225

تاريخ ترجمہ

تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي

اصناف

وأخيرا ذكر «برون»، أن مضيفه الشيخ الجوهري أبدى سروره بهذا الحديث فكان يرمق مناظره في ابتسام، دون أن يقول كلمة واحدة، أما هذا المناظر فلم يعقب على حديث «برون» بكلمة واحدة، بل انتقل إلى آخر المجلس، ثم انسحب دون أن يشعر أحد بانسحابه.

قد يكون «برون» مبالغا في وصف ما حدث، وقد يكون في حديثه غلو في اتهام الشيوخ وفي اعتداده بنفسه وبعلمه، بل إننا نتهمه بهذه المبالغة وهذه المغالاة؛ فقد كتب في خطاب آخر لصديقه يحدثه عن تفكيره في طبع القاموس المحيط في مطبعة بولاق، وهنا انتهز الفرصة أيضا فبالغ في وصف شيوخ الأزهر بالجهل الشديد، فقال: «وليس هناك في القاهرة ولا في مصر كلها عشرة علماء يتقنون هذا القاموس، بل ليس هناك عشرة علماء يعرفون كيف يستعمل القاموس.» ثم ختم خطابه بجملة فيها تهكم مرير، فقال: فلنعط إذن قاموسا للعلماء

Donnons donc un dictionnaire aux Ulémas .

وهذه مبالغة من «برون»، ينكرها الواقع نفسه، فهو عندما وفد على مصر تتلمذ على شيخين جليلين من شيوخ الأزهر، هما الشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشيخ محمد عمر التونسي، وبفضلهما تقدمت معرفته في اللغة العربية، وعندما فكر في طبع القاموس كان كل اعتماده في المراجعة على الشيخ التونسي، وعندما فكر المستشرق الإنجليزي «لين» في ترجمة القاموس للإنجليزية، لم يجد من يعينه على فهمه ومراجعته على القواميس والمعاجم الأخرى غير شيخ من شيوخ الأزهر، هو الشيخ إبراهيم الدسوقي، وهذا هو الشيخ العطار وتلاميذه كانوا من المعجبين بالحركة، القارئين لكتبها، بل لقد كان أنبغ من ظهر من تلاميذ المدارس والبعثات هم من أخذوا من تلاميذ الأزهر وشيوخه. وطائفة المحررين والمصححين للكتب المترجمة كانت كلها من شيوخ الأزهر، ولم يكن انحراف المشايخ عن المدارس الحديثة تاما كما وصفه «برون»، بل لقد ابتعد بعض الشيوخ بأولادهم عن الأزهر، وأدخلوهم المدارس، فأدخل الشيخ سالم عوض القنياتي ابنه سالم سالم (الدكتور سالم باشا سالم فيما بعد) مدرسة الطب، وصحب الشيخ نصر الهوريني ابنه سعيدا (الدكتور سعيد باشا نصر فيما بعد) معه في بعثة سنة 1844 إلى فرنسا.

هذه أمثلة مختلفة لا تنفي اتهام «برون»، ولكنها تخفف من حدته، ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الدائرة العلمية القديمة، ونعني بها الأزهر وشيوخه، لم تقبل على الكتب المترجمة الإقبال الكافي، بل لقد أقبلت فئة قليلة من الشيوخ على قراءة بعض هذه الكتب وتفهمها، وأعرضت الفئة الكثيرة عنها إما حذرا، وإما كرها - شأن الإنسان في كل مجتمع، ونظرته إلى كل جديد واعتداده بكل قديم - بل لعلنا نستطيع أن نتلمس لهؤلاء المعرضين العذر من أن العدد الأكبر من الكتب المترجمة كان كتبا علمية بحتة، تبحث فن التشريح، أو الأمراض وعلاجها، أو الهندسة الوصفية، أو الكيمياء الحديثة ... إلخ. وفهم هذه العلوم كان يحتاج إلى أسس من المبادئ الأولية لم تتح الفرصة لشيوخ الأزهر لتلقيها.

وهنا قد يدفعنا البحث إلى التساؤل: هل كان محمد علي محقا عندما ترك معاهد العلم القديمة كما هي، وأنشأ إلى جانبها المدارس الحديثة إنشاء جديدا؟ وإذا كان محقا في تصرفه هذا، فهل كان محقا أيضا عندما ترك التعليم القديم على قدمه، أم كان من الأفضل أن يحاول تطعيمه بشيء من البرامج والدراسات الجديدة حتى تستطيع هذه المعاهد القديمة أن تقترب - مع مضي الزمن - شيئا فشيئا من المعاهد الجديدة، وحتى يأتي يوم يتقابل فيه القديم والحديث؟

وأخيرا هل كان ينجح محمد علي لو حاول واحدة من هاتين المحاولتين؟

هذه ألوان من الأسئلة يثيرها البحث، ولكنا نجد الإجابة عليها عسيرة؛ لأن هذه الإجابة تتطلب البحث فيما يجب أن يكون ، لا فيما كان.

وغاية ما نستطيع أن نقرره، أن هذا الجمود من شيوخ الأزهر وقف بهم وبمعهدهم عن السير مع القافلة، فتركزت العناية بالعلوم الحديثة، وبالكتب المترجمة في المدارس الجديدة، وتلاميذها ومدرسيها وخريجيها، وبدءوا بهذا يحتلون مقام الزعامة الفكرية في مصر. يقول الدكتور «برون»: «والآن تنبثق من بين تلاميذنا قوة علمية، هذه القوة لو استمرت تحيا بعض الوقت، فإنها تستطيع أن تتغلب على معتقدات العلماء العلمية وأن تقضي على طريقتهم المدرسية العتيقة، وتلاميذنا الآن - نتيجة للثقة التي أكسبتهم إياها دراساتهم التجريبية في العلوم الصحيحة - يحاربون الكتب القديمة، وآراء العلماء البالية، الذين يعتقدون - في قرارة أنفسهم - أن الرأي القاطع في العلوم، هو ما ورد في كتبهم العربية.»

21

نامعلوم صفحہ