رابعا:
وظيفة المحافظة على مدينة رومة من كل طارئ خارجي ومراقبة تنفيذ قوانين ونظامات الحكومة.
ثم أنشئت وظيفتان عاليتان تكون اختصاصات من يعين فيهما تعداد الأهالي وحصر ثروتهم لتقسيمهم إلى طبقات بحسب غناهم وفقرهم كما سبق شرحه في موضعه، وتحرير قوائم أعضاء السناتو والشوالية والمحافظة على الأمن داخل المدينة.
ومع تقليل اختصاصات وظيفة النواب القنصليين بهذه الدرجة فلم يعين فيها أحد أفراد الشعب إلى سنة 400ق.م، بل بقيت منحصرة في يد الأشراف كما كانت وظيفة القنصل الأصلية، وذلك لعدم تحتيم القانون الجديد تقسيمها بين الأهالي والأشراف، وجعلها مشتركة بينهم.
وزيادة على ما ذكر فإن وظيفة القنصل الأصلية لم تلغ بالمرة، بل أوقف التعيين فيها موقتا، وفي أول كل سنة كان يسأل السناتو الشعب عن رغبته في النظام الذي يرى أن يحكم به هذه السنة، أنظام القنصلية القديم أو نظام النواب القنصليين الحديث، وبهذه الطريقة تمكن السناتو - بما له من النفوذ والأعوان - من إعادة النظام القديم أربعا وعشرين مرة في مدة الثماني وسبعين سنة التي مكثها هذا النظام مع ما فيه من الاختلال، وعدم الثبات وتغيير نظام الحكومة من سنة لأخرى، ذلك الاختلال الذي جرأ أعداء رومة على التعدي على حدودها، وحمل أصحاب المطامع الذين يترقبون الفرص للاستحواذ على السلطة، والاستبداد بها على اتخاذ هذا الاعتلال وسيلة لتنفيذ ما تخفيه صدورهم من الأغراض المضرة باستقلال رومة والنوايا القاتلة لحريتها.
فمن ذلك ما حصل في سنة 437 من أحد الأغنياء إذ توهم أن الرومانيين يفضلون الراحة تحت سلطة حاكم مطلق يعدل بينهم على حالتهم الحاضرة لما فيها من القلق والاضطراب والأخذ والرد بين الأحزاب، فاشترى كثيرا من الغلال وأخذ يوزعها مجانا على الأهالي ليستميلهم إليه بسبب إمحال المحصولات وارتفاع أثمانها في تلك السنة، فأوجس السناتو منه خيفة وعين سنسناتوس (دكتاتور)؛ أي حاكما مطلقا ليوقف هذه الحركة ويقاوم تيارها ويجازي محازبي هذا الساعي في العبث بحرية وطنه بالعقوبات الصارمة التي تستدعيها الحال بدون مراعاة المرافعات والإجراءات العادية.
فطلبه سنسناتوس ليدافع عن نفسه فأظهر الامتناع والاحتماء بمن أحسن إليهم، وقاوم الحجاب الذين أرسلوا للقبض عليه؛ ولذلك اضطر الدكتاتور إلى إرسال قائد الفرسان لإحضاره قهرا، فذهب إليه ولما قاومه وامتنع عن الامتثال لأمره قتله بيده في وسط محازبيه وأنصاره، ثم هدم منزله وبيع ما جمعه من الغلال بأبخس الأثمان، وبذلك انتهت هذه الفتنة واستقال سنسناتوس من منصبه الموقت وعادت الأحكام إلى سابق مجراها بكل هدوء وسكينة.
هذا، وكانت الحروب في أثناء تلك الحوادث وبعدها مستمرة تقريبا بين الرومانيين ومجاوريهم، وكان النصر غالبا من جانب جيوش رومة ولم يحدث في خلالها من الأمور التي تستوجب الذكر إلا أمران: أولهما توقف القناصل في سنة 428 بعد انهزامهم في إحدى الوقائع عن تعيين (دكتاتور) لصد الأعداء كما كانت العادة، فاستعان السناتو بنواب الأمة على إلزامهم بذلك فلبوا دعوته وكانوا له عونا على الأشراف، وهي أول مرة قاوم فيها السناتو الأشراف وأخضعهم بمساعدة الشعب، وبذلك ازداد نفوذ الأهالي وتحصلوا في السنين التالية على عدة امتيازات.
وثانيهما محاصرة الرومانيين لمدينة (فايه) أهم مدائن الأتروسك، وهي التي أتعبت الرومانيين نحو قرن، ودخولها عنوة في سنة 395ق.م تحت قيادة فوريوس كامليوس الذي انتصر في عدة وقائع شهيرة، وقد أعقب فتح هذه المدينة خضوع عدة مدائن أخرى مهمة، وبعد ذلك عاد كامليوس إلى رومة ودخلها في موكب حافل متناه في الأبهة والعظمة، وزاد اعتباره في أعين العموم حتى صار ذا نفوذ عظيم أوجب الريب في نواياه وخيف من تطاوله إلى اغتصاب الحكومة، ولكون الرومانيين كانوا غيورين على حريتهم متمسكين باستقلالهم كانوا يخشون من ظهور أي إنسان وحصوله على محبة الأهالي من أن يعبث بنظام الحكومة ويستأثر بها، ولذلك كانوا يبادرون باتهامه لإلجائه إلى الخروج من المدينة، ولو أدى الأمر إلى انقلابه على وطنه وأهله ومساعدته الأعداء عليهم لعلمهم واعتقادهم أن عدوا أجنبيا مهاجما خير من عدو داخلي ينتخر عظام نظام الحكومة ويقوض أركانها شيئا فشيئا، ومما زاد حنق الأهالي عليه معارضته جميع ما يقدمه نوابهم من المشروعات، ومساعدة الأشراف على مشروعاتهم؛ فاتهموه في سنة 390ق.م بارتكاب الرشوة، ودعوه للمحاكمة فلم ينتظرها وفضل النفي الاختياري على الوقوف أمام هيئة القضاء وتبرئة نفسه مما نسب إليه.
قد فقدت رومة بخروجه قائدا مجربا وجنديا محنكا كان يقودها كثيرا ضد أعدائها، خصوصا وكانت أمة الجلوا المعروفة في كتب العرب باسم الجلالقة تتحفز للوثوب عليها كما سيذكر مفصلا في الفصل الآتي.
نامعلوم صفحہ