاعي أنه قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل بيته منها درهما واحدا، يعني أنه كان يتصدق بذلك كله.
وقد شهد يوم الجمل مع عائشة فقاتل فيه ، ثم رأى أن ينزوي، فانزوى عن المعركة، واتبعه ابن جرموز فقتله على الشكل الذي مضى، ولما جاء بسيفه إلى الإمام عليه السلام قال له: بشر قاتل ابن صفية بالنار، وكان سنه يوم قتل سبعا وستين سنة، وقيل: بل ستا وستين، وكان أسمر اللون، ربعة من الرجال، معتدل اللحم، خفيف اللحية.
3 (4) عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان القرشية الصديقية (9ق.ه-58ه)
هي زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأمها السيدة أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس الكنانية، ولدت في السنة التاسعة قبل الهجرة، وتزوجها الرسول بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنوات وهي ابنة ست أو سبع، وابتنى بها بالمدينة وهي ابنة تسع في السنة العاشرة من النبوة، وعرس بها في الشهر الثامن عشر من الهجرة، وتوفي عنها رسول الله وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وكان مكثها معه تسع سنين.
وكانت من أعلم نساء عصرها، علمها أبوها أخبار العرب وآدابهم، وثقفها بثقافة الجاهلية وآدابها وأشعارها وأنسابها، ولما تزوجها الرسول أفادت من علمه الجم، حتى صارت أفقه نساء عصرها، بل أفقه الناس وأعلمهم بالفقه والسنة والأدب، قال عبد الرحمن بن أبي الزناد نقلا عن أبيه: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتي من رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، ولما رميت بالإفك وبرأها الله أمر النبي بجلد من اتهمها بذلك.
وكانت السيدة عائشة ممن نقمن على عثمان عمله في حياته، فلما قتل غضبت له بعد مقتله، وخرجت إلى العراق مطالبة بدمه، وكانت لها في هودجها يوم وقعة الجمل وقفة الخطيب الثائر، ويعد ذلك من أخطائها، وتوفيت في المدينة ليلة 17 رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا بعد الوتر بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد ابن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، رحمها الله ورضي عنها.
4 (5) أبو موسى الأشعري (21ق.ه-44ه)
هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، وأمه امرأة من عك، كانت أسلمت وماتت بالمدينة، ولد عبد الله في زبيد باليمن، وقدم مكة عند ظهور النبي بدعوته فأسلم وحسن إسلامه، ثم هاجر إلى الحبشة وقدم مع أهل السفينتين حين كان رسول الله بخيبر، وقيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة.
وكان رجلا فاضلا، قال ابن عبد البر الأندلسي: كان علامة نسابة، ولاه عمر بن الخطاب البصرة حين عزل عنها المغيرة بن شعبة في سنة عشرين ه، فافتتح أبو موسى بلاد الأهواز وأصفهان في إيران، ولم يزل على البصرة إلى أن استخلف عثمان فبقي على عمله فترة، ثم لما رفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولوا أبا موسى على بلدهم، وكتبوا بذلك إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقره، فلم يزل في الكوفة حتى قتل عثمان، ثم كان منه بصفين ما كان، وكان منحرفا عن الإمام علي عليه السلام؛ لأنه عزله ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم فلم يجزه، ثم انفتل إلى مكة وظل فيها إلى أن مات، وقيل: بل مات بالكوفة في داره بجانب المسجد، واختلف في وقت وفاته، فقيل كانت سنة 42، وقيل سنة 44، وقيل سنة 50، وقيل سنة 52، والأشهر ما ذكرناه من أنه مات سنة 42، وكان من أحسن الناس صوتا، وأكثرهم فهما، وكان خفيف الجسم قصيرا، حسن التلاوة.
5 (6) جرير بن عبد الله البجلي (؟-54ه)
هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك البجلي أبو عمرو، وكان بجيلة أسلم في العام الذي توفي فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: أسلمت قبل موت الرسول بأربعين يوما، وما حجبني منذ أسلمت ولا رآني قط إلا ضحك وتبسم. وبعثه الرسول نائبا عنه إلى ذي كلاع وذي رعين باليمن. وكان جميل الصورة جدا، حتى إن عمر بن الخطاب كان يلقبه «يوسف هذه الأمة» لجمال صورته، وكان يجله ويوقره ويقول له: «ما زلت سيدا في الجاهلية والإسلام.» وكان يبعثه إلى عماله يتفقد أحوالهم. وقد عاد مرة من عند سعد بن أبي وقاص فسأله عمر عنه كيف تركه؟ فقال: تركت سعدا في ولايته أكرم الناس مقدرة وأحسنهم معذرة، وهو لهم كالأم البرة، يجمع لهم كما تجمع الذرة، مع أنه ميمون الأثر مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس. قال: فأخبرني عن حال الناس، قال: هم كسهام الجعبة منها القائم الرائش، ومنها العضل الطائش، وابن أبي وقاص يغمز عضلها، ويقيم ميلها، والله أعلم بالسرائر. قال: أخبرني عن إسلامهم، قال: يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويؤتون الطاعة لولاتها. فقال عمر: الحمد لله إذا كانت الصلاة وأوتيت الزكاة، وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة.
وقد أرسله الإمام عليه السلام إلى معاوية، فحبسه مدة طويلة، ثم أرسله برسالة لم يكتب عليها شيئا، كما أسلفنا تفصيله.
وكان من الحكماء النبهاء، وله كلمات مشهورة، منها قوله: الخرس خير من الخلابة، والبكم خير من البذاء، وفيه يقول الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيلة
نعم الفتى وبئست القبيلة
وقد نزل جرير الكوفة في أواخر أيامه، وكانت له بها دار، ثم تحول إلى قرقيسياء، وبها مات في سنة 54ه.
6 (7) أبو مسلم الخولاني
هو عبد الله بن ثوب أبو مسلم الخولاني (؟-62ه).
وهو من التابعين، وقيل بل له صحبة، وقد غلبت كنيته، وقد قدم على المدينة والنبي متوفي يوم استخلاف أبي بكر الصديق، وهو في الغالب معدود من كبار التابعين وأجلتهم، كان عابدا زاهدا ورعا مشهورا بصلابته في الدين، سكن الشام وعد في تابعي أهل الشام ومعلميهم وشيوخهم ووعاظهم، وله نوادر طريفة وكرامات ذكر بعضها ابن عبد البر الأندلسي في الاستيعاب، والذهبي في تاريخ الإسلام.
وكان يلقب بريحانة أهل الشام لطهارة نفسه وسمو خلقه وورعه وتدينه، وكان يقال له: إنه حكيم هذه الأمة.
7 (8) الأشعث بن قيس الكندي
هو الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية بن جبلة الكندي (23ق.ه-40ه)، وأمه كبشة بنت يزيد، ولد في قومه وجيها كريما، وكان يقيم في حضرموت اليمن، ولما أعلن الرسول دعوته قدم عليه سنة عشر ه. في وفد بني كندة وهو رئيسهم فأسلم ورحب به الرسول، وكان في الجاهلية رئيسا مطاعا، وكذلك كان في الإسلام، وقد شهد غزوة اليرموك ففقئت عينه فيها، ارتد بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى الإسلام في خلافة الصديق، وأتي به إليه أسيرا، فعفا عنه وزوجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة طوال عهد أبي بكر وعمر، وشهد الفتوح وأبلى فيها أحسن البلاء، وكان مع سعد بن أبي وقاص في فتوح العراق، ولما آل الأمر إلى الإمام عليه السلام كان معه يوم صفين على راية كندة، وحضر معه يوم النهروان وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة إثر اتفاق الحسن ومعاوية، وظل في الكوفة إلى أن مات، وصلى عليه الحسن بن علي عليه السلام سنة أربعين بعد مقتل الإمام عليه السلام بأربعين يوما.
8 (9) بسر بن أرطاة بن أبي أرطاة العامري القرشي (؟-86ه)
قبض النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو صغير، وكان فتى قويا شديد البأس، أرسله عمر بن الخطاب مع الرجال الذين بعثهم مددا لعمرو بن العاص يوم فتح مصر، ثم وجهه معاوية في سنة 39ه في ثلاثة آلاف مقاتل إلى المدينة، فأخضعها لمعاوية وأدب أهلها، ثم بعثه إلى اليمن فاحتلها وأساء إلى أهلها، فساءت سمعته بين الناس، ثم أرسله إلى اليمن فدخلها فاتحا، وكان معاوية قد أمره بأن يوقع بمن يراه من أصحاب الإمام عليه السلام، فقتل منهم عددا وفيهم طفلان صغيران لعبيد الله بن عباس عامل الإمام على اليمن، ثم عاد إلى الشام فولاه معاوية البصرة سنة 41ه بعد مقتل الإمام وصلح الحسن، فمكث يسيرا، ثم رجع إلى الشام، فولاه معاوية غزو بلاد الروم بحرا سنة 50ه فغزا حتى بلغ القسطنطينية، ثم رجع فاختل عقله، وكان معاوية يكرمه ويرعاه إلى أن مات في دمشق، وقيل في المدينة.
9
الفصل الثامن
في المختار من أدبه عليه السلام
(1) ومن خطبة له عليه السلام
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة، وذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة، وفيها ينهى عن الفتنة ويبين خلقه وعلمه:
النهي عن الفتنة
أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.
خلقه وعلمه
فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة. (2) ومن خطبة له عليه السلام (وفيها ينهى عن الغدر ويحذر منه.)
إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم! قاتلهم الله! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين. (3) ومن كلام له عليه السلام (وفيه مباحث لطيفة من العلم الإلهي.)
الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا، فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على ند مثاور ، ولا شريك مكابر، ولا ضد منافر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون، لم يحلل في الأشياء فيقال: هو كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن، لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم، المأمول مع النقم، والمرجو من النعم. (4) ومن كلام له عليه السلام (يحرم تعلم التنجيم.)
قال لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.
قال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة من سار فيها صرف عنه السوء؟ وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه؛ لأنك - بزعمك أنت - هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر!
ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله. (5) ومن خطبة له عليه السلام (يقرر فضيلة الرسول الكريم.)
بعثه والناس ضلال في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة. (6) ومن خطبة له عليه السلام (وفيها مواعظ للناس.)
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر، ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود، إيمانا نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد: زاد مبلغ، ومعاد منجح، دعا إليها أسمع داع، ووعاها خير واع، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والري بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل، فلاحظوا الأجل، ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر، فمن الفناء: أن الدهر موتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا توسى جراحه ، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينقع؛ ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالا حمل، ولا بناء نقل. ومن غيرها ترى أن المرحوم مغبوط، والمغبوط مرحوم، ليس ذلك إلا نعيما ذل، وبؤسا نزل. ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله، فيقطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمل يترك؛ فسبحان الله ما أغر سرورها! وأظمأ ريها! وأضحى فيئها! لا جاء يرد، ولا ماض يرتد؛ فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به! وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه!
إنه ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر! إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، قد تكفل لكم بالرزق ، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين، حتى كان الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكان الذي فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات من الرزق رجي غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. (7) ومن خطبة له عليه السلام (يوبخ البخلاء بالمال والنفس.)
فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها، تكرمون بالله على عباده، ولا تكرمون الله في عباده! فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم. (8) ومن كلام له عليه السلام (وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا.)
فقال عليه السلام: ما بالكم! أمخرسون أنتم؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام: ما بالكم! لا سددتم لرشد، ولا هديتم لقصد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم، وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى، تدور علي وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها، هذا لعمر الله الرأي السوء، والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو - لو قد حم لي لقاؤه - لقربت ركابي، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم، ما اختلف جنوب وشمال، إنه لا غناء في كثرة عددكم مع قلة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على الطريق التي لا يهلك عليها إلا هالك، من استقام فإلى الجنة، ومن زل فإلى النار. (9) ومن كلامه عليه السلام (قال لأصحابه في ساحة الحرب «بصفين» وفيه يعلم أصحابه فنون القتال وآدابه):
وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه كما يذب عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله. إن الموت طالب حثيث، لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، إن أكرم الموت: القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش. (منه): وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون حقا ولا تمنعون ضيما، قد خليتم والطريق، فالنجاة للمقتحم والهلكة للمتلوم. (ومنه في حثهم على القتال): فقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار، فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات ، فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم؛ فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفون حفافيها: وراءها وأمامها، ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها، أجزأ امرؤ قرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، إن في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، الرائح إلى الله كالظمآن يرد الماء، الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم، اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك، يخرج منه النسيم، وضرب يفلق الهام، ويطيح العظام، ويندر السواعد والأقدام، وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم، وبأعنان مساربهم ومسارحهم. (10) ومن خطبة له عليه السلام (في ذكر المكاييل والموازين.)
عباد الله، إنكم - وما تأملون من هذه الدنيا - أثوياء مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل منقوص ، وعمل محفوظ، فرب دائب مضيع، ورب كادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، ولا الشر إلا إقبالا، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته، وعمت مكيدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا! أين خياركم وصلحاؤكم! وأين أحراركم وسمحاؤكم! وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم! أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصة! وهل خلفتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغارا لقدرهم، وذهابا عن ذكرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه! وتكونوا أعز أوليائه عنده! هيهات! لا يخدع الله عن جنته، وتنال مرضاته إلا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به. (11) ومن كلام له عليه السلام (في وضع المعروف في أهله وغير أهله.)
المعروف في غير أهله
وليس لواضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله من الحظ فيما أتى إلا محمدة اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجهال - ما دام منعما عليهم - ما أجود يده وهو عن ذات الله بخيل!
مواضع المعروف
فمن آتاه الله مالا فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب، فإن فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة إن شاء الله. (12) ومن خطبة له عليه السلام
يذكر فيها بديع خلقة الخفاش (ويبتدئها بحمد الله وتنزيهه.)
حمد الله وتنزيهه
الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته.
هو الله الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلا، خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع.
خلقة الخفاش
ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته، ما أن أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها ، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار سكنا وقرارا! وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاما، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا، تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره. (13) ومن خطبة له عليه السلام (في عجيب صنعة الكون.)
وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا، ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها، فاستمسكت بأمره وقامت على حده، وأرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر، والقمقام المسخر، ذل لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته، وجبل جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عمادا، وأرزها فيها أوتادا، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مهادا، وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجي راكد لا يجري، وقائم لا يسري، تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارق،
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . (14) ومن وصية له عليه السلام (وصى بها جيشا بعثه إلى العدو.)
فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف، أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءا، ودونكم مردا، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة، ولا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة. (15) ومن وصية له عليه السلام (للحسن والحسين، عليهما السلام، لما ضربه ابن ملجم لعنه الله.)
أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا للحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا.
أوصيكما، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»، الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
ثم قال: يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين! ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي.
انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.» (16) ومن كتاب له عليه السلام (إلى عماله على الخراج.)
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج
أما بعد فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها، واعلموا أن ما كلفتم يسير، وأن ثوابه كبير، ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه، فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحدا عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه، ولا تدخروا أنفسكم نصيحة، ولا الجند حسن سيرة، ولا الرعية معونة، ولا دين الله قوة، وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا، وأن ننصره بما بلغت قوتنا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل التاسع
باب المختار من حكم أمير المؤمنين
عليه السلام
ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله، والكلام القصير الخارج في سائر أغراضه
قال عليه السلام: (1)
كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب. (2)
أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من أمر عليها لسانه. (3)
البخل عار، والجبن منقصة، والفقر يخرس الفطن عن حجته، والمقل غريب في بلدته، والعجز آفة ، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جنة. (4)
نعم القرين الرضا، والعلم وراثة كريمة، والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية. (5)
صدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال قبر العيوب، أو: والمسالمة خباء العيوب، ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه. (6)
الصدقة دواء منجح، وأعمال العباد في عاجلهم، نصب أعينهم في آجلهم. (7)
اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم! (8)
إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. (9)
خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم. (10)
إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه. (11)
أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم . (12)
إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر. (13)
من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد. (14)
ما كل مفتون يعاتب. (15)
تذل الأمور للمقادير، حتى يكون الحتف في التدبير. (16)
وسئل عليه السلام عن قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود.» فقال: إنما قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك والدين قل، فأما الآن وقد اتسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار. (17)
وقال عليه السلام في الذين اعتزلوا القتال معه: خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل. (18)
من جرى في عنان أمله عثر بأجله. (19)
أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله بيده يرفعه. (20)
قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير. (21)
لنا حق، فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى.
قال الرضي: وهذا من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه: إنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير، كالعبد والأسير ومن يجرى مجراهما. (22)
من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه. (23)
من كفارات الذنوب العظام: إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب. (24)
يا ابن آدم، إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره. (25)
ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه. (26)
امش بدائك ما مشى بك. (27)
أفضل الزهد إخفاء الزهد. (28)
إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى. (29)
الحذر الحذر! فوالله لقد ستر حتى كأنه قد غفر. (30)
وسئل عن الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد؛ والصبر منها على أربع شعب: على الشوق، والشفق، والزهد، والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات؛ واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين: فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين؛ والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم: فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره، وعاش في الناس حميدا. والجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين؛ فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف الكافرين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة. (31)
الكفر على أربع دعائم: على التعمق، والتنازع، والزيغ، والشقاق: فمن تعمق لم ينب إلى الحق، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة، وحسنت عنده السيئة، وسكر سكر الضلالة، ومن شاق وعرت عليه طرقه، وأعضل عليه أمره، وضاق عليه مخرجه؛ والشك على أربع شعب: على التماري، والهول، والتردد، والاستسلام: فمن جعل المراء دينا لم يصبح ليله، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه، ومن تردد في الريب وطئته سنابك الشياطين، ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما.
قال الرضي: وبعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة والخروج عن الغرض المقصود في هذا الباب. (32)
فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه. (33)
كن سمحا ، ولا تكن مبذرا، وكن مقدرا، ولا تكن مقترا. (34)
أشرف الغنى ترك المنى. (35)
من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه بما لا يعلمون. (36)
من أطال الأمل أساء العمل. (37)
وقال عليه السلام وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار، فترجلوا له واشتدوا بين يديه، قال: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار! (38)
وقال عليه السلام لابنه الحسن: يا بني، احفظ عني أربعا، وأربعا، لا يضرك ما عملت معهن: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق.
يا بني، إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب؛ يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب.
نامعلوم صفحہ