تذليل العقبات:
على أن هذه العقبات التي لم أكن أتوقعها لم تكن لتثنيني عن عزمي، بل بذلت الجهد في تذليلها، فكنت حيثما نزلت أجمع المشايخ والخبراء، وأتلطف في تسقط أخبارهم واستقصاء أحوالهم، مبينا لهم أن ذلك في مصلحتهم، ولم أكن أكتفي بسؤال واحد منهم عن أية حقيقة كانت، ولو أنه اسم مكان، بل كنت أطرح السؤال الواحد على اثنين أو أكثر، وأسأل كلا منهم على انفراد، ثم أجمعهم إذا اقتضى الأمر، وأسألهم السؤال عينه حتى أستوثق من صحة الجواب، فأثبته في يوميتي، كما فعلت في تمحيص حقائق تاريخ السودان. ثم إنه لم تسنح لي فرصة لاختبار البلاد وأهلها بنفسي إلا اغتنمتها، فزرت البدو مرارا في مخيماتهم، وحضرت أفراحهم ومراقصهم وغناهم، وسباقهم على الخيل، واجتماعاتهم العمومية والخصوصية، وجولت في أنحاء الجزيرة في الجهات التي قضت علي المصلحة بالتجوال فيها وفي كثير غيرها، وكنت في أثناء ذلك أبحث عن آثار البلاد القديمة والحديثة، ولا سيما العربية منها، فعثرت على كثير من النقود القديمة، والحصون الأثرية، والحجارة التاريخية الهيروغليفية واليونانية والنبطية والعربية، مما زادني علما بأحوال البلاد وتاريخها القديم والحديث.
هذا، وقد كشف لي البحث في آثارها عن عادة جميلة لأهلها، كانت عونا لي على استطلاع الكثير من أخبارها وحوادثها التاريخية والتقليدية، وذلك أنهم اعتادوا تخليد كل عمل جليل، أو حادث هام حدث في الجزيرة، بأن يقيموا له «رجما»، وهو حجر أبيض أو كومة من الحجارة - «على ماء شهير أو درب جهير» - أو يرسموا بضع دوائر، أو تلما عن جانبيه حفر، وهم يعنون كل العناية بإحياء هذه الرجم والرسوم.
ومن جميل عادات البدو التي اطلعت عليها في أثناء البحث، فمكنني من معرفة الكثير من غزواتهم وحروبهم الحديثة، أنهم ينظمون القصائد في كل غزوة أو حرب شهيرة، ويستظهرونها ويتوارثونها خلفا عن سلف.
وقد دامت مهمة الحدود خمسة أشهر، قضيتها كلها في أرض سيناء وبين أهلها، فما انتهيت من الهمة حتى كان قد اجتمع عندي من الحقائق التاريخية والجغرافية، وأحوال البلاد وأهلها قديما وحديثا، بما يملأ مجلدا كبيرا.
مستندات التاريخ:
فلما رجعت إلى مصر في أكتوبر سنة 1906، باشرت وضع التاريخ الذي عزمت عليه، فوجدت المعلومات التي جمعتها في التاريخ القديم، والأجيال المتوسطة لا تزال قاصرة جدا، فنقبت في كتب الأقدمين والآثار المصرية القديمة في التوراة، وكتابي «فجر العمران» و«جهاد الأمم» للموسيو ماسبرو - العالم الأثري الفرنساوي - وكتاب «مباحث في سيناء» للمستر فلندرس بتري - العالم الأثري الإنكليزي - وفي كتب مؤرخي العرب، كالمقريزي، والمسعودي، واليعقوبي، والهمذاني، وأبي الفداء، وغيرهم، فجمعت منهم حقائق جمة عن تاريخ سيناء القديم.
وبلغني أن في بلدة الطور كتابا يدعى «الأم»، أنشئ في قلعة الطور القديمة، وفيه كثير من أخبار سيناء في القرون التي بعد الألف للهجرة، وكنت أتوق جدا إلى مطالعة الكتب، والمستندات العربية التي في دير طور سيناء الشهير، فاتفق أني ندبت لمهمة إلى بلاد الطور في أبريل سنة 1907، فزرت مدينة الطور والدير، واطلعت على كتاب «الأم» في الطور، وكتب شتى عربية في الدير، وقفت منها على كثير من الحقائق التاريخية في الأجيال المتوسطة، وعدت إلى مصر وانكببت على العمل، فلم تنته سنة 1907 حتى أتممت الكتاب، فجاء في ثلاثة أجزاء كبيرة وهي:
الجزء الأول:
في جغرافية سيناء الطبيعية والإدارية، وفيه ذكر حدودها، وأراضيها، وجبالها، وأوديتها، ومياهها، ومعادنها، وهوائها، ونباتاتها، وحيواناتها، وسكانها، ومدنها، وقراها، وديرها، وطرقها، وآثارها، وحكومتها، وغير ذلك.
نامعلوم صفحہ