وبعد ذلك طلب الأهالي الرجوع إلى القوانين العادلة التي وضعها سرفيوس تليوس، وأن ينتخب لإدارة شؤون الحكومة اثنان من المشهود لهم بالحكمة والاستقامة، ويعطى لهما لقب (قنصل) فقبل مجلس الشيوخ بهذه الطلبات العادلة، واجتمعت لجان الانتخاب وانتخب تركان كوللاتان وبروتوس، وتم هذا الانقلاب العظيم في سنة 510ق.م، ثم توجس الأهالي خيفة من تركان كوللاتان، وداخلهم الريب من جهته؛ فعزلوه ونفوه خارج المدينة وانتخبوا مكانه (فالريوس).
وقد تناقل المؤرخون خرافة يعللون بها تولي (بروتوس) على منصة الأحكام بعد تركان الشامخ، قالوا إن هذا الملك لما أحس بعدم محبة الأهالي له وقلبهم له ظهر المجن؛ أرسل ولديه إلى مدينة (دلفوس) ببلاد اليونان ليستشيرا متكهنتها على ما ستؤول إليه حالته، فتوجها ومعهما (بروتوس)، وبعد أن أديا المأمورية سألوا الكاهنة عمن سيخلف تركان الشامخ في الملك، فأجابتهم بأن سيخلفه من يقبل أمه قبل الآخرين منهم، فأدرك (بروتوس) سر الجواب وسجد على الأرض مقبلا إياها إذ هي أم أولاد آدم المخلوق من الطين، ولذلك أخلف تركان بعد نفيه دون ولديه، وبعد أن التجأ تركان إلى مدينة (سيره) تركها قاصدا مدينة تركوينيه لعدم مساعدة أهالي الأولى له، فأرسلت تركوينيه ومدينة أخرى رسلا يطلبون من رومة إعادة تركان إلى الملك أو بالأقل رد أملاكه وأملاك من هاجر معه إليهم، وفي أثناء المداولة في هذه الطلبات تآمر المندوبون مع بعض أولاد الأشراف الذين لم يرق في أعينهم تمتع الأهالي بكامل حقوقهم، بل كانوا يفضلون خدمة ملك ذي أبهة وعظمة على التساوي مع جميع طبقات الأهالي في الحقوق والواجبات، فاتفقوا على إهاجه الطبقات السفلى من الأهالي على مجلس الشيوخ وإلزامه بقبول عودة الحكومة الملكية، لكن لم يتم قصدهم ولم تفلح مؤامرتهم بسبب إفشاء بعضهم للسر، فقبض على المتآمرين، ومن ضمنهم ولدا بروتوس نفسه وحوكموا بمقتضى قوانين البلاد، فحكم عليهم بالإعدام ولم تمنع بروتوس الشفقة الوالدية من تنفيذ الحكم على ولديه، بل فضل احترام القانون وحماية الوطن العزيز على تخليص ولديه الخائنين من عقاب استحقاه بغدرهما وخيانتهما.
وبعد ذلك منح السناتو عشرين يوما للمهاجرين مع تركان للعودة إلى رومة بحيث إن لم يعودوا في الميعاد المذكور تضم أملاكهم لجانب الأمة، ووزعت أطيان تركان على الأهالي فخص كل منهم سبعة أفدنة تقريبا، وبذلك ازداد تعلق الأهالي بالحكومة الجمهورية وصار لا يخشى من إصغائهم لوساوس المتحزبين للملك ثانيا، وجعل السهل الواقع بين المدينة ونهر التبر الذي كان من أملاك تركان الخصوصية ميدانا عموميا تحت حماية إله الحرب، وهو (المريخ) على زعمهم وسمي ميدان المريخ.
ولما لم تفلح مأمورية مندوبي هاتين المدينتين جهزتا جيشا عرمرما لإكراه الرومانيين على إرجاع الحكومة الملوكية، فقابله الرومانيون خارج المدينة بثبات الأسد الذي يدافع عن عرينه والأمة التي تناضل عن استقلالها وتتفانى في الدفاع عن حريتها، واقتتل الجيشان طول النهار بدون أن يتم النصر لأحدهما، وانفصلا لما خيم الظلام وألقى عليهم سدوله، وفي أثناء المعركة قتل بروتوس محرر الرومانيين وآرنس أحد ولدي تركان، ولما جن الليل خيل لأعداء رومة أن هاتفا ينادي بينهم أن موتاهم أكثر من موتى الرومانيين فانذعروا وولوا مدبرين، فعاد الجيش الروماني إلى المدينة، ودخل القنصل فالريوس بموكب انتصاري عظيم، ولبست نساء رومة الحداد مدة سنة كاملة حزنا على بروتوس الذي دافع عن العفاف وصان الفضيلة بانتقامه للوكريسيا شهيدة الشرف والشهامة، وأقيم له تمثال نصب في الكابيتول بجوار أنصاب الملوك السابقين التي احترمها الرومانيون بعد إلغاء الحكومة الملكية، ولم ينزلوها عن منصاتها لاعتبارهم إياها بمثابة أنصاف آلهة تبعا لاعتقاداتهم الفاسدة وتخيلاتهم الكاسدة.
وبعد هذه الخيبة استعان تركان على الرومانيين بصاحب مدينة (كلوزيوم) إحدى مدائن الأتروسك المدعو (بورسنا)، غير ناظر إلى ما يجره من ويلات الحرب ومصائبه على بلاده، مفضلا الاستعانة بالأجنبي لتملك رقاب الرومانيين على أن يراهم متمتعين بالحرية والاستقلال، فشن (بورسنا) الغارة على مدينة رومة بخيله ورجله سنة 507ق.م ودخلها عنوة بعد أن بذل أهلوها من ضروب الشجاعة وفنون القتال ما لم يأته قبلهم أحد، لكن لم يعد إليها ملكها تركان الخائن، بل امتلكها لنفسه، ولم تجد خيانة تركان واستعانته بأعداء وطنه فتيلا، وهكذا الحال في كل زمان ومكان، فكثيرا ما رأينا ونرى الملوك والأمراء خصوصا في بلاد الشرق يستعينون بالأجانب ويستدعونهم لبلادهم؛ لإخضاع أممهم ورعاياهم إذا هبوا مطالبين ببعض الحقوق أو الاشتراك في إدارة بلادهم، فيلبي الأجنبي دعوتهم فرحا مستبشرا، وبعد أن يقمع الأهالي ويؤيد سلطة الحاكم الجاهل المستعين بهم يقوضون أركان سلطته شيئا فشيئا، ويستأثرون هم بالوظايف والنفوذ حتى إذا ساعدت الفرص امتلكوا البلاد غنيمة باردة وطردوا من ظن فيهم خيرا، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.
هذا؛ ولقد ذكر (تيت ليف)
1
المؤرخ القديم عدة وقائع وإن لم تكن حقيقية إلا أنها تشهد بشجاعتهم وإقدامهم لا فرق بين النساء والرجال، فقد قال إن (هوراسيوس كوكليس) قاوم بمفرده رجال (بورسنا) وصدهم عن أحد جسور التبر عندما كانوا قاصدين عبوره لدخول رومة، وقاوم مدة حتى تمكن الرومانيون من هدمه وعاد هو إلى المدينة سبحا، وقال أيضا إن إحدى الرومانيات واسمها (كليلي) سلمت لهذا الملك بصفة رهينة فهربت لبلادها وعبرت النهر سابحة معرضة نفسها لنبال الأعداء، ولم تخش الموت تخلصا من ربقة الأجنبي، وإنها لما أعيدت إليه بحكم الضرورة اضطرارا أعجب بورسنا بثبات جأشها وقوة جنانها وإخلاصها لوطنها فأطلق سراحها ، وقال هذا المؤرخ في موضع آخر إن أحد شبان الرومانيين واسمه (موسيوس شفولا) تمكن من الوصول إلى سرادق (بورسنا) أثناء حصار مدينة رومة قاصدا قتله، فقتل أحد كتابه خطأ ظنا منه أنه هو الملك، ولما ضبط قال للملك بكل ثبات: «إني عالم بما سيحل بي من العذاب والقتل، لكن يوجد بالمدينة ثلاثمائة من الشبان متحالفون على قتلك.» ثم وضع يده اليمنى في النار حتى احترقت قائلا لها: «هذا جزاؤك على خطائك عدو أمتي ووطني.» وذكر حوادث أخرى غير هذه تناقلها المؤرخون إظهارا لما وصل إليه حب الوطن، والتهالك في الدفاع عنه عند هذه الأمة الحية.
ولبث (بورسنا) برومة إلى أن ساقه طمعه لمحاربة اللاتينيين فانهزم أمامهم شر هزيمة، ولم يعد له جلد على البقاء في رومة لهياج الأهالي، وتحققه من عدم قدرته على قمعهم لو هموا مطالبين باستقلالهم فأجلى عنها بسلام.
لكن لم ترق هذه الحال في أعين تركان، بل كانت فيها قذى وفي فمه شجى، فأهاج قبائل السابيين على رومة معللا النفس بالعودة إلى سابق مجده وتليد سلطانه، فطوح الطيش بالسابيين، وهاجموا رومة لا لإرجاع تركان كما يظن كل جاهل يغتر بمساعدة الأجانب وإخلاصهم وصفاء سريرتهم، بل طمعا في انتهاز هذا الشقاق لامتلاكها فخذلوا وعادوا بخسران مبين سنة 496ق.م.
نامعلوم صفحہ