تاريخ القرصنة في العالم
تاريخ القرصنة في العالم
اصناف
وصل آيفري إلى أمريكا تحت اسم مستعار، لكنه لم ينجح في الاختفاء من شكوك المحافظ، الذي لم يكن يولي المهاجرين ثقته، فلم يكن أمام آيفري إلا أن يلجأ إلى أسلوب الرشوة ليزيل العقبات من طريقه، ولكنه كان يشعر أن أحواله في أمريكا ليست على ما ينبغي، ربما بسبب حنينه إلى وطنه، سواء كان هذا هو السبب أم أنه كان هناك سبب آخر؛ فقد رحل على الفور إلى شمال أيرلندا، حيث باع سفينته، وودع أصدقاءه القدامى، فكان هذا تأكيدا لقراره الحاسم بهجر حياة القرصنة بلا رجعة.
والآن بعد أن تخلى الحظ عن آيفري بعد ما رافقه طويلا، ومجرد أن حاول استثمار جزء من المجوهرات المسروقة في دبلن، ثارت الشكوك في نفوس التجار تجاهه، فاضطر من جديد إلى تغيير اسمه، ومحل إقامته. وكان انتقاله هذه المرة إلى إنجلترا، حيث ديفون مسقط رأسه. هناك تولى أحد أصدقائه القدامى في منطقة تدعى بيدفورد، العمل كوسيط له في بيع المجوهرات، إلا أن آيفري هاجم عصابة من محتالي لندن، كانوا قد دفعوا له عربونا بعد أن وعدوه بتسديد المبلغ الباقي فيما بعد، وعلى الرغم من تذكيره المتكرر لهم، فإنه لم يتمكن من استرداد ما تبقى له لديهم من أموال، لم يكن باستطاعة آيفري اللجوء للقضاء لأسباب غنية عن التفسير. مرت بضعة أعوام توفي بعدها آيفري في أشد حالات الفقر، لاعنا تلك الساعة التي قرر فيها أن يعيش حياة شريفة.
على أن آيفري لم يمت بالنسبة لمن جاءوا بعده، فها هو دانيال ديفو مؤلف «روبنسون كروزو» يخلد اسمه في كتاب بعنوان «حياة القبطان الشهير سينجلتون ومغامراته»، الذي على أساسه كتب تشارلز جونسون بعد ذلك كوميديا «القرصان المحظوظ».
قراصنة أصحاب رسالة
ولد ميسون في منطقة البروفانس المشمسة في جنوب فرنسا، وكان من أسرة كثيرة الأطفال، ولما توسم فيه والداه الموهبة، فقد أحسنا تعليمه، حتى أنهى المدرسة الثانوية، وأرسلاه بعدها إلى الأكاديمية العسكرية في مدينة أنجي. قرر ميسون - بعد أن أنهى الأكاديمية - أن يصبح بحارا، فأخذ في تعلم فنون الملاحة البحرية، بنفس الحمية التي تعلم بها باقي العلوم، وعلى الفور حقق نجاحا باهرا أدهش أساتذته، على أنه في بعض الأحيان، يتحدد مصير الإنسان على نحو غير عادي، فإبان الرسو الطويل للسفينة التي كان يخدم على ظهرها ميسون في خليج نيابوليتان، طلب من القبطان فورين السماح له بالسفر إلى روما؛ ليتسنى له مشاهدة آثار «المدينة الخالدة».
التقى ميسون في روما بشخص كان له تأثير كبير على نظرته، كان هذا الشخص هو الدومينيكاني كاراتشيولي، الذي أخذ في بسط أفكاره على الفتى، وهو يعرض عليه كنائس وقصور روما، كانت هذه الأفكار في أساسها تتعارض مع مذهب روما الكاثوليكي الأرثوذكسي. تحولت الدهشة التي استمع بها ميسون إلى الأفكار الغريبة لهذا الدومينيكاني، إلى اهتمام عميق بالهواجس الاصطلاحية التي تدور في رأس القس.
كان هذا الفيلسوف الفذ يؤكد أن العقبة الرئيسية أمام تطور العلاقات الأخوية الحقة بين البشر تكمن في وجود النقود ... يكفي أن نزيل هذا الاختراع الشيطاني حتى يختفي تقسيم البشرية إلى طبقة تملك، وأخرى لا تملك، كما يختفي أيضا معها الجشع، أصل كل الشرور. اقترح ميسون - الغر، عديم الخبرة، الذي تحمس بكل جدية لهذه الأفكار الطوباوية - على كاراتشيولي أن يترك ملابس الرهبان، ويصبح بحارا، بعد أن يتطوع للعمل على السفينة «فيكتوار»: «يجب ألا نفترق مطلقا يا أستاذي العزيز». قالها ميسون باضطراب، وقد اقتنع تماما أنهما بالذات قد اختيرا لحمل رسالة حددت لهما دور الحواريين لإيمان جديد، وأنهما جاءا لإنقاذ البشرية.
كان القس سعيدا؛ لأنه نجح في إدخال أول تلميذ إلى عقيدته، وعبر بدوره عن رغبته في ألا يفترقا. لعبت ثروة هذا التلميذ المبتدئ دورا لا يستهان بصفتهما دعما كبيرا للدخل المتواضع الذي كان يحصل عليه الدومينيكاني، هكذا بدأت سلسلة المغامرات الخطيرة التي خاضها هذان الرجلان الفريدان، الغريبا الأطوار، اللذان لم يفترقا حتى النفس الأخير.
وسرعان ما أثبت كاراتشيولي أنه يصلح للعمل على ظهر السفينة أكثر مما يصلح لخدمة الله، بعد مرور يومين من مغادرة «فيكتوار» لميناء نابولي، قامت هذه السفينة بالهجوم على سفينة قرصنة مسلحة على نحو جديد. لم يتطرق الخوف إلى قلوب القراصنة من جراء ظهور هذه السفينة الحربية، بل حاولا الاستيلاء عليها. جرى التحام شديد بالأيدي بين الجانبين، سقط على إثره عدد كبير من بحارة «فيكتوار»، وقد أظهر ميسون والقس السابق في هذه المعركة شجاعة فائقة، حتى إن القبطان فورين عني بأمر نقلهما - كنوع من المكافأة - إلى سفينة المرتزقة الفرنسية «تريومف» المخصصة للهجوم على السفن التجارية الإنجليزية. أثبت ميسون وكاراتشيولي إبان خدمتهما الشاقة في سلك المرتزقة، مقدار ما يتمتعان به من شجاعة، وها هما يعودان مرة أخرى إلى «فيكتوار» بعد أن نالا مجدا وشهرة لا ينالهما إلا المحاربون الصناديد، ليتخذوا طريقهما معها نحو جزر الأنتيل. لم تخمد المآثر الحربية التي اجترحها كل من ميسون وأستاذه من حميتهما لقضية إصلاح العالم، فراحا ينشران أفكار الحرية، والمساواة، والأخوة، بين أفراد طاقم السفينة، حيث وجدت هذه الأفكار أرضا خصبة، وعلى الفور أصبح جميع البحارة - باستثناء الضباط - متورطين في المؤامرة.
أخيرا قرر الفيلسوف البدائي أن يقوم بوضع خططه الطوباوية موضع التنفيذ، فدعا إلى التمرد على السفينة بهدف تحويلها إلى جمهورية صغيرة عائمة، إلى جنين لدولة المستقبل التي تحكمها مبادئ المساواة. كان على مبعوثي هذه العقيدة الجديدة - في رأي القس السابق - أن يطوفوا البحار السبعة؛ لينشروا مذهبهم في أقصى أطراف المعمورة، ولم يكن يعكر صفو الروح المرحة التي سادت الجميع، بعد أن صارت السفينة ملكا خالصا لهم، سوى الجدل الذي ثار حول اختيار العلم. البعض رأى أن يكون لونه أحمر بلون الدم، والبعض الآخر رأى أن يكون أسود. أخيرا احتدم الجدل حتى اتخذ طابعا عنيفا، مما حدا بكاراتشيولي أن يتدخل في الأمر قائلا: إنه ليحزنني ألا نتفق فيما بيننا - إننا لسنا بقراصنة، وإنما أناس أحرار، نحارب من أجل حق الإنسان في أن يحيا وفقا لقوانين الله والطبيعة. إننا نختلف تمام الاختلاف عن القراصنة ، غير أننا نبحث مثلهم عن السعادة في البحر؛ ولهذا فإنني أقترح أن نرفع راية بيضاء كتب عليها «في سبيل الله والحرية».
نامعلوم صفحہ