تاريخ نابوليون بونابرت
تاريخ نابوليون بونابرت: ١٧٦٩–١٨٢١
اصناف
أبرز نابوليون في مدة الحصار مثلا في الاطمئنان والشجاعة النادرة لا يرتفع مثل عليه؛ إذ إنه لم يكن ليظهر حذاقته وخبرته في المشورة فقط بل كان يبرزهما في وسط العمل بذلك الهدوء الباسل الذي اضطر رؤساءه أن يحترموا فيه بسطة علمه ويعجبوا بسرعة ذكائه، أما هذه الجرأة المدهشة فقد كلفته سقوط جياد كثيرة تحته، وسببت له جرحا بليغا في فخذه الأيسر.
كان استعداده في العلم النظري الصرف ليس بذي أهمية، وكان احتقاره للتفوق والعلوم النظرية عظيما حتى إنه لم يكن ليستطيع أن يضع لنفسه حدا فيها، فالإدراك والتنفيذ كانا عنده أمرين متصلا بعضهما ببعض اتصالا كليا، ولكانت فكرته الرحبة قد أزعجته لو لم يشعر بروح وساعد يعملان معا على تحقيقها بشجاعة وثبات.
إن الحاجة إلى العمل تبعت نابوليون في كل مواقفه، فلقد حافظ عليها في وجوه حظوظه جميعها، وعندما أصبح من الصعب عليه أن يواصل تحقيقها، ختم الموت حياته، لقد مات في حين رأى نفسه مضطرا على أن يطوي تلك المخيلة الرحبة التي ملأت أوروبا بإبداعها العظيم.
لم يكن يطبق ذلك النشاط المتواصل في المسائل الكبرى فحسب، بل كان يضع يده على كل شيء عندما توجب عليه الظروف، ولا يخشى قط أن يعرض روحه الزاخر للمخالفة عند الاقتضاء.
ذات يوم في حصار طولون، بينما كان في أحد صفوف المدافع، قتل رجل من رجال المدفعية فاستولى على مدفع القتيل بسرعة، وأطلق بنفسه عدة طلقات، فكان من جراء ذلك أن أصيب بداء الجرب الذي كان القتيل مصابا به، وقد أسقمه ذلك الداء إسقاما لازمه في حروب مصر وإيطاليا، ولم يقيض له الشفاء إلا في عهد المملكة بعناية كورفيزار.
لم يكن في جميع رؤسائه من تملكه الحسد والسخافة ككارتو، بل إن القائدين دوتيل ودو كوميه كانا يظهران له احتراما ساميا ومراعاة لم يظهرا مثلها لأحد من مرءوسيهما قبله، حتى إن دو كوميه لم يجد بدا من الدهشة والاستغراب ساعة سمعه يقول له بعد الاستيلاء على البتي جيبرالتر: «خذ لنفسك الراحة، فلقد استولينا على طولون وتستطيع أن تنام فيها بعد غد!» إلا أن هذه الدهشة تركت محلا للإعجاب الشديد عندما تحققت تلك النبوءة الغريبة ، فكتب دو كوميه عندئذ إلى جمعية السلام العام يطلب منها رتبة قائد فرقة عسكرية للكومندان بونابرت قائلا: «كافئوا هذا الشاب وادفعوه إلى الأمام، فهو إذا بقي منكور الجميل لا يلبث أن يدفع نفسه بنفسه.» فنزل ممثلو الشعب عند هذا الطلب، ووظف القائد الجديد في إيطاليا تحت إشراف دو ميربيون وساعد بمقدرة عظيمة على أخذ ساورغيو.
كان نابوليون، مع تعلقه بقواعد الجمهوريين الغير الذين كانوا يعملون على إنقاذ البلاد بنشاط كثيرا ما رافقته مقاييس هائلة، يشرف على الأهواء والآراء التي كانت تصطدم بشدة لكيما تبقي تحت سطوة الحمى الثورية نفسها خلقا من الاعتدال وعدم التعصب، فإنه لم يستعمل نفوذه وقدرته إلا ليصون أخصامه السياسيين من الاضطهاد، وينقذ المهاجرين الذين ألقتهم الزوبعة في جهة فرنسا وكان بينهم عائلة شابريان.
كان روبسبيير في ذلك العهد في غضاضة العمر، وكان شديد الإعجاب بنابوليون، فسعى إلى أخذه إلى باريس قبل التاسع من ترميدور بوقت قصير، قال نابوليون: «لو لم أرفض بقساوة وصلابة، لما عرف أحد إلى أين قذفت بي تلك الخطوة الأولى وأي قدر كان ينتظرني.»
صادف نابوليون دوروك وجونو في حصار طولون، فملك دوروك محبة بونابرت وثقته، وأما جونو فقد امتاز في عينيه بهذه النادرة: «كان قائد المدفعية، عند وصوله إلى طولون، قد احتاج إلى الكتابة في المكان نفسه الذي كان يجهز فيه صفا من المدافع، فطلب أحد الجنود ليلازمه بصفة كاتم أسرار فمثل الجندي لديه، ولم تكد الرسالة تنجز حتى انطلقت قنبلة فملأتها ترابا، فقال العسكري بهدوء وسكينة تامة: حسنا، لم أبق بحاجة إلى التراب، كان هذا الجندي جونو، فهذا المثل في الشجاعة كان كافيا لإلفات نظر قائده إليه، فرقاه من ذلك الحين إلى أعلى رتبة في الجيش.»
لم يقدر فتح طولون الذي توقف على بونابرت الفتى أن يضعه في أمن من الاضطهادات، فذات مرة صدر أمر بقي بدون تنفيذ يطلبه إلى الديوان العرفي ليجيب على أسئلة تتعلق ببعض أوامر نظمها في تحصينات مرسيليا، ومرة غضب أحد الوكلاء من صلابة طبعه؛ إذ رآه غير مطيع لمطاليبه فلفظ ضده هذه الكلمة التي كثيرا ما كانت قتالة إلا أنها ذهبت هذه المرة أدراج الرياح: «يوضع خارج الشريعة.»
نامعلوم صفحہ