تقدمة الكتاب
المراجع والأسانيد
تاريخ نجد وملحقاته
النبذة الأولى: نواحي نجد1
النبذة الثانية: محمد بن عبد الوهاب والوهابية
النبذة الثالثة: آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد
سيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود
1 - وقعة الصريف
2 - احتلال الرياض
3 - الحرب في الخرج
4 - الاستيلاء على القصيم
5 - البكيرية
6 - الأتراك يفاوضون ويتفرجون
7 - كبوات الشيخ مبارك
8 - ذبحة ابن الرشيد
9 - الأتراك يرحلون
10 - ليلة الظافر
11 - تعددت الأعداء
12 - كسرة أبي الخيل
13 - الأقارب والعقارب
14 - الشيخ مبارك يستغيث
15 - الشريف حسين يشمر الأردان
16 - العرائف والهزازنة
17 - لا نصر ولا انكسار
18 - الأتراك والوحدة العربية
19 - فتح الحساء
20 - المفاوضون يتسابقون والشيخ مبارك يتعثر
21 - هادمة العهود ومفرقة الوفود
22 - يوم جراب
23 - العجمان
24 - الإنكليز والعرب
25 - هدايا وتعنيف من بلاد الشريف
26 - وفود الإنكليز والعرب
27 - وقعة تربة ومقدماتها
28 - البدو والهجر
29 - صلح صغير
30 - الإخوان في الكويت
31 - فتح حائل
32 - مأساة بيت الرشيد
33 - آخرة آل عائض
34 - الإخوان في العراق
35 - مؤتمر العقير
36 - النكاس، والذي يوسوس في صدور الناس
37 - ذروة المجد والخطر
38 - الإخوان على أبواب عمان
39 - سقوط الطائف
40 - يوم الانقلاب
41 - الشريف حسين
42 - الآباء يأكلون الحصرم
43 - رسل السلام
44 - إلى مكة
45 - إشاعات وحقائق
46 - الكتاب والسنة - والسيف
47 - المفاوضات
48 - الطيارات
49 - علينا وعلى رسل الرحمة
50 - المناجزات والمكالمات
51 - الملك علي يرحل
52 - عبد العزيز ملك الحجاز
53 - أهم الوقعات وتواريخها
الملحق
فتوى علماء نجد في تعصب بعض الإخوان
الأمر السلطاني المبني على فتوى العلماء
اتفاقية بحرة
اتفاقية حداء
معاهدة مكة المكرمة
المعاهدة بين بريطانية العظمى والحجاز ونجد
اتفاقية تسليم جدة
لائحة الهجر
تقدمة الكتاب
المراجع والأسانيد
تاريخ نجد وملحقاته
النبذة الأولى: نواحي نجد1
النبذة الثانية: محمد بن عبد الوهاب والوهابية
النبذة الثالثة: آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد
سيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود
1 - وقعة الصريف
2 - احتلال الرياض
3 - الحرب في الخرج
4 - الاستيلاء على القصيم
5 - البكيرية
6 - الأتراك يفاوضون ويتفرجون
7 - كبوات الشيخ مبارك
8 - ذبحة ابن الرشيد
9 - الأتراك يرحلون
10 - ليلة الظافر
11 - تعددت الأعداء
12 - كسرة أبي الخيل
13 - الأقارب والعقارب
14 - الشيخ مبارك يستغيث
15 - الشريف حسين يشمر الأردان
16 - العرائف والهزازنة
17 - لا نصر ولا انكسار
18 - الأتراك والوحدة العربية
19 - فتح الحساء
20 - المفاوضون يتسابقون والشيخ مبارك يتعثر
21 - هادمة العهود ومفرقة الوفود
22 - يوم جراب
23 - العجمان
24 - الإنكليز والعرب
25 - هدايا وتعنيف من بلاد الشريف
26 - وفود الإنكليز والعرب
27 - وقعة تربة ومقدماتها
28 - البدو والهجر
29 - صلح صغير
30 - الإخوان في الكويت
31 - فتح حائل
32 - مأساة بيت الرشيد
33 - آخرة آل عائض
34 - الإخوان في العراق
35 - مؤتمر العقير
36 - النكاس، والذي يوسوس في صدور الناس
37 - ذروة المجد والخطر
38 - الإخوان على أبواب عمان
39 - سقوط الطائف
40 - يوم الانقلاب
41 - الشريف حسين
42 - الآباء يأكلون الحصرم
43 - رسل السلام
44 - إلى مكة
45 - إشاعات وحقائق
46 - الكتاب والسنة - والسيف
47 - المفاوضات
48 - الطيارات
49 - علينا وعلى رسل الرحمة
50 - المناجزات والمكالمات
51 - الملك علي يرحل
52 - عبد العزيز ملك الحجاز
53 - أهم الوقعات وتواريخها
الملحق
فتوى علماء نجد في تعصب بعض الإخوان
الأمر السلطاني المبني على فتوى العلماء
اتفاقية بحرة
اتفاقية حداء
معاهدة مكة المكرمة
المعاهدة بين بريطانية العظمى والحجاز ونجد
اتفاقية تسليم جدة
لائحة الهجر
تاريخ نجد الحديث وملحقاته
تاريخ نجد الحديث وملحقاته
تأليف
أمين الريحاني
الملك عبد العزيز.
عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود
خرج من الكويت غازيا في شتاء 1318ه / 1901م.
وبويع في السنة التالية في الرياض على أن يكون إمام الوهابية وأمير نجد.
وفي صيف 1339ه / 1921م عقد مؤتمر في الرياض، حضره علماء نجد ورؤساء القبائل، فنودي بالأمير عبد العزيز سلطانا على نجد وملحقاته.
وفي 25 جمادى الثانية 1344ه/15 يناير 1926م بويع في مكة ملكا على الحجاز.
وفي 25 رجب 1345ه/19 يناير 1927م نادى به أهل نجد في اجتماع عقد في الرياض، ملكا على نجد وملحقاته.
تقدمة الكتاب
صاحب الجلالة الملك عبد العزيز المعظم
يا طويل العمر
منذ عهد الخليفة عمر حتى بداية عهدكم السعودي لم يسعد العرب بمن يجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويعزز شئونهم، فيجعلها تحت السيادة التي فيها الخير الأكبر للجميع؛ أي السيادة العربية الواحدة.
كان في بني أمية معاوية، وفي بني العباس المأمون، وفي الأيوبيين صلاح الدين. ثلاثة من عظام العرب، بل من عظام الرجال في التاريخ العام، ولكنهم وإن وصلوا إلى ذرى المجد ورفعوا أعلام العرب في أقاصي البلدان، فلم يتمكنوا من بسط سيادتهم على شبه الجزيرة كلها، ولا كان يهمهم العنصر الأكبر فيها، أي البدو، إلا كحطب للحروب.
ما استطاع الأمويون أن يوفقوا حتى بين القيسية واليمانية في الشام، ولا استطاع العباسيون أن يبسطوا نفوذهم حتى على عشائر الأحساء، وما فكر صلاح الدين - على ما يظهر - في تحسين حال البدو ونزع العداوات المتأصلة بينهم.
ولت الألف والثلاثمائة سنة وهؤلاء العرب لا يزالون كما كانوا، ما غير الزمان شيئا في أحوالهم المدنية أو بالحرى البدوية، ولا عمل فيهم عامل من عوامل التطور الاجتماعي.
ألف وثلاثمائة سنة! ثم كتب لهم بعمر ثان، بعث إليهم بعبد العزيز بن سعود ليجمع شملهم، ويوحد مقاصدهم، ويعزز جانبهم، ويؤسس ملكا عربيا هو منهم، وهو فيهم، وهو لهم.
يا طويل العمر، إن ما قمتم به من تحضير البدو، وتأسيس الهجر، لمن أمجد مآثركم القومية، ومن خير أعمالكم الإصلاحية، غير أن هناك عملا آخر فيه كذلك الخير الجزيل، بل فيه للعرب الخير الأكبر.
كانت الهجرة الأولى - هجرة البدو - من الشرك إلى التوحيد في الدين، ومن البادية إلى الحضارة. فعسى أن تكون الهجرة الثانية من الأمية إلى الألفباء، من الجهل إلى العلم، من الظلمات العقلية إلى النور.
بنيتم، يا طويل العمر، البيوت للبدو، هي الخطوة الأولى في تمدينهم، فعسى أن تخطوا الخطوة الثانية فتبنون لهم كذلك المدارس. إن في المدارس تحقيق كل ما تنشدون. المدارس تكمل عمل السيف، المدارس تمهد السبيل إلى الوحدة العربية الثابتة، الوحدة الشاملة، الوحدة العزيزة الوثيقة العرى.
وإني أسأل الله أن يطيل بأيامكم لتتمموا الإصلاح الذي باشرتموه؛ ولتحققوا الآمال العربية الكبرى المنوطة بجلالتكم.
الصديق المخلص لجلالتكم وللعرب
أمين الريحاني
المراجع والأسانيد
كنا في الرياض نسمر ورجال التاريخ من آل سعود، المعاصرين منهم والأقدمين، وكان الفضل في السمر التاريخي للسلطان عبد العزيز الذي أرسل إلي كتابين طبعا في الهند لاثنين من أدباء نجد ومؤرخيه؛ الأول: روضة الأفكار لحسين بن غنام الحنبلي، والثاني: علو المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن عبد الله بن بشر.
قرأت التاريخ فصرت أحسن الحديث وعظمة السلطان عن أجداده، وطالعت في «الروضة» شيئا كثيرا في محمد بن عبد الوهاب وله، فصرت أفقه معنى النهضة الروحية التي قام بها في وادي حنيفة كبيران من ربيعة هما هذا التميمي ابن وهاب وذاك المانعي الوائلي ابن سعود.
ولكني وأنا أطالع الكتابين أسفت لأسلوب مؤلفيهما القديم، ذاك الأسلوب المكلف المسجع الذي لا يحبب مطالعة التاريخ إلى قراء هذا الزمان، ووددت لو أن أحد المنشئين العصريين يلخص ابن بشر، أو يعيد كتابة تاريخ نجد منذ قرن ونصف قرن؛ ليطلع العامة والخاصة على ما جرى في وادي حنيفة من الأمور الدينية والسياسية، التي كان لها التأثير الأكبر في العرب بعد البعثة النبوية.
وكنت قد تذوقت السمر السلطاني في العقير، فروى عظمته شيئا من أخبار حروبه وابن الرشيد، وكان في الرواية فصيحا، بليغا، جذابا ومنصفا لخصمه. فقلت في نفسي، وقد فتح لي باب في الكتابة عجيب، حبذا القصة كلها أدونها للناس قصة هي تاريخ كله جديد، وأكثره لذيذ مفيد.
لم أجرؤ يوم كنا في العقير أن أفصح للسلطان عن رغبتي هذه، ولكني قلت لرفيقي السيد هاشم الرفاعي: إني أحب أن أكتب سيرة السلطان عبد العزيز، وإني مباشر العمل. وفي الحقيقة كنت قد دونت في مذكراتي الوقعة التي سمعت خبرها في الليلة السابقة.
وعندما جئنا الرياض وبدا من عظمة السلطان ذاك التعطف الخاص الجميل، فأنزلني في القصر، وكان يشرف منزلي كل ليلة بعد صلاة المساء، تشجعت فاستأذنت بأن أكون مؤرخه، فأجاب - وكان الجواب مبهجا: ما يخالف (لا بأس). فاستويت واقفا وشكرته، ثم قلت: وخير البر عاجله، لنبدأ إذا أمرتم الآن. - ما يخالف.
وكان على المنضدة الورق والحبر، فجلست أكتب ما رواه تلك الليلة من أخباره الأولى في الكويت.
وبعد ذلك، أثناء المدة السعيدة التي أقمتها في الرياض؛ أي ستة أسابيع، كان عظمته يروي من أخباره ما يستغرق ساعة واحدة كل ليلة، فنتعاون أنا والسيد هاشم في التدوين. وكنت أستوقف عظمته في بادئ الأمر مرارا لأفهم معنى لفظة من ألفاظه، أو عبارة نجدية الاصطلاح، وكنا فوق ذلك رغبة في التدقيق والتحقيق، نقرأ قبل أن نباشر الكتابة ما كتب في الليلة السابقة، فيصلح عظمته ما قد يكون فيها من الخطأ.
هو ذا المصدر الأول الأعلى لهذا التاريخ. أضف إلى ذلك رسائل عدة ووثائق رسمية أطلعني عظمته عليها، وأذن بنسخ بعضها. •••
بعد أن وصلنا في تاريخ نجد الحديث إلى مؤتمر العقير عدت إلى ابن بشر، وعقدت النية على تلخيص ما جاء فيه من الأخبار. وابن بشر - بقطع النظر عن أسلوبه - مدقق في الإجمال وصادق الرواية، إلا أنه ينتهي في تاريخه عند سنة 1267ه/1850م، فيكون بينه وبين النكبة الأخيرة (أي خروج آل سعود من نجد) فترة مقدارها أربعون سنة، لم يرو السلطان أخبارها؛ لأنه لم يكن متحققها كلها، ولا آذن أحد علماء الرياض، للسبب نفسه، بروايتها.
ولكنه عندما أزمعت الرحيل أعطاني كتابا إلى أحد عماله في شقراء، هو محمد السباعي، يأمره بأن يكتب إلى الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى في أشيقر (قرب شقراء)؛ ليرسل إليه تاريخه الخطي، فأطلع عليه وأنسخه ثم يعاد إلى صاحبه.
جئت شقراء، وراح نجاب السباعي إلى أشيقر فوجد بيت المؤرخ مقفلا، وقيل له: إن الشيخ إبراهيم في عنيزة. وكنا في طريقنا إلى عنيزة، فرجونا أن نجتمع بالمؤرخ فيها، ولكن السباعي - سلمه الله - لا يثق كل الثقة بالتقادير، فأمر نجابه بالرجوع إلى أشيقر يوم رحلنا من شقراء، وقال لي: إذا ظفر بالتاريخ أرسله إليك حيث تكون في بريدة أو في عنيزة أو في الحفر، وإذا اجتمعت بصاحبه في طريقك فأمسكه يا أمين بتلابيبه.
وصلنا إلى عنيزة فلم نجد فيها المؤرخ، ولا جاءنا من السباعي التاريخ، ولكن غداة دنونا من بريدة خرج النجاب يلاقينا، وكان قد جاءها رأسا من أشيقر، فسلم وأخرج التاريخ من جيبه قائلا: بعد أن تقضي حاجتك منه رده إلى السباعي فيرده إلى صاحبه. وهكذا كان.
قد سرني من تاريخ ابن عيسى - على ما فيه من ركاكة وسذاجة - أنه خلو من التقعر والسجع، وإليك بمثال واحد منه:
خرج عليهم «محمد ابن الإمام فيصل على أهل عنيزة»، واقتتل الفريقان قتالا شديدا، وصارت الهزيمة أولا على محمد ابن الإمام ومن معه، وتتابعت هزيمتهم إلى خيامهم، فأمر الله - سبحانه وتعالى - بالمطر، وكان غالب سلاح أهل عنيزة البنادق، فبطل عملها من شدة المطر فكر عليهم محمد وأصحابه، فهزموهم، وقتلوا منهم أربعمائة رجل.
في ابن بشر وابن عيسى معا يتم إذن تاريخ آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد. ولولاهما لما تمكنت من كتابة النبذة الثالثة من هذا التاريخ. على أنه، وأنا أكتبها، خطر لي أن أقابل بين المؤرخين الوطنيين والمؤرخين الأجانب، خصوصا في الحملات التي جردها على نجد محمد علي باشا وابناه طوسون وإبراهيم.
والتاريخ ذو شجون، فقد جرتني فتوحات سعود الكبير إلى الحجاز، فمكة المكرمة، فالتقيت هناك ببعض الأوروبيين المستشرقين المتنكرين، فاستكشفت أخبارهم وآثارهم لأطلع على رأيهم في الوهابية يومئذ وفي أهل نجد، فعرفت أن السويسري بركهارت كان مقربا من محمد علي، والإسباني باديا إي لبلخ كان جاسوسا لنبوليون الأول. على أنهما متفقان في نزعتهما العلمية، وصدق الرواية، وإن اختلفا في المقاصد السياسية.
جاء بركهارت الحجاز قادما من السودان يوم كان محمد علي في الطائف، وعندما وصل إليها سأله الباشا عن أحوال تلك البلاد التي كان يحكمها يومئذ ابنه إبراهيم.
قال بركهارت في رحلته العربية
Travels in Arabia, John Lewis Burkhardt, London: Henry Colburn, 1829 :
وسألني الباشا إذا كان ابنه إبراهيم محبوبا هناك، فأجبته بلغة الصدق: إن مشايخ القرى كلهم يكرهونه؛ لأنه ردعهم عن الاستبداد بالفلاحين، أما الفلاحون فيحبونه حبا جما.
ولا شك أن محمد علي الكبير كان يحب بركهارت لعلمه، ويحترمه لصدق لهجته، فأذنه بالدخول إلى مكة وبزيارة المدينة.
أما المستشرق الإسباني الذي انتحل اسم علي بك العباسي، فلم يكن له من أولي الأمر نصير وما فاز بغير جده ودهائه. أحببت أن أطلع على رحلته التي طبعت بالإنكليزية بلندن، فكتبت إلى كتبي مشهور هناك أطلبها، فأجاب أن الكتاب غير موجود في المكاتب، وعرض أن يعلن في الجرائد عل هناك أحدا عنده نسخة يبيعها، فقبلت، وبعد شهر جاءني منه كتاب يقول إنه حظي بنسخة من الطبعة الأولى، سليمة تامة، مجلدة بجلد ثمين، ثمنها عشرون ليرة إنكليزية فقط!
وكنت يومئذ أراجع التواريخ الإفرنسية في نهضة محمد علي المصرية، فقرأت ما كتبه إدوار غوان
L’Egypte au XIX Siécle, Edouard Gouin, Paris 1847 ، ويممت المكتبة الشرقية لأطالع تاريخ مانجن (Histoire de l’Egypte sous le Gouvernement de Mohammed Aly, Felix Mengin, Paris 1823) ، فلم أجد منه غير الجزء الثالث وهو ملحق للتاريخ، كتبه جومار
E. F. Jomard
فجئت مكتبة الجامعة الأميركية، فحظيت فيها ليس بمانجن فقط بل برحلة علي بك أيضا! وهي طبعة أميركية عن الطبعة اللندنية الأولى (Travels of Ali Bey Philadelphia: John Conrad, 1816) .
أما مانجن فقد وجدت فيما راجعت لغرضي أنه ينقل أحيانا عن تاريخ الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، ووجدت أن الرواية فيما يختص بحوادث نجد لا تختلف كثيرا عن رواية ابن بشر، إلا أن في تاريخ المصري، وبالتالي الإفرنسي، بعض الأشياء التي فات ابن بشر ذكرها، أو أنه كان يجهلها. كالصندوق الصغير مثلا الذي حمله عبد الله بن سعود إلى الآستانة، وفيه بعض أعلاق الحجرة النبوية التي كان يأمل أن يسترضي السلطان بها، فيعطيه الأمان ويؤذنه بالرجوع إلى بلاده، هذا فيما يختص بالنبذة الثالثة. •••
أما النبذة الثانية، محمد بن عبد الوهاب والوهابية، فقد كان لي في كتابتها عون آخر غير ابن غنام. أجل قد طالعت وأنا في الرياض رسائل ابن تيمية وغيرها من الرسائل الحنبلية في كتاب طبع بمطبعة المنار بمصر.
وبما أننا، وقد ذكرنا النبذات عكسا في النبذة الأولى: نواحي نجد، وهي لا تخلو من صعوبة إذا تحرينا التدقيق في ضبط الأسماء، أسماء البلدان، فكتب السياح المستشرقين تضلل غالبا في أعلامها، وكتب الأقدمين العربية تروي أسماء بلدان دثرت، وأسماء للبلدان التي لا تزال في عالم الوجود غير المصطلح عليها لفظا ومبنى. لا بد إذن من الاستعانة بأحد علماء نجد المعاصرين، وبما أن الوقت كان قد ضاق دون ذلك يوم كنت في الرياض التمست من عظمة السلطان أن يأمر أحد العلماء بأن يرسل مطلوبي إلى الفريكة. فأرسل إلي بدل أسماء النواحي والبلدان نسخة من كتيب خطي عنوانه: مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد، تأليف راشد بن علي الحنبلي، فجاء عونا لي في تحقيق أنساب آل سعود، وابن عبد الوهاب، وعرب الشمال، أي مضر وربيعة.
وكنت قد استعنت عندما مررت بعنيزة بالشيخ عبد الله بن محمد العبد العزيز البسام، فكتب لي لائحة بأسماء بلدان القصيم وسدير والعارض، وبت أنتظر وصول المعلومات الأخرى، فمرت الأيام وتزاحمت الحوادث في نجد، ولم تكتب النبذة الأولى.
وكانت حرب الحجاز، وكان من حظي أن أتشرف ثانية بزيارة السلطان عبد العزيز، فذكرته - ونحن في جدة - بتلك النبذة وبما وعدني به لإتمامها، فقال: ما يخالف. ولكني وجدته مشغولا في مسائل أهم منها، فسكت ثم سألت الدكتور عبد الله الدملوجي عن بعض البلدان، فقال: لا يستطيع أن يجيب أسئلتك هذه غير السلطان، وهو الملقب بجغرافية البلاد العربية.
السلطان الأستاذ! ولحسن الحظ عندما جئته ذات يوم بعد الظهر حسب العادة، لقيته يطالع كتابا للسيد محمود شكري الألوسي، عنوانه تاريخ نجد (المطبعة السلفية بمصر) فسألته رأيه فيه، فقال: لا بأس به، ولكنه لا يخلو من أغلاط في أسماء البلدان. فقلت وقد تمسكت بتلابيب الفرصة: إذن، يا طويل العمر، عليكم بإصلاحها.
وأخرجت القلم والدفتر من جيبي قائلا: أتأمرون بأن تكونوا الآن الأستاذ وأن أكون أنا التلميذ؟ أتأمرون بأن أبدأ سؤالاتي؟
فأجاب عظمته: وما هي؟ فذكرت بعضها، فقال: الأمر يطول، تأذنون إذن بأن أمد رجلي.
فقلت مبتسما: وهل في ذلك إشارة إلى قصة الإمام أبي حنيفة؟
1
فرفع يديه ضاحكا، وقال: لا والله، لا والله، القصة لا تنطبق عليك.
وكانت ساعة نادرة ذكرتني بليالي الرياض، ومكنتني من كتابة النبذة الأولى. •••
أما مراجع هذا التاريخ الأخرى فأهمها ما يأتي:
الكتاب الأخضر النجدي.
كتاب الوفد الهندي.
الكتاب الأحمر الحجازي.
تقرير المندوب السامي لحكومة بريطانية العظمى في العراق من أول أكتوبر سنة 1920 إلى آخر مارس سنة 1922.
تاريخ الكويت لعبد العزيز الرشيد (المطبعة العصرية بغداد).
مذكرات الفريق شفيق كمالي باشا (متصرف عسير والقائد العام فيها من سنة 1908 إلى سنة 1912، ووالي البصرة سنة 1913) نشرت تباعا في الأهرام في شهري نوفمبر وديسمبر سنة 1924.
عنوان المجد في أحوال بغداد والبصرة ونجد، تأليف إبراهيم فصيح الحيدري البغدادي (نسخة خطية).
ومن الكتب الإنكليزية:
قلب البلاد العربية (The Heart of Arabia. H. St. John
.
الطواف في البلاد العربية (Wanderings in Arabia, Charles M. Doughty, Duckworth: London) .
التغلغل في البلاد العربية (The Penetraion of Arabia, D. G. Hogarth. Alston Rivers: London) .
إنك ترى إذن مما تقدم أن أهم مصادر النبذات الثلاث هي نجدية؛ أي إن ابن بشر هو ركن النبذة الثالثة، وابن غنام وابن تيمية ركنا النبذة الثانية، والسلطان عبد العزيز الملقب بجغرافية البلاد العربية، والشيخ عبد الله البسام الذي قال فيه عظمة السلطان: إنه من العارفين المدققين، هما مرجعي في النبذة الأولى.
أما السيرة فقد قصصت قصتها، وقد أشفعت المصدر الأول الأعلى بما استوجبه التدقيق من مراجعات ما طبع في البلدان المجاورة لنجد، وما نشره السياح المستشرقون وبعض الترك والعرب فيما يختص بالبلاد العربية لخمسين سنة مضت.
ولا بد من ذكر مرجع آخر هو رحلتي العربية الأولى، ورحلتي الثانية إلى الحجاز. فقد كنت أثناء ذلك أستقي الأخبار من مصادرها العليا، وأسمع من ذوي العرفان ممن حدثتهم ما يثبت أو يكمل الرواية السلطانية. فقد كان عظمته يقتضب الكلام فيما يتعلق بشخصيته، فيمسك النفس عما فيه فخرها والثناء عليها. وإني أختم هذا الفصل بقصة واحدة من القصص العديدة التي كنت أسمعها، والتي تمثل الحلم والكرم في شخصية هذا العربي الكبير.
عندما كانت الحرب قائمة بينه وبين أقاربه «العرايف» في الحساء أرسل خصمه سلمان بن محمد بن سعود وفدا من قبله إلى قطر، وعمان، ومسقط، والبحرين يستنجد شيوخها على السلطان عبد العزيز. وكان العجمان يومئذ حلف «العرايف»، وكان أحد رجال الوفد من هذه القبيلة، فسافروا إلى عمان ومنها جازوا الخليج إلى لنجا على الشاطئ العجمي، وهم يقصدون سلطان الحمادى حاكم تلك الناحية الذي يدعي أن العجمان من العجم، فأعطاهم لذلك مائة بندقية وأربعة آلاف روبية، ثم جاءوا البحرين فأعطاهم الشيخ عيسى مائة بندقية واثني عشر ألف روبية، وقد ساعدهم آل زايد بعمان بأكثر من ذلك.
عاد رجال الوفد موفقين، وبينا هم مسافرون إلى العقير التي كانت يومئذ بيد العجمان، ومعهم ما جمعوا من الأسلحة والمال لمحاربة ابن سعود، علم بهم الشيخ عبد الرحمن بن سويلم أمير القطيف. فسارع إلى إرسال عساكر في مراكب شراعية، طاردوا مركب العدو بين البحرين والعقير، ثم حاقوا به فحجزوه، وألقوا القبض على ثلاثة من رجاله.
حدثني أحد الثلاثة، وهو العجماني، قال: جاءوا بنا إلى القطيف وأرسلونا مقيدين إلى السلطان عبد العزيز بالحساء، فلما وصلنا أمر بفك قيودنا وبأخذنا إلى المضيف. وبعد ثلاثة أيام أحضرنا إلى المجلس وكل واحد منا لا يرى من قسمته غير الموت، فخاطبنا السلطان قائلا: يا عيالي، نحن لا نقهر أحدا، فمن كان منكم يبغي معزبه (شيخه أو أميره) فإليه به، ومن كان منكم يبغينا فأهلا ومرحبا. فقال واحد منا: أنا، يا طويل العمر، أفضل نارك على جنة سلمان، فأمر له ببندقية وكسوة وأدخله في الجيش. وقال الآخران: ودنا نروح إلى معزبنا نعتز واياه وننذبح واياه. فأمر لكل منهما بكسوة وذلول وشيء من المال، ثم أطلق سراحهما.
وفي التاريخ بقية القصة التي انتهت بتسليم العرايف، فكان الحلم أنجع بهم من السيف.
تاريخ نجد وملحقاته
النبذة الأولى: نواحي نجد1
ليس في نجد أرض يستوي سطحها وسطح البحر، فإنك إذا جئت البلاد من خليج فارس تمر بالحساء، ثم تأخذ بالتصعيد - والعرب يقولون التسنيد - وتستمر مصعدا، دون أن تدرك ذلك في أغلب الأحايين، إلى العارض (1800 قدم)، فالشعرة (2000)، فالحرة الصغيرة (4000)، فرأس السيل (4500)، ومن هناك تنحدر إلى مكة.
وإذا جئت نجدا من البحر الأحمر، من جدة مثلا، فتصعد إلى الطائف (6170 قدما) وتشرف بعد ذلك على جبل حضن - من رأى حضنا فقد أنجد - ومنه تنحدر إلى نجد، وتستمر في الانحدار دون أن تدرك ذلك؛ لأنه في أكثر الأحايين غير محسوس، حتى تصل إلى الحساء.
وبكلمة أخرى إذا شطرنا شبه الجزيرة شطرين من جدة إلى العقير على الخليج، يظهر نصفها في هذا الشكل المخروط:
إن نجدا ليصدق إذن معنى اسمه؛ أي هو المرتفع من الأرض. وفي هذه الأراضي المرتفعة شمالا وغربا وجنوبا أماكن تختلف في العلاء والوطاء بعضها عن بعض؛ فالقصيم مثلا يعلى ألف قدم فوق العارض، وحائل تعلى نحو ذلك فوق القصيم، واليمامة هي خمسمائة قدم دون الرياض.
وفي هذه البلاد السهول والجبال، وصحاري الرمال، والأودية والشعب، والواحات والقفار. هناك من الأراضي المنبسطة الفسيحة التي لا كلأ فيها ولا ماء كالصمان، ومن صحاري الرمل التي تكثر فيها المراعي كالدهناء، ومن السهول التي تزرع مرتين في السنة كالوشم، ومن الواحات التي تغزر فيها المياه وتتعدد البساتين؛ كالعارض، والأحساء، والأفلاج، ومن البقاع العالية الطيبة التربة والهواء كالقصيم وجبل شمر.
أما أطول سلسلة من جبالها فهي التي كانت تدعى قديما العارض أو عارض اليمامة. والعارض ما أعرض أو برز من الأرض، قال الشاعر:
وأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
وبما أن هذه السلسلة من الجبال تطوق قلب نجد من القصيم إلى وادي الدواسر، فأهل نجد يسمونها جبل طويق، وبما أن الأسرة السعودية اتخذت الرياض مركزا لها وقاعدة لبلاد نجد، فقد أطلقوا على البلد اسم الناحية، أي العارض، فنقول اليوم: طويق والعارض كما كان الأقدمون يقولون: اليمامة.
واليمامة هذه، التي كانت من أشهر البلدان النجدية قديما، والتي لا يزال اسمها يرن في كتب الأدب والشعر، هي اليوم واحة صغيرة تكاد تخنقها النفود، فيها أربع قرى وبعض «القصور» مساحتها نحو ميل واحد مربع، وعدد سكانها لا يتجاوز الألفين، كلهم مزارعون من بني مرة وقحطان وبني هاجر. وهم يزرعون في بساتينهم الرمان والعنب والتين، وبعض القطن، والحنطة والبرسيم الذي يسمونه الجت. هذه البقية من اليمامة هي في وادي الخرج المنخفض الذي تصعد منه جنوبا إلى الأفلاج، وشمالا إلى الرياض. ولكننا قبل أن نعود إلى العارض سنعلم القارئ بالنواحي الكائنة جنوبا منه. إن أكبرها وأخصبها:
الأفلاج
التي تكثر فيها الآبار، والعيون، والنخيل، وتزرع فيها الحبوب والثمار وشيء من القطن. قاعدتها ليلى، على سبع مراحل من الرياض، وأكبر قراها البديع، والأحمر، والهدار. وفي هذه الناحية بقعة تدعى السيح، من العيون السائحة، بل فيها بحيرات عدة هي من مياه جبل طويق التي تصب غربا بجنوب تحت أرض الوشم وفي وادي حنيفة، ثم تظهر على وجه الأرض بصورة دائمة في الأفلاج. أما العرب الذين يقطنون هذه الناحية فهم من قحطان والدواسر وسبيع. إن بعد الأفلاج إلى الجنوب الغربي:
وادي الدواسر
وفي طرفه الشمالي ناحية تدعى السليل وفيها من القرى الدمام، وحنابج، ورويسة، وفرعة وغيرها، وفي طرفه الجنوبي ناحية تثليث ومن قراها العمق، ومطيلة، وعين، وخريقة. أما سكان الوادي فأغلبهم من عرب الدواسر الأشاوس البدو منهم والحضر. بعد الوادي جنوبا على ثلاث مراحل منه:
نجران
لبني يام الذين كانوا في الماضي خارجين على كل سلطة مشروعة، فما دانوا لأحد غير شيوخهم، ولكنهم منذ ثلاث سنوات دخلوا في الرعوية السعودية فصاروا يدفعون الزكاة طائعين. إن أكبر قرى نجران مخلاف وحبونة، وعند نجران تنتهي الحدود الجنوبية الغربية لسلطنة نجد. نعود إذن شمالا بشرق إلى الأفلاج ومنها إلى:
الخرج
تلك الناحية الخصبة التربة، الغزيرة المياه، التي تزرع في أرضها الحبوب، وفي بساتينها الثمار على أنواعها، من مشمش ودراق وتين وعنب، وتربى فيها أحسن الجمال. أما قاعدة الخرج فهي الدلم على ثلاث مراحل من الرياض، وأهم بلدانها زميقة، ونعجان، واليمامة، والسلمية في طرفها الشمالي.
ثم وادي الفرع إلى الجنوب، وفيه بلدان، أو «بلادين» كما يقول أهل نجد، وسط جبل اليمامة، أكبرها الحوطة التي تبعد عن الدلم جنوبا ثمانية وأربعين ميلا. وفي أعلى الوادي الحريق على مسافة أربعة وعشرين ميلا من الحوطة. أما أهل هذين البلدين فمن بني تميم الأشداء، ومن غلاة الحنبلية المحافظين على تقاليدهم وعزلتهم الغيورين على استقلالهم.
عندما دانت بلاد نجد لابن الرشيد ظل أهل الحوطة، التي تدعى حوطة بني تميم، خارجين عليه متمردين. وعندما عاد ابن سعود ونازعه السيادة ابن عمه سعود العرافة نصر أهل الحوطة والحريق سعودا على الشاب عبد العزيز. وكان ما هو مدون في هذا التاريخ من انتصار عبد العزيز، ولكنه ضمن لأهل هذه الناحية - أي الفرع - استقلالهم النوعي على شريطة أن يعترفوا بسيادته، فيدفعون الزكاة ويلبون الدعوة للجهاد. ومن البلدان الأخرى في الخرج نعام، ومفيقر، والحلوة التي يغلب في سكانها عرب عنزى.
ثم حائر في طرف وادي حنيفة الجنوبي، على مسافة خمسة وعشرين ميلا من الرياض، وهي تدعى حائر سبيع؛ لأن سكانها من عرب هذه القبيلة النازحين من الغرب، وفيها أيضا السهول حلفاء سبيع.
ومن حائر شمالا بعد بضع ساعات من السير، نصل إلى البلدة التي كانت قديما تشاطر اليمامة الشهرة والمجد، هي المنفوحة بلدة الشاعر زهير بن أبي سلمى القريبة جدا من الرياض، والتي أمست اليوم منفوحتين؛ الواحدة القديمة ولا تزال خرائبها بادية للعيان، والثانية الجديدة على رمية سهم منها.
إن السبب في بوار أودية مثل وادي الرمة (الغرب يلفظونها مخففة)، وخراب مدن مثل اليمامة والمنفوحة، هو إما انقطاع المطر أعواما متوالية فتجف العيون والآبار فينزح أهلها، وإما تتهاطل الأمطار التي ترسل السيول في البلاد فتغمر ما يكون في طريقها من العمران وتتركه خرابا يبابا. إن من هذه الأخربة ما نشاهده في الخرج، وفي وادي حنيفة، وفي الباطن من وادي الرمة.
العارض
قلت إن العارض هو اسم الناحية والعاصمة معا، فيه واحة جميلة تمتد من سفح جبل طويق شرقا إلى المنفوحة، وفيه العيون العذبة، والقلبان - الآبار - المتعددة، والبساتين التي يزدهي فيها النخيل، وتتماوج في ظلالها اخضرار الجت والبقول.
ويلحق بالرياض أو العارض عدة قرى كبيرة؛ كالدرعية الجديدة على ثلاث ساعات إلى الشمال منه، وعزرة، وأبو كباش، التي كانت مسكن آل سعود الأقدمين قبل أن أسست الدرعية، والعمارية، والجبيلة، إحدى قرى بني حنيفة ومسكن مسيلمة قديما، والعيينة بلد آل معمر ومسقط رأس محمد بن عبد الوهاب.
وهناك جنوب العاصمة المنفوحة، والمصانع، وحائر سبيع التي مر ذكرها، وغربا منها في طرف الحمادة الجنوبي ضرمة (تلفظ أضرمة) المؤلفة من قصور ومزارع عديدة تسمى المزاحميات، وجنوبي ضرمة الغطغط بلدة الإخوان المشهورين ببسالتهم إخوان عتيبة، ثم البرة على مرحلة منه شمالا، وهي أول بلدة في الجهة الجنوبية من الوشم، أما:
الحمادة
التي ذكرت فهي سهل يمتد من الشمال إلى الجنوب بين جبل طويق ونفود السر، وفيه الزلفى وغيرها من القرى، بعضها في النفود الكائنة بينها وبين عنيزة، وبعضها في السهل ، ومن هذه القرى مليح بين الزلفى والغاط وفريسان، وهما هجرتان من هجر مطير، وجنوبي فريسان الداهنة من هجر عتيبة.
أما الغاط التي هي بين المجمعة قاعدة سدير وبين الزلفى، على مرحلة واحدة من الاثنتين، فهي مشهورة بأنها مسكن «السدارة» من أعيان أهل سدير، الذين صاهرهم آل سعود قديما وحديثا
2
وأمروهم في البلاد. فقد كان تركي السديري أميرا على عمان في الزمن الغابر، وكان ولده أحمد جد عبد العزيز أميرا على الأحساء في عهد الإمام فيصل، وولداه محمد وعبد المحسن متوليين الحكم في القصيم وفي المجمعة.
نعود الآن إلى النواحي التي هي شمالي الرياض، وأولها:
الشعيب
التي تفصل بين العارض وسدير، قاعدتها حريملة على مرحلتين من الرياض (عمرت سنة 1045)، وأهم بلدانها قرينة (عمرت سنة 1101ه)، وملهم، وصلبوخ، وسدوس التي فيها آثار قديمة قيل إنها حميرية، ثم:
المحمل
وثادق قاعدتها التي عمرت سنة 1079، والصفرات هي والبير تدعى كلها اللهزوم. أما الصفرات فهي عدة بلادين قريبة من ثادق، وهناك البير جنوبي الصفرات (عمرت سنة 1015)، ورغبة (عمرت سنة 1079). من الشعيب والمجمل نستمر مصعدين في جبل طويق إلى:
الخط البارز في هذه الخارطة هو خط الحدود لملك ابن السعود.
سدير
أكبر نواحي الجبل، وقاعدتها المجمعة (عمرت سنة 820) التي يقال لها ولحرمة منيخ، والتي تبعد مائة ميل عن عنيزة إلى الشرق، تفصل بين البلدين نفود كبيرة تمتد جنوبا إلى وادي السر. أما بلدان سدير فعديدة ، ومن أكبرها وأقدمها حرمة (عمرت سنة 770) ووشي، وجوي، وجلاجل، والتويم (عمرت سنة 700) والداخلة، والحصون، والجنوبية، والعطار، والجنيفة، والعودة، وعشيرة، والخطامة، وتميريم، والخيس، والروضة (روضة سدير).
الوشم
3
هذه الناحية هي غربي جبل طويق، وغربا بجنوب من سدير. قاعدتها شقراء، وأهم بلدانها ثرمدا، والجريفة، والقراين، وأشيقر على ساعتين من شقراء، والفرعة على رمية سهم من أشيقر، والقصب على ثمانية عشر ميلا من شقراء، ومرآة بلد امرئ القيس، ثم الحريف على مرحلة واحدة من روضة سدير.
القصيم
لم تكن تعد في الماضي من نواحي نجد، وقد لا يجوز أن نعدها اليوم إلا من ملحقاته، فقد طالما تنازعت السيادة فيه كبيرتا بلدانه عنيزة وبريدة، ونزعت كلتاهما إلى الاستقلال عن ابن الرشيد وعن ابن سعود.
إن في هذا التاريخ الكفاية عن البلدين وأمرائهما، وفي «ملوك العرب»
4
الكفاية في وصف أهل القصيم وسجاياهم المرنة التي تختلف عن سجايا أهل الجنوب.
أما أهم بلدان هذه الناحية، بعد بريدة وعنيزة، فهي البكيرية (عمرت سنة 1180) والهلالية، والخبراء (عمرت سنة 1140) والبدايع، وكلها لا تبعد عن عنيزة أكثر من خمسة وعشرين ميلا، ثم الرس وملحقاته، وهي على مسافة خمسة وثلاثين ميلا غربي عنيزة، ثم النبهانية على مرحلتين منها إلى الغرب، والمذنب على مرحلة منها إلى الجنوب، والقصيبا على مرحلتين منها إلى الشمال، والأسياح، وعين فهيد، والطرفية على مرحلتين شرقا من بريدة. وهناك شمالا بغرب من القصيم، على خمس مراحل منه:
جبل شمر
أي جبلا طيء، أجا وسلمى، وما يتبعهما من السهول والجبال. أما حائل عاصمة شمر، فهي من أكبر المدن العربية وأجملها، سكانها نحو ثلاثين ألف وهم مثل أهل القصيم يكثرون الأسفار والاتجار، ويبارون بالترفه أهل الأمصار، وبالبسالة والشجاعة أهل القفار.
وهناك قرى عديدة منها قفار، وقبة، وبقعاء، وسميراء، وكهفة هي كلها تابعة لحائل. وإذا سرنا منها شمالا بغرب واجتزنا النفود الكبرى نصل إلى جوف آل عمرو أو:
وادي سرحان
التي كانت لعرب الرولة من عنزى فاستولى عليها ابن الرشيد، ثم بعد سقوط حائل دخلت في حوزة ابن سعود، قاعدتها الجوف وأهم قراها سكاكة، وكارة، وقرايا الملح، وأثرة، وقراقر. هناك عند الطرف الشمالي من وادي سرحان الحدود الشمالية الغربية لسلطنة نجد.
الأحساء
هي أكبر وأخصب النواحي، بعد جبل شمر والقصيم، التابعة لسلطنة نجد، جاء في الكامل للمبرد:
5 «الحساء جمع حسي وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا أمطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنع الرمل السمائم أن تنشفه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء، يقال: حسي، أحساء، وحساء.»
هذا الوصف علمي صحيح. إلا أن في الأحساء واحات متفرقة أهمها واحتا الحساء والقطيف، وبينها أرض رملية مثل التي وصفها المبرد . وفي هذه الواحات المياه الجارية، والعيون العذبة، والبساتين الغناء، والأرض التي تصلح للحراثة، فتزرع فيها الحنطة، والشعير، والسمسم، والذرة، والأرز. وفي الحساء قرب الهفوف عيون معدنية متنوعة، ماؤها حارة وباردة، أهمهما عين نجم قرب المبرز التي يتغنى الشعراء بمائها العجيب - مائها المعدني الحار.
قد كانت الحساء في أيام القرامطة عاصمة مقاطعة هجر، ثم استولى عليها الأمراء العيونيون
6
وفي سنة 926ه/1520م في عهد السلطان سليم الأول، دخلت في حوزة الدولة العثمانية التي كانت قد استولت على اليمن، فعدت الحساء من الولايات اليمانية، ثم أخلتها الدولة فاستولى عليها بنو خالد إلى حين ظهور آل سعود الذين أدخلوا بني خالد في طاعتهم.
وعلى أثر الشقاق الذي حدث بين أبناء الإمام فيصل سنة 1287ه/1870م، يوم كان مدحت باشا متوليا على بغداد، عادت الدولة إلى الأحساء فاحتلتها، وأطلقت عليها تيمنا اسم لواء نجد، ولكنها في مدة أربعين سنة لم تتمكن من بسط سيادتها على باع من الأرض خارج الواحات.
هذي هي نواحي نجد وأهم ملحقاتها ما عدا عسير، وفيها يسكن الحضر من أهل البلاد، أما البدو فسكناهم الخيام، وقد قل عددهم في عهد السلطان عبد العزيز بسبب الهجر (القرى المستحدثة) التي شرع في تأسيسها منذ عشرين سنة،
7
فسكان نجد إذن هم اليوم أساسا ثلاث طبقات؛ أي البدو، وأهل الهجر، والحضر.
النبذة الثانية: محمد بن عبد الوهاب والوهابية
ولد سنة 1115ه/1703م، توفي سنة 1206ه/1791م
من مؤلفاته
التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد.
السيرة المختصرة.
كشف الشبهات.
كتاب الكبائر.
أصول الإيمان.
فضائل الإسلام.
أحاديث الفتن.
مختصر زاد المعاد.
مختصر صحيح البخاري.
مسائل الجاهلية.
مجموع الحديث.
استنباط القرآن.
رسائل عدة ذكرها ونقل بعضها حسين بن غنام في تاريخه.
نسب محمد بن عبد الوهاب
إن الدعاء كله لله، يكفر من صرف منه شيئا لسواه.
محمد بن عبد الوهاب
محبة الأولياء والصالحين إنما هي اتباع هديهم وآثارهم والاستنارة بضياء أنوارهم .
محمد بن عبد الوهاب
المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.
من رسالته إلى عبد الله بن سحيم
محمد بن عبد الوهاب والوهابية
في وادي حنيفة ظهر مسيلمة الذي حارب النبي والإسلام فكان مدحورا، قتله خالد بن الوليد في وقعة الروضة. وفي وادي حنيفة، بعد ألف ومائة سنة ظهر محمد بن عبد الوهاب الذي كافح البدع والخرافات فكان من الفائزين.
قبل ظهور هذا المصلح النجدي كان العرب في نجد، بل في الشطر الشرقي من شبه الجزيرة، منغمسين في عقائد وعبادات جاءتهم من النجف ومن الأهواز، أو بالحري من بلاد فارس، فكان لا يزال لإباحات القرامطة أثر في الأحساء، وكانت للقبور شفاعة لا شفاعة فوقها، فأحلها الناس المحل الأعلى في العبادة والتوسل. والحق يقال: إن هذه البدع أو هذه الخرافات القديمة أبعدت العرب بادية وحاضرة عن حقيقة الدين الكبرى وجوهره الأزلي الحي.
أبعدتهم عن الإسلام الذي جاء يبطل عبادة الأوثان وكل ما فيه رائحة العبودية لغير الله، فعادوا إلى ما كان فيه أجدادهم وأمعنوا أكثر منهم في الخزعبلات والأضاليل، فلم يتوسلوا فقط إلى قبور الأولياء بل تعددت القباب فوق القبور فصارت الشفاعة الكبرى للأحجار، بل كانوا يعبدون حتى الأشجار، فيعلقون على أغصانها الرقاع ويقدمون لها النذور. ومن هذه الأشجار في نجد خصوصا في كهوف جبل طويق ووادي حنيفة، ما كانت تفوق سواها شهرة، وتمتاز اسما وفعلا في نظر عبادها الذين كانوا يجيئونها من أقصى نواحي الجزيرة متبركين متوسلين.
قلت: إن هذه العبادات أبعدت العرب عن الإسلام بل أنستهم حقائقه وأركانه، فقل منهم من كانوا يقرءون القرآن ويفهمون، قال المؤرخ النجدي: «أهمل الناس الصلاة والزكاة والحج وكانوا لا يعرفون حتى مركز الكعبة.» وبكلمة أوضح عادوا إلى الوثنية، فجاء ابن عبد الوهاب يعيدهم إلى الإسلام، فكان منذ نشأته إلى يوم وفاته يدعو للرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد انتشرت دعوته في نصف قرن بين الحاضرة والبادية، وعمت في عهد سعود الكبير البلاد العربية جمعاء.
نعم قد كان في نجد علماء يتبعون الإمام أحمد بن حنبل في المذهب والأحكام، ولكن علمهم لم يخل مما يشوب طريقة المجتهدين والمتصوفين، فكانوا من هذا القبيل يشبهون علماء الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى.
ومن كبار أولئك العلماء النجديين جد صاحب الترجمة محمد بن سليمان بن علي التميمي. قد كان الشيخ محمد رجلا فاضلا كريما، تولى منصب الفتوى في نجد، ودرس علمي التفسير والحديث، وكان لحبه العلم ينفق على الطلبة من ماله الخاص ناهيك بأن بيته كان على الدوام مفتوحا للفقراء والمظلومين اللاجئين إلى بره وإحسانه.
وكان ابنه عبد الوهاب مثله من رجال العلم والحجا، تولى القضاء في بعض بلدان العارض فكان عادلا حكيما، وألف رسائل عدة في الفقه والتفسير، ولقن ابنه محمدا شيئا من العلوم التي كان يحسنها، أما سجيته الكبرى تلك التي تميز العالم الحقيقي عن سواه من الناس إنما هي الوداعة والاتضاع. وناهيك بها من سجية تحمل صاحبها على الإقرار بالفضل حيثما كان في ولد صغير أو في خصم كبير. فقد طالما استعان الشيخ عبد الوهاب بابنه محمد في حل المعضلات الفقهية والدينية، وهو القائل: «قد استفدت من ولدي محمد فوائد شتى في الأحكام.»
كانت ولادة محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن سليمان بن علي التميمي في السنة الخامسة عشرة والمائة بعد الألف (1703م) في العيينة بوادي حنيفة، وقيل: في حريملة، على أن المؤرخ ابن بشر يزيل، على ما أرى، الريب في الرواية الأولى؛ إذ يقول: «ولد في العيينة قبل أن ينقل أبوه إلى حريملة.» فكأن عبد الوهاب نقل يوم كان ابنه صغيرا فتضاربت بعدئذ الآراء في أية البلدتين مسقط رأسه، والأقرب إلى الصحة رواية ابن بشر.
ولد محمد على شيء من الشذوذ، وكان سباقا في عقله وفي جسمه، سريع البلوغ في الاثنين، متوقد الذهن، حاد المزاج. فقد أظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إكمال الاثنتي عشرة سنة، قال أبوه: «ورأيته أهلا للصلاة في الجماعة وزوجته في ذاك العام.» وما عتم بعد ذلك أن حج وأدى المناسك على التمام وأقام شهرين في المدينة، ثم عاد إلى بلده وأخذ في القراءة على والده ولكنه لم يكتف بذلك فرحل طالبا المزيد. زار الحجاز والأحساء والبصرة مرارا، وكان الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف النجدي والشيخ محمد حيوة السندي المدني من أساتذته. فغرست في ذهنه مذاهب دلت في نموها الضئيل على ما تأصل فيه بمسقط رأسه تحت سقف والده من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
وقد كانت أكثر إقامته في البصرة، حيث قرأ الكثير من كتب اللغة والحديث على الشيخ محمد المجموعي، ولم ينحصر جهده في الدرس بل شرع يبشر هنالك بما تجلى له من حقائق التوحيد. إنما هو القائل: «كان أناس من مشركي البصرة يأتون إلي بشبهات يلقونها علي فأقول، وهم قعود لدي: لا تصلح العبادة كلها إلا لله، فيبهت كل منهم فلا ينطق فاه.»
أما النفوذ الأكبر في البصرة في تلك الأيام فكان لا يزال للشيعة، مكبرة الأولياء، ولكن ابن عبد الوهاب الشاب لم يحجم عن القول الحق حسب اعتقاده، فأدهش الناس وأثارهم عليه؛ فأخرجوه ذات يوم من البصرة. مشى في الهجيرة مطرودا يقصد إلى الزبير، وكان في نيته أن يزور الشام، ولكنه لضيق زاده انثنى عن عزمه وعاد إلى نجد فأقام ووالده عبد الوهاب في حريملة، ثم شرع يبث مبدأ التوحيد وينادي بإخلاص العبادة لله وحده، فكان شديد اللهجة قوي الحجة، وكان في حريملة قبيلتان لإحداهما رهط من العبيد كثيري الفساد والفسق، فحاول الشيخ محمد أن يردعهم فأغضبهم، فقاموا عليه ذات ليلة يريدون قتله ففر هاربا إلى العيينة.
بعد عودته الثانية إلى مسقط رأسه يبدأ فعلا نشر الدعوة، بل قد شبث هناك نيران حربها، فرفعت بين الأنصار أعلام التوحيد، ولمعت سيوف الحق المسلولة. اردعوا المعاندين والمعارضين! وكان الشيخ محمد يزداد شدة يوما فيوما، فاشتهر أمره في جميع بلدان العارض، في حريملة والعيينة والدرعية والرياض والمنفوحة، وتعددت أتباعه وأعداؤه، بل ظهرت الأنصار وكان ثنيان بن سعود وأخوه مشاري في طليعتهم.
ولكن النصير الأول الكبير هو عثمان بن معمر الذي كان يومئذ أمير العيينة، وقد اتفق ابن معمر وابن عبد الوهاب على العمل الأول الخطير في نشر الدعوة، العمل الذي أضرم نار الحماس ونار العداء في الناس.
قلت: إن عرب نجد كانوا يومئذ يقدسون القبور، بل كانوا يعبدون القباب فوق القبور، والأشجار التي يزرعونها في ظل القباب، فأول ما باشره الشيخ محمد هو أنه أمر الأمير عثمان تلميذه الأول من الأمراء الحاكمين بهدم القباب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وبقطع الأشجار التي كانت تتوسل إليها الناس.
قبل الأمير، وخرج والشيخ وجماعة من الأنصار إلى الجبيلة فهدموا قباب القبور، قبور الصحابة هناك، ثم تناول الشيخ محمد الفأس بيده، وانهال به على الشجرة التي كانت مشهورة في وادي حنيفة بعجائبها، شجرة «الذيب» ولية الفتاة طالبة الحبيب، والأرملة ذات القلب الكئيب، والزوجة حاملة الطيب، تبغي الابن الحبيب.
صاتت الشجرة العجيبة وهي تهوي إلى الأرض، فكان لصوتها الرهيب صدى تردد في شعاب الوادي وفي جبال سدير، ثم اقتدى التابعون بأمرائهم فشرعوا يهدمون القباب ويجعلون القبور مسنمة كقبور الصحابة.
هذا هو الحادث الأول الخطير في تاريخ الدعوة، أما الحادث الثاني فهو أشد منه خطورة؛ لأن فيه قطع امرأة لا قطع شجرة، أنت تعلم أن الشرع الإسلامي يوجب قتل الزانية رجما، ودعوة الشيخ إنما هي الرجوع إلى الشرع - إلى القرآن قبل كل شيء. الزانية، هي ذي في العيينة. وقد ثبت زناها بإقرارها وبشهادة أربعة أعيان
1
فجيء بها إلى الساحة وأمر الشيخ أن تشد عليها ثيابها وترجم. رمى الأمير عثمان بن معمر الحجر الأول، وتبعه الراجمون ليتم الحكم المشروع بالسنة والإجماع. لم يذكر التاريخ أختا لهذه الفاجعة، فكأن الشيخ رأى فيها الإرهاب الكافي.
رجمت الزانية! فسرى خبرها سير البرق في البوادي والحضر، ووقع وقع الصاعقة في القلوب الأثيمة والقلوب الطاهرة، فسكت أناس وصاح آخرون، ومن هؤلاء أهل الحساء الذين قاموا يحتجون؛ فقد كانوا كما قلت مستمتعين بأشياء من الإباحات القرمطية، فكتب أميرهم سليمان آل محمد رئيس بني خالد الذي كان يحكم يومئذ حتى في العارض، وكان ابن معمر عاملا له ، يهدد الشيخ المصلح بالقتل إذا كان لا يرجع عن غيه «في تخريب قلوب المسلمين وإفساد دينهم».
لم يرجع الشيخ المصلح عن دعوته، فأرسل الأمير سليمان إلى عامله الأمير عثمان يأمره بقتل محمد بن عبد الوهاب، فرأى الأمير أن خير طريقة لحفظ منصبه وخلاص صاحبه، هي أن يغادر الشيخ العيينة.
رحل المصلح إلى الدرعية
2
فكانت الهجرة الثالثة وهو في الثانية والأربعين من سنه، وقد نزل هناك ضيفا على أحد تلاميذه أحمد بن سويلم، فتهافت عليه الأنصار وبالغوا في إكرامه، إلا أن محمد بن سعود أمير الدرعية تردد في مقابلته، فألح عليه بذلك أخواه ثنيان ومشاري، فظل مترددا، ثم لجأا إلى زوجته
3
وكانت من النساء العاقلات النبيهات، فأخبراها بما يدعو الشيخ إليه وبما ينهى عنه، فارتاحت إلى ذلك ووعدتهما خيرا. إنما عملها يدل على ما للمرأة حتى داخل الحريم ووراء الحجاب من التأثير الطيب، اللهم إذا كانت عاقلة وعالمة بشئون الأمة، قالت هذه «الخديجة» الفاضلة لأميرها ابن سعود: «إن هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة، فاغتنم ما خصك الله به.»
قبل الأمير قولها «وقذف الله في قلبه محبة الشيخ ومحبة ما دعا إليه.» فأراد أن يدعوه للمقابلة، فقال أخوه مشاري: «سر برجلك وأظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس.» فسار محمد بن سعود إلى بيت ابن سويلم ورحب بابن عبد الوهاب قائلا: «أبشر ببلد خير من بلادك وبالعز والمنعة.» فقال الشيخ: «وأنا أبشرك بالعز والتمكين إذا عاهدتني على كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم.»
وفي ذاك اليوم عقد العهد الذي جمع بين عقيدة المصلح وسيادة الأمير - بين المذهب والسيف - فتعهد ابن سعود بنشر دين التوحيد في البلاد العربية، وتعهد ابن عبد الوهاب بأن يقيم في الدرعية معلما، وأن لا يحالف أميرا آخر من أمراء العرب.
ولا يزال هذا العهد مرعيا بين البيتين؛ بيت سعود وبيت الشيخ
4
حتى اليوم.
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العقد الرابع من العمر عندما بايع ابن سعود (1157ه / 1744م) على أن يكون إماما يتبعه المسلمون، وتعاهد الاثنان على كلمة التوحيد ونشرها بين العرب.
ولما علم الأمير عثمان بن معمر بذلك جاء يسترضي صديقه ويسأله الرجوع إلى العيينة فلم يفز ببغيته؛ ذلك لأن الشيخ عاهد ابن سعود على أن يقيم في الدرعية، فجعلها مقره الدائم، فأصبحت في الشطر الثاني من حياته قطب دين التوحيد، ومطلع أنوار العلم التي كانت تنبثق من شمسه المشرقة. فقد تخرج عليه أناس كثيرون كان يرسلهم إلى البلدان القاصية والدانية مبشرين معلمين مرشدين منذرين.
كانت الدرعية يومئذ بلدة صغيرة قليلة أسباب الرزق والثروة. ولما كثر الوافدون على الشيخ ضاق بهم العيش فكانوا يحترفون في الليل ويتعلمون في النهار. وما دنا القرن الثاني عشر من الزوال حتى أصبحت أكبر مدينة في البلاد العربية، يقيم فيها العرب من اليمن وعمان ومن الحجاز والعراق والشام.
قد رأى ابن بشر الدرعية في زمن سعود بن عبد العزيز، فدهش مما شاهده من مظاهر الثروة والعمران. وقد وصف موسمها فقال: «نظرت إلى موسمها وأنا في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن بين منازلها الغربية التي لآل سعود المعروفة بالطريف، وبين منازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء
5
في جانب آخر، وما فيهما من الذهب والفضة، والسلاح والإبل والأغنام، وكثرة ما يتعاطون من البيع والشراء والأخذ والعطاء. وهو مد البصر لا تسمع فيه إلا كدوي النحل الأصوات، والدكاكين إلى جانبيه الشرقي والغربي وفيها من الثياب والقماش وأنواع الألبسة والسلاح ما لا يوصف.»
عمرت كلمة التوحيد الدرعية، فأضحت في أيام سعود الكبير عاصمة البلاد العربية، وصار الشيخ محمد فيها المرجع الأعلى في العلوم والأحكام، على أنه ظل مع ذلك يعلم يبشر ويؤلف ويراسل ويناقش نشرا لمذهبه ودفاعا عنه. حتى إن أولاده الخمسة حسن وحسين وعلي وعبد الله وإبراهيم كانوا عونا له في التعليم، قال ابن بشر: «قد رأيت لهؤلاء الخمسة مجالس ومحافل للتدريس في بلد الدرعية، وعندهم الطلبة الكثيرون من سائر نواحي نجد ومن أهل صنعاء وزبيد وعمان وغيرها من الأقطار.»
أما التعليم فقد كان مجانا، بل كان للطلبة نفقة جارية من بيت المال، وللأذكياء منهم جوائز فوق ذلك من مال وكسوة. هناك تلألأت أنوار الدين والفقه والحديث، فكانت الدرعية في تلك الأيام مثل رومة في العهد المسيحي الأوسط، وكانت مدارس الشيخ محمد وأولاده مثل المدرسة الكبرى برومة لنشر الإيمان. ولد هذا النجدي الكبير ونشأ في بيت العلم والزهد فأشرب روحه بنيه، وأخذ أحفاده وأبناؤهم العلم عنهم وعنه، فهم لا يزالون حتى اليوم محافظين على هذا الإرث الثمين، إلا أنه ينقصهم شيء من المرونة العقلية والروحية، فلا يغادون عبثا سنة التطور والعمران.
لم يتدخل الشيخ محمد في شئون الملك المدنية، ولكن الأمير محمدا وابنه عبد العزيز كانا يستشيرانه في الأحكام الشرعية، وكانت له الكلمة الأولى في المبايعة على الإمامة.
الجامع الكبير في الرياض.
ظلت الدرعية قطبا للعلم والتعليم إلى يوم دمرها إبراهيم باشا المصري، وبعد أن استوطنها الشيخ شرع يكاتب الرؤساء والمشايخ يحذرهم من الشرك ويدعوهم لدين الله دين التوحيد. وكان آنئذ سليمان آل محمد أمير الحساء، وابن مفلق أمير القطيف، وابن تويني أميرا في البصرة، وابن دواس حاكما مستقلا في الرياض، وكلهم أعداء لمذهب التوحيد. هم الأمراء المعادون. وهناك العلماء السنيون والشيعيون الذين سخروا منه، وافتروا عليه، وشرعوا يتهمونه بكل ما اتهم به الخوارج من قبل. حتى إن بعضهم سعى لدى الحكام في قتله.
أول من ضلله وكفره، سعى إلى العلماء في البصرة والأحساء والحرمين في مقاومته وقتله؛ اثنان من مطاوعة الرياض هما محمد بن سحيم وابنه سليمان، فقالا: إن ابن عبد الوهاب خارجي، بل من أقبح المضللين والكفار، وأشر الخوارج والفجار، ومن جملة من رفض دعوته ورد عليه في بادئ الأمر أخوه سليمان بن عبد الوهاب الذي كان متوليا القضاء في حريملة. ولكنه اهتدى بعدئذ وتاب، فأقر بخطئه، وقال: إن كتابه لم يكتب لوجه الله .
حارب المصلح العلماء أعداءه بالعلم، ولكن الجهلة؛ أي عامة الناس الذين أثارهم العلماء عليه لا يقرءون وقلما يفهمون، فلا يميزون بين الزيارة والعبادة مثلا، وبين الإكرام والتوسل. قيل لهم إن ابن عبد الوهاب ينكر كرامة الأولياء، وهو لا ينكر غير الدعوة لهم، وقيل إنه يحرم زيارة القبور وهو لم يحرم غير عبادتها والتشفع بها. ولكن العربان لا يقرءون وقلما يفهمون غير لغة العنف والقوة. وقد أحرز المصلح في تحالفه وابن سعود سيفا بتارا، فالذي لا يفهم بالقلم يفهم بالسيف، والذي لا يرتدع بالحسنى يردع بابن عمها.
استل محمد بن سعود الحسام وراح ينهي الأعراب عن أفعال الجاهلية، ويدعوهم لدين الحق الذي هو الإسلام المجرد من الخرافات، ويأمرهم بالعمل بالكتاب والسنة. وكان أتباع ابن عبد الوهاب يدعون أنفسهم بالمسلمين وأعداءهم بالمشركين.
أشهرت الحرب على المشركين في السنة الأولى (1157) من العهد الوهابي السعودي، فكانت الوقعة الأولى في الرياض بين رجال ابن سعود ورجال دهام بن دواس. ودهام هذا عصامي دون فضيلة أخرى له تذكر إلا الثبات. اغتصب الإمارة وهو من خدام القصر واستمر أميرا ثلاثين سنة في زمن الزعازع الدينية والفتن والحروب.
كان دهام خادما لعبد يدعى خميس قتل قاتل أمير الرياض زيد بن موسى أبا زرعة وتولى مكانه، ثم فر هاربا فتولى الإمارة دهام خادمه، فقامت عليه الأهالي فاستنجد بابن سعود فأنجده وأقره في مركزه، ولكن العبيد مناكيد فكيف بخدامهم؟!
دعا ابن سعود صديقه ابن دواس لدين التوحيد فأبى، ثم أنذره فاستكبر وقال: ومن هو ابن مقرن ليحمل مفاتيح الجنة وينذر الناس بالنار؟ شبت الحرب، وكان ابن دواس فيها أشد أعداء التوحيد وآل سعود، حاربهم في الدور الأول عشر سنين وهو يحتل اليوم بلدا ويخليه غدا، وحاربهم كذلك بالدسائس والفتن، فقد ظهرت الردة في سنة 1167 في بعض بلدان العارض التي كانت في حوزة ابن سعود وكان هو من عواملها الخفية.
ولكن المصلح غلب المفتن. بادر الشيخ محمد إلى نجدة ابن سعود في تأديب المرتدين. جاءت الكلمة النارية تشحذ السيف وتعضده. فقد دعا الشيخ الرؤساء والزعماء من جميع البلدان إلى الدرعية، وخطب فيهم باسم الله، فأعاد إلى قلوبهم قبس الإيمان، وأضرم فيهم ثانية نار الجهاد.
ومع ذلك فقد استمر ابن دواس يحارب ابن سعود عشرين سنة، يحاربه بالمقاتلة والمخاتلة. والاه ثم عاداه مرارا، عاهده أربع مرات حبا بدين الله والسلم ونكث أربع مرات عهده. حتى إنه انضم مرة إلى جيشه وحارب المشركين. على إنه بعد تعدد الوقعات والهدنات والمعاهدات والخيانات دحر في سنة 1187ه/1773م الدحرة التامة النهائية، دحره الأمير عبد العزيز بن محمد الذي دخل الرياض ظافرا، لكنه لم يفز بدهام الدواس الذي فر هاربا إلى بلاد الخرج وتوفي هناك.
وكان للموحدين عدو آخر لدود يدعى عريعر، خلف الأمير سليمان رئيس بني خالد في الحساء. فقد جاء بجيش جرار من العربان، وفيهم جنود من عنزى كبيرهم ابن هذال،
6
وبمدافع حملتها الجمال فاجتازت بها الدهناء، نصبت المدافع وحوصرت الدرعية، وانضم إلى العدو كثيرون من أصحاب الردة، ومن أهل الوشم وسدير الذين ترددوا في قبول التوحيد.
وقد كان عريعر صاحب مكر وحيلة بل كان مخترعا، فبعد أن حاصر الدرعية شهرا دون نتيجة يشكر عليها اخترع آلة جديدة للحرب سميت الزحافة، وهي صندوق من خشب يسير محمولا على دراريج، يجلس فيه من العشرة إلى العشرين رجلا، وهم في أمن من رصاص العدو، فيسوقونه إلى السور يريدون هدمه. وما أشبه زحافة عريعر بدبابة اليوم، ثم حاول عريعر أن يصب مدفعا كبيرا يدمر به الدرعية فأمر بجمع الحديد والنحاس لهذه الغاية وباشر العمل. شبت النيران ونفخت المنافخ، وذابت في المراجل المعادن، ولكنها في النهاية صدت الطالب، وعصت القالب، قال مؤرخ ذاك الزمان: «كلما أفرغها في القالب أبت.»
وكان لعريعر ابن اسمه سعدون لم يرغب مثله في التوحيد فحمل على أهله في الجنوب. اجتاز الدهناء بجيشه ومعه المدافع أيضا، وهو يبغي اليمامة لينجد أهلها على الموحدين، ولكنه بعد أن جاء اليمامة بمدافعه عاد منها بدونها مثلما عاد أبوه من الدرعية. ولا تزال هذه المدافع محفوظة في بريدة .
كسر الأب وكسر الابن، فجاءا للمرة الثالثة موحدين قواهما - لا بد من التوحيد على الأقل في القتال - وحاصرا بريدة، فاستمر الحصار أربعة أشهر واستخدمت فيه الزحافات التي لم تخفف عن الأب والابن وجيوشهما ذل الخيبة والاندحار.
ولكن أهل التوحيد لم يستفيدوا من هذه الغلبات المتوالية؛ لأن وجود العدو في نجد كان يشجع على العصيان أولئك الذين أكرهوا في دينهم، وأولئك الذين تخاذلوا؛ لذلك تعددت الردات في الشمال وفي الجنوب. فكان الموحدون إذا أمسكوا القصيم يتفلت من أيديهم الخرج، وإذا وحدت المجمعة تعود اليمامة إلى شركها القديم.
أول من باشر الجهاد في سبيل الدعوة الأمير محمد بن سعود وإخوانه، ولكن بطل التوحيد الأول هو عبد العزيز بن محمد الذي كان يغزو في الجزيرة شمالها وغربها وشرقها وجنوبها ست غزوات في بعض الأعوام، فوصل إلى الجنوب الغربي إلى وادي الدواسر، وفي الشمال الشرقي إلى السماوة بالعراق. باشر الغزو في سبيل التوحيد وهو شاب، وباشره كذلك ابنه سعود - سعود الكبير فاتح الجزيرة.
قد عاش محمد بن عبد الوهاب ليسمع بهذا النصر المبين ويشاهد ثمار دعوته فيمن كانوا يؤمون الدرعية من سائر الأقطار ليسلموا عليه، ولكنه لم يعش ليسمع بفتح الحجاز ودخول سعود ظافرا إلى مكة المكرمة؛ فقد كانت وفاته قبل ذلك باثنتي عشرة سنة؛ أي في السنة السادسة والمائتين والألف (1792م) يوم كان سعود يحارب عرب المنتفق خارج البصرة، ويوم كانت جيوش الشريف غالب زاحفة من الحجاز لمحاربة أهل نجد.
إن في الصفحة الثالثة من كتاب
7
يتضمن عدة رسائل لمحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، ما يلي:
اعلم - رحمك الله - أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث مسائل والعمل بها:
أولا:
أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولا، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى:
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا . (سورة المزمل: آية 15-16)
الثانية:
إن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والدليل قوله تعالى:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا . (سورة الجن: آية 18)
الثالثة:
أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . (سورة المجادلة: آية 22)
إنك ترى إذن أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثل ابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل، يعود في هذه الأصول إلى المصدر الأول الأعلى - إلى القرآن. فكل ما هو مبني عليه من العقائد والأحكام لا يرد ولا ينتقد، ولكن الحنابلة والوهابيين لا يختلفون في هذا والأئمة الآخرين. إنما الخلاف في التفسير والاجتهاد، فالجعفريون؛ أي علماء الشيعة، وهم على جهة الاجتهاد في التطرف يفتحون الباب على مصراعيه. والحنابلة وهم على الجهة الأخرى المناقضة يقفلونه. يقرأ الجعفريون بين سطور الكتاب وفي تلافيف الآيات ما يبنون عليه الأحكام، وما لا يخلو في بعض الأحايين من إبهام، فيتخذون التفسير وسيلة للفرار من معنى الآية الحرفي. ويقول العلماء الحنابلة: أن لا باب بعد الخلفاء الراشدين للاجتهاد، إن كل ما في الكتاب واضح جلي، وهناك بين الفريقين علماء المذاهب الأخرى؛ أي الحنفيون والشافعيون والمالكيون الذين يثبتون حق التفسير ولا يغالون في استخدامه.
بعد الكتاب تجيء السنة وهي محترمة متبعة عند الحنابلة والوهابيين، ولكن الإسناد في السنة لا يكون دائما محققا فيثبت بعض المحدثين بعض أعمال النبي وأقواله، ويثبت كل المحدثين بعضها ويختلف المحدثون في جملة منها، هو ذا منشأ الاختلاف بين الشارحين والمفسرين.
ولكن الإمام أحمد بن حنبل اهتدى، على ما أرى، إلى الطريق التي فيها العلم الوضعي الواضح الجلي فيما هي السنة. وكأنه غربل الأحاديث ونبذ كل ما ليس عليه الإجماع، فلا يقبل إلا ما يثبته كل الأئمة، وقد توصل والحال هذه إلى أصح الطرائق العملية وجاء بمذهب في الانتخاب، ولنا أن نقول في التفسير يصح أن يدعى بالمذهب العقلي الوضعي.
هي القاعدة التي وضحها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قوله: «الحق والصواب ما جاءت به السنة والكتاب، وما قاله وعمل به الأصحاب ، وما اختاره الأئمة الأربعة المقلدة في الأحكام المتبعة، فقد انعقد على صحة ما قالوه الإجماع.» ثم قال: «والسنة في عرف العلماء المتأخرين هي السالمة من الشبهات في الاعتقادات.»
وقد قام ابن تيمية في القرن الثامن للهجرة ينصر ابن حنبل وينشر مذهبه، بل ينصر ما رآه حقا ويبين أن مذاهب الأئمة كلها لا تختلف في الحق بعضها عن بعض، فألف الرسائل في الحديث والعبادات، وفي زيارة القبور، وكان للأئمة مثل الرسول بولس للمسيح.
قد أسلفت القول إن أهل نجد على ما كانوا فيه من سخيف العبادات هم أصلا حنابلة. وقد كان جد الشيخ محمد وأبوه وغيرهما من القضاة يستخرجون الأحكام على مذهب الإمام أحمد، أما الشيخ محمد نفسه فقد طالما تمثل بهذه الأبيات:
بأي لسان أشكر الله إنه
لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر
هداني إلى الدين القويم تفضلا
علي وبالقرآن نور البصائر
وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل
عليه اعتقادي يوم كشف السرائر
قد كان الشيخ محمد معجبا أيضا بابن تيمية مكثرا من مطالعة كتبه، وهو القائل: «لست أعلم أحدا يجاري ابن تيمية في علم الحديث والتفسير بعد الإمام أحمد بن حنبل.» إنك ترى إذن أن المذهب الوهابي هو في أصوله المذهب الحنبلي، وأزيدك علما أن كثيرين من أهل نجد - من أهل التوحيد - يدعون أنفسهم حنابلة ويؤثرون هذا اللقب على سواه.
ما فضل ابن عبد الوهاب إذن؟ إن فضله بالرغم عما ذكرت لعظيم. ليس من الواجب أن يكون المصلح مبتكرا طريقته أو مكتشفا لناموس جديد في الكون أو في الحياة. إن المصلح لمخلص أولا في يقينه لا يهاود فيه ولا يحابي، وهو مخلص في عمله لا يخرج فيه عن يقينه. وإنه إذا ما بلغ هذه الدرجة من الإخلاص لمتعصب. والمتعصب مقاتل حتى يستقيم المعوج وتصفو موارد العبادة واليقين.
أما مواد العمل وأسباب الإصلاح فقد يجدها مدفونة في زوايا النسيان، في ظلمات الماضي، مكفنة بالغبار والصداء والعنكبوت، ولا يزال الرمق فيها، لا تزال رغم ما أثقلت به من الخزعبلات والخرافات على شيء من الحياة. إن المصلح ليجد ها هنا دعوته ومصدر العمل والإلهام. أجل حيثما الحياة هناك أيضا بذورها، وحيثما البذور هناك النشوء والنمو والخلود.
إننا نقول إذن: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الذي أنقذ المذهب الحنبلي مما كان يكتنفه في نجد من أسباب الفساد والاضمحلال. هو الذي اكتشف بذور الحياة فيه فأعاد زرعها وجدد موسمها. فهل ندعوه مجددا؟ إنه لكذلك وفوق ذلك. هل ندعوه مصلحا؟ قد كان ولا شك الباعث الأكبر لإصلاح كبير في نجد، ولكنه قصر، إذا توسعنا بمعنى الكلمة، دون الإصلاح الأكبر في الإسلام. عاد الشيخ محمد إلى الكتاب والسنة فجاء في حملاته على الشبهات والخرافات شيء من الشدة في التحريم لا نظنها تدوم. هل ندعوه معلما؟ نعم هو معلم كبير، وقد تجاوز في رسالته التعليم، فقد علم أهل نجد دين التوحيد الذي كانوا قد نسوه، ونفخ فيهم فوق ذلك روحا قومية عظيمة، تلك الروح القومية التي مكنتهم، وهم محصورون ببواد من الرمال في قلب البلاد العربية من التوسع والاستيلاء، فقلدتهم من القوة سيفا نبويا، ومن التفوق رمحا حنفيا، ومن التقشف والصبر والثقة بالنفس - بعد الثقة بالله - درعا من دروع الصحابة. هو ذا الفضل الأكبر للشيخ محمد بن عبد الوهاب. إن دعوته في نتائجها سياسية كما ترى ودينية معا. وما كانت كذلك لولا تمسكه في أكثر الأحايين بمعاني الكتاب والأحاديث الظاهرة؛ أي بمعانيها الحرفية.
خذ لك مثلا مسألة من أدى الشهادتين ولم يصل ولم يزك. فإن الإمام الشافعي وأبا حنيفة لا يحكمان بكفره إذا كان لا يجحد الصلاة وغيرها من أركان الإسلام، وحجتهما في ذلك حديث رواه عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «خمس كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.» أما الإمام أحمد فيحكم بكفره، ويحتج بأحاديث منها: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.» ومنها : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ...»
وهناك مسألة أخرى في الصلاة والعبادة، يقول العالم الوهابي: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو مقيم على شركه؛ يدعو الموتى ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهذا مشرك كافر حلال الدم والمال، أما إذا وحد الله تعالى ولم يشرك به شيئا ولكنه ترك الصلاة والزكاة تكاسلا فقد اختلف العلماء في كفره، ولا عصمة للعلماء إلا في الإجماع. كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله. جاء في الكتاب:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله . وقال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه.
العود إذن إلى الكتاب وما فيه من آيات يلزمها شرح أو تفسير، وغيرها ما هي واضحة جلية إلا أنها أنزلت لغرض معلوم في وقت معلوم. فمن عاد إلى التاريخ ولجأ إلى مفاتح التفسير، رحب لديه ولدى أتباعه مجال الفكر وضاق غالبا مجال اليقين. ومن تمسك بالمعنى الظاهر كانت النتيجة عنده وعند أتباعه عكس ما ذكرت. أما اليقين فقد يضيع أو يضعف في تعدد الشروح والتفاسير، والعزم يضعف في ضياع اليقين، ونشر المذهب إذا ضعف العزم في رجاله لا يتم وقد يستحيل.
لم يكن محمد بن عبد الوهاب خشن الطبع قاسي القلب عتيا، بل كان في حياته الخاصة والعامة لطيفا، محسنا، شفوقا، حليما. على أنه في يقينه شأن كبار المصلحين، لم يكن ليهاود أو يلين. علم الناس معرفة الله ومعرفة النبي ومعرفة الدين بالأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية، على طريقة الصحابة، خلافا لعلماء المسلمين في الأمصار الذين يعلمون هذه المواضيع الثلاثة على طريقة المتكلمين. قد ناله من الجهلاء وأدعياء العلم ما نال كل مصلح كبير. لا سيما وقد جاء يردعهم عن عادات الآباء الأسلاف الذين درجوا على حب البدع والخرافات. على أنه لم يكفر أحدا من هؤلاء، بل كان يقول: «معاذ الله أن أكفر من قال لا إله إلا الله.» ولكنه في رجوعه إلى الكتاب والسنة اصطدم بآيات وأحاديث نبهت فيه نعرة الأقدمين فحرض على الأعمال التي شوهت في الماضي كل دين.
على أن الإصلاح في بادئ أمره لا يكون بغير الهدم، ولا يقوم بغير شيء من الإرهاب.
قد جد الشيخ محمد واجتهد في نفع الناس، ولكنه رآهم، وأكثرهم من البدو، لا يفقهون دقيق الكلام، ولا يساقون بالبرهان، فقال بالجهاد، خصوصا والكتاب يقدم السلاح والسنة تقدم الذخيرة.
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا . (سورة الجن: آية 18) «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ...» (الحديث).
قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون . (سورة الزمر: آية 45)
عليهم إذن! فإنهم وإن قالوا: لا إله إلا الله، وهم يرجون شفاعة غيره، أو يشركون بالشفاعة غيره، إنهم لمشركون. قد أمرت أن أقاتل ... إلخ. هو ذا مصدر الشدة ومبرر القتال. وقد كتب الشيخ محمد إلى عبد الله بن سحيم مطوع الرياض يقول:
الغلو في علي بن أبي طالب مثل الغلو في المسيح. من غالى في نبي، أو صحابي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الألوهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فهذا كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
ومن كتاب إليه أيضا:
المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.
وقد قال النبي: «خير القبور الدوارس ...» إن الشيخ محمد ليستشهد إذن بالكتاب والحديث، وبأقوال الصحابة والأئمة الأربعة على قتل الكفار والمشركين، ولكنه في بعض رسائله يشكو ويعتذر، فقد جاء في واحدة منها:
ولا يخفاكم أن الذين عادونا في هذا الأمر هم الخاصة لا العامة؛ فكاتبناهم وخاطبناهم بالتي هي أحسن وما زادهم ذلك إلا نفورا.
وفي كتاب إلى عبد الرحمن السويدي في العراق يقول:
أما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة؛ وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا. ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة. وجزاء سيئة سيئة مثلها.
إن ها هنا شيئا من الغلبة للطبع الإنساني، ولكنها غلبة لا تثمر دائما، خصوصا إذا اصطدمت بالنزعات والنعرات، فتقوم الآيات مقام الحسنات، فلا يرى المصلح إذ ذاك غير مشرك حلال الدم والمال، وقبور ذي قباب لا تصلح لغير الهدم، ولكن الإشراك درجات، وفي الآيات معان ظاهرة أو باطنة يتسلح بها من قاوموا الشيخ وضللوه.
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (الآية). (سورة سبأ: آية 23)
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه (الآية). (سورة البقرة: آية 255)
قال المقاومون: ورسول الله مأذون، وبالتالي ملائكته، فتوسع المتطرفون في المسألة، وقالوا: والمقربون كذلك من رسول الله وملائكته؛ أي الأولياء مأذونون، فجر ذلك إلى الشرك العميم، والكفر الذميم.
هي ذي حجة ابن تيمية وابن عبد الوهاب الكبرى. ليس للملائكة ولا لأحد من المخلوقات منهم سهم واحد في ملك الله، وليس له أعوان تعاونه كما تكون للملوك أعوان.
ولكن
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (الآية).
إذن هناك شفاعة، وهي تنفع إذا كان المتشفع به مأذونا له. وها هنا اختلف العلماء والمفسرون. كيف السبيل إلى معرفة من أذن له الله بالشفاعة؟ قد أجاب ابن تيمية على هذا السؤال وأحسن التخلص، فقال: «وفي كل حال الإذن من الله، فالأمر إذن كله له تعالى.» لا نزال في الدائرة التي لا نهاية لها. أنت تردني إلى الكتاب وأنا أردك إلى الله، وإذا رددتني إلى الله أردك إلى كتابه تعالى وسنة رسوله.
أما الدعاء وهو نوع من التشفع، فقد حلله ابن تيمية في قوله ما معناه: إن كل ما لا يستطيعه إلا الله لا يجب أن يطلب إلا منه تعالى،
8
ولا يجوز أن يقول الإنسان لملك أو لنبي أو لشيخ، سواء كان حيا أم ميتا: اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي ... إلخ. ومن سأل ذلك فهو من المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصور والتماثيل، ولكن هناك نوعا من الدعاء يجوز، كأن تقول لجيرانك عند ارتحالك عنهم: ادعوا لنا بالخير والسلامة. هذا ما يسميه العلماء إجابة غائب لغائب، ثم توسعوا فيه، فقالوا: إن الناس لما أجدبوا سألوا النبي أن يستقي لهم، فدعا الله لهم فسقوا. وفي الصحيحين أيضا أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، فدعا فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فسقوا.
هي ذي حجة أصحاب الأولياء. فإذا استجاب الله طلبة النبي وعم النبي أفلا يستجيب كذلك طلبة صهره وابنته وابنيها والصالحين من سليلتيهما؟ ولكن ابن تيمية وابن عبد الوهاب يردان عليهم في قولهما: إن هذا من باب طلب الإنسان الحي ما يقدر عليه، فإن حقيقة التوسل بالنبي وبعمه هو طلب الدعاء منهما في حياتهما وذلك جائز، أما الميت فلا يستطيع أمرا.
قد نهى النبي حتى عن التعظيم؛ لذلك لا يقبل أهل نجد يد سلطانهم، ولا يخضعون أمامه أو يطأطئون له الرأس. لا يجوز السجود والتعظيم لغير الله، وقد نهى النبي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فتصلى صلاة الفجر قبل الشروق وصلاة المغرب بعد الغروب؛ ليبعد المسلمين عن العقائد التي كانت شائعة في الجزيرة خصوصا في اليمن وفي الأحساء؛ أي عقائد عبدة الشمس والكواكب، المجوس والصابئين، فلا يسجدون مثلهم للشمس.
أما زيارة القبور فمشروعة شائعة عند الوهابيين، والدعاء للميت هي بمنزلة الصلاة على جنازته. فأهل نجد الذين يواظبون على هذه العادة يقولون: سلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم.
هو دعاء جميل. وأجمل منه جواب النبي لرجل قال له: ما شاء الله وشئت. فقال النبي: «أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده.» وقد قال أيضا: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد.» وهذي هي القاعدة التي يجري عليها اليوم أهل نجد، فيقولون مثلا: ما شاء الله ثم ما شاء ابن سعود، نسأل الله ثم ابن سعود، لولا الله ثم ابن سعود لهلكنا.
أما التوسل فهو على ثلاث درجات:
الأولى:
أن يأتي المرء إلى قبر النبي أو ولي أو ما يعتقد أنه قبر نبي أو رجل صالح ويسأله حاجته فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك صحيح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
الثانية:
أن يطلب المرء من النبي أو الولي أو الشيخ الصالح أن يدعو له كما يقول للحي: ادع لي كما كان الصحابة يطلبون من النبي الدعاء. هذا مشروع في الحي لا في الميت من الأنبياء والصالحين. دليل ذلك أن الناس في زمن عمر استسقوا بالعباس عم النبي ولم يجيئوا قبر النبي مستغيثين به. وقد قال النبي: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني.»
9
الثالثة:
أن يقول المرء: اللهم بجاه فلان عبدك أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان، أسألك كذا وكذا. هذا شائع بين الناس ولكن لم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء. وإنهم إذا أجازوا التوسل بحق أحد الصالحين أو بشفاعته فيجب أن يكون ذلك في حياته وحضوره.
هذي هي درجات التوسل الثلاث، ومنها واحدة فقط فيها الشرك الصحيح، فيحلل ابن تيمية وابن عبد الوهاب قتل صاحبه إن لم يتب، أما الدرجتان الثانيتان فالذنب فيهما شبيه بالخطيئة العرضية عند المسيحيين، ولا يجوز قتل من عد توسله منهما.
النبذة الثالثة: آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد
(1157-1309ه / 1744-1891م)
أمراء آل سعود
سعود بن محمد بن مقرن
توفي 1140ه / 1727م
محمد بن سعود
تولى الإمارة بعد أبيه
توفي 1179ه / 1765م
عبد العزيز بن محمد
تولى الإمارة 1179ه / 1765م
توفي 1218ه / 1803م
سعود بن عبد العزيز
تولى الإمارة 1202ه / 1788م
توفي 1229ه / 1813م
عبد الله بن سعود
تولى الإمارة 1229ه / 1813م
توفي 1234ه / 1818م
فترة الاستيلاء المصري
محمد بن مشاري بن معمر ومشاري بن سعود
تنازعا الإمارة نحو سنة ونصف سنة
تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود
تولى الإمارة 1236ه / 1820م
توفي 1246ه / 1830م
مشاري بن عبد الله بن حسن بن مشاري بن سعود
حكم 40 يوما
فيصل بن تركي (الدور الأول)
تولى الإمارة 1246ه / 1830م
تنزل 1255ه / 1839م
خالد بن سعود بن عبد العزيز
تولى الإمارة 1255ه / 1839م
توفي 1257ه / 1841م
عبد الله بن ثنيان بن سعود
تولى الإمارة 1257ه / 1841م
توفي 1258ه / 1842م
فيصل بن تركي (الدور الثاني)
تولى الإمارة 1258ه / 1842م
توفي 1282ه / 1865م
عبد الله وسعود ابنا فيصل
تنازعا الإمارة تسع سنوات من 1282ه / 1865م
إلى 1291ه / 1874م
عبد الله بن فيصل
تولى الإمارة 1291ه / 1874م
تنزل 1302ه / 1884م
محمد بن الرشيد
تولى على نجد من 1302ه / 1884م
إلى 1307ه / 1889م
عبد الرحمن بن فيصل
حكم نحو سنة
فترة الاستيلاء الرشيدي
نحو عشر سنوات
الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن
1319ه / 1901م
آل سعود: الدور الأول - الفتوحات
في عهد السلطان أحمد الثالث (1115-1143ه / 1703-1730م) وقبله، أيام كانت بلاد الشام تئن من مظالم الولاة وفظائع الإنكشارية، لم يكن للدولة العثمانية أثر يذكر أو يشكر في شبه جزيرة العرب، ولكن شبه الجزيرة نفسها لم تكن في حال تغبطها عليه جارتاها الشام والعراق؛ فقد كان الأشراف يحكمون في الحجاز وعسير، والسادة العلويون يحكمون في اليمن. وكان الأمراء وشيوخ القبائل كل في قطره وفي قبيلته يحكم مستقلا عن الأمراء الآخرين ومعاديا لهم في أكثر الأحايين.
وكانت بلاد نجد والأحساء من الشعرى إلى قطر والكويت ومن الأفلاج إلى جبل شمر مقطعة الأوصال، مشتتة الأحوال لا صلة لقبيلة بأخرى تثمر خيرا أو تدوم، ولا بين الحواضر المستقلة بعضها عن بعض صلات ولاء إلا نادرا.
لم يكن - والحق يقال - غير السيف فاصلا واصلا، ولم يكن غير الغزو سبيلا إلى الاستيلاء، وسبيلا رحبا إلى الرزق والثراء .
بل قد كان القتل طمعا بالاستيلاء من الأمور المألوفة. وهناك بيت من الشعر طالما سمعت أمراء العرب يتمثلون به:
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما
وبالقتل تنجو كل نفس من القتل
هذا إذا استقام الأمر لأمير واحد فيحكم في الجميع حكما أبويا ركناه المساواة والحكمة. أما العدل فأمراء العرب على الإجمال يعرفونه ويعززونه غالبا في أحكامهم، ولكن القتل عندهم لا يكون دائما دون الحرمة والنفس، ولا يكون دائما من أجل المساواة والعدل. قد كان القتل على الإجمال الطريق الأقرب والأسهل إلى الاستيلاء والسيادة. أنا صاحب الرياض وأنت صاحب الدرعية، فإما أن أقتلك أو أغلبك ثم أجلوك عن البلاد وأستولي عليها، وإما أن تفعل أنت ذلك فيكون لك في ما أريده فيك. السابق إلى القتل الفائز.
ولم يكن القسم الجنوبي من نجد الذي يدعى بالعارض ليخرج عن هذه القاعدة. فقد كانت بلدانه في حوزة أمراء من بيوت وقبائل شتى يتوالون ويتغازون عملا بمصلحة، أو طمعا بكسب، أو دفعا لمحنة أو خطر. هذي هي اليمامة وهي في عزلة عن المنفوخة. وهذي هي المنفوخة وهي تابعة للرياض اليوم ولخصم الرياض غدا. وهذي هي الرياض وهي مستقلة عن الدرعية، والدرعية وهي لا تقر بالسيادة لا للعيينة ولا للرياض وقس على ذلك. أما المسافة بين أقصى البلدين من هذه البلدان فلا تتجاوز الخمسة والسبعين ميلا.
ومن أولئك الأمراء حكام ذلك الزمان مقرن بن مرخان الذي يمت بنسبه إلى بكر بن وائل، فجديلة، فربيعة.
1
ومن كبار أجداد مقرن الأولين الأمير مانع الذي بسط سيادته على الأحساء وقطر والقطيف. هو جد الموانعة الأسرة المعروفة في نجد، ومؤسس الدرعية، ولكن ملكه الذي تجاوز حدود نجد لم يدم طويلا، ولم يكن ملك أبنائه ليختلف كثيرا عن ملك سواهم من الأمراء، فما اشتمل على غير بلدين أو ثلاثة والقرى التابعة لها، هي حال بني مقرن في طليعة القرن الثاني عشر للهجرة، فقد كان محمد بن سعود بن محمد بن مقرن أميرا على الدرعية، وهو على ولاء وابن معمر أمير العيينة وابن دواس أمير الرياض. وفي عهده ظهر محمد بن عبد الوهاب مجدد المذهب الحنبلي ورسول التوحيد، فعقد بينهما العهد الذي جاء ذكره في النبذة السابقة (1157ه / 1744م)، وكان أمير الدرعية وإخوانه ثنيان ومشاري وفرحان أول من باشروا الجهاد في سبيل الدعوة الوهابية.
أما أول من قاوم المجاهدين فهو كما أسلفت القول دهام بن دواس أو دياس صاحب الرياض. قد حدثت المناوشات الأولى في المنفوحة، التي حمل عليها دهام؛ لأن بعض أهلها تمذهبوا بالمذهب الجديد، فبادر ابن سعود إلى الدفاع عنهم وعن بلدتهم. هذي هي فاتحة الحرب الدينية السياسية بين صاحب الدرعية وصاحب الرياض، ثم بين صاحب نجد وأصحاب الأقطار العربية الأخرى.
وقد انتصر أهل التوحيد انتصاراتهم الأولى في البلدان المجاورة لهم بوادي حنيفة؛ أي في العيينة والجبيلة وحريملة وقراها، ثم استمروا غازين متقدمين حتى وصلوا شمالا إلى الزلفى وجنوبا إلى الخرج. على أن المناوئين في وسط البلاد، في الوشم وسدير ظلوا يقاومونهم أكثر من عشرين سنة وهم يحالفون أعداءهم الكبار مثل الدواس والعريعر عليهم.
قد كان سعود الأول إذا أخذ بلدا يولي عليه أحد أبنائه؛ أي أبناء ذاك البلد المتوجهين، كما فعل في العيينة التي كان عثمان بن معمر متوليا الإمارة فيها لصاحب الحساء. فقد تذبذب عثمان وتردد بين صاحبه وبين الموحدين، فقتل في المسجد بالدرعية فولى سعود ابنه مشاري بن معمر مكانه. وذلك برأيه كما يقول ابن بشر: «لا برأي الناس الذين أرادوا انقراض بيت معمر.» وهذه الخطة التي اتخذها سعود الأول هي خطة الملك عبد العزيز اليوم.
قلت: إن أهل الوشم وسدير لم يقبلوا في أول الأمر التوحيد بل ظلوا يقاتلون أهله، ويعيثون في بلدانهم فيغرونهم على الردة. لولا ذلك لما تمكن ابن دواس من محاربة آل سعود ثلاثين سنة، فكان إذا ضاق في الجنوب ذرعا يشغلهم بالدسائس في الشمال.
ولم تكن الوقعات في بادئ الأمر كبيرة، واشتد القتال في وقعة دلقة في قلب الرياض أمام القصر فقتل من الفريقين عشرون رجلا. ولم تكن الغارات كلها ويلا وثبورا . شن ابن سعود ورجاله الغارة على دهام في قصره بالرياض فرموه بالرصاص في عليته وخرجوا سالمين، كأنهم خرجوا إلى الصيد، وإن هي إلا نزهة في بعض الأحايين.
إلا أنها حرب في تأثيرها بالناس وفي أعم نتائجها، حرب متقطعة طويلة العهد، وقد كانت الوقعات تزداد شدة والقتلى يزدادون عددا كلما توسعت سيادة ابن سعود. بيد أنه لم يقتل في مدة ثلاثين سنة غير أربعة آلاف من العرب؛ ألف وسبعمائة من الموحدين وألفان وثلاثمائة من أعدائهم؛ أي مائة وثلاثة وثلاثون رجلا كل سنة. وقد لا يخلو حتى هذا العدد من المبالغة، خصوصا إذا كانت الوقعات أو أكثرها مثل التي يصفها ابن بشر في قوله:
وفي هذه السنة سار المسلمون وأميرهم عبد العزيز إلى الرياض وجرت وقعة عظيمة على أهل الرياض تسمى وقعة أم العصافير قتل فيها أربعة من أهل الضلال ولم يقتل من المسلمين غير واحد، ثم انقلب المسلمون إلى بلادهم بعد تحصيل مرادهم. «وقعة عظيمة» قتل فيها «أربعة من أهل الضلال»، هذا الذي يحملني على الإعجاب بابن بشر. فهو المؤرخ العربي الوحيد - على ما أظن - الذي لا تصعد أرقامه في عد الجيوش والقتلى إلى الآلاف، إلا في الفتوحات الكبرى التي سيجيء ذكرها.
بعد محمد بن سعود وإخوانه الأنصار ظهر عبد العزيز بن محمد الذي شرع في عهد أبيه بشن الغارات، فحمل رايات التوحيد إلى أقصى الأقطار العربية، وزرع بذور السيادة السعودية في البوادي والحضر، ولكنه على تعدد غزواته واتساع مجال جولاته، لم يكن غير ممهد السبيل لابنه سعود الفاتح الأول الأكبر.
وصل عبد العزيز في غزواته الغربية الجنوبية إلى وادي الدواسر (1178ه / 1764م)، فخرج عليه أهل نجران، فتقهقر إلى بلاد الخرج فتبعوه. وقد اصطدم الجيشان في حائر سبيع، فكانت الغلبة لأهل نجران الذين قتلوا أربعمائة من الموحدين. أما الفاجعة الأخرى في هذه الوقعة فهي أن دهام بن دواس الذي كان قد حالف آل سعود خذلهم، بل خانهم فانضم بجيشه إلى أهل نجران. ولما رجع عبد العزيز من هذه الوقعة الكبيرة عزاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلا: لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
في السنة التالية لوقعة حائر سبيع توفي الأمير محمد فبويع على الإمامة ابنه عبد العزيز الذي ظل يغزو الغزوة تلو الأخرى وأكثرها على الرياض حتى تمكن من فتحها بعد خمس سنوات من إمامته؛ أي في السنة السابعة والثمانين والمائة والألف، ففر ابن الدواس هاربا.
ولم يأت بعد ذلك بحركة تزعج أهل التوحيد أو غيرهم من أهل نجد. مات دهام في الدلم على حاشية الربع الخالي المحرقة، وهو بعد هذه السنين الطوال يستحق الرحمة، فقد كان - رحمه الله - ثابتا في النضال والضلال، ثابتا في تصلبه وتقلبه.
بعد فتح الرياض بسنتين اجتاز عبد العزيز برجاله النفود فوصل إلى القصيم ووقف أمام بريدة فحاصرها ثم دخلها ظافرا (1189ه / 1775م)، وكان قبل ذلك قد دحر مرارا أعداء التوحيد الآخرين؛ أي عريعر بن دجين وابنه سعدون وعربانهم الحسويين والعراقيين، وغنم مدافعهم التركية التي جاءوا بها من الحساء محملة على الجمال، ولم ترضه هذه الانتصارات في بلاده فخرج يتتبع العريعر فغزا الأحساء التي كانت يومئذ لبني خالد وعاد منها ظافرا بغنائم كثيرة.
ولكنه في غزواته وفتوحاته لم يقلق الدولة ويزعج المسلمين إلا عندما دخل ابنه سعود كربلاء (1215ه / 1800م)، محط رحال الشيعة ونقطة الدائرة في شفاعة الأولياء، فالتحمت رجاله بأهلها، وبعد مذبحة هائلة في الأسواق هدم الموحدون القبة التي قيل إنها كانت فوق قبر الحسين، ونهبوا البلد، ثم زحفوا إلى المشهد (النجف)، وخارج سورها مدينة أخرى هي مدينة القبور ذي القباب، فردهم عنها يومئذ بحرها.
2
أما غزوة كربلاء التي ضج لها المسلمون، خصوصا الشيعة منهم، فقد أدت إلى اغتيال الإمام عبد العزيز وهو يصلي العصر في الجامع بالدرعية. قتله في شهر رجب من هذه السنة رجل شيعي جاء من العراق متنكرا كدرويش (1218ه/1803م)، وقيل إن الرجل كردي من أهل العمادية قرب الموصل، ولكن الرواية الأولى هي أقرب إلى الصواب.
وكان قبل وفاته بخمس عشرة سنة قد عين ابنه سعودا خلفا له، فبايعه الناس إذ ذاك على الإمامة عملا برأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولا عجب إذا اعتزل عبد العزيز العمل في شيخوخته، وهو الذي قضى أكثر من أربعين سنة من حياته في الغزو والحروب، فلا كل ولا مل، ولا قعد بعد هزيمة، ولا لها بعد انتصار. قد كان يزحف برجاله من أقصى البلاد إلى أقصاها في يومي البؤس والنعيم، فيهب يوما على حواشي الربع الخالي ويوما في القصيم، يوما في الحساء، ويوما في السماوة بالعراق، وآخر في وادي الدواسر، كأنه من العناصر كالمطر أو السموم. وقد كان مطرا للموحدين وسموما لأعدائهم ، يغزو في بعض السنين ست غزوات ويعود بالغنائم إلى الدرعية فيقسمها على السواء بين رجاله.
أما ابنه سعود فكان قد باشر الغزو قبل أن بويع على الإمارة والإمامة، فظهرت فيه قوى التوحيد، توحيد الدين وتوحيد السيادة العربية، بأروع وأتم مظاهرها. هذا بالرغم عمن تظاهر عليه من الأعداء الأشداء، وقوة كل واحد الحربية تفوق قوتي العريعر والدواس معا. كيف لا وهم من ولاة الدولة العثمانية أو من حلفائها تعضدهم وتمدهم بالسلاح والرجال، وبالذخيرة والمال.
ومن هؤلاء الأعداء الشريف غالب بن مساعد شريف مكة في ذلك الزمان؛ فقد كان على ما يظهر حائرا في بداية أمره لا يريد أن يعادي ابن سعود أو يواليه. ولكنه أظهر في الموالاة ميلا مريبا عندما كتب إلى عبد العزيز أبي سعود يسأله أن يرسل إليه عالما من علماء نجد ليفهمه دعوة ابن عبد الوهاب، فأرسل الإمام أحد قضاة نجد يحمل كتابا من الشيخ إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، ولكن أولئك العلماء لم يرغبوا في مناظرة القاضي النجدي، ولا كانوا مع الشريف فيما أظهر من حب المسالمة والولاء. وقد يكون هو المصانع وهم خدام قصده الحقيقي؛ إذ إنه شمر منذ ذاك الحين، وهذي هي الحقيقة التي لا ريب فيها عن ساعد العداوة لأهل نجد، فأرسل أخاه الشريف عبد العزيز بجيش من عرب الحجاز، وقد انضم إليه كثيرون من عربان شمر ومطير وقحطان ليهاجموا الدرعية. ولكنهم توقفوا في وادي السر، فحاصروا قصرا من قصوره دون طائل، ثم جاء الشريف غالب نفسه ينجد أخاه، وعادوا بعد أربعة أشهر إلى الحجاز دون أن يصيبوا مغنما.
على أنه قد كان لهذه الغزوة نتيجة سياسية ظهرت في قيام عرب شمر ومطير على الموحدين، فضربهم سعود في وقعة العدوة
3
ضربة شتت شملهم ثم غزا جبل شمر فأدخل أهله في دين التوحيد.
ومن أعدائه سليمان باشا والي العراق الذي لم يكن في قصده مخاتلا. فقد سير العساكر إلى الأحساء لمحاربة أهل نجد فيها، وكان ابن سعود قد احتل الهفوف والمبرز، فعادت عساكر الدولة مدحورة.
أما تويني بن عبد الله الذي كان عاملا في المنتفق والبصرة، والذي انهزم مرارا في حملاته على أهل نجد، فأمره عجيب. عندما عزله والي بغداد لجأ إلى عدوه الأمير عبد العزيز في الدرعية فأكرمه وأغدق عليه، ثم عاد فلجأ إلى الوالي سليمان عندما كان يجهز حملة جديدة على آل سعود. جاء تويني متندما، ثم جاء متبجحا: أنا الذي يجمع الأموال، ويقتل الرجال، وينتصر في كل حال. خدع الوالي ثانية وأمره على الجيش فجاء بالمدافع الضخمة يحاصر بريدة فحاصرها، وترك مثل عريعر مدافعه وكثيرين من رجاله تحت أسوارها.
لم تهزم لسعود راية في غزواته كلها وفتوحاته، ولا حالت دونها أوعار شبه الجزيرة وأهوال بواديها؛ فقد اجتازت جيوشه حتى الحرة. قال ابن بشر: «سار بالمسلمين يعتسف من الفيافي السهل والصعاب، ويطوي من أديم الأرض كل موحشة يباب، لا يسمع فيها غير أصوات العرج والذباب، يضل فيها القطا، ويحير الخريت في مهامهها لا يرى بقفرها أنيس، ولا يبصر في رحبها أثر العيس، مظمأة يحاكي لون أديمها زرقة السماء، مغبرة الأفق والأرجاء، يحس الساري بما للجن فيها من الغمغمة والزمزمة. وبعد إنضاء الأعوجيات، وإرقال المهريات
4
وسباسب الفلاة تبين له سواد الحرة.»
الحرة! تلك المفازة البركانية وهي في حصاها المسنمة وحجارتها التي كالسياخ أكثر أهوالا مما وصف، وكان في وصفه صادقا. إني أتخيل ابن سعود ورجاله يرددون دائما بيت ابن ثعلبة :
ولا تجهمني ليل ولا بلد
ولا تكائدني عن حاجتي سفر
رفعوا رايات التوحيد فيما وراء الحرة، وفي جبال شمر وعمان، وشيد سعود قصرا للحامية في البريمة على حدود مسقط ألف قدم فوق البحر،
5
ووصل إلى رأس الخيمة على الخليج، وزحف إلى تربة فاحترب والشريف غالب فيها فكسره.
ثم بايعه أهل البلد «ودينوا»
6
فكانت فاتحة المأساة الحجازية التي ختمت بنصر ابن سعود ثانية في العقد الثاني من القرن العشرين (1214ه / 1799م).
قيل: والقول سديد إن تربة مفتاح الطائف، والطائف مفتاح مكة. ومن مدهشات التاريخ فيما يعيده من أخباره ما سأقص الآن. كان للشريف غالب وزير من بيت المضايفي اسمه عثمان بن عبد الرحمن
7
ولم يكن على ما يظهر مداجيا، فوقع بينه وبين الشريف خلاف، فطرده من مكة فجاء المضايفي إلى ابن سعود يبايعه، ثم جمع له من أهل البادية والحاضرة، من بيشة ورنية وتربة وقراها، جيشا كبيرا لمحاربة الشريف. فزحفت الجيوش إلى الطائف وكان الشريف غالب فيها ففر مهزوما إلى مكة (1216ه / 1803م)، فتقفاه سعود والمضايفي بالجنود، وكان وقت الحج فهم الحجاج بمقاتلة الفاتحين ولكنهم تخاذلوا وعاد كثير منهم إلى أوطانهم. دخل سعود مكة ظافرا وكان الشريف غالب وعساكره وأتباعه قد رحلوا إلى جدة، فأعطى أهلها الأمان، ثم شرع ورجاله يهدمون القباب التي بنيت فوق القبور.
8
وقد كتب سعود كتابا إلى السلطان سليم الثالث هذا معناه:
من سعود إلى سليم: أما بعد، فقد دخلت مكة في الرابع من محرم سنة 1218، وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقا. وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقا للشرع فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء بالمحمل والطبول والزمور إلى هذا البلد المقدس، فإن ذلك ليس من الدين في شيء وعليك رحمة الله وبركاته.
بعد فتح مكة بسنتين استولى الوهابيون على المدينة، وكانت الدعوة أثناء ذلك؛ أي دعوة التوحيد دينا وسياسة تنتشر في عسير واليمن حتى كادت تعم تهامة بأسرها. وكان الزعيمان عبد الرحمن أبو نقطة وطامي بن شعيب من أكبر حلفاء سعود هناك، فبايعته اللحية ثم الحديدة وبيت الفقيه، وكانت قد بايعته أشد القبائل بأسا، منها رجال ألمع في عسير وعرب اليام في نجران.
بعد فتح المدينة اتجهت أنظار أهل نجد إلى الشمال فوصلوا في غزواتهم إلى الجوف والبتراء (1220ه / 1805م)، واجتازوهما إلى حوران والكرك، فوقفوا منتصرين عند أبواب الشام وفلسطين. وقد أرسل الإمام سعود كتبا إلى الولاة هناك يدعوهم فيها إلى دين الله، ولكنه في طموحه إلى بلاد الشام لم يكن ذاك الرجل الذي دوخ البلاد العربية كلها فدانت له العرب حتى على حواشي الربع الخالي في نجران وعمان. ومع أنه حاول أن يتخذ له أنصارا من أولياء الأمر في سورية جريا على طريقته في الاستيلاء، فإن منعه للحج ومعاملة رجاله للحجاج أفسدا الأمر عليه. قال محمد كرد علي في كتابه خطط الشام: «خرج عبد الله باشا العظم (والي الشام يومئذ 1220ه) بالمحمل فحدثت بينه وبين الوهابيين أمور عظيمة، فهلك عسكره وانتهب الحاج.» وفي السنة التالية منع الإمام سعود الحجاج غير الموحدين عن الحج وأخرج من مكة من كان فيها من الترك. أضف إلى ذلك أنه لم يؤمن الأوروبيين الذين كانوا في جدة، فخرجوا منها سنة دخوله إلى مكة، وكانوا في مجرد عملهم ذاك حجة على حكمه.
أما الدولة العثمانية، وقد أصبح العدو على أبواب أغنى وأجمل ولاياتها، فلم تستطع في فساد أحوالها أن تقوم مباشرة بعمل خطير، ولكنها بعد أن كسر الوهابيون الجيوش التي أرسلها عليهم ولاتها في العراق والشام أدارت بنظرها إلى مصر، فطلبت من محمد علي باشا أن يتولى بنفسه إنقاذ الحرمين وإخراج أهل نجد من الحجاز.
قد تردد محمد علي في بادئ الأمر؛ لا لأنه لم يكن ليرغب فيه أو يستطيعه؛ بل لأن المماليك كانوا يومئذ مسيطرين وكان يخشى أن يترك البلاد وشئونها في أيديهم. أعاد الباب العالي الطلب مرارا وقد هدد الباشا إذا كان لا يذعن للأمر، والباشا راغب فيه، إلا أنه كان يتحين الفرص، وقد رأى في الإذعان ثلاث فوائد كبرى لنفسه؛ الأولى: أنه يبعد جيشه الألباني غير المنظم الكثير التمرد فيتمكن أثناء غيابه من تنظيم جيش مدرب على الطريقة الغربية، والثانية: أنه يأخذ من الدولة الأموال التي كان في حاجة إليها بحجة لزومها لنفقات الحرب المقدسة، والثالثة: أن هذه الحرب تجمع عواطف المسلمين في العالم على حبه وولائه بصفته منقذ الحرمين ومعيد مناسك الحج.
وفي هذه الأثناء كان الإمام سعود يحج ورجاله كل عام ويكسو الكعبة «بالقيلان الفاخر»، وكأنه تصالح والشريف غالب فآذنه بالعودة إلى مكة، وكان الاثنان يتزاوران ويتبادلان الهدايا. أما المؤرخ ابن بشر فهو لا يحسن الظن بالشريف، وقد قال في هذه المهاداة: «وأعطاه غالب مثل ذلك خدعة والمؤمن غر كريم.» هي كلمة لا تخلو من حق، فقد كان الشريف غالب مستمرا في سعيه الخفي لإخراج سعود وجماعته من الحجاز.
في خريف هذه السنة بعد قتل المماليك وإنجاز أسطول من السفن في السويس (1226 / 1811)، لبى محمد علي طلب الباب العالي، فأرسل ابنه طوسون الذي كان لا يزال في السابعة عشرة من سنه، يقود ثمانية آلاف من الجنود. جاءوا بحرا وبرا
9
إلى ينبع، ومعهم ضباط أوروبيون وعدد من المجازفين المسترزقين الذين كانوا في عسكر بونابرت، زحف هذا الجيش من ينبع بمعداته ومدافعه، وكان أهل نجد قد استعدوا للقائه، فخرج ثمانية آلاف منهم بقيادة عبد الله ابن الإمام سعود إلى مكان يدعى الخيف بوادي الصفرى قرب المدينة. هناك التحم الجيشان في العشر الأواخر من ذي القعدة، وكانت الغلبة بعد ثلاثة أيام من القتال الشديد لأهل نجد، فانهزم المصريون تاركين وراءهم الخيام والمدافع والذخيرة والأرزاق وعددا كبيرا، قيل: خمسة آلاف من القتلى والجرحى والشاردين ما عدا الخيل والرواحل. أما العرب فقد قتل منهم نحو ستمائة، وإذا فرضنا المبالغة في العددين فوقعة الصفرى تظل مع ذلك أكبر وقعات الحرب الوهابية حتى ذاك الحين.
تقهقر طوسون بما تبقى من جيشه المهزوم إلى ينبع، فأرسل منها يطلب النجدات.
وفي هذه السنة التي هي خاتمة المجد لآل سعود الأولين حج الإمام سعود للمرة السادسة أو السابعة وكسا الكعبة على عادته بالقيلان والديباج الأسود، ثم طاف رجاله في أسواق مكة يردعون الناس عن الخبائث، وينهون عن المنكر، فمن رأوا منه عملا مخالفا للشرع أدبوه في الحال بموجب الأحكام الشرعية. وقد أدت هذه الشدة إلى الردة في بعض البوادي كما سيلي.
قال ابن بشر: إن الإمام سعودا أرسل النجدات إلى المدينة وأمر بتحصينها ثم عاد إلى نجد، ولا نعلم السبب في عودته في مثل تلك الحال وهو يعلم أن طوسون مرابط في ينبع ينتظر النجدات، وأن عرب الحجاز يتذبذبون بينه وبين أهل نجد وقد ينقلبون عليهم.
جاءت النجدات المصرية في السنة التالية، فأعاد طوسون الكرة على المدينة (1127ه/1812م)، بعد أن احتل ينبع النخل، وضم إلى جيشه كثيرين من عرب جهينة وحرب، وقد كان في المدينة سبعة آلاف من أهل نجد فحاصرها المصريون حصارا شديدا دام خمسة وسبعين يوما. صوبوا على القلعة المدافع، وحفروا إليها السراديب التي أشعلوا فيها تحت الأسوار البارود، ثم قطعوا عن المدينة المياه وجاءت الأمراض تساعدهم على المرابطين المحاصرين، بل قام الأهالي أيضا على النجديين فأمسوا بين نارين والوباء يساعد في حصادهم. مات منهم أربعة آلاف - قاله ابن بشر - قبل أن انفتحت أبواب المدينة للمصريين.
قد استبشر الشريف غالب بهذا النصر فباشر السعي جهرا في تحقيق المقاصد التي كان يبطنها، ثم بدت في هذه السنة قرون الفتنة فانتشرت الردة في مكة والطائف (1228ه / 1813م)، فدخلهما طوسون بمساعدة الشريف بدون قتال، ولكن النكبات التي توالت على النجديين لم تبق حتى على عدوهم الشريف. ولم ينج المصريون من أهوالها الطامية الجارفة. فقد مات منهم مئات بالوباء الذي كان حليفهم على أعدائهم، وقد قدرت خسارتهم كلها في الحملتين بثمانية آلاف من الرجال، ثم جاء محمد علي نفسه بنجدات جديدة. جاء يسرع بإنجاز العمل الذي باشره ابنه وخسر فيه هذه الخسارة الجسيمة، فوصل إلى جدة في (30 شعبان / 31 آب) من هذه السنة، فاستقبله فيها الشريف غالب مرحبا مكرما ثم رافقه إلى مكة.
وعندما استقر محمد علي هناك جازى الشريف في أن قبض عليه وعلى أولاده عملا بأمر شاهاني كما ادعى وأرسلهم أسرى إلى مصر، ثم حجز جميع ما كان في خزائن غالب من الذهب والفضة، وأخرج حرمه من قصر جياد، ونصب مكانه ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور.
أما آل سعود فلم يكونوا أوفر حظا لدى القضاء من بيت عدوهم الشريف؛ فبعد أربعة أشهر من جلائهم؛ أي في 11، وقيل في 8 جمادى الأولى من السنة التاسعة والعشرين والمائتين والألف (2 أيار سنة 1814) مات في الدرعية الإمام سعود وهو في الثامنة والستين من عمره. مات لا بالحمى كما قال هوغارث نقلا عن أحد المستشرقين الذين كانوا يومئذ في مكة، بل بعلة في المثانة، وقيل: بعلة أخرى هي نكبة أهل نجد في الحجاز التي عجلت ولا شك في أجله. وقد كانت ولايته إحدى عشرة سنة إذا حسبناها من يوم وفاة والده عبد العزيز، وسبعا وعشرين سنة إذا عدت من يوم بويع بالإمارة في السنة الثانية والمائتين والألف.
هو يدعى بالكبير، وقد خص بتلك السجايا أو بأكثرها التي تؤهل رجل التاريخ لهذا اللقب. فقد كان في عظمته متواضعا، وفي حكمته ورعا، وفي عدله حليما، وفي سياسته جامعا بين المرونة والمضاء. أضف إلى ذلك ذكاء لم يكن عاديا، ولم يقف به عند حد السياسة؛ فقد كان مولعا بالعلم، محبا للعلماء وللطلاب، فلم يستنكف من عقد مجالس القراءة والتدريس في قصره وتحت مشارفته عندما يكون في العاصمة، بل كان هو يتولى التعليم في بعض الأحايين فيدهش حتى العلماء بما كان يحسنه من علمي التفسير والفقه، وبالرغم من تعدد مشاغله ومشاكل ملكه البعيد الأرجاء كان يزور مجالس التدريس العامة، فيطلع على أعمال الطلبة ويجزي منهم الأذكياء المجتهدين.
وقد كان سعود كبيرا في أخلاقه مثله في أعماله، لا ينكر الفضل على ذويه وإن كانوا من أعاديه، ولا يقف في إحسانه ومكارمه عند شبهات النفس وأهوائها؛ مثال ذلك معاملته للشريف غالب على ما كان يبطنه الشريف من الكيد والغل، فلو كان فاتح مكة غير سعود، لو كان محمد علي مثلا، لما أذن للشريف بالعود إليها بعد أن فر منها هاربا إلى جدة.
أما في غزواته وفتوحاته فلم يكن ليخرج عن القاعدة أن الحرب خدعة، وللعرب في ذلك أساليب تقترن فيها السذاجة بالدهاء. فقد كان سعود إذا أراد أن يغزو إلى جهة الشمال يظهر أنه يريد الجنوب أو الغرب والعكس بالعكس. وعندما نزل الرقيعة في غزوة الأحساء أمر رجاله أن يوقد كل واحد منهم نارا وأن يطلقوا كلهم البنادق عند طلوع الشمس ليرهبوا أهلها. فلما طلعت الشمس فعلوا ذلك دفعة واحدة فارتجت الأرض وأظلمت السماء وأسقط كثير من الحوامل في الأحساء. هذه الطريقة في الحرب طريقة الإرهاب والترويع مألوفة عند العرب خصوصا عند أهل نجد.
ولا حاجة لذكر البسالة في سعود الكبير والإقدام، وعلو الهمة والمرام. فإن في فتوحاته الشاهد الأكبر على ذلك. أما حكمه فقد كان له مزيتان كبيرتان رائعتان هما الأمن والعدل؛ الأمن: وكان أساسه العقاب الشديد السريع بموجب الأحكام الشرعية، والعدل: وكان أساسه الأمتن المساواة وعدم المحاباة. بيد أنه لم يكن على شيء من الإدارة، ولا كان النظام، ما عدا بعض قواعد أساسية تتعلق بالجيش معلوما. فلم يكن ليربط النواحي القصية بعضها ببعض غير كلمة الأمير، ولم يكن ليحفظها وثيقة العرى غير صولته، فإذا ذهبت الصولة ذهب الملك.
آل سعود: الدور الثاني - الفوضى
لم يكن طوسون الشاب قوي البنية أو الإرادة، ولا كان على شيء من الحزم كبير، فأعيته حرب الحجاز وأضنته. ولولا عرب الحجاز لما عقد له النصر في حملته الثانية على عرب نجد. بيد أنه كان مثل أبيه وأخيه إبراهيم متساهلا في دينه، عاملا بتساهله في أمور شتى سياسية وغير سياسية. وكان يميل خصوصا إلى الأوروبيين ويحب الانتفاع بعلومهم واختراعاتهم. قد أشرت إلى أولئك المجازفين منهم المسترزقين الذين كانوا في الجيش المصري. ومن أغرب أمورهم مما يدل على التساهل الذي ذكرت، أن أحدهم، وهو اسكتلندي اسمه ثوماس كيث، تولى برهة حكم المدينة المنورة.
على أنه لم يكن بينهم أديب عالم يدون حوادث تلك الأيام، أو ينقل إلينا شيئا من معلوماته هناك. ولا أظن أن أحدا منهم دخل مكة ولو خلسة عندما استولى طوسون عليها؛ لأنه لم تكن لهم العقلية العلمية التي تحمل صاحبها على التكشف والاستطلاع، إلا واحدا ذكره هوغارث، وقال إن ما كتب يعد تافها.
على أن هناك ثلاثة لم يجيئوا الحجاز محاربين، ولا جاءوا مع المصريين وهم جديرون بالذكر؛ لأنهم من العلماء المستشرقين المستعربين الذين دخلوا مكة يوم كان الوهابيون مستولين عليها، فرأوهم من كثب وكتبوا عنهم بدون تحيز أو تحامل.
أول هؤلاء رجل إسباني اسمه دومنغو باديا أي: لبلخ
10
انتحل اسما ونسبا ودينا عربيا وجاء من قادش عن طريق الجزائر إلى الحجاز. هو علي بك العباسي الأمير المكرم، والعالم المحترم، والحاج الورع الموقر، رسول بونابرت إلى البلاد العربية، أجل قد جاء حاجا مستكشفا فنزل في جدة تحف به الخدم والحشم، وسار إلى مكة المكرمة محرما، مثل من جاءوها من أهل نجد، فدخلها في 23 يناير سنة 1807 /14 ذي القعدة 1221، وقد شاهد جموع الوهابيين، وحج معهم واعتمر.
11
سمع العج، وحضر الثج، وكان في ظاهره عربيا قحا ومسلما حقا، لا تعيبه كلمة يقولها ولا تخونه فعلة أو إشارة، فما شك أحد في دينه أو في نسبه.
وقد اجتمع علي بك بالشريف غالب، فقال: إنه في العقد الرابع من العمر وإنه على جهله ذو حصافة ودهاء. رآه لأول مرة في مجلسه وهو يدخن النارجيلة التي كانت محجوبة خوفا من الوهابيين، فلم ير السائح الأوروبي غير النبريج الذي كان يتصل من خرق في الحائط بالنارجيلة وراءه في الغرفة المجاورة للمجلس.
والعباسي هذا كان عالما يحمل في حقائبه أدوات للرصد والمساحة، فاستخدمها في مكة وجوارها دون أن يعترضه أحد من الناس، بل كان محترما من الجميع. وقد حاز فوق ذلك شرفا لم يحزه سواه من المستشرقين ولا يحوزه إلا الأفراد القلائل من المسلمين، ألا وهو شرف كناسة الكعبة، ولكنه على ما يظهر لم يفلح حتى النهاية في تنكره. فعندما قصد إلى المدينة زائرا صده عنها الوهابيون فعاد إلى ينبع ومنها إلى مصر فباريس حيث اجتمع بنبوليون وعين في حاشية أخيه يوسف بونابرت. وقد عاد علي بك إلى الشرق في سنة 1818م، فسافر من دمشق ليرحل رحلة ثانية في البلاد العربية، ولكنه وهو لا يزال في أول الطريق أصيب بالديزنتاريه فمات في المزاريب.
إذا صرفنا النظر عن مهمة علي بك السياسية، فإنه كعالم صادق الرواية وهو أول أوروبي شاهد الوهابيين في مكة وقضى وإياهم مناسك الحج، وصفهم وهم يتزاحمون عند الحجر الأسود ويتسابقون إليه، فقال (الجزء الأول صفحة 72):
إنهم مرهبون ولكنهم لا يسلبون إلا ما كان حلالا في مذهبهم؛ أي مال العدو والكفار. وهم إذا اشتروا شيئا يدفعون ثمنه كما أنهم يدفعون أجرة من يخدمونهم، فلا يصادرون ولا يسخرون. ومنهم الفقراء الذين كانوا يدفعون رسوم زمزم والكعبة من البارود والرصاص الذي كان معهم. وبما أنهم يطيعون أميرهم طاعة عمياء فهم يحتملون من أجله كل شدة ساكتين صابرين، ويسيرون إذا أمرهم إلى أقصى أطراف الأرض.
من فضل الوهابيين في فتحهم الحجاز أنهم لفتوا نظر العالم إلى البلاد العربية، ونبهوا العلماء المستشرقين إلى تكشف أحوالها، فجازفوا بحياتهم، وفادى أكثر من واحد بها، طلبا للعلم.
ومن هؤلاء العالم الألماني ألريخ زتسن
12
الذي قضى عشرين سنة يدرس ويتأهب لرحلته إلى الشرق. فجاء سورية سنة 1805، وأقام في الشرق الأدنى بضع سنين، وكتب في رحلته كتابا باللغة الألمانية قيما
13
ثم سافر إلى الحجاز في زي درويش اسمه الحاج موسى، فدخل مكة حاجا سنة 1810، وارتحل منها إلى اليمن، فزار صنعاء ونزل إلى عدن. قد كان في نية زتسن أن يجتاز شبه الجزيرة إلى الخليج ليسوح في الشرق الأوسط، فعاد من عدن ووجهته الجبال، ولكن عند مروره بتعز اعترضه بعض الناس وقد أرابهم أمره فقتلوه، لم يكن هذا المستعرب الألماني على ما يظهر مثل علي بك العباسي بارعا بالتنكر، ولكنه كان أوفر علما وأنزه قصدا.
هو الذي قابل الإمام سعودا في مكة وكان قد تريب بقيافته وإسلامه، ولكن كبير الوهابيين بل كبير العرب يومئذ لم يمانع العالم الإفرنجي في تجواله. قال هوغارث: «كان زتسن نباتيا مشهورا في أوروبة، وهو من العلماء الأفاضل، له نظرات ثاقبة صائبة في الأشياء وفي الناس.» وإن من يقرأ ما كتبه عن بعض الحكام في سورية، وبعض النباتات والصناعات في لبنان، ليتأكد ذلك ويأسف جدا؛ لأن كتبه ومذكراته فقدت بعد موته في اليمن، فحرمنا رأيه في الوهابيين وأميرهم الأكبر سعود.
ولكن المستشرق الثالث الذي ساح في الحجاز في العقد الثاني من القرن التاسع عشر كان أوفر حظا من زميليه الألماني والإسباني. هو الحاج عبد الله؛ أي السويسري المشهور بركهارت
14
صديق محمد علي وصديق العرب والإسلام، جاء الحجاز عندما كان محمد علي هناك، فنزل في جدة في 15 تموز سنة 1814، وسار منها إلى الطائف، ثم دخل مكة المكرمة في 19 رمضان 1230ه/4 أغسطس 1814م بعد استئذان صديقه العظيم، وهو يومئذ سيد الحرمين، فحج مع من حجوا في ذاك العام، وأقام في مكة ثلاثة أشهر، ثم سافر إلى المدينة فأدى الزيارة في أبريل سنة 1815 يوم كان محمد علي باشا هناك، ولكنه مرض في المدينة فعاد إلى القاهرة في ربيع ذاك العام، وتوفي فيها وهو في ربيع الشباب.
كان بركهارت في قيافته وفي إسلامه محترما موقرا، وقد قال يصف نعمة تبحبح فيها: «ما شعرت في مكان آخر بمثل الطمأنينة التي كنت أشعر بها وأنا في مكة.»
ولكنه لم يجهل أو يتجاهل ما اشتهر به المكيون والترك يومئذ من قبيح العادات والتقاليد، فذكرها كلها، وقد قال في كلامه على الوهابيين إنهم حقا جاءوا يطهرون الحجاز، ثم قال:
وما الوهابية إذا جئنا نصفها غير الإسلام في طهارته الأولى. وإذا ما جئنا نبين الفرق بين الوهابيين وبين الترك مثلا فما لنا إلا أن نعدد الخبائث التي اشتهر هؤلاء بها.
هاك شهادة الأجانب وهي شهادة العلماء المنزهين عن الأغراض الخصوصية والمذهبية: «جاء الوهابيون يطهرون الحجاز.»
وجاء الترك أو بالحري المصريون ينقذون الحرمين من المطهرين فأنقذوهما.
وجلس محمد علي في مكة يصدر الأوامر إلى جيشه في المدينة ليزحف إلى نجد (1229ه / 1813م)، وجيشه في الطائف ليحتل تربة، وجيشه الثالث ليذهب برا وبحرا إلى القنفذة فيؤدب عرب عسير المدينين، أنصار ابن سعود وزعيمهم ابن شعيب.
كان المصريون قد احتلوا القنفذة في آذار من هذه السنة (1230 / 1814)، فأغار العرب عليهم بعد شهرين بقيادة طامي بن شعيب، فهزموهم، فلاذ من سلم منهم بالسفن. وقد غنم العرب المدافع والذخيرة كلها مع عدد كبير من الخيل والجمال.
أما الحملة الأولى التي سيرها محمد علي على تربة في صيف هذا العام بقيادة ابنه طوسون فقد عادت مدحورة تشكو الحر والجوع، والحملة الثانية عادت تحدث عن بدوية
15
باسلة كانت في طليعة العربان تحرضهم على القتال. فجهز محمد علي حملة ثالثة مؤلفة من ألفي جندي وألفين من عرب الحجاز وخمسمائة خيال، كما جاء في البلاغ الذي أرسله بعدئذ إلى أهل المدينة، الشبيه ببلاغات الدولة العلية في الحرب العظمى، وراح هو بنفسه يقود تلك الحملة، فالتقى في بسل بين الطائف وتربة بجيش عظيم، قدره بأربعين ألف من أهل نجد وعسير يقودهم فيصل بن سعود وحليفه طامي بن شعيب (1231ه / 1815م)، التحم الجيشان هناك وكان القتال شديدا من الفجر حتى المساء، فخسر أهل نجد ستمائة من رجالهم وتشتت الباقون، ثم واصل المصريون الزحف إلى تربة فاحتلوها بدون قتال.
وقد جاء في البلاغ الذي أشرت إليه المؤرخ في صفر أن قد غنم الجيش الظافر في وقعة بسل خمسة آلاف خيمة وخمسة آلاف من الجمال ما عدا الأرزاق الكثيرة.
استراح محمد علي قليلا في تربة ثم زحف إلى رنيه وفيها عرب سبيع فسلمت. وبعد أربعة أيام وهو يواصل السير جنوبا بشرق، وصل إلى بيشة
16
مفتاح اليمن الشرقي وفيها بنو سالم فقاوموا يوما وسلموا.
ومن بيشة مشى الظافر إلى جبال عسير، ولكن تلك الانتصارات نهكت الجيش وأفقرته؛ لأنه لم يكن في البلدان التي اكتسحوها شيء يذكر من الغنائم، فقل الزاد، وكثرت المشقات، وكانت الخسائر خصوصا في الركائب كبيرة؛ قيل إنه مات مائة رأس من الخيل في يوم واحد. ترجل محمد علي ومشى مع الماشين وهو يعدهم بالغنائم العظيمة في اليمن. فلما صاروا في جبال زهران بعد خمسة عشر يوما من السير، التقوا بطامي الذي انهزم في وقعة بسل ومعه بضعة آلاف من العربان، فنازلهم محمد علي وكان في الجولة الأولى مهزوما، ثم عاد الكرة عليهم فأخرجهم من معاقلهم في الجبال ودحرهم في القتال فشتت شملهم. ومن غنائم هذه الوقعة أن ابن شعيب أخذ أسيرا ثم أرسل إلى مصر ومنها إلى الآستانة، فضرب عنقه بعد أن شهر في الأسواق هناك.
بعد هذا الفوز في عسير عاد محمد علي إلى مكة فولى فيها أحد رجاله، ثم سافر إلى المدينة ليؤدي الزيارة، وكان قد حج في العام السابق؛ وليطلع على أحوال الحجاز الشمالي . بيد أنه لم يلبث طويلا في المدينة؛ لأن الأخبار التي كانت قد جاءته أنبأت بفتنة في القاهرة وبفرار نبوليون من جزيرة إلبا؛ فسافر فجأة في شهر يونيو سنة 1815 وهو يبغي صون ملكه من الأخطار الداخلية والخارجية.
من حسنات محمد علي في الحجاز أنه وزع كثيرا من المال والأرزاق على المحتاجين، وخفض رسوم الجمرك في جدة، وأبطل الضرائب التي كان قد ضربها الشريف غالب، ومثل بالأشقياء وعاقب بشدة كل من تعدى على الأجانب، بيد أنه لم يحسن عملا في إبقاء جنوده بعسير؛ إذ بعد سفره أعاد عرب ألمع وغامد وزهران الكرة على أولئك الجنود في تهامة وفي الجبال، فدحروهم دحرات متعددة، وردوهم خاسرين برا إلى الطائف وبحرا إلى جدة.
أما طوسون فكان قد جهز حملته على نجد وزحف إلى الرس
17
فاحتلها بالاتفاق مع أهلها، فجاء عبد الله بن سعود بجيشه يخرجه منها، ولكن عبد الله مثل طوسون من أولئك القواد الذين يضعفون ما عندهم من قوة بما ينقصهم من زعامة وإقدام. وقف الضعيفان في القصيم وقفة المنازل الراغب في الصلح المتظاهر بعكس رغبته، فتناوشت الجنود وتقهقرت، وتخاذلت، وتقاعست، حتى سئم أولو العزم في الجانبين الحالة وقام منهم من يطالب بشيء يشفع بتردد القائدين وتذبذبهما. قال أهل نجد لعبد الله: اخرج إلى طوسون أو اخرج عليه؛ أي صالحه أو حاربه. وقد توفق الفريقان إلى عقد صلح فيه تعهد المصريون أن يخرجوا من نجد، وتعهد النجديون أن يأذنوا بالحج، ويؤمنوا السبل، ويرجعوا ما سلب من الحجرة النبوية.
عاد طوسون بجيشه إلى المدينة ومعه وفد من أهل نجد يحمل معاهدة الصلح إلى محمد علي ليصدق عليها. وكان محمد علي قد رحل فتبعه الوفد إلى مصر، قال ابن بشر: «وصل الوفد إلى مصر ورجع منها وانتظم الصلح.» والقول مبتسر؛ فقد تعاكست الأقدار على الجميع في هذه السنة، فلا خدمت أهل نجد ولا خدمت خصمهم. أمر محمد علي ابنه طوسون بالرجوع إلى بلاده، وقد مات بعد بضعة أشهر في الإسكندرية (1231ه / 1815م)، قيل: من مرض غشاه في الحجاز ، وقيل: من استرساله في اللذات. وفي هذه السنة أيضا توفي عدو النجديين الآخر الشريف غالب وهو في منفاه بسالونيك. وكان صاحب مصر قد نقض عهد الصلح الذي أقره
18
وجهز ابنه إبراهيم بحملة جديدة على أهل نجد.
كان إبراهيم صلب العود، شديد البطش ثابتا في عزمه ومقاصده، ولكنه لم يكن ماهرا في تعبئة الجنود، ولا كان باهرا في المفاجآت الحربية، إنما كان جلدا كدودا، بطيء منشأ الفكر، سريع منشأ الهوى، إرادته من حديد، وقلبه مثل إرادته.
جاء وهو في السابعة والعشرين من سنه يطوي بساط الجزيرة؛ ليصل إلى قلبها الملتهب فيطفئ النار فيه ويفرغ منه الحياة، جاء بجيش لا يتجاوز الأربعة آلاف وفيهم الألباني والمغربي والسوداني، وقد أضاف إليهم في مروره بالصعيد ألفين من الفلاحين للأشغال والخدمة.
وكان معه مهندس إفرنسي
19
وأربعة أطباء وصيادلة إيطاليين
20
ومدافع ضخمة ترمي القنابل التي روعت العرب.
21
سافر إبراهيم من القاهرة في النيل في 10 شوال 1231 /3 أيلول 1816، إلى قنا، ومنها برا إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرا إلى ينبع، فوصلها في 8 ذي القعدة (30 أيلول)، وسار منها دون مقاومة إلى المدينة، فزار قبر النبي وقبور الصحابة، ثم نقل بجيشه إلى الحناكية
22
وعسكر هناك.
أقام إبراهيم في الحناكية ولبث يراقب كالصياد طرائده، فكان يغير تارة على البدو وطورا ينتظر إغارتهم عليه، فينصب لهم شراكا من الوعود الخلابة التي كانت تتخللها الهدايا وشيء من الذهب الوهاج. ولم يكن على ما يظهر فيما يستوجب العجلة. أقام ستة شهور على ذاك الماء وهو ينتظر العربان ليخون بعضهم بعضا وينضموا إلى جيشه. وكذلك كان. جاءت حرب
23
وجاءت عتيبة وجاءت مطير،
24
والله يا إبراهيم حنا (نحن) ما نبي (لا نبغي) أهل نجد. حنا رجالك وحياة الله! وكانوا يقولون مثل هذا القول لابن سعود.
بعد أن أقام ستة أشهر في الحناكية يستغوي العربان ويجندهم، زحف في شتاء السنة التالية 5 ربيع ثان 1232 /22 فبراير 1817 إلى نجد فوصل إلى الرس التي سلمت قبلا لأخيه طوسون وأبت أن تسلم لإبراهيم، فكانت عليه حربا عوانا. أخسرته في الهجمات الأولى ثمانمائة من رجاله فبعث يطلب النجدات من المدينة. وكان أهل الرس رجال ونساء يدافعون من وراء الأسوار عن بلادهم، فيردون على قنابر المصريين برصاص البنادق، ويبطلون فعل ألغامهم بألغام أخرى يحفرونها إليها.
جاءت النجدات من المدينة فشدد على البلدة الحصار وضاعف ضرب أسوارها. لم يكن إبراهيم ليضن حتى برجاله؛ فبعد ذبحات هائلة في الجيشين طلب عبد الله بن سعود الصلح، فطلب إبراهيم البلدة من أميرها محمد بن مزروع، فقال الأمير: تعال خذها.
استؤنف القتال. وكان إبراهيم في الهجمة الأولى على رأس ألف خيال فتكوا بأهل الرس، فذبحوا منهم أربعمائة ونكلوا بهم، كانوا يقطعون رءوس الزعماء ويرفعونها على الرماح ليراها النجديون. أما عبد الله فاستمر يفاوض بالصلح، فتمسك إبراهيم بشروطه وأهمها أن يقدم أهل الرس ألفي رأس من الخيل وألفين من الجمال، ومئونة الجيش لستة أشهر، ورهينتين من أولاد عبد الله. استؤنف القتال واستمر الفوز فيه لأهل الرس، فتنازل إبراهيم إذ ذاك عن شروطه إلا شرطا واحدا هو أن يضع المحاصرون سلاحهم، ويقيموا على الحياد فلا يعاونون ابن سعود ولا يتعرضون للجيوش المصرية، فقبلوا بذلك ورفع الحصار الذي استمر ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما والذي خسر فيه إبراهيم ثلاثة آلاف وأربعمائة من عسكره النظامي.
بعد أن سلمت الرس زحف إبراهيم إلى عنيزة، وكان عبد الله قد لجأ إليها.
عبد الله بن سعود الكبير عن رسم رسم في مصر يوم اعتقاله هناك.
فصالحه أهلها، وأبى المرابطون في القصر إلا القتال، فأطلقت عليهم المدافع ليلة ونهارا فسلموا.
ثم حمل على بريدة وكان عبد الله قد رحل من عنيزة إليها فرحل إذ ذاك منها إلى الدرعية. راح يستنفر أهل نجد البوادي والحضر ليجتمعوا في العاصمة للدفاع عن الوطن.
لم يدم حصار بريدة إلا ثلاثة أيام، وبعد أن سلمت المدينة عاد إبراهيم بجيشه إلى المذنب آخر بلدة في جنوب القصيم، فبادر أهلها إلى التسليم، ثم دخل الوشم ذاك السهل الكائن بين وادي السر ووادي حنيفة فوصل إلى شقرا أهم بلدانه - أم بلدان الوشم - في 18 صفر 1233 /28 ديسمبر 1817، وحاصرها ستة أيام فدافع أهلها عنها ما استطاعوا ثم سلموا. ومما هو جدير بالذكر أن إبراهيم أسس في شقرا مستشفى للجرحى بعناية اثنين من الأطباء والصيادلة الإفرنج الذين كانوا معه، ولكن هذه الرحمة لم تشمل غير جرحى جيشه؛ فقد كان يأمر بقتل الأسرى، وقد قطع جنوده في شقرا آذان القتلى النجديين فأرسلها مع رسول إلى والده بمصر.
استمر الجيش الظافر زاحفا في الوشم فسلمت بقية بلدانه بدون قتال، ولكن عندما وصل إلى ضرمة
25
اصطدم هناك بأهلها وهم ألف ومائتان، فكانوا عليه مثل أهل الرس. نصب الباشا مدافعه وضرب البلدة فهدم سورها وأباحها لجنوده، فدخلوها فاتكين مكتسحين. لم ينج حتى الحريم من سورة بل من شهوة الجيوش الهائجة، وقد ذبح ثمانمائة في البيوت والأسواق حربا وخدعة. قال ابن بشر: «كان الروم
26
يأتون أهل البيت أو العصابة المجتمعة فيقولون: الأمان، فيأخذون سلاحهم ويقتلونهم.»
بعد أن نهب الروم ضرمة وهتكوا عرض حريمها، وذبحوا ثلثي أهلها ففر الباقون هاربين، دمروها تدميرا وساروا إلى وادي حنيفة، فمروا بالجبيلة ثم بالعيينة ثم أشرفوا في أواخر جمادى الأولى على الدرعية، وكان عبد الله بن سعود وأخوه فيصل وغيرهما من آل سعود قد خرجوا بجموع من أهل المدينة للدفاع، فتوزعوا في الوادي وأقاموا فيه وفي منعطفاته المتاريس.
كانت الدرعية قائمة على الآكام إلى جانبي الوادي
27
ولا يتمكن منها الجيش القادم من الوشم أو من سدير إلا إذا اجتاز واديها وصعد إلى الربوة الشرقية فنصب مدافعه هناك؛ لذلك خرج أهل المدينة يصدمون المصريين ويناجزونهم ليمنعوهم من إحراز ذاك المركز الخطير.
كان جيش إبراهيم باشا عندما وصل إلى الدرعية وباشر حصارها في 29 جمادى الأولى 1233 / 6 أبريل 1818، مؤلفا من أربعة آلاف من المصريين والألبانيين، وخمسمائة من المغاربة، وبضعة آلاف من عربان مطير وحرب وعتيبة وبني خالد، ونحو ألفين من العمال والخدم، وعشرة آلاف من الجمال حاملة المؤن والذخيرة.
استمر الحصار خمسة أشهر وبضعة أيام فتعددت فيه الوقعات واشتدت الحملات، وكانت الغلبة غالبا لآل سعود، ولكن النجدات كانت ترد متوالية على إبراهيم، فتجيئه الجنود والذخيرة من مصر، والأرزاق من البصرة والمدينة، والغنم والسمن من القصيم. ومع ذلك فقد نكب في (16 شعبان / 21 يونيو) نكبة كادت تقضي عليه، فبعد أن انهزم يومئذ في وقعة قتل فيها مائة وستون من رجاله هبت ريح السموم فحملت شرارة من نار إحدى الخيم إلى مستودع الذخيرة، فاشتعل البارود، وتفجرت القنابل وأتلف كل ما كان هناك، بل امتدت النيران إلى مستودع القمح أيضا فاستحال في ذاك اليوم رمادا. قال إبراهيم لطبيبه الإفرنسي: خسرنا كل شيء ما عدا شجاعتنا وسيوفنا. والحق يقال: إن لولا الشجاعة والعزم والثبات، تلك السجايا الكبيرة فيه، لعاد من الدرعية بعد تلك الفاجعة مدحورا.
ولكنه ثبت في مراكزه واستعاض عن القتال بالمناوشة والمخادعة إلى أن جاءته النجدات من المدينة والذخيرة والمؤن من القصيم، وكان قد شاع أن أباه جهز محافظ الإسكندرية بحملة ليرسله إلى نجد، وقد ولاه القيادة العامة؛ فأثار هذا الخبر غضب إبراهيم وحميته، فحمل على أهل الدرعية في متاريسهم وفي معاقلهم، وفي أبراجهم، وفي بيوتهم، حملات شعواء استخدمت فيها المدافع الضخمة، والقبوس النارية، والبنادق والسيوف، ثم أحاطت جيوشه بالمدينة واحتلت حيا من أحيائها فبدأت تتزعزع عزيمة المدافعين، فطلب فريق منهم الصلح، فأبى إبراهيم إلا أن يسلم عبد الله بن سعود.
رفض آل سعود ونهضوا نهضة واحدة يستأنفون القتال فحملوا على الجنود المحتلين قسما من المدينة، فذبحوا عددا كبيرا منهم وأخرجوا الباقين، ذلك تمهيدا لصلح شريف، ولكن إبراهيم أدرك قصد العدو فأفرغ كل ما لديه من المدافع على الدرعية وقصورها ومعاقلها حتى وعلى المسجد الجامع فيها.
وكان ذلك في آخر الشهر الخامس من الحصار فاضطرمت في المدينة النيران بعد أن هلك كثيرون من أهلها
28
وتفرق كثيرون من المجاهدين، فخرج عبد الله بن سعود إلى إبراهيم باشا في اليوم الثامن من ذي القعدة (9 سبتمبر) فاستقبله إبراهيم في خيمته (1233ه / 1218م)، فقال عبد الله: «ما غلبتنا جنودك، إنما الله أراد ذلنا.»
سلمت الدرعية وأرسل عبد الله ومعه بعض رجاله وعبيده بمحافظة أربعمائة من الجنود إلى المدينة، ومنها إلى القاهرة، فوصلها في 18 محرم 1234 /18 نوفمبر 1818، ومثل بين يدي محمد علي، فسأله رأيه بابنه إبراهيم، فقال: «هو عمل واجبه، ونحن عملنا واجبنا، وما شاء الله كان.»
لم يلبث عبد الله غير يومين في القاهرة، ثم أرسل أسيرا إلى الآستانة ومعه كاتب سره ورجل آخر من رجاله كرها أن يفارقاه، وهناك عند وصولهم طوفوا بالأسواق ونفذ فيهم في اليوم الثالث حكم الإعدام.
أما إبراهيم فعندما دخل الدرعية أمر بالقبض على بعض الزعماء والعلماء ونكل بهم تنكيلا شنيعا؛ فمنهم من طرحوا مقيدين تحت سنابك الخيل، ومنهم من وضعوا مكبلين عند فوهة المدفع فقطعهم إربا إربا «طير أوصالهم في الفضاء»، قال ابن بشر: «وكان الشيخ العلامة القاضي أحمد بن رشيد الحنبلي صاحب المدينة في الدرعية عند عبد الله، فأمر الباشا بضربه وتعذيبه وقلع جميع أسنانه فقلعت.» وقال المؤرخ الإفرنسي: «سام الشيخين أحمد الحنبلي وعبد العزيز بن محمد عذابا شديدا، ولكنه ندم بعد ذلك على استرساله في غضبه.»
ولم تكن هذه خاتمة المظالم والفظائع التي ارتكبها الظافر تأديبا وانتقاما. قيل إن محمد علي هو الذي أمر بتدمير الدرعية، ولو سئل محمد علي لقال: إن الأمر جاءه من الآستانة. فقد طالما تذرع الأب والابن بالأوامر الشاهانية في تنكيلهم بالعرب، على أن هذا الأمر يشين صاحبه أيا كان. ولا فضل للظافر في تنفيذه، ولا مجد، ولا فائدة. ألا ما الفائدة بعد كسرة أهل نجد من تدمير عاصمتهم؟ قد أمر إبراهيم بإخراج من تبقى في الدرعية من أهلها، وكان قد أجلى إلى مصر فريقا كبيرا
29
من آل سعود وآل الشيخ، ثم بتدميرها، فدمر عساكره قصورها، وأشعلوا النار في دورها، وقطعوا النخيل في بساتينها، ثم فعلوا كذلك في البلدان الأخرى التي اكتسحوها؛ أي في العارض وفي الخرج، وهدموا الحصون والقصور في الوشم وفي القصيم.
قال هوغارث: «لم يكن يطمع محمد علي بضم البلاد العربية إلى ملكه؛ لذلك لم يحسن معاملة أهلها. وجل ما ابتغاه أن يظلوا كما كانوا قبل ظهور المذهب الوهابي نهب الشقاق والفوضى.»
هي الحالة التي كانوا فيها عندما انسحب إبراهيم باشا بجنوده من نجد في فصل الصيف من سنة 1819 بعد أن أقام سبعة أشهر في الدرعية، فضربت الفوضى أطنابها في البلاد، وجاءت عساكر الترك تحل محل العساكر المصرية، فكانت ضغثا على إبالة. قال ابن بشر: «كان الناس يهجرون بيوتهم، فيهيمون على وجوههم في البراري فرارا من التسخير والإرهاق والقتل والتعذيب، فانحل في البلاد نظام الجماعة، وشاعت الحرمات، فصرت لا ترى من ينهى عن منكر، أو يأمر بمعروف.»
وفي هذه الآونة قام رجل من بيت معمر هو محمد بن مشاري يحاول الاستيلاء على قسم من البلاد، فأفلح بادئ ذي بدء سعيه. قد دانت له الوشم والعارض وسدير، ولكنه لضعف عزمه لم يحكم سنة كاملة، ولم يكن في تلك الأيام الوحيد الطالب السيادة من أي وجه كان.
عندما وصل عسكر الترك إلى عنيزة بقيادة رجل يدعى عبوش أغا كتب إليه ابن معمر يقول: إنه طائع للسلطان وإنه ألقى القبض على أبناء سعود ... إلخ؛ فأقره عبوش في مركزه.
كان إبراهيم باشا كما أسلفت القول قد أجلى آل سعود إلى مصر، ولكن مشاري بن سعود الكبير عاد منها هاربا، وتركي بن عبد الله بن محمد كان قد لاذ بالخرج عند تسليم الدرعية. فلما عاد مشاري يطالب بالإمارة قاومه ابن معمر وتمكن من القبض عليه فسلمه إلى الترك فقتلوه. وكان تركي قد عاد من الخرج فنازع ابن معمر الإمارة، وحمل عليه ثم قتله انتقاما لمشاري. وفي ذاك اليوم كان قد جاء وفود أهل سدير والمحمل يبايعون مشاري، فبايعوه في الصباح، ثم بايعوا تركي بعد الظهر.
1236ه / 1820م: وفي هذه المبايعة ينتقل الحكم من سليلة عبد العزيز بن محمد إلى سليلة عبد الله أخي عبد العزيز، ويستمر فيها إلى اليوم. أما لولا تركي لما أنقذ في تلك الآونة بيت آل سعود. بيد أنه لم يستطع في مدة إمارته، التي استمرت عشر سنوات أن يعيد إلى هذا البيت سالف مجده، وإلى ذاك الحكم تلك الصولة التي كانت لابن عمه سعود الكبير، ولا أظن أن سعودا نفسه كان يستطيع ذلك بعد أن توالت على نجد النكبات، وانتشرت بين أهله الردات، ففسدت أخلاق الناس وتلاشت فيهم القوى المعنوية والروحية.
مع ذلك فقد استطاع الإمام تركي أن يستعين بما تبقى من شتات الفضيلة في قوم مغلوب ليحفظ السيادة السعودية في زمن الزعازع والفتن، بل في زمن كانت عساكر الروم (الترك) محتلة قسما كبيرا من البلاد.
على أنه مات شهيدا؛ فقد قتله ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن الذي يمت بنسبه إلى الثالث من أبناء سعود الأول، قتله طمعا بالإمارة، ولكنه لم يتمتع بها أكثر من أربعين يوما؛ لأن فيصل بن تركي قام يثأر لأبيه، فهجم رجاله على القصر بالرياض، وأدركوا مشاري فيه فقتلوه.
آل سعود: الدور الثالث - الحروب الأهلية
إن في قتل مشاري قاتل الإمام تركي منشأ إمارة بيت الرشيد في حائل، فالحادث إذن جدير بالإسهاب. يوم قتل الإمام كان ابنه فيصل في القطيف ومعه جنوده من قبائل شتى، فلما جاء يثأر لأبيه ودنا من الرياض خرج إليه وفد من المدينة يطلب منه ألا يأذن بالدخول إليها غير أهلها من الجنود؛ لأنه إذا هجم عليها النجديون من غير الرياض قد يقاومهم الأهالي ليمنعوهم من احتلالها، فيحدث قتال في المدينة، فتولد المحنة محنة أخرى أشد منها.
وكان مع فيصل رجل يدعى عبد الله بن الرشيد طرده من حائل أمراؤها يومئذ آل علي، فلاذ بآل سعود، فلما هم الجنود أبناء الرياض بالدخول إلى المدينة استفزت الحمية عبد الله فاستأذن فيصلا بأن يكون معهم فأذن له، فدخلوا الرياض بدون قتال؛ لأن أهلها كانوا من حزب تركي، وهجموا على القصر الذي تحصن فيه مشاري (هو قصر الملك اليوم وقصر دهام بن دواس سابقا)، أما عبد الله بن الرشيد فقد سبق المهاجمين إلى «مفتول» (برج) من مفاتيل القصر، فرأى فيه رجلا اسمه سويد، كان أميرا في جلاجل بسدير، وكان قد جاء يسلم على الإمام تركي دون أن يعلم بما حل به، فرحب به مشاري وأنزله ذاك البرج في القصر.
قال عبد الله يخاطب سويدا: وما دخلك أنت بآل سعود؟ فأجابه سويد: إني مغصوب. فقال عبد الله: إذا جئتك بالأمان من فيصل أترمي لنا حبلا لنصعد إلى القصر؟ فقال سويد: إني من رجال تركي وسأساعدكم على شرط أن يعطيني فيصل الأمان ويهبني نخل الداهنة.
30
تواثق الرجلان ورمى سويد بحبل فصعد ابن الرشيد إلى القصر، وصعد وراءه عشرون من جنود فيصل، فتصادموا ورجال مشاري وتجالدوا، فجرح عبد الله في يده جرحا بليغا شوهها، ولكنه ورجال فيصل استولوا على القصر وحاقوا بمشاري ومن معه فقتلوهم.
سر فيصل خصوصا بشجاعة عبد الله بن الرشيد، وعندما رأى جراحه قال له: لك مني ما تريد. فقال عبد الله: أطلب منك أن تؤمرني في حائل وأن تكون الإمارة لي ولعائلتي بعدي. فأجاب فيصل طلبه فكان عبد الله هذا مؤسس إمارة بيت الرشيد. وسنعود إلى ذكره وذكرها في فصل آخر.
1246ه / 1830م: يقسم عهد فيصل إلى دورين؛ الأول يبتدئ في توليه الإمارة بعد قتل أبيه، وهو دور الاضطرابات والفتن، وينتهي بعد تسع سنين في تسليمه إلى القائد خورشيد باشا، وكان قد عاد من مصر خالد بن سعود أحد الذين أجلاهم إبراهيم باشا، وهو حائز على ثقة محمد علي ومحبوب من المصريين، بل جاء خالد مع خورشيد ليساعده في الاستيلاء على نجد والقضاء على فيصل. فعندما قرب الجيش من الرياض رحل فيصل إلى الدلم في بلاد الخرج؛ لأنه لخلاف كان بينه وبين أهل الرياض لم ير من الحكمة أن يحاصر فيها.
كان أهل الدلم أصدقاء لفيصل مخلصين فلجأ إليهم، فتعقبه خورشيد بجيشه وحاصره هناك. قد ثبت فيصل أربعين يوما في الدفاع، ولكنه عندما اشتد الحصار - خصوصا على أهل الدلم - ظهر في مظهر من كرم الأخلاق يندر مثله في المتحاربين. أجل، قد عرض على خورشيد أن يسلم نفسه بشرط أن يعفو القائد عن الأهالي ويؤمنهم على أرواحهم وأموالهم.
1254ه / 1838م: قبل خورشيد فسلم فيصل في 23 رمضان من هذه السنة (10 ديسمبر) ما كان معه من عتاد الحرب إلى أهل الخرج، ثم سلم نفسه إلى القائد، فبر بوعده إذ عفا عن الأهالي. وقد أحسن معاملة فيصل فاستصحبه إلى مصر، وولى مكانه خالد بن سعود.
وخالد هذا هو أخو عبد الله من جارية حبشية. كان متوقد الذهن، رقيق الشعور، مسترسلا في اللهو واللذات. نشأ في ذرا محمد علي فتمصر، وجاء يحكم في نجد حكما عصريا، فنفر النجديون منه وعدوه أجنبيا، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه بعد أن قاوموه سنتين، فتولى الإمارة بعده عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود وكان مستبدا عادلا (1257ه / 1842م)، بيد أنه أرهق الناس بالضرائب فلم يصبروا على حكمه أكثر من سنة، ولكنهم لم يخلعوه كما فعلوا بسلفه خالد؛ فقد صدف أن فيصلا، الذي أطلقه محمد علي من السجن في هذه السنة ليعيده حاكما إلى نجد، وصل إلى القصيم يوم كان عبد الله بن ثنيان محاصرا عنيزة، فدعاه للطاعة فأجابه عبد الله أنه لم يحكم نجدا إلا بالنيابة عنه، وكانت خدعة منه يتوسل بها إلى القبض على خصمه.
الغرب (العدة) فوق القليب (البئر) لرفع المياه.
سار فيصل مخدوعا إلى عنيزة ولكن القدر والاه؛ فقبل أن يدخل المدينة جاءه رجل يعلمه بنية ابن ثنيان، فأخذ للأمر أهبته ودخل برجاله ليلا وهم ينادون أن الحكم لفيصل. ضجت عنيزة لهذه المفاجأة وخذل أهلها ابن ثنيان ففر هاربا إلى الرياض، فتعقبه فيصل وحاصره عدة أيام، ثم صفح عنه وأعطاه الأمان. خرج ابن ثنيان من القصر شاكرا حامدا ولكنه بعيد ذلك أصيب بمرض أودى بحياته.
استقام الأمر لفيصل فبايعه أهل نجد وتمتعوا بالنعم الجمة في عهده الذي استمر في الدور الثاني أربعا وعشرين سنة، حكم فيصل حكما عربيا سعوديا (1258ه / 1842م)، مثل ابني عمه عبد العزيز وسعود، فأقام العدل، وعزز الأمن، وأعاد إلى نجد شيئا من اليسر وسالف المجد، بل إلى ما وراء نجد، فقد بسط سيادته على الشطر الأكبر من شبه الجزيرة، فدانت له الأحساء والقطيف ووادي الدواسر وعسير والجبل والقصيم. دانت له حبا لا كرها.
ولكن الدولة العلية أو بالحري الحكومة المصرية، لم تهمل أمره كل الإهمال، وبما أنها تكبدت الخسائر الفادحة في حملاتها السابقة على أهل نجد، رأت من الأوفر والأسلم أن تسير قواتها على من يدين لابن سعود في عسير. وما كانت تهامة بأسوغ لقمة من نجد.
1268ه / 1852م: قد سير عباس الأول عشرة آلاف جندي نظامي إلى جبال عسير في هذه السنة، فنازلهم هناك العربان يقودهم عائض بن مرعي رئيس آل عائض، وهزموهم شر هزيمة فتقهقر من سلم منهم إلى تهامة، كانت الغلبة في هذه الحرب لآل عائض وبالتالي للإمام فيصل. إلا أن فيصلا كان يتحاشى ما استطاع سفك الدماء؛ عندما حاصرت جنوده بريدة كانت خطته العسكرية أن يمدد الحصار فيحمل الأهالي على التسليم بدون قتال. وقد استنجد أهل القصيم يومئذ بالأمير طلال بن الرشيد فلم ينجدهم خوفا من ابن سعود، ثم استنجدوا بأمير مكة فأبى كذلك، ثم أرسلوا يفاوضون الحكومة المصرية فنفضت يدها منهم؛ مما يدل على أن فيصلا كان عزيز الجانب رهيبا.
وكان محبوبا ولا غرو. فقد جمع في سياسته بين الشدة واللين، فكان كريم الأخلاق، قوي الإرادة، سمحا حليما، محبا للعلماء، رءوفا بالناس، محسنا إليهم، حريصا على مصالحهم.
جاء بلغراف
31
نجدا في عهده فساح في الجبل والقصيم، ونزل من بريدة إلى العارض عن طريق سدير (1278ه / 1862م)، فأقام في الرياض وضواحيها خمسين يوما، ثم رحل إلى الأحساء ومنها إلى الخليج. كان بلغراف شديد اللهجة في انتقاده الوهابية والوهابيين، بل كان متحاملا. وقد جاء البلاد العربية من قبل نبوليون الثالث، كما جاء قبله بخمسين سنة باديا الإسباني (علي بك) من قبل نبوليون الأول، مستكشفا مستخبرا. وللاثنين غرض سياسي يتقدم الغرض العلمي. بيد أن بلغراف، على ما كان من الشدة والنفرة في انتقاده أهل نجد المتعصبين (وهو الإنكليزي اليهودي اليسوعي
32
المتساهل) قد أنصف الإمام فيصلا، فقد قال يصف حكمه: «إن القوافل تجتاز القصيم وسدير والوشم ومقاطعات نجد الأخرى آمنة، بفضل الحكم الوهابي، شر البدو وتعدياتهم. ويسير التجار والحجاج والفلاحون في البلاد بأمن وسلام.»
1282ه / 1865م: ولكن عهد فيصل السعيد لم يكن أطول عمرا من عمره، فبعد وفاته في (21 رجب / 11 ديسمبر) من هذه السنة، تنازع أنجاله الملك كما سترى وأضاعوه. أنجاله، وهم عبد الله ومحمد وسعود وعبد الرحمن مثلوا الدور الأخير المحزن من رواية آل سعود الملأى بأنواع الحوادث التاريخية.
بعد أن نهك الترك والمصريون أهل نجد بحملاتهم المتعددة، وبددوا صفوف وحدتهم القومية والدينية، عادت إلى الوجود تنكأ الجراح تلك العداوات القديمة لآل سعود؛ أي عداوات القبائل. فانتقضت قحطان، وعصت العجمان، وتمردت عنزى، وتقلبت مطير، وتذبذبت عتيبة، وصال بنو مرة، وتنمر بنو خالد. ناهيك بالإخوة وأبناء العم من البيت نفسه، وقد قام بعضهم على بعض يتنازعون السيادة، فكانوا في حروبهم مغنما لهذه القبائل النازعة إلى الغزو المسترزقة منه.
قامت القبائل توالي هذا الأمير وتناوئ الآخر أخاه أو ابن عمه طمعا بكسب، أو شفاء لغليل، أو حبا بسيادة يحققونها في أنفسهم. وكان عبد الله قد حمل على العجمان لتعديهم على الحجاج فكسرهم في وقعتين قرب الكويت، فرحلوا شمالا وتحالفوا ورؤساء المنتفق على أهل نجد.
ثم أجلى عبد الله بعض العجمان إلى وادي الدواسر. فلما قام سعود ينازع أخاه الإمارة بعد موت أبيهما، لجأ إلى ابن عائض في أبها فرده خائبا؛ لأن آل عائض في تلك الأيام كانوا موالين لآل سعود. عاد سعود بن فيصل من أبها إلى نجران وكان العجمان هناك، فاجتمعوا حوله ينصرونه على أخيه، وانضم إليهم عدد كبير من الدواسر وبني مرة. هذي هي بداية الحرب السعودية التي اشتركت فيها قبائل نجد، فكانت يوما لهم ويوما عليهم - وكانت في الحالين على آل سعود. هي الحرب الأهلية التي استمرت متقطعة أكثر من ثلاثين سنة فاستثمرتها الدولة العثمانية، وكانت في النهاية المغنم الأكبر لأمراء بيت الرشيد.
ولكن ابن الرشيد كان لا يزال في بداية الحرب يدين لابن سعود، وعندما خرج عبد الله إلى وادي الدواسر غازيا سار معه الأمير متعب بن الرشيد الذي قتل بعد تلك الغزوة، فتولى أخوه بندر الإمارة بعده وأقره فيها الأمير عبد الله.
وكان محمد بن فيصل مع أخيه عبد الله على أخيه سعود، فاحتربوا في وقعة المعتلا، فجرح سعود وانهزم ثم سار بعد أن داوى جروحه عند أهل مرة إلى عمان يستنجد صاحبها فلم ينجده، وراح من عمان إلى البحرين فلباه شيخها، ثم حالف العجمان في الأحساء وأعاد الكرة على أخويه محمد وعبد الله، فالتحمت جنود الإخوة عند ماء يسمى جودة (1288ه / 1871م)، وكانت الغلبة لسعود. قال إبراهيم بن عيسى: «والسبب في ذلك أن بعض جنود محمد وهم سبيع خانوه وانقلبوا على أصحابهم ينهبونهم.» قد قتل أربعمائة من جنود الفريقين في وقعة الجودة، وأسر محمد فاعتقل في القطيف، ثم دعا سعود أهل الحساء للمبايعة فجاءوه على عين جودة مبايعين.
بعد وقعة الجودة احتل مدحت باشا - يومئذ والي بغداد - الحساء وذلك بمساعدة عربان الكويت الذين جاءوا بحرا إلى العقير وبرا إلى القطيف بقيادة الشيخ مبارك الصباح. وفي احتلال الحساء في هذه السنة قطع مدحت الصلة بين نجد وعمان، ووسع ثلمة العداء بين سعود وأخويه، فأطلق محمدا من سجنه في القطيف، ووعد عبد الله بأن يعينه «قائمقام ولاية نجد»، ولكن عبد الله خشي الخدعة - قيل إن مدحت كان ينوي القبض عليه - ففر هاربا إلى الرياض، فاستقبله أهلها مرحبين مهللين.
ولكن سروره لم يدم طويلا، فقد زحف سعود في السنة نفسها؛ أي سنة 1288 إلى الرياض، فدخلها ظافرا ونهب رجاله المدينة، ثم كتب إلى رؤساء البلدان أن يقدموا إليه للمبايعة فجاءوا يبايعون. أما عبد الله فكان قد جمع بدو قحطان وانسحب إلى وادي حنيفة، فتعقبه سعود بجيش من آل مرة، والعجمان، وسبيع، والسهول، والدواسر. وبعد وقعة في البرة انهزم عبد الله وعاد إلى الحساء.
قد كانت هذه السنة (1871) والتي تليها سنتي قحط في نجد، فجاءت المجاعة تنجد الحرب على أهله. نعم قد توالت النكبات وتعددت، فمن لم يمت بالسيف مات جوعا. وكان الناس يأكلون جيف الحمير ويحرقون جلود الأباعر ويدقونها، بل كانوا يدقون حتى العظام ويأكلون مسحوقها.
لم يصف الجو والحال هذه حتى لسعود؛ فقد قام أهل الرياض عليه في هذه الآونة فأخرجوه - بعد أن أمنوه على حياته - من المدينة، ثم تولى الحكم فيها عمه عبد الله بن تركي.
رحل سعود إلى الدلم بالخرج ومنها إلى الأحساء يستنهض العجمان وآل مرة على الترك، فاجتمع حوله جيش من تلك البوادي وهجموا على الحساء، فخرج الترك إليه في الحويرة وبادروه القتال فهزموه. على أن الفشل لم يكن ليثني هذا السعودي عن عزمه، فقد عاد يقطع الدهناء إلى الأفلاج، وحمل على أخيه الآخر وأبناء عمه هناك، فانتصر في وقعة الدلم التي فر منها محمد بن فيصل هاربا، وأسر فيها عبد الله بن تركي الذي مات بعد أيام قليلة في السجن.
استمر النصر بعد ذلك حليفا لسعود. فحارب أهل ضرمة وهزمهم ثم أهل حريملاء فأدخلهم في طاعته (1290ه / 1873م)، ثم أعاد الكرة على الرياض، وكان أخوه عبد الله قد عاد إليها، فخرج وأهلها عليه فاحتربوا في الجزعة وكانوا مهزومين. ارتحل بعد ذلك عبد الله ومعه بعض خدامه إلى ناحية الكويت، فأقام على ماء الصبيحية هناك عند بادية قحطان. ودخل سعود الرياض ثم أمر رؤساء البلدان ثانية أن يقدموا إليه ويبايعوه ففعلوا.
سنة واحدة استقام الأمر فيها لسعود بن فيصل، فتنفس الصعداء وقال للحرب استريحي، ولكن ابن الإمام فيصل الرابع وهو عبد الرحمن قام يخطب ودها فبادرت إليه. وكان قد نهض بحلف من العجمان وآل مرة يريد إخراج الترك من الحساء، فهجم عليهم هناك وكاد يظفر ببغيته لولا نجدة جاء بها ابن السعدون من العراق، فكسرت العجمان وشتتت شملهم. عاد عبد الرحمن إلى الرياض فألفى سعودا في القصر مريضا 1291ه / 1874م، وقد توفي في هذه السنة، فتولى الإمارة بعده، وكان أخواه عبد الله ومحمد إذ ذاك مع بادية عتيبة.
جاء محمد بجيش من عتيبة يحارب عبد الرحمن فحشد عبد الرحمن جيشا من أهل الرياض والخرج وبوادي العجمان ومطير ليحارب محمدا. وقد التقى الجيشان في ثرمدا، فكانت هناك وقعة تلاها صلح بين الأخوين. أما أبناء سعود فقد كانوا مع عبد الرحمن في هذه الوقعة، ثم انقلبوا عليه فراح يقصد أخاه الأكبر عبد الله وهو يومئذ في بادية عتيبة، فأكرمه وعاد وإياه إلى الرياض لمحاربة أبناء أخيهما الثائرين. على أنه لم يدركوهم في المدينة؛ لأنهم كانوا قد انسحبوا منها وارتحلوا إلى الخرج فأقاموا هناك.
صفا الجو لعبد الله أو بالحري صفا الجو في بيت أنجال الإمام فيصل، فكان الأخوان محمد وعبد الرحمن مطيعين لأخيهما الإمام، ولكن أبناء سعود ظلوا عاصين متمردين. وهناك غيوم أخرى أخذت تتلبد في الأفق الشمالي.
حدثني جلالة الملك عبد العزيز قال: «لم يستقم الأمر لعبد الله لثلاثة أسباب؛ أولا: وجود أبناء أخيه في الخرج يحرضون القبائل عليه. ثانيا: مناصرته لآل عليان أمراء القصيم السابقين على أعدائهم آل مهنا الأمراء الحاكمين في ذاك الحين. وكان هذا جهلا من عبد الله؛ لأنه في وقت ضعفه ليس من الحكمة أن يتحزب لبيت مغلوب فيضعضع نفوذه في القصيم. ثالثا: ظهور محمد بن الرشيد الطامع بحكم نجد. فقد تحالف مع آل أبي الخيل (من آل مهنا) وكانوا كلهم يدا واحدة على ابن سعود.»
النزاع الذي أشار إليه جلالة الملك يستوجب الشرح. ورأس هذا النزاع بريدة التي كانت في الماضي ماء لآل هذال من شيوخ عنزى، فاشتراها منهم سنة 958 راشد الدريبي العنقري التميمي من آل عليان، ثم عمرها وسكنها ومن معه من عشيرته، فاستمرت رئاستهم فيها إلى أن تغلب عليهم آل مهنا من عنزى في آخر القرن الثالث عشر للهجرة.
ولكن آل عليان ظلوا يدسون الدسائس لآل مهنا ويستنجدون بهذا وذاك عليهم، فأفضى العداء إلى قتل مهنا أبي الخيل في عهد عبد الله، فكتب أولاده إلى الإمام يشكون الأمر إليه فلم يسمع شكايتهم، بل انحاز، كما قال جلالة الملك، إلى آل عليان. أما آل مهنا فاستنجدوا ابن الرشيد الأمير محمدا، فجاء هذا بريدة، وطفق يحفر تحت سيادة ابن سعود فيها.
وعندما حدث الخلاف بين الإمام عبد الله وبين أهل المجمعة فأدى إلى الحرب كان محمد بن الرشيد قد اتفق وأهل ذاك البلد على أن يكون حليفهم وحاميهم (1299ه / 1881م)، وأن يكونوا من رعاياه، فاستنجدوه عندما بلغهم خبر قدوم عبد الله بن فيصل، فبادر إلى نجدتهم بجيش مؤلف من بوادي شمر وحرب. وعندما وصل إلى بريدة انضم إليه أميرها حسن آل مهنا أبو الخيل ومعه جند من القصيم، ثم زحفوا إلى الزلفى، وكان عبد الله ومن معه من أهل المحمل وسدير والوشم وبادية عتيبة قد عسكروا في ضرمة، فلما علموا بتحالف ابن الرشيد وابن مهنا وزحفهما إلى الزلفى انسحبوا من ضرمة وعادوا إلى الرياض.
دخل ابن الرشيد المجمعة وأمر عليها أحد رجاله، فكانت بعد فوزه في القصيم الخطوة الثانية في استيلائه على نجد.
أعاد الإمام عبد الله الكرة على المجمعة، فاستغاث أهلها بأمير الجبل ابن الرشيد وأمير بريدة ابن مهنا فأغاثاهم، فأدى ذلك إلى وقعة بينهم وبين الإمام (1301ه / 1883م)، كانت الغلبة فيها لابن الرشيد الذي كتب بعد ذلك إلى رؤساء البلدان في الوشم وسدير يدعوهم إليه في الحمادة مكان الوقعة فجاءوه طائعين، فعزلهم من وظائفهم وأمر في كل بلد من بلدانهم واحدا من رجاله. وكانت وقعة الحمادة الخطوة الثالثة في استيلائه على نجد.
بعد هذه الوقعة بعث الإمام عبد الله بأخيه محمد رسولا إلى ابن الرشيد فأكرمه وتفاوض وإياه. وقد عاد محمد من حائل يحمل إلى أخيه من أمير الجبل هدية وتعهدا بأن يترك له بلدان الوشم وسدير، فبادر الإمام إلى عزل من أراد عزله في تلك البلدان، فزاد ذلك في الشقاق والتخاذل؛ إذ لم يستقم نفوذ ابن سعود فيها، ولا تقلص نفوذ ابن الرشيد.
أما أولاد سعود بن فيصل الذين نزحوا إلى الخرج فقد قام منهم محمد ينصر عمه عبد الله، فحشد جيشا من عتيبة وراح يطلب الخصم الجديد ابن الرشيد، فالتقى به عند ماء يسمى عروى فنازله هناك وكان مهزوما. هذي هي بداية العداء بين ابن الرشيد وبين أولاد سعود بن فيصل.
ولكنهم لم يكونوا يدا واحدة على خصمهم، فقد قاموا في هذه السنة على عمهم عبد الله يحاولون انتزاع الحكم منه، فقبضوا عليه وألقوه في السجن (1302 / 1884)، فجاء ابن الرشيد يقطف على عادته ثمار الخلاف. جاء فزعا كما ادعى وكان قد كتب إلى رؤساء البلدان في نجد يشجب عمل أولاد سعود ويدعو لنصرة عمهم عبد الله. فلبى الناس دعوته ومشوا معه إلى الرياض، فخرج إليهم عندما دنا منها وفد للمفاوضة يرأسه عبد الرحمن بن فيصل، فقال ابن الرشيد: ما قصدي والله غير أن أخرج عبد الله من السجن، وأن تكون الولاية في بلدكم لكم يا آل سعود، ثم عاهدهم على ذلك.
أما أولاد سعود بن فيصل فلما رأوا اتحاد الناس عليهم طلبوا من ابن الرشيد الأمان فأمنهم على دمائهم وأموالهم، فعادوا إلى الخرج، وبعد أن دخل ابن الرشيد الرياض واستولى عليها ظهر في مظهر الفاتح القهار؛ إذ أطلق عبد الله من السجن وأرسله وأخاه عبد الرحمن وعشرة آخرين من آل سعود أسرى إلى حائل، ثم أقام سالم السبهان (بيت السبهان أخوال بيت الرشيد) أميرا في الرياض.
وبعد خمسة أشهر جاء سالما وفد متظلم من الخرج الذي كان أهله قد اختصموا وأبناء سعود بن فيصل، فراح سالم يحسم الخلاف هناك. وقد حسمه حسما تستحيل عنده المعاودة؛ إذ إنه قتل أبناء سعود محمدا وسعدا وعبد الله
33
أولئك الذين أمنهم ابن الرشيد على حياتهم، وأجلى أهلهم إلى حائل. ضج الناس وقاموا يحتجون على السبهان، فعزله ابن الرشيد وأمر مكانه فهاد بن رخيص من كبار شمر.
وفي السنة التالية مرض عبد الله بن فيصل في الجبل، فأذن له ولأخيه عبد الرحمن وأسرتيهما بأن يعودوا إلى الرياض. وقد عاهد عبد الله على أن يكون أميرا في بلاده 1307 / 1889، ولكنه توفي في 2 ربيع الثاني / 26 نوفمبر من هذه السنة بعد وصوله إلى الرياض، فكتب عبد الرحمن إلى ابن الرشيد يخبره بذلك ويسأله أن يعزل عامله حسب العهد المذكور، فكان جواب ابن الرشيد أن عزل فهاد بن رخيص وعين مكانه سالم السبهان؛ أي إنه نكث عهده. وفي 11 ذي الحجة من هذه السنة بلغ عبد الرحمن أن ابن السبهان قادم ليسلم عليهم سلام العيد ويقتلهم. فاحتاطوا للأمر. وعندما وصل السبهان أمر عبد الرحمن بأن يجمع آل سعود ليلقي عليهم كلاما من ابن الرشيد، وكان في نيته أن يفتك بهم فيذبحهم جميعا. على أن السعوديين سبقوه إلى شبه ما كان يبطن، فوثبوا عليه وعلى رجاله وقتلوا عددا منهم.
بلغ خبر هذا الحادث أهل القصيم، وكانوا قد اختلفوا وابن الرشيد، فكتبوا إلى عبد الرحمن يعاهدونه على الطاعة والتعاون. وعندما مر ابن الرشيد ببلادهم وهو قادم إلى الرياض ليثبت ابن السبهان في مركزه، وقفوا له في الطريق وصدوه، فعللهم بالوعود - وعد بأن يعطيهم بادية مطير «والخوة» التي كانت تفرض على الحجاج - فرضوا بذلك ونكثوا عهدهم مع ابن سعود عبد الرحمن.
زحف ابن الرشيد إلى الرياض بجيشه فحاصرها أربعين يوما، ثم دعا أهلها للصلح فخرج إليه محمد بن فيصل والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (من آل الشيخ)
34
ومعهما ابن عبد الرحمن عبد العزيز الذي كان يومئذ في الحادية عشرة من سنه، فتفاوضوا مع ابن الرشيد وتصالحوا على أن تكون الإمارة في العارض لعبد الرحمن بن فيصل. إلا أنه كان صلحا مموها؛ لأن ابن الرشيد لم يتمكن في الحصار من فتح المدينة، ولا تمكن أهلها من رده عنها.
أما أهل القصيم فعندما عاد الأمير محمد إلى الجبل طلبوا منه أن يبر بوعده فسوف وتردد، فنهضوا ثانية عليه وحشدوا قواتهم للحرب. وما كان هذا الأمير الشمري ليرد طالبا، فقد استنفر قبائله وتلاقى وأهل القصيم في القرعا، فتصادموا وتناوشوا 1308 / 1890، في العشر الأول من جمادى الأولى من هذه السنة وكانت الغلبة لأهل القصيم، فاقترح بعض رجال ابن الرشيد أن يخرجوا من ذاك المكان كأنهم منهزمون ويسيروا إلى البادية حيث لا «ضلعان» - تلال - ولا «مزابن» - أماكن يكمن فيها - فيظن العدو أنهم انهزموا فيتقفاهم، فيقطعون ساقته بالخيل. قال الراوي: «وأهل القصيم أناس شجاعتهم كثيرة ورأيهم قليل.» فلما رحل محمد بن الرشيد صاحوا: انهزم، انهزم! ولحقوه، فبعدوا عن مراكزهم ومواشيهم، فهجمت عليهم الخيل، فاجتزت مؤخرهم. وكانت الهزيمة عظيمة. قيل إنه قتل ألف رجل من أهل القصيم في تلك الوقعة التي تدعى وقعة المليدة والتي كانت الخطوة الكبرى النهائية في استيلاء ابن الرشيد على نجد.
لم يقم لآل سعود قائم بعدها . فقد كان الإمام عبد الرحمن خارجا برجاله من الرياض لينجد أهل القصيم، ولكنه عندما علم وهو في منتصف الطريق بوقعة المليدة، عاد إلى الرياض، فأخرج حريمه وأولاده منها وارتحلوا إلى الحساء التي كان يومئذ عاكف باشا متصرفها.
وكان طبيب الجيش هناك شابا لبنانيا هو الدكتور زخور عازار الذي انتدبه المتصرف ليفاوض ابن سعود، ويعرض عليه شروط الدولة، فاجتمع الدكتور زخور على عين النجا قرب المبرز في جمادى الثانية سنة 1308 / يناير 1891، بالإمام عبد الرحمن وكان معه ابنه الصغير عبد العزيز. وقد عرض عليه ولاية الرياض يحكمها من قبل الدولة، إذا اعترف لقاء ذلك بسيادتها، ودفع بمثابة الخراج شيئا، ألف ريال أو أقل مثلا، في السنة. فرفض الإمام عبد الرحمن قائلا إن بعد ذبح بندر بن الرشيد
35
تفلتت العشائر فصارت خائنة بعضها لبعض، وللأمراء الحاكمين كذلك، وإنه لا يستطيع والحال هذه أن يثق بها ويتكل عليها.
وكان صاحب قطر قاسم بن ثاني خارجا يومئذ على الدولة فشاع أن الدكتور زخور يسعى في عقد اتفاق بين ابن سعود وابن ثاني لإخراج الترك من الحساء. فأوقف خمسة عشر يوما في الهفوف ثم استدعي إلى بغداد وكان بعد التحقيق بريئا، ولكنه مع ذلك أبى أن يعود إلى منصبه.
أما الإمام عبد الرحمن فبعد تلك المفاوضات رحل وأولاده إلى الكويت، فمنعهم الشيخ محمد الصباح الحاكم يومئذ من الدخول إليها، فعادوا إلى البادية وأقاموا بضعة أشهر مع العجمان، ثم أموا قطر فأقاموا فيها شهرين. وكانت الدولة لا تزال تبغي عقد اتفاق مع ابن سعود لتأمن حركاته وسكناته، فأرسل متصرف الحساء يستدعيه إليه فلبى الدعوة (1309ه / 1891م)، وقد تم بعد ذلك الاتفاق على أن تدفع الدولة إلى الإمام عبد الرحمن ستين ليرة مشاهرة - وقلما كانت تدفعها - وأن يقيم وعائلته في الكويت، فقبل ابن الصباح إذ ذاك أن يتوطنوا بلاده.
سيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود
ولد في 29 ذي الحجة سنة 1297 /2 ديسمبر 1880
تمهيد
بعض الأمراء الذين كانوا سائدين في الشطر الشرقي أو في قسم منه من شبه الجزيرة يوم كان ابن سعود منفيا في الكويت:
الشيخ مبارك الصباح، أمير الكويت
1
كان حاد المزاج، شديد البأس، كثير التقلب. فيه شيء من الأسد وأشياء من الحرباء. بدوي الطبع، حضري الذوق، تارة يجبه الخصم وطورا يجامله. وكان كريما جوادا؛ بل كان مسرفا. يسترسل إلى الترف والبذخ، ويقدم بعد حبه للمجد والسيادة، نواعم العيش ونوافله على كل شيء سواها.
أما سيف مبارك فكان مثل سياسته ذا حدين. قتل أخويه محمدا وجراحا طمعا بالإمارة وحبا بالمجد؛ فكان أميرا مجيدا. هو من أولئك الحكام المتفردين بالحكم الذين يرهقون الأمة بالضرائب ليحوكوا لها حللا من الفخر والعز باهرة.
شيد قصورا في الكويت وهدم قصورا في السياسة. كان يلقب ب «الحواقة»، من حاق ومرادفاتها، مثل دار ولف؛ أي ما يراد به السير على عكس الخط المستقيم. نصف عمله سر لا يدركه سواه، والنصف الآخر خدعة باهرة؛ أو خدعة مضحكة، أو خدعة كثيفة مدلهمة.
لاعب العشائر وغالبها، وما كان دائما من الفائزين. أجزل لها العطاء فأخذت ماله وهداياه، ودعت لأعدائه.
خطب الدولة العلية ولا مهر غير الحب والإخلاص - نقسم بالله العلي العظيم إننا مخلصون للدولة ونفديها بدمنا - فكتب كتابه عليها، ففتحت له قلبها المحنط المضمخ بالطيب، ثم انقلبت عليه.
غازل الدولة البريطانية، فبادرت إليه ولهانة ويدها على قلبها المقفل بعشرة أقفال، ثم بنت لها حصنا في ظلال قصوره.
أحب آل سعود فطوقهم بذراعيه - أنتم أعز من أولادي - ثم ضرب بهم عدوه ابن الرشيد.
أحب العجمان ثم حاربهم - نحزمكم كالحطب بالله ونحرقكم ونحرق دياركم - ثم أشعلهم حربا على ابن سعود.
ولكنه أحب الأمير خزعلا حبا جما صافيا، فبنى له قصرا في الكويت، وبنى خزعل لمبارك قصرا في المحمرة، فكان الاثنان يجتمعان على ضفاف قارون أو على شاطئ الخليج ليقضيا أياما وليالي بين سرب من القيان والراقصات، ولسان حالهما يقول: بعدا للسياسة والحروب.
الملك عبد العزيز بين مدافعه.
الأمير محمد بن الرشيد، أمير نجد
2
كان أمير الحاج العراقي يوم كان بندر ابن أخيه طلال متوليا الإمارة. وعندما قام بندر وأخوه بدر على عمهما متعب فقتلاه رحل محمد عمهما الثاني إلى الرياض، ولاذ بالإمام عبد الله بن سعود، فوفق الإمام بينه وبين ابني أخيه. وكان بندر قد تولى الإمارة، فأمن عمه محمدا على حياته، فعاد إلى حائل واستمر أميرا للحاج، ولكنه طمع بإمارة أكبر منها، فقام بعد ثلاث سنوات يحقق مطامعه، بل قام كما قيل يثأر لأخيه، وقيل إنه قام يرد السيف الذي ذبح أخاه وكان يومئذ مستلا عليه. على أن القول الذي لا ريب فيه هو أن سيف الأمير محمد تقاضى خمسة رءوس بدل الرأس الواحد؛ فقد قتل بندرا وإخوته الأربعة أبناء أخيه طلال:
يا لك من قنبرة بمحجر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
صفر الأمير محمد للقبائل فلبته مختارة أو مكرهة، فكتب له النصر في حروبه كلها، ولكنه قال في خطبة خطبها في ساحة حائل يبرر قتله أبناء أخيه:
يا مسلمين، ما قتلتهم، والله، إلا خوفا على هذه (وضرب رقبته بيده)، هموا بقتلي فسبقتهم ومنعتهم. وهل تظنون أن من ذبح أخي متعبا يعفو عني ؟
تولى الأمير محمد الإمارة فكان كبيرها وكبير شمر، بل كبير العرب في أيامه. فقد استولى على بلاد نجد كلها حتى وادي الدواسر، وكان في حكمه عادلا بل كان حليما حكيما. على أن البدو كانوا يسخرون؛ فقد قالوا: إن الأمير محمدا لا يحسن الحكم؛ لأنه لا يكثر من قطع الرءوس. كأن كبير بيت الرشيد آلى على نفسه بعد ذبحة أبناء أخيه الخمسة ألا يقطع رءوسا إلا في الحرب.
أما في السياسة فلم يختلف كثيرا عن زميله «حواقة» الكويت، ولكنه كان أبعد نظرا وأسد رأيا منه، فيقدر الناس بعقولهم ويعاملهم بموجب ذلك.
قد كان للأمير محمد طرائق ثلاث في التغلب والاستيلاء؛ هي الكرم، والسيف، والإرهاب. فيستميل إليه من يستطيع استمالتهم بالهدايا، ويمتشق الحسام على من لا تغرهم هداياه، ويمشي إلى غرضه على ظهور أولئك الذين يخشون سطوته. قد كان - ولا غرو - مهابا، ولكنه على الإجمال لم يكن محبوبا.
الأمير عبد العزيز بن متعب بن الرشيد
3
حدثني أعرابي من شمر قال: كان عبد العزيز جالسا للناس في الفلاة يوما من الأيام فأحس بشيء يلذعه في ظهره، فخاف أن تكون حشرة لا تستحق الاهتمام، فسكت وتجلد حتى انتهى من عمله، ثم دخل إلى الخيمة وطلب أحد عبيده، فرفع العبد ثياب عبد العزيز فإذا ما بين كتفيه عقرب كبير يقرص جلده. صاح العبد مذعورا وخشي أن يمس العقرب، فتناوله عبد العزيز بيده ورماه خارج الخيمة، ثم أمر العبد أن يذر على مكان اللذع رمادا حاميا ففعل، ونام الأمير بعد ذلك كأن لم يكن شيئا.
قد سمعت غيرها من القصص التي تدل على أن عبد العزيز الرشيد كان جبارا، وقد كان في الحرب فارسا مغوارا. قال فيه القائد التركي الفريق صدقي باشا: «هذا فارس كعلي.» ولكنه لم يكن كعلي في غير ذلك، ولا أظنه سمع بالبيت القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
طمع بالاستيلاء على الكويت، وهو يبغي منفذا على الخليج؛ فاصطدم هناك بالشيخ مبارك، فأظهرت الصدمة عدوا آخر، عدوا جديدا له ولبيته؛ هو سميه عبد العزيز بن سعود، فحاربه، فقضى في الحرب نحبه، بعد أن خسر نصف ملكه.
الشيخ خزعل بن مرداو، أمير المحجرة سابقا
راجع الفصل الخامس من القسم السادس من كتاب «ملوك العرب» الجزء الثاني صفحة 170.
الشيخ عيسى آل خليفة، أمير البحرين
راجع الفصل السادس من القسم السابع من «ملوك العرب» الجزء الثاني صفحة 235.
الشيخ قاسم بن ثاني، أمير قطر
ولد سنة 1216 وتوفي سنة 1331، فيكون قد عاش مائة وخمس عشرة سنة، قضى معظمها في إكثار النسل الإنساني. فقد تزوج على ما قيل بتسعين امرأة وبعدد من الجواري عديد. وكان له من الأولاد والأحفاد وأبناء الأحفاد ذكورا وإناثا ما نضرب صفحا عن عددهم فلا نتهم بالمبالغة، ولكنه كان إذا ركب يركب ستون فارسا في موكبه من صلبه.
لم يكن الشيخ قاسم، أو جاسم كما تلفظ هناك سيدا على غير عشيرته يوم كانت قطر تابعة لحكومة البحرين. فقام، وكان يومئذ قد تجاوز الخمسين من سنه، يدعو العشائر كلها إلى الاستقلال فلبت دعوته. وبعد وقعات بحرية وبرية مع أهل البحرين، وكسرات وغلبات، حازت قطر استقلالها، وكادت تستولي على البحرين.
من عجائب السياسة في الخليج أنه كان للإنكليز يد، ولنا أن نقول يد سلبية في استقلال قطر؛ أي إن حكومة بريطانية العظمى أرسلت عليها سفينة من سفنها الحربية، فضربت الزبارة عاصمتها بالمدافع ومنعت القطارنة عن التوسع والاستيلاء، ثم أرضتهم بأن فصلت شبه جزيرتهم عن جزائر آل خليفة.
أما الترك فقد حاربهم ابن ثاني فكسرهم في وقعات عديدة، وذبح عددا كبيرا منهم، ولكنه لم يتمكن من إخراجهم من الحساء. والحق يقال: إن الحرب لم تكن من الأوليات في حياة الشيخ جاسم، ولا همه أن يكون له صفحة ذهبية، أو بالحري قرمزية، في التاريخ، بل كان همه الأكبر إكثار النسل الإنساني كما قلت. وهمه الآخر أن يحسن تجارة اللؤلؤ (كان له خمس وعشرون سفينة للغوص)، وأن يجمع المال من هذي التجارة ويبذله في سبيل البر والإحسان.
ومن إحسانه أنه كان ولوعا في جمع العبيد وعتقهم ؛ قيل إنه أعتق في حياته أكثر من خمسين عبدا، وإن مماليكه الأحرار أسسوا بلدة في قطر سموها السودان.
ومن دواعي إحسانه الورع والتقوى؛ فقد كان حنبلي المذهب متصلبا فيه، يصرف واردات أوقافه على الجوامع والخطباء، بل كان هو نفسه يعلم الناس الدين، ويخطب فيهم خطبة الجمعة.
أضف إلى الورع والتقوى إذن فصاحة اللسان، وإلى الفصاحة العلوم الدينية والفقهية، وإلى العلوم الضمير الحي واليقين، وإلى ذلك كله الثراء والجود، فيكون المجموع رجلا ولا كالرجال، عاش قرنا ويزيد في قطر، فكان أميرها، وخطيبها، وقاضيها، ومفتيها، والمحسن الأكبر فيها.
الشاب المجهول
ولد في الرياض عاصمة ملك أجداده، فرأى عمومته يتنازعون الملك ويتحاربون، ورأى العدو على أبواب العاصمة وهو يطمع بالاستيلاء على نجد أجمع، ورأى أباه يحارب في الوقعة الأخيرة ويستسلم إلى الله، ثم سمعه وهو جالس إلى جنبه في الحساء يرفض شروط الدولة العلية، فسدت أمامه الأبواب كلها إلا الباب إلى الصحراء، فلجأ إلى خيام الشعر وهو مثل أصحابها لا يملك فترا من الأرض، وليس له غير تلك الثقة الوطيدة العالية، الثقة بالله، التي هي كنز الأعرابي الأكبر.
ثم سكن الأب الكويت، وصار الصبي شابا، فكانت الذكرى الأليمة رفيقة أفكاره وسميرة أحلامه. قرأ شيئا من العلوم هناك وهو يفكر في الملك المفقود. جلس أمام البحر وهو لا يدري إذا ركبه إلى أين تحمله الأقدار، ثم نظر إلى البادية وهو يهجس بالملك المفقود. عاشر الأمراء والعلماء، وجلس ساكتا متأدبا في مجلس الشيوخ، وهو يحلم بالملك المفقود. فتح الكتاب ثم ألقاه جانبا، وهو يرمق السيف بنظرة كلها شوق وأمل.
عاش مجهولا في الكويت، مجهولا إلا في الاسم والنسب، وفيما يبدو للعين المجردة فقد كان الناس يعرفون أن ذاك الشاب القوي البنية، الطويل القامة، البراق العين، هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود. وما كان كبار القوم فكرا وفراسة ليعرفوا أكثر من ذلك، بل كانوا كلهم في ظلال سور الغيب كالأطفال. جهلوا ما كان يجهله حتى أقرب الناس إلى عبد العزيز، حتى أبوه وأمه. جهلوا ما كان يجهله التاريخ. جهلوا ما كان يجهله الشاب المجهول نفسه. جهلوا ما لم يكن يعلم به غير الله.
الفصل الأول
وقعة الصريف
ما كاد الشيخ مبارك الصباح يجلس على العرش الملطخ بدم أخويه حتى قامت عليه الأعداء من كل جانب (1313ه / 1895م)، وأهمهم من غير الحكام خال أبناء المقتولين يوسف آل إبراهيم كبير تجار اللؤلؤ في أيامه وأغناهم. فقد بذل يوسف ثروته كلها، ووقته وجهده، وجازف بحياته، طالبا الانتقام، ثم سافر إلى قطر وإلى البصرة وإلى حائل وإلى الحجاز يحرض الأمراء والحكام على الشيخ مبارك.
1
وكان يومئذ الشيخ قاسم بن ثاني ناقما على مغتصب الحكم في الكويت فنصح ليوسف أن يذهب إلى حائل مستنجدا بابن الرشيد، وقد كتب صاحب قطر كتابا إلى الأمير محمد يزين له احتلال الكويت، ويعده بالمساعدة الحربية. على أن ابن الرشيد وهو يومئذ كبير العرب، عقلا وحنكة واقتدارا، لم تستفزه كلمات ابن ثاني، ولا استغوته أموال ابن آل إبراهيم . قيل إنه أوصى وهو على فراش الموت ابن أخيه عبد العزيز الذي تولى الإمارة بعده ألا يطمح بأنظاره إلى الكويت (1315ه / 1897م)، وألا يباشر صاحبها العداء.
ولكن الأمير عبد العزيز لم يحفظ وصية عمه، وعندما جاءه يوسف آل إبراهيم وأحد الموتورين، خالد بن محمد، يحرضانه على مبارك نهض للأمر، وشرع يشن الغارات على الكويت تمهيدا للهجوم والاستيلاء.
قد كان الشيخ مبارك عالما بالقصد الأكبر من هذه الغارات، وبما تقدمها من المؤامرات عليه، فأرسل رسله إلى العراق مستنجدا بالدولة، ولكن يوسف آل إبراهيم كان قد سبقه إلى ذلك، فأقنع أولي الأمر بما بذله من المال، فأرسلت حملة مؤلفة من أربعة طوابير إلى الزبير لتهدد صاحب الكويت. بيد أنها أبطأت جدا في السير - ظلت ستة شهور في الطريق بين بغداد والزبير - وقيل إن الحكومة تعمدت هذا الإبطاء أملا بأن يقضى الأمر قبل وصول الحملة، وطمعا بالمزيد مما كان يبذله بدون حساب خال الموتورين.
ولكن مباركا لم يفشل كل الفشل في العراق؛ فقد حالفه سعدون باشا أبو عجيمي رئيس عشائر المنتفق وخرج معه بعدئذ على ابن الرشيد.
أما حلفه الأكبر، وإن كان يومئذ قليل ذات اليد، فهو صاحب نجد السابق الذي كان عنده في الكويت؛ أعني به الإمام عبد الرحمن آل سعود، فقد تعاهد الاثنان أن يكونا يدا واحدة على ابن الرشيد. وبعد ذا التعاهد خرج عبد الرحمن بجيش من الكويت وأغار على عشائر قحطان في روضة سدير.
أما الشيخ مبارك فكان قد رمى بشبكتين في بحر السياسة دفعا للحرب واستعدادا لها؛ إذ أرسل إلى ابن الرشيد يفاوضه بالصلح، وكتب إلى بعض الرؤساء من أهل نجد يستنهضهم على ابن الرشيد. وكان الإمام عبد الرحمن قد غزا غزوته وقفل راجعا، فأرسل إليه يأمره بألا يرجع إلى الكويت، ولم يؤذنه عندما قرب من المدينة بالدخول إليها ليشاهد عائلته. قد كان للشيخ مبارك في ذلك مأرب سياسي، ولكنه عندما علم أن ابن الرشيد رفض التوسط بالسلم جهز جيوشه وخرج يقودها بنفسه، ومعه أخوه حمود والإمام عبد الرحمن آل سعود وابنه عبد العزيز. أما أبو عجيمي السعدون فكان قد خرج بعشائره ليطارد ابن الرشيد الذي كان قد وصل في إغاراته إلى أطراف العراق. والظاهر أن الغلبة في الوقعة الأولى كانت على أبي عجيمي فأرسل يطلب النجدة من الشيخ مبارك الذي كان إذ ذاك في الجهرى، فبادر إلى نجدته.
زحف إلى السماوة حيث كان ابن الرشيد، ولكن حكومة البصرة مانعت في سيره عندما وصل إلى ما بين الزبير والخميسية، فاستغرب مبارك الأمر، وطلب مقابلة الوالي فوافاه إلى قرب الزبير. وبعد المفاوضة أذن لأخيه حمود وعبد الرحمن بن سعود أن يطاردا ابن الرشيد، فلما وصلا بالجيش إلى عين صيد رحل الأمير الشمري من السماوة.
ولما عاد حمود وعبد الرحمن شرع مبارك يعد العدة للغزوة الكبرى غزوة نجد. فاستنفر القبائل فلبته مطير بأجمعها، ولباه العجمان وآل مرة وغيرهم من بوادي الجنوب، ثم جاء أبو عجيمي السعدون بعشائره من الشمال. ناهيك بأن بعض الزعماء من أهل نجد كانوا قد كتبوا إليه يعدونه بالمساعدة فانضم عدد منهم إلى جيشه، وفيهم آل سليم أمراء عنيزة وآل مهنا أمراء بريدة.
زحف هذا الجيش، وعدده نحو عشرة آلاف، يقوده الشيخ مبارك (1318ه / 1900م). فقطع الصمان ثم الدهناء ونزل على ماء دونها يعرف بالشوكة. وهناك أذن عبد العزيز بن عبد الرحمن، إجابة لطلبه، بأن يسير بفرقة من هذا الجيش، ألف رجل من البادية، إلى الرياض فيستولي عليها.
افترق الجيشان في الشوكة، فزحف عبد العزيز سعود جنوبا بغرب إلى عاصمة أجداده التي وصلها بعد يومين وكان في باكورة غزاوته موفقا. فقد احتل المدينة ما عدا الحصن الذي تحصنت فيه حامية ابن الرشيد، فعزم على حفر نفق إليه، وباشر ورجاله العمل.
أما مبارك فكان قد احتل بلدانا عدة في نجد بدون قتال، بل كان أهلها يرحبون به لعلمهم أن حليفه ابن سعود. أما ابن الرشيد فكان قد تقهقر وهو لا يريد أن ينازل جيشا أكبر من جيشه. وظل يتقهقر حتى جر العدو إلى قلب القصيم فوقف له عند الطرفية التي تبعد خمسة عشر ميلا من بريدة إلى الشمال.
وفي جوار هذه القرية، في مكان يدعى الصريف، في 26 ذي القعدة من هذه السنة /16 فبراير سنة 1901، اشتبك الجيشان وتلاحما طيلة ذاك النهار فكانت الوقعة من أعظم وقائع العرب الحديثة، ودارت فيها الدوائر على ابن الصباح وحلفائه. خسر الشيخ مبارك عددا كبيرا من قومه، وشيئا كثيرا من عتاد الحرب، فعاد ومن تبقى من الجيش منهزمين إلى الكويت.
وكان الظافر قاسيا عتيا؛ فقد أمر بقتل الأسرى أجمعين، ثم زحف إلى البلدان النجدية التي كانت قد سلمت إلى صاحب الكويت، فنكل برؤسائها، ونزع السلاح من أهلها، وضرب عليهم الضرائب الفادحة.
أما عبد العزيز بن سعود فلما علم بوقعة الصريف أخلى الرياض، التي احتلها أربعة أشهر فقط، وعاد برجاله إلى الكويت، فاستولى بعد ذلك ابن الرشيد كل الاستيلاء على نجد أجمع، ولكن هذا الاستيلاء لم يدم طويلا؛ لأن وقعة الصريف كانت فريدة في نتائجها وعواملها. هي وقعة كان الظافر فيها مغلوبا. هي أول خطوة باهرة في سقوط ابن الرشيد عبد العزيز، كما أن حملة عبد العزيز بن سعود على الرياض هي أول خيبة في فتوحاته.
الفصل الثاني
احتلال الرياض
بعد وقعة الصريف واستتباب السيادة الرشيدية في نجد شد الظافر ثانية على ابن الصباح، فنزل الحفر الماء المعروف الكائن في منتصف الطريق بين القصيم والكويت.
1
وراح يوسف آل إبراهيم يشحذ بالأصفر الرنان عزم الدولة أو بالحري عزم أولي الأمر من رجالها في العراق.
وكانت شكوى الموتورين أبناء أخوي الشيخ مبارك قد وصلت إلى الآستانة ففتحت لها السياسة أذنها وبريطانية العظمى وقتئذ وراء الستار. قال السفير الكلمة التي طالما أصاخ لها الباب العالي فأنذر صاحب الكويت. نعم، انقلبت الدولة العلية على الشيخ مبارك، وهو الذي ساعدها لتستولي على الحساء، فسيرت إلى الكويت باخرة حربية.
وكان ابن الرشيد قد زحف إلى أطراف البلاد وهم بالهجوم على الجهرى، تلك البلدة الكائنة وراء الخليج على ضفة الجون الغربي، على مسافة خمسة عشر ميلا من العاصمة. أحاط الأعداء بالشيخ مبارك، حاقت «بالحواقة» الأخطار، ولكنه لم يفقد من عزمه ودهائه شيئا، فعندما رأى نفسه وبلاده في شبه الحصار فتح قلبه للدولة الأخرى الراسية بواخرها الحربية عند الشاطئ الفارسي من الخليج. أرسل إلى أبي شهر يستنجد الإنكليز، فجاءه بعد ثلاثة أيام مركب حربي ورسا في مياه الكويت عشرين يوما.
تلبد جو السياسة في بغداد والبصرة، فابتسم مبارك وهو يجهز الحملة الثانية على ابن الرشيد، بل ضحك وهو زاحف إلى الجهرى، والمركب الحربي سائر في مرأى من الجيش إليها: أتبغون حصاري برا وبحرا؟ ها أنا ذا جئتكم بحرا وبرا بالقوات التي لا تغلب.
ولم يطلق المركب الحربي مدفعا إلا أن الربان أذن ببعض المدافع الرشاشة فأنزلت في الزوارق إلى البر ومعها ضباط علموا الكويتيين استخدامها، ثم خطر في بال ذاك الربان الذكي أن يرهب العربان بالأسهم النارية، فأرسلها ليلا في الفضاء وكان لها التأثير المطلوب. قيل إن ابن الرشيد ورجاله لاذوا بالفرار عندما رأوا النيران تشتعل في كبد السماء.
بعد هذا الحادث وتلك الأسهم النارية أدرك الأمير الشمري أنه بدون مساعدة الدولة مباشرة لا يستطيع الاستيلاء على الكويت. عاد إذن بجيشه إلى الحفر، وشرع يفاوض الترك في بغداد. فلما علم الشيخ مبارك بذلك أراد أن يشغله بنجد وراء الدهناء.
وكان السعد في وجود آل سعود بالكويت خادما لمبارك. هو ذا عبد العزيز وهو يأبى أن يقف في الغزو عند خيبته الأولى. هو ذا عبد العزيز وهو منذ رجوعه من الرياض يلح على والده ليستأذن من الشيخ مبارك بإعادة الكرة على ابن الرشيد، فأذن الشيخ حبا وكرامة.
ولكن الغزو يكون جماعة، والجماعة - أربعون رجلا من عائلة آل سعود وخدامهم السابقين - حاضرون، لا يلزمهم غير الركائب والبنادق والزاد، وشيء من المال. أجاب الشيخ مبارك الطلب فأعطى عبد العزيز أربعين ذلولا، وثلاثين بندقية، ومائتي ريالا، وبعض الزاد.
1319ه / 1901م: كان عبد العزيز في الواحد والعشرين من سنه عندما خرج بهذه الشرذمة من الكويت. خرج «ينحر» - يقصد - البوادي عله يزيد في الأقل عدد رجاله. نحروا العجمان فتردد الرؤساء فيهم ولكن كثيرين من العامة انضموا إلى غزو ابن سعود. وكذلك آل مرة وسبيع والسهول، فاشتد ساعد عبد العزيز. أصبح معه بدل الأربعين ذلولا ألف ذلول وأربعمائة خيال.
هو جيش في البادية يذكر. ركب القائد الشاب على رأسه يقطع الصمان والدهناء فوصل إلى مكان يقال له: العرض بنجد، وغزا هناك عرب قحطان الذين كانوا تابعين لابن الرشيد، فأصاب منهم مغنما كبيرا، وعاد إلى ناحية الحساء.
عندما علم ابن الرشيد بهذه الغزوة هجم في أطراف الكويت على قبائل عريبدار
2
ليظهر أنه لا يبالي بمثل هذا الغزو.
ولكن ابن سعود بعد أن مون جيشه في الحساء خرج غازيا مرة أخرى، فوصل إلى سدير، فأغار هناك في مكان يدعى عشيرة على قبيلة من قحطان وأخرى من مطير فأخذهما ورجع بالغنائم، فنزل ثانية في أطراف الحساء. وكان جيشه يزداد في كل غزوة حتى أصبح ألفا وخمسمائة ذلول وستمائة خيال.
أما ابن الرشيد فعاد بجيشه إلى الحفر، ولما بلغه خبر غزوات ابن سعود الموفقة أرسل رسولا اسمه الحازمي إلى الشيخ قاسم بن ثاني يستنهضه على هذا العدو الجديد، ثم كتب إلى حكومة البصرة لتوعز إلى حكومة الحساء بطرد ابن سعود من تلك النواحي وبتحريض البوادي عليه. أجابت الحكومة طلب ابن الرشيد، فشرد خوفا منها ومنه أكثر من ألف هجان ومائة خيال من جيش ابن سعود، فلم يبال بذلك؛ لأنه لم يكن ليركن إلا لرجاله الأربعين الأولين.
غزا بما تبقى معه الغزوة الثالثة فوصل إلى جنوبي نجد وأغار هناك على قبائل من الدواسر فلم يصب مغنما كبيرا، ولكنه عاد إلى ناحية الحساء. وكان وقت الشتاء فتفرق البدو طالبين المرعى لمواشيهم. لم يكن ليربطهم بابن سعود إلا حب الكسب، فمن أين له والحال هذه أن يكرههم على البقاء.
أربعون رجلا ظلوا أربعين بعد أن ذاقوا حلاوة النصر ومر الفشل والخسران. ولم يكن لعبد العزيز الشاب ما يشحذ عزمهم، ويفتح لآمالهم ولو كوة من النور، استمر ابن الرشيد يحرض الترك وصاحب قطر عليه، فكتب إليه والده والشيخ مبارك يسألانه أن يرجع إلى الكويت فأبى. وعندما اشتد عليه ضغط الحكومة - حكومة الحساء - فر ورجاله هاربين جنوبا فوصلوا إلى مكان بين حرض وواحة جبرين، وأقاموا هناك شهرا.
وكان ابن الرشيد لا يزال في الحفر وهو يستنجد الأتراك في احتلال الكويت، ويستحثهم على عدوه الجديد بل على آل سعود كلهم. فقطعت الدولة معاش كبيرهم، وسدت أبواب الحساء على صغيرهم، وهم ابن الرشيد أن يحصر هذا الصغير سميه في تلك الواحة القصية على حاشية الربع الخالي.
3
تشتت جيش عبد العزيز وتزعزعت آماله، فنهض يائسا يضرب الضربة الأخيرة، وهو يرجو أن تكون القاضية إما عليه وإما على خصمه. اعتزم الهجوم ثانية على الرياض فإما أن يستولي عليها وإما أن يقتل في سبيلها.
وكانت قوته يومئذ ستين رجلا لا غير؛ أي إنه لم يبق معه من ذاك الجيش الذي بلغ عدده ألفين غير عشرين مقاتلا. وكان في الرياض قلعتان الواحدة ضمن الأخرى شيدهما ابن الرشيد وأقام فيهما تسعين من رجاله يرأسهم أمير اسمه عجلان.
خرج ابن سعود والستين البسلاء من مراحهم بين حرض وجبرين في 5 رمضان ووجهتهم الرياض، فوردوا ليلة العيد أبا جفان، وساروا منه في اليوم التالي فوصلوا في 4 شوال إلى حدود الرياض، ونزلوا في الساعة الثالثة عربية (التاسعة ليلا) في ضلع يبعد ساعتين عن العاصمة.
ترك عبد العزيز عشرين من قومه هناك كجيش احتياطي وتقدم بالأربعين الآخرين، وفيهم أخوه محمد وعبد الله بن جلوي أمير الحساء اليوم. فلما وصل إلى البساتين خارج السور أقام أخاه محمدا ومعه ثلاثون رجلا هناك، ومشى بالعشرة الباقين إلى غرضه، ولكنه لم يتمكن من الدخول إلى الحصن الخارجي؛ أي حصن السور إلا من البيت المحاذي وهو لفلاح يتجر بالبقر.
قرع عبد العزيز الباب فأجابت امرأة تقول: من أنت؟
عبد العزيز :
رجل من رجال الأمير عجلان أريد من رجلك أن يشتري لنا بقرا صباح الغد.
المرأة :
خسئت يا شبه الرجال، ما جئت تبغي البقر يا فاجر، بل جئت تبغي الفساد.
عبد العزيز :
لا والله ليس هذا مأربي، بل أبغي صاحب هذا البيت، فإذا لم يخرج إلي الآن فالأمير يقتله صباح الغد.
سمع الرجل هذا التهديد فجاء يفتح الباب، وكان عبد العزيز يعرفه من الهجوم الأول في السنة الماضية، ويعرف حريمه وفيهن من كن خادمات سابقا في بيت سعود. فلما خرج أمسكه بيده قائلا: إذا تكلمت قتلتك في الحال. فصاح النساء وقد عرفنه: عمنا، عمنا عبد العزيز.
4
عبد العزيز :
لا بأس عليكن إذا سكتن. قال هذا وقد أدخلهن إلى غرفة وأقفل عليهن الباب.
ثم تسلق الجدار إلى البيت الآخر عند الحصن فإذا فيه شخصان نائمان على فراش واحد، فلفهما بالفراش وحملهما إلى غرفة صغيرة، فأودعهما هناك وأقفل الباب.
اطمأن من عبد العزيز البال، فأرسل يطلب أخاه محمدا والباقين فجاءوا دون أن يشعر أحد بهم واجتمعوا كلهم في ذاك المكان.
وكان البيت الآخر إلى جانب الحصن للأمير عجلان، وفيه إحدى نسائه وهو يزورها تارة في الليل وطورا في النهار. مشى عبد العزيز وعشرة من رجاله إلى ذاك البيت، فدخلوه، طافوا بغرفه، فوجدوا في إحداها اثنين نائمين على فراش واحد ظنهما عبد العزيز الأمير عجلان وامرأته.
دخل متسللا ومعه رجل يحمل سراجا. فلما دنا من الفراش رفع الغطاء فإذا هناك امرأتان، فأيقظهما، فاستوتا جالستين دون أن يعريهما شيء من الخوف. وكانت الواحدة منهما امرأة عجلان والأخرى أختها امرأة أخيه.
عرفت امرأة عجلان الرجل فبادرته بالقول: أنت عبد العزيز. فأجابها: نعم. فقالت: من تبغي؟ فأجابها: أبغي زوجك. فقالت وهي تقسم بالله: إني أحب أن تقتل كل من في البلد من شمر إلا زوجي، ولكني أخشى عليك منهم، أخشى أن يقتلوك يا عبد العزيز.
عبد العزيز :
ما سألناك عن هذا الأمر. إنما نريد أن نعرف متى يخرج عجلان من الحصن الداخلي.
امرأة عجلان :
لا يخرج إلا بعد طلوع الشمس بساعة.
عبد العزيز :
هذا كل ما نبغيه منكن، ولا بأس عليكن إذا سكتن. قال هذا وهو ورجاله يسوقون المرأتين وبقية النساء إلى غرفة واحدة، فحبسوهن فيها ثم كسروا الباب الذي يوصل إلى البيت الذي كان فيه بقية الرجال فدخلوا منه، واجتمعوا كلهم في بيت عجلان.
وكانت الساعة الثامنة عربية (الثانية بعد نصف الليل) فاستراحوا، وأكلوا التمر، وشربوا القهوة، وناموا قليلا، ثم شرعوا عند انبثاق الفجر يدبرون طريقة للهجوم على الحصن الداخلي، وبعد قليل فتح ذاك الحصن فأخرج بعض العبيد الخيل إلى الشمس، فلما رأى عبد العزيز البوابة مفتوحة خرج عاديا، فتبعه من رجاله خمسة عشر رجلا فقط.
الأمير سعود ابن الملك عبد العزيز.
واتفق أن الأمير عجلان كان قد خرج من الحصن عند هجومهم عليه وهو قادم إلى بيته، فلما رآهم عراه الدهش والرعب فنكص ورجاله على أعقابهم وهم يبغون الرجوع، ولكن البوابة إلا الخوخة (الباب الصغير فيها) كانت قد أقفلت، وبينا كان ورجاله يدخلون من ذاك البويب أطلق عبد العزيز البندقية عليه فأصابه ولم يقتله، ثم أدركه وقد صار نصفه داخل البوابة فأمسكه برجليه وسحبه إلى الخارج فتصارع الاثنان برهة.
أما الرجال الذين كانوا قد دخلوا الحصن فصعدوا إلى أحد الأبراج المشرفة على السوق، وشرعوا يطلقون النار من المصاليت على رجال ابن سعود، فجرحوا أربعة منهم وقتلوا اثنين.
تراجع الهاجمون إلا عبد الله بن جلوي فكان أول من دخلوا الحصن، وراح يعدو وراء عجلان الذي كان قد تفلت من عبد العزيز، فرماه بالرصاص فخر لوجهه قتيلا.
نادى عبد العزيز برجاله واستفزهم فاقتفوا أثر عبد الله. هجموا على الحصن هجمة واحدة، فصاحوا بمن فيه وفتكوا بهم، فقتلوهم إلا عشرين رجلا كانوا قد تحصنوا في جهة منه، ولكن عبد العزيز أمنهم على حياتهم فسلموا.
وبعد سقوط الحصن في الخامس من شوال 1319 /15 يناير سنة 1902، والاستيلاء على الرياض باشر الأمير السعودي الشاب بناء السور الجديد القائم اليوم حول أقسام متهدمة من السور القديم، فتم بناؤه في نحو خمسة أسابيع.
الفصل الثالث
الحرب في الخرج
لم يحدث احتلال الرياض أمرا جديدا في السياسة الدولية؛ أي بين الدولة العلية والحكومة البريطانية. فظلت الأولى مذبذبة مراوغة، واستمرت الثانية مراقبة ومن وراء الستار حاكمة بأمرها.
أما الشيخ مبارك فقد كان احتلال الرياض بردا وسلاما على قلبه ، ولم يكن عكس ذلك ظاهرا في ابن الرشيد. فقد سمع الخبر غير مكترث به وضرب له الأمثال فقال: أرنبة محجرة وأهلها مقيمون؛ أي إنه يستطيع أي يوم شاء أن يخرج ابن سعود من الرياض؛ لذلك لم يتزحزح من الحفر فأقام هناك أربعة أشهر يفاوض الترك في بغداد وهو يعلل النفس باحتلال الكويت.
وكان الترك يرحبون برسله وهداياه، ويعدونه بالمساعدة ويتقاعسون. أنت تذكر أن الحملة التي أرسلوها مرة على الشيخ مبارك ظلت ستة أشهر في الطريق من بغداد إلى الزبير. وقد أشرت إلى السبب بل السببين في ذلك. ناهيك بأنه لم يكن للدولة آنئذ في ابن الرشيد الغرض الذي ولدته الحوادث فيما بعد، بل كانت أميل إلى مبارك وهو على البحر منها إلى أمير في داخل البلاد العربية.
ولكن مباركا والى الإنكليز، ودعاهم إلى بلاده، فاستحق لذلك إهمال الدولة بل نقمتها. وبما أنها كانت عاجزة عن إظهار تلك النقمة في مظهر من القوة يليق بعظمتها، فقد اكتفت بأن تظهر ولاءها لابن الرشيد، وتأذن له بأن يفاوضها في محاربة ابن الصباح. وقيل إن الحكومة البريطانية كانت تضغط عليها لتمنعها من مساعدة ابن الرشيد مساعدة حربية. ولا غرو، فالسبب في ذلك - السبب المعروف - هو أنها بعد أن استقرت في الكويت، وتعاهدت وابن الصباح، أصبحت حامية لبلاده.
الشيخ المبارك المسعد! قد حماه الإنكليز من البحر، وحماه ابن سعود الشاب من البر. كيف لا وهو يشغل عنه عدوه ابن الرشيد. «ولدي عبد العزيز تولاك الله وعافاك وقواك، وجعل النصر دائما أخاك! أرسل مبارك يهنئ ولده ويبارك له.» ثم بعث أخاه سعد بن عبد الرحمن بالنجدة التي طلبها.
ومشى عبد العزيز إلى غرضه فاستولى أولا على النواحي الجنوبية؛ أي الخرج والحوطة والحريق والأفلاج والدواسر، أما النواحي الشمالية، مثل الشعيب والمحمل والوشم وسدير، فظلت في حوزة ابن الرشيد مع أنها كانت موالية لابن سعود.
1320ه / 1902م: في أوائل هذا العام أغار عبد العزيز مرتين على قبائل من قحطان كانت نازلة حلبان
1
في أطراف نجد فأخذهم، ولكنه مرض في الغزوة الثالثة وهو على ماء الحسي شمالي الرياض، ثم خرج أخوه محمد غازيا لفخذ من عتيبة يرأسهم ابن ربيعان وهم في مكان قرب الشعرى.
2
أما عبد العزيز بن الرشيد فلما يئس من مفاوضات الترك وبان له من أمر «الأرنبة المحجرة» ما لم يكن ليخطر في باله، أمر بشد الرحال وأسند (العرب يقولون: سند) عائدا إلى حائل، فعبأ جيشا جديدا من شمر والقصيم وسدير والوشم، وزحف به في ربيع الأول من هذا العام قاصدا الرياض.
فلما علم ابن سعود بذلك أرسل إلى أبيه في الكويت يقول إن الحرب قائمة، وإن الاستيلاء على الرياض يقتضي أن يكون هو؛ أي الإمام عبد الرحمن فيها. جاء الوالد مسرعا، ولم يمنعه الإسراع من أن يغزو في طريقه قبائل من الظفير وشمر الموالين لابن الرشيد، وخرج عبد العزيز ورجاله فساروا مسافة ثلاثة أيام ليستقبلوا الإمام الذي عاد إلى الرياض عودة الظافر، وكان قد خرج منها منذ إحدى عشرة سنة مهاجرا.
ثم حدث خلاف بين الأب والابن نادر المثال؛ فقد أرسل عبد العزيز من القصر إلى الوالد في بيته يقول: الإمارة لكم وأنا جندي في خدمتكم. فجمع الوالد العلماء وأعلمهم بالأمر، ثم أرسل إلى ابنه الصغير يقول: إذا كان قصدك في استدعائي إلى الرياض لأتولى الإمارة فيها فهذا غير ممكن ولا أقبله مطلقا، ولا أقيم في المدينة إذا ألححت به.
تدخل العلماء في الأمر فقالوا لعبد العزيز: على الابن أن يطيع أباه. وقالوا لعبد الرحمن: أنت كوالد عبد العزيز رئيس عليه، وبالتالي على أهل نجد. فقال عبد الرحمن: ولكن الإمارة له.
فقال عبد العزيز: إني قابلها بشرط أن يكون والدي مشرفا على أعمالي دائما فيرشدني إلى ما فيه خير البلاد، ويردعني عما يراه مضرا في مصالحها.
كذلك تمت البيعة لعبد العزيز. وكان يومئذ سميه ابن الرشيد نازلا في رغبة من بلدان المحمل، وقصده محاصرة الرياض، فأرسل سالم السبهان بجيش من قحطان إلى ضرمة ليهجم عليها من الجنوب الغربي، وأمر الحازمي مندوبه في الحساء بأن يستنهض العجمان وآل مرة بمؤازرة الحكومة فيهجمون من الشرق الجنوبي.
ولكن ابن سعود أرسل أخاه محمدا وابن عمه عبد الله جلوي إلى تلك النواحي الجنوبية يستنجدان الدواسر وآل مرة، فظفرا بما لم يظفر الحازمي والترك أعوانه، وقد علم ابن الرشيد أن كثيرين ممن كان يظنهم من أتباعه قد انضموا إلى ابن سعود، فأقام شهرين في رغبة وأسبوعين في الحسي، وهو يعجز عن الهجوم على الرياض، ثم رحل إلى الحفر ليحول دون تموين العدو من الكويت.
لكل أمير من أمراء العرب دائرة استخبارات، ولكنهم هناك يسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية، قال السلطان عبد العزيز: «فلما علم ابن سعود من جواسيسه، أن ابن الرشيد ينوي أن يصادر الأرزاق التي تجيء إلى نجد من الكويت والحساء، تذاكر ووالده فعقدت النية على حيلة تقربه منهم فيتلاحمون وإياه، ويقضون عليه أو في الأقل يحولون دون تنفيذ خطته.»
خرج عبد العزيز من الرياض ووجهته الجنوب، وراح شمالا إلى مناخ ابن الرشيد من أشاع أن ابن سعود خائف من خصمه وأنه فر هاربا، فلما سمع ابن الرشيد ذلك شد الرحال مسرعا ودرهم
3
فنزل على ماء بنبان
4
ولم يكن بينه وبين الرياض غير عشرين ميلا أو أقل، ثم جاءه الخبر اليقين؛ وهو أن الرياض محصنة وأن ابن سعود في حائر سبيع بالخرج، فأمسى في حيرة مزعجة أبت عليه التقهقر وحالت دون الهجوم.
وكان لابن سعود سرية في الدلم عاصمة الخرج بقيادة أحمد السديري، فأمره أن يتأهب للزحف معه إلى الرياض إذا هجم ابن الرشيد عليها. أما إذا تجنبها ومشى إلى الخرج فأهل الرياض يتقفونه بالسلاح وعبد العزيز يفزع إلى السديري في الدلم. بعد هذا التدبير وكل ابن جلوي بمن كان معه من الجنود فأقامهم في علية، وهو ضلع حصين بين الحريق والحوطة قريب منهما، ثم أرسل أخاه سعدا إلى الحريق يستنجد أهلها، وراح هو للغاية نفسها إلى الحوطة، فبلغه في اليوم الثاني هناك خبر هجوم ابن الرشيد على الدلم، «طاح في الشرك الذي نصب له!» فبادر ابن سعود إلى ذاك المكان.
جمع جيوشه من أهل الحوطة والحريق فبلغوا مع من كانوا في ضلع علية ألفا وخمسمائة مقاتل. اجتمعوا في ماوان على مسافة عشر ساعات من الخرج وأسروا فوصلوا إلى الدلم قبل انبثاق الفجر، وكان ابن الرشيد قد نزل في نعجان على مسير ساعتين من البلدة، فلم يدر بدخول ابن سعود إليها، على أنه في عصر ذاك النهار أرسل سرية مستكشفة فخرجت لها خيل ابن سعود، فتهاجم الفريقان وتطاردا، فانهزمت خيل ابن الرشيد.
كثيرا ما تكون الحرب عند العرب مناورات ومجاولات، وهم قلما يسارعون إلى الملحمة التي تطيح فيها الرءوس، ولكنهم يسيرون إليها على طريقتهم سير الهون، وهم يغزون، ويعتزون، ويناوشون، ويتقهقرون. أما إن الحرب خدعة فكلهم يعرفون الآية ويؤمنون بل يعملون بها.
في فجر اليوم التالي راح ابن سعود يكمن لابن الرشيد، وكان قد علم أن من عادته أن يخرج وبعض رجاله صباح كل يوم، فيطوفون في البساتين يرعون إبلهم ويقطعون النخيل. وكأن ابن الرشيد أحس أن خصمه في الدلم فلم يخرج كعادته باكرا، فأرسل ابن سعود خيالة مستكشفين، فعادوا يقولون: إنه متحصن في نعجان. ولم يكن لابن سعود أن يهجم عليه في النهار؛ لأن خيله قليلة؛ ولأن الهجوم يبعده عن الحصون.
على أن الكشافة لم يصدقوا أميرهم الخبر؛ لأنهم لم يصلوا جبنا أو جهلا إلى مكان الاستكشاف؛ فبعد أن عاد ابن سعود إلى البلدة بلغه الخبر أن ابن الرشيد قد خرج على عادته يجول في النخيل، فبادر بقسم من جيشه إليه.
وكانت المواجهة الأولى بين العزيزين خارج الدلم وسط النخيل. تواجها واحتربا، فكانت الوقعة شديدة، واستمرت ست ساعات حتى غروب الشمس، ولكنها لم تسفر عن شيء كبير. فقد أسر رجال ابن سعود جماعة من رجال ابن الرشيد يدعون بأهل لبدة فحصروهم في القصر، ففروا منه في المساء. وطارد ابن سعود ابن الرشيد فتقهقر إلى معسكره.
لم تكن الذخيرة متوافرة عند ابن سعود فنفدت أو كادت في تلك الوقعة، فأرسل يطلب قسما من الحوطة. أما ابن الرشيد فشد في اليوم التالي الرحال وسار جنوبا إلى أسفل الخرج، فنزل السليمية التي تبعد ست ساعات عن الدلم، فتقفاه ابن سعود بعد وصول الذخيرة ونازله في السليمية فأخرجه منها.
ولكنه لم يتمكن من تعقبه فإدراكه؛ لقلة خيله وركائبه، ولكثرتها مع ابن الرشيد. فقد كان جيش الشمري مؤلفا من أربعة آلاف ذلول وأربعمائة خيال، بيد أن الجيش السعودي لم يكن يتجاوز الألفين ولم يكن فيه غير أربعين من الخيل، ومع ذلك فقد انهزم ابن الرشيد في الخرج، وثبتت سيادة ابن سعود فيه، بل في النواحي الجنوبية كلها.
الفصل الرابع
الاستيلاء على القصيم
لم يغير فوز ابن سعود في الخرج موقف الترك تجاه ابن الرشيد وابن الصباح، فظلوا يجافون هذا ويعللون ذاك بالوعود. ومع ذلك فقد عاد ابن الرشيد إلى الحفر بعد تلك الهزيمة واستأنف الغزو، فأغار على عريبدار قرب الكويت، وعلى سبيع في الدهناء، وعلى عتيبة قرب الأرطاوية،
1
ثم باشر محاصرة الكويت فأرسل الشيخ مبارك يعلم «ولده» عبد العزيز بذلك ويستنجده. والدهر في الناس قلب ... فقد صار منجدا من كان بالأمس مستنجدا.
وكان عبد العزيز بعد شهر أقامه في الرياض قد غزا عرب مطير في الصمان، وعتيبة في عرق رغبة بين الوشم وجبل طويق. مما يدل على أن النزعات أو المصالح بدأت تشق القبائل فصار قسم منها يدين لابن سعود، وقسم لابن الرشيد، فيغير هذا على عتيبة مثلا السعودية، ويغير ذاك على عتيبة الموالية لابن الرشيد.
لبى عبد العزيز دعوة الشيخ مبارك فسار فزعا إلى الكويت بجيش لا يقل عن العشرة آلاف، وهو الذي خرج منها بأربعين ذلولا أجرب منذ سنتين. فرحبت الكويت به وهللت له، وانضم منها إلى جيشه ما كان قد جنده مبارك بقيادة جابر بن الصباح، ثم خرج الاثنان جابر وعبد العزيز غازيين طالبين ابن الرشيد.
زحف هذا الجيش الجرار المؤلف من قبائل الحساء كلها - من العجمان وآل مرة وبني خالد وبني هاجر والعوازم والمناصير وسبيع والسهول - البالغ عدده أربعة عشر ألفا، منهم أربعة آلاف خيال، ووجهتهم الحفر، ولكنهم أخبروا في الطريق أن ابن الرشيد قد عاد إلى بلاده، فهجموا لذلك على مطير في الصمان، فذبحوهم عن بكرة أبيهم، وغنموا أموالهم وأرزاقهم كلها، «ذبحناهم وأخذنا حلالهم (أمتعتهم)!»
على أن حلاوة هذا النصر لم تدم طويلا. فقد بلغهم عندما وصلوا إلى ماء طوال الخبر اليقين وهو أن ابن الرشيد - الذي يحسن مثلهم الخدعة - لم يرجع إلى بلاده، بل زحف إلى الرياض يبغي محاصرتها. وقد مر في طريقه بعربان من السهول فضربهم وضمهم إلى جيشه (1321ه / 1903م)، ثم تقدم مسرعا وهو ينوي أن يفاجئ العاصمة بالهجوم ليلا عليها، فلما دنا منها عسكر عند ضلع يدعى أبا أم خروق
2
دون أن يعلم بذلك أحد من أهل المدينة، ولكنه عندما مشى إليها، وأصبح في ظلال نخيلها، شرد رجل من السهول المكرهين ودخل يصيح بالناس: العدو قرب منكم! العدو عند السور!
نهض إذ ذاك الإمام عبد الرحمن بأهل الرياض للدفاع، فخرجوا على ابن الرشيد ونازلوه خارج السور، فردوه خائبا، فنقل بعد ذلك معسكره من بمخروق إلى نخيل يبعد ساعة عن المدينة، وأقام هناك ثلاثة أيام دون أن يأتي بحركة.
ثم بلغه أن عبد العزيز بن سعود زاحف إلى القصيم، فشد الرحال مسرعا ومشى إلى الوشم عن طريق ضرمة. وكان الإمام عبد الرحمن قد أرسل سرية
3
بقيادة مساعد بن سويلم فاستولت على المحمل والشعيب، ثم زحفت إلى شقرا التي كان فيها أمير لابن الرشيد اسمه الصويغ. فلما دنا مساعد من البلد رحل الصويغ إلى ثرمدا، فاستولى مساعد على شقرا برضا أهلها، ثم هجم على ثرمدا فأدرك الصويغ فيها، فقتله، وألقى القبض على العنقري أميرها وأرسله إلى الرياض.
ولم يكن ابن الرشيد بطيئا في تعقبه ابن سويلم؛ فقد هجم عليه في ثرمدا فأخرجه منها، فراح يتحصن في شقرا، فتقفاه وحاصره فيها.
الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز (في الوسط) عندما زار لندن المرة الأولى.
أما عبد العزيز بن سعود فقد عاد بعد غزوة مطير إلى الكويت، فجاءه وهو هناك البشير من والده يخبره بهزيمة ابن الرشيد في هجومه على الرياض، فاطمأن باله واهتم في نقل عائلته التي كانت لا تزال في الكويت فعاد بها إلى نجد.
وما كاد يصل إلى العاصمة حتى علم أن ابن الرشيد محاصر لشقرا وفيها مساعد بن سويلم، فاستراح يوما واحدا وشد للنجدة. ولما وصل عبد العزيز إلى حريملاء علم ابن الرشيد بذلك ففك الحصار ورحل إلى الغاط.
4
استمر عبد العزيز زاحفا إلى شقرا فاحتلها، ولكن سرية ابن الرشيد بقيادة حمد العسكر أمير المجمعة كانت لا تزال في ثرمدا، فأرسل عليها عبد الله بن جلوي، فأعطى عبد الله أهل البلد الأمان، فأبوا إلا القتال فقاتلهم ودحرهم. أما السرية فتحصنت في القصر، فأمر عبد الله بمهاجمتها ليلا، فكانت النتيجة أن قتل عدد منها ولاذ الآخرون بالفرار.
عندما سلمت ثرمدا إلى عبد الله بن جلوي رحل ابن الرشيد من الغاط ورحلته القصيم، ولكنه ترك سريتين في سدير، الواحدة في المجمعة والأخرى في الروضة، فأرسل عبد العزيز سرية عليهما بقيادة خاله أحمد السديري، فنازلت سرية الروضة فدحرتها واستولت على البلد، ثم مشت في سدير ظافرة، فاستولت على بقية بلدانه ما عدا المجمعة التي حافظت على سيادة ابن الرشيد فيها، وقد دافعت عنها دفاعا شديدا، ولكن عبد العزيز قنع يومئذ بما حاز من النصر فترك سريتين أخريين، الواحدة في الروضة والثانية في جلاجل، وأمر السديري في شقرا، ثم عاد إلى الرياض.
كل هذه الحوادث - هذه الغزوات والغارات - حدثت في سنة واحدة بعد سقوط الرياض، فلم يكن عبد العزيز وسميه الشمري ليستريحا إلا قليلا في الفترات القصيرة التي هي هدنات اضطرارية.
عاد ابن سعود بعد فوزه في الوشم وسدير إلى الرياض، ولم يكد يتم الشهر هناك حتى جاءته أخبار ابن الرشيد وفيها أنه خرج من القصيم غازيا، وقصده الهجوم على عتيبة وقحطان (بعد استيلاء ابن سعود على سدير والوشم أصبحت هاتان القبيلتان من قبائله)، فحاصر التويم قرية من قرايا سدير.
خرج ابن سعود مسرعا من الرياض، وكان قد أمر أهل الوشم بأن يبادروا مع أحمد السديري إلى إنجاد سدير. فلما وصل إلى ثادق علم أن ابن الرشيد لم يفز بشيء في غزوته وحصاره، بل إنه انهزم وشرق فنزل ماء شمال الأرطاوية. أما المجمعة قاعدة سدير فكانت لا تزال في حوزته وله سرية فيها.
سار ابن سعود من ثادق إلى جلاجل فأقام فيها عشرين يوما وهو يعد القوة للحرب في القصيم، فبلغه وهو هناك أن ابن الرشيد قد عاد إلى تلك الناحية مارا بالزلفى، فزحف بجيشه إلى المجمعة، واتفق وأهلها على التسليم إذا هو استولى على القصيم.
قد كان جيش ابن سعود مؤلفا يومئذ من سبعة آلاف من المشاة وأربعمائة ذلول لا غير، فمشى به إلى الغاط ثم إلى الزلفى، فكتب من هناك إلى الشيخ مبارك يسأله أن يرسل إليه من كان عنده من أهل القصيم، مثل آل الخيل وآل سليم، وما يستطيعه من المدد، فأرسل مبارك أولئك الذين لاذوا بالكويت بعد وقعة المليدا ومعهم مائتان من الرجال فقط.
وكانت تلك السنة قليلة الأمطار، فضاق العيش بسكان الزلفى وبالتالي بالجيش، فصاروا يأكلون حتى رءوس النخل؛ أي لبها. لم يكن بالإمكان السير إلى بريدة لقلة الزاد والركائب، ناهيك بالطريق وليس فيه بلد يأوون إليه. أضف إلى ذلك أن ابن الرشيد كان مستوليا على القصيم أجمع، فماذا عسى أن يفعل ابن سعود؟ قد كتب إلى بعض الموالين له هناك يطلب منهم أن يؤلفوا سريات تهجم على بعض البلدان تمهيدا لدخوله - تفتح له الباب - فلم يلبوه. ولما تيقن أنه لا يستطيع الهجوم على القصيم، ولا البقاء في الزلفى لشدة القحط، وضيق العيش فيها، عاد إلى الرياض.
أما ابن الرشيد فرحل من القصيم قاصدا البطينيات عله يظفر هناك ببعض عربان ابن سعود، فأقام على ذاك الماء عشرة أيام وأرسل أربعمائة من رجاله بقيادة ماجد آل حمود بن الرشيد إلى جهة عنيزة، وثلاثمائة بقيادة حسين بن جراد إلى السر، ثم انحدر إلى أطراف العراق ليستنفر شمرا هناك ويستنجد بالأتراك، فلما علم ابن سعود بارتحال ابن الرشيد إلى العراق شد مسرعا من الرياض (1321ه / 1903م)، وواصل السير بالسرى، فالتقى في 18 ذي الحجة من هذا العام بحسين بن جراد في السر، وبادره القتال، فقتله وأكثر من معه، وغنم أموالهم وأرزاقهم كلها.
تدعى هذه الوقعة بوقعة ابن جراد. وقد كان من نتائجها أنها قسمت قبائل حرب المقيمة بين السر والقصيم، والتي كانت كلها تابعة لابن الرشيد، فانحاز قسم منها بعد الوقعة إلى ابن سعود.
عاد بعد ذلك عبد العزيز إلى الرياض، فأقام فيها شهر ذي الحجة، ثم مشى في آخر الشهر إلى الغرض الأكبر، فأرسل إلى أهل القصيم في شقرا يأمرهم بأن يوافوه إلى ثادق؛ لأنه يريد أن ينحدر إلى الكويت.
شاع هذا الخبر، فترك عبد العزيز ثقيل أحماله في قصر الجريفة من قصور الوشم، وراح بجيشه يدرهم قاصدا ماجد بن الرشيد في القصيم، فلما وصل إلى ماء الشريمية في وسط النفود علم بعض من كان معه من البادية أنه يريد ابن الرشيد فشردوا، فما بالى ابن سعود بذلك، بل استمر مسريا، فضل الدليل وتاهوا في النفود طيلة ذاك الليل، ثم خرجوا منه فإذا بكشافة لماجد على حواشيه.
نزل ابن سعود في ذاك النهار قصر الحميدية من قصور عنيزة، على مسير أربع ساعات منها، وتقدم ساعة الغروب فوصل إلى نخل من نخيل المدينة، فعسكر هناك وأمر من كان معه من أهل القصيم، وفيهم آل سليم، أن يهجموا على أهل عنيزة في تلك الليلة، قد كان يومئذ بعض الزعماء فيها، مثل آل يحيى وآل بسام مع ابن الرشيد وعندهم سرية من سراياه رئيسها فهيد السبهان. أما ماجد فكان نازلا قرب المريبط وهو باب من أبواب المدينة.
عندما هجم أهل القصيم على عنيزة اصطدموا بطلائع ابن الرشيد من أهلها ومن شمر، فتلاحم الفريقان، فقتل فهيد السبهان وما سلمت رجاله، فطلب السعوديون المدد، فأرسل عبد العزيز مائتين من رجاله بقيادة عبد الله بن جلوي، وكان عبد الله قد اشتهر بالبسالة والبطولة، فلما سمع أهل عنيزة بالنجدة التي جاء يقودها سلموا حالا إلى آل سليم.
أما ابن سعود فركب بعد أن صلى الفجر على رأس سرية من الخيل، و «نحر» المكان الذي كان فيه ماجد بن الرشيد. فلما رأى ماجد خيل ابن سعود لاذ بالفرار، فتعقبه واستولى على مركزه بعد أن قتل أكثر قومه وفيهم أخوه عبيد.
ثم عاد ماجد ومعه بضع وعشرون من الخيل والركائب، وفيهم نفر من آل سعود الذين كانوا منفيين في حائل، جاء بهم ليرد العدو المنتصر؛ لأنه إذا عرفهم، وهم من آل سعود، قد يمتنع عن القتال فلا يقتل أحد منهم، ولكن عبد العزيز عندما عرف أهله - قد دعوا منذ ذاك اليوم «العرايف»
5 - أمر بعقر خيلهم ليتمكنوا من خلاصهم. وكذلك كان. فقد فازوا يومئذ بعد عقر الخيل أثناء المعركة بسعود بن عبد العزيز وسعود بن محمد وفيصل بن سعد، فخلصوهم من القتل ومن الأسر.
1322 / 1904: وفي 5 محرم من هذه السنة (23 آذار) بعد اندحار ماجد بن الرشيد وفراره إلى حائل، تم فتح عنيزة، فدخلها ابن سعود، وأقام فيها بضعة أيام، ثم شد على بريدة فسلم أهلها، ولكن أمير ابن الرشيد والحامية فيها تحصنوا بالقصر فحاصرهم ابن سعود فثبتوا شهرين في الحصار، ثم سلموا في 15 ربيع أول، فتم في تسليمهم الاستيلاء السعودي على بريدة وعنيزة، وبالتالي على القصيم أجمع.
الفصل الخامس
البكيرية
إن أطول واد في البلاد العربية هو وادي الرمة الذي يمتد شرقا من حرة خيبر إلى الرس، ثم شرقا بشمال إلى البصرة. وهذا الوادي يخترق بلاد القصيم بين عنيزة وبريدة، فيشطرها شطرين، الشطر الغربي الشمالي والشطر الجنوبي الشرقي. وفي الشطر الأول بين بريدة والرس بضعة بلدان منها البكيرية والشيحية والخبرا التي يهمنا الآن ذكرها.
في ذاك المنعطف من الوادي تنازع ابن سعود وابن الرشيد السيادة في القصيم. في تلك الزاوية التي يمتد ضلعها بضعة وخمسين ميلا من الرس إلى بريدة ميدان القتال الهائل الذي سنروي خبره الآن. هناك احترب الفريقان ومع أحدهما عساكر الدولة العلية وأطوابها واقتتلا في وقعات عدة تعرف عند أهل نجد بوقعة البكيرية ووقعة الشنانة.
ذكرنا في الفصل السابق أن عبد العزيز الرشيد بعد توزيع قواته في نجد والقصيم سافر إلى العراق ليستنفر عرب شمر هناك ويستنجد الأتراك. وكأن الدولة أدركت آجلا حقيقة الحال في نجد، وأوجست خوفا من امتداد سيادة ابن سعود في البلاد، فأصاخت هذه المرة لابن الرشيد وأمدته بنجدة مؤلفة من أحد عشر طابورا وأربعة عشر مدفعا، وشيء كثير من الذخيرة والمؤنة والمال، وقد صادر ابن الرشيد جمال «العقيلات»
1
لتحمل هذه الجيوش والمعدات إلى القصيم. أضف إلى ذلك أن عددا كبيرا في قصر بريدة أمن ابن سعود رجالها على حياتهم وأذن لهم بالرجوع إلى بلادهم. وقد اتفق أن ابن الرشيد كان قد وصل يومئذ بجيشه إلى القصيبة، فالتقى هناك بأولئك الرجال رجاله وهم عائدون إلى حائل، فأخبروه بما جرى وأن ابن سعود في بريدة. فاستمر ابن الرشيد سائرا ليهجم على المدينة من الجهة الغربية، ونزل القرعا على مسافة خمسة عشر ميلا منها.
أما ابن سعود فقد أخلى بريدة عندما علم بذلك ونزل البصر خبا من خبوب القصيم
2
فنقل ابن الرشيد من القرعا إلى جهة من البكيرية، ثم نقل ابن سعود إلى الجهة المقابلة لها.
1322 / 1904: وفي ذاك اليوم بل في الليلة الأولى من هلال ربيع الثاني من هذه السنة اصطدمت الجيوش صدمة شديدة هائلة، فالتحموا وتجالدوا بضع ساعات وكانت خسارة الفريقين عظيمة.
قد تواجه في تلك الليلة عسكر الدولة، وفيه كثيرون من السوريين
3
والعراقيين، بعسكر ابن سعود الخاص؛ أي بأهل العارض، فأطلقت البنادق والأطواب، ولمعت في نور الهلال الضئيل السيوف، وكانت المذبحة هائلة. فقد قتل من جيش ابن سعود تسعمائة وفيهم ستمائة وخمسون من أهل الرياض، وقتل من جيش الدولة نحو ألف وفيهم أربعة من كبار الضباط، وخسر أهل حائل نحو ثلاثمائة وفيهم اثنان من بيت الرشيد هما ماجد بن حمود وعبد العزيز بن جبر.
وفي تلك الوقعة أصيب عبد العزيز بن سعود بشظايا قنبلة في يده اليسرى، ووقع ابن الرشيد من فرسه فطاحت الفرس فوقه فآلمته ولم تقعده. أما أهل القصيم وعرب مطير فقد هجموا بقيادة عبد العزيز جلوي على جناح العدو فبعجوه، ثم أغاروا على بادية شمر فغنموا أرزاقها، ولكن الشمريين كانوا قد هجموا على معسكر ابن سعود فنهبوه. واحدة بواحدة. لم تمل كفة الميزان كثيرا إن في الغنائم وإن في القتلى إلى إحدى الجهتين في هذه الوقعة الكبيرة. على أن قوات ابن الرشيد على رغم الخسارة ظلت متماسكة.
قال السلطان عبد العزيز: «رحت أنا وعشرون من الخيالة، أخذ الترك خيامنا وهجم البدو على الترك فأخذوا خيامهم وهربوا.»
فسألت عظمته: «إلى أين رحتم؟»
فأجاب ضاحكا: «انهزمنا، هربنا.»
على أن أهل القصيم، عندما عادوا من إغارتهم على بادية شمر، جاءوا مركز ابن سعود فوجدوا فيه المدافع وثلاثمائة من عساكر الترك فتواقعوا وإياهم وقتلوهم، فغنموا المدافع وظلوا في البكيرية. ولكنهم عندما طلبوا عبد العزيز ولم يجدوه هناك حملوا الأسلحة الخفيفة وعادوا إلى بلادهم؛ أي إلى بريدة وعنيزة.
أشكل الأمر على عبد العزيز، فأحب أن يمتحن أهل هاتين المدينتين ليتأكد إذا كان لهم رغبة حقيقية في محاربة ابن الرشيد، فأرسل إليهم يقول: اثبتوا في مكانكم وإني مستفزع أهل نجد وراجع إليكم. فكتبوا إليه وكان أهل عنيزة أشد لهجة يقولون: إذا أنت رحلت فلا يستقيم أمر بعدك، وإذا رجعت إلينا فنحن نعاهدك في السراء والضراء، نقدم أنفسنا وأموالنا وأولادنا بين يديك، إي والله نحمي أوطاننا أو نموت جميعا.
رجع ابن سعود إلى عنيزة فخرج أهلها إليه يستقبلونه معتزين، وأخرجوا المخدرات فرحين به مزغردين، ثم عززوا قولهم فيما قدموه من مال ورجال للحرب.
عندما بلغ أهل نجد خصوصا بوادي عتيبة ومطير هذا الخبر جاءوا كلهم متطوعين مجاهدين، فاجتمع لدى ابن سعود في ستة أيام اثنا عشر ألف مقاتل، فبادر بهذا الجيش إلى البكيرية يهجم على ابن الرشيد فيها، ولكن ابن الرشيد كان قد رحل منها في اليوم السابق وهجم على الخبرا وفيها سرية لابن سعود.
دافع أهل الخبرا مع الجنود الحامية دفاعا شديدا، وبالرغم عن المدافع التي ظلت تطلق قنابلها على البلد طيلة ذاك النهار لم يسلموا، ولكنهم وقعوا في قبضة عدو جديد فعلموا لأول مرة ما هو الهواء الأصفر (الكوليرا)، وكان قد سرى إليهم من جيش ابن الرشيد بعد أن تفشى فيه من اختلاطه بعسكر الدولة. وقد قيل: إن الهواء الأصفر لم يكن معروفا قبل ذاك الحين بنجد.
عندما علم ابن الرشيد بزحف ابن سعود إلى البكيرية التي كانت المركز العام للجيش، وفيها مؤن وذخائر كثيرة، أرسل إليها سرياته الكبرى - ألف وخمسمائة خيال - بقيادة سلطان بن حمود الرشيد، فتصادموا وخيالة ابن سعود - ستمائة وخمسين - عند انبثاق الفجر قرب البكيرية، وكانت الهزيمة على الرشيديين.
ثم دخل ابن سعود البلدة وفتك بحامية ابن الرشيد فيها، فقتل أكثر رجالها وانهزم الباقون فلاذوا بالفرار، ثم طاردت خيله خيل ابن الرشيد حتى الخبرا، فرحل ابن الرشيد منها إلى الرس، فهجموا على بواديه وغنموا عددا كبيرا من الإبل، ثم تقدموا إلى الرس وكان ابن الرشيد قد نزل الشنانة على مسافة ساعة جنوبا منها.
نصب هناك مدافعه وشرع يضرب الرس كما ضربها إبراهيم باشا في طليعة القرن الماضي، فدافع أهلها على عادتهم حتى الرمق الأخير. قتل أميرهم ولم يسلموا. قد أقام ابن سعود ثلاثة أشهر في الرس، منذ منتصف ربيع الثاني حتى منتصف رجب، بينما كان ابن الرشيد في الشنانة، وهم يتناوشون ويتهاجمون ويتطاردون كل يوم، فمل أهل نجد هذه الحال وخافوا أن يسري الهواء الأصفر إليهم، فرفعوا أصواتهم متذمرين شاكين.
سمع ابن سعود الشكوى فأرسل رسولا من كبار بريدة اسمه فهد الرشودي إلى ابن الرشيد يدعوه للصلح، فضحك ابن الرشيد وقال متهكما متهددا: من يبغي حكم نجد لا يتضجر، وهل يصالح من بيده قوة الدولة؟ لا والله، لا صلح قبل أن أضرب بريدة وعنيزة والرياض ضربة لا تنساها مدى الدهر. وأنتم يا أهل القصيم لا يغرنكم ابن سعود، لا يغرنكم شاب طائش يبغي الدراهم ليأخذها لأمه الفقيرة.
رجع فهد الرشودي يحمل هذا الكلام إلى ابن سعود، فألقاه في مجلسه دامع العين، وختمه قائلا: «والله يا أهل نجد، ما رأيت هناك إلا ظالما عتيا كفرعون، ولا يبغي لنا غير ما كان من فرعون لبني إسرائيل.»
وكان الرشودي رجلا حصيفا رصينا يحترمه الناس، فأثرت كلماته فيهم تأثيرا شديدا، ولكن بادية ابن سعود كانت قد تفرقت، ولم يبق لديه غير ثمانمائة من الحاضرة وثلاثمائة من رؤساء القبائل. أما السبب في تفرق البدو فهو أنهم كانوا قد ملوا الحالة كما أسلفنا القول، وكان فوق ذلك وقت الربيع فذهبوا يرعون مواشيهم. ولم يكن لابن سعود أن يكرههم على البقاء؛ لأنهم لم يكونوا من الجند، بل من أولئك الذين يجيئون الأمير متطوعين متكسبين.
على أن هذه الحال لم تنحصر في بادية ابن سعود فقط، بل كانت قد ظهرت كذلك في عسكر ابن الرشيد. فقالت البادية تخاطبه: «هلكت مواشينا وهلكت أولادنا جوعا، فإما أن نرحل جميعا فنمشي وراءك، وإما أن نرحل نحن ونتركك وراءنا.» فأجابهم ابن الرشيد: «وكيف نرحل ولا ركائب عندنا لعساكر الدولة.»
4
فقال رجال شمر: «كل قبيلة منا تقدم الركائب لقسم من العسكر.» فقبل ابن الرشيد وأمر أن توزع أمتعة العسكر أحمالا على شمر. ولكن عندما اعتزموا الرحيل هجم ابن سعود عليهم بخيله ليحول دون ذلك، فتصادموا وتقارعوا من صلاة الفجر حتى غروب الشمس. خرج ابن الرشيد مع ذلك من الشنانة، وكانت البادية التي ارتحلت قبله، قد تركته وراءها، فراح ابن سعود يطارده إلى أن أذنت الشمس بالمغيب. نصب ابن الرشيد خيامه إذ ذاك خدعة للمبيت، فخدع ابن سعود ورجع بخيله بعد أن أقام هناك بعض الحرس والكشافة، عندئذ شرع ابن الرشيد يتأهب للرحيل.
قد كانت خطة عبد العزيز الحربية أن ينهك خصمه بالمفاجآت والمناوشات فيضربه بعد ذلك الضربة القاضية. عندما عاد مساء ذاك اليوم إلى الرس جاءه وهو جالس إلى العشاء أحد الكشافة يقول: رحل ابن الرشيد. فقام ورجاله عن العشاء وسارعوا إلى الخيل يتقفون العدو، فرأوا عندما قربوا منه سوادا ظنوه غنما فأغاروا عليها، فإذا بها عسكر الترك، وكان قد جن الليل فنازلوهم ساعة دون نتيجة تذكر، ثم عادوا إلى الرس.
أما ابن الرشيد فكان قد نزل الجوعي، ودنا من قصر هناك يعرف بقصر ابن عقيل فيه سرية لابن سعود، فهم في صباح اليوم التالي بالهجوم عليه.
ولكن ابن سعود قبل رجوعه إلى الرس الليلة السابقة ترك حراسه وكشافته حسب العادة في مكان معلوم، ومعهم رجال من أسرته زودهم بهذه التعليمات: إذا رحل ابن الرشيد وقرب الخنق (درب بين جبلي أبان)، فأرسلوا أخبروني وأنتم تقفوه لتظلوا عالمين بمسيره، أما إذا مشى إلى قصر ابن عقيل فعليكم أنتم يا أهل سعود أن تسبقوه إلى القصر لتشجعوا أهله وتقولوا لهم: إننا مسارعون إلى إنجادهم. زحف ابن الرشيد إلى القصر الذي لم يكن يخشى عليه إلا من المدافع؛ لأنه حصن منيع، فسبقه بنو سعود إليه، وكانوا قد أرسلوا يخبرون عبد العزيز.
وصل ابن الرشيد فنصب في الحال مدافعه كلها وشرع يضرب القصر، وعندما علم ابن سعود بالحصار بعد ظهر ذاك النهار صاح برجاله قائلا: «انهزم ابن الرشيد ونريد أن نعمل مناورة خارج البلدة.» فاستبشروا وخرجوا للمناورة، فكشف النقاب إذ ذاك عن قصده الحقيقي؛ أمرهم بالزحف إلى قصر ابن عقيل! فترددوا لأنهم لم يكونوا متأهبين للرحيل. لم يكن لديهم شيء من الماء والزاد، وقد كانت الساعة الأخيرة من النهار والمسافة أمامهم لا تقل عن العشرين ميلا.
خطب ابن سعود فيهم محرضا مستنهضا، ثم قال: «أنا واحد منكم ومثلكم، أنتم ماشون وأنا أمشي، أنتم حفاة وأنا والله لا أنتعل. وهذا نعلي وهذا ذلولي.»
قال ذلك وهو يضع النعل في الخرج ويلقي بحبل الذلول على غاربه، ثم مشى أمامهم حافيا، فمشوا وراءه متحمسين، وعندما وصلوا إلى القصر قبل نصف الليل بساعة أرادوا أن يهجموا على ابن الرشيد في ذاك الحين، فمنعهم عبد العزيز؛ لأنه كان عالما بما حل بهم من التعب والجوع، فدخلوا القصر واستراحوا تلك الليلة.
أما ابن الرشيد فبعد أن شغل مدافعه بضع ساعات دون طائل شد في صباح اليوم التالي للرحيل، فتركه ابن سعود يرحل إبله ويحمل أطوابه، وعندما مشى هو ورجاله وعسكر الترك خرجت الخيل للمفاجأة، ومشى الجند السعودي من القصر وراءها، فأدركوا العدو في وادي الرمة.
أناخ ابن الرشيد هناك وجمع جيوشه ، ثم نصب المدافع وبنى بيوت الحرب
5
فتهاجم الفريقان وتقارعا حتى منتصف النهار، وكانت الغلبة إذ ذاك لابن الرشيد، ولكن ابن سعود عندما رأى جانحه الأيمن متقهقرا هجم بقومه هجمة الاستبسال وهدم بيوت الحرب، فاشتد الضرب والطعان، فولت عساكر الترك الأدبار، ثم انهزم ابن الرشيد وفر ورجاله هاربين.
أراد ابن سعود أن يتعقبهم ولكن الحملات وأموال
6
البادية حالت دون ذلك فشغلوا عنهم بها. شرعوا ينهبون وظلوا كذلك حتى جن الليل، ثم عادوا في اليوم الثاني والثالث والرابع، بل استمروا عشرة أيام يجمعون مما ترك ابن الرشيد وعسكر الدولة في ساحة القتال من الأمتعة والذخائر، والأسلحة والمؤن، والفرش والثياب، ناهيك بالإبل والغنم. وقد وجدوا بين تلك الأحمال صناديق من الذهب حملوها إلى عنيزة مقر ابن سعود فوزعها مثل بقية الغنائم على رجاله ولم يأخذ منها شيئا لنفسه. إنها لغنيمة عظيمة فقد كانت قسمة الواحد من الذهب والجمال فقط تتراوح بين المائة والمائة والخمسين ليرة عثمانية وبين العشرة والعشرين بعيرا.
هذي هي وقعة الشنانة والأحرى أن تدعى بوقعة وادي الرمة 18 رجب 1322ه / 29 سبتمبر 1904م، وهي القسم الثاني من مذبحة البكيرية التي قضت على عساكر الدولة وأغنت أهل نجد.
الفصل السادس
الأتراك يفاوضون ويتفرجون
قد نكبت الدولة نكبتين في البلاد العربية في هذه السنة (1322 / 1904)؛ الأولى في نجد، والثانية في اليمن. ومن غريب التقادير أن الإمام يحيى الشاب في صنعاء وابن سعود الشاب في القصيم كسرا الجيوش «المنصورة» كسرات شنيعة، ورفعا للسيادة العربية أعلاما لا تزال تخفق في سماء الاستقلال. أما نكبة الدولة في صنعاء فتختلف شكلا عن نكبتها في القصيم. هناك كان جيشها محصورا، وهنا تشتت ما تبقى من الجنود بعد الوقعة الأخيرة فكانت حالتهم محزنة. فقد فر بعضهم مع ابن الرشيد، وهام الآخرون في الفيافي كالسائمة، ومنهم من لجئوا إلى ابن سعود فأواهم وكساهم وأعطاهم الأمان.
أما ابن الرشيد الذي فر هاربا إلى الكهفة - قرية من قرى حائل - فقد أرسل يستنجد الدولة مرة أخرى. وكانت الدولة كمن خسر في المقامرة فغامر بقسم آخر من ماله أملا باسترجاع الخسارة. وقد غامرت بقسم كبير هذه المرة فأرسلت أحد رجالها الكبار المشير أحمد فيضي باشا الذي اشتهر بشجاعته وبحسن سياسته، وشفعته برجل آخر الفريق صدقي باشا المتصف ببعد النظر وطول الأناة. جاء الأول بثلاثة طوابير وخمسة أطواب من بغداد، وجاء الثاني من المدينة بطابورين، فالتقوا وعسكروا قرب القصيم.
لم تكن تقصد الدولة الحرب ولكنها، وقد رغبت في المفاوضة من أجل السلم، أرسلت هذه القوة من جندها لتعزز جانبها. وكانت قد بعثت إلى ابن سعود بواسطة الشيخ مبارك تقول إنها تريد أن تفاوض أباه الإمام عبد الرحمن، وطلبت أن يوافي والي البصرة إلى الزبير.
أجاب الإمام طلب الدولة، فسافر إلى الكويت، ومنها والشيخ مبارك إلى الزبير، فاجتمعا هناك بالوالي، وبعد المفاوضات في أمور نجد والقصيم قرروا أن يكون القصيم على الحياد؛ أي أن يتكون منه مقاطعة مستقلة تقوم حاجزا بين ابن الرشيد وابن سعود، وأن يكون للدولة فيه مركز عسكري ومستشارون .
لم يوافق الإمام عبد الرحمن على هذا القرار، إلا أنه قبل إكراما للشيخ مبارك أن يعرضه على أهل نجد، ولكن أهل نجد لم يقبلوا ألبتة أن يكون القصيم على الحياد، ولا أن يكون فيه حامية للدولة.
عندما علم ابن سعود بعودة أبيه خرج يلاقيه إلى الحسي، فاجتمع به هناك وسار وإياه إلى شقرا، فأقام الإمام فيها واستمر عبد العزيز سائرا برجاله إلى القصيم، فنزل العماد التي تبعد خمسة وعشرين ميلا عن بريدة إلى الجنوب. وكان فيضي باشا وصدقي باشا قد اجتمعا بابن الرشيد فتفاوضوا واختلفوا. أراد ابن الرشيد أن يضغط على أهل نجد، وأن يأخذ أهل القصيم بالسيف، فخالفه المشير ولسان حاله يقول: الرأي قبل شجاعة الشجعان.
عاد ابن الرشيد بعسكره إلى الكهفة حانقا، وركب المشير على رأس جنوده قاصدا القصيم، فلما وصل إلى بريدة أبى أهلها أن يدخل المدينة، ولكن واحدا منهم هو صالح الحسن من آل مهنا أرسل إليه رسولين هما ابن عمر ومحمد آل علي أبو الخيل يقول إنه وأتباعه يطلبون حماية الدولة والاستقلال.
ولكن أهل بريدة وعنيزة وتوابعهما من القرى لم يقبلوا بالسيادة أو بشبه السيادة التركية، فأرسلوا إلى ابن سعود يستشيرونه في المقاومة. وكان فيضي باشا قد أرسل رسولا إلى الرياض يقول: إن الدولة لا تبغي محاربة أهل نجد وإنه جاء مسالما. ثم أرسل إلى ابن سعود في العماد يؤمنه قائلا: إنني لا أريد إلا السلم ولست محققا مقاصد ابن الرشيد. وقد سأله أن يلزم مكانه ويرسل أباه عبد الرحمن ليوافيه إلى عنيزة للمفاوضة. فقبل عبد العزيز بذلك وأمر الناس بأن يخلدوا إلى السكينة، فلا يأتون عملا عدائيا أثناء المفاوضات.
ركب الإمام عبد الرحمن من شقرا إلى عنيزة وسار فيضي باشا جنوبا فنزل على مقربة منها، وقد تواجه الاثنان في المدينة، فطلب المشير أن يكون للدولة مركزان عسكريان الواحد في بريدة والثاني في عنيزة، وذلك مؤقتا إلى أن يتم الصلح بين ابن سعود وابن الرشيد، ولكن أهل المدينتين إلا صالح الحسن وأتباعه رفضوا هذا الطلب ، فرأى الإمام أن يقبلوه مؤقتا، وأقنعهم بذلك.
وكادت تتم المفاوضات على هذه الصورة لو لم تحل دونها حوادث صنعاء اليمن. فقد كان الإمام يحيى الشاب وعربانه قد شدوا نطاق الحصار على المدينة هناك، وفيها ستون ألفا من الترك العسكريين والمدنيين، وليس عند الدولة قريبا من مكان النكبة أقدر وأشجع من فيضي باشا يوكل إليه إنجاد أبنائها المشرفين على الموت؛ لذلك صدر الأمر إلى أحمد فيضي بالإسراع إلى اليمن، فترك القصيم ومشاكله لصدقي باشا يحلها بالتي هي أحسن.
تولى صدقي قيادة الجيش ونقل إلى الشيحية فعسكر فيها، ولكنه لم ير «التي هي أحسن» في بيت المتنبي أو في عكسه. فلا «الرأي قبل شجاعة الشجعان» ولا «الشجاعة قبل الرأي» استفزته أو هزت منه جارحة للعمل.
أقام صدقي وجنوده في الشيحية لا محاربين ولا مفاوضين، بل أقاموا هناك متفرجين، وقد استأنف ابن سعود وابن الرشيد القتال.
الفصل السابع
كبوات الشيخ مبارك
بعد المفاوضات في السلم وأثنائها سرت إلى أهل القصيم روح الشقاق والفوضى، فكان فريق منهم مع الدولة، وفريق مع ابن سعود، وآخر مع ابن الرشيد، فعاد عبد العزيز إلى الرياض وظاهر أمره أنه نفض يده من هؤلاء الناس المتذبذبين. عاد وهو يقول: إنه تركهم بين عدوين يجاملانهم ويشدان النير على رقابهم.
ولكن الفريق الأكبر أرسل إلى الشيخ مبارك الصباح يسأله أن يتوسط بين ابن سعود وأهل القصيم الذين لا يبغون سيادة غير سيادته. وكان عبد العزيز قد أحس بانقلاب في سياسة الشيخ مبارك، فاغتنم الشيخ هذه الفرصة ليظهر أنه الصديق الذي يرعى العهود، فكتب إلى «أولدي عبد العزيز» يشير بالعود إلى القصيم، وبالعفو عن أهله لأنهم مخلصون له، ولا يبغون في البلاد غير السيادة السعودية.
ولكن رسل الشيخ مبارك كانت يومئذ «تدرهم» إلى عبد العزيز الآخر حاملة كتب التودد والولاء التي أسفرت عن صلح بين الأميرين الصباحي والرشيدي، عقد في آخر سنة 1323 / 1905 أن لهذا الصلح سببين؛ الأول هو أن الدولة العلية كانت ناقمة على الشيخ مبارك، وكان يوسف آل إبراهيم، عدوه الألد ، مستمرا في عدائه. فسعى الشيخ في استرضاء الدولة لتنصره على يوسف، وكان من مساعيه هذه أنه صالح حليفها ابن الرشيد. أما السبب الثاني لهذا الصلح فهو ذاك الشاب الظافر «ولده» عبد العزيز، وكان قد بدأ يخشى امتداد سيادته في نجد ويخشى كذلك نتائجها في الكويت. كيف لا وسيد نجد إذا ما استولى على القصيم واجتاز الحفر لا يقف عند حد دون الخليج. إن عمل الشيخ مبارك إذن هو من باب الدفاع عن النفس.
ولكنه، وهو الداهية، و«الحواقة» وصاحب السيف ذي الحدين، ضرب ضربات عدة صاردة، بل كبا كبوات مضحكة. فقد كتب مرة إلى سلطان بن حمود الرشيد يقول ما معناه:
إني متكدر جدا من أعمال ابن سعود، وقد جرت الأمور في نجد على غير ما أشتهى، أما الآن فإنا وإياكم عليه، والكويت وحائل شقيقان، ومصلحة البلدين واحدة، ولكن مني ما تشاءون من المساعدة ... إلخ.
وكتب إلى ابن سعود يقول:
أولدي يا ولدي، أنا معك في كل حال وحين. قواك الله وتولاك، لا تترك هذا الكلب، فحل الشول ، ولا تدعه يستريح، ولا تصالحه. وأنا أبوك مستعد لمساعدتك في كل ما تريد.
كذلك كان يحاول أن يضعف الاثنين في إغراء الواحد بالآخر وتحريضه على خصمه. ولكن كاتب الديوان المباركي لم يكن موفقا في تلك الساعة، ساعة كتب إلى «الخصمين» فقد أرسل كتاب ابن سعود إلى ابن الرشيد، وكتاب ابن الرشيد إلى ابن سعود!
1
عندما استأنف الاثنان القتال جاء نجاب من الشيخ مبارك يحمل إلى ابن سعود كلمة وجيزة قاسية كتبت على قصاصة من الورق، وفيها أن سيعلن الحرب عليه إذا كان لا يعيد «منهوبات» ابن الرشيد. والمنهوبات هذه غنمها من بعض قبائل العراق رجل من الظفير اسمه علي الضويحي، وقد كان من أنصار ابن سعود، فليس للشيخ مبارك حجة في تدخله بأمره، ولكنه بعد العثرة التي كان الكاتب سببها حاول على ما يظهر أن يصلح الأمر مع أمير حائل فلم يسعفه القدر؛ لأن الأمير وا أسفاه كان قد قتل في المعركة كما سيجيء في الفصل التالي.
لله أنت أيتها الأقدار! فهل تحاولين أن تغلبي الشيخ مبارك؟ إنه لا يغلب، فقد تجاهل قتل ابن الرشيد، وكان قد بلغه الخبر بعد كتابة ما تقدم، فأرسل نجابا آخر إلى «أولدي عبد العزيز» يحمل كتابا طويلا عريضا جاء فيه:
إني لك دائما يا ولدي يا عبد العزيز، أنا أبوك وعونك، وعضدك، ولم أصالح ابن الرشيد إلا لأقهر الترك، ولكنني مستعد أن أمدك بما تحتاج إليه من المال والرجال المال مالك، يا ولدي يا عبد العزيز، والحلال حلالك.
ولكن ابن سعود اطلع على الحقيقة في حديثه مع النجاب زيد المعرقب الذي كان من رجاجيل الشيخ مبارك.
قال عبد العزيز يخاطب النجاب: «والدي الشيخ مبارك أخبرني أنه أمرك بأن تكتم خبر قتل ابن الرشيد.»
فأجاب النجاب: «ما نام الشيخ والله من شدة الفرح عندما وصله الخبر.»
وكانت ساعة في معسكر ابن سعود مضحكة، فكتب إلى «والده» يعلمه بوصول الكتاب الأول وفيه التهديد بالحرب، والكتاب الثاني وفيه التعطفات الطيبة، ثم أخبره بذبحة ابن الرشيد، وختمه بقول الشاعر:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
الفصل الثامن
ذبحة ابن الرشيد
قد ألمعت فيما تقدم إلى الخلاف الذي كان متأصلا في بريدة بين آل مهنا وآل عليان الأسرتين اللتين تنازعتا السيادة هناك، وقد ظهر هذا الخلاف في أشده يوم قتل مهنا أبو الخيل في أول عهد الإمام عبد الله بن فيصل، فشكى أولاد مهنا الأمر إلى الإمام، فلم ينصرهم على أعدائهم آل عليان. وظل الغل كامنا على ما يظهر في آل مهنا إلى الوقت الذي نحن فيه من هذا التاريخ، فتجسم في صالح الحسن الخارج على ابن سعود عبد العزيز.
وشرع صالح يتزلف إلى الترك لتحقيق مآربه، بل اتخذ تلك الخطة السياسية التي تتلون بألوان الحوادث والأحوال، فأغضب ابن سعود وابن الرشيد معا. وعندما ارتحل ابن سعود من القصيم، وظاهر أمره التخلي عن أهله، كان قصده الحقيقي أن يدع صالحا وشأنه، فيكون له من خطئه وعجزه التأديب الأكبر، فيتأكد هو وأتباعه أنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم إذا شهر ابن الرشيد عليهم الحرب.
وقد كان وقتئذ في قطر ثورة أهلية، أو بالحري فتنة أثارها على الشيخ قاسم بن ثاني أخوه أحمد، وهو يبغي انتزاع الملك من يده، وكان كذلك القتال محتدما بين العجمان وآل مرة، فنصر الشيخ قاسم العجمان، ونصر أخوه أحمد أعداءهم، فاشتدت الحرب بين الأخوين والقبيلتين، فأرسل الشيخ قاسم يستنجد ابن سعود، فأنجده حبا وكرامة. هي الفرصة التي اغتنمها عبد العزيز ليبعد قليلا عن نجد، فيخلو الجو لابن الرشيد لينتقم من أهل القصيم.
وقد صح حدسه؛ فعندما سارع إلى نجدة ابن ثاني أرسل ابن الرشيد سرية يقودها صالح العذل ومعه حسين العساف إلى الرس، فاستولت عليه، فاجتمع بعض أهل القصيم في الشقة للدفاع، وقد انضم إليهم عدد من العربان، ولكن ابن الرشيد فاز في هجومه عليهم فذبح أكثرهم، وحاصر البقية في تلك القرية، فضج القصيم وأدرك صالح الحسن وأتباعه أن ليس في إمكانهم الدفاع عن أنفسهم، بل أدركوا أن لا خلاص لهم إلا بعون الله ثم بابن سعود، فأرسلوا يطلبون من الشيخ مبارك التوسط بينهم وبينه كما جاء في الفصل السابق.
أما الحرب في الحساء وقطر فقد كانت الغلبة فيها أول الأمر لآل مرة وأحمد بن ثاني. فلما وصل ابن سعود حمل على القبيلتين معا حملة شعواء فتنفس الشيخ قاسم الصعداء، وفر أخوه أحمد إلى البحرين.
ثم بلغت ابن سعود أخبار القصيم، فعاد مسرعا إلى نجد، وأرسل أخاه محمدا على رأس سرية تغزو قبائل ابن الرشيد، فهجمت السرية على حرب وعادت فنزلت وادي السر.
أما صالح الحسن فأرسل أخاه مهنا إلى أهل عنيزة يرجوهم أن يرسلوا معه أحد وجهائهم ليعاونه في استرضاء ابن سعود. وقد كان هذا الوفد في الرياض يوم وصل إليها عبد العزيز عائدا من الحساء، فاستقبله مرحبا به وعفا عنه وعن أصحابه، ثم توجه إلى القصيم ولكنه لم يكن في ذاك الحين قادرا على محاربة ابن الرشيد لسببين؛ أولهما: المحل في تلك السنة، وثانيهما: تفرق البادية ليهتموا بمواشيهم.
عندما علم ابن الرشيد بقدوم ابن سعود خرج من منزله في البقيعة فأغار على الحميدان من عرب مطير وأخذهم، ثم عاد فنزل القصيبة
1
وتكررت غزواته على قبائل ابن سعود وهو يتنقل من القصيبة إلى الأجفر
2
ومن الأجفر إلى البشوك.
3
أما ابن سعود فقفل راجعا إلى نجد ليستنفر العربان من عتيبة ومطير الأعلين، فجمع جيشا منهم وعاد به إلى القصيم، فأحس عند وصوله أن صالح بن الحسن يسعى سرا في مصالحة ابن الرشيد، وقد جاء مع ذلك، ومعه قوم من أهل بريدة، ينضم إلى ابن سعود.
قبل ابن سعود صالحا على علاته - وهو عالم بما خفي من أمره - ونزل الأسياح بجيشه الذي أصبح مؤلفا من البادية والحضر، فأقام هناك عشرين يوما وقد ثبت صالح طيلة تلك المدة في ولائه، ثم وسوس في صدره ذاك الذي يوسوس في صدور الناس، فهم بأن ينسحب وقومه من الأسياح، فيبقى ابن سعود وعربانه وحدهم فلا يقدرون على ابن الرشيد إذا أغار عليهم.
ولكن ابن سعود أحس بما كان يجول في صدر صالح، فنقل من الأسياح إلى الزلفى
4
ليبعد عن القصيم، فلما وصل إلى مكان اسمه البنجية استأذن صالح بالرجوع إلى بريدة، فأذن له بالرغم عما بدا من خيانته.
عاد صالح إلى بريدة وسار ابن سعود إلى الزلفى يجمع الرجال لجيشه، ثم رحل منها فنزل غديرا بالقرب من الأرطاوية، فانضمت إليه قبائل مطير التي يرأسها فيصل الدويش. قد بلغه وهو هناك خبر الصلح الذي تم بين الشيخ مبارك الصباح وابن الرشيد، ولم يكتف الشيخ مبارك بذلك بل كتب إلى صالح الحسن يحرضه على مثل عمله.
1324ه / 1906م: عاد ابن سعود مسرعا إلى القصيم في شهر محرم من هذا العام، ومعه جيش لا يتجاوز الألف وستمائة مقاتل، منهم ألف ومائتان من الحضر وأربعمائة خيال من البادية. وكان ابن الرشيد نازلا الثوير في عقلة الزلفى، وهو مكان وعر كثير الرمال، فسرى إليه فلم يدركه هناك.
وكان اليوم من أيام الربيع العاصفة الماطرة التي لا يستحبها العرب في الغزو أو في الحرب؛ فقد يدنو المتحاربون بعضهم من بعض دون أن يشعروا بذلك، فإذا هم فجأة في المهلكة الكبرى.
مشى ابن سعود ورجاله حتى أصيل اليوم التالي لذاك الإسراء؛ فوقفوا إذ ذاك لأنهم لم يستطيعوا لشدة الأمطار والرياح أن يواصلوا السير، وكان ابن الرشيد يتراجع ليصل إلى الشقة، فيجتمع هناك بصالح الحسن الذي جاءه مصالحا مناصرا.
عاد كشافة ابن سعود يخبرون بأن العدو هو على مسير ساعتين منهم وقد نزل روضة مهنا.
إلى الروضة إذن! مشى عبد العزيز ورجاله على الأقدام كي لا يشعر العدو بقدومهم، ولكن بعض كشافة ابن الرشيد رأوهم فبادروا إلى أميرهم بالخبر.
استيقظ عبد العزيز بن الرشيد وشرع يجمع جيشه الذي كان مؤلفا من ستمائة من الحضر وألف ومائتين من خيالة البدو.
وصل عبد العزيز بن سعود إلى ساحة القتال، فهجمت رجاله على من تحفز من رجال ابن الرشيد، فتصادم الجيشان وتواقعا تحت جناح الليل في (18 صفر / 14 نيسان) من هذه السنة، فتقهقر الرشيديون، فاحتل السعوديون مراكزهم.
وكان عبد العزيز الرشيد راكبا حصانه يدور في معسكره مستنهضا محرضا. فلما وصل إلى المكان الذي كان فيه فرقة من جنوده ظن أنها لا تزال هناك، فصاح بحامل البيرق يحرضه على الهجوم: «من هان يا الفريخ (اسم صاحب البيرق) من هان يا الفريخ!»
وأين الفريخ؟ قد تقهقر وا أسفاه مع المتقهقرين، فحل محله بيرق ابن سعود. - «من هان يا الفريخ!»
عرف رجال ابن سعود الصوت فصاحوا: ابن الرشيد! ابن الرشيد!
ثم تكلم الرصاص.
أطلقت البنادق السعودية على الأمير التائه، فخر صريعا وفيه بضع وعشرون رصاصة. - «وهذا سيفه وهذا خاتمه بالأمام.» •••
كان عبد العزيز بن متعب بن الرشيد في الخمسين من سنه يوم ذبح هذه الذبحة في روضة مهنا بالقرب من بريدة. وتدعى الوقعة بذبحة ابن الرشيد.
قلت في كلمة التمهيد لهذه السيرة: إن هذا الأمير الرشيدي كان جبارا عتيا، لا أثر للخوف في قلبه، ولا شيء من الرحمة والحنان. وقد كان فوق ذلك قطوبا عبوسا يشد عقاله فوق عينيه، وكوفيته على فمه، فسمي العبوس الملثم. ألا قلما كان يبتسم، بل قلما كان يكشف وجهه كله للناس. ولم يكن على شيء من السجايا التي تحبب القائد إلى رجاله والأمير إلى رعيته.
ذكرت حادثة تدل على ما كان عليه من التجلد والتمرد. وإليك بحادثة من الحوادث التي تدل على ظلمه وقساوته.
يوم كان يحارب أهل القصيم مر في طريقه برعاة من تلك الناحية يحشون وهم أربعون، فأمر بالقبض عليهم، ثم بإيقافهم صفا الواحد جنب الآخر، ثم بقطع رءوسهم أجمعين. فكان كذلك. وهذه المذبحة تدعى بحادثة الحواشيش.
فلا عجب إذا كان قد فرح حتى أهل شمر، كما فرح الشيخ مبارك الصباح، عندما بلغهم خبر قتله.
الفصل التاسع
الأتراك يرحلون
كان قد عزم ابن سعود، بعد ذبحة ابن الرشيد في روضة مهنا، أن يباشر الزحف إلى حائل؛ لذلك لم يأذن لرجاله بتعقب العدو المنهزم، بل عاد بهم إلى بريدة آملا أن يضاعف صفوفهم بمن ينضم إليه من أهل المدينة، ولكنهم بالرغم عن تأكدهم قتل ابن الرشيد تقاعسوا وتذبذبوا، وكان صالح الحسن في رأس فريق من المقاومين.
لم يكن لابن سعود يومئذ القوة الكافية للزحف إلى جبل شمر ولا لمحاربة من استمروا عاصين من أهل القصيم. على أنه كان يحذر دائما أن يحس الناس بضعفه يوم ضعفه أو أن يدركوا يوم القوة حقيقة قوته؛ لذلك ترك أهل القصيم وشأنهم وأغار بمن كان معه على عدو غير صالح الحسن هو ناهش الذويبي رئيس قبائل حرب الموالين لابن الرشيد، فأدركوه وعربانه في مكان يدعى الرحا بين القصيم وحائل، وذبحوهم عن بكرة أبيهم، ثم أغاروا على قبائل من حرب في أبي مغير بأعالي نجد، فشتتوهم وغنموا أموالهم.
أما صالح الحسن فلم تفتر له همة في المؤامرات. وقد علم ابن سعود بينما هو عائد إلى بريدة بأنه اتفق وصدقي باشا على أن ينسحب عسكر الدولة من الشيحية ويحتل بريدة. فسارع عبد العزيز إلى المدينة، واجتمع هناك بزعمائها، فشكوا إليه أمر صالح ، وطلبوا عزله وإجلاءه، فقبض عليه، وأجلاه إلى الرياض، ثم أمر مكانه ابن عمه محمد آل عبد الله أبا الخيل.
أما آل الرشيد فقد تولى متعب الإمارة بعد موت أبيه عبد العزيز، وكان راغبا في السلم، فتفاوض الفريقان وتم الاتفاق على أن تكون حائل وملحقاتها وشمر لابن الرشيد، وباقي بلاد نجد بما فيه القصيم لابن سعود، ثم أطلق الأمير متعب سراح من كانوا مأسورين من آل سعود في حائل، فجاءوا بريدة وأقاموا فيها.
بعد عقد تلك المعاهدة وإجلاء صالح الحسن عاد عبد العزيز إلى الرياض، وما كاد يستريح من الأسفار حتى جاءه مخبر يقول: إن الأتراك في أطراف القصيم يحاولون استمالة بعض البادية إليهم، وإن لفيصل الدويش يدا في المسألة.
شد عبد العزيز على الدويش، بعد أن تحقق خيانته، فأغار على بعض قبائله وأخذها، ثم عاد إلى بريدة وأظعن من كان فيها من آل سعود؛ أي أسرى حائل الذين مر ذكرهم، إلى الرياض، ولم يبق معه هناك غير حاشيته، فاطمأن أهل القصيم خصوصا المناوئون منهم، ولكن أمرا جديدا أزعجه، وهو أن ابن الرشيد كان يفاوض الأتراك في الشيحية ويزين لهم الانسحاب منها إلى حائل، وقصده في ذلك أن يأخذ ما كان معهم من عتاد الحرب والذخيرة. كأنه يقول أعطونا سلاحكم إذا كنتم لا تحاربون.
ولا كانت الدولة راضية عن صدقي باشا وخطته - لا حرب ولا سلم ولا مفاوضات - فأمرت كبيرا آخر من كبار جيشها وساستها هو سامي باشا الفاروقي، الذي كان يومئذ في المدينة، بالسفر إلى حائل للمفاوضة مع ابن الرشيد. جاء سامي باشا واجتمع بالأمير متعب في سمير، قرية من قرى حائل، فاتفق وإياه على أن يكون القصيم في حوزة الدولة. ما خسر ابن الرشيد شيئا في هذا الاتفاق؛ لأنه وهب ملكا لم يكن يومئذ له.
ثم جاء سامي باشا إلى القصيم ليفاوض الفريق الثاني وقد ظنه كالأول، فعزل صدقي باشا وتولى بنفسه قيادة الجيش في الشيحية، وأرسل إلى ابن سعود يطلب مقابلته، فوافاه إلى البكيرية، ولكن المذاكرة كانت مناكرة ؛ فقد اصطدمت في الجلسة الأولى الإرادتان، والتهبت النزعتان التركية والعربية، لم يكن الفاروقي لين العريكة، ولا لبس للحالة لبوسها.
قال يخاطب ابن سعود: «ولكن أهل القصيم يريدون أن تكون السيادة في بلادهم للدولة.» فأجابه ابن سعود قائلا: «ليس لأهل القصيم رأي في الأمر، فهم من أتباعي.»
الملك عبد العزيز (الثالث من الشمال) خارجا من سيارته.
سامي : «التابعية تقتضي الحماية وأنت لا تستطيع أن تحميهم، ولا ابن الرشيد.»
عبد العزيز : «وهل حمتهم الدولة؟
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ومع ذلك فها زعماء القصيم في مجلسك، اسألهم يجيبوك.»
فتكلم إذ ذاك أحدهم قائلا: إن صالح الحسن افترى عليهم، وإنه لا يمثلهم بشيء، وإنهم لا يرضون عن ابن سعود بديلا.
سامي : «إنكم تجهلون صالحكم وتتوهمون حقوقا ليست حقوقكم ... ما جئنا نسترضيكم ولا نستغويكم. جئنا نعلمكم الإخلاص والطاعة للدولة العلية، ولا معلم اليوم غير السيف.»
عبد العزيز : «إني آسف على ما بدا منك، بل آسف لأن الدولة توكل أمورها إلى مثلك. ما كان العرب، يا سامي، ليطيعوا صاغرين ، لا والله، ولولا أنك ضيف عندنا لما تركناك تقوم من مكانك.»
كذلك اجتمع القائدان التركي والعربي وافترقا، ولكن سامي باشا أرسل بعدئذ رسولا اسمه دياب أبو بكر إلى ابن سعود يقول: «يسلم عليك الباشا، ويقول: إن الدولة تدفع لك عشرين ألف ليرة ومخصصات سنوية إذا كنت تعترف بسيادتها في القصيم.»
فلما سمع عبد العزيز هذا الكلام عمد إلى سيفه قائلا: «أتتجاسر يا خبيث أن تحمل إلينا مثل هذه الرسالة؟ ألم يردعك شمم العرب؟ ومتى كان ابن سعود يقبل الرشوة، فيبيع بلاده ورعيته ممن يريدون استرقاقها؟ لا أدنس سيفي بدمك يا خبيث، ولكن لا أرد عنك سيفا بيد سواي.»
بادر الرسول إلى ذلوله بعد استماع هذا الكلام، وراح مدرهما. لم يرجع إلى الشيحية ليؤدي الجواب بل فر هاربا إلى المدينة.
وفي ذاك النهار بعد صلاة المغرب، أرسل ابن سعود إلى الفاروقي ثلاثة من رجاله لينبئه، فيكون متأهبا بأنه هاجم عليه في اليوم الثاني بعد صلاة الفجر. وما كان جادا فيما فعل، ولكنها تهويلة جاءت بفائدة. فقد أرسل الباشا ثلاثة من ضباطه مع رجال ابن سعود مسترضيا، فجاء الضباط يقولون: إن الباشا وعسكره ضيوف عليكم واحسبوهم في معيتكم.
1324ه / 1906م: صفا الجو أو إن الرياح سكنت إكراما لرمضان، فصام ابن سعود في عنيزة، ولكنه علم يوم العيد أن ابن الرشيد يواصل السعي في استقدام عساكر الترك إلى حائل. فجهز لحينه حملة من أهل القصيم ونزل إلى البكيرية، ثم أرسل إلى الفاروقي بلاغا - وكان هذه المرة جادا - يخيره بواحد من أمرين؛ إما أن ينقل بجيشه في خمسة أيام إلى وادي السر (فيحول بعده عن القصيم دون المفاوضات وابن الرشيد)، وإما أن يرحله ابن سعود من نجد، فيرسل الجنود العراقية إلى العراق والجنود الشامية إلى المدينة، وإذا رفض أحد الأمرين فهو هاجم عليه لا محال.
عندما علم الجنود، خصوصا الضباط بهذا البلاغ، قاموا يطلبون من سامي باشا الإذعان، بل طلبوا منه أن يرحلهم إلى بلادهم، وقد هدده البعض بالقتل إذا لم يفعل، والبعض قالوا إنهم سينضمون إلى جيش ابن سعود.
قبل الباشا بترحيل الجنود، ولكنه اشترط أن يضمن عبد العزيز سلامتهم وسلامة معداتهم في الطريق إلى المدينة وإلى بغداد. قبل عبد العزيز بذلك، واشترط أن ينقل الجنود العراقيين إلى بريدة فيبقون فيها إلى أن يصل سامي باشا بجنوده إلى المدينة؛ لأنه خشي أن يسير الباشا إلى حائل فينضم إلى عسكر ابن الرشيد ويعيد الاثنان الكرة عليه.
وقد كان عبد العزيز صريحا على عادته، فقال للفاروقي: «إذا سرتم إلى المدينة رأسا رحلنا جنود العراق، وإذا حدتم عن الطريق ذبحناهم، وسنكون عالمين بمسيركم.»
ثم دعا عبد العزيز للسماط شيوخ حرب، التي كانت قد حملت عساكر المدينة عندما جاءوا إلى نجد، وبعد الطعام خاطبهم قائلا: «أنتم جئتم بالترك من المدينة وأنتم مرجعوهم إن شاء الله، وستبقون عندنا إلى أن يصلوا سالمين.»
حمل عربان حرب العساكر وأمتعتهم وعتادهم على الجمال وارتحلوا، وبعد أسبوعين جاء ابن سعود نجاب يقول إنهم اجتازوا الحناكية ورحلتهم المدينة، فأمر إذ ذاك أن تجهز الركائب للعساكر الذين في بريدة، فرحلوا آمنين شاكرين إلى العراق.
وبعد شهرين أرسل السلطان عبد الحميد يشكر الأمير عبد العزيز بن سعود على معاملته عساكر الدولة تلك المعاملة الشريفة، ويسأله أن يرسل أحد رجاله لمقابلته. فأرسل صالح العذل ومعه اثنان آخران إلى الآستانة، فنزلوا ضيوفا على الحضرة الشاهانية، ومنحوا الألقاب والنياشين، وسمعوا من الوزراء كلاما سياسيا لم يجيبوا عليه بشيء ولا أثمر بعدئذ شيئا للدولة.
أتيح لي الاجتماع بصالح باشا العذل يوم كنت في الرياض، فألفيته شيخا جليلا يحمل في أيام السلم عصا من الشوحط، ومثل أكثر أهل نجد لا يكثر الكلام. اجتمعت به في بمخروق يوم خرج عظمة السلطان للنزهة وكنا في معيته. وكان عظمته قد حدثني عن ذاك الوفد فرغبت في التعريف إلى أحد رجاله، ففاجأني عندما كنا جالسين في ذاك الغار قائلا: «هذا صالح العذل.» ثم ناداه: «يا باشا يا باشا تعال تعرف إلى الأستاذ.» جاء صالح يبتسم وجلس مثلنا على الأرض، فسألته إذا كان قد سر في إقامته بالآستانة، فأجاب موجزا: «ما سررنا بشيء مثل سرورنا يوم رحلونا منها.»
الفصل العاشر
ليلة الظافر
بعد ترحيل عساكر الدولة إلى المدينة المنورة وإلى بغداد خرج على ابن سعود اثنان من رؤساء مطير هما فيصل الدويش ونايف بن هذال، فتحالفا وأميري بريدة وحائل عليه.
ولكن أهل بريدة ظلوا إجمالا موالين. وقد كان لعبد العزيز في تلك المدينة زوجة يزورها من حين إلى حين، فلما بلغه خبر خروج ابن الدويش وابن هذال وهما من أتباعه، سارع إلى القصيم متحققا متأهبا معا، وأرسل عندما قرب من بريدة إلى شلهوب
1
أحد خدامه فيها يخبره بقدومه ذاك النهار.
وكان قد عسكر في غدير قرب الشقة
2
يدعى المغر فشاعت إشاعة أن ابن الرشيد هاجم عليه هناك. خرج عبد العزيز بنفسه مستكشفا، فلم يجد ما يشغل البال أو يستحق الاهتمام، فعاد إلى معسكره يتأهب لزيارة المعزبة،
3
وكان النهار قد شد للرحيل.
لبس عبد العزيز أفخر ما لديه من الثياب، فبدت خلال العباءة كأنها من نسيج الشمس الغاربة. زبون (أنباز) من الكشمير الثمين، فوقه رداء من قماش آخر هندي تمتزج ألوانه الزاهية بعضها ببعض، وفوق الاثنين، بين عباءة الوبر والرداء، «كرك» (معطف) مزركش بالقصب.
خرج الظافر يتلألأ ويفوح طيبا، كأنه ظفر بالشمس فسلبها بهاءها، وغنم أزاهر الأرض فبطن بها عباءته، فسرى تحت جناح الليل تحف به ستة من الخدم، ويماشي منية قلبه جيش من الشوق، ولكنه عندما دنا من بريدة، ولم يكن بينه وبين تلك المنية القصوى غير مسير نصف ساعة، التقى برسول من خادمه شلهوب جاء يقول: إن محمدا أبا الخيل (أمير بريدة) قد أقفل القصر وهو متأهب للحرب.
وكأن الليل حالف أبا الخيل، فقصف في تلك الساعة الرعد، ولعلع البرق في السماء، فهطلت الأمطار، وهبت الرياح، وأمسى الظافر حائرا بائرا، لا يستطيع الدخول إلى بريدة، ولا الرجوع إلى معسكره وقد بعد عنه مسافة ثلاث ساعات.
يا لها من ليلة عاصفة ماطرة، ليلة ظلمتها دامسة! ويا لها من خيبة ليلها أشد من تلك العواصف والظلمات! لمز الظافر فرسه وقد قفل راجعا، فسمع بعد قليل كلبا ينبح، فساقها نحو الصوت، فإذا هناك بيت من الشعر، فترجل أمامه يبغي ملجأ من المطر الهطال.
وما كان البيت غير خيمة صغيرة طولها ست أذرع وعرضها نصف ذلك، وفيها طائفة من البشر والمعزى، تكلم عبد العزيز: «يا أهل البيت نحن ضيوفكم.» فأجابوه ولم يعرفوه: «أهلا ومرحبا، ولكن البيت ضيق وذا الليل يسود الوجه.»
لم يقبلوا غير واحد من الربع، فظل الخدم خارج الخيمة.
دخل عبد العزيز فرأى هناك عشرة أنفار كبار وصغار، فيهم عجوز مريضة وشائب مجنون، فجلس على رحل قرب الباب وقد ضم يديه بين جنبيه، وهو يرتعش من المطر الذي اخترق ثيابه. وكانت الجديان، وهو في تلك الحال، تثب على كتفيه، والمعزى تبول أمامه، والمطر يصب من سقف الخيمة، والمريضة في الزاوية تئن والمجنون يصيح، والصغار يبكون، والكبار السالمون من علل الحياة يتصاخبون.
جلس على ذاك الكور، في تلك الخيمة، وهو يتأمل حالتها وحالته، ويود لو كان أبو الخيل تحت سنابك ذاك الليل، أو في مجاري السيل، أو في مخالب العاصفة، أو تحت ذاك السقف الزارب بين العجوز المريضة والشائب المجنون.
هي ليلة الظافر! وعندما أسفر الفجر ركب فرسه وعاد إلى الشقة لييبس ثيابه وينظفها. وقد أمست، وهي مثقلة بالماء والوحل والأقذار، أكره لديه من أبي الخيل. فلما وصل إلى تلك القرية رأى جدران بيوتها تنهار من شدة السيل والأمطار، فأم بيت الأمير، وكان لا يزال يملك غرفة ذات سقف وفيها نار مشبوبة، فشكر الله على ذلك.
بعد أن يبس عبد العزيز ثيابه، وأزال منها الأوحال ركب يقصد بريدة، فلما وصل إلى القصر وجده مقفلا، قرع الباب فسئل: من أنت؟ فأجاب: «أنا ابن سعود.» فلم يسع من كانوا داخلا إلا أن يفتحوا.
وعندما واجه أبا الخيل رآه يرتعد خوفا فسأله قائلا: «ما بالك قبح الله وجهك؟!» فأجابه: «افترى الناس علي. هم يكذبون والله فيما يقولون.» فقاطعه عبد العزيز قائلا: «اسكت! ما بين أمرك إلا أنت.»
لم يقل أكثر من ذلك . وقد أقام يوما في بريدة مستطلعا الأخبار فتحقق خيانة رؤساء مطير، وسارع إلى محاربتهم، فاضطر أثناء ذلك أن يصالح أعداءه في بريدة، فعفا عن زعيمهم أبي الخيل محمد.
سألت عظمة السلطان وهو يملي علي أخبار هذه الحوادث: «وكيف تعفو عنه بعد تلك الليلة المشئومة؟» فأجاب فورا: «مكره أخوك لا بطل.»
الفصل الحادي عشر
تعددت الأعداء
حالت في حائل الأحوال، فجرى الدم في بيت الرشيد وتولى الإمارة سلطان بن حمود، أحد الإخوان الثلاثة الذين قتلوا أبناء عبد العزيز الثلاثة؛ أي الأمير متعبا وأخويه.
1
وقد باشر سلطان حكمه بالمخاتلة، فأرسل نجابا إلى عبد العزيز بن سعود يطلب الصلح، وأرسل في الوقت نفسه يخطب ود أهل نجد وقصيم ويستنصرهم عليه.
وبينما كان نجاب السلم عند ابن سعود جاءه رسل من الزعماء في تلك النواحي ومن بعض رؤساء البادية يحملون الكتب التي كتبها إليهم أمير حائل الجديد.
غضب عبد العزيز وهم بطرد النجاب، فأوقفه والده الإمام وأشار عليه بقبول ما جاء من أجله، فقبل بذلك مشترطا على سلطان الشروط التي اشترطها على سلفه متعب؛ أي إن إمارته تنحصر في حائل والجبل، وسيادة ابن سعود تعم نجد والقصيم.
1315ه / 1907م: عاد رسول السلم إلى سيده، وراح ابن سعود غازيا بعض القبائل المتقلبة في الجنوب، ثم جيش جيشا من بادية مطير ومن الحضر وزحف به إلى أطراف القصيم؛ لأنه علم أن سلطانا أخل بشروط الصلح. سار عبد العزيز إلى بريدة فاجتمع هناك ببعض الزعماء وفيهم أبو الخيل محمد، فأشاروا عليه ألا يصالح ابن الرشيد. قالوا إن الحرب أولى، وإن ابن الرشيد لا يركن إليه.
وكان عبد العزيز قد تحقق ذلك من كتب سلطان إلى رؤساء أهل نجد والقصيم، فلم يخامره الريب في إخلاص هؤلاء الزعماء وفيهم من أصدقائه السابقين شيخان من مطير هما فيصل الدويش ونايف الهذال؛ لذلك زحف إلى حائل غازيا، ولكنه لم يتوفق في تلك الغزوة، كما أنه لم يتوفق في وضع ثقته بالدويش والهذال؛ إذ بعد أن علما بفشله تعاهدا وأبا الخيل على أن ينصرا ابن الرشيد عليه.
عندما تحقق عبد العزيز ذلك - عندما أدرك أن قد تفلتت مطير من يده وخرجت بريدة عليه - راح يستنجد عتيبة عدوة شمر ومطير، فأفلح بعض سعيه. وعندما هجم سلطان على قافلة له كانت خارجة من القصيبة، فأخذها وأمن رجالها ثم قتلهم، شد عبد العزيز عليه، فلم يدركه؛ لأنه كان قد عاد إلى حائل.
عرج ابن سعود على بريدة وأرسل منها الكشافة فالتقوا في الطريق برجل رابهم أمره فقتلوه، فوجدوا معه كتابا من محمد أبي الخيل إلى سلطان الرشيد يعاهده فيه على ابن سعود.
تعددت الأعداء والخيانات، ولكن خيانة فيصل الدويش أثارت في عبد العزيز أشد الغضب والحنق، فراح يدبر وسيلة للانتقام. وكان من تدبيره أنه أذن لعرب عتيبة بالرحيل، ليقال إنهم خذلوه، ثم صالح أهل بريدة وعفا عن زعمائها كما أشرت في الفصل السابق.
ولكنه عندما أذن لبوادي عتيبة بالرحيل ضرب لهم موعدا في مكان يدعى الجعلة، فاجتمع بهم هناك، وأغاروا بغتة على الدويش في جهة سدير، فلاذ بالمجمعة التي كان فيها يومئذ حامية لابن الرشيد، فأدركوه ورجاله في بساتينها وفتكوا بهم، فهزموهم شر هزيمة، وغنموا أموالهم كلها.
بعد هذه الوقعة التي جرح الدويش فيها جاء كبار مطير مستسلمين مستغفرين فأعطاهم ابن سعود الأمان، ثم عاد إلى الرياض ولم يكد يتم الشهر هناك حتى جاءته الأخبار مثبتة خيانة أبي الخيل الذي كان قد عقد وابن الرشيد عهد الصلح والولاء.
استنفر ابن سعود بوادي قحطان وعتيبة، ورفض من جاء ينضم إلى جيشه من مطير التائبين وأهل بريدة؛ لأنه لم يكن ليثق بهم. أما ابن الرشيد فكان قد غزا بعض عربان ابن سعود فلم ينل منهم مغنما، بل غشي جيشه الظمأ فمات عدد كبير من رواحله وخيله، فعاد إلى الجبل ونزل الكهفة.
أما أبو الخيل فاستمر عاصيا طاغيا، بالرغم من عفو ابن سعود وبالرغم من توسط ابن سليم أمير عنيزة. وكان من رجال مطير «التائبين» ما توقعه عبد العزيز فانضموا وطاغية مهنا إلى جيش ابن الرشيد، الذي جاء إلى بريدة فنزل على المياه في جوارها.
أما عربان ابن سعود - قحطان وعتيبة - فانحدروا يلبونه ونزلوا العرض، ثم اجتمعوا بمن نفروا إليه من الحضر بوادي السر وزحفوا شمالا يقصدون بريدة.
تصافت القبائل، فكانت شمر وحرب ومطير مع ابن الرشيد وكانت عتيبة وقحطان مع ابن سعود.
وهناك آخر من الأمراء أنصار ابن الرشيد لا يستهان به، ألا وهو الشيخ مبارك الذي كان مخلصا لكاتب ديوانه في الأقل فلم يعزله بعد تلك الزلة. وقد جاء ثانية بمثلها. ففي الكتب التي وصلت إلى عبد العزيز من «والده» في الكويت كتاب إلى سلطان الرشيد، أرسل خطأ إلى خصمه، وفيه يحرضه على ابن سعود ويلح عليه بالاتفاق وأهل القصيم.
كتم عبد العزيز الأمر وتقدم بجيشه من السر إلى المذنب، فجاءه هناك رجل يدعى عبد العزيز بن حسن من أهل القصيم، ولكنه كان من خفية ابن سعود، فأخبره أن الشيخ مباركا أرسل يتوسط بالصلح بين أهل القصيم وابن الرشيد. لم يكن عبد العزيز ليحتاج إلى هذه البينات في انقلاب «والده» ابن الصباح عليه، وقد تعددت أمثال فعلته هذه الحرباوية، ولكن عذر صاحب الكويت في ذلك أنه كان ينشد دائما التوازن في نجد، ويسعى في تحقيقه والمحافظة عليه؛ لأنه إذا اختل التوازن اختلت في رأيه الشئون كلها، وفيها شئون الكويت.
تقدم ابن سعود إلى عنيزة فعلم أن معسكر سلطان هو خارج بريدة على مسير ساعة من قصرها، فسرى يريد الهجوم عليه، فعلم سلطان بذلك، ونقل إلى قرب القصر.
لحق به ابن سعود فتناوش الفريقان مرارا دون أن يتمكن بعضهم من بعض. على أنه في إحدى الغارات كبت فرس عبد العزيز فوقع وقعة مشئومة، فكسر عظم في كتفه اليسرى وأغمي عليه.
وكان فيصل الدويش قد جاء ابن الرشيد فزعا فأنزل أهله الطرفية
2
وتقدم بخيامه ورجاله إلى بريدة، فلما دنا من عسكر ابن سعود خرجت إليه سرية فنازلته وهزمته، فقتلت عددا من رجاله وغنمت كثيرا من الإبل، ثم تقفت من تقهقروا وهجمت بعد ذلك على الطرفية فذبحت أهل الدويش واستولت على البلد.
أما عبد العزيز فعاد بعد وقعته يتبع السرية التي هزمت الدويش، فوصل العصر إلى الطرفية وعسكر فيها، ولم يشعر حتى الليل بألم في كتفه شديد حرمه النوم وأقعده.
دعا قواده وهو في تلك الحال فخاطبهم قائلا: «ابن الرشيد وأهل بريدة هاجمون عليكم هذه الليلة فتأهبوا وكونوا متيقظين. بثوا الحرس والكشافة في الطرق، وحصنوا القصر.»
وكان قد انتصف الليل عندما جاء رجل من بريدة يقول: إن ابن الرشيد ورجاله قد خرجوا وهم يريدون المهاجمة.
لم ير القائد الذي بلغه الخبر أن يزعج عبد العزيز به وهو في تلك الحال، خصوصا وأن الجيش كان مستعدا للدفاع.
ولكن أمرين أفسدا ذاك الاستعداد؛ فقد تأخر ابن الرشيد فنامت الجنود، وقد سلك إلى الطرفية طريقا غير الطريق المعروفة، فلم يشعروا إلا وهو ورجاله في وسط المعسكر.
هجمت البادية من جهة عليه، وهجم أهل بريدة من الجهة الأخرى، وهم يبغون احتلال القصر، ولكن الحرس أفاقوا الحامية فصادمتهم وصدتهم عن الدخول.
أما ابن الرشيد ورجاله فتقدموا هادئين ليباغتوا السعوديين وهم نيام، ولكن بعضهم استيقظوا، فتصادموا والمهاجمين، وتضاربوا بكعاب البنادق ثم بالسيوف، فسالت الدماء وعلت الأصوات، «على المشركين! على الخونة!»
أطلقت عندئذ البنادق فهب العسكر كله للقتال، الذي استمر حتى الفجر، فبدت إذ ذاك المياه الجارية بين النخيل وقد احمرت من دم القتلى. - «صبحناكم لا صبحتكم العافية.»
هي الكلمة التي كان يرددها السعوديون عندما تقفوا الرشيديين المنهزمين.
قتل في هذه الوقعة التي تدعى بوقعة الطرفية 5 شعبان 1325 /14 أيلول 1907، ثلاثون من رجال ابن سعود وثلاثمائة من رجال ابن الرشيد. وقد كان الفضل في هذا النصر للحضر في الجيش السعودي. أما البوادي فشردوا، ثم عادوا بعد بضعة أيام.
الفصل الثاني عشر
كسرة أبي الخيل
قلت فيما تقدم: إن أبا الخيل من آل مهنا الذين كانوا متآمرين في بريدة، وإنهم كانوا معادين لآل سعود منذ عهد الإمام عبد الله بن فيصل عم عبد العزيز. أما أهالي بريدة أو الأكثرية فيهم، فكانوا يشكون حكم آل مهنا ويودون التخلص منه، بل كانوا متقلبين متذبذبين. لم يستطيعوا أن يقاوموا أميرهم أبا الخيل، ولا أن يعاونوا عدوه فكانوا يوما معه ويوما عليه، باطنا أو ظاهرا، شأن المستضعفين المستنسرين. وكانوا في انقلابهم وتلونهم أسرع من أميرهم وأسبق، فقد طالما خدع ابن سعود وابن الرشيد، وابن مهنا نفسه بما كانوا يظهرون أو يبطنون.
بعد وقعة الطرفية عاد إلى بريدة من سلموا من أهلها وفر ابن الرشيد وباديته إلى حائل، فزحف ابن سعود في اليوم التالي ليتتبع البريديين، فأغارت كوكبة من الخيل على المدينة وغنمت المواشي التي كانت خارج السور، ثم نزل في الزرقاء شمالا وأباح لعسكره القرى التي ساعدت أهل بريدة، فجاء أهلها في اليوم التالي يطلبون العفو فعفا عنهم.
أما أهل بريدة فظلوا عشرين يوما داخل البلد كأنهم في حصار، فلم يخرجوا لا موالين ولا معادين، ولكن فريقا منهم أرسل يخبر ابن سعود سرا أن أبا الخيل مستول على المدينة بمن معه من رجال ابن الرشيد، وأنه إذا هو انسحب من جوارها يتيح لهم أن ينهضوا على أميرهم وجيشه الشمري.
وكان هؤلاء الشمريون قد عابوا سلطان الرشيد في انهزامه وفراره إلى حائل، وطلبوا منه أن يعود، فعاد ودخل بريدة ليلا. فلما علم ابن سعود بذلك مشى إلى عنيزة فنزل على مسير ساعة من بريدة، ففاجأت خيالة ابن الرشيد رعاة له فأخذوهم. وقد حدث يومذاك قتال اشتركت فيه البدو، فقطعت الحضر ساقتهم؛ أي حمتها.
إن الحضر في الجيوش العربية كالجنود النظامية. أما البدو فبدو هم، وأمرهم عجيب، قد أسلفت القول: إن بوادي ابن سعود شردوا في وقعة الطرفية ثم عادوا إليه. ومن عاداتهم أن يجيئوا ويروحوا، أن يحاربوا ويشردوا كما توحي إليهم النفس أو ترشدهم الحوادث.
وفي القتال أمام بريدة هجم جيش البادية فاحتاط ابن سعود للأمر بأن جعل الحضر في مؤخره ليمنعه من الفرار إذا أحس بالهزيمة، ولكنه كان في ذاك اليوم منتصرا فتراجع قوم ابن الرشيد ودخلوا البلد.
استمر ابن سعود في سيره جنوبا فنزل عنيزة، ثم نقل إلى البكيرية، ثم إلى الرس، يجمع إليه المقاتلة من الحضر. أما سلطان الرشيد فعاد إلى الجبل، وقد ترك أخاه فيصلا في بريدة؛ ليكون عونا لأبي الخيل على أهلها؛ بل ليظل بعيدا عن حائل، ولكن فيصلا اختلف وطاغية مهنا فهجره، وعاد إلى الجبل فاجتمع بأخيه الأمير الحاكم وأغضبه، فأرسله الأمير بمهمة إلى الجوف؛ وقصده الإبعاد.
وكان ابن سعود قد نقل من الرس إلى جهة عتيبة، فنزل هناك في جبل يدعى سواج وهو يترقب الفرص للهجوم. فلما علم بما جرى بين فيصل وأخيه سلطان سارع إلى الجبل جبل شمر، ولكن البدو - وهو في منتصف الطريق - هجروه، فاستمر مع ذلك سائرا، ونزل بقومه على ماء سقف، فوجدوا هناك قبائل من حرب، فأغاروا عليهم وغنموا كثيرا من أموالهم.
لم يتوفق عبد العزيز في زحفه إلى الجبل فعاد إلى الرياض، ثم رجع في الشهر التالي إلى القصيم، فلاقاه جاسوس من بريدة ليخبره أن أهلها مستعدون إذا وصل إليهم ، أن يهجموا على أبي الخيل.
لمز ابن سعود حصانه وراح بجيشه مسرعا، فوصلوا إلى المكان المعين للاجتماع خارج البلد فلم يجدوا أحدا هناك.
لله أنتم يا أهل بريدة! عض عبد العزيز على نواجذه وعاد إلى عنيزة، فجاءه بعد سبعة أيام رسول منهم يقول إنهم متأهبون للهجوم، فزحف زحفة ثانية كانت كالأولى عقيدة الفشل.
ولكنه نزل الأخضر، على مسير ساعة ونصف ساعة من المدينة، ومشى إليها بالجنود مرتين على «الأنصار» يخرجون إليه، فلم يخرج أحد منهم.
ثم بلغه أن سلطان بن الرشيد زاحف من الجبل لينجد أهل بريدة؛ أي الرشيديين فيها، فشد ابن سعود وبادر إليه؛ ليصده عن ذلك، فعلم عندما وصل إلى كهفة أن الخبر مكذوب. وكان برغش بن طوالة، من رؤساء شمر، نازلا ماء فهد بالقرب من جبل سلمى هناك، فسرى يريد الهجوم عليه. فلما رآه ابن طوالة مقبلا ساعة الفجر أركب الحريم على الخيل سافرات فجئن يلاقينه مستعطفين، ثم جاءه برغش طالبا العفو بل جاء يعاهده على الولاء، وأقسم بالله أن سيكون على الدوام من رعاياه المخلصين.
1326ه / 1908م: قد كان ابن طوالة رسول السلم أيضا بين ابن سعود وابن الرشيد، فجددت المعاهدة السابقة التي خرقها مرة سلطان ولم يتقيد دائما سلفه متعب بشروطها، ولكن ابن سعود لم ينخدع. وما أراد في ذاك الحين غير حياد ابن الرشيد، ولو إلى حين، فينشط أنصاره من أهل بريدة ويمكنوه من أبي الخيل.
عاد عبد العزيز، بعد أن صالح ابن الرشيد، إلى البكيرية، فعسكر فيها وسار بنفسه إلى عنيزة مستخبرا، فأخبر عندما وصلها أن أهل بريدة مستعدون الاستعداد التام هذه المرة للهجوم.
بادر عبد العزيز إلى حصانه، وعدا به عائدا إلى البكيرية، فقطع بساعتين ونصف ساعة مسافة خمس ساعات من السير، وأمر عند وصوله بالزحف السريع إلى بريدة، فزحف الجيش في ذاك النهار ووصل إلى المدينة عند غروب الشمس. - وأين الرجال؟ أين من هم مستعدون الاستعداد التام للحرب؟ الحق يقال إن السيادة كل السيادة كانت لمحمد أبي الخيل. ولم ينفر إلى ابن سعود ليلتئذ إلا عشرة من الأنصار، فكان الاتفاق بعد المفاوضة السرية أن يفتحوا له باب السور وقت صلاة العشي. ولم يكلفهم أكثر من ذلك.
أمر ابن سعود سريتين بالتقدم ثم بالدخول إلى البلد، إذا ما فتح الباب، فيسيرون توا إلى البيوت القريبة من القصر المقيم فيه أبو الخيل ويحتلونها.
فتح باب السور، وكان الناس في الصلاة، فدخلت السريتان، واحتل البيوت المذكورة ثلاثمائة من الفرسان.
كان ابن سعود ساعتئذ واقفا عند الباب فأرسل فرقة عددها خمسمائة رجل لتحتل أبراج السور القريبة منه.
ثم خطب في الباقي من جيشه قائلا: «إننا هاجمون على هذا البلد، فاحذروا أن تؤذوا من لا يعترضونكم، أو تسيئوا إليهم بشيء، حاربوا من حاربكم، وسالموا من سالمكم. أما البيوت فلا تدخلوها. وأما الحريم فمن اعتدى عليهن فيدي عليه.»
دخل ابن سعود على رأس جيشه يقصد من تقدمه من الفرسان. وما كاد يخرج الناس من المساجد حتى علت في المدينة صيحات الحرب.
اشتبكت الجنود برجال أبي الخيل، واستمر القتال طيلة ذاك الليل، فقتل من المهنيين عشرة ومن السعوديين خمسة لا غير. وجاء رؤساء بريدة عندما أسفر الفجر يطلبون العفو، فعفا الظافر عنهم بشرط أن يسلم المقاتلون السلاح، فسلموها قبل الضحى.
ولكن أبا الخيل ظل محاصرا يوما وليلة، ثم طلب الأمان فأمنه عبد العزيز على حياته، وتركه يذهب حيث يشاء، فرحل إلى العراق.
وفي كسرة محمد آل عبد الله أبي الخيل، في 20 ربيع الثاني من هذا العام (23 أيار) دخلت بريدة للمرة الثانية في حوزة ابن سعود.
الفصل الثالث عشر
الأقارب والعقارب
ما سلط الله على العرب غير أنفسهم؛ فقد طالما نكثوا العهود فرارا من تبعة أو خسارة، وقد طالما استحلوا - في سبيل السيادة - دم ذوي القربى.
لا نعود إلى الماضي مستشهدين التاريخ ولنا في هذا الزمان الأمثال والبينات؛ فقد ذبح الشيخ خزعل أخاه، والشيخ مبارك أخويه، وبندر بن الرشيد عمه، ومحمد بن الرشيد أبناء أخيه الأربعة، وأبناء عبيد الرشيد أولاد عمهم الثلاثة. كل ذلك طمعا بالسيادة.
1326 / 1908: وقد قتل في هذه السنة من هذا التاريخ سعود بن عبيد الرشيد أخاه سلطانا وتولى الإمارة بعده، ثم أرسل إلى عبد العزيز بن سعود يعرض عليه الصلح فصالحه على ما صالح أخاه وابن أخته سلفيه.
من نوادر الله في خلقه أن يقوم في العرب في زمان تعددت فيه هذه الجرائم الفظيعة، من يسلك إلى السيادة مسلك الشجاعة والشرف، فلا يسلط عليهم غير سيف الحق، ولا يجازي طغيانهم وخياناتهم، إذا ما تابوا، بغير الحلم والإحسان. ولكن تاريخ آل سعود المعروف هو أبيض الحاشية، فلا يدنسه دم ذوي الأرحام.
استمرت الاضطرابات والفتن في حائل، فنكث ابن الرشيد العهد وعاد البيتان إلى الحرب - إلى الغارات والغزوات. أما سعود بن عبيد، الذي لم يحكم غير سنة وشهرين (1327 / 1909)، فقد قتل كما هو قتل أخاه، ثم بعث من تولى الإمارة من آل سبهان - أخوال بيت الرشيد - بوفد إلى عبد العزيز، فلم تسفر المفاوضات عن سلم أو شبه سلم، فاستأنف البيتان القتال.
خرج صاحب حائل فنزل الشعيبة وأغار على قبيلة من مطير السعودية فقتل رئيسها وأصاب منها مغنما. وخرج صاحب نجد يطلب خصمه على ذاك الماء فلم يجده، فأغار على قبائل حرب وشمر وغنم أموالهم، ثم عاد إلى الشعيبة فأقام هناك يوما «يخمس الأخماس»؛ أي يقسم الغنائم.
الحرم الشريف والكعبة.
علم صاحب حائل بوجود ابن سعود في الشعيبة فزحف إليه، وعلم ابن سعود بذلك فمشى حتى وصل الغروب إلى مكان في النفود يدعى الأشعلي فنزل هناك، وشرع يتأهب للحرب، فأخرج البدو من المعسكر، أبعدهم عنه. وأخرج الحضر إلى رأس النفود فتحصنوا فيها، فأمست الخيام خالية، ثم أمر بألا تعقل الإبل التي غنموها من شمر وحرب في الغزوة الأخيرة. والقصد في ذلك أن يستغوي بها بوادي العدو. إن الطمع غريزة في البدو؛ فهم إذا رأوا الأباعر شاردة يتبعونها ليغنموها، والأباعر إذا سمعت طلق البنادق، ولم تكن معقلة، تفر هاربة.
انتصف الليل فهجم أمير حائل على مخيم أمير نجد الفارغ فذهب رصاصه سدى، وفرت الإبل فلحقتها البادية. وقد شردت كذلك تحت جناح الظلام بادية ابن سعود، فلم يبق غير الحضر في الجيشين.
أرسل عبد العزيز سرية لمناوشة من هجموا على المخيم ثم الانسحاب ففعلت، فظنوه معها وظنوه مهزوما، ولكنه كان ورجاله كامنين في رأس النفود، فأغاروا عند انبثاق الفجر في (5 ربيع أول / 29 آذار) من هذا العام عليهم. وكانت هذه المفاجأة خاتمة وقعة الأشعلي، وكان في الخاتمة نصر لابن سعود مبين. خسر الرشيديون عددا كبيرا من رجالهم، وكثيرا من رواحلهم ما عدا ما كانوا قد غنموه في الليلة السابقة، وتقهقروا عائدين إلى الشعيبة.
أما ابن سعود فسار بحواضره إلى قبة، وكانت بواديه قد شردت كما قلت، فتبع وقعة الأشعلي هدنة كان الضيق من قلة الأمطار سببها، فلم يستطع أحد من الفريقين مواصلة القتال.
ولكن ابن سعود خرج من قبة غازيا بعض عربانه العاصين في أعالي نجد على طريق المدينة، وعاد إلى القصيم فأمر فيه ابن عمه عبد الله بن جلوي وانحدر إلى الرياض، فلما قرب من العاصمة التقى برسول من أبيه جاءه يقول: «جنبوا جنبوا. الفتنة مشتعلة في الحريق بين الهزازنة.»
والهزازنة أي آل هزان من عنزى وهم أقارب لآل سعود - أقارب أبعدون. كان قد قتل بعض منهم في تلك الفتنة، فأرسل الإمام عبد الرحمن سرية قبضت على القتلة وسلمتهم إلى إخوان المقتولين فقتلوهم، ولم تخل الفتنة من مآرب سياسية، فعاد الهزازنة بعد رجوع السرية يشعلون نارها، فاعتدوا على آل خثلان، فذبحوا منهم شيخين طاعنين في السن ادعوا أنهما اشتركا في قتل أخيهم الكبير محماس. أثار هذا الادعاء الكاذب غضب الإمام عبد الرحمن، فأمر ابنه عبد العزيز أن يحمل عليهم في الحال: جنبوا إلى الحريق، جنبوا!
طلب عبد العزيز فرصة يومين ليزور أهله في العاصمة، فكان له ذلك. وفي اليوم الثالث نزل إلى الحريق، ودعا الهزازنة لحكم الشرع فأبوا، وهم حقيقة لا يريدون الخضوع لحكم ابن سعود، ثم دخلوا حصنهم وتحصنوا فيه، فحاصرهم شهرين وما انفك يدعوهم لحكم الشرع وهم متمردون، وفي ذاك الحصن منيعون.
عندئذ أقدم ابن سعود على عمل يعد حتى في غير البلاد العربية كبيرا، فأمر رجاله بحفر نفق يوصلهم إلى الحصن، فباشروا ذلك وكان طول النفق عندما تم أربعين باعا، ثم عزم أن يشعل فيه البارود فينسف الحصن نسفا، ولكن نساء المحصورين وأولادهم كانوا ساكنين في بيوت فوق ذلك النفق، فأرسل عبد العزيز ينذرهم ويؤمنهم على حياتهم إذا هم أخلوها. ولكن المحاصرين أبوا واستمروا متمردين، فأرسل إليهم رسولا يقول: «إذا كنتم لا تخرجون حريمكم وأطفالكم فأنتم المسئولون عن حياتهم أمام الله.»
ظن المحاصرون في بادئ الأمر أن ابن سعود يهول عليهم بنفق وهمي، فلما تأكدوا الحقيقة سلموا لتسلم عيالهم.
عاد عبد العزيز إلى الرياض ومعه زعماء آل هزان إلا واحدا منهم استأذن بالسفر إلى حوطة بني تميم لأشغال له هناك فأذن بذلك، ولكن أخاه راشدا أحد الذين سلموا كتب يشير عليه بالفرار وأنه لاحق به، فوقع الكتاب بيد عبد العزيز وكانت النتيجة أن صاحبه أصبح سجينا، بعد أن كان ضيفا مكرما، في الرياض.
1
1328 / 1910: ختمت سنة 1327 بعصيان الهزازنة، وهم كما قلت أقارب آل سعود الأبعدون، وفتحت سنة 1328 بخروج «العرائف» وهم أقارب آل سعود الأدنون، بل هم الذين كانوا أسرى في حائل، فجاء بهم ماجد بن الرشيد إلى عنيزة ليقاتلوا أهلهم، فخلصهم عبد العزيز من الأسر ومن القتل، فقاموا بعدئذ يجازون عمله بالعصيان.
قد يكون بين فتنة الهزازنة وخروج «العرائف» صلة سرية، أو أن الواحدة أوحت الأخرى. وجاء فوق ذلك الجدب يزيد بشدائد هذه السنة التي كانت تدعى «الساحوق» فخسر ابن سعود مبلغا جسيما من الأموال - الإبل والمواشي - ولم يكن لديه ما يمكنه من الحرب والغزو.
عقد مجلس للمذاكرة بخصوص «العرائف» فقال أحد الحضور يخاطب عبد العزيز: «ادعوهم إليك للجواب، فإذا أبوا اضربهم.» قد عقب على هذا الرأي آخرون، ولكن عبد العزيز لم يستحسنه، فقال: «إذا دعوتهم إلي فقد يحدث بينكم وبينهم قتال، فأكون ذابحا لذوي القربى وهذا مكروه عندي، دعوهم. كفانا الله شرهم».
رحل «العرائف»، وهم تسعة، ورجاجيلهم وخدمهم إلى الحساء فنزلوا على العجمان أخوالهم. ولكن العجمان اعتدوا على بعض عشائر الكويت فنهبوهم، فهددهم الشيخ مبارك فالتجئوا إلى ابن سعود، بل جاءه كذلك كتاب من الشيخ مبارك يسأله فيه أن يسعى في إرجاع تلك المنهوبات.
أما ابن سعود فكان قد كتب إلى ابن الهذال رئيس العمارات وابن الشعلان رئيس الرولا، والعشيرتان من عنزى، يستنجدهما على ابن الرشيد، فأجاباه إلى ذلك وضرب الموعد للاجتماع، ولكن المشاكل تعددت في الحساء، وهي مرتبطة بعضها ببعض، فظن عبد العزيز أن التوسط بين مبارك والعجمان يحل مشكل «العرائف»، فبادر إلى تلك الناحية، وقد كان في عزمه بعد حسم ذاك الخلاف وحل ذاك المشكل أن يستأنف السير ليجتمع بالهذال والشعلان فيشدون جميعا على ابن الرشيد.
أما الشيخ مبارك فعندما علم بخروج آل سعود «العرائف» وأنهم جاءوا الحساء أرسل نجابا إلى عبد العزيز يستأذنه بأن يدعوهم إلى الكويت، فيسعى في الصلح بينه وبينهم. قبل عبد العزيز ولسان حاله يقول: نصلح بينه وبين العجمان فيصلح بيننا وبين العرائف. وجزاء حسنة حسنة مثلها. أما «العرائف» فقد قبل اثنان منهما دعوة مبارك، وجاء اثنان إلى عبد العزيز مستغفرين مستأمنين فأعطاهما الأمان.
ولكن صاحب الكويت لم يقدم على ذلك العمل لقاء ما جاء ابن سعود إلى الحساء من أجله، بل كان هنالك أمر آخر يستوجب المعروف. إن القارئ الذي سار معنا من بداية هذا التاريخ يدرك شيئا من غوامض الشيخ مبارك السياسية؛ وهو قلما كان يقدم على عمل لا سر في شطر منه في الأقل.
أما السر في توسطه بين «العرائف» و«ولده» عبد العزيز سعود، فهو أن رئيس عشائر المنتفق في العراق سعدون المنصور كان قد جهز حملة عليه - حملة كبيرة لا يستطيع مقاومتها ناهيك بغلبتها - فأسلف عبد العزيز المعروف، ثم أرسل يستنجده على السعدون:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
الفصل الرابع عشر
الشيخ مبارك يستغيث
لا بد وقد وصلنا إلى هذا الحد من تاريخ ابن سعود عبد العزيز أن نعيد شيئا حديث العهد من تاريخ الانقلاب العثماني. فقد دك حزب الاتحاد والترقي عرش عبد الحميد، وأعاد الدستور إلى الأمة، وأسس فيها حكومة نيابية، ولكنه بعد أن تبوأ عرش السيادة استبد واستأثر فغدا كل واحد من زعمائه عبد حميد رهيبا.
وقد أغضب الحزب العرب خصوصا فقام منهم من أسسوا حزب الائتلافيين ليطالب باللامركزية صونا لحقوق العناصر غير التركية.
ثم قام في البصرة جماعة يرأسهم السيد طالب النقيب والشيخ خزعل والشيخ مبارك الصباح يؤسسون فرعا لهذا الحزب، بل كان من مقاصد تلك النهضة طرد الاتحاديين واستقلال العراق فيحكمها أحد أولئك الزعماء.
أثار عملهم غضب الحكومة فأمرت سعدون باشا الاتحادي بتجهيز حملة من العشائر على الشيخ مبارك؛ لأنه أكبر الثلاثة، ولأنه في نظر الدولة ذو سوابق سياسية.
على أن الزملاء الذين كانوا قد وعدوا الشيخ بالمساعدة خذلوه فأمسى منفردا في الورطة، فأرسل يستنجد ذاك الذي شب وترعرع في ظله. أرسل يستنجد من كان يسميه «أولدي» وقد صار زعيما للعرب كبيرا.
ولكن هذا الزعيم كان يومئذ في ورطة أشد من ورطة «والده» مبارك. ومع ذلك فقد مشى إلى الكويت بجيش صغير من العربان، وفيهم بعض العجمان.
عندما وصل عبد العزيز كان الشيخ مبارك قد جهز ما عنده من قوة لمحاربة السعدون، فأشار عليه بالتربص، وقال: «ليس بيننا وبين الرجل خلاف حقيقي يوجب الحرب، وإني أرى مسالمته أولى. المسألة طفيفة وأنا أتوسط بينكم وبين السعدون.»
شق على الشيخ مبارك أن يسمع مثل هذا الكلام، فازدرى نصيحة «ولده» الذي طالما أمده بالنصائح وكان عونه في الشدائد.
مبارك : «أنت أولدي، وهل يقبل الولد بأن يهان أبوه؟»
عبد العزيز
وقد عراه شيء من الخجل : «لا والله، ولك ما تريد. إني ملب الطلب إن شاء الله، ولكني أسأل والدي أن يمهلني لأستنجد أهل نجد. ليس معي الآن غير مائتين من رجالي. أما العشائر فلست مركنا إليها في القتال.»
مبارك : «إني أجند من الكويت الجنود الكافية، ولا أبغي منك غير القيادة.»
عبد العزيز : «إذا أنت باشرت التجنيد فابن سعدون قريب منا وعالم بأخبارنا وأعمالنا كلها. فهو إذا ذاك يتأهب لنا. ولا ريب عندي أن «شواوي» (رعاة ) المنتفق كلهم يلتفون حوله. أمهلني قليلا سلمك الله. ومن رأيي أن تسير قوة صغيرة مع أحد أنجالك فتبعد عن أطراف الكويت، وتتربص للهجوم على ابن سعدون يوم تتفرق عشائره. وسننال مرامنا منه بحول الله.»
ما راق هذا الكلام الشيخ مبارك فأصر على تجنيد الجنود وعلى خروج ابن سعود معهم (1328ه / 1910م)، ففعل مكرها. أما جيش الكويت الذي كان رئيسه جابر بن مبارك فقد كان مؤلفا من ألفين من الحضر، وأكثرهم من الشبان الناضرة وجوههم، النادرة شجاعتهم، وأربعة آلاف من البادية، ومائة وخمسين فارسا. أضف إليه عربان ابن سعود والمائتين من رجاله فيبلغ عدده كله نحو سبعة آلاف.
لما بعد هذا الجيش مسافة يوم من الكويت جاء رجل من كبار عرب الظفير يدعى الضويحي؛ ليسأل ابن سعود أن يتوسط بينهم وبين ابن الصباح، وقد أكد له أن السعدون وعرب الظفير يقبلون بذلك.
عرض عبد العزيز الأمر على جابر الصباح، فأجابه قائلا: «إني لا أعهدك جبانا.» فغضب عبد العزيز وقال: «سترون غدا. غدا تظهر الجبانة فتعرفون أين هي.»
استمروا ذاك اليوم سائرين، فواصلوا السير بالسرى وكان سعدون باشا قد علم بزحفهم فأسرى كذلك بعشائره يريد الهجوم. وقد كان عدد جيشه يوازي جيش الكويت، بيد أنه كله من عشائر المنتفق والظفير والبدور وغيرها، وأكثره من الخيالة.
نام عربان سعدون في الطريق، ولكنهم عندما أحسوا بقرب الكويتيين أفاقوا وتراجعوا إلى مقر القيادة كي لا يتصادموا وإياهم ليلا.
ولما أصبح الصباح تكلم عبد العزيز: «اسمع يا جابر، من رأيي أن تأمر البدو بالإغارة على سعدون وجماعته، فنبعدهم عنا، ونشغل العدو. إني والله في ريب من أمرهم. أما إذا سيرناهم أمامنا فنأمن خيانتهم.»
لم يستحسن جابر هذا الرأي، وأصر على أن يكون الهجوم عاما، فقال عبد العزيز يخاطب أخاه الأصغر سعدا: «إني لا أرى غير الهزيمة لهذا الجيش، قف معي وقومنا على حدة لنتمكن عند الحاجة من الدفاع عن أنفسنا. اليوم يوم دفاع يا سعد؛ لأن هؤلاء الناس لا رأي لهم ولا هم يقبلون النصيحة.»
عندما رأي جابر أن ابن سعود وقومه اعتزلوا الجيش لامهم قائلا: «أنتم إخواننا والإخوان في الحرب لا يحجمون.» فخجل عبد العزيز وأمر أخاه بالاشتراك في الهجوم.
وكانت الفاتحة للخيل، فأغارت خيالة ابن الصباح وهم مائة وخمسون على خمسمائة من فرسان السعدون. فكر هؤلاء عليهم كرات سريعة شديدة هائلة فانهزموا هزمة شنيعة، وانهزم معهم جابر وجيشه بدون قتال، ولم يبق مع ابن سعود إلا عشرة فقط من الخيالة رجاجيله. أما البقية ففروا مع الفارين، وقد تركوا وراءهم كثيرا من الحلال والمال - من الأمتعة والإبل والخيل - فكانت لجيش السعدون هدية من جيش الكويت. وقد دعيت هذه الوقعة التي جرت في صباح اليوم الأول من جمادى الثانية من هذا العام (10 حزيران 1910) بوقعة هدية.
لحق عبد العزيز بجابر وقومه المنهزمين فأدركهم في عصر ذاك النهار، وقال يهون الأمر عليهم: «هذه عادات الرجال والحرب سجال.» ولكن الشدة أنستهم التهكم. فبينا هم سائرون ضلوا الطريق وكان قد أدركهم فوق الهزيمة الجوع، ولم يكن لديهم شيء من الزاد، ثم جاءتهم رحمة الله؛ فالتقوا بأباعر شاردة من حملة ابن سعود، وهي تحمل شعيرا، فأطعموا الخيل أحمالها، ونحروها ليطعموا أنفسهم. وقد رافقتهم الرحمة في اليوم التالي؛ إذ علم فيصل الدويش بقربهم منه فجاء بأهله يلاقيهم، فنصب الخيام وأضافهم تلك الليلة ضيافة كبيرة، ثم نحر لهم ثانية في الصباح. إن بعد العسر ليسرا، ولكنهم لم ينسوا تلك الهزيمة، بل تلك الهدية. «هدية والله، أخذنا للسعدون هدية.»
أما الشيخ مبارك فعندما بلغته أخبار تلك «الهدية» خرج إلى قصره «السرة» يداوي كلومه، فجاءه ابنه جابر و«ولده» عبد العزيز يهونان الأمر عليه، ولكنه عقد النية على استنفار أهل الكويت ثانية. «سأجمع والله خمسة أضعاف هذا الجيش، وسأحرق المنتفق فلا يبقى منها غير الرماد!»
خطر لعبد العزيز خاطر يمحو فيه كلام ذاك الغضب. كان «العرائف» قد رحلوا من الكويت - «العرائف» الذين استدعاهم مبارك ليصلح بينهم وبين ابن سعود - فارتأى أن يجهز أحد أولاد الشيخ بجيش صغير فيسير عبد العزيز معهم، ويشاع أنهم ساروا يطلبون «العرائف»، فيبلغ سعدون الخبر فيسرح عربانه، «فنعيد الكرة إذ ذاك عليه ونحن مدركوه بحول الله.»
رفض الشيخ مبارك ثانية أن يعمل برأي عبد العزيز، وكان ابن الرشيد قد هجم يومئذ على ابن الهذال وابن الشعلان، وهما حليفان لابن سعود كما تقدم، فأخذهما في جميمة على حدود العراق ونجد. فقال عبد العزيز يستأنف الحديث: «إذا كنت تصر على تجنيد جيش كبير، فأنا أترك عندك رعاياي من عرب مطير وأعود إلى بلادي؛ لأن ابن الرشيد بعد انتصاره على الهذال والشعلان، لا بد أن يزحف إلى القصيم، وأخشى أيضا أن يقوم «العرائف» بحركة في الرياض فيتفاقم الأمر علي. ولا أظنك تريد لي ذلك.»
كان قد أمل الشيخ مبارك أن يغلب السعدون ولو بعون ابن سعود المعنوي، فندم لأنه لم يقبل بنصيحته، فلا يعرض به في مواقف الخطر يوم ضعفه. ندم لأنه لم يهول به تهويلا على العدو ويزدخر الرجل لساعة قوته في الحرب، ولكنه، وقد أدرك هذه الحقيقة الآن، رفع الحجاب عن نفسه المتألمة عند استماعه كلمات عبد العزيز الأخيرة: «إذا رميتني اليوم يا ولدي فليس لدي أحد ينهض بي، فيتمكن مني العدو. أنا والدك يا عبد العزيز ولي عليك حق المساعدة، والبلد بلدك وله عليك حق الدفاع ... ابق عندي ولا تخرج مع الجيش. ابق عندي فأتسلى بوجودك معي.»
أجل، قد تجلت له الحقيقة التي حجبها عنه في أول الأمر الوهم والغرور، وهذه الحقيقة هي أن مجرد وجود ابن سعود عنده مفيد، فطلب منه ذلك وكان في طلبه بليغا ووديعا. - «ابق عندي ثلاثة أشهر فقط.»
قال عظمة السلطان لمؤلف هذا التاريخ: «استحييت منه بعد هذا الكلام وبقيت.»
وكان مبارك أثناء تلك الثلاثة أشهر مطمئنا فلم يهاجمه السعدون، ولكن فوائد قوم عند قوم مصائب؛ فقد كان ابن سعود في قلق دائم، لأن ابن الرشيد كما تقدم غلب حليفيه الهذال والشعلان، والعجمان تآمروا و«العرائف» عليه، و«العرائف» أسندوا عائدين إلى الرياض، ومنهم من كتبوا إلى الشريف حسين في مكة يستنجدونه على عبد العزيز. أضف إلى ذلك أن القيظ كان يومئذ شديدا، فتفرقت البوادي وراحت تنشد المياه.
ثم حدث حادث بينه وبين بعض عربان مطير اعتدوا على عرب من قحطان وسبيع ولاذوا بابن الرشيد، فأراد عبد العزيز تأديبهم عندما جاءوا إلى أطراف الكويت، فتصدى له الشيخ مبارك، فكتب إليه يلومه قائلا: «كان الأجدر بك أن تساعدني عليهم وهم من قبائلي العاصية.»
اشتعل الغضب في صدر مبارك - وما كان أسرع اشتعاله! - فخرج من الكويت إلى معسكر ابنه جابر، فاجتمع هناك بعبد العزيز، وكانت أول كلمة منه مرادفة للإهانة والطرد. قال الشيخ: «أظنك يا ابن سعود تبغي أهلك.» فأجابه بكلمة واحدة: «نعم.» وخرج من ذاك المجلس كما دخل مبارك إليه مكتئبا متغيظا.
إنها لأيام عصيبة في تاريخ عبد العزيز، تعددت فيها الأعداء والأخطار، وهجرته بواديه وكان جزاء معروفه الإهانة وغمط الجميل. وهناك الطامة الكبرى، هناك العسر المالي الذي ندر مثله في العشر السنوات الماضية من حياته.
المال! قد كان في حاجة شديدة إلى المال. وإنه ليدهش القارئ مقدار حاجته وهو حاكم نجد وكبير العرب. حاول أن يستدين من أهل الكويت، فاعتذروا خوفا من مبارك، ثم أرسل إلى نسيبه ووكيله في البصرة عبد اللطيف باشا المنديل يطلب منه ألفين ليرة - ألفين فقط - ويقول له أن يقبض القيمة مما تبقى عند الدولة من معاش الإمام والده.
الفصل الخامس عشر
الشريف حسين يشمر الأردان
من تهكم الزمان، وقد والى المتمرد عليه من الناس، أن يجيئه في اليوم العصيب بما لا ينفعه من نوافل الحياة، بل بما يزيد في عسره وحزنه.
كان السلطان عبد الحميد قد منح الأمير عبد العزيز ابن سعود لقبا ونيشانا من أعلى درجات المجد عنده، فصارت الجرائد في بغداد وفروق تنعته بالنعوت الضخمة بعد أن كانت، في أيام نصره وعزه، تتحامل عليه.
غزا الأمير الخطير عبد العزيز باشا سعود القبائل «المخلة براحة أهل السبيل فكسب شكر أهل الجميل»، بعد أن غزا الأمير الخطير والزعيم الكبير عبد العزيز باشا سعود قبائل مطير وحرب، توجه قاصدا الرياض «ليجم نفسه حينا من الزمن لأمر ذي بال ...»
والحقيقة أولى أن تقال، فقد عاد عبد العزيز من الكويت في أواخر هذا العام راكبا مطية الإفلاس، يحف به جيش من الغم وصاحب بيرقه يدعى اليأس (1329ه / 1911م)، فتصالح وابن الرشيد - مكره أخوك لا بطل - لكي يتمكن من استخدام ما تبقى لديه من قوة في مقاومة «العرائف» أقاربه. وقد أرسل أخاه سعدا الذي لم يكن يتجاوز السبع عشرة من سنه إلى عتيبة يستنجد رجالها لهذه الغاية.
ولكن عتيبة ولت وجهها شطر مكة، فانحازت إلى الشريف حسين، مضيف بعض «العرائف» ومكرمهم، إكراما لابن سعود! «ليس بيننا وبين ابن سعود، أيها النجيب، غير ما يوجبه حسن الجوار، وهذا لا يخفى على نباهات كمالات نجابتكم.»
لم يكن - والحق يقال - بين الحسين وابن سعود عداء في تلك الأيام يجر إلى الحرب أو يقضي حتى بالغزو، ولكن الشريف كان مواليا للاتحاديين، ساعيا في اكتساب ثقتهم، طامعا بالسيادة له ولأنجاله. وكانت الحكومة قد فقدت الثقة ببيت الرشيد بعد أن تعددت فيه الجرائم العائلية السياسية، فأدارت بنظرها إلى الحسين وهي ترجو أن يستميل في الأقل ابن سعود إليها. ولا ريب أن الشريف وعدها بأكثر من ذلك.
خرج الحسين من الحجاز بجيش من البدو والحضر في رجب من هذا العام ونزل الكويعية «ديرة» عتيبة. وراح سعد «ينحر» تلك الديرة للغاية التي ذكرت (1330ه / 1912م)، فلما وصل إلى أطراف الكويعية خرج إليه فصيلة من خيالة عتيبة، فظنهم جاءوا يلاقونه ويرحبون، ولكنه عندما دنوا منه أدرك قصدهم الحقيقي، لم يكن معه غير أربعين رجلا فركب وعشرة منهم الخيل وقفلوا راجعين، فلحق أهل عتيبة بهم وهم يؤمنونهم قائلين: «نحن خدامكم، قفوا ولا تخافوا.» صدقهم سعد، ولم يصدقهم رجاله. فوقف بالرغم عن تحذيرهم، فقبض بنو عتيبة عليه وأخذوه أسيرا إلى الشريف حسين.
وكان عبد العزيز قد تأهب لمحاربة «العرائف» بالحريق عندما اتصل به هذا الخبر، فترك أربعمائة من رجاله بقيادة فهد بن معمر في الخرج، وكر راجعا يستنجد أهل نجد، وينقذ أخاه.
أما الشريف فبعد أن أسر سعدا رحل من الكويعية شمالا فنزل الشعرى، ثم زحف من الشعرى شرقا فنزل ماء قريبا من الوشم، ولكنه عندما علم أن ابن سعود قد وصل بجيشه إلى ضرمة تراجع غربا فنزل على ماء يدعى العرجاء، وأرسل يستنجد ابن الرشيد، فكتب وكيل الإمارة زامل السبهان إلى عبد الله بن جلوي أمير القصيم يومئذ يقول: «إن بيننا وبين الشريف معاهدة تضطرنا إلى مساعدته.» أما عهد الصلح بينهم وبين ابن سعود فإن هو إلا قصاصة من الورق.
لم يكن الشريف ليقصد من هذه الحرب بل هذه المناورات غير إزعاج ابن سعود وإكراهه فيما يريد. وقد كتب إليه، وهو يفر ويكر من ماء إلى ماء يؤكد ذلك. «إذا هجمت علينا تركنا لك المعسكر والخيام وعدنا بأخيك سعد إلى مكة، فيبقى عندنا إلى أن تطلب الصلح.»
أما الصلح فشروطه بيد الشريف حسين. ومن غرائب الاتفاق أن خالد بن لؤي أمير الخرمة كان يومئذ الواسطة بين الاثنين. وخالد هذا وأهله، وإن كانوا من أشراف الحجاز، هم منذ القدم على ولاء وآل سعود. فقد تمذهبوا بالمذهب الوهابي في أيام سعود الكبير وظلوا متمسكين به محافظين عليه.
جاء خالد إلى عبد العزيز يعرض شروط الشريف. ولم تكن غير شروط الدولة التي كانت تطلب أن يعترف بسيادتها ولو اسميا في نجد أو على الأقل في القصيم، وطلبت فوق ذلك أن يدفع ابن سعود شيئا من المال، عربون التبعة، كل سنة.
إنه لأمر مضحك عجيب. ابن سعود يستدين من نسيبه ووكيله في البصرة ما يسد به حاجاته، ويحيله على الدولة! والدولة تسعى بواسطة الشريف أن تدخل ابن سعود في تبعتها فتتقاضاه بدل أن تدفع له المسانهات.
جاء خالد يحمل شروط الصلح. وخالد وإن كان بدويا هو على شيء من الذكاء والدهاء. اسمعه يخاطب عبد العزيز فيقنعه: «اسمع يا عبد العزيز، أنا أعلمك. لا غاية للشريف سيئة. لا والله، ولكنه يبي (يبغي) يبيض وجهه مع الترك. فاكتب له ورقة تنفعه عند الترك ولا تضرك. وأنا أتكفل برجوع سعد، وأتكفل أن الشريف لا يتدخل في أمور نجد. هذا إذا كنت لا تتجاوز الحدود، أما إذا هو اعتدى عليك فأنا خالد بن لؤي أعاهدك عهد الله عليه، فأكون معك، والله، كما كان آبائي مع آبائك وكما كان أجدادك مع أجدادي.»
قبل عبد العزيز بتوسط خالد وكتب له «قصاصة ورق» تنفع الشريف عند الترك ولا تضر كاتبها؛ فقد تعهد فيها أن تدفع بلاد نجد للدولة ستة آلاف مجيدي كل سنة.
وما كانت غير قصاصة من ورق.
الفصل السادس عشر
العرائف والهزازنة
يذكر القارئ أن أولاد سعود بن فيصل، الذين احتربوا وعمهم الإمام عبد الله، كانوا مقيمين في الخرج فصار لهم في تلك الناحية أشياع وأنصار. ويظهر أن النزعة إلى العصيان ظلت تتقد في صدور أولئك السعوديين الذين أسرهم يومئذ ابن الرشيد وخلصهم من الأسر ابن عمهم عبد العزيز، والآن عندما عادوا من الكويت والأحساء، نزلوا إلى الخرج يريدون الاستيلاء عليه.
ولكن أهل تلك الناحية، وأميرهم إذ ذاك فهد بن المعمر، صدوهم عن ذلك، وطردوهم في اليوم الثاني بعد وصولهم، فرحلوا إلى حيث اتقدت منذ سنتين فتنة الهزازنة - إلى جهات الحوطة والحريق.
أما الهزازنة الذين كانوا أسرى في الرياض فكان عبد العزيز قد أطلق سراحهم، وأذن لهم بالرجوع إلى بلادهم؛ إكراما لأمير قطر قاسم بن ثاني الذي توسل من أجلهم. فعندما جاء «العرائف» بعد أن طردوا من الخرج، رحب الهزازنة بهم وتعاهدوا وإياهم، فتوحدت القوتان والمقاصد.
وكان قد انضم إليهم أناس آخرون في الحوطة، فمشوا معهم إلى الحريق ثم هجموا على القصر هناك، وفيه سرية لابن سعود فحاصروه سبعة أيام واستولوا عليه.
أما ابن سعود فعندما عاد من القصيم بعد أن صالح الشريف حسين وخلص أخاه سعدا من الأسر، جاء توا إلى ناحية الحريق الذي كان قد استولى عليها العرائف والهزازنة، ومعهم جمع كبير من البادية.
إن الحريق كائنة في واد بين جبلين وليس لها غير طريق واحد، فأسرى فيه عبد العزيز ليدخل البلدة ليلا على حين غرة. وعندما وصل في اليوم التالي إلى قصر قريب منها نزل هناك وأمر جيشه، الذي لم يكن يومئذ غير ألف ومائتين من الحضر، أن يعسكر ويستعد لحصار طويل.
ولكن خيالة العدو في جولة من الجولات اصطدمت بفصيلة من خيالته فكانت الشرارة التي أضرمت نار الحرب.
هجم حضر عبد العزيز هجمة واحدة على الحريق ولم يقفوا حتى استولوا عليها وعلى بلدة أخرى اسمها مفيجر، فشرد آل سعود «العرائف» على خيلهم، والتجئوا إلى أهل الحوطة فردوهم خائبين، فرحلوا إذ ذاك إلى الأفلاج.
وكان في السيح هناك أخوهم فيصل، وفي ليلا
1
أحمد السديري من قبل ابن سعود، فاحترب الاثنان قليلا قبل وصول «العرائف».
أما عبد العزيز فبعد انتصاره في الحريق زحف جنوبا فنزل نعام - قرية في الطريق - وأراد الجيش أن يهجم على الحوطة فيكتسحها فأبى ذلك قائلا: «لا أسعى في خراب بلدين من بلادي في يوم واحد، سأقدم لأهل الحوطة الصلح وأعطيهم الأمان، لعل الله يهديهم سواء السبيل.»
أما الأمان فظفروا به شكرا لعالمهم ورؤسائهم الذين خرجوا إلى عبد العزيز وقد عقدوا المحارم في رقابهم، ولكن أهل الحوطة برابرة قتلة لا يضعون على الرقاب، ولا يفهمون في العقاب غير السيف. ومع ذلك فقد صفح عبد العزيز مشترطا أن يدخل بجيشه البلد، فدخل ظافرا ثم زحف إلى الأفلاج.
وبينا هو على ماء في الطريق جاءه رسول من أميره السديري يقول: إن حين وصول العرائف إلى السيح علم أهل البلدة بما جرى في الحريق ففروا هاربين. وقد تركوا فيها أمتعتهم وأموالهم، فغنمها السديري عند احتلاله تلك الناحية.
ولكن سعود بن عبد الله، أحد «العرائف» وعبد العزيز الهزاني الذي فر هاربا بعد فتنة الهزازنة الأولى، ومعهم ثلاثون رجلا، هجموا على السيح، بعد أن هجرها أهلها دون أن يعلموا بما جرى في الحريق، فقبض السديري عليهم كلهم وألقاهم في السجن.
وصل عبد العزيز فأطلق سراح سعود بن عبد الله، وخيره في أمرين؛ البقاء عنده أو الالتحاق بإخوانه، فاختار البقاء (هو سعود العرافة الموجود الآن في الرياض وسنعود إلى ذكره)، ولكن الذين شردوا من العرائف ، إلا واحدا كان قد سار إلى الحساء ليستنهض البادية هناك، رحلوا إلى مكة ولاذوا بالشريف حسين.
أما الهزاني وجماعته المأسورين فقد عفا عبد العزيز عن راشد
2
منهم وأمر بقتل الآخرين. هي المرة الأولى التي حلت القسوة محل الحلم في حكمه. ولا غرو، فقد سبق منه الإحسان، وتكررت منهم الإساءة.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
الفصل السابع عشر
لا نصر ولا انكسار
لم تنج البلاد العربية مما اعترى حكومة الاتحاديين من عوامل الضعف والفساد، فذهبت هيبة السلطتين المدنية والعسكرية، وضعفت الثقة بأولي الأمر من الترك كانوا أو من العرب. على أن العصبية في بعض القبائل حالت دون التفكك في الإمارات والأحكام؛ فقد راودت حكومة المدينة عربان الحجاز، وساومت حكومة بغداد عشائر العراق، وشاركت حكومة الحساء رؤساء البدو المجرمين، ولكن شمر ظلت الركن الأوطد لابن الرشيد، ومطير العضد الأكبر لابن الدويش، والمنتفق القوة الثابتة لابن السعدون، وظلت الظفير كتلة واحدة بيد ابن سويط.
بيد أن شيوخ هذه القبائل كانوا يوما أحلافا بعضهم لبعض ويوما أعداء. فقد تصالح مثلا وتحارب السعدون وابن سويط مرتين في مدة قصيرة، وكان ابن الرشيد صديق الاثنين اليوم وعدو هذا أو ذاك منهما غدا.
أما ابن سعود فحاله في سنتي 1329 و1330 / 1911 و1912م حال المصارع الذي يستوي واقفا قبل أن تلمس يده الأرض. وبكلمة أخرى قد كان - على ضعفه - القوة الوحيدة التي لم تستطع الأخصام أن تغير هدفها أو أن تلصقها بالحضيض، بل كان - على ضعفه - يضرب في فترات التنفس الضربات المدوخة، وفيها البرهان أن هناك قوة - وإن نهكت - لا تغلب.
فقد مر وهو عائد من الأفلاج بقبائل من الدواسر عاصين فأدبهم، ثم سار إلى الحساء، بعد أن استراح بضعة أيام في الرياض، فضرب العاصين من العجمان هناك وأحسن التأديب.
1
وبينا هو في جهات الحساء، سمع الشيخ مبارك يستغيث. فقد جاءه وفد من الكويت بكتاب من «والده» مشفوع بذلولين، وجاء في الكتاب: «إني مرسل إليك ذلولي وقد كنت أركبهما إلى الغزو، وأنا الآن عاجز عن الركوب والمغازي ... أنا والدك يا عبد العزيز، والذلولان اللذان شهدا الغزوات والمعارك العديدة هما لك يا ولدي، وهما يطلبان منك أن تأخذ بثأر والدك من ابن السعدون.»
فأجاب عبد العزيز أن مشاكله كثيرة وعشائره متقلبة، فيخشى الخيانات بعد أن اجتمع له الأمر في بلاده. وهو يضطر والحال هذه أن يستخدم كل ما لديه من قوة في معالجة مشاكله الداخلية، ومنها في ذاك الحين مسألة تركي بن سعود العرافة الذي انحدر إلى الحساء من الخرج، كما قلت في الفصل السابق، يستنهض العجمان. وقد انضم إليه آل سفران فخذ منهم.
لم يهم الشيخ مبارك ذلك، فرفض عذر عبد العزيز، ولكنه كان يحسن التأوه والاستغاثة، فكتب ثانية إلى «أولدي»: «أنا أصيح وأناديك، وأنت يا ولدي تصم أذنك. أبمثل ذلك يعامل الوالد؟ أتهجرني يوم شدتي فيساعد هجرك العدو علي؟ اسمعني يا ولدي يا عبد العزيز، اسمعني أصيح وأناديك ... إلخ.»
سمع عبد العزيز فاستنفر عشائره ليلبي النداء، ومشى بعد ذلك بجيش مؤلف من ألف وخمسمائة من الحضر وخمسة آلاف من البدو، يصحبه اثنان من أبناء الصباح، هما سليمان الحمود وعلي الخليفة. راح ينتقم «لوالده» من ابن السعدون وابن سويط.
وكان قد أعلم الشيخ مبارك بمسيره وأنه سينزل الحفر، ولكن العدو أثناء ذلك انقسم قسمين، فاحترب أهل الظفير وأهل المنتفق بعد أن كانوا متحالفين، ولذلك أسباب عربية وتركية؛ أما العربية فهي مألوفة وتكاد تكون طبيعية، وأما التركية فمنشؤها النزاع بين الاتحاديين والائتلافيين. وقد كان هذا النزاع يمتد إلى العشائر بواسطة رؤسائها، فيتذرعون به ليثأر بعضهم من بعض، وندر فيهم من ليس له ثأر على الآخر.
علم الشيخ مبارك بما جرى بين عدويه. وبما أن حمود بن سويط كان أميل إلى الائتلافيين منه إلى خصومهم، فقد كتب إليه يخبره أن ابن سعود زاحف عليه ويحذره منه. إنه لانقلاب سريع، مدهش، منكر. علم به عبد العزيز آسفا متجملا، وعلم كذلك أن القصد منه أن يسترضي مبارك بن سويط ويستعين به على الاتحادي سعدون.
ولكن الخبر أشعل الحمية في رجال ابن سعود، فنادوا بالهجوم على صاحب الكويت: «هو عدو لنا يا عبد العزيز، بل هو عدو الله، كيف يطلب منك الهجوم على ابن سويط ثم يخبره بذلك ليكون على حذر؟! رخص لنا فتجري الدماء كالأنهر في أسواق الكويت!»
سكن عبد العزيز روعهم قائلا: «قد قمنا نحن بما علينا، أما هو فقباحة عمله عليه.»
ولكن ابن سويط لم يشأ أن يعادي ابن سعود فأرسل إليه يطلب العفو، فعفا عنه، ثم توجه إلى ناحية الزبير فورد كابدة ووجد هناك أغناما كثيرة لابن السعدون فغنمها كلها. واستمر سائرا إلى سفوان
2
فلاقاه في الطريق رسول من والي البصرة ومعه وفد من أهل الزبير، فأكرموه وقدموا له الهدايا الثمينة من الحكومة ومن الأهالي. وبكلمة أخرى جاءوا خائفين مستعطفين، فأمر ابن سعود جيوشه بألا يتعدوا على أحد وألا يؤذوا أحدا في أطراف الزبير والبصرة.
ثم جاءه إلى سفوان عبد العزيز الحسن من قبل الشيخ مبارك بمهمة جديدة. قد كان لمبارك عدد من «الشواوي»؛ أي رعاة الغنم في تلك الأنحاء لا يأخذ منهم ذبيحة
3
وهم يوما من رعايا العراق ويوما من رعاياه، فكتب إلى عبد العزيز يقول : «أريد منك أن تهجم على هؤلاء الشواوي وتأخذهم أو تأخذ خيولهم وسلاحهم.» لم يخف على عبد العزيز القصد من ذلك، فقد أراد مبارك أن يسترضيه، وأراد من جهة أخرى أن يحرك عليه حكومة العراق، ولكن عبد العزيز لم يمكنه من تحقيق قصده بل قصديه.
قفل من سفوان راجعا إلى الكويت، فرفض قومه أن يرجعوا معه: «لا ندخلها والله غير محاربين.» أبى عبد العزيز ذلك عليهم، فمشوا معه طائعين حتى وصلوا إلى الجهرى، فنزلوا فيها، وقد جاء الشيخ مبارك يسلم على «ولده» فاعتذر عما بدا منه دون إسهاب في التصريح، وقبل عبد العزيز العذر دون معاتبة.
ثم سار يقصد إلى الحساء، وكان قد كثر فيها وفي جوارها الأشقياء، فبلغه وهو في الطريق أن العجمان العاصين هجموا على عرب من عربان فيصل الدويش وأخذوا عددا كبيرا من الإبل ملك رجل من الموصل اسمه «ذو النون» كان في ضيافة ابن سعود، فسارع عبد العزيز إلى مقاتلة المعتدين.
ولكنه أخبر أنهم على ماء قريب منه، فراح يطلبهم هناك، فأدركهم وأخذهم جميعا، ثم علم أنهم غير المذنبين، وأنهم أبرياء، فأعاد إليهم كل ما أخذ منهم وأخلى سبيلهم.
أما المذنبون ورئيسهم تركي العرافة، فكانوا قد التجئوا إلى حكومة الترك في الحساء، فأخبروها أن «ذا النون» من رعاياها من الموصل، فأرسلت الحكومة تحتج على ابن سعود، وتحذره من التعرض لقبيلة العجمان. فأجاب أن في تأديبه هذه العشيرة خيرا للناس وللحكومة.
ولكنه لم يشأ يومئذ أن يغضب الترك في الحساء فتركهم وشأنهم.
الفصل الثامن عشر
الأتراك والوحدة العربية
خبطت حكومة الاتحاديين في دياجي الأثرة خبط عشواء، وتلطخت أيدي زعمائها بدم الأبرياء، فنفرت منها كل العناصر غير التركية، بل هاجت عليها فئة عاقلة من الأتراك أنفسهم، ولكنها لم تظفر بشيء يذكر، ولا ظفرت الحكومة بأمنية من أمانيها القومية أو الوطنية؛ فقد حاولت تتريك العرب فباق بها الفشل، وحاولت استرضاءهم بعد ذلك فكانت كالنافخ في الرماد.
قد أفضت تلك السياسة إلى الحرب الأولى بعد الدستور، بل إلى الخسارة الأولى من الممالك العثمانية (1330ه / 1912م)، انتصرت إيطالية، وذهبت طرابلس الغرب، ولكن الذي يهمنا في هذا الصدد هو أن أميرا من أمراء العرب؛ أي السيد الإدريسي كان حليف الأجانب على الأتراك، وظل الأمراء الكبار الآخرون - ما عدا الشريف حسين - على الحياد في تلك الحرب.
حتى إن الإمام يحيى عدو الإدريسي ظل ساكنا، فلم يغتنم الفرصة للفتك بالأدارسة وأتباعهم. وجل ما كان من «إخلاصه» للدولة أنه أذن لعساكرها أن تجتاز بلاده لتسقط على الإدريسي من الجبال فتجتز ساقة جيشه.
ثم طلبت حكومة الاتحاديين المساعدة من ابن سعود، وتعهدت أن تقدم له كل ما يحتاج إليه من السلاح والذخيرة والمال، فما لبى الطلب. وقد كتب إلى الحكومة كتابا يقول إنه عربي فلا يحارب من أجل الدولة العرب، وإنه والإدريسي على ولاء، وإن البلاد في كل حال بعيدة عنه فلا يتمكن من محاربة أهلها.
عادت الحكومة فطلبت منه أن يخص الأحساء بعسكر عربي لحماية تلك الناحية وبالحري لحماية الترك فيها، فرفض ذلك أيضا.
ثم كتب إليه والي البصرة سليمان شفيق كمالي باشا، الذي كان حاكما عسكريا في عسير (1908-1912) يسأله رأيه في أمراء العرب، وفي شقاقهم وخروج بعضهم على الحكومة العثمانية. فكتب ابن سعود إليه جوابا صريحا فيه البرهان على أنه كان منذ ذاك الحين يفكر في الوحدة العربية، وإلى القارئ خلاصة هذا الجواب. قال ابن سعود يخاطب والي البصرة:
إنكم لم تحسنوا إلى العرب ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل، وأنا أعلم أن استشارتكم إياي إنما هي وسيلة استطلاع لتعلموا ما انطوت عليه مقاصدي. وهاكم رأيي، ولكم أن تأولوه كما تشاءون.
إنكم المسئولون عما في العرب من شقاق، فقد اكتفيتم بأن تحكموا وما تمكنتم حتى من ذلك. قد فاتكم أن الراعي مسئول عن رعيته، وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم ولا يبالون إذا خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم. أردتم أن تحكموا العرب فتقضون أربكم منهم فلم تتوفقوا إلى شيء من هذا أو ذاك. لم تنفعوهم ولا نفعتم أنفسكم.
وفي كل حال أنتم اليوم في حاجة إلى راحة البال لتتمكنوا من النظر الصائب في أموركم الجوهرية. أما ما يختص منها بالعرب فإليكم رأيي فيه: إني أرى أن تدعوا رؤساء العرب كلهم، كبيرهم وصغيرهم، إلى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للحكومة العثمانية لتكون لهم حرية المذاكرة. والغرض من هذا المؤتمر التعارف والتآلف، ثم تقرير أحد أمرين إما أن تكون البلاد العربية كتلة سياسية واحدة يرأسها حاكم واحد، وإما أن تقسموها إلى ولايات، فتحددون حدودها وتقيمون على رأس كل ولاية رجلا كفؤا من كل الوجوه، وتربطونها بعضها ببعض بما هو عام مشترك من المصالح والمؤسسات.
وينبغي أن تكون هذه الولايات مستقلة استقلالا إداريا وتكونوا أنتم المشرفين عليها. فإذا تم ذلك فعلى كل أمير عربي، أو رئيس ولاية ، أن يتعهد بأن يعضد زملاءه، ويكون وإياهم يدا واحدة على كل من تجاوز حدوده، أو أخل بما هو متفق عليه بيننا وبينكم.
هذي هي الطريقة التي تستقيم فيها مصالحكم ومصالح العرب، ويكون فيها الضربة القاضية على أعدائكم.
قد استحسن والي البصرة هذا الرأي فأرسل به إلى الآستانة، ولكن أولي الأمر هناك لم يستحسنوه، بل سفهوه قائلين: «يريد ابن سعود أن يجمع كلمة العرب بواسطتنا ولخير نفسه.»
وكانت سياستهم مبنية على ظنهم، فشرعوا يقاومون فكرة الوحدة سرا وعلنا، بمساعدة عمالهم مباشرة وبواسطة بعض أمراء العرب. وقد كان يومئذ جمال باشا في بغداد، والشريف حسين في مكة، وابن الرشيد في حائل في مقدمة من يسمعون كلمة الآستانة ويطيعون.
طفق الشريف حسين يحرض على ابن سعود القبائل ومنهم عتيبة، ثم جهز جيشا لراشد الهزاني،
1
الذي كان قد لجأ «العرائف» إليه، وسيره على الحريق. وقد أمد «العرائف» كذلك في محاربة نسيبهم صاحب نجد. فأرسل عبد العزيز صالح باشا العذل إلى الشريف ومعه هدية من الخيل وكتاب جاء فيه: إننا نستغرب منكم هذا العمل وبيننا وبينكم معاهدة.
وكان جيش ابن سعود قد أغار على فخذ من عتيبة المتشيعة للعرائف، فغضب لذلك الشريف ورد صالح العذل خائبا، ورد فوق ذلك الهدية. فخرج العرائف على ابن سعود. وقد ختمت هذه السنة بخيانة مطير ورئيسها فيصل الدويش الذي استغواه عجيمي السعدون واستنهضه وعربانه على محاربة الظفير. أما اليد الخفية في هذه الخيانة فيد الترك، وأما الصوت فصوت المتتركين يومئذ من العرب.
الفصل التاسع عشر
فتح الحساء
إن خلاصة ما تقدم فيما يختص بالترك هي أنهم كانوا في عهد الدستور يناوئون العرب، وبالأخص من حاول أن يجمع كلمتهم ويوحد سياستهم؛ أي ابن سعود. فقد حرضوا عليه الشريف حسين، وابن الرشيد، وابن السعدون، واستغووا كذلك عشيرة من عشائره الكبرى هي مطير، ناهيك بالعجمان في الحساء وبحرب في أطراف الحجاز.
1331ه / 1913م: أجل قد بلغت العداوات في بداية هذا العام أشدها، فسارع عبد العزيز إلى تحقيق ما كان يبغيه. خرج في شهر ربيع الأول من الرياض ورحلته الحساء، فنزل على ماء الخفس حتى آخر الشهر، وأغار أثناء ذلك على عربان من بني مرة مذنبين فأخذ مواشيهم. على أن الغرض من هذه الإغارة لم يكن محصورا بظاهره.
تقدم بعد ذلك إلى الحساء، فأرسل الأتراك يستطلعون خبره وقصده، فقال: «إنما قصدي الامتيار.» (شراء الأمتعة والزاد)، والحقيقة هي أنه ابتاع ما كان في حاجة إليه للجنود، وعاد إلى الرياض تاركا عسكره في الخفس.
وفي ذاك الحين وصل إلى عاصمة نجد قادما من الشام بطريق الجوف، رجل إنكليزي اسمه ليتشمن
1
فسأله ابن سعود: «وما القصد من سياحتك؟» فأجاب قائلا: «إني جغرافي وأريد أن تساعدني لأجتاز الربع الخالي من واحة جبرين إلى عمان.»
الشقاديف لنقل الحجاج إلى مكة والمدينة، وقد أخذت تحل محلها السيارات.
عبد العزيز: «إن قدومك إلينا على هذا الوجه خطأ، فلا علم لنا به ولا معك توصية من الحكومة البريطانية.»
ليتشمن: «إني رجل إنكليزي طالب علم، وأنتم مشهورون بإكرامكم الإنكليز خصوصا العلماء منهم.»
لم يتأكد عبد العزيز حقيقة ما ادعاه الرجل، بل ظن أنه يتجسس للترك، وبما إنه كان قد اعتزم الهجوم على الحساء، وكان قد خامر الترك بعض الريب في أمره، رأى أن يستخدم هذا الجغرافي لإزالة ذلك الريب، فيطمئن من الخصم البال، ويسير هو مطمئنا إلى غرضه.
لذلك قال: «لا يستطيع أن يجيب طلبك غير الترك في الحساء، فأرى أن تذهب إلى المتصرف هناك. وأنا أكتب إليه بخصوصك.»
ومما قاله في كتابه: «إن هذا الرجل مجهول لدينا، وهو واصل إليكم فلكم فيما يبغي الرأي الموفق إن شاء الله.»
رحل ليتشمن، وبعد قليل شد ابن سعود راجعا إلى معسكره في الخفس، فكان أول ما باشره أن سعى في إبعاد العجمان؛ لأنهم ذوو مطامع سياسية في الحساء وقد لا يوافقون على احتلالها. وبما أنهم وعرب مطير «قوم» أعداء سيرهم إلى الشمال لمحاربتهم؛ لأنهم انضموا إلى عجيمي السعدون.
ثم زحف إلى الحساء فالتقى في الطريق بنجاب من حكومتها يحمل كتابا إليه من المتصرف، وفيه الرجاء أن يعلمه من أية الجهات جاء الإنكليزي إلى الرياض، فقال ابن سعود للنجاب: «غدا إن شاء الله أنا بنفسي أعلم المتصرف.»
ذكرت أهم الأسباب التي حملت ابن سعود على فتح الحساء، وهناك سبب آخر لا يقل أهمية عما تقدم منها، فقد عجل في الأقل بنتيجتها. كان جمال باشا - جمال المشانق السورية بعينه - يومئذ واليا في بغداد، وكان يجامل ابن سعود ويتظاهر بصداقته، فوعده بالسعي في حسم الخلاف بينه وبين الشريف حسين، وسأله أن يرسل مندوبا إلى بغداد للمذاكرة في هذا الأمر.
أرسل ابن سعود رجلا من رجاله العصريين هو أحمد بن ثنيان،
2
ولكن جو السياسة العربية تغير أثناء ذلك، فسطع فيه نور ابن الرشيد، وكان النور شبيها بوهج الأصفر الرنان. جذب الجمال إلى ابن الرشيد، وعندما وصل ابن ثنيان إلى بغداد وجده غير جميل، وسمع كلاما لا جمال فيه ولا حكمة: «ابن سعود لا يعرف مقامه، وقد غره أن صفح عنه المشير فيضي باشا، فإذا كان لا يقبل بما تطلبه الحكومة، فإن في إمكاني أن أخترق بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب بطابورين - بطابورين لا غير.»
عاد أحمد يحمل هذا الكلام إلى عبد العزيز، فكتب عندما استمعه كتابا إلى جمال أرسله بواسطة وكيله في البصرة عبد اللطيف باشا المنديل، وفيه هذه الكلمة:
قلتم إنكم تستطيعون بطابورين أن تخترقوا بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب. ونحن نقول أن سنقصر لكم الطريق، وذلك قريب إن شاء الله.
ثم كتب إلى عبد اللطيف المنديل: «إذا سألك الترك هل أنت مندوب ابن سعود فقل لهم إني عثماني.» وقد أشار بذلك خشية أن يلحق به ضرر بعد الهجوم على الحساء.
ولكن عبد اللطيف باشا لم يعمل بإشارة موكله، فلم ينكر أنه نجدي أو وكيل ابن سعود، وقد قال للأتراك: «قد جهلتم قدر هذا الرجل، وها هو الآن يعرفكم بنفسه.»
وصل ابن سعود إلى أطراف الحساء، ولم يكن له فيها معاونون غير وكلائه أبناء القصيبي ويوسف بن سويلم. فسألهم أن يعلموه بالمكان المناسب للهجوم على الكوت
3
ففعلوا، وأعلموه بما هناك من الصعوبات، لعلو السور ووجود الحرس فأرسل إليهم يقول: «إننا هاجمون في هذه الليلة، وكل صعب مسهل بحول الله.»
كان عبد العزيز قد نزل على عين من عيون الأحساء تبعد ميلا واحدا من الهفوف، وفي الساعة الثالثة ليلا (10 إفرنجية) في 5 جمادى الأولى من هذا العام (13 نيسان 1913) خرج من المعسكر بستمائة من رجاله وخطب فيهم قائلا:
إننا هاجمون على الترك في الكوت، وإننا منتصرون بإذن الله، امشوا كأنكم بكم إلى غرضكم، ولا تضجوا. إذا كلمكم أحد فلا تجيبوه، حتى وإن ضربتم بالبنادق ونحن في الطريق فلا تضربوا. أما وقد صرتم في الكوت فحاربوا من حاربكم ووالوا من والاكم، ولكن البيوت لا تدخلوها والنساء لا تدنوا منهن.
قال ذلك ومشى أمامهم، ساروا على الأقدام، وهم يحملون جزوع النخل والحبال، فلما وصلوا إلى السور قسمهم ثلاث فرق، فقال للفرقة الأولى: «أنتم تسيرون إلى الباب الجنوبي فتقبضون على الحرس وتستولون على الباب وما يليه.» وللفرقة الثانية: «وأنتم تسيرون إلى السرايا عل المتصرف فيها فتأسرونه.» وللفرقة الثالثة: «وأنتم تتفرقون في أبراج السور، هذي هي أوامري فاعملوا بها، ولا تتعدوها.»
باشر أناس حزم الجزوع بالحبال، فصنعوا منها سلما تسلقه عشرة من ذوي الشجاعة والإقدام، ثم رموا بالحبال إلى العساكر فصعدوا ساكنين ونزلوا إلى الكوت متسللين، والحرس يسألون: من أنتم؟ فلا يجيبهم أحد.
وكانت كل فرقة عند اكتمالها داخل السور تسير إلى الجهة المعينة لها، ولكن هذا العمل لم يتم دون أن يحدث ضجة في الحصون وفي المدينة. أفاقت العساكر والأهالي من النوم، فاستولى عليهم الخوف والذعر، وهم لا يدرون من الهاجمون، علت الأصوات، وأطلقت البنادق، فأمر إذ ذاك عبد العزيز أحد رجاله أن يصعد إلى السور ويعدو عليه مناديا: «الملك لله ثم لابن سعود، من أراد العافية يلزم مكانه.»
نادى المنادي بذلك فاستبشر الناس، وكانوا يهتفون كبارهم وصغارهم: أهلا وسهلا! سمعا وطاعة! بل جاءوا بالمياه إلى العساكر كأنهم إخوانهم وقد عادوا من سفر.
أما عبد العزيز فكان لا يزال خارج السور ، فأراد أن يتسلقه، فأبى عليه ذلك من تبقى معه من الجنود، فهدموا جانبا منه، فدخل ودخلوا معه. وكان الحرس قد لجئوا إلى القلعة، وأهل الكوت، بعد أن سمعوا صوت المنادي، قد خرجوا من بيوتهم، فجاءوا يرحبون بابن سعود ويعاهدونه على الطاعة والولاء.
ثم جاء عندما أصبح الصباح من تبقى من الأهالي - جاءوا يبايعون مثل من تقدمهم - فأكرم محسنهم وعفا عن مسيئهم.
كل ذلك والأتراك تلك الليلة في حصونهم قابعون، وقد كان لهم أربعة في الهفوف وخارجها؛ اثنان داخل الكوت، وحصن إلى الجنوب، وآخر إلى الشمال في المبرز. فعندما أبلج الفجر شرعوا يطلقون البنادق والمدافع من تلك الحصون طلقات أفصحت عن الذعر الذي كان مستوليا عليهم، فلا أضروا بأحد ولا روعوا أحدا.
وعند الظهر جاء جندي من جنود ابن سعود بأسير من الترك وهو ضابط طاعن في السن، فأرسله عبد العزيز رسولا إلى المتصرف وإلى قائد الحامية. - «قل لهم يسلموا إذا كانوا يبغون العافية، ونحن نؤمنهم ونرحلهم إلى بلادهم، أما إذا أبوا فليستعدوا للقتال سنهاجمهم في مراكزهم ساعة هاجمنا البلد الليلة البارحة.»
قبل المتصرف والقائد الأمان، ثم سلمت الحامية التي كان عددها ألفا ومائتي جندي، فأذن عبد العزيز حتى بسلاحهم قائلا: «لا ننزع من الجندي العثماني سلاحه.» أما المدافع والذخائر فظلت مكانها في الحصون.
ثم جهزهم بالركائب ورحلهم وعائلاتهم. ألف ومائتا جندي بعيالهم وأمتعتهم ساروا من الهفوف إلى العقير وليس معهم من يخفرهم ويؤمن طريقهم غير رجل واحد من رجال ابن سعود هو أحمد بن ثنيان مندوبه السابق إلى جمال باشا، وعندما وصلوا إلى العقير جهزهم أحمد بسفن تقلهم إلى البحرين.
بعد احتلال الهفوف أرسل عبد العزيز سرية إلى القطيف بقيادة عبد الرحمن بن سويلم، فلما وصل إلى تلك الناحية بادر أهلها إلى التسليم، ولم يكن للترك في القطيف غير شرذمة من الجنود، ففروا في السفن هاربين.
أما العساكر الذين كانوا في الحساء فعند وصولهم إلى البحرين وجدوا من يزين لهم الرجوع إلى العقير، ويشجعهم عليه، علهم يسترجعون القصر
4
هناك، وقد ظفر فريق مهم بمركب لآل بسام كان يحمل تمرا فركبوا فيه وعادوا إلى العقير، فهجموا ليلا على القصر، فردتهم الحامية خائبين، ثم هجموا على مركزين آخرين، كان في الواحد منهما ثلاثون رجلا فهزمهم الأتراك واحتلوا مركزهم.
بلغ الخبر عبد العزيز وهو في الهفوف، فشد الرحال وسارع إلى العقير، فوصلها في الساعة الثانية من الليل، ولكنه كان قد سير كوكبة من الخيل، فوجدت عند وصولها أن السرية التي كانت في القصر قد هجمت على الترك في المركز الذي احتلوه فهزمتهم وأسرت منهم ثلاثين.
أخلى عبد العزيز سبيل هؤلاء في اليوم التالي وأركبهم البحر.
ثم كتب إلى الشيخ عيسى آل خليفة أمير البحرين وإلى الوكيل السياسي لبريطانية العظمى هناك يلومهم على ما بدا منهم، فقال: «أيليق بكم تحريض العدو علينا ونحن أصدقاؤكم، فإذا كنتم لا تتلافون مثل هذه الأعمال وتمنعونها فالتبعة فيما قد يعقبها هي عليكم.»
جاءه الجواب دون إبطاء، وفيه أن العساكر ركبوا السفن من البحرين قاصدين البصرة، وقد رجعوا إلى العقير دون علم من الحكومة أو الوكالة.
أما الحقيقة فهي أن آل خليفة والوكيل الإنكليزي خشوا أن يتقدم ابن سعود إلى داخل الخليج في فتوحاته، فأقدموا على عمل كان التسرع فيه أظهر من العداء.
الفصل العشرون
المفاوضون يتسابقون والشيخ مبارك يتعثر
إن على الخليج إلى الشرق والجنوب من البحرين رأسا من الأرض محاذيا لشاطئ العقير هو قطر، كان صاحبه الشيخ قاسم بن ثاني، شيخ الأمراء يومئذ سنا وجاها، قد احترب والترك مررا وحاول عبثا أن يخرجهم من الحساء، فعندما فاز ابن سعود بذلك عراه، ولا غرو، هزات شتى، منها الخوف على إمارته، وقد أصبح الفاتح جاره الأدنى، فكتب إليه في شوال (أيلول) من هذا العام كتابا شديد اللهجة يحذره ويهدده، وما كان منه غير ذا التهديد. فقد حاصره بعد أسبوع عدو الحياة الدنيا الحصار الأخير، فسلم الشيخ قاسم صاغرا (1331ه / 1913م)، وكان من الظافرين بالرحمة الأبدية، أما خلفه فقد كان حكيما فوالى ابن سعود.
وكان عبد العزيز قد توجه إلى القطيف ينظم شئونه، فأمر هناك عبد الرحمن بن سويلم وأمر في الحساء عبد الله بن جلوي، رجلين من كبار رجاله، وهما حتى اليوم يحكمان في تينك الناحيتين.
ثم عاد في خريف هذا العام إلى الرياض وقدم من البصرة عبد اللطيف باشا المنديل منتدبا من الحكومة العثمانية للتوسط بالصلح بينها وبين فاتح الحساء، فقبل عبد العزيز التوسط، وأجل النظر في المسألة إلى الربيع.
وكان الإنكليز قد بدءوا يفاوضونه أيضا، ويطلبون منه أن يأذن بالاجتماع، فرجع إلى الحساء في ذي الحجة، واجتمع في العقير بالوكيل السياسي للبحرين ومعه رجل آخر اسمه شيكسبير، سنعود إلى ذكره.
أما اجتماع العقير هذا فلم يسفر عن شيء للتاريخ، إلا أنه مهد السبيل إلى مقاومة النفوذ الألماني في تركية بعد أن تلاشى فيها النفوذ الإنكليزي، ذلك النفوذ الذي كان في المقام الأول منذ حرب القرم. خشيت إنكلترة على طريق الهند، فعندما علا نجم ابن سعود وظهرت شوكته، طفقت تخطب وده وتسعى في عقد اتفاق وإياه ليكون لها عضدا على الخليج، فيقف سدا منيعا دون ذاك النفوذ الألماني الذي كان قد خيم في العراق.
عاد عبد العزيز إلى الرياض فبلغه خبر دسيسة في القطيف، فأرسل سرية إليها (1332ه / 1913 و1914م)، ثم سار بنفسه إلى تلك الناحية فنزل في الجبيل. وقد جاءه وهو هناك كتاب من الشيخ مبارك الصباح يخبره أن أحد كبار الترك قدم الكويت، ومعه هدية من أنور باشا لابن سعود وإجازة للتوسط في الصلح.
ثم جاء عبد اللطيف المنديل ليخبر عبد العزيز أن قد تألف للمفاوضات وفد يرأسه السيد طالب النقيب وفيه ياور من ياورية السلطان. تعدد الخاطبون فاضطرب «الوالد» مبارك، فكتب إلى «ولده» يطلب أن يكون الاجتماع في ظله بالكويت ليكلأه بنظره، ويمده بإرشاده: «من حقي عليك يا ولدي ألا تقبل وساطة هؤلاء إلا في بلدك الكويت.»
ولكن «الولد» كان قد شبع من كلاءة «الوالد» وإرشاده، ومع ذلك فقد أجاب بعض طلبه فسار إلى جهة الكويت ونزل الصبيحية، على مسير يوم من العاصمة. كتب «الوالد» ثانية يلح بالقدوم إليه، فأجابه عبد العزيز: «إني الآن قريب من الكويت فليتقدموا إلي.»
وبينا هو في الصبيحية كتب إليه الوكيل السياسي لبريطانية العظمى في الكويت يستأذن بالمقابلة، فضرب له موعدا في ملح، واجتمع به هناك. جاء الوكيل في السيارة وجاء سائقها بكتاب من مبارك يقول: «كن صلبا معه يا ولدي (أي مع الوكيل) فلا تمكنه من شيء ولا تعطه الجواب الشافي.»
لم ير «الولد» بأسا في مجاملة «والده» هذه المرة؛ لأنه لم يكن قد قرر خطته السياسية تجاه الترك والإنكليز، فقال للوكيل: «لا يمكن أن نقرر شيئا اليوم، ولكن والدي مبارك الصباح ينوب عني.»
عاد الوكيل غضبا إلى الكويت، وركب ابن سعود ضاحكا فعاد إلى معسكره في الصبيحية.
وفي اليوم التالي وصل وفد السيد طالب، ووصل نجاب يحمل كتابا من «الوالد» - من مبارك الحانق الحاقد، اللائم الشاتم. وقد كان ناقما على الوفد؛ لأنه لم ينتخب لرئاسته، فكتب إلى عبد العزيز يحذره من «هؤلاء الكذابين المكارين الخداعين. كن صلبا معهم يا ولدي ولا تمكنهم من شيء، ولا تصدق ما يقولون، إنهم كذابون خداعون.»
كان الشيخ جابر بن مبارك يومئذ عند ابن سعود فأطلعه على كتاب أبيه، وقال: «تراه يحذرني من الإنكليز، ويحذرني من الأتراك. وهل في إمكاني أن أحارب الاثنين؟» فأجاب جابر: «انظر إلى ما فيه مصلحتك واترك الناس.»
عقدت جلسة المؤتمر الأولى وكان الشيخ جابر وآخرون من رجال مبارك حاضرين، فرمى عبد العزيز قنبلة من قنابله السياسية، زعزعت المؤتمر وكادت تبدد شمله. قال يخاطب رجال الوفد: «الأتراك كذابون خداعون، وأنا لا أركن إليهم في المفاوضات. فإذا كنتم تبغون مصالحتي فدونكم والدي مبارك هو الواسطة بيني وبينكم، ولست قابلا بغير ذلك.»
عقدت هذه الجلسة في الصباح، فتبعتها جلسة أخرى في ذاك اليوم بعد العشاء، ولكن الفترة بين الجلستين كافية لتثير بركانا من الغضب، خصوصا في رئيس الوفد السيد طالب، ومزاجه مزيج من البارود والكبريت. أظنه نام القيلولة ذاك اليوم ثم صلى المغرب استعاذة وصبرا، ثم ضحك ضحكة طالما أضحكه بعدئذ ذكرها .
كانت جلسة المساء خصوصية فلم يحضرها غير رجال الوفد. وقد أطلعهم عبد العزيز قبل افتتاح الجلسة على كتاب الشيخ مبارك، فكانت الضحكة وكان العجب، ثم باشروا المفاوضات الولائية. طلب الوفد أن يكون للدولة معتمدون في القطيف وفي الحساء، فأبى ابن سعود وطلب أن تكون العلاقات ولائية فقط، وأن تساعده الدولة لقاء هذا الولاء بالأسلحة والذخيرة والمال. بعد اللتيا والتي قبل الوفد بذلك وقرروا أن يظل هذا الاتفاق سرا إلى أن يقره الباب العالي.
عاد رجال الوفد إلى الكويت فأحسن الشيخ مبارك استقبالهم، وعندما سألهم عما جرى أخبروه بما قاله ابن سعود في الجلسة الأولى، فقال: «نصحتكم فما انتصحتم، قلت لكم إن الرجل سفيه عيار
1
ولا يملك قياده أحد غيري.»
وبعد يومين أدب عبد الوهاب آل قرطاس في البصرة مأدبة للوفد حضرها الوالي شفيق كمالي باشا، والشيخ خزعل، والشيخ مبارك، وكان الحديث في الوفد وابن سعود.
قال الشيخ مبارك يخاطب الوالي: «ألم أقل لكم إنكم لا تفلحون إلا إذا انتدبتموني أنا للتوسط بينكم وبين ابن سعود؟ وما طلبت ذلك منكم والله إلا لأمرين؛ أولا: لكي أقوم بخدمة للحكومة العثمانية، وثانيا: لكي أستر على ابن سعود لأن السفيه لا يعقل ما يقول.»
فأجاب الوالي : «رأيك هو الصواب، ولكن الأمر انفرط.»
ثم قال مخاطبا رئيس الوفد: «وما قولك أنت يا طالب؟»
السيد طالب: «أقول ما قاله الشيخ مبارك، فلو كان حضرته معنا لما فشلنا.»
وحان بعد أسبوع حين الضحكة الأخرى التي ذبحت الشيخ؛ إذ جاء من الباب العالي إلى والي البصرة برقية فيها التصديق على ما تقرر في مؤتمر الصبيحية
2
مقرونا بالشكر لابن سعود، وبالنيشان العثماني الأول.
حمل السيد طالب تلك البرقية وسارع إلى الشيخ مبارك الذي كان يومئذ في الفيلية، فقال بعد السلام: «أبشر يا شيخ أبشر، قد اتفق ولدك مع الحكومة.»
مبارك مدهوشا: «ومتى كان هذا؟»
طالب متهانفا: «الأمر قضي بليلة.»
مبارك متغيظا: «كلها من مساعيك يا خبيث.»
طالب في لهجته السابقة: «تعلم الولد الخباثة من أبيه.»
مبارك وقد اشتعلت النقمة في عينيه: «سلط الله عليك يا خبيث! إليك عني.»
ضحك السيد طالب وهو يعيد قراءة البرقية.
وبعد ذلك أرسل مبارك رسوله عبد العزيز آل حسن إلى ابن سعود يهنئه ويلومه؛ لأنه لم يخبره بالاتفاق، فكتب عبد العزيز إليه يقول:
إني ابنك وقد أهنت نفسي في القدوم من الجبيل إلى الكويت، وما ذلك إلا حبا بك وعملا بإرادتك. ولكن كيف أستطيع أن أرضي والدي وهو يأمرني بألا أتفق والإنكليز، وألا أتفق والترك. فإذا بين لي حضرة والدي الطريق الثالث أسلكه راضيا شاكرا، ولكني أسأل والدي الآن: كيف استحسن ذاك الكلام في ولده على مائدة ابن قرطاس؟
فكتب مبارك معتذرا على عادته، فقال: «لا تصدق يا ولدي أكاذيب اللعين طالب، وأكد يا ولدي أني أريد أن أتظاهر أمام الأتراك بالبعد عنك والجفاء لأدرك لك الغاية التي تنشدها.»
فأجابه عبد العزيز: «والحمد لله أن الأمور كانت على ما يرام، فليهنأ الوالد بعز ولده، والسلام.»
الفصل الحادي والعشرون
هادمة العهود ومفرقة الوفود
هي الحرب العظمى! ومع أن الذي هدمته في البلاد العربية لم يكن غير اليسير في بادية الأطلال فلا بد، ونحن نكتب تاريخا عربيا، من أن نقف عنده وقوف الأثري فنكشف النقاب من أجل التاريخ عن شيء من أدفانه.
جاءت الوفود وراحت إلى الحساء والكويت، فتفاوض المتفاوضون، وتنافس الخاطبون ود ابن سعود. على أنه لم يتجسم من النتائج ما يستحق الاسم والتسجيل غير ذاك الاتفاق الذي تم في الصبيحية وأقره الباب العالي.
والغريب العجيب من أمر ذاك الباب العالي هو أن يمينه - إذا أذن البيانيون بالاستعارة - لم تعلم بما كانت تعمل يسراه. أو إن رجاله في العراق كانوا في واد، ورجاله في الحجاز في آخر، بل كان الفريقان في عزلتين، عزلة تبعد الزملاء بعضهم عن بعض، وعزلة تبعدهم كلهم عن النور الأعلى، نور ذاك الباب المشهور. فتعددت الوفود في باب ابن سعود، وعقدت عهود ناسخة لعهود، ولكن الحرب العظمى، لحسن حظ الدولة العليا، هدمت الناسخ والمنسوخ، ومحت بطلقة نار كلام الليل وكلام النهار .
وهاكم الحوادث شهودا. قبل أن يجتمع وفد السيد طالب النقيب بابن سعود في الصبيحية اجتمع سعود بن الرشيد بوالي البصرة شفيق كمالي باشا قرب الزبير، وتم الاتفاق بينهما على أن تساعد الدولة في محاربة ابن سعود، وقد قدمت لابن الرشيد عشرة آلاف بندقية، وكثيرا من الذخائر وشيئا من المال.
لم يعلم ابن سعود بهذا الاتفاق إلا بعد رجوعه إلى الرياض، فكتب إلى ابن الرشيد يذكره بعهد الصلح الذي بينهما، ويعيب عليه اتفاقه والأتراك. فأجاب ابن الرشيد: «إني من رجال الدولة، ومصالحتي وإياك لا تكون إلا إن رضيت الدولة بها.» فعد عبد العزيز ذلك خيانة منه، وكتب إليه يقول: «إذا كنت مصرا على نكث العهد فالمقاومة أولى.»
وما خطر في باله عندما كتب هذه الكلمة أن أوروبة كانت يومئذ ترددها، وقد قامت الدول هناك بعضها على بعض بالسلاح.
شبت الحرب العظمى، فسارع عبد العزيز، عندما اتصل به خبرها، إلى مراسلة أمراء العرب - الشريف حسين، وابن الرشيد، وابن الصباح - في الموضوع، فأرسل النجابة يحملون كتابا منه هذا فحواه:
قد علمتم ولا شك بوقوع الحرب، فأرى أن نجتمع للمذاكرة علنا نتفق فننقذ العرب من أهوالها، ونتحالف ودولة من الدول لصون حقوقنا وتعزيز مصالحنا.
بعد أن بعث الرسل بهذا الكتاب جاء السيد طالب من قبل الأتراك ثانية - جاء يسترضي ابن سعود، فاجتمع به في القصيم.
ولكن الإنكليز كانوا أثناء ذلك قد احتلوا البصرة، فجاء الملازم شيكسبير الذي كان قد اجتمع بابن سعود سابقا في العقير، يحمل في حقيبته تفويضات لا قيد يقيدها غير المصلحة البريطانية واقترانها بمصلحة نجد.
ثم قدم من المدينة وفد عثماني آخر يحمل إلى ابن سعود عشرة آلاف ليرة ويتزلف منه بواسطة صديقه محمود شكري الألوسي أحد أعضاء الوفد.
ثم خرج من الحجاز الأمير عبد الله بن الشريف حسين موفدا من والده للنظر في المسألة التي كتب عبد العزيز بخصوصها، فاجتمع على الحدود بمندوب ابن سعود وافترق الاثنان كما اجتمعا دون أن يقررا شيئا. والحقيقة أن الشريف كان يتحين الفرص للهجوم على ابن سعود تنفيذا كما قيل لتلك المعاهدة التي وصفها الأمير خالد بن لؤي في قوله: «اكتب له ورقة تنفعه عند الترك ولا تضرك.»
أما ابن الرشيد فقد جاوب بصراحة يقول: «إني من رجال الدولة، فأحارب إذا حاربت وأصالح إذا صالحت.»
وكتب الشيخ مبارك يعلم «ولده» بأن اللورد هاردنغ
Lord Harding
حاكم الهند قادم إلى البصرة: «ومن رأيي يا ولدي أن تقدم أنت إلينا للمفاوضة.»
ذهبت الدعوة للتفاهم أدراج الرياح، فعاد ابن سعود إلى الوفود يعمل بما قضت المصلحة والأحوال، فرد وفد الآلوسي ردا حسنا. وقد قال للسيد محمود: «إنها كما ترى فلا يمكنني مقاومة الإنكليز بعد احتلالهم البصرة.»
وكان السيد طالب النقيب، بعد ذلك الاحتلال، يخشى الرجوع إلى بلده فتوسط عبد العزيز من أجله، فأذن الإنكليز. وقد عاد كما عاد الآلوسي خائب الأمل. أما الضابط الإنكليزي شيكسبير فبقي في البلاد العربية، وبقي فيها، كما سنفصح في الفصل التالي، إلى الأبد!
الفصل الثاني والعشرون
يوم جراب
حسر اللثام عن مقاصد الأخصام، فأمد الترك ابن الرشيد، وأمد الإنكليز ابن سعود، بل عد الأول، وقد تحالف الترك والألمان، مع الدول الوسطى، وعد الثاني مع الأحلاف. هي الحقيقة السياسية، وقد كانت ذات قيمة في تلك الأيام.
أما الحقيقة التاريخية فهي أن ابن سعود أقام في البدء على الحياد، فلم يحارب الحسين كما أراد الترك، ولم يشترك في محاربة الترك بالعراق كما أراد الإنكليز، ولا منع رسل الدولة من المرور بنجد وهم حاملون المال إلى إخوانهم الأتراك في اليمن. هي الحقيقة كلها، فلم يكن ليهمه يومئذ غير أمير الجبل الذي نكث عهد الصلح واستعان بالدولة العثمانية على أمير نجد.
وقد تأهب الاثنان في وقت قصير للحرب، فلم يتجاوز جيش كل منهما الثلاثة آلاف مقاتل. كان مع ابن سعود نحو ألف من الحضر، أكثرهم من أهل العارض الأشداء البسلاء، وثلاثمائة خيال من العجمان، ما عدا البادية، ومدفع واحد لا غير. وكان مع ابن الرشيد ستمائة من الحضر وألف فارس من فرسان شمر. وقد رافق جيش ابن سعود الضابط الإنكليزي شيكسبير
1
الذي أشرت إليه في الفصل السابق.
لم يكن عبد العزيز ليستحسن ذلك، وقد قال له: «ليس من رأيي أن تمشي معنا، وإني أفضل أن تنتظرنا في الزلفى، فنعود إن شاء الله إليك.»
فأجاب شيكسبير: «لا يجوز أن يقال إن رجلا إنكليزيا قرب من ساحة القتال بين ابن سعود وابن الرشيد ورجع جبانة وخوفا.»
ألح عبد العزيز في النصيحة، فألح شيكسبير في الاستئذان، وركب مع الجيش إلى ساحة القتال - إلى جراب.
قد كان هذا الضابط الشاب إنكليزيا قحا، شديد التمسك بعادات أجداده وتقاليد أمته في أي مكان كان. فلم يتنازل في البلاد العربية عن شيء منها. هو الرحالة الإنكليزي الوحيد - على ما أظن - الذي أبى أن يبدل برنيطته مثلا بالكوفية والعقال، ولا جامل العرب في داخل البلاد بغير العباءة التي كانت تستر ثيابه الإفرنجية.
ولكن البرنيطة! ركب في جيش ابن سعود وهو لابسها وحامل بين أمتعته آلة التصوير.
شيكسبير في جيش الإخوان! وقد سمعهم يعتزون وينتخون.
أهل التوحيد! أهل التوحيد!
أهل العوجا! أهل العوجا!
2
وكانت شمر قد أخرجت عمارياتها
3
الأبكار الحسان، يشجعن الرجال، وهم يرددون نخوة شمر المشهورة:
سناعيس! سناعيس!
4
1333ه / 1915م: سار الجيشان في فيافي القصيم يطلب الواحد الآخر، وكان سيرهما في صباح اليوم السابع من ربيع الأول من هذا العام (24 يناير) في شمس كانون المدفئة المنشطة، فاصطدمت الأصوات في جراب قرب الظهر قبل أن تصطدم الفرسان.
أهل العوجا! أهل العوجا!
سناعيس! سناعيس!
وكان أهل العوجا، أي أهل التوحيد، يرددون أيضا كلمتهم المشهورة:
هبت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!
فيجبنهم العماريات الشمريات كل بالعزوة أو النخوة الخاصة بقبيلتها.
تصادمت الأبطال وتقارعت في ظهر ذاك النهار، وتطاردت وتراجعت، فكانت الغلبة في بادئ الأمر لابن سعود.
هبت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!
وكان رصاص أهل التوحيد يقع أمام الشمريات، الواقفات فوق أسنمة الجمال، فيصحن بالرجال: إلى القتال! ويهتفن هازجات:
يلي يتمنى حربنا
غويت يا غاوي الدليل
كم واحد من ضربنا
دمه على الشلفى يسيل
احتدم القتال ودوت البنادق، فأصيب شيكسبير برصاصة أودت بحياته.
وكان فرسان العجمان قد تراجعوا خيانة وهم يصيحون صيحة الانهزام، فأغارت إذ ذاك بادية ابن الرشيد على جناح أهل التوحيد الأيسر فدحرته، وغنمت أمواله.
أما بدو ابن سعود، وأكثرهم من مطير، فقد أغاروا أثناء ذلك على جيش ابن الرشيد ومخيمه، وكانوا كذلك من الفائزين الغانمين.
هو يوم جراب الذي كان على أهل التوحيد وأهل شمر على السواء، ولم يكن فيه ظافرا غير البدو من الفريقين، فقد أغاروا، فغنموا، فشردوا.
الفصل الثالث والعشرون
العجمان
من الأغلاط السائرة بين عامة العرب أن العجمان من العجم. وفي بلاد فارس أيضا، على شاطئ الخليج الجنوبي، من يقولون هذا القول، أما الحقيقة فهي أنهم من قبائل اليمن، من عرب قحطان، وهم ينتسبون إلى همدان.
1
كان العجمان في الماضي يسكنون نجران، ثم ارتحلوا شرقا فوصلوا في أيام الإمام تركي إلى الأحساء، فأحسن إليهم وأنزلهم «ديرة» بني خالد هناك. وعندما تولى فيصل الإمارة عاملهم مثل معاملة أبيه لهم، فأبطرتهم النعمة واستفحل أمرهم، فصاروا يقطعون الطرق على السابلة والحجاج. هم موصوفون بالمكر والغدر، ولكنهم شديدو الشكيمة وذوو عصبية يندر مثلها في العشائر. عصوا الدولة العثمانية فتركتهم وشأنهم، وكثيرا ما كان عمالها في الحساء يشاركون رؤساءهم الغنائم ، ومع ذلك فقد كان العجماني يسلب جندي الدولة فرسه ويدخل بها الحساء لينعلها.
عصوا كذلك الشيخ مبارك الصباح، فحاربهم، واسترضاهم، ولم يتمكن من كبح جماحهم ولا من كسب ولائهم، ولكنهم والوا ابن سعود، ثم حالفوا أبناء عمه العرائف عليه. خانوه وحاربوه، وغلبوه في بادئ الأمر. ومع أنهم أصغر القبائل عدا، فلا يبلغ المقاتلة فيهم أكثر من خمسة آلاف، فقد تفوقوا عليها كلها ونازعوا حتى بني خالد السيادة، قال الشاعر:
وقد قسموا الأحساء جهلا بزعمهم
لعجمانهم شطر وللخالدي شطر
ألمان العرب! هم يدعون بهذا الاسم لشدة عصبيتهم وبأسهم وتفانيهم بعضهم في سبيل بعض. إذا سئل الواحد منهم: أتقبل الخير من الله بروحك، يجيب قائلا: «لا أقبل خيرا لا يكون للعجمان كافة.»
وقد جاءهم ابن سعود، عدو البادية وصديق العرب، بالخير العميم، فرفضوه مرارا في بادئ أمرهم، بل امتشقوا الحسام عليه كما قلت، ثم زرعوا ذاك الخير فأثمر في الصرار قطب ديرتهم الآن، ولكنهم قبل ذلك زرعوا المكر والخيانة والعصيان. والتاريخ شاهد عليهم خصوصا في وقعة جراب وفي الحساء.
بعد تلك الوقعة التي لم يفز فيها غير البدو من الجيشين عاد ابن سعود إلى القصيم، وابن الرشيد إلى جبل شمر، وكان من الاثنين أن أدب الواحد منهما عربان الآخر، فغزا ابن سعود قبائل من شمر وحرب، وغزا ابن الرشيد قبائل من مطير، وكان التوفيق حليف الغزوتين.
على أن عبد العزيز لم يقنع بما ناله من البادية، فراح يطلب خصمه الذي كان قد رحل مع رجال شمر إلى العراق ثم عاد منه، لكن العجمان أثناء ذلك اعتدوا على عشائر ابن الصباح فنهبوا مواشيهم، فكتب الشيخ مبارك إلى عبد العزيز يطلب منه تأديب المذنبين ورد المنهوبات، فأدركه النجاب في شقرا. وإليها أيضا جاء رسول من ابن الرشيد يطلب الصلح فجددت المعاهدة السابقة، ثم أرسل عبد العزيز ابن عمه ناصرا إلى الشيخ مبارك بكتاب هذا فحواه:
لست يا مبارك بصديق صدوق. قد أنالني من العجمان أكثر مما أنالك، فصبرت وتجملت. ونحن الآن في وقت القيظ ، ولا نتمكن من شدته أن نسير بجيش إلى ديرة العجمان. والأمر الثاني هو أني في ريب من صلح ابن الرشيد، فأخشى نكث العهد إذا أنا غادرت نجدا ودخلت في حرب والعجمان. والأمر الثالث نفقات هذه الحروب وقد تكاثرت علي فضاقت في سبيلها الأسباب. والأمر الرابع يا حضرة الوالد هو أني أخشى أن يلجأ العجمان بعد الحرب إليك فتنقلب علي كما فعلت يوم سعدون والظفير. ومن رأيي في كل حال أن نؤجل المسألة إلى فصل الصيف.
فكتب مبارك إلى «ولده» أن الأمر لا يؤجل، وأصر على استرجاع المنهوبات، فأجابه عبد العزيز أن العجمان لا يرجعون ما ينهبون إلا مكرهين - إلا بحرب - خصوصا وأنه، أي مبارك، مسلفهم الإساءة، ثم قال:
فإذا عزمت على محاربتهم تعطيني عهد الله وميثاقه أن تعينني بالمال والرجال، وألا تسلك في سياستك معهم مسلكا غير مسلكي، ولا تستقبلهم إذا لجئوا إليك، ولا تتوسط بالصلح بيني وبينهم.
عاهده الشيخ مبارك على ذلك - عهد الله! فمشى عبد العزيز إلى الحساء بفرقة صغيرة من الحضر والبدو في صيف هذا العام (1333ه / 1915م)، وكان العجمان عندما علموا بقدومه قد رحلوا تجاه قطر، فحشد جيشا من أهل الحساء وزحف جنوبا متقفيا أثرهم.
قد كان الحر شديدا فلا يستطاع المشي ناهيك بالقتال نهارا، ولم يكن لديهم رواحل، فأسروا ماشين فوصلوا إلى مكان يسمى كنزان كان العدو معسكرا فيه. وكانت أشجار النخل في الليل تبدو كأنها بيوت من الشعر، فشرعوا يطلقون عليها الرصاص. سكت العجمان وراء ذاك النخيل حتى أسرف أهل الحساء ذخيرتهم على الأشجار، ثم خرجوا من مكامنهم فلفوا بهم وهاجموهم من وراء، فتلاحموا واستمروا طيلة ذاك الليل في عراك كانت العماوة فيه شجاعة، وكانت الفوضى أخت الهول وسيدة الظلام.
جرح عبد العزيز في تلك الليلة، وقتل أخوه سعد، ودارت الدائرة على رجاله، فعادوا منهزمين إلى الحساء، فتقفاهم العجمان ونزلوا قرب الهفوف فحاصروها ثلاثة أشهر.
كتب عبد العزيز إلى أبيه ليستنفر أهل نجد، وإلى الشيخ مبارك يستنجده، فسارع أهل نجد للنجدة بقيادة محمد بن عبد الرحمن ومعه أحد العرافة سعود بن عبد العزيز الذي فر سابقا من الخرج وانضم إلى ابن الرشيد وحارب معه في وقعة جراب. فلما رأى ابن عمه عبد العزيز في تلك المحنة استفزته الحمية فعاد إليه تائبا مناصرا.
ولكن أعداء ابن سعود الآخرين تحفزوا للوثوب عندما سمعوا بحرب العجمان، فنكث ابن الرشيد عهد الصلح، ومشى إلى بريدة يريد احتلالها، أما الشريف حسين، الذي كان قد أمعن في مفاوضاته والإنكليز ليدخل الحرب العظمى مع الأحلاف، فلم يسره هذه المرة عمل ابن الرشيد، فأرسل عليه ابنه الأمير عبد الله.
زحف الأمير إلى نجد ولكنه علم وهو في الطريق برجوع ابن الرشيد من بريدة مدحورا، فتوقف في سيره وعاد مطمئن البال إلى الحجاز.
أما الشيخ مبارك فقد أبطأ في إرسال النجدة التي طلبها عبد العزيز، فكتب إليه ثانية يذكره بالعهد، فجهز إذ ذاك ابنه سالما واثنين آخرين من أولاده بقوة صغيرة - مائة وخمسين رجلا من الحضر ومائتين من البدو - فجاءوا إلى الحساء وانضموا إلى جيش ابن سعود.
قلت إن العجمان حاصروا الهفوف ثلاثة أشهر؛ أي مدة الصيف. والحقيقة أنهم نزلوا في أماكن تكثر فيها وتتعرج مجاري المياه، فلا يستطيع المهاجمون الوصول إليهم، ولكنهم في آخر ذي القعدة رحلوا منها، فشد إذ ذاك عبد العزيز عليهم.
أمر أخاه محمدا وسالم الصباح وجنودهما أن يبقوا في مراكزهم، وزحف ليلا بفرقة من رجاله ومعهم بضعة مدافع. أسروا ماشين لأن أكثر الإبل كانت قد أرسلت إلى نجد لقلة المرعى في الحساء، فأدركوا العجمان في الصباح، وأطلقوا المدافع عليهم، ثم هموا بالهجوم، فسارع أولئك العربان إلى ركائبهم وفروا هاربين تجاه الكويت، فلم يتمكن رجال ابن سعود، ولا ركائب لديهم، من اللحاق بهم.
عاد عبد العزيز إلى مقره فأمر أخاه وسالما حليفه بمطاردة العجمان. فجمع الاثنان رجالهما ومشوا كلهم طائعين متآلفين، ولكنهم ما لبثوا أن تفرقوا.
أدركوا العجمان - نعم أدركوهم، فكان الانقلاب وكانت الخيانة. اتفق ابن الصباح وأولئك العشائر العاصية، وهجر حليفه ابن سعود.
لله درك يا مبارك! قلت إن أعماله آية في التعرج والغموض؛ نصفها سر ونصفها خداع. فقد أرسل يستنجد ابن سعود على العجمان وقصده أن يزرع العداء بينهما فيتمكن هو من الاستيلاء على الأحساء. هذا هو السر. وقد جاء ابن سعود منجدا فغلبه العجمان، فاستنجد بأبيه مبارك فأرسل إليه سالما وبقية أولاده، العائلة كلها، وهو يقول في نفسه: جاءت الساعة، ستحقق الآمال.
تصادم ابن سعود والعجمان وشارك حلفاؤه المباركون في القتال، ثم انقلب سالم فجأة فصالح العجمان وأعلن حمايته عليهم. هذه هي الخدعة. وكان مبارك قد كتب إلى ابنه عندما علم أنه اشترك في القتال مع ابن سعود يؤنبه ويقول: «أرسلتك مراقبا لا مقاتلا ... إذا غلبهم ابن سعود فنحن معهم يا ولدي، وإذا هم غلبوه فلا تردهم عنه، ولا تساعدهم عليه.» وقع هذا الكتاب بيد العجمان فكتموه. بانت الخدعة ولكن السر ظل سرا.
عندما انقلب ابن الصباح على ابن سعود أرسل محمد بن عبد الرحمن يخبر أخاه عبد العزيز ويستأذنه بالهجوم على العدوين العجمان والمباركين، فأجابه قائلا: «لا تفعل، كيف نكون حلفاء في أول النهار وأعداء في آخره والناس لا يعرفون حقيقة الحال.»
ثم كتب إلى مبارك يشكو إليه خيانة سالم ويقول: «لم أقدم إكراما لك على تأديبه.» فكتب الشيخ المريد يذكره بأن بينه وبين العجمان صداقة قديمة، ثم قال: «طلبت منك أن تسترجع منهوباتي من العجمان ولم أقل لك حاربهم واطردهم من ديارهم.»
قرأ عبد العزيز كتاب مبارك وهو يحتدم غيظا، فهتف مرددا تلك الكلمة التي يأخذها من فاتحة القرآن إذا هو أعلن الحرب: «إياك نعبد وإياك نستعين! صبرنا على مبارك صبرا جميلا، واحتملنا منه شيئا كثيرا، وفادينا من أجله بالمال والرجال، وما نحن والله بصابرين إلى الأبد. إياك نعبد وإياك نستعين!»
شد عبد العزيز الرحال وزحف مسرعا يريد مهاجمة العجمان وابن الصباح، وكان ذلك في محرم 1334 /نوفمبر 1915.
ولكنه حين وصوله إلى معسكر أخيه محمد واستماعه الكلمة الأولى التي فاه بها النجاب الذي كان قد وصل من الكويت، وقف مدهوشا محزونا: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات الشيخ مبارك!
الفصل الرابع والعشرون
الإنكليز والعرب
عندما انضمت الدولة العثمانية إلى الدول الوسطى في الحرب العظمى شرع الإنكليز يفاوضون أمراء العرب ليدخلوهم في تلك الحرب مع الأحلاف؛ أو ليضمنوا في الأقل حيادهم. وقد كانت المفاوضات مستمرة في سنة 1915 بين عدن وجيزان وبين القاهرة ومكة، وبين أبي شهر والرياض، والغرض الأكبر فيها هو محاربة الترك في شبه الجزيرة وصدهم عن تأليف كتلة عربية يقفون بها في وجه بريطانية العظمى هناك فيقطعون عليها طريق الهند.
وقد كان السيد محمد الإدريسي أول من لبى الدعوة فحالف الإنكليز في أبريل من سنة 1916 وحمل على الترك في عسير، ثم ابن السعود فعقد وإياهم معاهدة بعد ستة أشهر؛ أي في ديسمبر ثم الشريف حسين الذي اتفق وعميد بريطانية العظمى في القاهرة على البنود الخمسة المشهورة
1
وذلك بعد شهر من تاريخ المعاهدة وابن سعود؛ أي في ربيع أول 1334 /يناير 1916.
ليس من غرضنا النظر في هذه المعاهدات التي أمست كلها في خبر كان، ولكننا نسأل القارئ - لقصد فيما نحن بصدده - أن يذكر هذه التواريخ، ويذكر خصوصا أن الاتفاق مع الشريف حسين لم يتم إلا بعد الاتفاق مع الأميرين الآخرين.
عندما علم ابن السعود بوفاة الشيخ مبارك، وتولي ابنه جابر الحكم في الكويت، عدل عن مهاجمة العجمان وكتب إلى الشيخ جابر يعزيه بأبيه، وينصح له ألا ينهج على منواله في السياسة. وبينا هو هناك؛ أي في الطريق إلى الكويت، جاء رسول من الممثل البريطاني في خليج فارس، السر برسي كوكس
Sir Percy Cox
يرجوه أن يوافيه إلى القطيف للمفاوضة في أمور هامة، فتوجه عبد العزيز إلى تلك الناحية واجتمع بالسر برسي في جزيرة دارين هناك.
وكان هم بريطانية يومئذ أن تخرج الترك من العراق وسورية بل من البلاد العربية وتؤمن لبواخرها وجنودها الخليج والبحر الأحمر. فاتخذت لتحقيق هذا الغرض طرائق شتى، منها محالفة أمراء العرب وإمدادهم بالمال والسلاح على العدو.
سأل السر برسي كوكس ابن سعود عما يستطيع أن يؤديه من المساعدة للأحلاف، فأجابه: «إني أساعدهم بأمرين، أعاهدهم أولا ألا يجيئهم ضرر مني ما دامت المعاهدة بيني وبينهم مرعية الجانب، وأعاهدهم ثانيا ألا أنضم إلى حلف عربي ضدهم. وإني أؤكد لكم أن العرب لا يجتمعون عليكم إذا لم أكن أنا معهم. إني أحب أن يجتمع أمرنا على مساعدة الأحلاف، نعم وسأكتب إلى الشريف حسين بهذا الخصوص إذا أحببتم.» ولكن ذاك الأمر لم يتم كما سنرى، فظل لذلك موقف ابن سعود موقفا سلبيا.
ومن المسائل التي كانت حكومة بريطانية العظمى تريد أن تستطلع رأي أمراء العرب فيها مسألة الخلافة، فتكلم السر برسي عن انتقال الخلافة إلى العرب، واتخذ المجاملة سبيلا إلى غرضه، فعرض المنصب على ابن سعود قائلا: «إن حكومة جلالة الملك تستحسن ذلك وتساعد في تحقيقه.»
لم يخف على عبد العزيز قصد المعتمد، فقال: «لا ذوق لي بالخلافة، وإني لا أرى من هو أجدر بها من الشريف حسين.»
اطمأن بال الوكيل المحترم، وارتاحت الوزارة الخارجية إلى الخبر الذي مكنها من إطلاق يد المعتمد في مصر. فكانت الخلافة الطعم الألذ في الصنارة التي رماها على شاطئ جدة، فالتقفها الشريف حسين وكان عظيما في الأرض؛ مليكا في مكة، خليفة في عمان، أسيرا في قبرص! وكان ابن سعود في الأرض حكيما.
أما وقد وثبنا وثبة في هذا الفصل لا تجوز في اصطلاح المؤرخين، فلا بأس بوثبة أخرى ما زلنا في أمر الحسين. كلنا نذكر أنه شرع يتكلم باسم العرب، بعد أن أبرم ذاك الاتفاق والمعتمد البريطاني في القاهرة، ويدعي أنه زعيمهم الأكبر، ثم جاء يوم التتويج أو بالحري المبايعة فهللت جريدة القبلة وازدهت أعمدتها باللقب الجديد: صاحب الجلالة العظمى ملك العرب.
ليأذن القارئ أن نقف مرة أخرى مستطردين. ليس الذنب في تفريق كلمة العرب ذنب الإنكليز وحدهم كما يظن الناس، وهاكم الحقيقة كلها.
يجيئهم أحد الأمراء مدعيا أنه سيد العرب أجمعين، وأنهم كلهم أطوع له من بنانه، فيسبرون الإنكليز غوره ويتحققون صدق كلامه أو كذبه؛ ولكنهم يوالونه لأنه على شيء من القوة.
ثم يجيئهم الآخر ودعواه أكبر من دعوى من تقدمه أو مثلها، وكذلك الآخرون، فيضطر الإنكليز أن يحددوا قوة الواحد إكراما للآخر، فتكون النتيجة التقسيم والتفريق.
عندما طفقت جريدة القبلة تهلل لملك العرب، وتهتف للمنقذ الأكبر، استبشر غلاة القومية، وزعماء النهضة العربية، فرددوا الهتاف ولسان حالهم يقول: هو ذا الزعيم الأكبر، هو ذا المنقذ الأعظم!
على أنه ما كادوا يفرحون حتى جاءتهم الأخبار أن دول الأحلاف اعترفت بالحسين ملكا على الحجاز - الحجاز فقط. فقالوا إذ ذاك: «هي ذي أوروبة عدوة النهضة، بل هي ذي إنكلترة تفرقنا لتسودنا.»
والحقيقة هي أن ابن سعود في مفاوضاته والسر برسي كوكس بخصوص المعاهدة اشترط ألا يتكلم الشريف باسم العرب ويدعي أنه ملك العرب، فقبل الشرط حبا وكرامة، وكان الاعتراف بالحسين ملك الحجاز - الحجاز فقط.
أما وقد برأنا من هذا القبيل ذمة بريطانية العظمى، فيجب علينا، من أجل التاريخ أيضا، أن نسجل عليها فعلتها الكبرى في إبرام ذاك الاتفاق مع الحسين، وقد وهبته فيه البلاد العربية كلها ما عدا عدن والبصرة.
لا نظن القارئ نسي التواريخ التي سألناه أن يذكرها في مطلع هذا الفصل، أو أنه يذكر في الأقل أن الاتفاق الإنكليزي الحجازي أبرم بعد عقد المعاهدتين العربيتين في جيزان ودارين. وقد اعترفت الحكومة البريطانية فيهما بسيادة الأميرين السيد محمد الإدريسي والإمام عبد العزيز آل سعود، كل في بلاده، وبسيادة من يتولى الحكم بعدهما من بيتهما، ثم ضمنت حدود البلادين، وتعهدت بالدفاع عنهما إذا اعتدي عليهما، ثم بعد هذه الضمانات كلها أدخلت البلادين - بلادي نجد وعسير - في دولة عربية يرأسها الملك حسين!
الملك عبد العزيز وإلى يساره المؤلف أمام الطيارة بجدة.
لا حاجة إلى القول إن تلك المفاوضات كانت سرية؛ إذ لولا ذلك لما تمكنت من الخداع، أو لما كانت هي خادعة نفسها. فإما أن وكلاءها السياسيين ومعتمديها كانوا جاهلين بعضهم أعمال بعض، فكانت هي المخدوعة، وإما أنها لم تهتم يومئذ لغير مصلحتها - الوقتية المحلية - فخدعت من أجلها الجميع.
وكان ابن سعود أثناء الحرب من المخدوعين، ولكنه وهو الحكيم الذي لا يطمح إلى غير ما يستطيع تحقيقه في زمن معلوم، عقد تلك المعاهدة التي استمرت مرعية سبع سنوات؛ أي من بداية سنة 1916 إلى بداية سنة 1923.
بعد عقد معاهدة دارين توسط السر بوسي كوكس بين ابن سعود وابن الصباح في مسألة العجمان، فقبل عبد العزيز أن يوقف حركاته الحربية على شريطة أن يطرد صاحب الكويت العجمان من بلاده. وقد عمل الشيخ جابر بنصيحة السر برسي فأجاب طلب ابن سعود.
أما «العرائف» الذين أغراهم الأعداء بنسيبهم الكبير، فقد أدركوا أن أخوالهم العجمان
2
لم يناصروهم إلا لمآرب خصوصية ولمطامع سياسية لهم في الأحساء، وأدركوا كذلك أن ابن الرشيد والشريف حسينا في مساعداتهما لهم إنما هم كالعجمان، ولكن مطامعهما السياسية أكبر وعداءهما أشد؛ لذلك عادوا تائبين إلى عبد العزيز، وهم اليوم كلهم - سبعة بيوتات - مقيمون في الرياض.
الفصل الخامس والعشرون
هدايا وتعنيف من بلاد الشريف
بعد عقد المعاهدة في دارين عاد ابن سعود إلى الرياض وأرسل رسوله صالح باشا العذل إلى الشريف حسين يخبره بما جرى بينه وبين الإنكليز، ويعرض عليه المؤازرة في مساعدة الأحلاف. وكان الشريف - كما أسلفت القول - لا يزال في طور المفاوضات والعميد البريطاني في القاهرة، فعندما علم بعقد المعاهدة وابن سعود خشي أن يتقدمه في الزعامة والنفوذ لدى الأحلاف، فسارع إلى قبول البنود الخمسة وتم الاتفاق سرا بينه وبين العميد.
ولكنه لم يعلن الثورة على الترك إلا بعد أربعة أشهر شعبان 1334 /يونيو 1916، من تاريخ ذاك الاتفاق، لأسباب ذكر بعضها، ولم يذكر أهمها، وهو أن نجله الأمير فيصل كان لا يزال في الشام فخاف عليه من جمال باشا؛ لذلك كتب إلى الجمال يعده بتجنيد فرقة حجازية للزحف مع جنود الدولة إلى ترعة السويس، وألح عليه في إرسال فيصل لهذه الغاية.
وقد كتم أيضا عن ابن سعود خبر ذاك الاتفاق، فأعطى رسوله صالح باشا العذل جوابا نصفه شكر، والنصف الآخر إبهام في ثوب المجاملة.
ولكن تلك المفاوضات السرية، أو في الأقل مجيء الرسل من بور سودان ورواحهم، أيقظ في دوائر الحكومة الحجازية عيون الريب والشبهة، فأدرك الوالي غالب باشا بعض ما كان يبطنه الشريف حسين، وعقد النية على مفاوضة ابن سعود في الأمر، ولكنه موه قصده بالطريقة التي اتخذها إليه، فقد أرسل رسوله وهدية إلى عبد العزيز بواسطة الشريف الذي أبقى الهدية عنده وأذن للرسول بالسفر إلى نجد.
وكان ذاك الرسول يحمل كتابا من غالب باشا هذا معناه:
إنك تعلم بأعمال الشريف وأنا الآن أزيدك علما. إنه يفاوض الإنكليز وهو على وشك أن يخون الدولة ويفتح لأعدائها الحرمين، فإذا قدمت إلى الحجاز أسلمك الحرم وأساعدك بكل ما لدي من قوة.
فأرسل ابن سعود إليه هدية وقال في جوابه إنه والحسين يد واحدة، ولكن الهدية وصلت إلى مكة بعد أن أعلنت الثورة، فاستلمها الشريف حسين وأبقاها عنده. «أكل الشريف الهديتين.» كما قال عبد العزيز، ونهض وأنجاله على الترك طمعا بالهدية الكبرى التي وعده بها الإنكليز.
أعلنت الثورة وطفقت تتوارد إلى جدة من بور سودان الإمدادات الحربية والمالية. جاء الذهب بالصناديق ليستخدمه الشريف في تجنيد العرب وفي استمالة أمرائهم ورؤسائهم إلى النهضة، فأرسل إلى ابن سعود صرة في آخر هذا العام وأتبعها في العام التالي بثلاث صرر مقدار الواحدة نحو خمسة آلاف ليرة (1335ه / 1916و1917م)، ولكنه لم يكتب إليه كلمة بخصوصها. «كان يجيء الرسول بهذا المال فيقول: من جلالة الملك ليس إلا.»
ولكن عبد العزيز، عندما تكررت تلك الهدايا المالية، عقد مجلسا عاليا حضره والده الإمام عبد الرحمن ورئيس قضاة نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، فأطلعهم على الأمر، وقال: «إذا كان القصد من إرسال هذا الذهب المساعدة في الحرب فالقصد محقق؛ لأني أمرت أهل نجد خصوصا أهل القصيم وعتيبة وحرب بمساعدة الشريف، وأمرتهم كذلك بألا يتعدى أحد منهم على من أراد أن ينضم إلى جيش الحجاز.» فقال الإمام عبد الرحمن: «لو كان الشريف يبغي المساعدة فقط لكتب إلينا بذلك، ولست أرى في قصده غير الخوف من أن نغتنم فرصة قيامه على الترك فنحمل عليه، فأراد في إرسال الذهب تسكيننا.»
وقد كان رئيس القضاة من هذا الرأي، فقال عبد العزيز: «يمكن ذلك، ولكني سأكتب إليه فأتحقق الأمر، فإذا كان يبغي المساعدة، وهو صادق في عمله وقوله، ساعدناه بأكثر مما تقدم، وإذا كان له قصد آخر انتبهنا إليه.»
وهاك خلاصة الكتاب كتابه:
يا حضرة والدي، إننا وإياك في هذه الحرب وثمرتها لنا ولك. فقد مشت عرباننا وعشائرنا؛ عملا بأوامرنا إلى مساعدتكم، ولكني أبغي أكثر من ذلك، وإني مستعد أن أرسل إليك أحد إخوتي أو أولادي ليحارب مع أولادكم. وفي ذلك الفوز الأكبر إن شاء الله ... قد يكون حدث بيننا وبينكم سوء تفاهم في الماضي. فلا بد إذن من التفاهم والتأمينات. وذلك بأن تحدد الحدود بيننا وبينكم فتزول الشكوك وتتضاعف من أهل نجد المساعدات.
عندما وصل هذا الكتاب إلى صاحب الجلالة زمجر في جريدة القبلة، وفي الديوان الهاشمي، فسمع صوته في نجد. قال عظمة السلطان: «لا أذكر من جوابه غير هذه الكلمات: إما أنك سكران يا ابن سعود، وإما أنك مجنون، أفلا تعلم لأي أمر قمنا وأي غرض نبغي؟»
كتب عبد العزيز إلى الوكيل البريطاني في البصرة يطلب الاجتماع به في القريب العاجل، فاجتمعا في العقير. وبعد أن اطلع السر برسي كوكس على كتاب الحسين قال:
لا تكترث به. نحن ضامنون استقلالك ونتعهد بألا يتعدى عليك الشريف أو غيره. وأنت تعلم أن أية حركة على الشريف اليوم هي علينا ومساعدة لأعدائنا وأعدائك.
وقد ألح عليه في هذا الاجتماع أن يعطيه جوابا قاطعا ألا يكون بينه وبين الشريف محاربة، فوعده بذلك على شرطين؛ أولهما: ألا يتدخل الشريف في شئون نجد، والثاني: ألا يتكلم باسم العرب ويدعو نفسه ملك العرب. تعهد السر برسي بذلك، ثم دعا عبد العزيز لزيارة البصرة، فلبى الدعوة، وعرج في طريقه على الكويت ليعزي آل صباح بوفاة كبيرهم الشيخ مبارك.
الفصل السادس والعشرون
وفود الإنكليز والعرب
في سنتي الحرب الأخيرتين بلي الإنكليز في البلاد العربية بأمرين خطيرين؛ الأول: سياسي في الحجاز، والثاني: حربي في العراق، فسعوا في معالجتهما وإذلالهما ما استطاعوا سياسيا وماليا.
وقد كانت مقاصدهم الحربية ثلاثة؛ أولا: أن يعقدوا حبل الولاء بين الأمراء أحلافهم، ثانيا: أن يحكموا نطاق الحصار ويشددوه على العدو من الجهات العربية كلها، ثالثا: أن يستخدموا ما عند كل أمير من قوى القتال، ويضيفوا ما أمكنهم إليها، في سبيل النصر.
قد أمدوا الملك حسين بالأسلحة والذخائر والمال تحقيقا للقصد الأخير، ولكنهم في اتكالهم عليه كل الاتكال أيقظوا فيه روح الأثرة وشجعوها، فنجم عنها العداء لأمراء العرب كلهم خصوصا لابن سعود. وبكلمة أخرى، إن الإنكليز في تعزيزهم القصد الثالث أفسدوا على أنفسهم القصد الأول، فأصبحوا عاجزين عن تحقيق القصد الثاني.
ولم يكن الملك حسين ليساعدهم في التغلب على الصعوبات، ولا أذن بتنفيذ تلك الخطة التي اتخذوها إلى غرضهم الأكبر. فعندما جاء المستر ستورس ورفيقه المستر هوغرث
1
إلى جدة؛ ليسافرا من قبل المعتمد البريطاني في القاهرة إلى الرياض عن طريق الحجاز، لم يأذن الملك بذلك لأن الأمن كما ادعى كان مفقودا.
والحقيقة هي أنه كان يخشى أن ترجح كفة النفوذ في الرياض، بل كان يخشى أن يكون اتفاق الإنكليز وابن سعود مضرا بمصالحه، أو مجحفا باتفاقه وإياهم؛ لذلك لم يرض بأي اتفاق بينهم وبين غيره من أمراء العرب إلا إذا تم ذاك الاتفاق بواسطته. - «اتركوا لي ابن سعود، أنا أعالجه، أقول أنا أعالجه لخيركم وخير العرب.»
وقد كان ابن سعود مثل الحسين من هذا القبيل؛ أي إنه حافظ على عهوده وبريطانية العظمى، ولكنه كان يظن أن بينها وبين خصمه اتفاقا سريا، ملحقا للمعاهدة، يضر به وبمصالحه. ولا نستغرب هذه الظنون عندما نذكر ما تقدم في الفصل الخامس والعشرين. فهل يصلح رسل التوفيق ما أفسده عاقدو المعاهدات؟
عندما أقفلت في وجه وفد القاهرة أبواب الحجاز جاء إلى الرياض في طليعة هذا العام الهجري (نوفمبر 1917) وفد من الكويت ومن البحرين (1336ه / 1917م)، مؤلف من الوكيل السياسي الكولونل هاملتن والمستر فلبي والكولونل أون؛
2
ليفاوضوا ابن سعود في الأمرين السياسي والحربي اللذين تقدم ذكرهما؛ أي ليوفقوا بينه وبين الحسين، وليستنهضوه على ابن الرشيد وعلى أحلافه من عشائر العراق.
وكان عبد العزيز قد علم بتوقيف وفد القاهرة في جدة، فطلب المستر فلبي أن يتوسط في الأمر وتعهد إذا أذن بالسفر إلى الحجاز أن يعود عاجلا ومعه المعتمد البريطاني، فأذن له عبد العزيز بالسفر، وأرفقه برهط من رجاله.
قد كان للمستر فلبي قصد آخر في رحلته هذه، وهو يلمح إليه في كتابه. فلا بأس إذن - خصوصا أن تلك الحوادث أصبحت في ذمة التاريخ - بالإفصاح عنه في كتابنا. من المعلوم أن الطريق إلى نجد برا من الحجاز هي أقصر جدا من الطريق البحرية الهندية، وقد كانت رغم ادعاء الملك حسين آمن منها في تلك الأيام. ومما لا يعلمه الناس أن المال الذي كان يبذل في شبه الجزيرة كان يجيء عن طريق مصر، وأن الحكومة الإنكليزية في الخليج الفارسي كانت في حاجة إلى قسم كبير ليصرف في أطراف العراق ونجد.
عاد الكولونل هاملتن والكولونل أون إلى الكويت، وسافر المستر فلبي في الشهر الأول من عام 1918 إلى الحجاز، وهو متأكد أنه سيعود في الطريق نفسها ومعه في الأقل المال الذي كان متوقفا في جدة. قد أرسل معه ابن سعود كتابا إلى الملك حسين مدبجا بيراع اللطف والولاء. ولكن الحسين - وهو المشهور بتصلبه - تغلب على اللطف فيه وحتى على المواربة، فتجهم المستر فلبي ولم يلبس غيظه شيئا من زخرف الكلام أو الابتسام: «الرجوع إلى نجد يا حضرة النجيب هو غير ممكن الآن، غير ممكن.»
أما رجال ابن سعود فأذن لهم بالرجوع إلى بلادهم، ولم يزودهم بكلمة لطف أو عنف لعبد العزيز: «لا لزوم يا أولادي للكتابة، نحن نحل مشاكلنا بيدنا.» كذلك عولج المشكل السياسي خلال الحرب، فظل مشكلا بعدها.
أما الشكل الحربي فقد كان جله يختص بمصادرة المؤن والذخائر التي كانت تصل إلى الأتراك في بغداد وفي الشام عن طريق الكويت والبادية.
وكانت الكويت الباب الأكبر للتهريب تجيئها المؤن، الشاي مثلا والأرز والسكر من الهند والعجم فتباع بأسعار باهظة، وتتسرب إلى وكلاء الدولة أو بالحري إلى رؤساء العشائر، فيهربونها إلى الأتراك والألمان في سورية وفلسطين.
ومن أولئك الرؤساء ماجد بن عجيل شيخ العبدة - أكبر قبائل شمر - وضاري بن طوالة شيخ شمر العراق، وعجيمي السعدون رئيس المنتفق. فقد كان العدو في الشام وفي بغداد يحصل بواسطتهم، مهما كانت الأسعار باهظة، على كثير من الأرزاق والذخائر التي كانت تجيء إلى الكويت للإنكليز في جنوب العراق.
على الإنكليز إذن؛ أن يصادروا المهربين، ويحكموا نطاق الحصار لمنع التهريب أو تخفيفه، فحاولوا لذلك حراسة خط يمتد من الكويت إلى البصرة فالناصرية.
ولكن الكويت نفسها كانت أضعف حلقة في سلسلة الحصار، وكان حاكم الكويت الشيخ سالم الصباح من كبار المستثمرين تجارة بلاده، وبالتالي المستغلين عملية التهريب. ومع أن الكويت في حوزة الإنكليز فلم يتمكنوا من إحكام النطاق الحربي عليها، فاضطروا في النهاية أن يحددوا وارداتها فلا تتجاوز الكمية المعروفة قبل الحرب.
ومع ذلك فقد كان يتسرب إلى العدو قسم كبير منها، فبذلوا المال في العشائر للمصادرة، واشتروا كبار المهربين مثل ماجد بن عجيل وضاري بن طوالة.
ترى البحث يجرنا إلى مهمة المستر فلبي الثانية، فقد عاد عن طريق الهند والبصرة في ربيع 1918، وخرج إلى البادية ينشد المصادرين، وفي قافلته جمال تحمل أكياسا من الفضة. وكان ضاري بن طوالة قد انخرط في السلك الإنكليزي لقاء مشاهرات معلومة، ووظيفته مصادرة البضائع التي كانت تصل إلى الشام بواسطة ابن الرشيد في حائل، ولكن ضاري شيخ من مشايخ شمر وشمر هي ظهر ابن الرشيد. فهل يلام إذا صادر أعداءه فقط؟
جاءه فلبي وهو في الحفر - جاءه يحمل النقود، عاقدة العهود والناقضة لها. فشكى ضاري إليه ضيق الحال، وفقر الرجال: «والحاجة يا فلبي شديدة إلى المال.» أناخ فلبي جماله، جمل الله حاله، فابتسم الضاري وقال: «والله يا فلبي حنا رجالك.» فقال فلبي: «قوموا إذن وارحلوا معي إلى ابن سعود.» فامتثل ضاري الأمر، وشد الرحال، فركب في موكبه ستون من رجاله. جاءوا والمستر فلبي يتوددون إلى ابن سعود ويقطعون له العهود. فاجتمعوا به على غدير يدعى الشوكي، واتفقوا أن تكون المصادرة عامة بدون تمييز. وأقسم ضاري يمينا مغلظة أن شمر العراق تكون دائما أبدا مخلصة للإنكليز ولابن السعود، ثم أرسل ماجد بن عجيل شيخ العبدة رسوله إلى عبد العزيز يطلب الصلح، فقال له: «إني أنذركم يا أهل شمر، فإذا كنتم مخلصين لنا تعالوا أقيموا في كبدي، وأما إذا كنتم تفاوضون الإنكليز وتساعدون الترك فأنا عدوكم والله، وقاهركم إن شاء الله.» - «أما حائل يا مستر فلبي، فإذا تركتم أمرها لي فأنا أعالجه بالسياسة، وإذا ألححتم فعليكم بالمدد.»
لم يكن المدد المقصود المال، بل الأسلحة والذخيرة، وهي يومئذ قليلة عزيزة، ثم قال عبد العزيز: «حائل في فكرنا دائما، ولكن حائل جدار ونار. ترى الصحيح. إن ابن الرشيد محصن فيها وراء الجدران والمدافع.»
عاد المستر فلبي مع ابن سعود إلى الرياض، وكانت المفاوضات والمباحثات متواصلة. قال عبد العزيز: «إني قادر أن أمنع ابن الرشيد عن محاربة الشريف، وهذا جل ما تبغونه الآن، ولكن العهد الذي بيني وبين شمر يوجب التربص. فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم. فإذا رجع ابن الرشيد وكان حليفا لنا، فذلك خير. تتحقق المقاصد بدون قتال. وإلا فنحاربه.»
أما العهد الذي أشار إليه فهو أن عبد العزيز - بعد سفر فلبي إلى الحجاز - شد على ابن الرشيد الذي كان يومئذ على الحجر عند الترك، ولكن مشايخ قبائله جاءوا ابن سعود يعاهدونه على الطاعة والولاء. ودليل صدقهم كما قالوا هو أن ابن الرشيد طلب منهم أن يحاربوا مع الترك الشريف فأبوا، وقد تعاهدوا وابن سعود أنهم ينذرون ابن الرشيد: «فإذا قدم من الحجر وكان معك يدا واحدة فنحن عشائره وعشائرك، وإذا رفض الرجوع فنحن معك عليه.»
لبث عبد العزيز ينتظر الجواب من مشايخ شمر، ولم ير أن يبقى المستر فلبي أثناء ذلك عنده في الرياض، فصارحه في الأمر، فرغب فلبي في رحلة علمية إلى وادي الدواسر. أذن عبد العزيز بذلك، ورحله مصحوبا برهط من المحافظة في شهر رمضان، فعاد إلى الرياض في الشهر التالي (صيف 1918).
وكان قد جاء الجواب من ابن الرشيد يرفض مطالب رؤساء شمر، فشد عبد العزيز يريد الزحف إلى حائل، وكان المستر فلبي مرافقا للجيش، ولكنه لم يكن مثل مواطنه المأسوف عليه شيكسبير الذي حضر معركة جراب وشارك في القتال، وفي الضحية.
تخلف فلبي في القصيم، وتقدم عبد العزيز بجيشه إلى حائل. بيد أنه لم يكن القصد يومئذ غير أن يشغل ابن الرشيد فيمنعه عن مناوشات العرب الذين كانوا يحاربون مع الأحلاف في شرقي الأردن. فلما وصل إلى ماء ياطب في أطراف حائل، رأى جموعا كبيرة من العربان وقد حالوا دون أمنيته، ولكنه هاجمهم فأصاب منهم مغنما، وعاد فنزل على ماء آخر قريب من المدينة، فخرج ابن الرشيد في آخر النهار يريد الهجوم عليه ليلا، ثم عدل عن قصده وقفل راجعا بدون قتال.
كان قد بدأ الجنرال آللنبي في الهجوم العام على الترك في فلسطين وشرقي الأردن، وكان الترك يستنجدون ابن الرشيد، فعدل عن محاربة ابن سعود. من المألوف في مثل هذه الحال أن ينهض الجيش المهاجم فيتأثر الجيش المتقهقر ويجتز ساقته، ولكن ابن سعود لم يفعل ذلك، بل عاد في اليوم التالي إلى القصيم وقصده أن يجمع قوة أكبر من تلك التي كانت معه فيقسمها إلى قسمين، قسم لمنازلة عربان شمر وقسم لمهاجمة حائل، ولكنه مثل خصمه عدل أيضا عن قصده. والسبب في الحالين هو ما أحرزه جيوش الأحلاف والعرب في هذا الشهر (ذي القعدة / أيلول) من النصر في فلسطين وسورية، فوصل الخبر كالبرق إلى البلاد العربية.
دخل العرب الشام ظافرين! فر الترك منهزمين! فاز الأحلاف الفوز المبين. سلم الألمان. عقد الصلح! وما بال العرب لا يتعظون ويتصالحون!
اتعظ العرب. فقد توقف في ذاك الحين ابن الرشيد وابن سعود عن القتال وعقدا فوق ذلك - مثل الأحلاف والألمان في فرساي - صلحا صغيرا.
الفصل السابع والعشرون
وقعة تربة ومقدماتها
بعد أن سلمت المدينة
1
كتب الأمير عبد الله ابن الملك حسين إلى أمراء العرب يخبرهم بذلك، وأرسل إلى ابن سعود الكتاب الآتي:
إلى حضرة المحترم المكرم الأمير عبد العزيز بن سعود الفيصل
وبعد، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، ثم أخبرك بأن الله فتح لنا أبواب مدينة خير البرية، وأن حاميتها قد أسرت، واستولينا على جميع ما فيها من السلاح الثقيل والخفيف، وجميع الأملاك والآلات والأدوات العائدة للحكومة الغابرة. كما أن فخري باشا
2
قد اعتقل في بئر درويش. وأما العساكر فبادرنا بنقلهم إلى بلادهم. ولا يخفى على مدارككم بأنه لم يبق، والحالة هذه، شاغل ما يشغل حكومة صاحب الجلالة - أدامه الله وأيده - عن الالتفات لإصلاح داخليتها وشئونها والتنكيل بمن يسعى للإفساد والتخريب من العشائر التابعة لها. والسلام عليكم ورحمة الله.
في 13 ربيع الآخر 1337.
قائد الجيوش الشرقية
الختم: الأمير
قال: إني عبد الله
وقد كتب ابن سعود إليه كتاب تهنئة دعاه فيه للتفاهم بخصوص العشائر، وأكد له أنه لا يبغي غير السلم إذا كان هو من المسالمين. فجاءه الجواب الآتي:
إلى جناب سامي الرحاب الشهم الأوحد والهمام الأمجد، الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، سلمه الله.
وبعد الديباجة المفعمة بالتودد والتبجيل يقول:
إني منكف (راجع) إن شاء الله تعالى إلى الوطن في الأسبوع القادم لأكون بخدمة صاحب الجلالة الهاشمية، أدام الله نصره. وإني أرجوكم أن تبلغوا سلامي إلى معالي والدكم الجليل والأنجال والإخوان الكرام. ومن لدينا حضرة صاحب السمو الملكي سيدي الأمير علي - نصره الله - يهديكم جزيل السلام.
في 3 جمادي الثانية 1337.
قائد الجيش الشرقي الهاشمي
الختم: الأمير
ومع هذا الكتاب كتاب مثله لهجة من جلالة الحسين، و«ملحق خير» من سمو الأمير فيه ما يأتي:
إني أخوكم الصادق ومستعد لمساعدتكم بما تأمرون، ولا يجوز أن يفرق بينكم وبين والدي أمور البادية التي لا أهمية لها ... وكيف يمكن أن يحدث خلاف بين رجلين كبيرين بخصوص تربة والخرمة والبادية؟ ها أنا متوجه إلى مكة فأرجوكم أن ترسلوا أحد رجالكم، وإن ارتأيتم أن يكون أحد أنجالكم فذلك أولى، وأنا كفيل النجاح بحسم الخلاف والاتفاق مع سيدي الوالد.
ولكن أحد العقيلات
3
الذين كانوا في الحجاز جاء يخبر عبد العزيز أن الأمير عبد الله يتأهب للزحف إلى تربة، ثم جاءه آخر يقول: إن الأمير خرج من المدينة ووجهته تربة. فكتب عبد العزيز إلى حكومة بريطانية العظمى بواسطة مندوبها في العراق يخبرها بمقاصد الملك حسين وقائد جيشه ابنه عبد الله. فجاءه الجواب أن ذلك من الإشاعات التي لا صحة لها.
كتب ابن سعود ثانيا يقول ما معناه: إني متحقق ما أخبرتكم به، وما أخبرتكم خوفا أو شكاية، بل لتكونوا عالمين بالحوادث، وبما قد يعقبها. وكتب ثالثا يخبر المندوب السامي أن الأمير عبد الله مشى بجيشه من المدينة ووجهته تربة، فلم يجئه جواب الكتاب الأخير.
وكان قد جهز سرية مؤلفة من ألف ومائتي هجان بقيادة سلطان بن بجاد أمير الغطغط، فأمرها إذ ذاك بالسير إلى الخرمة وتربة للمحافظة على أهالي تلك الناحية، وأمر ابن بجاد والعالم المرافق السرية بأن تكون خطتهما الدفاع لا غير.
ثم أرسل بعض العقيلات متجسسين، وأمرهم بأن يخبروه خصوصا بما يفعله الأمير عندما يصل إلى عشيرة. فإذا ترك عسكره هناك ودخل مكة كان فيما كتب صادقا، وإذا استمر سائرا كان جوابه خدعة.
زحف الأمير عبد الله بجيشه من المدينة جنوبا إلى عشيرة
4
فوافاه إليها جلالة الملك والده. وبعد المفاوضة عاد الحسين إلى مكة واستأنف عبد الله السير جنوبا، فخيم في شعب يدعى البديع في جبل حضن.
حدثني سمو الأمير قال: «لم يكن من رأيي مهاجمة تربة، وقد حاولت أن أقنع جلالة الوالد بالعدول عن عزمه، ولكني كقائد الجيش الهاشمي مطيع لأوامر مولاي. حتى إني كتبت إليه بعد أن تذاكرنا في عشيرة، ولبثت في البديع أنتظر جوابه فلم يكن غير الأمر بالزحف.»
وكان قد كتب الأمير عبد الله في أوائل شهر رجب إلى ابن عمه الأمير عبد الله بن محمد وهو يومئذ في الخرمة أو في جوارها الكتاب الآتي:
بعد السلام ورحمة الله وبركاته كتابكم رفق عائض بن جوير وصل وعلم مضمونه وعيال مهزي الصغار نوخوا البارح على صاحب الجلالة وأخبرونا بالكون (الإغارة) عليهم وبكسرة الوهابية. ولا شك أن العرب إذا صدقوا اللقاء كسروا المغير عليهم. هذا أمر ثابت. وحسب الرغبة، أمر صاحب الجلالة بإنقاذ ابن مهزي، فاخترنا مائتين من الجعدة مع غالب بن عنيز يمشون غدا أو بعده إن شاء الله ... (كلمة مبهمة) أمير الخرمة السيد غازي الحارث من السطوة في البلاد الآن. فبعد وصولي بالقوة الكافية إليكم نردها بما تستحقه والتوفيق بيد الله. هذا ما لزم ودمتم ونحن على ممشى في هذين اليومين.
في 3 رجب 1337 الأمير القائد
عبد الله
مشى بعد كتابة هذا الكتاب من عشيرة إلى جبل حضن فخيم في البديع، وجاء ابن سعود في أواخر هذا الشهر أو في أوائل شعبان أحد عقيلاته يخبره بذلك، فكتب إلى الأمير كتابا في 10 شعبان قال فيه:
قد تحقق عندي خلاف ما أخبرتني به سابقا ؛ أي إنك عائد إلى مكة المكرمة، والظاهر أنك مهاجم تربة والخرمة. وذلك مخالف لما أبديتموه للعالم الإسلامي عموما، والعربي خصوصا. واعلم، رعاك الله، أن أهل نجد لا يخذلون إخوانهم، وأن الحياة في سبيل الدفاع عنهم ليست بشيء. نعم، وإن عاقبة البغي وخيمة. خير لك إذن أن تعود إلى عشيرة. وأنا أرسل إليك أحد أولادي أو إخوتي للمفاوضة، فتتم الأمور على ما يرغب به الفريقان، إن شاء الله.
الكتاب طويل تدرك مباحثه من جواب الأمير الذي فيه كل الخبر، وهو في عنوانه يعود إلى لهجة الكتاب الأول الرسمية.
من عبد الله ابن أمير المؤمنين الحسين بن علي إلى حضرة أمير نجد ورئيس عشائرها عبد العزيز سعود دامت كرامته
وصلني خط الجناب الموقر المؤرخ 10 شعبان فتلوته وفهمته، فلم أجد فيه ما استغربته واستعذبته. تقول: إني بينما أكتب إليك مسالما أجر الأطواب على المسلمين، وإن مظهري هذا أثار ثائر الناس علينا. وإنك - دامت مدتك - خرجت فزعا إلى أن يأتيك مني الجواب. وإليك به وهو ينطق بلسان صاحب الشوكة والدي وحكومته.
أولا:
أظن أن صاحب الشوكة سيد الجميع يرحب بكل من يطلب كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
ويحيي ما أحيا الكتاب والسنة، ويميت ما أماته الكتاب والسنة؛ لأن هذا دأبه ودأب أجداده منه إلى صفوة الخلق، عليهم سلام الله.
ثانيا:
لا أذكر أن أحدا منا وقع على كتاب ذكر فيه أنك أو أحد آل مقرن من الخوارج، أو أنكم لستم من ملة الرسول.
ثالثا:
كل من شق عصا الطاعة من رعايا صاحب الشوكة وعثا في الأرض فسادا يستحق التأديب شرعا، شخصا واحدا كان أو ألف شخص.
رابعا:
اعلم وتيقن أن نيتنا نحوك ونحو أهل نجد نية خير وسلام.
خامسا:
أما قولك إن الناس نفروا جميعا لحربنا؛ إناثهم قبل رجالهم، فأذكرك بقول الله تعالى ... فإن جاءونا (أي عرب برقة والروقة الذين أنذرهم) بنية حسنة فنحن لهم وهم لنا يا عبد العزيز قبل أن ينزل أجدادك بنجد. وإن بقوا فلكل باغ مصرع، وإن الله مع الصابرين.
سادسا:
تأمرني بالرجوع إلى ديرتي من أرض هي لأبي وجدي، ومتى كنت تمنع الناس عن ديرتهم؟ جزيت خيرا، ولكن هل تذكر أن رجلا من قريش ثم من بني عبد مناف، ثم من بني هاشم، جده الرسول وعلي بن أبي طالب يقعقع له بالشنان
5
ويروع بمثل هذه الأقاويل؟
سابعا:
تقول إني لو ألتمس رجلا في نجد يرجح الحياة على الموت في سبيل الله لما أجده. فكان الأوفق لهم إذن أن يأتونا ويجاهدوا الأتراك معنا عن بيت الله ومسجد رسوله حتى ينال الشهادة منهم من كتب له، ثم بعد ذلك تردون يمنا النظر.
ثامنا:
أخبرتك في كتابي بفتح المدينة المنورة بأنني متوجه إلى الوطن لتأديب العصاة، وسألتك هل أنت على عهدي بك أم تغيرت نياتك فجاءتني نجاجيبك بجواب منك فيه الميل إلى التقرب والمسالمة فرجوت خيرا وعززته بالجواب الثاني. فجاء ثاني كتبك لي ومثله لوالدي ولأخي ملؤها المودة المؤكدة باليمين وكل ذلك محفوظ. فما حملك الآن على تغيير لهجتك؟ أمن أجل أننا نؤدب رعايانا ونصلح ما فسد في قبائلنا؟
تاسعا:
إن كنت تنوي الخير للمسلمين كما زعمت فاردد الذين أمرتهم ببيع مواشيهم، وبنيت لهم الدور (يريد الهجر) وأخل أنت مكانك الذي وصلت إليه وانحر (عد إلى) ديرتك ولك علي ألا أمس أحدا من أهل نجد بسوء.
إني مرسل إليك كتابي هذا مع أحد نجاجيبك وهو القسماني، وأبقيت الآخر ليأتيك بخطاب صاحب الشوكة والدي والسلام.
في 23 شعبان 1337.
القائد العام للجيوش الشرقية الهاشمية
الأمير الختم
تربة والخرمة! لا بد عند هذا الحد من كلمة في هاتين البلدتين وقد أثارتا الحرب بين نجد والحجاز. الخرمة هي على مسافة خمسين ميلا من حضن إلى الشرق، وتربة هي على مسافة خمسة وسبعين ميلا منه إلى الجنوب. وجبل حضن هذا هو في التقاليد الحد الفاصل بين نجد والحجاز. فقد جاء في الحديث: من رأى حضنا فقد أنجد.
من هذه الوجهة إذن تكون البلدتان في نجد، ولكن أصحاب السيادة فيهما من أشراف الحجاز، فادعى الملك حسين رعايتهم. ومن الوجهة الأخرى إن الأهالي من بدو وحضر وفيهم الأشراف تمذهبوا في الزمن الغابر بالمذهب الوهابي؛ فلهذا السبب أيضا يدعي ابن سعود أنهم من رعاياه، وكلهم بدو وحضر لا يتجاوزون الخمسة والعشرين ألف نفس.
الأمير عبد الله ابن الملك حسين أمير شرقي الأردن.
تعلو الخرمة الكائنة في وادي سبيع ثلاثة آلاف وخمسمائة قدم عن البحر وعدد سكانها خمسة آلاف، ثلثاهم من العبيد المعتوقين، والثلث الآخر من عرب سبيع،
6
أما الأشراف فلا يتجاوزون الثلاثمائة نفس، ولكن أهميتها لا تقاس بعدد سكانها؛ لأنها كائنة في طريق التجارة بين نجد والحجاز، بل هي محطة تجارية لتجار الوشم والقصيم.
أما أمير الخرمة الشريف خالد بن منصور فهو من بني لؤي؛ أي من أقارب الملك حسين، ولكنه من المتصلبين في الوهابية؛ لذلك لم تصف الصلات بين الشريفين، بل أثمرت لخالد ثأرين، فقد حدث خلاف بينهما في سنة 1336 حمل جلالة الملك على حبس خالد، فاشتعل في صدره الثأر الأول، ولكنه غطاه لحين برماد النسيان، وراح يساعد الأمير عبد الله في حصار المدينة.
وهناك حدث خلاف بينه وبين الأمير وتكررت الإساءة التي لا مجال لذكرها، فتكلم خالد منذرا؛ فغضب الأمير وصفعه بيده، فسفي الرماد عن الثأر الأول والتهب مقرونا بالثأر الثاني.
جاء خالد إلى الرياض في آخر سنة 1336 يحذر ابن سعود من مساعي الحسين ونجله عبد الله ويستنجده عليهما. وقد حدث في السنة التالية (1918م) ما حقق قوله؛ لأن الأمير أرسل أربع حملات على الخرمة بقيادة الشريف شاكر وكان نصيبها كلها الفشل.
أما تربة فسكانها من عرب البقوم، وفيها مثل الخرمة عدد من الأشراف يملكون أكثر أرضها، وكلهم بدو وحضر وعبيد من أتباع ابن سعود منذ أيام سعود الأول. بيد أن قسما منهم انضموا إلى جيش الحجاز في الحرب العظمى، ثم انقلبوا على الحسين لأسباب دينية ومالية فآلى على نفسه تأديبهم، ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن انتهت الحرب.
ومع أن تربة قرية لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة آلاف فهي ذات أهمية؛ لأنها في الطريق إلى الطائف. هي باب الطائف من الوجهة النجدية، وحصن الطائف من الوجهة الحجازية. ويتبع تربة «سهل شرقي» إلى الشمال الشرقي من مستنقعات البقوم، وعدد سكانها ثلاثة آلاف من البادية، وحول هاتين القبيلتين السبيع والبقوم وقراهما تسرح وتمرح قبيلة عتيبة الكبيرة.
نعود الآن إلى الجيش الزاحف إلى تربة، فقد بالغ الرواة في تقديره، فقال بعضهم: إنه كان مؤلفا من سبعة آلاف من النظام وثمانية آلاف من البدو. أما الحقيقة فهي أنه لم يتجاوز كله السبعة آلاف، منهم ألفان من النظام والباقي من البدو.
ولكنه كان كافيا لغرض الأمير، فقد دخل تربة بدون قتال يذكر، دخلها في 24 شعبان؛ أي بعد يوم واحد من الكتابة إلى ابن سعود (1337ه / 1919م)، والذي مكنه من ذلك هو أنه كان قد استخدم بعض عربان البقوم في جبل حضن؛ ليدخلوا البلدة مدعين أنهم جاءوا يحذرون أهلها من الأمير ويستنهضونهم على محاربته، بل قالوا للمدافعين إنهم جاءوا يحاربون معهم، فأنزلوهم في الحصون مع من تحصنوا فيها، فما لبثوا أن انقلبوا عليهم فاستولوا على أسباب الدفاع وصاحوا بالناس: الملك للشريف!
وفي تلك الساعة في صباح الرابع والعشرين من شعبان (24 مايو 1919) دخل الأمير بجيشه فصادف لأول الأمر بعض المقاومة، فأمر بإطلاق المدافع والرشاشات على المقاومين، فتشتتوا ثم فروا هاربين إلى الحرة جنوبي البلد .
دخل الأمير ظافرا فوزع جيشه في جوار تربة وحولها، وكانت ساعة لرجاله إباحية فنهبوا البلدة وأفسدوا فيها ما شاءت الشهوات والأهواء. وقد أمر في ذاك اليوم بقتل بعض المشايخ واثنين من التجار النجديين وبمصادرة أموالهم، ثم كتب من مخيمه في الجهة الغربية إلى رؤساء البادية في تلك النواحي خصوصا في رنية، يخبرهم بما حل بتربة، ويهددهم بمثل ذلك إذا كانوا لا يجيئونه طائعين صاغرين. ومن هذه الكتب الكتاب التالي:
قيادة الجيوش العربية الشرقية
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله ابن أمير المؤمنين الحسين بن عون إلى المكرم فيحان بن صامل.
أما بعد، فإني أحمد الله إليكم ... ثم أخبرك بأنا وفقنا الباري - سبحانه وتعالى - فأطفأنا نار الخارجة التي في تربة ومزقناها كل ممزق، وضربنا أعناق أرباب الزيغ والنفاق ومن جملتهم الطعامة وابن مسيب نزيل قريتكم. وإن هذه الفتنة التي أثارها خالد بن منصور بلا لازم ينعاه، أو حق يطلبه وأدخلكم فيها، نأمركم بتركها والإسراع بالركوب إلينا وكف كافة سبيع أهل رنيه، بدو وحضر، عن الاستمرار فيها. ونأمركم بجلب شيوخ الزكور (قبيلة من القبائل) معكم إلينا في ست ليال للاستئمان من سطوتنا. وإن لم تفعلوا فسأميل ميمنة البيرق المنصور عليكم مستعينا بالله تعالى مستنجدا عظيم قدرته. ولا تكتم إنذاري هذا عن كل صغير وكبير؛ لأني سأسألك عنه حين لا تنفعك الندامة، والسلام على من اتبع الهدى.
في 24 شعبان 1337.
القائد العام للجيوش
الشرقية الهاشمية
الختم
وفي كتاب إلى ماضي بن قاعد ومحمد أبرق نقيش يقول:
ما خفي عليكم ما حل بتربة من ذبح الرجال وتدمير المال، بعد أن طغى أهلها وبغوا. وأنتم يا أهل رنية، بدو وحضر، إن ما كفيتم طوارقكم وركبتم إلي في ست ليال مع شريفكم وإلا حزمتكم حزم السلم وطردتكم طرد غرائب البل (إبل) وعاقلكم يعلم جاهلكم. ولولا مشاري بن ناصر وغازي بن محمد لكان صباحي يسبق كتابي إليكم، والسلام على من اتبع الهدى.
استقر الأمير ذاك النهار في المخيم المنصور، وبعد إرساله كتب التهديد إلى رؤساء القبائل أذن لنجاب ابن سعود أن يعود بالجواب الذي ذكر، وكان قد علم بأن السرية التي جاءت إلى الخرمة أي جيش ابن بجاد وخالد، قد مشت منها إلى مكان يدعى القرنين، وهو على مسير أربع ساعات من تربة، فزود النجاب برسالة شفاهية أيضا: «أخبر الخوارج ومن التف حولهم في القرنين بما جرى. قل لهم إننا سنكفيهم مئونة القدوم إلى تربة. قل لهم ما جئنا تربة من أجل تربة والخرمة فقط ... سنصوم في الخرمة - إن شاء الله - وسنعيد عيد الأضحى في الحساء.»
ركب النجاب الظهر، فوصل إلى القرنين بعد صلاة العصر، فأحاط به الإخوان مستخبرين. شق النجاب جيبه وأخبرهم بما جرى، وبما فاه به الشريف، فما كاد يتم كلامه حتى صاحوا صيحة واحدة: إياك نعبد وإياك نستعين! وهم يريدون الهجوم. فسكن العالم والقائد روعهم. قال ابن بجاد: «كيف نتجاوز أمر صاحب الأمر، فهو لم يأمرنا بغير الدفاع.»
ولكنه كان قد نسي كتابا جاء من ابن سعود، وفيه ما معناه: إذا جاءكم الخبر بمسير الشريف إلى مكة، فالزموا مساكنكم إلى أن يأتيكم مني أمر آخر. وإذا علمتم بأنه تجاوز حدود تربة فإني آذنكم أن تفضوا كتابه وتقرءوه فتروا فيه رأيكم.
ما كانوا في حاجة إلى استماع كتاب الأمير وقد سمعوا كلماته من فم النجاب، ولكن العالم عمل بالأمر العالي، فصاحوا وهو يتلو الكتاب عليهم: إياك نعبد وإياك نستعين! وشدوا في تلك الساعة الرحال. «هبت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!»
مشوا قبل صلاة المغرب بساعة وهم مع من انضم إليهم ألف وخمسمائة مقاتل.
قال الراوي وهو من أهل الحجاز: «جاء الأمير عبد الله في ذاك اليوم رجل من البادية يقول: تحذر يا شريف، المتدينة في الخرمة هاجمون عليكم، فغضب الأمير وأمر بقطع عنقه.» وفي رواية أخرى أنه أمر دخنا كبير عبيده بضربه، فضربه حتى الموت.
في كلا الحالين نام الأمير تلك الليلة خالي البال مطمئنا، وكان الإخوان قد علموا من رسول ابن سعود كيفية توزيع جيش الأمير، فانقسموا إلى ثلاث فرق قبل أن يصلوا إلى نخيل تربة؛ أي فرقة الخيالة، وفرقة خالد، وفرقة ابن بجاد، وعندما وصلوا البلد في منتصف ليلة (25 شعبان / 25 مايو) هجموا هجمة واحدة ساكتين مستشهدين.
تقدم خالد ورجاله، وفيهم من شردوا من تربة، فدخلوا الباطن وقصدهم الاستيلاء على مخيم الأمير. مشوا وسلاحهم الأبيض يلوح في ظلام شفاف فاصطدموا بالسرية الأولى من الجيش الحجازي وذبحوا رجالها كلهم، وكذلك الثانية، ثم هجموا على السرايا المقيمة عند مخيم الأمير ففتكوا بها فتكا ذريعا.
وهجم ابن بجاد برجاله - وكلهم من أهل الغطغط - على الجنود النظامية وراء المتاريس والأطواب فكانت السيوف تشتغل كالمقاصل، وكان ابن الغطغط يثب على المدفع فيذبح الضابط المقيد وراءه بالحديد، ولكن هول الفوضى والظلام كان أفظع من التذبيح؛ فبطش الجنود بعضهم ببعض وهم يظنون أنهم يبطشون بالإخوان.
أما فرقة الخيل فقد قطعت خط الرجعى خصوصا على حرس الأمير، فلم ينج منهم غير الأمير نفسه وبعض الضباط، ونجاب ابن سعود الثاني. فر الأمير عبد الله قبل أن يصل خالد ورجاله إلى سرايا المخيم، فثبت بعضهم في النضال ليردوا العدو عن تعقبه، وسقط من حاول الفرار صريعا بين سنابك الخيل.
أما الذين نجوا من الذبح تلك الليلة ولم يستطيعوا الفرار فقد التجئوا إلى حصن من حصون البلد، فهجم الإخوان عليهم في اليوم التالي وجعلوا خاتمة المذبحة كأولها، فتراكمت الجثث بعضها فوق بعض، وكان من اللاجئين إلى ذاك الحصن الشريف شاكر فكتب له النجاة، ونجا معه شاب من الأشراف اسمه عون بن هاشم اجتمعت به في جدة، في رحلتي الثالثة إليها، وهو يومذاك في العشرين من سنه. فقد كان عمره يوم شهد تربة خمس عشرة سنة. قال الشريف عون بن هاشم يحدثني عن هول ذاك اليوم: «رأيت الدم في تربة يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنها والله حمراء. ورأيت القتلى في الحصن متراكمة قبل أن طحت من الشباك. ومن أعجب ما رأيت يا أستاذ، رأيت الإخوان أثناء المعركة يدخلون الجامع ليصلوا ثم يعودون إلى القتال.»
لم ينج من جيش الأمير النظامي غير ستة ضباط واثني عشر جنديا، ولم ينج من البدو غير من سلموا أو انضموا إلى جنود خالد، وأكثرهم من عتيبة، وعددهم لا يتجاوز الألف. فيكون الموت قد تقاضى خمسة آلاف نفس بشرية جزاء جهل الإنسان وغروره، بل خمسة آلاف وخمسمائة؛ لأن الإخوان دفعوا قسما من الضريبة، فقد خسروا أربعمائة من رجال الغطغط ومائة من أهل تربة والخرمة.
قال الأمير عبد الله في كتابه الأول إلى ابن سعود ينبئه بتسليم المدينة: «واستولينا على جميع ما فيها من السلاح الثقيل والخفيف وجميع الأملاك والآلات والأدوات العائدة للحكومة الغابرة.» استولى عليها في ربيع الثاني، ثم خسرها بعد أربعة أشهر فاستولى عليها ابن سعود!
ولكن ابن سعود لم يعلم بذلك إلا بعد الوقعة بخمسة أيام. فقد كان قادما من نجد بجيش عدده اثنا عشر ألف مقاتل، فالتقى وهو في الطريق بين ماء القنصلية والخرمة بالنجاب الشارد فقص عليه الخبر.
استمر عبد العزيز سائرا إلى الخرمة ومنها إلى تربة، فبكى عندما شاهد فيها حصاد الموت. وعندما صاح جنود خالد وابن بجاد: إلى الطائف! رخص لنا بالطائف. منعهم قائلا: «كفى الباغي جزاء بغيه.»
أقام عبد العزيز خمسة عشر يوما في تربة، وقد جاءه في اليوم العاشر برقية من الحكومة البريطانية بلندن بواسطة وكيلها السياسي بجدة تسأله فيها ألا يتقدم إلى الطائف. فعلت ذلك إكراما للملك حسين وإجابة لطلبه، وكان ابن سعود في نظرها كريما.
الفصل الثامن والعشرون
البدو والهجر
قد شاهدنا للمرة الأولى - في وقعة تربة - روحا جديدة في القتال، روحا نجدية دينية مجسمة في الإخوان، روحا قهارة، هي بنت الهول والاستشهاد، قلما تغلب أو ترد. وفي كلمة كتبها الأمير عبد الله إلى ابن سعود سر هذه القوة، قال الأمير: «فاردد الذين أمرتهم ببيع مواشيهم وبنيت لهم الدور.»
هي أول إشارة في هذا التاريخ إلى الهجر. والهجر مهد الإخوان، والإخوان جيش ابن سعود الديني القومي، جيش التوحيد.
وما هي الهجر وكيف أسست وما الذي دعا لتأسيسها؟ ومن هم البدو ومن هم الإخوان؟ سنبدأ مجيبين على هذه الأسئلة في كلمة على البدو، فنتطرق إلى الهجر وأهلها. البدو منذ القدم غزاة، عصاة، عتاة، ولهم غريزة دينية غذتها الخرافات، ومطامع تكاد تنحصر بالأقوات. فهم يسارعون إلى القتال في سبيل الله كلما نفر النافر وضاق بهم العيش.
ولكنهم في طاعتهم وإخلاصهم وفي جهادهم وولائهم لا يحتملون فوق طاقتهم، وقلما يفادون بشيء من أشيائهم. يحاربون ويشردون ويخونون. وهم وإن غالوا في دينهم لا يثبتون، بل إنهم في الردة سريعون.
وقد رأى الرؤساء منذ القدم؛ نظرا لغريزتهم الدينية وإن تلونت، أن يستلوا عليهم سيف الألوهية قبل السيف الذي يرى. دعاهم مسيلمة فلبوه، ثم دعاهم الشيخ طاهر القرمطي فحاربوا معه كالبنيان المرصوص، ثم تشتتوا بعد كسرة القرامطة، فجاءتهم من البصرة والنجف عقائد في الدين جددت في جمع شملهم وتعزيز أملهم، فبنوا القباب فوق القبور، وعلقوا الرقاع على الأشجار، سبحان من هو صديق للواحد القهار.
ثم جاء ابن عبد الوهاب يعلمهم أن التسبيح لا يجوز لغير الله الواحد القهار. جاء يعلمهم التوحيد واستعان على ذلك بسيف ابن سعود، فقاموا يحاربونه مع ابن الدواس وابن العريعر، وكانوا مدحورين. جمعهم ابن سعود تحت علم التوحيد، فوحدوا الله وأقسموا أن لا شريك له، ولكنهم في كل أطوارهم بدو، والبدو مثل ذي الأجنحة طيارون، أو إن لهم مزية الزئبق، فيجتمعون ويفترقون، وأنت تتلو الفاتحة. لا يحملون شيئا في جيوبهم ولا في قلوبهم، بل لا جيوب لهم ولا قلوب. رفاقك في الطريق اليوم وأعداؤك غدا. ولا أظنهم لولا الجنة والحوريات يخضعون لرب الكائنات. قد أكون مخطئا بهذا وهم يكثرون من ذكر الله في كل حالاتهم.
ولكن النبي نفسه أنبهم ولم ينفعهم التأنيب، فقد جاء في القرآن:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا .
أما الدين عندهم فكالرداء يلبسونه ردحا من الزمن، فيغسلونه مرة أو مرتين ثم يلبسونه مقلوبا، ثم ينبذونه وقد تمزق نبذ النواة: «كيف نتوضأ ونحن نبغي الماء للشرب؟ ولم الصوم والسنة كلها عندنا رمضان؟ ولم الصلاة وليس لله وقت ليسمعنا؟»
وكذلك كانوا في ولائهم لهذا الأمير أو ذاك. فما الفرق وربك بين ابن مقرن مثلا وابن هاشم، أو بين ابن الصباح وابن الرشيد؟ هم كلهم عرب، يقيمون في بلاد العرب، ويغزون غزو العرب، ونحن إن حاربنا مع هذا أو ذاك عرب.
ما تغير البدو منذ أيام الرسول ومنذ أيام مسيلمة وأبي طاهر. دينهم حاجات لذلك الردات. وولاؤهم غايات لذلك الخيانات. وقد تبين لقارئ هذا التاريخ فيما سردناه من حوادثهم، وسجلناه من حروبهم، أنهم لم يتغيروا حتى بداية القرن العشرين. فقد طالما ارتدوا، وخانوا، وعادوا تائبين منذ أيام عبد العزيز الأول إلى أيام عبد العزيز الثاني. وهم كما وصفناهم لا يوالون طويلا، ولا يعادون طويلا. لا يثبتون ولا يسكنون ولا يستقيمون في مسراهم أو في مغزاهم.
البدو سيف في يد الأمير اليوم، وخنجر في ظهره غدا. مجاهدون إذا قيل غنائم، متمارضون إذا قيل الجهاد. وكذلك كانوا عند ظهور عبد العزيز الثاني وفي حروبه الأولى وغزواته. كانوا يحاربون ما زالوا آمنين على أموالهم وأنفسهم، ويفرون شاردين عند أول خطر يلوح؛ لذلك كان ابن سعود يقدمهم في القتال ويدعمهم بالحضر، يحمي ظهرهم ليؤمن انقلابهم وتقهقرهم. فهم إذ ذاك أشداء ثابتون في النضال. وبكلمة أخرى هم شجعان إذا كان لهم ظهر، وإلا فالفالتة لنا والفرار علينا. جاء في أمثال العرب: البدوي إذا رأى الخير تدلى وإذا رأى الشر تعلى. ولكن البدوي وحده يدافع عن نفسه وبعيره حتى الموت وإن كان خصمه قبيلة بأسرها. أما البدوي في الجيش فقد كان مشكل ابن سعود الأكبر.
وقد حل عبد العزيز هذا المشكل بطريقة جديدة لم يسبقه إليها أحد من ملوك العرب قديما أو حديثا، فهو من هذا القبيل المصلح الأكبر في العرب.
أجل قد حارب البدو وغلبهم كما فعل أجداده، وأدخلهم في دين التوحيد كما فعل أجداده، ولكنه لم يقف مثلهم عند هذا الحد. قال: امسكوا الخونة. فقالوا: الفلا منجى. وها هنا نجوة التجلي. فقد تجلت لعبد العزيز الحقيقة التي خفيت على سواه، وهذه الحقيقة هي أن البدو لا يثبتون ، ولا يطيعون، ولا يخلصون، البدو هم بدو، لأنهم لا يملكون شيئا من الأرض، ولا يسكنون بيوتا ثابتة. إذن سنعطيهم أرضا ونساعدهم في بناء البيوت، سننقلهم من البادية إلى المدينة، سنقيدهم بالأرض، ونكبلهم بسلاسل التملك فننفعهم، وإذا أذنبوا نستطيع تأديبهم.
إن هناك كذلك الفكرة الدينية، الفكرة الأولى في الهجر - والهجر جمع هجرة - والهجرة في القاموس ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام. أما وطن البدو فالبادية، والبادية مهد الشرك، فالهجرة منها إذن هي الهجرة إلى الله والتوحيد. وهي كذلك هجرة مدنية. فمن بيوت الشعر إلى بيوت من لبن وحجر، ومن الفقر والغزو إلى أرض لا تخون صاحبها إذا عمل بها المحراث، ومن الخوف والتحذر إلى طمأنينة لا تهجره ما زال عاملا مفيدا لنفسه ولبلاده.
الداعي إلى الهجرة إذن ثلاثة أمور؛ أي تعليم البدو الدين، ونفعهم بأرض يحرثونها، والاستيلاء عليهم. ليس من السهل أن يألف البدوي الزراعة وقد كان دائما يأنفها. كان سكان البادية يقسمون في الماضي إلى قسمين: البدو والعرب. فالبدو غزاة، والعرب رعاة، ولا أكار بينهم، ولا من يتنازل للعمل في الأرض.
باشر ابن سعود إصلاحه الكبير بالواسطة الدينية، فكان يرسل المطاوعة إلى البادية؛ ليعلموا أهلها دين التوحيد والفرائض، ويزينوا لهم هجر ما هم فيه إلى إيمان يستشعرونه، وبيت يأوون إليه، وأرض يحرثونها.
وقد استخدم في التحضير القوة المدنية أيضا، فكان السيف يتقدم المطوع في بعض الأحايين أو يتبعه كما تقتضي الأحوال. تجاوز التطور في البدو حده الديني، فصاروا يهجرون ما هم فيه ليس إلى الله والتوحيد فقط، بل إلى الشريعة والنظام، وطاعة الحكام، واحترام حياة الأنام.
وكان ابن سعود يعين بقعة من الأرض فيها ماء لقبيلة أو لفخذ منها فتنزح إليها وتباشر بناية البيوت فيها. بيد أن الصعوبة الأولى التي تغلب دعاة الهجرة عليها هي الجمال. ومعلوم أن رزق البدوي أباعره، فما زالت عنده ما زالت البادية تستغويه، فيروح في ساعات الضجر طالبا الرزق حلالا أو غزوا حيث كان؛ لذلك جبر البدو على بيع جمالهم.
كان ابن سعود يساعد ماليا في بناء البيوت الجديدة، وقد أسست في سنة 1330 أول هجرة لعرب مطير؛ أي الأرطاوية شرقي بريدة وقرب الدهناء. أما تسميتها بالأرطاوية فهو لأن الأرطي، مرعى الإبل المعروف، يكثر في جوارها. إن هذه الهجرة لأكبر الهجر اليوم وأهمها. وقد تبعها كل سنة هجر عدة لقبائل حرب وعتيبة وقحطان وغيرها، حتى أصبح عددها سبعين هجرة ويزيد.
1
على أن هذه الهجر في بداية أمرها أورثت ابن سعود مشكلا آخر، وهو أن البدو بعد أن باعوا جمالهم وصاروا إخوانا يتعصبون بالعصابة البيضاء التي تميزهم عن الناس، أقاموا في الهجر لا يعملون شيئا في أيام السلم غير الصلاة. غدت بيوتهم مناسك، وقد نزلوها ابتغاء وجه الله. هجروا البادية حقيقة إلى الله والتوحيد فأصبحوا عالة على صاحب البلاد.
ولكن المصلح الكبير لا يعدم طريقة تنقذ إصلاحه من الخطر. فشحذ ذهنه واستعان على تلك الحالة بالعلماء، فجاء العلماء بالتاريخ وبأخبار السلف، فسلحوا بها المطاوعة، فراح هؤلاء يحاربون بها البطالة والكسل. راحوا يعلمون المتحضرين أن الزراعة والتجارة والصناعة لا تنافي الدين، وأن المؤمن الغني خير من المؤمن الفقير. «وهذا أبو بكر - كرم الله وجهه - كان يملك ثمانية آلاف رأس من الإبل والخيل، فهل تزدرون أيها الإخوان ما كان يرغب فيه أبو بكر؟ وهل تشكون في أن الله - سبحانه وتعالى - يفتح لكم، إذا أنتم زرعتم وتاجرتم، أبواب الثروة والجاه؟»
قد أفلح المطاوعة في تحبيب العمل والمال إلى الإخوان، فشرعوا يزرعون الأرض حول الهجر ويتاجرون، وقد نشأت بعض هذه القرى نشوءا سريعا فصارت تباري جاراتها القديمة بالزراعة والتجارة. على أن الزراعة والتجارة لم تضعف في أبناء هذه الهجر، في الإخوان، روح القتال، بل علمتهم فوق شجاعتهم شجاعة جديدة لا تعرف الخوف، ولا تهاب الموت. وما الشجاعة هذه غير بنت الإيمان الجديد الحي القوي، فإن إخوان مطير في الأرطاوية مثلا، وإخوان حرب في دخنة، وإخوان عتيبة في الغطغط، لأشد جيوش ابن سعود بأسا، وأبسلهم نضالا، وأسبقهم إلى الاستشهاد. كيف لا وقد قلدوا في تحضيرهم سيفين؛ سيف الدين وسيف الثبات؟! إنهم اليوم لغيرهم بالأمس فلا يشردون، ولا يتراجعون وقلما ينهزمون. إنهم يحاربون حبا بالاستشهاد والجنة، وحبا بالمحافظة على ما يملكون. صاروا يخافون النار ويخشون عاقبة الفرار.
لا، لم تقتل الهجر في أهلها غريزة الغزو، ولا أضعفتها، بل شحذتها في سبيل الله، وقيدتها بشروط تختص بتقسيم الغنائم. على أن توحيد السيادة العربية، السائرة البلاد نحوها، يضيق من طبعها مجال الغزو ويزيله في النهاية تماما. فلا تجد إذ ذاك العرب أعداء من العرب أو عربا مشركين للغزو والجهاد.
قلت مرة لعظمة السلطان: «وستكون الهجرة الثانية من الجهل إلى العلم إن شاء الله، فتؤسس المدارس ويتعلم الإخوان شيئا من العلوم التي من شأنها أن تحسن الصناعة والتجارة والزراعة في البلاد.» فأجاب عظمته: «كل شيء يجيء في وقته.»
أما سكان الهجر الآن - وهم الطبقة الأكثر عدا - فقد ألفوا الزراعة واستعذبوا ثمارها. وهناك الطبقتان الأخريان؛ أي التجار والمطاوعة. أما من الوجهة الحربية فالهجرة تقسم إلى ثلاثة أقسام أخر لتلبية دعوات الحرب الثلاث؛ أي الجهاد، والجهاد مثنى، والنفير. فالذين يلبون الدعوة للجهاد هم دائما مسلحون وعندهم مطايا وشيء من الذخيرة. والجهاد مثنى هو ضعف الجهاد؛ فيجيء كل مجاهد بآخر يردفه ذلوله. هم الذين يلبون الدعوة الثانية والأحرى أن يسموا الرديف. أما القسم الثالث من الذكور فهم الذين يبقون في أيام الحرب في الهجر ليداوموا أعمال التجارة والزراعة، ولا يدعون للحرب إلا إذا اضطر صاحب البلاد إلى الاستنفار العام. من حقوق الإمام وحده أن يدعو إلى الجهاد والجهاد مثنى. أما الاستنفار العام الذي لا يكون إلا للدفاع عن الوطن فهو حق العلماء، ولكن السلطان يكتب إليهم معلنا حاجة البلاد إلى الدفاع، فيبادرون إلى استنفار الناس أجمعين، البدو والحضر والمهاجرين.
قال عظمة السلطان محدثا عن الإخوان: «يجيئوننا في السلم فنعطيهم كل ما يحتاجون إليه من كسوة ورزق ومال، ولكنهم في أيام الحرب لا يطلبون شيئا منا، في أيام الحرب يتزنر الواحد منهم ببيت الخرطوش، ويبادر إلى البندق، ثم يركب الذلول إلى الحرب ومعه شيء من المال والتمر ... القليل عندنا يقوم مقام الكثير عند غيرنا ... كنا نمشي ثلاثة أيام بدون أكل. يأخذ الواحد منا تمرة من حين إلى حين يرطب بها فمه ... نعم كانت الحاضرة أثبت قدما وأشد بأسا من البادية. أما الآن فالبادية المتحضرون، أهل الهجر هم في القتال أثبت من الحاضرة وأسبقهم إلى الاستشهاد.»
ولكنهم فيما ظهر من بسالتهم، وبطشهم، وهول استشهادهم، أورثوا عبد العزيز مشكلا آخر كاد يفسد مشروعه الإصلاحي العظيم. فقد طغى الإخوان وتجبروا فضج الناس. راح الإخوان يحاربون من لم يتحضر من البدو فيكفرون، وينهبون، ويقتلون. «أنت يا بدوي مشرك - والمشرك حلال الدم والمال. أنت يا أبا العقال من الكفار. أنا أخو من طاع الله، وأنت أخو من طاع الشيطان .»
كذلك كان يسطو كل متعصب بالعصابة البيضاء على سواه من العرب، فيعير، ويسب، ويسفك الدماء. وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد، وكاد ينقطع حبل الأمن والسلام، فعقد الإمام في سنة 1337
2
مؤتمرا في الرياض للنظر في هذه الأمور، حضره كبار الرؤساء والعلماء، وقرروا بعد البحث ما يأتي: (1)
الكفر لا يطلق على بادية المسلمين الثابتين على دينهم. (2)
لا تفاوت بين لابس العقال ولابس العمامة إذا كان معتقدهما واحدا. (3)
لا فرق بين الحضر الأولين والمهاجرين الأخيرين. (4)
لا فرق بين ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين ودربه دربهم، ومعتقده معتقدهم، وبين ذبيحة الحضر الأولين والمهاجرين. (5)
لا حق للمهاجرين أن يعتدوا على الناس الذين لم يهاجروا؛ كأن يضربوهم، أو يتهددوهم، أو يلزموهم الهجرة. (6)
لا حق لأحد أن يهجر أحدا بدويا كان أو حضريا بغير أمر واضح، وكفر صريح، وبدون إذن من ولي الأمر أو الحاكم الشرعي.
وقد ضمنت هذه القرارات منشورا
3
من الإمام والعلماء جاء فيه ما يأتي:
إن معتقد المسلمين، بدو وحضر، واحد، وأصل المعتقد كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه الصحابة ثم السلف الصالح ثم أئمة المسلمين الأربعة؛ الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو حنيفة، فهؤلاء اعتقادهم واحد في الأصل ... قد يكون بينهم اختلاف في الفروع، ولكنهم كلهم على حق إن شاء الله.
وهذا الإصلاح العظيم، أي تحضير البدو فيسلكون عاجلا أو آجلا المسلك الأوسع الذي فيه المدارس والتمدين، لم يسبق له مثيل في شبه الجزيرة منذ أيام النبي.
الفصل التاسع والعشرون
صلح صغير
بعد أن نكب الملك حسين في تربة فخسر جيشه بأجمعه، فتح لابن الرشيد الشاب قلبه وخزنته، ومستودع الذخيرة والسلاح في المدينة، فعززت جريدة القبلة أقوال الديوان الهاشمي: عدوك عدونا يا ابني، بل عدو العرب والإسلام. وهذا السلاح منا للحرب، وهذا المال. أما الرجال فعندك شمر وفيها الأشبال.
الملك حسين والبلاد العربية صورة رمزية نشرت في أوج العهد الهاشمي في الحجاز.
وكان سعود بن عبد العزيز الرشيد قد عقد وعبد العزيز بن سعود ، بعد المناوشات الأخيرة قرب حائل في الشهر السابق لهدنة الحرب العظمى، صلحا سميناه صغيرا. والأمير سعود هذا هو الذي فر به خاله ابن السبهان إلى المدينة عندما قتل أولاد عبيد إخوته الثلاثة. الحجاز أواه صغيرا، والحجاز يمده كبيرا بالسلاح والمال لمحاربة صاحب نجد.
وقد كان سعود بن عبد العزيز مثل اسمه عكس خصمه عبد العزيز سعود، عكسه في أصالة الرأي وبعد النظر. فلما جاءه من جلالة الحسين السلاح والمال، وجميل الأقوال، قبل في الحال.
أما ابن سعود عبد العزيز فكان قد أدخل خلال الحرب العظمى إسفين التوحيد في شمر فشقها قسمين. وعندما باشره ابن الرشيد العداء كتب إلى رؤساء تلك القبيلة كلهم، الأصدقاء والمتذبذبين والأعداء، ينذرهم ويقول: «من كان معنا فليقدم إلينا، ومن كان مع ابن الرشيد فليرحل إليه.» فكان الجواب من أكثر المقدمين أنهم مقيمون على ولائه وسوف لا يلبون دعوة ابن الرشيد.
فلما أدرك الأمير سعود أن قبائل شمر ليست معه يدا واحدة أرسل إلى عبد العزيز وفدا يقول إنه قد تسرع، وإنه آسف على ما بدا منه، بل إنه راغب في تجديد الولاء، فجدد عهد الصلح (1338ه / 1919 و1920م) بالرغم عن اعتراض أهل نجد، ولكنه لم يدم منذ ذاك الحين عاما كاملا، ولم يكن ابن سعود المعجل في نقضه كما تدل على ذلك حوادث هذا العام. قد كانت السيادة في الجوف يومئذ للأمير نوري الشعلان، فأثارت بعض أعماله الأهالي عليه، فحاربوه وأرسلوا يستنجدون ابن الرشيد.
أنجدهم ابن الرشيد حبا وكرامة، وهو مسرور بعذر يقدمه للملك الحسين، كأنه يقول: «اضطرتنا فتنة الجوف إلى تأجيل الحملة على ابن سعود.» ومسرور بفرصة سانحة للاستيلاء على تلك الناحية.
مشى سعود برجاله إلى الجوف، فاصطدم هناك بقوات لنوري يقودها ابنه نواف وعودي أبو تايه فنازلوه وغلبوه، فأرسل يستنجد شمر فلم يلبه في بادئ الأمر رؤساؤها خوف بعضهم من ابن سعود، ومحافظة من الآخرين على عهد الولاء وإياه. على أنهم أرسلوا إليه يستشيرونه في الأمر فأجابهم: «إني على صلح وابن الرشيد فلا أمانع من أرادوا أن ينجدوه.»
وكان ابن الشعلان الشيخ نوري قد أرسل إلى ابن سعود، عندما علم بما فعل أهل الجوف، يستنجده على ابن الرشيد، فكتب عبد العزيز إليه يقول: «إني صديق لك ولابن الرشيد، فلست إذن مشاركا في هذه الحرب، ولكني أنصح لك أن تتحصن في حصون الجوف وتتخذ خطة الدفاع فلا تهاجم ابن الرشيد ولا تحاربه في الخارج؛ لأن جنوده مدربون على القتال وهم قديمو العهد في الحروب، وجنودك من البادية من أهل البل (إبل) فلا يركن إليهم، ولا هم في القتال أقران شمر.» لم يعمل نوري بنصيحة عبد العزيز فكان من الخاسرين؛ إذ إنه عند وصول نجدات شمر هجم عليهم فكسروه شر كسرة، واستولوا على الجوف.
ولكن سعود بن الرشيد، الذي كان يومئذ في الحادي والعشرين من سنه، لم يعش بعد انتصاره على ابن الشعلان شهرا كاملا، فقد قتل بعد أن عاد إلى حائل، قتله ابن عمه عبد الله بن طلال، الذي ذبح كذلك في اليوم نفسه (في الفصل الثاني والثلاثين خبر هذه الفاجعة مفصلا) وتولى الإمارة بعده عبد الله بن متعب بن عبد العزيز بن الرشيد، فأركب إلى ابن سعود رسل السلام وهو يريد تجديد عهد الصلح والولاء.
كان أهل نجد يعارضون في إجابة طلب ابن الرشيد المرة السابقة، فجاء عبد العزيز هذه المرة يشدد في شروطه ويجدد فيها. قال لرسل حائل: «إني مجيبكم في كل ما تطلبون، ولكني ألفت نظركم إلى ما بدا من أمرائكم السابقين، وهذي هي كتبهم إلى الشريف ينكثون عهودا بيننا وبينهم ويرموننا بأشنع التهم. يقولون إننا خوارج، وإننا ... وإننا ... أنا الآن على هذا، أما شئون شمر الداخلية فلا أتدخل فيها، وأما الخارجية فيهمني أمرها، فقد طالما أضرت سياستها بنجد ومصالحه. لا بد إذن من تنازلكم عن إدارة الشئون الخارجية في شمر واعترافكم لي بذلك، وينبغي أن يكون الاعتراف خطا لينشر فيعرفه جميع الناس.»
عاد الوفد إلى حائل يحمل شروط ابن سعود إلى أهلها وإلى أولي الأمر فيها. أما أهلها وأكثر المقدمين في شمر فأجمعوا على القبول، وأما أولي الأمر من آل السبهان والرشيد، وبعض الزعماء مثل عقال بن عجيل وضاري بن طوالة، ناهيك بعبيد القصر والسيدة فاطمة السبهان جدة سعود - «ستي» فاطمة الحاكمة من وراء الستار - فأبوا كلهم أن يذعنوا لابن سعود، وقالوا: الحرب! فأعلنت الحرب.
الفصل الثلاثون
الإخوان في الكويت
بعد محق الجيش الحجازي في تربة لان عود العجمان في الأحساء، فجاء مشايخ القبيلة إلى أمير تلك الناحية عبد الله بن جلوي يطلبون منه التوسط بالصلح بينهم وبين ابن سعود، وقد كتبوا كذلك إلى الإمام عبد الرحمن، فطلب من ابنه عبد العزيز، بعد أن تحقق إخلاصهم أن يعفو عنهم ففعل. وهم منذ ذاك الحين مقيمون على الطاعة والولاء.
أما الحرب في جبل شمر فلم تحتدم نارها إلا بعد سنة من إعلانها (1337 / 1918)، وكان قد جهز عبد العزيز ابنه سعودا بحملة على الجبل في صيف هذا العام، فوصل بها إلى وادي الشعيبة جنوبي جبل أجا، وأغار على عربان لابن الرشيد كانوا هناك فأصاب منهم مغنما، ولكنه لقلة المرعى للركائب في الصيف في تلك النواحي ولقلة الأرزاق للجيش لم يتقدم إلى حائل.
وقد حدث في ذاك الحين حادث في نواحي الكويت شغل ابن سعود عن ابن الرشيد، فاكتفى بإرسال سريات عليه للغزو والمناوشات، أما حادث الكويت فله أسباب سابقة لا بد في الإحاطة بها من الرجوع إلى تاريخ آل صباح.
بعد وفاة الشيخ مبارك تولى الإمارة ابنه جابر، فكان حصيفا حكيما، ولكنه توفي في السنة الثانية من حكمه، فخلفه أخوه سالم نقيضه في السياسة والأخلاق. وقد جاء ذكره في كلامنا على النطاق الحربي في الكويت يوم كان يخادع الإنكليز لا حبا بالترك، بل طمعا بالكسب من تجارة التهريب، ثم عادى ابن سعود لظنه أنه الناصح للإنكليز بتحديد كمية الوارد إلى الكويت من البضائع فطرد التجار النجديين من بلاده سنة 1336، وكان قد أغضب عبد العزيز سابقا في مساعدته للعجمان. أضف إلى ذلك أن سالما كان شديد التعصب على الوهابيين.
بعد هذا التمهيد ندون الحادث الذي أدى إلى وقعة الجهرى بين الكويتيين وأهل نجد.
ركب الشيخ سالم يخته ذات يوم وأبحر إلى مكان على الخليج بين جبيل والكويت يدعى بلبول، فيه مغاص للؤلؤ وميناء طبيعي حصين للسفن الشراعية، وقد كان في نيته أن يبني قصرا هناك وبلدة أيضا تنافس جبيل بالتجارة والغوص. فلما علم ابن سعود بذلك كتب إلى سالم ليمتنع عن العمل فأبى، ثم كتب إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت يخبره أن الشيخ سالما فيما يقصد متجاوز حدوده وحقوقه؛ لأن ذاك المكان من أراضي القطيف التابعة لنجد، وقد طلب منه أن يحول دون هذا التعدي. أما الشيخ سالم فكان يدعي أن بلبول ضمن حدود الكويت، ولكنه أذعن على ما يظهر للوكيل البريطاني فعدل عن قصده.
على أن المسألة تجاوزت هذا الحد. إن في تلك الناحية شمالا بغرب من بلبول ماء يدعى قرية هو ملك قديم لعرب مطير، فنزح إليه بعض المهاجرين - الإخوان - من هذه القبيلة وأسسوا هناك هجرة لهم، فاحتج ابن الصباح على هذا العمل، وأرسل إليهم فرقة صغيرة، مائتي راجل ومائة خيال، أكثرهم من عريبدار،
1
بقيادة أحد أبناء الصباح اسمه دعيج، وكان للكويت في المراعي القريبة من تلك الناحية بضعة آلاف رأس من الجمال والغنم، وليس هناك من يستطيع حمايتها إذا اعتدي عليها.
سار دعيج برجاله فنزل في حمض قريبا من قرية، وأرسل إلى الإخوان يأمرهم بأن يخلوا ذاك المكان وإلا «نصبحكم ونذبحكم.»
وكان الإخوان عندما علموا بقدوم عساكر الكويت قد أرسلوا إلى فيصل الدويش أمير الأرطاوية يستنجدون، فبادر فيصل إلى نجدتهم بألفين من رجاله، وظل سائرا حتى وصل إلى حمض، فصبح الكويتيين هناك ولكنه لم يذبحهم كلهم، فر دعيج وأكثر جنوده هاربين، وقد تركوا وراءهم ذلك القطيع الكبير من الأباعر والغنم فكان للإخوان غنيمة باردة. كل ذلك وابن سعود في الرياض جاهل ما حدث، فغضب عندما بلغه الخبر وكتب إلى الدويش يؤنبه ويقول: «قد تجاوزتم أوامري التي تنحصر في الدفاع.» فأجابه أن الكويتيين جاءوا إخوانه صائلين وقد وصلوا إلى مكان يبعد عنهم أربع ساعات فقط.
ثم أمر ابن سعود أن تجمع الأموال التي استولوا عليها؛ الإبل والغنم والسلاح حتى والمواعين، وتودع عند أمير الأرطاوية إلى أن يجيئهم أمر آخر بخصوصها. فعمل الإخوان بالأمر بعد أن أرسلوا إليه خمس الغنائم.
وكان الشيخ سالم قد عرض المسألة على الوكيل البريطاني فأشار عليه بالتسوية السلمية، فأرسل إلى ابن سعود رسولين هما عبد الله السميط وعبد العزيز الحسن، فاعتذر عبد العزيز عما حدث بدون أمر منه، ثم قدم إليهما خمس الغنائم الذي كان عنده، قائلا: «هذا أول الأداء، وإذا أركبتم رجالا من قبلكم إلى الأرطاوية فآخره هناك يسلم إليهم.»
ثم كتب إلى الشيخ سالم كتابا قال فيه: «السبب في هذا الحادث تدخلكم فيما لا يعنيكم. اعلموا أن لا حق لكم في بلبول أو في قرية، وإني أرى أن يقرر ذلك في عهد يعقد بيننا وبينكم فنرعاه. أما ما كان لآبائك وأجدادك حقا على آبائي وأجدادي فإني معترف به.»
لم يرق هذا الكتاب سالما ولا قبل بأن ترد الغنائم إليه، بل غضب غضبة يقتضى لتعزيزها عند العرب جيش كبير، لم يكن عنده غير اليسير منه، وفي ذاك الحين كانت المناوشات بين ابن الرشيد وابن سعود، فكتب الشيخ سالم إلى صاحب شمر يستنجده على «خصم الجميع» فلباه بأن أرسل إليه ضاري بن طوالة، الذي كان يومئذ مخيما في أطراف العراق. جاء ضاري مسرعا بقوة من شمر ونزل الجهرى، حيث كان دعيج ورجاله، فأمرهما سالم بالهجوم ثانية على قرية.
وكان ابن سعود قد جاء الحساء فبلغه خبر مغزى ضاري ودعيج، فأرسل إلى الدويش يأمره بإنجاد أهل قرية، فتوكل الدويش على الله، وكان مسراه في ذي الحجة من عام 1338ه / سبتمبر 1920م، ولكن الدعيج والضاري اختلفا في الطريق على القيادة فلم يهاجما أحدا، بل عادا إلى الجهرى فتعقبهما الدويش ونزل الصبيحية.
علم الشيخ سالم بذلك فسارع بنفسه إلى الجهرى ومعه خمسمائة مقاتل من أهل الكويت.
مشى الدويش بإخوانه من الصبيحية وعددهم أربعة آلاف، فيهم خمسمائة خيال: «خيال التوحيد أخو من طاع الله.»
وكان سالم قد وزع قواته كلها نحو ثلاثة آلاف من الرجالة والخيالة في حصون الجهرى وبساتينها.
جاء الإخوان من الجنوب الشرقي فأشرفوا على الجهرى في 26 محرم / 11 أكتوبر، من رأس منحدر لا صخرة فيه ولا شجرة (1339ه / 1920م) جاءوا على عادتهم في الصباح وانحدروا كالسيل إلى البساتين تحت وابل من الرصاص، فكانت بنادق المدافعين المحصنين تحصدهم بالعشرات والمئات وهم يتقدمون مستبسلين مستشهدين.
ساعة من هذا الهجوم تلاها ملحمة كانت على جيوش ابن الصباح موتا أحمر ففر من نجا، ودخل الإخوان الجهرى فاستولوا عليها وعلى حصونها.
أما الشيخ سالم فكان قد تقهقر بقوة من جيشه إلى قصر خارج البلد شرقا منها، فتعقبه الدويش وحاصره فيه يومين كانا شبه هدنة للمفاوضات.
2
وكان سالم في ذاك الموقف الثعلب والدويش الذئب.
قال الذئب: «تعال كن معنا ومنا - كن موحدا - ونظف بيتك من الشرك والمنكرات، فلك إذ ذاك ما لنا وعليك ما علينا.»
فقال الثعلب: «وهل يرفض مثل هذه النعمة إلا الأحمق. إني والله منكم، خيال التوحيد أخو من طاع الله، ولكن في بيتي ما يقتضي رجوعي إليه قبل أن أجيئكم. انتظروني في الصبيحية.»
صدق الدويش وقفل راجعا إلى الصبيحية بعد أن قتل في تلك الوقعة نحو خمسمائة من رجاله وثلاثمائة من رجال الكويت. وما ذلك بشيء في نظره إذا «دينت» الكويت وصاحبها.
ولكن سالما عند وصوله إلى الكويت طلب من الإنكليز أن يحموا بلاده وإلا فهو يقبل شروط الإخوان. فبدأت المفاوضات البرقية بين الكويت وأبي شهر، ثم بين حكومة الهند ولندن، واستمرت ثلاثة أيام. جزع خلالها الدويش وهو ينتظر في الصبيحية، فأرسل وفدا من قبله إلى «الأخ» سالم فتمارض ولم يقابله.
ثم جاء الجواب من الحكومة البريطانية ومعه ثلاثة مراكب حربية رست في مياه الكويت وشرعت ترسل في الليل الأسهم النارية تهويلا وترويعا، وفي اليوم التالي وصلت طيارتان من العراق.
شفي إذ ذاك «الأخ» سالم من مرضه فقابل وفد «أخيه» الدويش في مجلس رسمي حضره الوكيل البريطاني الماجر مور، الذي هم بمخاطبة الإخوان فسمع جوابا أقنعه في الحال أن السكوت من ذهب.
قال حضرة الوكيل: «الشيخ سالم صديق لدولة بريطانية البهية وأنتم جئتم تحاربونه بدون أمر من ابن سعود.»
فقال رئيس الوفد: «ما جئنا إلا بأمره، وهو أيضا صديقكم.»
سكت إذ ذاك الوكيل واعتاض عن الكلام بكتاب أرسله إلى الدويش، وفيه أن حكومة بريطانية العظمى باسطة على الكويت حمايتها، وأن من يحاولون الهجوم عليها يعرضون أنفسهم لضرب الطيارات والمراكب الحربية.
عاد الوفد إلا الصبيحية يحمل كتاب الوكيل، وفي اليوم التالي طارت طيارة فوق ذاك المكان وألقت بين الإخوان كتابا آخر بمعنى الكتاب الأول.
أمر الدويش إذ ذاك بشد الرحال، ولكنه لم يشأ أن تكون الكلمة الأخيرة «للثعلب» فكتب إليه الكتاب التالي:
من فيصل بن سلطان الدويش إلى سالم الصباح سلمنا الله وإياه من الكذب والبهتان، وأجار المسلمين يوم الفزع الأكبر من الخزي والخذلان
أما بعد، فمن يوم جاءنا ابن سليمان
3
يقول إنك عاهدته على الإسلام والمتابعة، لا مجرد الدعوى والانتساب، كففنا عن قصرك بعدما خرب، وأمرنا برد جيش ابن سعود، على أمل أن ندرك منك المقصود. فلما علمنا أنك خدعتنا آمنا بالله وتوكلنا عليه. يروى عن عمر أنه قال: «من خدعنا بالله انخدعنا له.» فنحن - بيض وجوهنا - نرجو الله أن يهديك وألا يسلطنا عليك، إياه نعبد وإياه نستعين.
مسكين سالم. لم يعش بعد ذلك طويلا، فبينما كان الشيخ أحمد الجابر ابن أخيه والشيخ كاسب ابن الشيخ خزعل يومئذ أمير المحمرة في «حفر العج» يفاوضان ابن سعود بالصلح - أي بعد بضعة أشهر من الحين الذي نكب سالم فيه و«دين»، واحتمى بالإنكليز - جاء الناعي من الكويت ينعيه رحمه الله. وبعد وفاته في 17 جمادى الثانية 1339 /27 فبراير سنة 1921، انتخب خلفا له الشيخ أحمد ابن أخيه جابر
4
انتخب وهو لا يزال في الحفر، فكان في غنى عن وفد يصالحه وابن سعود.
الفصل الحادي والثلاثون
فتح حائل
في صيف هذا العام (1339ه / 1921م) بعد أن عقد مؤتمر القاهرة البريطاني، برئاسة وزير الخارجية يومئذ المستر تشرشل الذي كان سائحا في الشرق الأدنى، وتقرر أن يكون الأمير فيصل ابن الملك حسين ملكا على العراق، عقد مؤتمر في الرياض حضره العلماء والرؤساء فقرروا أن يتخذ حاكم نجد الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ومن يخلفه بعده لقب سلطان، فكتب عبد العزيز كتابا إلى المفوض السامي لدولة بريطانية العظمى في العراق يخبره بما تقرر، ويرجو أن يكون ذلك مستحسنا لدى الحكومة البريطانية البهية، وبينما هذا الكتاب في الطريق كان قادما من حضرة المندوب في بغداد كتاب إلى ابن سعود يخبره فيه أن قد تقرر انتخاب الأمير فيصل ملكا على العراق ويرجو أن يكون ذلك مستحسنا لديه. فأجاب عبد العزيز أنه يكون مسرورا بما يريده العراق والدولة البريطانية للأمير فيصل بشرط ألا يكون ذلك مجحفا بحقوق نجد أو مضرا بمصالحه، ثم اعترفت الحكومة البريطانية في 22 أغسطس (27 ذي الحجة) لابن سعود ولمن يخلفه من ذريته بلقب سلطان.
وفي هذا الشهر عاد سعود بن عبد العزيز من حصار حائل ومعه أميرها الشاب عبد الله بن متعب آل رشيد، فبسمت الرياض لطلائع النصر في الحرب، ولبشائر الفوز في السياسة، ولكن الاعتراف بملك أو بسلطان هو أسهل من تحطيم التيجان. وتقارض الولاء السياسي أسلس سبيلا من حصار المدن. فلا يتبادر للذهن إذن أن في رجوع سعود ومعه أمير حائل الفوز المبين. إن فيه طلائع الفوز فقط، أما الأمنية القصوى فدونها شهران من القتال لا يزدريهما التاريخ.
لنعد إذن إلى الحوادث التي تقدمت الحصار. بعد المصالحة وابن الصباح استنفر ابن سعود أهل نجد ومشى إلى الجبل بعشرة آلاف مقاتل يقود قسما منهم أخوه محمد، والقسم الآخر ابنه سعود، وقد عهد إلى الأول في محاصرة حائل وإلى الثاني في مهاجمة شمر، أما هو فتخلف في القصيم.
عندما وصل محمد إلى أطراف المدينة قام أهلها يستأذنونه بإرسال وفد من قبلهم إلى عبد العزيز، فأذن بذلك.
وقد جاء هذا الوفد يقبل بما رفض منذ سنة من الشروط التي اشترطها عبد العزيز بخصوص شئون شمر الخارجية. على أن الحوادث خلال سنة تقوم بالممالك وتقعدها. وخلال سنة يطرأ على السياسة ما يجعل أمسها متنكرا ليومها.
لم يقبل عبد العزيز بما كان قابلا به في السنة الماضية، وقد قال للوفد: «اعلموا أن الرئاسة القائمة بين عبد وامرأة
1
لا تدوم. واعلموا أن أموركم لا تستقيم ما زلتم تحت تلك الرئاسة. وما زالت أموركم كذلك ما زال الشقاق وما زالت الفتن. وهذا مضر بكم وبنا، مضر بنجد وبأهل نجد وشمر. عليكم إذن أن تدخلوا فيما دخل فيه أهالي نجد لتنجوا من سيادة العبيد والمرأة، وتريحونا وتريحوا أنفسكم من ويلات الحروب. شروطي الآن إذن هي أن تسلموا إلي شوكة الحرب وعائلة الرشيد. فيكون لكم إذ ذاك ما لنا وعليكم ما علينا. وإذا رفضتم ذلك فاعلموا أني زاحف إليكم بنفسي بعد ثلاثة أشهر.»
أجاب الوفد: «سنعرض الأمر على صاحب الأمر، فإذا قبل كان خيرا وإلا فأنت بريء الذمة.» وبعد أن عاد الوفد ورفضت تلك الشروط خرج ابن طوالة غازيا بعض قبائل ابن سعود في مكان قريب من حائل على مسير خمس ساعات منها، ولكنه لم يعد من تلك الغزوة سالما، فقد وافاه فيها الموت.
على أن موت هذا الزعيم الشمري لم يؤثر بشجاعة المحاصرين والمرابطين خارج المدينة؛ فقد حدث بينهم وبين جنود ابن سعود مناوشات ومصادمات كانت يوما لهم ويوما عليهم، فاستدعى عبد العزيز أخاه محمدا وأمر ابنه سعودا في محاصرة المدينة، فحاصرها شهرين، ولم يكن في نجاحه فوق من تقدمه لولا مجيء محمد بن طلال من الجوف وفرار الأمير عبد الله بن متعب.
أما ابن طلال هذا فهو أخو عبد الله الذي قتل سعود بن عبد العزيز، وأما عبد الله بن متعب فهو ابن أخي سعود. فلا عجب إذا خامره شيء من الريب فيما ادعاه؛ أي إنه جاء من الجوف ليساعد في الدفاع عن حائل. نعم جاء يساعد في الدفاع بعد أن يقتفي أثر أخيه فيستولي على الإمارة. هذا الذي كان يخشاه ابن متعب، وبما أن الحياة لديه، وهو يومذاك لا يتجاوز العشرين سنا، كانت أعز من الإمارة فقد فر إلى سعود بن عبد العزيز، فرحب به وأخذه إلى الرياض كما تقدم غنيمة باردة. وكان عبد العزيز قد عاد إلى العاصمة وأمر سعودا بالرجوع من الجبل؛ لأنه فقد هناك، بسبب القيظ وقلة المرعى، عددا كبيرا من رواحله.
بعد فرار ابن متعب والتجائه إلى ابن سعود، تولى الإمارة محمد بن طلال آل رشيد، وهو شاب شجاع مستهتر، فباشر القتال في حمله على قرى حائل التي كان أهلها موالين لابن سعود حملات شعواء، فهدمها بعد أن قتل صبرا أغلب رجالها.
وكان ابن سعود قد أمر فيصل الدويش بالزحف إلى حائل وبمحاصرتها إلى أن يجيئه هو بنفسه. فمشى رئيس مطير بألفين من رجاله ونزل على ماء ياطب القريب من حائل، فبلغه في اليوم الرابع من وصوله أن ابن طلال خارج بقواته إلى الجثامية، وهي على مسير ثلاث ساعات من المدينة، فشد مسرعا ومشى إليها فاحتلها قبل أن يصل ابن طلال إلى النيصية القرية المجاورة لها، ومعه ألف وخمسمائة مقاتل من الحضر وسبعمائة من البدو ومدفعان.
عسكر ابن طلال في النيصية المحصنة بتلال هي متاريس طبيعية، يصعب التغلب عليها إلا بقوة من الجيش كبيرة. أما الجثامية فهي في منبسط من الأرض تقل فيه المكامن. ولم يتمكن الدويش من احتلال حصنها؛ لأن ابن طلال كان يضربه بمدفعيته ضربا متواصلا.
مشى السلطان عبد العزيز بعد عيد الأضحى بيومين (16 أغسطس) بعشرة آلاف مقاتل ومعهم بضعة مدافع. فلما اجتاز أم جريف الواقعة بين قبة وجراب، بلغه خبر الدويش في الجثامية وأنه وابن طلال في احتراب. فترك في الحال حملة الجيش وراءه وخف مسرعا. قد كان مسراه من ذاك الماء قبل دخول محرم بيوم واحد، فوصل في اليوم الرابع منه (8 سبتمبر) إلى بقعة - قرية من قرى حائل - فالتقى هناك برسول من الدويش يحمل كتابا ضمنه كتابا من ابن طلال إليه يقول فيه: «إننا جميعا مسلمون وبيننا كتاب الله وسنة رسوله.» فقبل الدويش السريع التصديق، وما كاد ينسى خدعة سالم الصباح، وكتب إلى ابن طلال يلبي الدعوة للتحكيم ويسأله أن يرسل وفده لهذه الغاية. وقد دفعت به الثقة الطائشة إلى إهمال الجانب الشمالي من معسكره فلم يستحرسه، فاغتنم أمير حائل الفرصة وأرسل ثلة من جنوده في الليل فاحتلوا ذاك المكان، فأشرفوا على معسكر الدويش، وشرعوا عند انبلاج الفجر يرمون الإخوان بالرصاص. أركب الدويش نجابا آخر إلى السلطان يخبره بأنه وابن طلال مشتبكان في القتال، وأنه خسر عشرة من رجاله وجرح عشرون.
وصل النجاب العصر إلى مخيم السلطان فغضب لما حدث وأمر ابنه سعودا أن يركب بالخيل ويتقدمه مسرعا، ثم وصل نجاب ثالث يخبر أن الإخوان كسروا جيش ابن طلال، فأرسل يأمر الدويش بأن يلزم مكانه، وألا يأتي بحركة أخرى إلى أن يصل إليه.
مشى السلطان وقصده الهجوم على ابن طلال تلك الليلة، ولكنه اضطر أن ينتظر الحملة والمدافع فأبطأ في السير. ولم يكن من المستطاع الهجوم في النهار؛ لأن ابن طلال ورجاله كانوا في حصون حصينة؛ ولأن بين الحصون والمهاجمين سهلا لا يحميهم شيء فيه، ولأن جبل أجا - وهو حصن طبيعي - قريب منهم يلوذون به ساعة الهزيمة.
تقدم جيش السلطان عبد العزيز تدريجا إلى مركز الدويش، فلم ينتبه ابن طلال إلى ذلك، ولم يكن عالما بقدومه ناهيك بقربه منه. وعند العصر في اليوم التالي جمع السلطان قواده وتشاوروا في الأمر فقرروا أن يكون الهجوم في الهزيع الثاني من الليل.
مشى في ذاك الوقت نصف الجيش فقط، فراح قسم منه يلف بابن طلال من جهة حائل ليقطعوا عليه خط الرجعى، وتقدم القسم الآخر إلى المكان المعد للهجوم، فانتظروا هناك طلق المدافع التي بدأت ترسل قنابلها بعد صلاة الفجر قبل أن ينجلي الليل.
هجم الإخوان هجمة واحدة، والقنابل تؤز فوق رءوسهم، فقتلوا عددا من العدو وشتتوا صفوفه، ففر ابن طلال وأكثر رجاله إلى جبل أجا ثم إلى حائل، ولاذ الآخرون بحصون النيصية. صوبت المدافع على الحصون فقتلت أكثر من لاذوا بها وسلم الباقون.
قال أحد الذين سلموا يخاطب السلطان: «طبجيتكم ماهرون يا مولانا.» فقال عظمته: «لا، لا. كنا نضرب على النية في الظلام، ولكنه توفيق من الله.»
بعد تقهقر ابن طلال إلى حائل أرسل السلطان إلى أهالي المدينة يقول: سلموا تسلموا. فجاء الجواب بالتسليم على شرط أن يؤمر عليهم ابن طلال والكتاب موحى به منه؛ لأنه كان لا يزال سائدا بمن ثبت معه من الجند وحزب بيت الرشيد. ولم يكن لأهل حائل زعيم يوحد كلمتهم ويعززها، فأنفذ ابن طلال فيهم سهام إرادته. على أن المغلوب لا يشترط الشروط. إلى الحصار!
إن مدينة حائل كائنة بين جبلي أجا وسلمى، لها سهل يتسع إلى الغرب، ويضيق إلى الشمال، فيفتح من الجهة الشمالية الشرقية طريقا إلى النجف، ويتقلص في الجهة الشرقية وفي شطر من الجنوبية. هي إذن محاطة من جهاتها الثلاث بالجبال، ولا يمكن الاستيلاء عليها من غير الجهة الغربية والشطر الجنوبي الغربي الذي تمتد منه الطريق إلى نجد.
في هذا الطريق جاء السلطان عبد العزيز فنقل من الجثامية، بعد أن تقهقر ابن طلال إلى المدينة، ونزل بينها وبين النيصية، فقسم هناك جيشه إلى فرقتين، فرقة بقيت معه والأخرى تقدمت إلى جبل أجا، فملكت مركزا منه حصينا. وهناك مركز آخر يدعى عقدة غرب البلد يحسبه أهل حائل أحصن حصونهم الطبيعية. تقدم الجنود وهم يضربون العربان النازلين الجبل في طريقهم فيقتلون ويشتتون ويغنمون الغنائم، فاستولوا في اليوم السابع على عقدة، واستمروا زاحفين إلى حائل، وهم يتمترسون بأكياس من الرمل، حتى وصلوا إلى مكان بينها وبين جبل أجا اتخذوه خطا أولا للدفاع. وكان الهاجمون وراءهم قد أحاطوا بالمدينة من جهتيها الغربية والغربية الجنوبية.
قلت: إن أهل حائل قبلوا بالتسليم على شرط أن يكون ابن طلال أميرهم، ولكن الأكثرية فيهم نفروا من ابن طلال لظلمه وطغيانه وكانوا يئنون من الحصار. فقد أرسلوا إلى السلطان عبد العزيز غير مرة يقولون: لا تتركنا فريسة لابن طلال. وفي الوقت نفسه كانوا يرجونه ألا يضرب بالمدافع المدينة. وعندما أدرك ابن طلال أن الإمارة لا تجيئه بواسطتهم كتب إلى المفوض السامي لبريطانية العظمى في العراق يسأله التوسط بينه وبين ابن سعود، قال السر برسي كوكس في تقريره إلى حكومة جلالة الملك: «بعد أن سلم الأمير عبد الله (بن متعب) بن الرشيد تولى ابن عمه محمد بن طلال الدفاع عن حائل، وأرسل إلي مرارا يرجوني أن أتوسط بينه وبين ابن سعود، ولكن ابن سعود لم يقبل بذلك.»
دنت مدة الحصار من الشهر الثالث فكتب السلطان عبد العزيز إلى أصدقائه في حائل يقول: «قد طال الحصار، وأقبل الشتاء، فليعذرنا الأهالي إذا أنذرناهم. لهم ثلاثة أيام ليسلموا المدينة وعائلة الرشيد، وإلا فنحن إلى غرضنا مسرعون بالرصاص والنار.»
فجاء الجواب وفيه أن الأهالي ينفضون أيديهم من ابن طلال وبيت الرشيد، ويسلمون الحصون المحوطة بالمدينة إذا جاءتهم سرايا من الجيش.
أرسل السلطان ألفين من رجاله ففتحت لهم الحصون الخارجية المشرفة على حائل، ثم أمن الناس على أرواحهم وأموالهم فخرجوا إليه أفواجا وهم يشكرون الله.
أما ابن طلال، الذي شهد له حتى الإخوان بالبسالة والإقدام، فعندما أدرك أن الأمر تفلت من يده تحصن وحاشيته في القصر، فأرسل السلطان عبد العزيز يؤمنه على حياته إذا هو استسلم، ففعل.
استمر هذا الحصار خمسة وخمسين يوما؛ أي منذ وصول السلطان في 4 محرم إلى 29 صفر 1340 /2 نوفمبر 1921، يوم سلم ابن طلال، ولكن حائل كانت في حال الحرب أكثر من سنة قبل ذلك، وكانت القوافل من الكويت والعراق منقطعة عنها، فشمل أهلها الضيق. وكان السلطان عالما بشدة حالهم فجاءهم متأهبا لتخفيفها - جاء بالمؤن، وجاء بالثياب وبالمال - فأجزل للناس العطاء، ووزع ألوفا من أكياس الأرز وألوفا من الكسوات. قال لي أحد الذين سلموا: «كنا ليلة الحصار الأخيرة على آخر رمق نرى شبح المجاعة والموت، فأمسينا ليلة التسليم الأولى وكلنا شبعانون، مكسيون، مطمئنون.»
بعد ذلك شاورهم الفاتح في أمر أميرهم: «ومن تريدون أن نؤمر عليكم؟» فأجابوا قائلين: «واحدا من آل سعود أو من كبار رجالك.» فقال عبد العزيز: «لست من رأيكم فقد كنا وإياكم «قوما أعداء» مدة طويلة فلا يجوز أن نحكمكم الآن مباشرة. وأنا أعرفكم يا أهل حائل. إنكم أهل قيل وقال . أصحاب فتن، ولكني لا أخشى أن أؤمر عليكم واحدا منكم. وإني أريد أن أحافظ على كرامتكم. هذا إبراهيم السبهان فهو منكم، وهو رجل عاقل. هو أميركم. وإني واثق بالله - وعادته معي جميلة - فهو سبحانه وتعالى ينصفني ممن يغدر أو يخون.» أما إبراهيم السبهان فهو الذي مهد السبيل لتسليم الحصون واتفق وابن سعود على ذلك فأمره بعدئذ على حائل.
الفصل الثاني والثلاثون
مأساة بيت الرشيد
لا بد لكل مأساة من حالق تهوي منه، لا بد من ذروة تملكها الحياة المجيدة أو السعيدة، ثم تفقدها فتهبط منها إلى الدرك الأقصى.
ينبغي إذن أن نصل والقارئ إلى ذروة بيت الرشيد قبل أن نبدأ بالمأساة فيه. ولا بد قبل التصعيد من الوقوف عند سفح الجبل - عند الأساس - فنتعرف إلى المؤسس الكبير وإلى المشيد الأكبر.
آل رشيد من آل خليل، وآل خليل من آل جعفر، وهؤلاء فخذ من عبده أكبر قبائل شمر. وفي الفتوحات السعودية الأولى كان أمير الجبل واحد من هذه القبيلة يدعى الجربا، حارب آل سعود فغلب، وأجلي وعشيرته إلى العراق، ثم أمر سعود الكبير واحدا من آل علي في حائل، وقرب منه رجال هذا البيت، فكان جبر أخو رشيد - جد عبد الله - كاتبا في ديوانه بالدرعية.
ولكنه لم يظهر في آل رشيد - على ما نعلم - أكبر من عبد الله الذي اختلف والأسرة الحاكمة يومئذ، فرحل إلى الرياض وانضم إلى جيش فيصل ابن الإمام تركي. وعندما قتل تركي جاء فيصل بجيشه من الحساء ليثأر لأبيه، وكان عبد الله في ذاك الجيش، بل في مقدمة من هجموا على القصر، وقتلوا قاتل الإمام، فجازاه فيصل، بعد أن تولى الإمارة، بأن جعله أميرا على حائل.
1
وعبد الله بن علي بن رشيد - مؤسس هذا البيت - هو من أولئك الأفراد المتقدمين بفضلهم في الناس، أولئك الذين يسودون الناس بما يزين أعمالهم من الشجاعة، والعدل، والإحسان.
كان أميرا في حائل يوم جاءها المستشرق الأسوجي جورج والن
2
سنة 1845؛ أي بعد عودة الإمام فيصل بثلاث سنوات. وقد كان محمد علي باشا غير راض عن حكم فيصل، فأرسل هذا المستشرق إلى حائل ليسبر غور بيت الرشيد عله يجد فيهم من يصلح لمناصبة آل سعود، ولكن الأمير عبد الله كان يسعى في سبيل استقلال الجبل، في استقلاله عن الرياض وعن مصر، وما راقه قط أن يكون سيفا بيد محمد علي على ابن سعود. عاد جورج والن إلى مصر، ثم جاء حائل بعد سنتين للمرة الثانية، فكانت النتيجة شبيهة بالتي تقدمتها. لم يفلح العالم الأسوجي بمهمته السياسية، ولكنه كان معجبا بالأمير عبد الله، وقد قال فيه كلمة نقلها هوغرث لا أرى أحسن منها، وهي من أجنبي، في تقدير هذا الأمير العربي، قال والن:
لم يكن نفوذ عبد الله ناشئا عما كان له من الثروة والسيادة فقط، بل عما امتاز به أيضا من السجايا الشريفة كالشجاعة والعدل، وكرم الأخلاق والوفاء، وحب الفقراء. فقد كان في إحسانه مثله في عدله كبيرا، ولم يسمع عنه أنه أخلف مرة بوعده ... هذه الفضائل هي مصدر تلك القوة قوة عبد الله، وذاك النفوذ نفوذه.
وكان لعبد الله أخ اسمه عبيد امتاز عنه بثلاثة أمور، بغلوه في المذهب الوهابي، وبخشونة طبعه، وبنزعة فيه شديدة إلى القتال في سبيل الله والتوحيد. كان عبيد رسول الوهابية الأكبر في الجبل، وكان بيته محط رحال الوهابيين في حائل، ومرجعهم الأعلى والصلة بينهم وبين الرياض.
لم يكن في أولاد عبد الله أكرم من طلال، ولكنه نكب في عقله وكان منتحرا. أما متعب أخوه فقد كان من الوسط في الناس عقلا وخلقا وسياسة، ولم يحكم غير سنتين؛ لأن بندرا وبدرا - ابني أخيه طلال - طمعا بالإمارة وانتزعاها منه بالسيف. قتل بندر وبدر متعبا، وتولى الحكم بعده أحدهما بندر. وكان محمد بن عبد الله يومئذ عند الإمام عبد الله بن سعود الذي وفق بعد سنة، كما أسلفت القول، بينه وبين ابن أخيه الأمير الجديد.
عاد محمد إلى حائل فتولى إمارة الحاج العراقي، ثم في السنة التالية قتل بندرا بيده دفاعا عن نفسه كما قال. وقد أمر بقتل أبناء طلال الآخرين فذبحوا في القصر كلهم إلا واحدا هو بدر الذي فر إلى البادية، فتأثره العبيد وقتلوه، فغضب الأمير محمد؛ لأنه أمرهم بالقبض عليه فقط، وقتل بسيفه العبد الذي قتل بدرا.
سيف الأمير محمد! قد روي عن صاحبه أنه قال: «لا يغمد سيف ابن الرشيد حتى يقتل أهل البيت أجمعين.» وما كان فيما قال واهما. فقد مشى هو نفسه إلى عرش الإمارة على خمسة أرواح من بيت أبيه. وكان ذاك العرش لا يزال مقيدا بشيء من إرادة آل سعود - مقيدا بخيط رفيع قطعه الأمير محمد بسيفه. وظل هذا السيف مستلا في سني إمارته كلها، فكان صاحبه فاتحا، وكان مستبدا، وكان عادلا، لكن نفسية الأمير لم تخل من أثر لغدر الزمان، ظل باديا في خلقه حتى في أيام النصر والمجد، فكان هذا المستبد العادل مقتديا في بعض أعماله بالزمان؛ كان إذا أراد محاربة البدو مثلا يهجم عليهم في الصيف، وهم على المياه في المضارب.
3
إن في ذلك شيئا من الغدر، ترفع عنه من خلفه مثلا من بيت أبيه؛ أي عبد العزيز بن متعب.
أما أنه كان سر أبيه في المرونة النفسية التي تلتوي ولا تنفصم فمما لا ريب فيه. وقد أعجب به كل من قابله من السياح والمستشرقين الذين أموا حائل والقصيم في عهده الذي هو عهد شمر الذهبي. أجل قد حاز الأمير محمد من السيادة في نجد ما حازه ابن سعود الكبير، فرفع بيت الرشيد إلى الذروة التي طاح منها مجد بيت الرشيد. هي الذروة التي تبدأ عندها المأساة موضوعنا الآن، وهذه المأساة هي ذات أربعة فصول، وفاتحة وخاتمة.
الفاتحة:
شمر تندب الأمير محمدا وتقلد سيفه عبد العزيز ابن أخيه متعب فيخرج إلى الحرب، وشمر تحدو أمامه ووراءه. وفي الوقت نفسه يخرج سمي ابن الرشيد عبد العزيز بن سعود من الكويت غازيا فيلتقي العزيزان ويحتربان سبع سنوات، فيخسر العزيز الرشيدي نصف الملك الذي كان لعمه محمد. وبالرغم عن مساعدة الأتراك لأمير شمر قبل الحرب العظمى، ومساعدة الأتراك والألمان أثناء تلك الحرب ، ومساعدة الملك حسين بعدها، زلت شمر وهي على قمة الجبل، فطاحت واستمرت طائحة.
الفصل الأول:
يبدأ بقتل عبد العزيز في روضة مهنا وينتهي بذبح أولاده الثلاثة.
المشهد الأول:
سوق في بريدة يدخله جنود ابن سعود وهم يعلنون موت عبد العزيز الرشيد وينشدون: حنا أهل العوجا مروية السنين! (أسنة الرماح).
المشهد الثاني:
في القصر بحائل، وقد عقد مجلس حضره أولاد عبد العزيز متعب ومشعل ومحمد فولي متعب الإمارة.
المشهد الثالث:
في قصر آخر بحائل، قصر آل عبيد. أبناء حمود الثلاثة وهم فيصل وسعود وسلطان يتآمرون.
قد ذهب يوم عبد الله وجاء يوم عبيد. هؤلاء الصبيان أولاد عبد العزيز لا يستحقون الإمارة وسيتنازعونها، فيذلونها، ويفقدونها. علينا إذن أن ننقذها فتظل في بيت الرشيد، علينا أن نريح الصبيان منها ونريحها منهم.
المشهد الرابع:
في العراء خارج المدينة، فيصل وسعود وسلطان آل عبيد ورجاجيلهم وعبيدهم ومعهم متعب ومشعل ومحمد أبناء عبد العزيز، وقد دعوا ليوم صيد فلبوا الدعوة.
كوكبة من الخيل خرجت من حائل، وكل خيال يبغي الصيد ينشد الطريدة في الآفاق ووراءها، إلا أن طريدة آل عبيد كانت قريبة، غافلة، غير شاردة. طريدتهم؟ هاكها على الخيل أمامهم.
فبعد أن خفيت أسوار المدينة، عندما غدوا في الفلاة، لمز كل من الإخوان أبناء حمود حصانه وساقه على واحد من أبناء عبد العزيز، فتناوله من السرج بقرونه (شعره) وغمد خنجرا في صدره. طاح الثلاثة إخوان إلى الأرض مضرجين بالدماء، ولم يحرك أحد من الحاشية يده دفاعا عنهم. وما دخل العبيد؟ رشيدي قتل رشيدي، ولكنهم وهم عبيد آل عبيد هتفوا قائلين: والحمد لله هذه آخرة آل عبد الله.
الفصل الثاني:
مشهد كلي. يرفع الستار وسلطان بن حمود بن عبيد متصدر في مجلس الإمارة، وإلى جانبه أخوه فيصل البسام صاحب البسمة الإبليسية الناعمة، وفي مخدع وراء المجلس الأخ الثالث سعود يشحذ سيفه.
لم يكن سعود العبيد على شيء عظيم من الصبر. فقد حن إلى الإمارة حنين الحبيب إلى الحبيب، ولم يأذن لأخيه سلطان بغير سبعة أشهر منها. وعندئذ جاءت الساعة ولم يكن سعود متأهبا، أو إنه شحذ سيفه حتى انقصم، فبادر إلى حبل خنق به سلطانا، ودفنه في حفرة بالقصر.
مشهد جزئي لينصب عمال المسرح عرشا جديدا وراء الستار. ونحن أثناء ذلك نخبر عن ابن عبد العزيز الرابع - الصغير - الذي فر به خاله ابن السبهان من القصر يوم الصيد المفجع. إن هذا المشهد في سوق من أسواق المدينة المنورة، وفيه يسير ابن السبهان وابن أخته سعود بن عبد العزيز وحاشيتهما مسرعين، وقد اتصل بهم خبر قتل سلطان بن حمود. - «وغدا يا وليد (ابن السبهان يخاطب ولي العهد الشرعي لعرش حائل) دور سعود، ثم دور فيصل. سنرجع إلى حائل، إلى حائل يا وليد، والإمارة لآل عبد الله إن شاء الله.»
المشهد الثالث في حائل:
ابن السبهان يدخل المدينة بجيش من العربان فيضرمون فيها نيران الثورة، ثم يهجمون على القصر فيقبضون على سعود بن حمود بن عبيد، ويقتلونه في الغرفة التي قتل فيها أخوه سلطان. فتصفق حائل استحسانا: مرحى مرحى! وتقلد سعود بن عبد العزيز سيف الإمارة.
مشهد جزئي نختم به هذا الفصل (وقد يعترض أرباب الفن على ختم فصل من فصول المأساة بمشهد جزئي، ولكنهم يتغاضون لأهميته عن إخلالنا بإحدى قواعد الدراما).
المشهد الجزئي الذي أبغيه هو لفيصل المبسام، ثالث الإخوان، الذي اجتمعت به في الرياض. ذاك الذي كان يبسم ويذنب ولا يغيظ. فقد اختلف وأخاه سلطانا، فأمره على الجوف ليبعده عن العرش، وكان ذلك رحمة منه. وكان فيصل مسرورا بذي الإمارة الصغيرة وذاك البعد، خصوصا عندما علم بقتل أخيه الأول، ثم بقتل أخيه الثاني.
ولكنه عندما علم برجوع آل عبد الله إلى عرش الإمارة لم ير السلامة حتى في الجوف، فهجر عرشه هناك ورحل شرقا ثم جنوبا. رحل مسرعا ولم يقف في ترحاله حتى وصل إلى الرياض، ورمى بنفسه بين يدي عبد العزيز بن سعود، فرحب به، وأكرمه، واتخذه لخفة في روحه خدنا ونديما، وقد حزن عبد العزيز جدا عندما وافى الموت فيصلا في الرياض سنة 1342.
الفصل الثالث من مأساة بيت الرشيد يبدأ بالولد سعود بن عبد العزيز على عرش الإمارة، ووراء ذاك العرش امرأة هي فاطمة السبهان جدة الأمير، وحول ذاك العرش عبيد القصر الطامعون بالسيادة. قد يكون هذا التوازن بين المرأة والعبيد السبب في دوام العرش سنوات عدة بالرغم عن العواصف التي كانت تعصف عليه من الجنوب - عواصف الإخوان.
مشهد جزئي مجلس «ستي» فاطمة:
صوت من وراء الحجاب فيه نبرات وغنات، وإرادة ماضية تحرك العرش، وتحرك الجيش، وتحرك يد العبد سعيد صاحب الخزنة. «ستي» فاطمة تستقبل الناس وتفاوض الوفود، وتشير على الأمير بالخطة السياسية التي ينبغي اتباعها.
كانت فاطمة السبهان فصيحة اللسان، شديدة الشكيمة، قصيرة النظر. تكره أهل نجد وآل سعود. وكانت سياسة الإمارة بيدها، وكذلك المالية بعد قتل سعود؛ لأن العبد سعيد كان قد عزل.
ومن هو العبد سعيد؟ في أيام سعود بعد أن بلغ سن الرشد كان لبعض العبيد مقام رفيع في الديوان الرشيدي. وكان الأمير خوفا من آل سبهان يقرب منه هؤلاء العبيد المماليك ويبالغ في إكرامهم، ومنهم خصوصا اثنان، سعيد المحمد، مملوك سوداني خصي، حمل مفتاح الخزنة منذ أيام عبد العزيز بن متعب، وسليمان العنبر الذي كان يحمل سيف الحجابة الأول، ويدخل على الأمير برأي حتى في السياسة مسموع.
كان الطواشي سعيد وزيرا للمالية أمينا ولا شك، وكان سليمان العنبر مستشارا مخلصا، ولكن نظر الاثنين في شئون الإمارة نظر العبيد لا يتجاوز دائرة معقولهم الصغيرة.
أما «ستي» فاطمة، تلك القوة وراء الستار، وراء الحجاب، فلا يخلو ما قيل فيها من مجال للنقد. ويكفي ما كان من نتيجة حكمها، وهو أكبر حجة على سوء الإدارة فيه.
بين هاتين القوتين مشى سعود بن عبد العزيز إلى عرشه، وبين هاتين القوتين قضى ما كتب له من سني الحكم، ثم أخنى عليه الذي أخنى على إخوته، ولكنه لم يمت مثلهم في «الصيد»، مات سعود غدرا وكان الغادر أجبن الغادرين.
مشهد كلي في الفلاة:
يجيء الأمير للنزهة ومعه حاشيته وعبيده. الرجاجيل يعتنون بالخيل، والعبيد يجمعون الحطب، ويشبون النار للقهوة، والأمير يتبارى وعبد الله بن طلال الرشيد يرمي الرصاص، أو كما يقول العرب: يضرب النيشان (الهدف)، ولم يلازمهما غير عبد واحد من العبيد.
وقد كان هناك رابع هو القدر جاء يسدد الرصاصتين؛ رصاصة الأمير ورصاصة ابن طلال، ويلحق العبد بالذهول.
أما هدف ابن طلال آل عبيد فلم يكن الهدف المنصوب. رفع الأمير سعود بندقيته، وابن طلال وراءه والبندقية بيده مصوبة في الظاهر على «النيشان» فأطلقت الاثنتان في وقت واحد، فأصابت رصاصة الأمير كبد الهدف، واخترقت رصاصة ابن طلال رأس الأمير.
وكان العبد يحدق بالهدف معجبا برمي سيده، فلم ينتبه إلى ما حدث إلا عندما خر للأرض صريعا، ولكنه وقد فتح فاه وعينيه هوى هو أيضا في الحال؛ لم يعطه القاتل فرصة للفرار أو للصياح إذ جاءت الرصاصة الثانية تبعثر دماغه فطاح كالخشبة إلى جانب الأمير.
رأى أحد العبيد الآخرين ما جرى فصاح بإخوته وهجموا على ابن طلال، ثم جاء الرجاجيل ومعهم عبد الله بن متعب بن عبد العزيز، ابن أخ الأمير المقتول، وهذا عثرة في سبيل العرش، وابن طلال لا يبغي الآن غير العرش. عليه إذن أن يزيل ابن متعب أيضا من طريقه. قد أسلفنا من مهارته بالرمي مثلين، وهذا الثالث.
شرع ابن طلال يرمي عبد الله بالرصاص، وكان العبيد يحولون دون مرماها ويطلقون كذلك بنادقهم، فقتل واحد منهم ، وأصيب ابن طلال برصاصة أبعدته عن العرش بل عن حطام الدنيا كلها.
الفصل الرابع في القصر بحائل:
عبد الله بن متعب جالس على عرش جدة عبد العزيز، جالس على العرش ويده على رقبته خشية أن تجيئه الضربة غدرا، جالس على العرش وقلبه يخفق جزعا ورعبا، جالس على العرش وعيناه الفتيتان محمرتان، دامعتان، من الدم المراق على جوانبه. عرش نخر السوس في أركانه، فتزعزع، فهوى، فأمسى مسندا وحصيرا في فناء الاضمحلال.
وماذا عساها تعمل «ستي» فاطمة - فاطمة شمر العظيمة - لإنقاذه؟ وماذا عسى يعمل العبيد، ووفاء العبيد، وشجاعة العبيد؟ هبت هبوب الجنة! هبت من الجنوب، من نجد، من العارض، ولا نجاة لهذا الأمير الصغير، لهذه البذرة الأخيرة من شجرة شمر التي كانت تباري رواسي الجبال، هذه البذرة السوداء البيضاء التي تدعى عبد الله بن متعب، لا نجاة لها بغير التسليم، والتسليم في الحال.
وهو ذا ابن طلال الثاني محمد أخو عبد الله القاتل المقتول، وقد جاء من الجوف ليدافع عن حائل. عن حائل؟ لا حاجة ولا سبيل إلى إقناع عبد الله بن متعب، فقد فر ويده على رقبته، ولاذ بابن سعود. وهو اليوم ضيف مكرم في الرياض - آخر آل عبد الله الرشيد!
جاء ابن طلال الثاني وفي نفسه أمل بإنقاذ حائل وبإعادة شيء من المجد إلى شمر. فوقف خارج المدينة، وفي حصونها، وعلى أسوارها، يدافع عنها دفاع الأبطال، ولكنها وهي تابعة لعرش هوى، لمجد تقلص ظله، رأت خلاصها في انفصالها عن هذا المجد وذاك العرش، وفي التسليم إلى ابن سعود. فكان الفتح خاتمة المأساة، مأساة شمر وبيت الرشيد، بل كانت الخاتمة حصارا، ورصاصا ونارا.
وكان محمد بن طلال بن نايف بن طلال من الذين سلموا، بل آخر الذين سلموا، وهو الآن ضيف مكرم في الرياض.
خاتمة المأساة:
المشهد الأول:
بيت في الرياض يخرج منه ابن طلال في الليل وهو متخف في ثوب امرأة، فيقبض أحد الرجال عليه ويجيء به إلى السلطان عبد العزيز، فيأمر بنقله إلى القصر. وقد كان في القصر أسيرا يوم كان المسجل لهذه المأساة في الرياض، ثم أطلق سراحه وهو، أي المسجل، لا يزال هناك.
المشهد الثاني:
المجلس العالي بالقصر. السلطان عبد العزيز جالس على الديوان وعصا الشوحط بيده، وإلى يمينه ويساره رجال بيت الرشيد. وعلى الدواوين والكراسي خمسون ونيف من وجهاء الرياض وعلمائها.
يدخل العبيد ومعهم ابن طلال، فيجلسه السلطان إلى يمينه، ثم يقول: «اعلموا يا أهل الرشيد أنكم عندي مثل أولادي، وأنتم في الرياض تعيشون كما أعيش أنا وأولادي، لا أزين ولا أشين. ثيابكم مثل ثيابنا، وأكلكم مثل أكلنا، وخيلكم مثل خيلنا وأزين. ترى الصحيح، وليس في القصر، أو في البلاد تحت يدي ما تبغونه ولا يجيئكم. ترى الصحيح. وهل منكم من يشك في ذلك؟ تكلموا.»
لم يفه واحد منهم بكلمة. «وأنت يا محمد، ما جر عليك الأسر غير نفسك، غير عملك المشين. كن عاقلا حكيما ولا تعر أذنك النساء. إني عالم بما تعمل وبما تقول. فاعقل لصالح نفسك. تجنب الطرق التي فيها القال والقيل، والتي تؤدي إلى الفتن، كن صادقا مخلصا تكرم كل الإكرام، تكرم مثل أهلك هؤلاء كلهم. والله بالله إن الضرر الذي يمسسكم يا أهل الرشيد يحرك قلبي قبل لساني إلى مساعدتكم. أنت يا محمد واحد من بيتي الآن ... وكل ما عندي للدفاع عن بيتي - عن العيال والحريم أقدمه إذا اقتضى الأمر في الدفاع عنك - في الدفاع عنكم كلكم يا أهل الرشيد.»
ها هنا وقف السلطان، فوقف من في المجلس وأعطى يده إلى ابن طلال قائلا: «أعطيك عهد الله ما زلت مخلصا لنا.» فصافحه ابن طلال وهو يقول: «إذا حدث عن الطريق الذي أمرت به اقطع رأسي.»
ثم قبل عظمته في أنفه وفي جبينه.
ثم صوت يهتف بالدعاء: «أدامك الله ووطد أركان ملكك.»
هو صوت كبير بيت الرشيد يومئذ، ثالث أبناء حمود، إخوان «الصيد» الثلاثة، صوت فيصل المبسام غفر الله ذنوبه، وذنوب أهل هذا البيت أجمعين.
المدينة المنورة.
أمراء حائل الرشيديون (1)
عبد الله بن علي بن رشيد. مات موتا طبيعيا سنة 1265 / 1848. (2)
طلال بن عبد الله، انتحر في سنة 1283 / 1866. (3)
متعب أخو طلال، قتله أبناء أخيه بندر وبدر سنة 1285 / 1868. (4)
بندر بن طلال بن عبد الله، قتله عمه محمد سنة 1288 / 1871. (5)
محمد بن عبد الله الذي يدعى الكبير كان عاقرا ومات موتا طبيعيا. تولى الإمارة سنة 1288 / 1871، وتوفي في 3 رجب 1315ه / 1897م، استولى على نجد كله حتى وادي الدواسر. (6)
عبد العزيز بن متعب بن عبد الله، قتل في المعركة في 18 صفر 1324ه / 1906م. (7)
متعب بن عبد العزيز حكم عشرة أشهر، قتله وأخويه مشعلا ومحمدا أبناء حمود بن عبيد في 21 ذي القعدة سنة 1324ه / 1906. (8)
سلطان بن حمود بن عبيد حكم سبعة أشهر، قتله أخوه سعود. (9)
سعود بن حمود بن عبيد حكم أربعة عشر شهرا، قتل في القصر. (10)
سعود بن عبد العزيز بن متعب بن عبد الله، قتله عبد الله بن طلال سنة 1338 / 1919. (11)
عبد الله بن طلال لم يحكم، قتله عبد من عبيد سعود. (12)
عبد الله بن متعب بن عبد العزيز بن متعب، سلم لابن سعود في ذي الحجة 1339ه / 1920م. (13)
محمد بن طلال بن نايف بن طلال، سلم لابن سعود في 29 صفر 1340 / 2 نوفمبر 1921.
الفصل الثالث والثلاثون
آخرة آل عائض
في شبه الجزيرة جبال غير أجا وسلمى، وغير جبال اليمن وعمان، تستحق أن تنعت بالزمردية، هناك جبال عسير وقد كساها الاخضرار، فضخمت فيها الأشجار، وغزرت المياه، وتنوعت الثمار. هي جبال عسير الممتازة بكنوزها الدفينة، ناهيك بهوائها، وهو في اعتداله مثل هواء الطائف، وبمناظرها وهي أروع من مناظر اليمن. وهي أحصن الجبال للدفاع، ورجالها من صفوة العرب في البأس والبسالة.
ولكن أهل عسير أشد العرب نفرة من الأجانب، وأبعد العرب اليوم عن المدنية. كانوا في الماضي قبائل مستقلة بعضها عن بعض، بل معادية بعضها لبعض. ولا يزال في الجهة الشرقية الجنوبية من أولئك الأعراب الذين يسلكون مسلك الأقدمين في الاستقلال والقتال، فهم لا يدينون لصاحب اليمن، ولا لصاحب عسير، ولا لصاحب نجد والحجاز.
أما أهل الناحية التي أطلق الترك عليها اسم متصرفية عسير، فقد أقبلوا في أيام آل سعود الأولين على مذهب محمد بن عبد الوهاب؛ فترى مساجدهم وقد خلت من الزخرف، وقبورهم ولا قباب فوقها. هم يوحدون الله ولا يتوسلون إلى سواه. وكانوا في تلك الأيام يدفعون الزكاة للإمام في الدرعية، مثلما يدفعونها اليوم للسلطان عبد العزيز.
أما قاعدة هذه المقاطعة أبها، التي تعلو سبعة آلاف وثلاثمائة قدم عن البحر، فهي قائمة على رأسي وادي ضلاع ووادي شهران - في جبل سراة - بين آكام وقمم تنتصب كالحراس حولها. وهي مؤلفة من ثلاث قرى أو أحياء منفصلة بعضها عن بعض، ولا أسوار لها. إنما تحوط بها ثماني قلاع صغيرة - مفاتيل - تسع الواحدة عشرة من الجنود.
وحول أبها القبائل التي كانت في الماضي تحارب بعضها بعضا، وتحارب الترك وتحارب نجدا والحجاز، ولكنها اليوم موثقة بعرى السيادة السعودية، متآخية في التوحيد الديني والسياسي. حول أبها بنو مغيط، وبنو دليم، وبنو مالك، وبنو زيد، وشمالا منها بالأسمر وبالأحمر وبنو شهر، وشرقا خميس مشيط
1
قاعدة زهران.
وفي هذه الناحية وادي شعاف الذي يقطنه آل يزيد، ومنهم آل عائض الذين يدعون أنهم من سلالة معاوية بن أبي سفيان، وأنهم نزحوا إلى عسير بعد سقوط الدولة الأموية في الشام، ولكنهم لم يكونوا قبل الفتح السعودي أمراء في عسير. وعندما أمر سعود الكبير في هذه الجبال رجلا يدعى ابن مجثل كان عائض جد الأسرة من الرعاة، ثم جاءت الجنود المصرية، وجاء محمد علي بنفسه يقود الحملة على أهل عسير، فكان آل يزيد من المتقدمين المستبسلين في القتال، وكان عائض بطل آل يزيد فأمره ابن مجثل مكانه، وكتب إلى ابن سعود يوصيه به فأثبته في الإمارة، ثم خلفه بعد وفاته ابنه محمد - محمد الفاتح - الذي بسط سيادة آل عائض فيما دون السراة من البلدان، فوصل شرقا إلى بيشة، وشمالا إلى حدود الحجاز، وجنوبا بغرب إلى المخا في تهامة.
وكانت قد تزعزعت في عهده سيادة آل سعود، وعادت الدولة العثمانية إلى اليمن، فجهزت على عسير حملة بقيادة المشير رديف باشا الذي قتل محمد بن عائض غدرا، ثم تأسست متصرفية عسير، وظلت الدولة تحافظ على نفوذ آل عائض وتستعين به ، بل كانت تعين أحد أمراء هذه الأسرة معاونا للمتصرف. وآخر من تولى هذه الوظيفة منهم هو حسن بن علي، حفيد الأمير محمد، الذي عينه في سنة 1912 المتصرف سليمان شفيق كمالي باشا.
ثم شبت الحرب العظمى، وجلا الترك عقب الحرب عن عسير، فتولى حسن الإمارة واستقل بها، بل كان مستبدا ظالما فنفرت منه القبائل خصوصا قحطان وزهران، وأرسلت وفودها شاكية إلى ابن سعود، فبعث عبد العزيز إليهم بستة من علماء نجد وكتب إلى الأمير حسن وإلى رؤساء قحطان وزهران ينصحهم بالمسالمة ويدعوهم للرجوع إلى ما كان عليه أجدادهم.
ولكن الأمير حسنا استمر في سياسته، فأبى توسط العلماء وردهم مكابرا: «إذا كان ابن سعود يتدخل في شئون قبائل عسير فسنمشي إلى بيشة النخل (قلعة بيشة) ونستولي عليها.»
عندئذ أرسل السلطان ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي (أمير حائل والجوف اليوم) ومعه ألفان من الجنود، وأمره بأن يدعو ابن عائض أولا للسلم فيكون مع ابن سعود كما كان أجداده الأولون.
مشى ابن مساعد في شعبان سنة 1338 /مايو 1920، وعندما دنا من أبها في الشهر التالي كفاه ابن عائض مئونة الدعوة للسلم فخرج إليه بجنوده، وتصادموا في مكان يدعى حجلة بين العاصمة وخميس مشيط، فكانت الوقعة شديدة، وكانت الهزيمة على أهل عسير.
ثم دخل جيش ابن مساعد أبها، وواصل سيره غربا بجنوب فاستولى على السراة وغيرها من النواحي التي تتصل بحدود السيد الإدريسي. وكان الإدريسي مواليا لابن سعود فأسر بعض آل العائض الفارين
2
ورجع حسن وابن عمه محمد إلى ابن مساعد مستأمنين مستسلمين، فأمنهما وأرسلهما إلى الرياض حيث أقاما شهرا بضيافة السلطان، واتفقا وإياه على أن يكونا معه كما كان أجدادهما مع أجداده.
قال عبد العزيز: «ما تخلينا أبدا عنكم يا أهل عائض، وعندما سأل الترك الشريف عبد الله بن عون أن يهاجمكم وينكل بكم، أرسل الشريف يستنجد عمي الإمام عبد الله فأجابه: ابن عائض رجل منا فكيف نساعدك عليه؟»
ثم عرض إمارة عسير على حسن بالشروط التي تقيد بها أجداده فرفضها قائلا : «قد عادينا الناس ونخشى إذا أمرتنا أن يقوموا علينا، ولكنا نكون معاونين لمن تؤمرون، أيدكم الله، ولا تقصروا عنا من جهة الدنيا.»
لم يقصر ابن سعود؛ فقد أعطاهما خمسة وستين ألف ريال (6500 ليرة ذهبا) وخصهما وأهلهما بالمشاهرات المالية.
عاد الأميران إلى بلادهما راضين مغبوطين، فأقام محمد في أبها عند حاكمها وكانت سيرته حسنة. أما حسن فاستأذن بأن يسافر إلى حرملة بلدته ليجيء بعائلته إلى العاصمة فأذن بذلك، ولكنه عندما وصلها تمنع فيها وشرع يدس الدسائس على ابن سعود.
ثم مشى - بعد فتنة أثارها - بقوة من قومه على أبها، فحاصر الأمير فيها عشرة أيام، واضطره إلى التسليم، فسلم، فأسر في خميس مشيط.
وكان قبل ذلك قد جازف هذا الأمير بسيادة ابن سعود في بني شهر المقربين من الديوان الهاشمي بمكة. فقد كان لابن سعود عامل في تلك الناحية أرسل مرة مع أحد رجاله مالا إلى أمير أبها، فقتله بعض العربان وسلبوا المال، فأرسل الأمير إلى بعض الإخوان من قحطان يأمرهم بمهاجمة بني شهر. هجم الإخوان على أدنى أولئك العربان منهم، فاشتبكوا وإياهم في القتال وكانت الغلبة عليهم. وكان الملك حسين يستنهض بني شهر ليكونوا وابن عائض يدا واحدة على ابن سعود، ويمدهم بالذخائر وبالمال، فتفاقم الأمر، واشتد الخطر على السيادة النجدية في عسير.
استمرت هذه الحال ما يقرب من شهرين. وبعد سقوط حائل ببضعة أشهر جهز السلطان عبد العزيز ابنه فيصلا بحملة على عسير مؤلفة من ستة آلاف من جنود نجد، من الإخوان، وأربعة آلاف من عرب قحطان وزهران انضموا إليهم عندما دخلوا تلك الجبال.
مشى فيصل في الشهر العاشر من عام 1340 (يونيو 1922)، فلما وصل إلى بيشة كان بنو شهر زاحفين إليها يريدون مهاجمتها، فأمر فيصل بابتداء القتال، فهجمت عليهم كتيبة من الجيش فقتلت مائتين منهم وشتت الباقين.
وكان محمد بن عائض مرابطا بجيشه في خميس مشيط، فعندما علم بدنو فيصل تقهقر إلى حجلة، فتقفته سرية من الفرسان، فتراجع وجنوده إلى أبها بدون قتال.
سألت الأمير: «وهل كان في أبها عندما دخلتموها؟» فقال: «ما وجدنا فيها غير الكلاب والحريم.» فر آل عائض وقومهم وفر معهم هاربا من استطاع، فأرسل الأمير فيصل يؤمن الناس بشرط أن يسلموا «شوكة الحرب»، فسلم فريق من الذين كانوا ثائرين، وظل فريق مع الأمير حسن الذي لجأ إلى بلدته حرملة وتحصن فيها.
وحرملة هذه هي في معقل من الجبال يستحيل ارتقاؤها إلا من منافذ معلومة لا يعرفها غير أهلها. كان آل عائض في محاربتهم الأتراك يلجئون إليها، وهي بلدتهم وحصنهم المنيع منذ القدم. أما الأمير محمد فقد هرب إلى القنفذة ومنها سافر إلى الحجاز ليستنجد الملك حسينا، فأنجده بحملة صغيرة يقودها الشريف عبد الله بن حمزة الفعر ومعها مائتان من الجنود النظامية، وبعض المدافع والرشاشات بقيادة الملازم حمدي بك.
3
جاءت الأمير فيصل أخبار العائضين، فأرسل على حسن في معقله بحرملة سرايا من الجيش، الواحدة تلو الأخرى، وبعد تذليل العقبات، ومعركة دامت ست ساعات، استمر الإخوان في التصعيد حتى وصلوا حرملة فلم يجدوا حسنا فيها، فهدموا قصورها وحصونها وعادوا إلى أبها.
الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز.
وكان الأمير قد أرسل قوة من الجيش إلى تهامة لمحاربة القادمين من الحجاز، ولكن تهامة كانت على الإخوان أشد في حرها وحمياتها من صخور حرملة، فلم يمعنوا فيها بل عادوا منهزمين - هزمتهم الحمى - إلى الجبال، فتقفى جيش الحجاز أثرهم.
أما القيادة في ذاك الجيش فقد كانت مقسومة غير متفق عليها. قال الشريف عبد الله بن حمزة بخطة في السير، وقال حمدي بك قائد الجنود النظامية بخطة أخرى، ولكن الكلمة الأخيرة كانت للشريف فمشى بالجيش في الطريق التي حذره منها حمدي بك.
وكان ذلك من حظ الإخوان الناقمين على تهامة، الطالبين الثأر من الجيش الذي جرهم إليها، إذ ما عتم أن وقع الشريف عبد الله في الشرك، فأحاط به أهل نجد وكادوا يفنون جيشه بالرصاص وبالسيف. نجا القائدان بقسم من رجالهما - البدو والنظام - ولاذوا ببارق، فتعقبهم الإخوان، ففروا منها منحدرين إلى تهامة، متقهقرين إلى القنفذة.
وبعد فرار العائضين حسن ومحمد
4
وهزيمة الجيش الحجازي، أمر الأمير فيصل في أبها ابن عفيصان
5
وأقام فيها حامية عددها خمسمائة جندي، ثم عاد بما بقي من جيشه إلى الرياض، فوصلها في 21 جمادى الأولى 1341 /8 يناير 1923، يوم كان مؤلف هذا التاريخ هناك.
الفصل الرابع والثلاثون
الإخوان في العراق
عندما وصل سعود الكبير سنة 1205 / 1790، إلى الجبل والجوف في فتوحاته، دخلت شمر إلا قليلا منها في المذهب الوهابي لخلوه من الزيادات في العبادات، وأملا بالتخلص من الحكم العثماني. على أن أبناء الجبل لا يشبهون في النزعة الدينية أهل العارض، فلم يؤثر المذهب الجديد في عصبيتهم الشمرية، ولا أثر فيها النزوح الأول إلى العراق ، عندما أجلى ابن سعود «الجربا» وعشيرته من الجبل، في العقد الأخير من القرن الثامن عشر.
ظلت شمر من أكبر قبائل العرب عدا، وأرسخهم في القومية، وأبسلهم في القتال. وقد كانت في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر ركن ملك ابن الرشيد، ونار علمه، وآية عزه ونصره.
أما الدعاية المذهبية في الجبل في بداية هذا القرن، فقد اختلفت بأمرين عما سبقها في بداية القرن الماضي، أو أنها تنزهت عن أمر هو ديني وتخلصت من آخر هو سياسي. لم يكن في الجبل من يكره الناس بالمذهب الوهابي الحنبلي في حملاته الفظيعة على «المشركين»، ولم يكن للدولة العلية في الربع الذي ولى من هذا القرن، ما كان لها من الشوكة في الممالك العثمانية، ومن الهيبة والنفوذ في العالم الإسلامي، فلم تتمكن السياسة التركية الإسلامية من مقاومة الدعاية الوهابية؛ خصوصا لأن تلك الدعاية كانت في الإجمال سلمية، فقد مشى المطاوعة إلى الجبل قبل أن يزحف إليه الإخوان.
وعندما كثرت الهجرة إلى العراق، خصوصا من قبيلة عبدة الشهيرة، بسبب ما تكرر في بيت الرشيد من الجرائم السياسية الفظيعة، تعددت عوامل التفكك في شمر، فضعفت تلك العصبية التي كانت ركن الجبل وسيف ابن الرشيد، ولم يحل محلها عصبية مذهبية؛ لأن أهل الجبل لا يغالون في الدين كما قلت مثل أهل العارض.
ولكن السياسة كانت تستثمر ما تبقى من العصبيتين، فالذين فروا من الجبل إلى العراق، قبل حصار حائل، دخلوا هناك في العشائر المعادية لعشائر نجد واشتركوا في الإغارات التي تكررت عليها. والحق يقال: إن الفوضى أثناء الحصار ضربت على حدود العراق أطنابها، فعجزت عن مكافحتها حكومة بغداد الجديدة الضعيفة، وشغلت حكومة نجد عنها في الحرب.
أجل، قد تكررت الإغارات من العشائر بعضها على بعض، وكان عربان المنتفق والظفير يسطون خصوصا على عشائر نجد، فكتب السلطان عبد العزيز إلى حكومة العراق يسترعي نظرها للأمر، ويطلب أن يردع الأشقياء، وترد المنهوبات التي نهبت من عشائره.
أما هذه المنهوبات فكان أكثرها عند الظفير، وشيخها نافر من تلك الحكومة الجديدة بل خارج عليها، فلم تملك قيادة ولا كان لها في عربانه الأمر المطاع، وقد كان ابن صويط على عداء قديم وابن السعدون يوسف بك المنصور، والاثنان عدوان لابن سعود، فقامت حكومة العراق تنفر في سياستها واحدا منهما إليه.
قال السر برسي كوكس
1
في تقريره إلى الحكومة البريطانية: «لم تكن العلاقات حسنة بين حكومة العراق وشيخ الظفير حمود بن صويط، وقد أمسكت عنه المشاهرات؛ لأنه لم يردع عشائره عن الغزو والاعتداء ... ومن سوء الحظ أن الملك فيصلا عين في هذا الوقت يوسف بك السعدون قائدا لفرقة الهجانة على الحدود، وبينه وبين ابن صويط عداء قديم، فأهاج ذلك خاطر شيخ الظفير الذي رحل إلى الرياض. وقد كتبت إلى ابن سعود أسأله ألا يستقبله؛ لأن حكومة العراق غير راضية عنه».
ولم يكن ابن سعود راضيا عن حكومة العراق؛ لأن تعيين يوسف بك السعدون قائدا لفرقة الهجانة لم يكن على ما يظهر للدفاع فقط، بل شملت مهمته النظر في شئون البوادي التي تسرح وتمرح على حدود البلدين نجد والعراق.
ولأسباب أخرى قد رحب السلطان عبد العزيز بشيخ الظفير ابن صويط عندما جاءه مستغفرا، وأعطاه الأمان على شرط أن ترد عربانه كل ما نهبت من أهل نجد، وألا يشمل العفو غيرهم من المذنبين، ثم أجزل له العطاء، وأرسل معه أحد رجاله عبد الرحمن بن معمر للتأمين، ولجمع الزكاة من أهل الظفير المستسلمين.
وفي جمادى الثانية من عام 1340 / فبراير 1922، نقل يوسف بك السعدون بفرقة الهجانة إلى أبي الغار، على مسير يوم من سوق الشيوخ غربي سكة الحديد بين البصرة والناصرية، فزاره المتصرف هناك وأمر العربان بألا يؤدوا الزكاة إلى ابن سعود.
أما ابن سعود فعندما علم بممشى السعدون أمر فيصل الدويش في الأرطاوية بأن يمشي إلى الحفر، ويعسكر هناك للدفاع عن عشائر نجد.
وكان ابن صويط قد بدأ ينفذ في عربانه أوامر ابن سعود، فعصاه واحد من المتقدمين فيهم اسمه أبو ذراع، وخرج إلى آل طوالة، من شمر العصاة، وشرع يشن الغارات وإياهم على عشائر نجد . علم الدويش بذلك، وهو على الحفر، فشد على ابن طوالة وأبي ذراع.
وكان يوسف بك السعدون قد زحف بهجانته على ابن صويط ومن معه من رجال ابن سعود، فنزل ليلة ذاك النهار في مكان قريب من مناخ أبي ذراع وابن طوالة.
هجم الدويش على هذين الزعيمين ورجالهما فغلبهم وغنم أموالهم، فبادرت هجانة يوسف بك إلى الدفاع عن المغلوبين، فما عتموا أن صاروا مثلهم. ضربهم الدويش دفاعا، فانقلب الدفاع هجوما؛ لأن الإخوان المنتصرين ظلوا ماشين إلى أبي الغار، فدخلوها في 11 مارس ونهبوها، ثم تأثروا جيش السعدون فأدركوه في شقرة، التي تبعد عشرين ميلا من أبي الغار إلى الجنوب، فضربوه ضربة ذهبت بأكثر أولئك الهجانة وشتت الباقين، وقد خيم الإخوان في تلك الناحية بضعة أيام، فضجت كربلاء والنجف، ضج العراق بأجمعه.
على أن الحكومة الإنكليزية فعلت بالدويش وجنوده ما فعلته سابقا في الصبيحية بالكويت. أرسلت عليهم الطيارات، ومن الطيارات القذائف المدمرة المبددة.
ثم تبادل المندوب السامي السر برسي كوكس والسلطان عبد العزيز رسائل الأسف. قال حضرة المندوب: «لا تؤاخذوا طياراتنا، ولكن لا مبرر لهجوم الإخوان على عشائر العراق.»
وقال عظمة السلطان: «لا تؤاخذوا الإخوان، ولكن التبعة على الحكومة التي لا تستطيع أن تكبح جماح العشائر ضمن حدودها. هذا جزاء الضعف والإهمال.»
وبعد هذا الحادث عقد مؤتمر المحمرة لتسوية الخلاف بين البلدين، فحضره أحمد بن ثنيان من قبل السلطان عبد العزيز ومندوبان من قبل الحكومة والمفوضية في بغداد، ولكن السلطان لم يصدق على ما قرر هناك، فعقد المؤتمر الثاني بعد بضعة أشهر في العقير.
الفصل الخامس والثلاثون
مؤتمر العقير
على كثيب يحدج الخليج بعينه العسلية، إلى جنوب القصر بالعقير، لخمس خلون من ربيع الثاني عام واحد وأربعين وثلاثمائة وألف (28 نوفمبر 1922) نصبت الخيام للمؤتمر. فكان قسم منها، وهي البيضاء الهرمية المزركشة من الداخل بالآيات والرسوم، إلى الجانب الشرقي لوفد العراق وللإنكليز، والقسم الأكبر وأكثره من بيوت الشعر إلى الجانب الغربي لأهل نجد من المرافقين عظمة السلطان عبد العزيز، وكان سرادق عظمته مقابلا لسرادق الاجتماع ، في المخيم الأوروبي، وبينهما نحو مائتي متر من الرمل، وتحت سرادق الاجتماع سرادق الطعام ووراءه المطبخ، وإلى جانبه قافلة من الجمال وقد أناخت بأحمالها.
وكانت شمس العقير فاترة لا تجفف هواء العقير. وهواء العقير - وهو رطب كثيف ثقيل - لا يصلح مزاج من جاء، ومزاجه معكر، ليصلح مجاري السياسة بينه وبين جيرانه.
كان السلطان عبد العزيز قد علم في الطريق من الحساء بقدوم فهد الهذال شيخ العمارت مع المفوض السامي السر برسي كوكس، فغاظه ذلك؛ لأنه لم يجئ العقير لحل مشاكل العشائر. وقد كان فوق ذلك ناقما على الشيخ فهد؛ لأنه أنزل عرب شمر الذين فروا من الجبل في أثناء الحصار لحائل.
أعضاء مؤتمر العقير.
فكتب إليه يذكره بأنهم من رعاياه، وأن عرب عنزى - والعمارات منها - هم أبناء عم ابن سعود، وأنهم لا يأوون أعداءه، ولا يساعدونهم عليه: «بل أنت يا فهد وعشائرك من رعايانا، ولك علينا حق الحماية، اللهم إذا كنت من المخلصين.» ولكن فهدا يفضل على ما يظهر الحماية الإنكليزية، وقد جاء محتميا بالمندوب السامي ليسترضي السلطان عبد العزيز.
قال عظمته للمؤلف: «نحن دعونا السر برسي كوكس إلى العقير للنظر وإياه في أمرين؛ الأول: الشريف وأولاده، والثاني: الأتراك الطامعون الآن بالموصل. أما مسألة العمارات والظفير فحلها لا يستوجب مجيئنا إلى هذا المكان.»
ولكن السر برسي اغتنم هذه الفرصة ليعيد البحث في اتفاق المحمرة، ويحدد الحدود بين نجد والكويت، وبين العراق ونجد، فجاء ومعه فريق من السياسيين والأخصائيين وكتبة السر والخدم.
وصل اليخت الذي أقلهم من البحرين في مساء اليوم السابع من ربيع الثاني، فأمر السلطان بإرسال الخيل إلى الرصيف، ونزل هو وحاشيته يلاقون الوفود، ثم عادوا بعد نصف ساعة إلى المخيم، فترجلوا أمام سرادق الاجتماع الذي أنير بأنوار «اللوكس».
وبعد أن استقروا بالمجلس «اعتذر المندوب السامي؛ لأنه أبطأ في السفر، فقبل السلطان العذر، وشرع يفصح عما كان يتقد في صدره، فجاءت الكلمة الأولى قنبلة زعزعت المكان: «أنا لا أخشى إلا الرجل الذي لا شرف له ولا دين.» ثم قال : «لا ندري يا حضرة المندوب ما خفي من المقاصد، ولكننا نرجو منها الخير. ومما نعلم علم اليقين أن العشائر، خصوصا عشائر العراق، لا ترتاح إلى حكومة قوية، بل لا تبغيها؛ لأن الحكومة إذا كانت قوية تضر بهم وتؤدبهم، أما إذا كانت ضعيفة فتسترضيهم كما هي الحال اليوم. العشائر يا حضرة المندوب لا يفهمون إلا بالسيف. فهم إذا عاملتهم بالحسنى يتحكمون بالحكومة. أشهروا السيف يرتدعوا يتأدبوا. أغمدوا السيف ينهبوا، ويقتلوا، ويتقاضوكم فوق ذلك المشاهرات.»
فاه عظمته بهذه الكلمات وهو مدير ظهره لفهد الهذال، ثم مال بوجهه إليه، وقال مبتسما: «أليس كذلك يا فهد؟ «حنا» نعرف بعضنا.» فضحك كل من كان في المجلس، إلا شيخ العمارات الذي كان يحدق نظره في السجادة، ثم يرفعه خلسة إلى المندوب السامي، كأنه يقول: لا بارك الله ساعة جئت فيها معك.»
1
هذه أول جلسة - وإن كانت غير رسمية - من مؤتمر العقير، تبعها جلسات خصوصية بين السلطان والمندوب السامي، وجلسات عمومية حضرها رئيس وفد العراق صبيح بك نشأت، والوكيل السياسي الميجر مور في الكويت والشيخ فهد الهذال. وكان الكتاب والمترجمون، والأخصائيون من العرب في معرفة الآبار والطرق والمراعي، يؤمون خيمتي الصغيرة من حين إلى حين.
أعود إذن إلى مذكراتي في تلك الأيام.
في 8 ربيع الثاني 1341 /28 نوفمبر 1922
اجتمع صباح اليوم السلطان والمندوب السامي، فخرج المندوب وفي جيبه تقرير طويل باللغة العربية، سألني عندما زرته بعد نصف ساعة في خيمته أن أترجمه له. هو تقرير يتعلق بقبيلتي العمارات والظفير، كان قد أعده السلطان لمندوبه في مؤتمر المحمرة، وهو مكتوب في صورة السؤال والجواب: «إذا سألوك كذا وكذا، أجب كذا وكذا. وإذا ألح المندوب الإنكليزي في أمر من الأمور، اسأله إذا كان يتكلم بلسان حكومته أو بلسان حكومة العراق، فإذا كان بلسان حكومة العراق فالجواب هو أننا لا نتساهل بحقوقنا، وإذ كان بلسان حكومة بريطانية فجاوب: إكراما لحكومة بريطانية. هذا إذا كان من الأمور الثانوية، أما إذا كان من الأمور الجوهرية، فالجواب هو أننا لا نسلم إلا مكرهين. والحكومة البريطانية تفهم أن عاقبة الإكراه وخيمة.»
قرأت ما تقدم وترجمته كلمة كلمة، فلم يظهر السر برسي شيئا من الاكتراث ... إن للسلطان عبد العزيز مفاجآت مزعجة ... «إذا سألوك عن العمارات قل إنها من عنزى، وعنزى كلها من أبناء عم ابن سعود ومن رعاياه.»
القصر في الرياض.
السر برسي: «عنزى العراق (أي العمارات) تفضل أن تكون من رعايا العراق، أما عنزى سورية
2
فقد تفضل أن تكون من رعايا ابن سعود، وله ما يشاء فيها.»
أضحكتني هذه الكلمة من السر برسي، فكأنه يقول: الذي عندنا هو لنا، والذي عند غيرنا - عند الفرنساويين - هو لك يا عبد العزيز إذا استطعت أن تستولي عليه.
في 9 ربيع الثاني (29 نوفمبر)
قد زل اليوم المندوب السامي، فبعد جلسة طويلة وعظمة السلطان استدعى إليه عبد اللطيف باشا المنديل، أحد المستشارين يومئذ لعظمته، ففاوضه مفاوضة استمرت نصف ساعة، وأعطاه صورة كتابين، كتبا بقلم الرصاص وباللغة الإنكليزية؛ ليسلمهما إلى السلطان. فأرسل عظمته يدعوني إلى الفسطاط، مما يؤسف له في مثل هذه الحال ألا يكون للمندوب السامي ولا للسلطان ترجمان يحسن الترجمة. فإنكليزية الدكتور عبد الله، مثل عربية الميجر دكسون، لا تصلح الأمم.
ترجمت الكتابين، وكان السلطان أثناء الترجمة يتزحزح في مجلسه ويضرب السجادة بعصاه. (1)
الكتاب الأول، الذي يسأله المندوب كتابته، هو إلى الملك فيصل جوابا على كتاب من الملك يفترض وصوله. وفي هذا الكتاب يقول: بناء على تعهدات الحكومة البريطانية في معاهدتي وإياها، أقبل الاتفاق الذي عقد في مؤتمر المحمرة. (2)
الكتاب الثاني يكتبه إلى السر برسي كوكس ليخبره بالكتاب الذي كتبه إلى الملك فيصل، ويزيده علما بأن واحدة من التعهدات المذكورة في ذاك الكتاب تتعلق بالمادة الثانية من المعاهدة
3
وفيها أن الكلمات «أية دولة أجنبية» يجب أن تشمل أيضا حكومات الحجاز والشرق العربي والعراق؛ أي إن الحكومة البريطانية تتعهد أن تحمي بلاد نجد، إذا ما تعدت عليها إحدى هذه الحكومات الثلاث.
قال السلطان وهو يتميز غيظا: «ومن قال للمندوب السامي: إن ابن سعود يخاف الشريف وأولاده. لا والله، «حنا» في غنى عن الحمايات، إذا كان المعتدي علينا من العرب.»
وقد ساءه خصوصا أن يقول له المندوب، بقلم من الرصاص على قصاصة من الورق: ماذا يجب أن يكتب إلى الملك فيصل أو إلى الحكومة البريطانية؟
دخل وأنا أترجم الكتابين بعض رجال السلطان، فأومأ إليهم أن اخرجوا، فاستمروا ماشين في الفسطاط، وخرجوا من الباب المقابل للباب الذي دخلوه، فاستأنف عظمته الحديث، ثم هتف قائلا: «لا نخاف إلا الله.»
وكان المؤذن ساعتئذ يؤذن لصلاة الظهر، فنهض يلبي الدعوة، وهو يقول: «سنصلي سنصلي.»
في 9 ربيع الثاني (مساء)
رفض السلطان بتاتا أن يكتب الكتابين اللذين أشار بكتابتهما المندوب السامي.
في 12 ربيع الثاني (1 ديسمبر)
قد تم الاتفاق بين السلطان ومندوب العراق على الحدود النجدية العراقية، وتقررت بقعة الحياد بين البلادين، بقعة تدعى العونية فسميت هزءا قطعة بقلاوة؛ لأنها في شكلها مربع شبيه بالمعين
rhomboid (راجع الخارطة) وفي هذا التحديد تقرر أيضا مصير العمارات والظفير الداخلتين في أرض العراق، المعدودتين الآن من عشائره.
يظهر أن السر برسي أقنع السلطان أو أنه أرضاه بما يقابل تنازله عن هاتين القبيلتين ... قطعة بقلاوة للجميع! ومن يكبح جماح القوي إذا رد عنها الضعيف؟ بقعة خصبة للمرعى، وفيها آبار عديدة، لا هي لكم يا عرب العراق ولا هي لنا، ولكننا إذا ارتدناها مسلحين، ولم يكن فيها ما يكفي غير مواشينا من الماء والكلاء، فمن ذا الذي يردنا عنها، ومن ذا الذي يستطيع أن يحرمنا؟ إنه لصلح صغير، مثل الذي كان يعقد في بعض الأحايين بين ابن سعود وابن الرشيد. وليت شعري هل في لوزان
4
اليوم يعقدون صلحا صغيرا أم كبيرا؟
في 13 ربيع الثاني (2 ديسمبر)
وقد تم الاتفاق بين السلطان والمندوب السامي والوكيل السياسي في الكويت الميجر مور على بقعة حياد بين البلدين؛ لتقي عربان الكويت وعربان نجد شر التصادم. وهل يدري العربان بالمعاهدات؟ وهل يحترمونها إذا ما جدبت الأرض وخرجوا كلهم «ينشدون الحيا»، يطلبون المرعى والماء؟ هو صلح آخر صغير. وقد يدوم مع ذلك أكثر من صلح العراق ... علمت أن السلطان طلب توسيع حدود الجوف لقاء تنازله عن العمارات والظفير، وأن السر برسي وعده بذلك.
في 13 ربيع الثاني (مساء)
من بشائر الخير في هذا المؤتمر للبلاد العربية كتاب كتبه الملك فيصل بخط يده إلى السلطان عبد العزيز، إلى «أخي العزيز» وأرسله مع رسوله الخاص عبد الله بن مسفر جار فهد الهذال في المخيم الأوروبي. الكتاب مدبج بأرق العبارات الولائية، وفيه ما يدل على أن جلالة الملك يرغب رغبة حقيقية في الصلح ليس بين العراق ونجد فقط بل بين نجد والحجاز. فهل ينبذ فيصل خطة والده؟ وهل يستطيع أن يوفق بينه وبين السلطان عبد العزيز؟ ها هنا أساس الصلح الكبير والسلم الثابت في البلاد العربية. ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.
وجواب السلطان على كتاب الملك ينبئ بالخير ... عسى أن يتوفقا إلى اجتماع شخصي خاص ... إني متيقن أن السلطان عبد العزيز راغب في ذلك، ولكنه في الوقت الحاضر منحرف المزاج، وقد طالت إقامته في الحساء. فهو يبغي الرجوع إلى الرياض. ولا بأس إذا بحت بسر واحد من أسرار الملوك. إن هناك رغبة في الاجتماع بدون واسطة الحكومة البريطانية.
في 14 ربيع الثاني (3 ديسمبر)
آخر ما ترجمته لعظمة السلطان صورة برقية أرسلها السر برسي كوكس إلى المستر اتشرشل (يومئذ وزير الخارجية) يقول فيها: إن ابن سعود طلب أن تكون قريات الملح في الجوف تابعة لتلك الناحية وبالتالي لنجد. وهو، أي السر برسي، يشير بالقبول، بل يقول : أكدت لعظمته أن ذلك يكون مقبولا لدى حكومة جلالة الملك.
5 •••
نأخذ من ابن سعود لنعطي العراق، ونأخذ من شرقي الأردن لنعطي ابن سعود، ونأخذ من الحجاز (العقبة) لنعطي شرقي الأردن، وممن نأخذ لنرضي الحجاز؟
الفصل السادس والثلاثون
النكاس، والذي يوسوس في صدور الناس
بعد بضعة أشهر من مؤتمر العقير نكس مريض الجزيرة، نكس السلم، والسبب في النكاس مكروب الغزو الذي ظن المتعاهدون أنهم استأصلوه، ولكنهم بنجوه فقط، فأفاق بعد أربعة أشهر، ونشط إلى العمل مباشرا في العراق، أو بالحري على حدود العراق ونجد.
قد يذكر القارئ ما قلناه في عرب شمر الذين لجئوا إلى العراق بعد احتلال حائل، وقد يذكر أن في العراق من هذه القبيلة الكبيرة من نزحوا إلى ذلك القطر قديما، وهم يعدون من أهله، وأكثرهم ينزلون ما بين النهرين قرب الموصل.
هؤلاء العشائر، وفي مقدمتهم آل عبدة التابعون لشيخة عجيل الياور الذي تخصه الحكومة العراقية بالمشاهرات المالية، كانوا يرحبون بإخوانهم الفارين من نجد ويشاركونهم في شن الغارات على قبائل ابن سعود. قد تخلل هذه الغزوات فترة سكون عقد فيها مؤتمر العقير، ثم عادت تلك العشائر بعد أربعة أشهر، أي في صيف عام 1923، تفسد ما أصلحه المصلحون وتحاول في غزواتها المتتابعة أن تقضي على السلم في القطرين العراقي والنجدي. فكتب عظمة السلطان إلى المفوض السامي وإلى جلالة الملك فيصل يلفت نظرهما إلى هذا الأمر ويحذرهما من عواقبه، بل طلب من الحكومة مرارا أن تردع المجرمين، وترجع ما نهبوه من أهل نجد.
وقد نشر في الكتاب الأخضر النجدي أجوبة أولي الأمر هناك، وفيها ما يثبت دعوى حكومة نجد، بل فيها الدليل على عجز حكومة العراق - عجزها يومئذ - عن تنفيذ ما رأته واجبا عليها.
قال جلالة الملك فيصل في جوابه: «تلقيت كتابكم المرسل مع خادمكم الأمين عبد العزيز الرباعي فكان أعز واصل ... أما من خصوص التفاوض، فقد أجرينا اللازم وأخبرنا حامله شفاها بما يسهل الأمور.»
وقال وزير الداخلية (يومئذ عبد المحسن بك السعدون) في كتاب أرسله إلى المفوض السامي:
قد أصدرت الأوامر إلى متصرف الموصل لكي يرسل رؤساء شمر نجد وخصوصا أولئك الذين اشتركوا في هذه الغارات ... وقد وعد الشيخ عجيل الياور باسترجاع الأموال المنهوبة، وتعهد بقبول المسئولية عن وقوع الغارات في المستقبل.
ثم كتب معالي الوزير إلى متصرف الموصل كتابا شديد اللهجة جاء فيه: «إن التأثير الذي ينجم عن هذه الغزوات يغضب ابن سعود، فإن لم تتخذ الإجراء المستعجل فأقل ما ينتظر هو حدوث غزوات جسيمة مقابلة لذلك
1 ... ومما لا يطاق احتماله اتخاذ شمر العراق مركزا لحركاتهم الحربية على ابن سعود.» فالحكومة عازمة على اتخاذ التدابير لكبح جماحهم ولطردهم إذا اقتضى الأمر.
وكان قد كتب عبد المحسن بك إلى المفوض السامي يسأله إذا كان في وسعه «مساعدة الحكومة العراقية بالطيارات والسيارات المدرعة إذا كانت القوات الموجودة لديها غير كافية.»
ولكن عجز الحكومة العراقية لم يكن سوى مظهر من عجز حكومة الانتداب، وفي كتاب السر برسي كوكس، المؤرخ في 27 أغسطس، إلى عظمة السلطان ما يثبت ذلك؛ فقد جاء فيه أنه، أي المفوض السامي، لم يقصر «في الإسراع إلى لفت نظر الحكومة العراقية إلى هذه الحركات السيئة من قبل رجال شمر نجد المقيمين داخل حدودها.» وأنه «سينظر مع الحكومة العراقية في أمر إمكان وضع دوريات منظمة في أطراف العراق لأجل منع حدوث مثل هذه الأمور.» وأنه «واثق من التمكن قبل مدة طويلة من القيام بضمانات وافية ترضي كلا الحكومتين، ومن اتخاذ تدابير من شأنها أن تمنع العشائر من تكرار هذه الأعمال.»
ولكن «الدوريات» لم تنظم في هذه السنة ولا في التالية لها. أما التدابير فقد عقد في سبيلها في الأشهر الأربعة الوسطى من هذا العام مؤتمر الكويت (1342ه / 1923-1924م)، وفي خلال هذه الأشهر، أي من جمادى الأولى إلى شعبان، ساد شيء من السكون في البادية، وقامت مقام الغزوات حرب من الكلام في مدينة ابن الصباح.
كانت الحكومة الداعية، بواسطة وكيلها في أبي شهر الكولونل نوكس،
2
إلى هذا المؤتمر، وكان الغرض منه: (1)
البحث في المواد الباقية بين نجد والعراق ومن جملتها قبائل شمر الملتجئين إلى هذا القطر. (2)
البحث في مسألة حدود نجد وشرق الأردن. (3)
البحث - إذا شاء ابن سعود - في حل المشاكل التي بين نجد والحجاز.
وقد قال الوكيل في كتابه إلى عظمة السلطان: «إن الحكومة البريطانية مستعدة أن تعرض الأمر على الملك حسين.» وإن غرضها من عقد هذا المؤتمر «هو إزالة سوء التفاهم وحل جميع المشاكل التي بين الممالك المتجاورة.»
قبل السلطان الدعوة على شرط أن تكون المفاوضات بين الوفد النجدي وكل وفد آخر من الوفود على حدة؛ أي إن وفد العراق لا يشترك في مباحث شرقي الأردن، ولا وفد شرقي الأردن في بحث أمور العراق. قبل الوكيل هذا الشرط وأعلم به الحكومات الأخرى فحاز قبولها، وقد عقدت جلسة المؤتمر الأولى في 7 جمادى الأولى سنة 1342 / 17 ديسمبر 1923، فتلتها أربع جلسات، دار فيها البحث بين وفد نجد ووفد العراق، فتم الاتفاق بينهم على بضع مواد تختص بمعاقبة الذين يشنون الغارات في أطراف البلدين، وبكيفية المعاقبة وبطريقة المراسلة بين الحكومتين فيما يختص بالعشائر.
تم الاتفاق أو كاد يتم. فإن وفد العراق، ساعة التوقيع، طلب أن يضاف إلى المعاهدة أنها لا تكون نافذة ما لم يتم الاتفاق مع الحجاز، ولكن الملك حسينا رفض أن يرسل مندوبا من قبله إلى المؤتمر، وقد قال في بادئ الأمر إنه لا يشترك في المفاوضات ما زال ابن سعود محتلا بلدة واحدة من بلدان الحجاز.
رفض الوفد النجدي المادة الشرطية، وجاء في برقية رئيس المؤتمر الكولونل نوكس إلى حكومته «أنه لا يمكن البت في شأن من الشئون ما لم يوفد الحجاز مندوبه.» ثم تأجل المؤتمر إلى 8 يناير ليتمكن الوفدان من الرجوع إلى بلديهما ليستشيروا حكومتيهما في المسائل المختلف عليها.
أما وفد شرقي الأردن فقد كان أشد لهجة وأكثر صراحة من وفد العراق، فظهرت في خطبه اليد التي كانت تحركه، والروح - غير روح الأمير عبد الله - التي كانت مسيطرة عليه.
إن ظاهر الخلاف بين نجد وحكومة عمان هو الجوف وقريات الملح
3
فبعد مؤتمر العقير، عندما علم سمو الأمير بما كان من الاتفاق بين حكومة بريطانية العظمى والسلطان عبد العزيز بخصوص الحدود النجدية العراقية، أرسل قوة احتلت القريات، فهم السلطان بإخراج تلك القوة منها، فلجأ الأمير إلى الحكومة البريطانية التي طلبت إذ ذاك من ابن سعود أن يتوقف في الزحف إلى الجوف، ووعدت بتسوية المسألة بالوسائط السلمية. أما حادث الجوف هذا فقد كان من الأسباب التي عجلت في عقد مؤتمر الكويت.
قلت إن وفد شرقي الأردن كان أكثر صراحة وجرأة من وفد العراق، فقد استهل رئيس الوفد خطابه في إطراء صاحب الجلالة الهاشمية، والنهضة العربية، والحكومة البريطانية التي ساعدت في استقلال العرب، ثم قال : «إن شرقي الأردن هي من ثمار هذا الاستقلال، وإن الجوف وسكاكة وما يتبعهما هي لازمة له، هي ضرورية للمواصلات بين شرقي الأردن والعراق.» فيجب إذن أن تكون تحت إشراف حكومة الأمير.
وفي الجلسة الثانية كانت اللهجة أشد والصراحة أعجب؛ فقد قال المندوب الأردني: إن الجوف وسكاكة وتوابعها هي من الأراضي السورية، التي تبدأ حدودها من مدائن صالح، وتنتهي عند بو كمال على نهر الفرات، وإن حكومة شرقي الأردن هي من سورية، فيجب أن يكون الجوف بأجمعه تحت إدارتها.
المندوب النجدي: «إن الجوف وسكاكة ووادي سرحان بأجمعه كانت تتبع التطورات في نجد، بينما أن تشكيلات الأردن الإدارية لم تكن سوى أقضية تابعة للكرك والقدس، ولم يكن الجوف تابعا لها إداريا أو سياسيا.»
ثم قال رئيس الوفد: «لا نوافق مطلقا على اتصال حكومة شرقي الأردن بالعراق. ونطلب أن تكون حكومة نجد متصلة حدودها بسورية حتى تكون تجارتها آمنة. فحفظا لكياننا الاقتصادي، وحماية لروحنا التجارية، نطلب أن يكون الاتصال بسورية أساسا للاتفاق بيننا وبين شرقي الأردن.»
قلنا إن ظاهر الخلاف بين القطرين هو الجوف. أما الخلاف الحقيقي الجوهري فهو العداء المتأصل بين آل سعد والبيت الهاشمي، وقد صرح رئيس الوفد - بعد إطرائه جلالة الملك حسين - بما يأتي:
اسمحوا لي أن أصرح لحضراتكم بأنه إذا لم تتخل حكومة نجد عن الجوف ووادي سرحان بأجمعه، وعن الأراضي الحجازية التي احتلتها، أي تربة والخرمة وخيبر وغيرها ، وتجعل تحديد الحدود بين الحجاز ونجد على أن يكون الحد الفاصل هو الصحراء القاحلة، فلا يمكن أن يحصل بيننا اتفاق.» عندئذ قال رئيس المؤتمر الكولونل نوكس: «لا يحق لوفد العراق أو وفد شرقي الأردن أن يتكلم عن الحجاز ... لأن سلطان نجد حينما قبل أن يشترك في المؤتمر اشترط شرطا أساسيا قبلناه، وهو ألا يحق لحكومة من الحكومات أن تشترك في بحث ما يتعلق بالحكومات الأخرى.
توقفت المفاوضات بين نجد وشرقي الأردن كما توقفت سابقا بين نجد والعراق. والسبب الأول في ذلك كما تبين لنا هو الشرط الأخير الذي اشترطه وفد حكومة بغداد، والكلام الأخير الذي فاه به وفد حكومة عمان. وقد فاز في الحالين الملك حسين.
الملك حسين - وهو يومئذ في أوج مجده - أبى أن يشترك في المؤتمر، ولكنه نفذ إرادته في ممثلي حكومتي نجليه، فحالت السياسة الهاشمية دون الاتفاق وسلطان نجد.
وما كانت جلسات المؤتمر الأخرى لتغير في هذه الحال أو تلطفها. فقد عاد وفد العراق يحمل قرار حكومته، وفيه ألا يمكنها أن تسلم شمر نجد حالا، وأنها غير مسئولة عن المنهوبات التي سبق تاريخها تتويج الملك فيصل
4
وأنها لا تقبل بمبدأ إخراج العشائر الملتجئين إليها؛ لأن ذلك «يولد ارتباكات في الحدود العراقية مع سورية وتركية وإيران.»
ولكن مسألة العشائر هي في نظر حكومة نجد المسألة الجوهرية، فإذا كانت حكومة العراق لا تتخذ الوسائط الفعالة لتقضي على الحركات العدائية التي تقوم بها تلك العشائر المجرمة فالوفد لا يمضي ملحقا أو معاهدة.
وما غير وفد شرقي الأردن لهجته، ولا تنازل عن شيء من مطالبه. وقد اقترح رئيس المؤتمر استفتاء الأهالي في القريات، فقبل الوفد النجدي بذلك «على شرط أن يعمل بهذا المبدأ في الأماكن المتنازع عليها بين نجد والحجاز؛ أي في تربة والخرمة.»
لم يقبل الوفد الأردني بذلك، بل طلب أن يكون الجوف ووادي سرحان منطقة حياد بين القطرين، فرفض الوفد النجدي وانفض المؤتمر، أو بالحري تأجل بعد اجتماعه الثاني إلى شهر شعبان (مارس 1924)؛ ليتمكن الرئيس من مفاوضة السلطان عبد العزيز، وقد كان يأمل أن يغير الملك حسين رأيه فيرسل من يمثله في المؤتمر.
قد غير الملك رأيه فعين نجله الأمير زيدا ممثلا للحجاز، ولكنه لم يحضر. وبينما كان وفد العراق، الذي عاد للمرة الثانية يستشير حكومته قادما للمرة الثالثة إلى الكويت، خرج فيصل الدويش - وقد فرغ صبر عربانه - غازيا في أطراف العراق، فغضبت ولا غرو الحكومة، وأمرت وفدها بالرجوع إلى بغداد، فلم يعقد لذلك الاجتماع الثالث.
ليسمح القارئ أن يشير المؤلف ها هنا إلى نفسه. قد كنت في هذه المدة على اتصال مراسلة بعظمة السلطان، وكنت فيما كتبته إلى عظمته ساعيا في سبيل الوفاق بين البلدين، محبذا عقد معاهدة نجدية عراقية أوسع نطاقا مما سبقها في العقير وفي المحمرة. وقد جاءني من عظمته كتاب أقتطف منه ما يلي:
أما ما ذكرته عن الاتفاق مع حكومة العراق فقد كنت أرغب به من صميم قلبي ... ولكن حكومة العراق لا تزال تعمل ضدنا في تأليف العصابات من مجرمي العشائر لمهاجمة رعايانا الآمنين، وقطع الطرق على القوافل ... يعلم الله أن جل مقصدي هو أن أعيش بسلام مع جيراني، وأن نتحد كلنا على ما فيه خير العرب، ولكن الأشراف لا يروقهم ذلك فحسبنا الله ...
وفي كتاب من القصيم مؤرخ في 14 رمضان يقول:
قد جئنا القصيم لأمور لا بد منها، ومنها الاستعداد للطوارئ، فقد عينا عبد العزيز بن مساعد آل جلوي أميرا في حائل، وجعلنا المنطقة الشمالية، بما فيه القصيم والجوف وخيبر، تحت إمرته، وزودناه بالتعليمات الكاملة، والقوة الكافية، والصلاحية الواسعة، وبدلنا أيضا أمير الجوف فعينا محله عبد الله بن محمد بن عقيل، وأصحبناه بما يلزم من القوة.
هذا جواب عظمة السلطان على مطالب سمو الأمير عبد الله وجلالة والده، بل هذي هي نتيجة مؤتمر الكويت.
الفصل السابع والثلاثون
ذروة المجد والخطر
عندما كان السلطان عبد العزيز في الأحساء يراقب عن كثب مؤتمر الكويت، وينتظر متيقظا نتائجه، كان الملك حسين في عمان وقد جاءها ليشرف - كما قال - على جميع البلاد المقدسة، ويزور الأماكن التي فيها مراكز للحكومة، ويوطد السيادة العربية في الشرق العربي.
ولكن مسألة الخلافة بعد أن طرد الترك الكماليون الخليفة والأسرة السلطانية من تركية، شغلت العالم الإسلامي وكانت يومئذ تشغل أمراء العرب وخصوصا الملك حسين. فجاء عمان ليقرب من الأقطار الحية الراقية في العالم العربي؛ وليجس نبضها في هذه المسألة الإسلامية الكبرى.
1343ه / 1923-1924م: وعندما وصل القطار الملكي إلى العاصمة في 8 جمادى الثانية من هذا العام (17 يناير سنة 1924) شاهد جلالته في المحطة مشهدا فريدا مجيدا، خفقت له قلوب السياسة، ورفرفت فوقه آمال الملك كلها. هناك كانت الوفود والجموع في انتظاره، وفود سورية وفلسطين ، ومشايخ العربان، من نواحي الشرق العربي، ورجال الحكومة من عرب وإنكليز، والصحافيون من مصر والقدس وبيروت والشام، والجنود والجموع من بدو وحضر في الثياب العربية والإفرنجية والجركسية، هناك عندما أطل جلالته من القطار رفع الناس أصواتهم هاتفين: ليحي ملك العرب! ليحي المنقذ الأعظم! وقد كان الاستقبال حارا باهرا. اصطفت جنود الجيش العربي على الطريق من المحطة إلى المدينة، وجال العربان من فرسان وهجانة، وهم يهزجون الأهازيج البدوية، ورفع تلاميذ المدارس أصواتهم بالهتاف والأناشيد، وشاركت في الترحيب الطيارات الإنكليزية التي كانت تغمغم في الفضاء.
ثم صعد الخطباء والشعراء منصة البيان، وطفقوا يخطبون وينشدون، مهللين مكبرين، ومهددين الإنكليز والفرنسيس، بل الأوروبيين أجمعين. - ليحي ملك العرب، المنقذ الأعظم! لتحي النهضة العربية! وليسقط كل من يسعى ضدها وضده! ليسقط الاستعماريون والمستعبدون! وكان جلالته يسمع الخطباء والشعراء من شرفة البيت الذي أعد له، البيت المقابل للأثر التاريخي الجليل - الملعب الروماني المتهدم. وللزمان في هزئه بلاغة تعجز دونها الشعراء والخطباء.
ثم قابل جلالته الوفود فقال تكرارا: إنه لا يتنازل عن مبدأ واحد من المبادئ التي هي أركان النهضة: «لا أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد، لا أقبل إلا أن تكون فلسطين لأهلها العرب، أقول لأهلها العرب. لا أقبل بالتجزئة ولا أقبل بالانتدابات. ولا أسكت وفي عروقي دم عربي عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتها للعرب. إذا رفضت الحكومة البريطانية التعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلها، أقول المعاهدة كلها. لا أوقع المعاهدة قبل آن آخذ رأي الأمة. إني عامل دائما في سبيل الاتفاق وأمراء العرب. إني عامل دائما في سبيل الوحدة العربية، والاستقلال التام، أقول الاستقلال التام للأقطار العربية كلها. ولا فرق عندي إذا كان مركز الحكومة العربية في الحجاز، أو في سورية، أو في العراق، أو في نجد.»
ولا عجب بعد هذه التصريحات المدهشة إذا تمت المبايعة بالخلافة. فبعد المآدب والاجتماعات العامة المتعددة، وبعد الاجتماعات الخاصة ورؤساء الوفود، وكبار موظفي الإنكليز، نودي بالملك حسين بن علي خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فبايعه السوريون والفلسطينيون الذين كانوا هناك، ورؤساء عرب الأردن، والحجازيون الذين كانوا مع جلالته، وفريق من العراقيين. •••
وفي غرة ذي القعدة من هذا العام، بعد أن عاد جلالة الملك حسين إلى مكة، وقد أضاف إلى لقبيه الكبيرين اللقب الثالث الأكبر؛ أي خليفة المسلمين، عقد في الرياض اجتماع عام برئاسة الإمام عبد الرحمن حضره العلماء، ورؤساء القبائل، والسلطان عبد العزيز، فافتتح حضرة الإمام الجلسة قائلا:
قد جاءني كتب عديدة من الإخوان وهم يبغون الحج، وقد أرسلت هذه الكتب في حينها إلى ولدنا عبد العزيز. وها هو أمامكم فاسألوه عما يبدو لكم.
السلطان عبد العزيز : «وصلني كل ما كتبتموه وأحطت علما بكل ما شكوتموه. إن لكل شيء نهاية فلا تيأسوا، وإن الأمور مرهونة بأوقاتها.»
سلطان بن بجاد : «يا لإمام حنا نبغي الحج، ولا نريد أن نصبر أكثر مما صبرنا على ترك ركن من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه. ليست مكة ملكا لأحد، ولا يحق لأحد أن يمنع المسلمين أو يصد المؤمنين عن أداء فريضة الحج. نريد أن نحج يا عبد العزيز، فإذا منعنا الشريف حسين دخلنا مكة بالقوة. وإذا كنتم ترون أن من المصلحة تأجيل الحج في هذا العام فلا بد من غزو الحجاز لنخلص البيت الحرام من أيدي الظالمين والمفسدين.»
السلطان عبد العزيز : «مسألة الحج من المسائل التي يرجع الفصل فيها إلى علمائنا، وها هم حاضرون فليتكلموا.»
الشيخ سعد بن عتيق : «إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد، والحمد لله، يستطيعون أن يؤدوا هذا الركن على الوجه الأتم بالرضا أو بالقوة، ولكن من أصول الشريعة النظر إلى المصالح والمفاسد. فالأمر الذي قد يؤدي إلى ضرر أو مفسدة يدفع (يؤجل من أجله الحج)، فهل هناك من مفسدة أو مضرة قد تنتج عن الترخيص لمسلمي نجد بالذهاب إلى بيت الله؟ ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة.»
في الأعوام الخمسة الماضية كان السلطان يجيب على هذا السؤال بالإيجاب، فيمنع أهل نجد عن الحج خوف أن يحدث ما لا تحمد عقباه، وقد كان يعالج مشاكل نجد والحجاز بالطرق السلمية السياسية. أما في هذا الاجتماع فقد قال عظمته مخاطبا العلماء والإخوان:
نحن لا نود أن نحارب من يسالمنا، ولا نمتنع عن موالاة من يوالينا، ولكن شريف مكة كان دائما - كما تعلمون - يزرع بذور الشقاق بين عشائرنا. وهو الوارث من أسلافه بغضنا. ومع ذلك فقد بذلت كل ما في وسعي لحل المشاكل التي بيننا وبين الحجاز بالتي هي أحسن، وكنت كلما دنوت من الحسين تباعد، وكلما لنت له تجافى. إي ورب والكعبة. ولست أرى في تطور الأمور ما ينعش الأمل، بل أرى الأمور تزداد شدة وارتباكا، ولا يحسن الاستمرار في خطة لا تعزز حقوقنا ومصالحنا.
وقف السلطان عند هذه الكلمة، فهتف الجميع: توكلنا على الله! إلى الحجاز! إلى الحجاز!
الفصل الثامن والثلاثون
الإخوان على أبواب عمان
1343ه / 1924-1925م: في الشهر الأول من هذا العام (آب 924م) مشت جيوش نجد غربا من الجنوب ومن الشمال، ولكن السلطان عبد العزيز - لغرض حربي - أمر بغزو الشرق العربي قبل الزحف إلى الحجاز، ولم تكن هذه الغزوة بدون أسباب تبررها.
قد أسلفنا البيان فيما كان بين حكومتي نجد وشرقي الأردن من النزاع بخصوص الجوف وقرايا الملح، ولكن جنود السلطان كانت قد احتلت تلك القرى، فما الداعي إذن إلى تجاوزها الحدود، إلى الغزو؟
إن هنالك تعديات وتعويضات ذكرت في مطالب نجد في مؤتمر الكويت. فقد أغار ولد سليمان بن حازي من شيوخ الحويطات على قافلة من تجار نجد في طريقهم إلى الشام، فقتلوا ثمانية من رجالها ونهبوا ما يزيد على السبعمائة بعير.
وكانت قد تكررت الإغارات على أهل نجد من عربان الحويطات وبني صخر - أولئك الذين كان الأمير عبد الله يقربهم منه ويجزل لهم العطاء - فبلغت المنهوبات، بموجب اللائحة التي قدمت في المؤتمر، ألف جمل وأربعين رأسا من الخيل، ما عدا الأحمال التي تقدر بثمانين ألف ليرة عثمانية.
لذلك طلب السلطان عبد العزيز أن تغرم قبيلة بني صخر بمائتي ألف ليرة ضمانة لسلامة التجارة والتجار بين نجد وسورية. وبما أن حكومة عمان لم تكترث لهذا الطلب عمد السلطان إلى القوة. مشى الإخوان من أطراف وادي سرحان، وعددهم يتراوح بين الألفين والثلاثة آلاف، فالتقوا في طريقهم بثلة من جنود شرقي الأردن، عددهم مع رجال الحملة خمسة وعشرون، وهم سائرون إلى قصر الأزرق، يحملون المؤن والذخيرة إلى الحامية فيه، فذبحوهم إلا واحدا وغنموا الحملة كلها، ثم تقدموا غربا فهجموا على الطنيب، وأم العمد، والقسطل ويادودة، وكادوا بعد أن اجتاز فريق منهم سكة الحديد أن يصلوا العاصمة.
الملك حسين في عمان يوم بويع على الخلافة.
كان الأمير عبد الله يومئذ متغيبا، فصدرت أوامر الحكومة بالدفاع، فبادر العربان وفي مقدمتهم الصخور والحويطات إلى محاربة أعدائهم، فاشتبكوا وإياهم في معركة دامية بضع ساعات. وكان بيك باشا - القائد الإنكليزي للجند النظامي - قد أرسل الطيارات والسيارات المدرعة على الإخوان، فحلقت الطيارات فوق العربان المتلاحمين، وشرعت ترميهم كلهم بالقذائف، كما أن السيارات أطلقت عليهم جزافا مدافعها الرشاشة، كأني بأولئك الإنكليز يقولون: من أين لنا أن نعرف النجدي من الأردني، والعرب في القيافة لا يفرقون بعضهم عن بعض. نعم، كلهم عرب. أغمض عينيك يا ابن جان بول واضرب.
قبل مجيء الطيارات والسيارات كان قد وقع في ساحة القتال نحو مائة رجل من الفريقين، وعند تشتتهم كان عدد القتلى من الإخوان وعربان عمان قد تجاوز الأربعمائة.
وكان بعض الأسرى من المتدينة يحملون علبا من التنك إنكليزية الصنع فيها لحم مقدد، فقال أولئك الحكماء - دهاقنة السياسة - في الصحافة وفي الدواوين: وهل من ينكر بعد هذا أن الإنكليز يساعدون ابن سعود؟ هذا لحمهم المقدد يأكله الإخوان.
وما تلك العلب غير قسم من الحملة التي غنمها الإخوان، تلك الحملة التي كانت معدة لحامية الشرق العربي في قصر الأزرق. نعم، هو لحم مقدد من بلاد الإنكليز، ولكن السيارات والطيارات الإنكليزية أمطرت الإخوان وعرب عمان على السواء وابلا من القذائف والرصاص.
لولا هذه القوة الهائلة التي كانت تديرها الأيدي الإنكليزية، لاكتسح النجديون الشرق العربي، ورفعوا فوق ربى عمان علم ابن سعود.
أما سمو الأمير عبد الله فعندما عاد إلى عاصمته شكر الله ولا شك وشكر ربة الجنود التي لا تزال تكلأ بعينها الزرقاء البيت الهاشمي.
وأما سيد هذا البيت الأكبر جلالة الملك حسين، فقد كان في قصره بمكة متوسدا وسادة الخلافة، مطمئن البال، واثقا بما تضمره الأيام، وهو يدبج المقالات لجريدة القبلة: «نحن نشكر كمالات حكومة بريطانية العظمى على ما أظهرته من الحمية في الشرق العربي، ولكننا مع ذلك لا نتنازل عن حق من حقوقنا ... إن سورية جزء من البلاد العربية وإن فلسطين للعرب، ولا نوقع معاهدة فيها ما ينفي هذا القول بل هذا الحق ... ومن أعرف منا بالبدو وبالمتدينة؟ قنبلة من مدفع تبددهم، وطيارة واحدة تشتت شملهم، والبرهان في الشرق العربي ...»
وكان جلالته يومئذ يفكر في تعزيز ملكه في الشرق الأوسط أيضا، فعين وزير خارجيته الشيخ فؤاد الخطيب سفيرا للحجاز في طهران.
الفصل التاسع والثلاثون
سقوط الطائف
يوم كان الملك حسين جالسا على فراش الملك والخلافة، وهو يحلم بسيادة أعظم من السيادة العربية، بسيادة إسلامية شاملة، كان سلطان بن بجاد، الملقب بسلطان الدين، والشريف خالد بن منصور بن لؤي أمير الخرمة، زاحفين إلى الطائف بجيش من الإخوان مؤلف من خمسة عشر لواء
1
من ألوية الغطغط والخرمة وتربة ورنية وعتيبة وقحطان وبني تميم. على أن هذا الجيش مع من انضم إليه بعدئذ من عربان الحجاز وأشرافه كالحرث وبني ثقيف، لم يتجاوز الثلاثة آلاف مقاتل.
مشى الإخوان من مركز الاجتماع في تربة ، ولم يعلم بهم أحد في مكة أو في الطائف قبل أن اجتازوا الحدود. لم تعلم الحكومة بهجومهم قبل أن وصلت سرياتهم في اليوم الأول من صفر 1343 /سبتمبر 1924، إلى قرية الحوية التي تبعد بضعة أميال عن الطائف.
استيقظت عندئذ الحكومة، فأصدر ناظر الحربية الهاشمية أمير اللواء صبري باشا أوامره إلى جنود النظام بالدفاع، فخرجوا من الطائف، وهم نحو أربعمائة ومعهم بعض المدافع الجبلية والرشاشة، خرجوا إلى الحوية يصدون الإخوان، فاستعرت بينهم وبين سرايا الجيش هناك معركة دامت بضع ساعات كانت الغلبة فيها للإخوان.
تقهقر النظاميون إلى جهة الطائف، فانضم إليهم جند من البدو ورابطوا معهم في الهضاب الغربية من البلد إلى الشمال والشمال الغربي منه. هناك وقفوا ثانية لسرايا الجيش الزاحف، وشرعوا يطلقون عليهم المدافع فاستمروا في مناوشتهم، دون أن يتمكنوا من ردهم ثلاثة أيام. أضف إلى ذلك أن قسما من البدو الذين كانوا في المراكز الأمامية انضم إلى الإخوان وسلم الباقون.
عندما وصلت أخبار الهزيمة الأولى إلى مكة أمر جلالة الملك ابنه عليا بإنجاد الجيش المدافع، فجاء الأمير مسرعا بسرية من الخيالة وأخرى من الهجانة. أما النجدة التي مشت في طريق السيل فلم تصل إلا بعد سقوط الطائف.
وصل الأمير يوم الخميس في 6 صفر فدخل الطائف ليلا وخرج منها في عصر ذاك اليوم ليعسكر في الهدى.
2
وكان الجيش النجدي يزداد عددا وقوة، فاضطر الجنود النظاميون أن يتقهقروا إلى المدينة في صباح يوم الجمعة. تقدم الإخوان وصار رصاصهم - قرب الظهر من ذاك النهار - يقع داخل السور، فاستحوذ الذعر والخوف على الأهالي، وكان الأشراف في مقدمة الهاربين.
فقد خرج في أصيل يوم الجمعة أمير الطائف الشريف شرف عدنان، ووزير الحربية وجنوده النظاميون، وسائر الأمراء والموظفين، خرجوا من المدينة؛ لأنهم رأوا كما قيل أنه خير لسلامتها ولسهولة استردادها أن يلحقوا بالأمير علي.
وبعد خروج الأشراف والجيش بساعة أو ساعتين، في غسق ذاك اليوم، اليوم السابع من صفر (7 سبتمبر) دخل الإخوان الطائف كالسيل الجارف، وهم يكبرون ويعتزون، ويطلقون بنادقهم في الفضاء، ثم طفقوا يطلقونها في الأسواق، وهم يطوفون في المدينة، فقتلوا عددا من الأبرياء الذين لم يسارعوا مثل غيرهم من الأهالي إلى بيوتهم مستأمنين.
وكان قد تخلف في المدينة جماعات من عرب الحجاز من الطويرق والنمور والبقوم وغيرهم، ناهيك بمن دخل مع الجيش من البدو «نسور الجثة» رواد السلب والنهب. فاختلطت هذه الجموع في ظلمات الليل، وكانت ساعة الهول والفجع. راح العربان والإخوان يطرقون الأبواب ويكسرونها، فيدخلون البيوت إما قهرا وإما بعد أن يؤمنوا أصحابها، ثم يعملون فيها أيدي السلب، وكانوا يقتلون في سبيل السلب.
3
ولكنهم لم يقتلوا من النساء غير امرأة واحدة، ولا كانوا يتعرضون لهن إلا إذا أبين أن يدللنهم على الكنوز والسلاح. وهناك حقيقة أخرى يجب أن تسجل. كان بعض الأهالي يطلقون على الإخوان البنادق من شبابيك البيوت ونوافذها، فيحملونهم على دخول تلك البيوت عنوة، وعلى الفتك جزافا برجالها، كذلك كان قتلهم لمفتي الشافعية الشيخ الزواوي
4
ولأبناء الشيبي.
أما الشيخ عبد القادر الشيبي سادن الكعبة فقد نجا من الإخوان بحيلة ظريفة، بكى عندما وقع بين أيديهم، فسأله أحدهم وقد استل السيف فوق رأسه، قائلا: «وليش تبكي يا كافر؟» فأجابه الشيخ: «أبكي والله من شدة الفرح؛ أبكي يا إخوان لأني قضيت حياتي كلها في الشرك والكفر، ولم يشأ الله أن أموت إلا مؤمنا موحدا. الله أكبر! لا إله إلا الله!» قد أثر هذا الكلام في الإخوان، فبكوا لبكاء الشيخ، ثم طفقوا يقبلونه ويهنئونه بالإسلام.
هذي هي الحقيقة كلها في فظائع ليلة الفتح. وفي صباح يوم السبت دخل سلطان بن بجاد ببقية الجيش فكف الجنود عن القتل، ولكنه أمر بجمع السلاح وبتفتيش البيوت، فاضطر لذلك أن يخرج الأهالي منها، فسيقوا نساء ورجالا إلى حديقة شبرا، وحبسوا هناك ثلاثة أيام، ثم أطلق سراحهم وأذن لمن شاء منهم بالخروج من المدينة.
قلنا في مطلع هذا الفصل: إن فريقا من عرب الحجاز وأشرافه انضم إلى الجيش النجدي نفرة من الحسين وابتغاء سقوطه. وقد كان أشراف الحرث في مقدمة الثائرين، فتبعهم حتى من كان في الجيش الهاشمي من العربان. على أن ذلك لم يثبط من عزم الملك ولا حوله مقدار ذرة عن مقاصده. فعندما وصل الأشراف وغيرهم من الهاربين، وعندما علم جلالته بوصول الأمير علي إلى عرفات، غضب غضبة مضرية، وشرع يعد العدة لإعادة الكرة على الإخوان ولاسترجاع الطائف. جمع شتات الجند وجمع من استطاع من البدو، فكانت التجريدة الجديدة خمسمائة من النظام، ونحو ستمائة من قبائل الحجاز الموالين؛ أي من هذيل وقريش وبني سفيان، ومائتين من أهل مكة، ثم أمر الأمير عليا بالرجوع إلى ساحة الحرب.
مشى الأمير علي على رأس هذا الجيش إلى الهدى، وكان الإخوان قد علموا بذلك، فحمل نحو ألفين منهم على الحجازيين، واشتبكوا واياهم في 26 صفر (26 سبتمبر) في معركة استمرت من نصف الليل إلى الساعة العاشرة صباحا.
كان الأمير علي يدبر هذه المعركة من قصر يبعد ألفا وخمسمائة متر عن ساحة القتال. وفي هذا القصر هاتف يصله، بواسطة مركز الارتباط في سفح جبل كرا، بقصر جلالة والده. - «هجم المتدينة علينا فرددناهم خاسرين.» - «أعاد المتدينة الكرة فأمطرتهم مدافعنا وابلا من الرصاص فعادوا مدحورين.»
ولكنهم في الهجمة الثالثة، وعلى رأسهم سلطان الدين نفسه، ضربوا الجبهة ضربة ثلتها، وكان في وسطها سرية من الفرسان من عرب عتيبة فتقهقروا، فدخل الإخوان من تلك الثلة، وأول من انهزم من بدو الحجاز هذيل وسفيان، ثم أهل مكة ثم جنود النظام.
وفي هذه الساعة، عند صلاة الفجر، سكتت بنادق الإخوان، فهتف موظف الهاتف يخاطب ضابط الارتباط في الكر بسفح جبل كرا، وهذا يخاطب الديوان الهاشمي بمكة: «انهزم المتدينة! سكتت بنادقهم!»
ولكن السبب في سكوت تلك البنادق هو أن أصحابها توقفوا عن القتال ليصلوا صلاة الفجر! ثم عادوا مستبسلين، فتقهقر الأمير علي بشرذمة من الجيش إلى الكر، وعند وصوله إلى سفح الجبل الساعة الثامنة صباحا، أمره جلالة الملك بالهاتف أن يرجع إلى الهدى: «الطاعة ولو ذبحت.» قال هذا وعاد ورجاله أدراجهم، فما كادوا يصلون إلى منتصف الطريق حتى انهال عليهم رصاص الإخوان كالمطر، وكان ضابط الارتباط في الكر قد ألحقهم بنجاب، يقول: «قد انقطع التلفون بيننا وبين الهدى.»
قفل الأمير ورجاله راجعين وتوقفت الإخوان بعد هذا النصر في الهدى، فلم يتعقبوا فلول الجيش الهاشمي، ولا هاجموا مكة يومذاك اجتنابا للقتال في ظلال الحرم.
الفصل الأربعون
يوم الانقلاب
في الأسبوع الذي تلا وقعة الهدى وتقدم اليوم الأخير - يوم الانقلاب - كان جلالة الحسين لا يزال يضرم في ديوانه، وفي حكومته، وفي حاشية قصره، وفي بقية جيشه، نار الشجاعة والأمل، وكان لا يزال يظن أنه يستطيع أن يخرج المتدينة وابن سعود من الطائف، بل من الحجاز. وقد طالما قال: إن ابن سعود من الدرجة الخامسة بين أمراء العرب. غير أن أحد رجال الديوان الهاشمي - وقد غشيته الشجاعة في الساعة الأخيرة - قال مخاطبا مولاه: «ومعنى الدرجة الخامسة يا مولانا هو أن ابن سعود صاعد إلينا، ولم يبق بينه وبيننا غير خمس درجات.»
خمس درجات، أو خمس ساعات، أو خمسة أيام، إنما النتيجة واحدة. فقد جاء يوم الحجاز، وهو المقدمة ليوم ابن سعود، جاء بعد أسبوع من وقعة الهدى وباسم الأمة، إذ اجتمع أعيانها في جدة، ومنهم من فروا من الطائف ومكة من تجار وعلماء وأشراف، فأرسلوا إلى الحسين في اليوم الرابع من ربيع الأول (3 أكتوبر) البرقية الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب الجلالة الملك المعظم بمكة
بما أن الشعب الحجازي بأجمعه الواقع الآن في الفوضى العامة، بعد فناء الجيش المدافع وعجز الحكومة عن صون الأرواح والأموال، وبما أن الحرمين الشريفين خاصة وعموم البلاد مستهدفة لكارثة قريبة ساحقة، وبما أن الحجاز بلد مقدس يعني أمره جميع المسمين؛ لذلك قررت الأمة نهائيا طلب تنازل الشريف حسين وتنصيب ابنه الأمير علي
1
ملكا على الحجاز فقط، مقيدا بدستور وبمجلسين وطنيين ... إلخ، والله الموفق لما فيه الصلاح.
قد وقع هذه البرقية التي أرسلت بعد الظهر مائة وأربعون من الأعيان والعلماء والتجار الحجازيين، فجاءهم الجواب التالي:
إدارة برقيات الحكومة الهاشمية
في 4 ربيع الأول سنة 1343 بواسطة قائمقام جدة
إلى الهيئة الموقرة
مع الممنونية والشكر، وهذا أساس رغبتنا التي أصرح بها منذ النهضة وإلى تاريخه. وقد صرحت قبله ببضع دقائق أني مستعد لذلك بكل ارتياح إذا عينتم غير علي. وإني منتظر هذا بكل سرعة وارتياح.
الإمضاء: حسين
لم يرض المجلس بهذا الجواب، فعمد إلى الهاتف وأناب أحد أعضائه ليكلم الملك، فرفض جلالته الكلام: «أنت من رجال حكومتي فليكلمني غيرك.» ورفض كذلك أن يكلم الثاني، ثم تناول الشيخ طاهر الدباغ الهاتف فكان مسموعا.
جيش الحجاز النظامي.
الدباغ : «مولاي، بناء على المركز الحرج الذي وصلت إليه البلاد، قررت الأمة طلب تنازل جلالتكم لسمو الأمير علي.»
الملك (مقاطعا) : «أنا وابني واحد، وإذا كنت أنا قد صرت عندكم «بطال» فلا بأس، ولكني لا أفهم ما القصد من هذا. لا يهمني أمر الملك في أي شخص كان، ولكني لا أتنازل لولدي علي أبدا؛ لأني إذا كنت أنا «بطال» فولدي «بطال».»
الدباغ : «كلا يا مولاي، لا ننسب لجلالتكم شيئا من ذلك، وإنما نريد أن نسلك سياسة غير السياسة التي سرتم عليها، عسى أن نتمكن من تخليص البلاد من مأزقها الحرج. والأمة قد أجمعت على طلب ذلك من جلالتكم، ونرجو إجابة رغبتها.»
الملك : «يا ابني، لكم أن تفعلوا ما تشاءون، أما أنا فلا أتنازل لولدي علي أبدا، عندكم الشريف علي أمير مكة السابق، وأخي ناصر، وعندكم خديوي مصر عباس حلمي، وعندكم الأشراف كثيرون. اختاروا أي واحد تشاءون، وأنا مستعد للتنازل له، أما ولدي فلا يمكن؛ لأني أنا وهو شيء واحد. خيره وشره عائدان لي.»
الدباغ : «قد أجمعت الأمة يا مولاي على اختيار الأمير علي، ولا ترغب؟»
الملك : «لا يمكن أن أتنازل لولدي، أقول لا يمكن قطعيا.»
الدباغ : «سأخبر الهيئة ثم نعلم جلالتكم.»
مما هو جدير بالذكر أن هذه الهيئة الشرقية التي التأمت طيلة ذاك النهار والليل، كانت في مناقشاتها وأعمالها - وإجماع رأيها - غير شرقية، بل كانت في سرعة تقاريرها، ومضاء عزمها من أعجب ما دون في تاريخ الشرق والشرقيين. حتى إنها أقفلت أبواب المدينة أثناء هذه المفاوضات ليبقى الأمير علي في جدة ويقبل البيعة.
بعد المحادثة بالهاتف أرسلت البرقية التالية وفيها البلاغ النهائي، وفيها التهديد:
صاحب الجلالة الملك المعظم بمكة
الحالة حرجة جدا، وليس الوقت وقت مفاوضات، فإذا كنتم لا تتنازلون للأمير علي فنسترحم بلسان الإنسانية أن تتنازلوا جلالتكم لتتمكن الأمة من تشكيل حكومة مؤقتة. وإذا تأخرتم عن إجابة الطلب فدماء المسلمين ملقاة على عاتقكم.
أعاد صاحب الجلالة النظر في الأمر فتحول بعد حديث الهاتف، أو بعد وصول هذه البرقية، عن فكرته الأولى.
مكة في 4 ربيع الأول الساعة الرابعة (10 ليلا)
لا بأس، قد قبلنا التنازل بكل ارتياح؛ إذ ليس لنا رغبة إلا في سكينة البلاد وراحتها وسعادتها، فالآن عينوا لنا مأمورين هنا يستلمون البلاد بكل سرعة، ونحن نتوجه في الحال. إذا تأخرتم ووقع حادث فأنتم المسئولون.
والأشراف عندكم كثيرون
2
أرسلوا واحدا منهم أو من سواهم. وعلاوة على هذا إذا قبل منكم علي الأمر عينوه رأسا.
الإمضاء: حسين
وفي اليوم التالي أرسل برقية أخرى إلى «الهيئة الموقرة» بواسطة قائمقام جدة، أشد لهجة من الأخيرة، فيها يكرر أنه مصمم على الاعتزال، ويطلب تعيين من يستلم البلاد بكل سرعة: «فإن الفوضى التي ذكرتموها وقعت بداعي إشهاركم رغبة تنازلي. وإني لا أقبل أية مسئولية تقع إذا لم تسرعوا اليوم في تعيين من يتولى الأمر؛ لأتوجه في الحال إلى الجهة التي يختارها الباري عن طريق جدة. وهذا ليس هربا من أي شيء تتصورونه بل دفعا للظنون والشبهات.»
أما الهيئة فقد أسرعت في العمل كما يظهر من تاريخ الجواب وعنوانه.
في 5 ربيع الأول
صاحب الشرف الأسمى الشريف حسين المعظم
جواب برقيتكم رقم 17، بحمد الله ومساعي مولاي قد تمت البيعة لجلالة نجلكم المعظم، وقد فاوض جلالته من يلزم في استلام البلاد وإدارة شئونها. فالمنتظر من مولاي مبارحتها بكل احترام تهدئة للأحوال.
عن الرئيس
محمد طاهر الدباغ
وكانت الهيئة قد كتبت إلى الأمير علي تقول:
بناء على طلب الأمة، قد تنازل جلالة والدكم، بموجب برقية رقم 19 المؤرخة في 4 ربيع الأول، وقررت الأمة نهائيا البيعة لجلالتكم ملكا دستوريا على الحجاز فقط ... وأن يكون للبلاد مجلس نيابي وطني، وقانون أساسي تضعه جمعية تأسيسية كما هو جار في الأمم المتمدنة، وبما أن الوقت يضيق الآن دون تأسيس المجلس الوطني النيابي، قد قررت الأمة أن تشكل هيئة مؤقتة لمراقبة أعمال الحكومة ... وإنا نبايعكم على ذلك وعلى كتاب الله وسنة رسوله.
في اليوم التالي للبيعة رجع الملك علي إلى مكة، وبعد أربعة أيام، في ليلة اليوم العاشر من هذا الشهر (9 أكتوبر) وصلت إلى جدة القافلة الحاملة أمتعة الحسين، وفيها عشرون جملا تحمل أربعين صفحة من صفائح البترول مملوءة ذهبا، وقد قدر هذه الأحمال أحد العالمين بالتخزين بمائة وستين ألف ليرة.
أقام الحسين ستة أيام في جدة، وكان يرفض أن يقابل أحدا من الناس، فأثمرت هذه العزلة بلاغا أرسله إلى «فخامة رئيس وكلاء الحكومة العربية الهاشمية»، وفيه يحتج على الحكومة الدستورية، ويعدد طغاوي ابن سعود ومطامع الإمام يحيى بن حميد الدين.
قال الشريف: «أما الحكومة الدستورية - سيما في الحرمين الشريفين - فالعمل فيها ينبذ أحكام كتاب الله وسنة رسوله. إن العمل في البلاد المقدسة بالقوانين البشرية لمما تأباه شعائر الإسلام، وفرائض الدين، والأخلاق الشريفة مادة ومعنى ...»
وقد قال محتجا على حصر سلطة الحجاز بالحجاز: «لو لم يكن في هذا التحديد إلا تأملنا ما في مساعي الحضرة السعودية من الاستيلاء على حائل، قاعدة إمارة الرشيد، والجوف مقر الشعلان، وتثبته في ضبط الكويت، وتعرضه في عسير لإمارة آل عائض، بل تجاوزه على مكة المكرمة، ومساعي إمام صنعاء لضم بلاد حاشد، وتهامة الشوافع، وحضرة الإدريسي على الحديدة وما حولها ...» ها هنا قطع جواب الشرط على عادته، ثم قال: «وعليه بلغوا الهيئة الموقرة احتجاجي القطعي أولا على تحديد نفوذ الحجاز، وثانيا على ما فيه إبدال العمل بكتاب الله؛ ولذا فإني أحفظ حقوق اعتراضي وإنكاري بالمادة والمعنى لكل ما ذكر.»
تحرر في 15 ربيع الأول سنة 1343
وفي ليلة اليوم التالي نزل وحرمه وعبيده إلى البحر، يرافقه للوداع السيد أحمد السقاف، رئيس ديوانه السابق، وناظر الجمارك الشيخ محمد الطويل.
قال أحد الذين اشتروا لحكومة الحجاز اليخت الذي أقل الشريف إلى العقبة : عندما وصلنا إلى جدة نزل جلالة الملك ليفحص اليخت (الذي سماه بعدئذ الرقمتين)، فقال معجبا به: «سنسافر فيه يوما من الأيام سفرة بعيدة.»
سفرة بعيدة! إذا كان البعد في الأسفار يقاس بمدة الرجوع فهذه السفرة الأخيرة من الحجاز هي التي نظر إليها الشريف حسين بعين الغيب.
الفصل الحادي والأربعون
الشريف حسين
إن لسقوط الشريف حسين أسبابا سياسية وإدارية وخلقية. أما السياسية فأهم ما فيها إغضابه الإنكليز في رفضه المعاهدة الإنكليزية الحجازية التي استمرت المفاوضات بشأنها ثلاث سنوات، ثم إغضابه أمراء العرب وفي مقدمتهم ابن سعود . فقد كان في سياسته العربية يظهر غير ما يبطن، فيقول مثلا: إنه مستعد للتنازل عن عرشه، ولتسليم زمام الأمور إلى من يستطيع أن ينهض بالعرب، وهو في أعماله غيره في أقواله، بل لم يكن ليرى في أمراء العرب الحاكمين غير من هو في الدرجة الثالثة أو الرابعة. ولم يكن ليرى في كل البلاد منقذا سواه. هذي هي الحقيقة الناصعة، وإن في هذا التاريخ من الأدلة عليها ما يقنع أشد الهاشميين نزعة وإخلاصا.
لنعد إذن إلى تلك المعاهدة المشئومة. ما تغاضى الإنكليز عن الحسين بل عن الحجاز لغاية في النفس كما كان يظن بعض السياسيين في الشام وفي مصر والهند. وما اتخذت الحكومة البريطانية بعد مؤتمر الكويت موقف الحياد إلا مضطرة؛ لأن سياستها العربية خلال الحرب العظمى وبعدها كانت تستوجب ذلك، بل كانت تحول دون كل عمل سوى الحياد.
ومع ذلك فقد قال بعض السياسيين هناك، وقالت جريدة التيمس الرسمية: إن الحكومة البريطانية أحسنت صنعا بالوقوف موقف المتفرج بعد أن رفض الحسين أن يوافق على اقتراحاتها. فلو فعل ذلك لكان في الإمكان إيجاد الوسائل اللازمة لتجنب الحالة الحاضرة؛ أي لإنقاذ الحسين.
وقد فاتهم أن يوم الطائف هو غير يوم تربة، وأنه بعد مؤتمر العقير الذي تسدد فيه الحساب بين حكومة بريطانية العظمى وابن سعود، وبعد مؤتمر الكويت الذي بدا فيه عجزها عن التأليف بين ابن سعود والحسين، لم يعد لكلمتها في البلاط السعودي ذاك النفوذ المعروف . لم يعد في إمكانها أن تقول لعاهل نجد: افعل هذا أو امتنع عن هذا إكراما لي. وليس في إمكانها أو في إرادتها أن ترسل الطيارات والسيارات المصفحة على الإخوان في الحجاز - كما تفعل في العراق - وكما فعلت في الشرق العربي، وهب أنها أمدت الحسين بالسلاح والذخيرة فهو لا يجد في البلاد من يلبون دعوته للدفاع.
وإليك بعد هذا وذاك بالبرهان القاطع. قد قبل الحسين في الساعة الأخيرة؛ أي في الأيام التي تخللت الاستيلاء على الطائف ووقعة الهدى، أن يفاوض الحكومة البريطانية في تعديل مطالبه، فجاء وفد من مكة إلى دار الوكالة البريطانية بجدة يعرض ذلك على الوكيل، وعاد خائب الأمل يقول: سبق السيف العذل. هذي هي الحقيقة في موقف بريطانية العظمى تجاه الحسين وتجاه الحجاز بعده، فهي لو شاءت أن تنقذ «المنقذ الأكبر» بعد سقوط الطائف لما استطاعت، فاتخذت لذلك خطة الحياد تحفظ بها كرامتها في مدة الملك علي القصيرة.
نجيء بعد هذا على ذكر أسباب السقوط الخلقية والإدارية. كان الشريف حسين الكل في الكل، حتى في تحرير جريدة القبلة. فقد كان يظن أن مقالاته الافتتاحية تترجم إلى اللغات الأوروبية فيطالعها ويهتم بها الوزراء، وأن آراءه في سياسة العالم وسياسة الحياة، من أصغر الجزئيات إلى أكبر النظريات، هي وحي منزل، وأن تفسيره لبعض آيات القرآن هو أصح من تفاسير الأئمة الكبار، وأنه في الفصاحة والبيان، مثله في العلم، أمير أقرانه، وفريد زمانه، وأنه إذا استصرخ العرب يجيئونه من أقصى الجزيرة سامعين لامعين، وأنه يستطيع، وهو في «المخلوان»
1
أن ينقذ البلاد ويؤسس الدولة العربية، بل كان يظن أن العالم الإسلامي بأجمعه يبتسم لابتسامه، ويغضب لغضبه، وأن الذين يخدمونه يخدمون العرب والإسلام، ولا يبغون أجرا غير رضاه.
على أن الذنب في كل ذلك لم يكن ذنبه وحده، كان الحسين صلب العود، قوي الشكيمة. وقد ولد في ظل الكعبة وفي أصفى فروع السليلة النبوية. بيد أن غيره ممن سعدوا بهذه التلائد كانوا معها حكماء، أو أنهم في حياتهم سعدوا كذلك بمن يخلص لهم النصيحة، فكانوا يسمعون وينتفعون. أما الحسين فقد كان في عنجهيته فريدا، لا يسمع غير صوت نفسه وصداها، ولا يقرب منه إلا من كان صدى لصداه، وصورة شمسية لما يبغيه ولما يأباه.
إن التبعة والحال هذه في جزء كبير من غرور الحسين هي على أولئك الذين كانوا نظارا وقضاة وكتابا وضباطا في حكومته، أولئك الذين زانوا الديوان الهاشمي بصورهم البهية - الناطقة بالتسبيح - فكانوا لصاحب الجلالة أعداء مدرعين، مدرعين بالمداهنة والمداجاة، يسبحون ويمجدون كلما فاه بكلمة مهما كانت تافهة، وكلما جاء بعمل مهما كان سخيفا: إي نعم سيدي، من أحسن ما يكون سيدي، وحي منزل سيدي!
وكان كل من في الديوان و«المخلوان» يعرف الحقيقة إلا جلالة الملك الذي كان يعرف ما فوق الحقيقة، ولا يشاء أن يعرف سواها. أدرك الديوان حقيقة البدو مثلا، ولم يدرك مثل جلالته حقيقة السيادة المرتكزة على نسب نبوي، وما ضر هذه السيادة إذا نكبت وقتيا في الحجاز؟
قد اجتمعت في الحسين الأضداد، فكان خياليا وكان عمليا، بل كان روحيا وكان ماليا، يتعشق تارة ما فوق الحقيقة، يسترسل إلى الأوهام، وطورا يتمسك تمسك البخيل بحطام الدنيا. أجل قد كان محبا للمال حريصا جدا عليه، فجاء الذهب يوازن ما تراكم من أوهامه، وما اختل من أحكامه وما اسود من أيامه. ولا غرو، فقد كان هذا العربي - في صفته شريف مكة - من أكبر التجار. وقد كان في صفته ملكا من أكبر الظالمين. ظلم الرعية وظلم نفسه، وظلم كل من في حكومته إلا المنافقين، المختلسين أمواله وأموال الأمة.
في اللغة التركية مثل يقول: كل من له فم يأكل. وقد كان هذا المثل قاعدة الملك حسين في حكومته. إن الذي «يأكل» يشبع، فيحسن عمله.
مكة المكرمة، والحرم الشريف.
والذي لا «يأكل» يظل جائعا، والجائع لا يستطيع أن يفيد أحدا من الناس. إنها لقاعدة في الأحكام تدهش حتى «مكيافلي» إمام المتفلسفين بالسياسة والرياء.
إن الرجل الصادق رجل مزعج، فهو يقترح اقتراحات لا يرتاح إليها الملوك، وهو لا يسهل الأعمال في كل حال ، ولا يقول دائما: إي نعم سيدي. بعدا للصادقين، فإنهم للملوك دواء مر جدا، وهم فوق ذلك يورثون صاحب الجلالة الصداع.
أما الذين يتكتفون، ويطأطئون الرءوس، ويقولون دائما: إي نعم سيدي، و«يأكلون» ثم «يأكلون» - على شرط أن يكون أكلهم من فضلات الأسد - فهؤلاء من خير الناس، ومن أقدر الموظفين، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قد امتازت حكومة الحسين بعدد من هؤلاء «الأكولين»، الذين خرجوا من جدة قبل خروجه وبعده وفي حقائبهم، أو في المصارف خارج الحجاز، ما أعدوه من الأبيض والأصفر للأيام السود.
ومن هؤلاء عبقري في الاختلاس أرسله الحسين إلى أوروبة، عندما قرب المتدينة من مكة، ومعه عشرة آلاف ليرة ليشتري بها طيارات ودبابات. فراح حضرته إلى مصر واشترى بالقيمة عقارات لنفسه.
ومن هؤلاء حامل ختم الوكالة الحجازية، وتاجر الغنم، وقيم المطوفين، وسماسرة الجمال والشقاديف. كان تاجر الغنم رجلا في مكة محترما معززا، ولكنه في البادية ملعون مذموم. فقد كان يرهق البدو ليغني السيد الأكبر ويريش نفسه. يشتري من البدو أغنامهم بأرخص الأثمان ويبيعها للحجاج بأغلاها: «ألف رأس بثلاثة آلاف مجيدي. بعناها اليوم يا مولانا بعشرة آلاف. هذه ثلاثة آلاف لأصحاب المال وهذا يا مولانا الباقي.»
ومن هذا الباقي يأخذ الأسد خمسة آلاف أو أكثر، ويعطي الجقل ألفين أو أقل. إن أمر هذا الجقل لغريب عجيب. فقد كان في رأس المقربين من الديوان الهاشمي، لا لعبقريته بتجارة الغنم و«بالأكل» فقط، بل لتفننه بأخبار السوء عن نجد وابن سعود، تلك الأخبار التي كان يتحف الملك بها. - «السنة سنة جدب في نجد، قد جفت الآبار وهلك ألوف من البل (الإبل).» - «صحيح! سبحان الله، أنت يا ابني أعلم الناس بأحوال نجد.» - «ابن سعود «مصخن» سيدي، مضروب بالرئة. يقولون: السل، وهذا الداء لا يعيش صاحبه.» - «صحيح؟ صحيح؟ سبحان الله! لا يصدقني الخبر غيرك.» - «وقد خرجت عليه قبائل الحساء، وهم يقولون إنهم لا يبغون غير الملك حسين.» - «هذا الذي أقوله دائما يا ابني، ستخرج عليه القبائل كلها. وكلها تجيئنا إن شاء الله .»
ولم تكن تجارة الغنم بتجارة الشريف الوحيدة، فقد كان يتقاضى المطوفين والخبازين والجمالة قسما من أرباحهم. إن هناك رسوما للحكومة يدفعها الحجاج، وفوق تلك الرسوم كان الحسين يتقاضى المطوفين نصف ليرة عن كل حاج. جاءه أحد أولئك المطوفين ذات يوم يقول: «حجاجي كلهم فقراء لا يبذلون ... ما في فلوس.» وقصد المطوف أن يعفى من الضريبة الشريفية. فأجابه الشريف: «إي يا ابني، كلهم أولادنا، والفقراء نساعدهم. لا تأخذ شيئا منهم، ولا تطالبهم بشيء. كلهم أولادنا ويجب أن نساعدهم.»
عمل المطوف بأمر مولاه فأعفى حجاجه من الزيادات ، ولكنه بعدئذ أمر بدفع الرسم نصف ليرة عن كل حاج، فدفع المال من كيسه.
وهناك باب آخر من أبواب هذه التجارة العجيبة. قد كان الحجاج الذين يبغون الزيارة يدفعون خمس عشرة ليرة أجرة الجمل من مكة إلى المدينة المنورة، يدفعونها لعمال الملك، فيدفع جلالته للجمال خمس أو ست ليرات، أما ما تبقى فمعظمه للأسد ويسيره للأجقال.
كثيرة هي القصص التي تروى في الحجاز، دليل حب الحسين للمال، ودليل حرصه الشديد عليه. سألت مرة أحد عبيد القصر عن الأجرة التي يتناولها، فقال: «قلما نقبض شيئا من المال ونخشى أن نطلب؛ لأن جلالة الملك لا يجيب الطلب ويوبخنا. قد ردني مرة بلطف ونصحني ألا أحمل المال. وهو يقول: المال يفسد الرجال ... الحسين؟ هذا الحسين!»
أفصح العبد عن فكره بقبضة يده، ثم قال: «ولكنه صاحب عقل والله، عقل كبير. هو يكتب في الجريدة أشياء عجيبة، وكلها من رأسه والله، هو من الدواهي وصاحب فراسة، لا يمكنك أن تخفي شيئا عنه، يلقي عليك نظره فتعطيه سرك حالا. وإذا ما أخذ شيئا من لسانك، يستنطق أهداب عينيك والله، ولكنه - أعاد العبد تلك الإشارة وهو يهز قبضة يده - ومع ذلك هو يقول: المال يفسد الرجال.»
إني خاتم هذا الفصل بقصة أخرى قصها علي أحد عماله الكبار. مما هو معروف أن الحكومة البريطانية كانت في الحرب العظمى تمد الحسين بالمال، ويرجح العالمون بشئون الحجاز والثورة العربية أن مجمل ما أرسلته إليه هو مليون ومائتا ألف ليرة. على أن الدفعات الأولى، التي كانت الواحدة منها تبلغ مائة وخمسة وعشرين ألف ليرة لم تكن حسب ادعائه كافية للتجنيد. فأوفد أحد وزرائه إلى مصر ليقابل العميد البريطاني هناك، يومئذ السر روجينلد ونغيت، فيعلمه بالأمر ويطلب ضعف القيمة.
جاء الوزير، وكان في طلبه بليغا، فأبرق العميد إلى حكومته بلندن فسمعت الحكومة، وأجابت بعض الطلب، فأضافت خمسة وسبعين ألف ليرة إلى القيمة التي كانت ترسل إلى جدة.
أبرق الوزير إلى صاحب الجلالة الهاشمية، وهو مسرور بهذا الفوز؛ لأنه كان يرجو منه زيادة في راتبه القليل، وبعد أيام عاد إلى جدة على ظهر مدرعة إنكليزية، هي أبهة الحرب، يا لها من أبهة!
وعندما وصل إلى جدة استقبلته الحكومة استقبالا فخما، وسار في موكب عظيم إلى مكة، فوصلها قبل غروب الشمس، فأمره صاحب الجلالة أن يبقى خارج البلد، لتتمكن الحكومة في صباح اليوم التالي من استقباله استقبالا يليق بمقامه.
وكان صاحب الإقبال الوزير المحترم يفكر دائما بما ستكون قسمته من الخمسة والسبعين ألف ليرة. واحد بالمائة فقط؟ أو زيادة قليلة في راتبه؟ إنه لراض بذلك.
دخل مكة دخول الفاتحين، وبعد أن قابل مولاه، واستراح من أتعاب السفر، جاء إلى زميله وزير المالية يسأله إذا كان جلالة الملك أمر بشيء، فأجابه الوزير: «قد أمر بأن نخصم من حسابك راتب شهرين مدة غيابك.»
الفصل الثاني والأربعون
الآباء يأكلون الحصرم
في الحديث الذي دار على الهاتف بين مكة وجدة يوم الانقلاب رفض الملك حسين بتاتا أن يتنازل لابنه علي. ويذكر القارئ قوله: إذا كنت أنا لا أنفع فعلي لا ينفع. وقوله: خير ابني وشره عائدان لي. والأصح أن تعكس هذه الكلمة، فإن خير الحسين وشره عائدان لأبنائه، وخصوصا في هذا الموقف لعلي. الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون.
أما إذا كان قد أشفق الوالد على ولده من هذا الإرث المهلك الذي يدعي الملك الهاشمي، فكلمته ثمرة عرفان يكاد يكون وحيا، وإشفاقه زهرة إحسان طيبة، إنها في هذه الحال الغريزة الأبوية التي قلما تخطئ في حسها.
أقام الملك علي أسبوعا في مكة، فأدرك أن قوات الدفاع لديه لا تكفي لرد جيش نجد ناهيك بغلبته، بل رأى جنوده مشتتين شاردين، ولم يبق منهم غير مائتين كانوا في الدفاع مترددين.
1343ه / 1924-1925م: وكان الإخوان قد وصلوا في 15 ربيع الأول (14 أكتوبر) إلى قرية الزيمة التي تبعد ست ساعات عن مكة، وهم مصممون على الحصار
1
فانسحب الملك علي ليلة ذاك اليوم بنحو مائتين من الجنود ومائتين من الشرطة، ووصلوا في صباح اليوم التالي - الأربعاء - إلى سهل جدة، يوم كان الشريف حسين يتأهب للرحيل ، ولكن عليا ظل خارج المدينة فلم يجتمع بوالده، ولا كان من المودعين.
وفي ليلة اليوم الذي دخل فيه إلى جدة؛ أي في 17 ربيع الأول، وصلت شراذم من الجيش النجدي إلى مكة، ثم مشى في صباح اليوم التالي الشريف خالد يقود بقية الجنود، فدخلوها محرمين، وطافوا، وسعوا، واستولوا بعد فك الإحرام على البلد المقدس، وهم ينادون فيه: الأمان الأمان!
لو استمرت يومئذ القيادة في الزحف غربا لدخلت جدة بسرية واحدة صغيرة دون أن تلقى من الحكومة فيها أو من الأهالي أقل مقاومة، ولكنها وقفت في مكة عملا بالأوامر العالية التي كانت مجهولة في جدة؛ لذلك استحوذ على الناس وعلى الحكومة الذعر والخوف وكان الكثيرون حتى من الجنود ينتظرون الباخرة الأولى للفرار.
ولكن الباخرة الأولى التي وصلت في 19 ربيع الأول من العقبة كانت تحمل إلى الملك علي نجدة من شرقي الأردن جاءت «رضوى» تقل كتيبة من الجنود عددهم ثلاثمائة، ومائة من عرب شمر النازحين إلى الشرق العربي، بقيادة أمير اللواء تحسين باشا الفقير، وقد جندهم الأمير عبد الله بمساعدة بعض الأنصار في فلسطين. أنعشت هذه النجدة آمال الملك علي، وشدت أزر جنوده المهزومين، إلا أنها لم تغير في نفسية المدينة، ولا أضرمت في الأهالي شيئا من الحماس. - الإخوان جايون، والجنود منهزمون، وعلي متأهب للرحيل. فما لنا إذن غير التسليم، وخير البر عاجله. تألف لذلك وفد ليذهب إلى مكة فيفاوض القائدين سلطانا وخالدا في شروط الصلح، وكان الملك علي عالما بذلك، فسافر في 2 ربيع الثاني الوفد المؤلف من عشرة من وجهاء جدة وبعضهم من المناوئين لبيت الحسين. هؤلاء، عند وصولهم إلى مكة، بايعوا ابن سعود «دينوا». وقد عاد الوفد يحمل شروط الصلح وهي: خلع الملك علي وإخراجه من البلاد، أو إجباره على الخروج من المدينة للحرب.
لم يكن شيء من ذلك، ولكن القيادة النجدية انتفعت ولا ريب بمجيء هذا الوفد، فعلمت أشياء كانت تجهلها. ومما لا ريب فيه أن جلالة الملك كان شديد الرغبة في مصالحة ابن سعود وموالاته، فقد أرسل بعد أن بويع بالملك برقية عن طريق البحرين إلى السلطان عبد العزيز جاء فيها: «إن أقصى رغبتي أن يسود السلام في الجزيرة، وأن تعود السكينة ما بين نجد والحجاز، وإني باسط لك رأيي في السلم، ومقترح عليك عقد مؤتمر للرجوع إلى إتمام المفاوضات التي بدأت في مؤتمر الكويت ولإزالة بواعث الخلاف.»
على أنه اشترط في عقد المؤتمر جلاء الجنود النجدية عن الحجاز، فأجابه السلطان بالإيجاز: «إن شروطي الأخيرة هي أن لا صلح بيننا ما دام أبناء أبيكم يتوارثون الملك في الحجاز. وأنتم تعلمون أن الحجاز للعالم الإسلامي، فلا ميزة لطائفة من المسلمين على طائفة أخرى.»
وكان الحزب الوطني الحجازي برئاسة الشيخ محمد الطويل - ناظر الجمارك يومئذ - قد أصدر بلاغا عاما ينبئ بخلع الحسين، وبيعة الملك علي على أن يكون ملك الحجاز فقط، وأبرق إلى جمعية الخلافة في الهند يقول: «قد أرسل الحجازيون كتابا رسميا إلى الإمام ابن سعود وطلبوا منه أن يرسل مندوبا لعقد الصلح. إن الحجازيين بعد نشرهم هذا الإعلان العام يلقون تبعة ما يحدث على عاتق العالم الإسلامي، إذا كان لا يسعى لتخليص الأرض المقدسة وأهلها، ويمنع جند نجد من التقدم.»
أما العالم الإسلامي الذي كانت تمثله يومئذ لجنة الخلافة - حسب ادعائها - فقد أبرق باسم رئيسها شوكت علي إلى سلطان نجد يخبره ببرقية أهل الحجاز وبلاغهم، ثم يقول: «إن مسلمي الهند لا يوافقون على بقاء الشريف حسين ولا أبنائه في الحجاز، وإن حكومة الحجاز يجب أن تكون حكومة ديمقراطية حرة، خاضعة لرأي العالم الإسلامي، وإن جمعية الخلافة لا تعترف بإمارة الشريف علي.»
ولكن المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، الذي كان قد أبرق إلى السلطان عبد العزيز متوسطا بالسلم بينه وبين الملك حسين، لم يكن من رأي العالم الإسلامي، وقد أرسل السلطان إلى سماحة المفتي رئيس المجلس الجواب الآتي:
أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس
يحزننا أن تكون جاءت وساطتكم في وقت متأخر، فإنا منذ سبع سنين نتوسل بجميع الوسائل لإحلال الصلح والوفاق محل الجفاء والشقاق فلم تثمر مساعينا. وكنا كلما لنا للحسين تجافى. فتصريحاته المتكررة في شرقي الأردن التي تبرهن عن نواياه الأكيدة في بلادنا، ومنعه رعايانا ست سنين من أداء فريضة الحج، وحركاته المستمرة فتنها في بلادنا من عسير وغيرها، ومعاملته كافة حجاج بيت الله، وعجزه عن تقرير الأمن في الحجاز، مما أجبرنا أن نتخذ التدابير الفعالة لتستقر الحالة في بلاد الحرمين، وليأمن مستقبل بلادنا. وإنا نرغب في وجود إدارة في الحجاز تكفل حقوق جميع المسلمين بوجه المساواة، وتضمن راحة الحجاج، وتزيل عنهم المظالم كلها.
بعد هذه البلاغات والتوسطات والجوابات، رأى الملك علي أن يغير اللهجة فيما أبرقه إلى ابن سعود، خصوصا أن نجدات أخرى صغيرة تلت النجدة الأولى من الشرق العربي، فكتب إليه هذه المرة يقول: إنه مستعد للحرب ويمكنه إخراج جنود نجد من مكة إذا رفضت حكومة نجد الصلح. وكان جواب السلطان واحدا وما تقدمه: «الحسين مسئول عن الحالة. ويجب إخلاء الحجاز من أولاد الحسين. وانتظار حكم العالم الإسلامي الذي له الحق في الفصل في أمر الأماكن المقدسة وطريقة إدارتها.»
الملك علي في موكبه.
هذه الوثائق تثبت إذن ما يلي؛ أولا: أن المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين سعى في سبيل السلم. ثانيا: أن الملك عليا عرض الصلح على السلطان عبد العزيز. ثالثا: أن ابن سعود رفض السلم ما دام أحد أولاد الحسين في الحجاز. رابعا: أن جمعية الخلافة في الهند كانت تتكلم باسم العالم الإسلامي، وأنها كانت معادية للحسين وأولاده. خامسا: أن ابن سعود، وقد استنصرته تلك الجمعية، شرع يتكلم كذلك باسم العالم الإسلامي الذي يطلب إخراج الحسين وأولاده من الحجاز. سادسا: أن الحزب الوطني الحجازي استصرخ العالم الإسلامي ووضع تبعة الحالة في الحجاز على عاتقه. فالعالم الإسلامي - والحال هذه - كان ضائعا بين الهند ونجد والحجاز، ومع ذلك فقد وضع السلطان عبد العزيز الثقة التامة به، وركن إلى إحكامه بدليل البرقية التالية:
البحرين في 16 نوفمبر 1924
الشريف علي بن الشريف حسين
إني أحترم شخصكم احتراما عظيما، ولكن معاملة والدكم لأهل نجد وسائر المسلمين هي التي جعلتنا نقف هذا الموقف، فإذا كنتم تحبون السلام وحقن الدماء، أخلوا الحجاز، وانتظروا حكم العالم الإسلامي. فإن اختاركم أو اختار غيركم، فنحن نقبل حكمه بكل ارتياح. أما إذا بقيتم في أرض الحجاز فإن مسئولية ما يقع من الحوادث تقع على عاتق غيرنا.
سلطان نجد
الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون!
الفصل الثالث والأربعون
رسل السلام
قد أسلفت القول: إن جلالة الحسين قبيل سقوط الطائف عين وزير خارجيته الشيخ فؤاد الخطيب سفيرا لدى حكومة إيران. فبادر السفير الجديد إلى التأهب للسفر، وهو مسرور بوظيفته هذه، مغبوط من زملائه عليها، وركب البحر من جدة مصحوبا بكاتب سره وترجمانه وياوره ومرافقه وعبيده. وقد لحق به آخر هو القدر فأدركه في الشرق العربي؛ إذ ما كاد يصل إلى عمان، في طريقه إلى بغداد فطهران، حتى وصلته دفعة واحدة أخبار الحجاز كلها، من سقوط الطائف إلى تنازل الحسين!
ثم جاءه أمر من الحكومة الجديدة، حكومة الملك علي، بالرجوع إلى وظيفته السابقة، فقبل الشيخ فؤاد قسمة الجبار فيه، وهو يقول: سأكون هذه المرة وزير الخارجية لا ترجمانها. وقد أوحي إليه أنه بصفته هذه العالية يستطيع، إذا استعان بصديقه مؤلف هذا التاريخ، أن يسعى في سبيل السلم بين البلدين نجد والحجاز سعيا موفقا؛ لذلك أبرق إلي يقول إنه يبغي مقابلتي، وإنه غير مأذون له بالدخول إلى سورية. فهل يمكني أن أوافيه إلى عمان؟
تكررت البرقيات بيننا، فاتفقنا على الاجتماع في حيفا، وبعد المفاوضة هناك زرنا سمو الأمير عبد الله في مقره بعمان، فرغب إلي عقب المذاكرة بالتوسط بين جلالة أخيه وعظمة السلطان. وقد أطلعني الشيخ فؤاد في اليوم التالي على برقية جاءته من الملك علي يرحب فيها برسول السلام.
قبلت المهمة لأسباب ثلاثة؛ أولا: لأني على اتصال بعظمة السلطان، وعالم ببعض ما يرمي إليه في سياسته العربية. ثانيا: لأني منذ البدء في رحلتي العربية رسول السلم والتضامن بين ملوك العرب. ثالثا: لأني كنت قد اقترحت على عظمته اقتراحا لحل مشكل الحجاز سلما، فجاءني منه جواب يستحسن الاقتراح، ويشجع على السعي في سبيل تحقيقه. أضف إلى ذلك أن عددا كبيرا من وجهاء المسلمين في بيروت أجمعوا على التوسط بين العاهلين العربيين وقرروا أن أكون رسولهم إليها.
سافرت والشيخ فؤاد الخطيب إلى السويس، ومنها إلى جدة، فوصلناها في 7 ربيع الثاني (5 نوفمبر)، وكان قد سبقنا إليها رسول آخر من رسل السلام، هو المستعرب الإنكليزي المستر فلبي
1
الذي كان سابقا وكيل دولته السياسي في شرقي الأردن.
قد كانت الإشاعات بخصوصه عديدة، وأظهرها أنه قادم بصفة رسمية أو شبه رسمية من قبل الحكومة البريطانية للتوسط بين علي وابن سعود، ولكن المعتمد الإنكليزي بجدة المستر بولارد
2
كذب هذه الإشاعة رسميا. وقد أكد لي أن المستر فلبي - وإن كان رغم إقالته من وظيفته لا يزال في سلك الموظفين - هو متطوع للخدمة التي جاء من أجلها، وأنه لا يمثل غير نفسه. وقد أثبت ذلك الملك علي؛ إذ قال: «هو صديق لابن سعود وصديق لنا، وقد عرض خدمته بواسطة وكيل الحكومة العربية السابق بلندن فقبلناها.»
اجتمعت بزميلي بعيد وصولي، ثم تكررت الاجتماعات والمباحثات، فكنا في الموضوع متفقين - متفقين في وجوب التوسط بالسلم. بل في وجوب السلم لخير العرب بين نجد والحجاز.
ولكن الرجل الذي جئنا نفاوضه لم يكن قد وصل إلى مكة، ولا كان مقره يومئذ معروفا. هل هو باق في الرياض أم هو في الطريق إلى الحجاز؟ وإذا كان لا يزال في الرياض فهل هو قادم إلى مكة أم لا؟ وإذا كان ينوي القدوم فمتى يا ترى يتحرك من عاصمة نجد؟
هذه سؤالات كنا نتساءلها. ولم يكن في جدة، لا في الحكومة، ولا في دور القناصل، ولا بين التجار، من يستطيع أن يجيب عليها. لم يكن في جدة شخص واحد يعرف شيئا عن ابن سعود.
وكان المستر فلبي قد كتب إلى أحد قائدي الجيش النجدي بمكة مستخبرا، فلم يحظ بجواب. وقد كتبت أنا إلى القائدين كليهما، إلى سلطان بن بجاد الذي يعرف أني صديق عظمة السلطان والي الشريف خالد، فلا جاء الجواب من أحدهما، ولا عاد الرسول، ثم خطر لي أن أبرق إلى عظمته بواسطة وكيله في البحرين. وقد كنا تباحثنا أنا والمستر فلبي في السفر برا عن طريق الطائف إلى الرياض، فنجتمع بعظمته في العاصمة أو في الطريق، وعقدنا النية على ذلك. فأبرقت إلى القصيبي في البحرين أولا وثانيا فجاءني منه جوابان الواحد بالعربية: «أرسلنا برقيتك إلى الإمام.» والآخر بالإنكليزية: «قد سافر الإمام إلى الحجاز.» وهذه البرقية الإنكليزية أول نبأ وصل إلى جدة ينبئ بسفر السلطان، فسر به الملك وسرت الحكومة والقناصل، بل سرت المدينة بأسرها. كيف لا ولسان حالها وحالنا واحد: لا بد في قدوم السلطان أن تتغير الحال فيضع عظمته حدا لتلك الفظائع التي كانت تروى أخبارها في جدة. والسلطان رجل عاقل حكيم يمكننا أن نتفاهم وإياه.
بتنا والحال هذه ننتظر وصول عبد العزيز. وفي ذاك الحين علمنا أن رسولا آخر من رسل السلم هو قادم إلى جدة، وأنه من كبار المسلمين. سرنا الخبر أنه من المسلمين، فيجيء موازنا لمسيحية زميلي الإنكليزية ومسيحيتي العربية. والظاهر أن الفكرة هذه خطرت لجلالة الملك، فقبل بتوسط السيد طالب النقيب الذي كان يومئذ في الإسكندرية. والسيد طالب الذي جاء ذكره غير مرة في هذا التاريخ هو صديق للسلطان عبد العزيز، وهو كذلك صديق المستر فلبي الذي عرفه في العراق يوم كان من المستشارين هناك، وكان السيد وزيرا طالبا للعرش، فإذا كان السلطان لا يقبل بتوسط المستر فلبي ولا بتوسطي، وهو في البلد المقدس وفي ظل الكعبة ، فلا بد أن يأذن بالزيارة في الأقل لمن اجتمع به مرارا في الكويت وفي البصرة، وكان ضيفه في القصيم، بل لمن توسط مرة بينه وبين الترك لصديقه الحميم السيد طالب النقيب.
عندما وصل السيد طالب كان خط الدفاع حول جدة، بما فيه من الاستحكامات والمتاريس والخنادق والأسلاك الشائكة والألغام، قد تم كله. وهو في شكل هلال طوله من البحر إلى البحر نحو ستة أميال. وكان الملك علي قد استعاد شيئا من الأمل والاطمئنان، بل كانت ثقته بالفوز - سلما أو حربا - تزداد يوما فيوما مع ازدياد عدد الجيش النظامي وقوته؛ لأن الشريف والده كان يبذل المال والأمير أخاه يبذل الهمة في سبيل التطوع في الشرق العربي «للدفاع عن بيت الله الحرام» ... وهذا خط الدفاع يا عبد العزيز، وهؤلاء أصدقاؤك وأصدقاؤنا رسل السلام.
الفصل الرابع والأربعون
إلى مكة
في العشر الأول من ربيع الثاني سنة 1343، يوم كانت جدة ودوائر السياسة فيها تجهل مقر السلطان عبد العزيز، وتجهل مقاصده الحربية أو السلمية كان هو في الرياض يتأهب للسفر إلى الحجاز. وقد أم العاصمة في ذاك الحين رؤساء القبائل والأعيان ليودعوه، فخطب فيهم قائلا: «إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها؛ بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل العباد. إني مسافر إلى مهبط الوحي لبسط أحكام الشريعة وتأييدها ... إن مكة للمسلمين كافة وسنجتمع هناك بوفود العالم الإسلامي، فنتبادل وإياهم الرأي في الوسائل التي تجعل بيت الله بعيدا عن الشهوات السياسية ... وسيكون الحجاز مفتوحا لكل من يريد عمل الخير من الأفراد والجماعات.»
وقد أرسل قبل السفر إلى الإمام يحيى وغيره من أمراء الإسلام المستقلين الكتاب الآتي: «أما بعد: فقد استقبلت الطريق إلى مكة غير باغ ولا آثم، فليتفضل الأخ العظيم بإرسال من يمثله في مؤتمر مكة حبا بنشر السلام بين أمم الإسلام. سلطان نجد: عبد العزيز.»
هذا فيما يختص بشئون البلاد الخارجية. أما شئونها الداخلية فقد جعل والده الإمام عبد الرحمن مرجعها الأعلى، وأناب مكانه في العارض ابنه سعودا على أن يعمل بمشورة جده، ثم كتب إلى أهل بريدة وعنيزة وإلى بعض الهجر من الإخوان أن يوافوه بألويتهم وجموعهم إلى أماكن عينها.
وفي 13 ربيع الثاني (11 نوفمبر) خرج من العارض بكوكبة من الفرسان، وبحاشيته المؤلفة من كتاب السر وبعض العلماء، وفيهم من آل الشيخ الشيخ عبد الله بن حسن قاضي جيشه، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف إمامه. وقد رافقه في هذه الرحلة أخواه محمد وعبد الله، وابناه محمد وخالد، وغيرهم من آل بيته، ونفر من آل السبهان وآل الرشيد، وغيرهم من وجهاء نجد، ثم انضم إلى الموكب الشاعر عبد الرحمن النفيسة وراوية نجد المشهور عبد الله العجيري. وكان مع عظمته من المستشارين السوريين الدكتور محمود حمدي ومحمد النحاس ويوسف ياسين وجمال الغزي.
أما الألوية التي لحقت بالموكب السلطاني في الطريق فعددها خمسة عشر لواء، خمسة ألوية من أهل القصيم - من بريدة وعنيزة والبكيرية والمذنب والخبراء - وهؤلاء من الحضر، وعشرة ألوية من هجر الداهنة ودخنة ونفي والشبيكية وغيرها.
إن الطرق المعروفة بين نجد والحجاز كثيرة، أقصرها من الرياض - بعد الخروج من وادي حنيفة - هي الطريق الجنوبية التي تبدأ من ضرمة فتمر بالركيبة، ومسافتها إلى مكة نحو خمسمائة ميل، ولكن السلطان اختار الطريق الشمالية التي تمر بالوشم وأطراف وادي السر، ثم بالشعرة، وهي تزيد نحو مائة ميل على الأولى، ويستغرق قطعها عشرين يوما للقوافل، ومن الخمسة والعشرين إلى الثلاثين يوما للجند، أما النجاب حامل البريد فيمكنه أن يقطع المسافة بين مكة والرياض بعشرة أيام.
سار الموكب سيرا معتدلا، لا كالقوافل ولا كالجيش، وكان يقف يوما أو يومين على بعض المياه القريبة من العمران، فتجيء الوفود تسلم على الإمام، وتجيء معهم في بعض الأحايين الشكايات التي كان يسمعها ويمهد سبيل العدالة لأصحابها.
أربعة وعشرين يوما ظل الموكب في الطريق، وكان يمشي سيرا وإسراء من الثماني ساعات إلى الخمس عشرة ساعة كل يوم، ويمشي حتى في البادية بنظام عسكري.
قد دون الأديب يوسف ياسين
1
بعض أخبار هذه الرحلة السلطانية، ونشرها تباعا في جريدة «أم القرى»، فذكر أسماء الأماكن التي مروا بها، والهضاب والمياه والشعاب والأودية، وردها إلى ما جاء من ذكرها في دواوين الشعر وكتب الأقدمين. وقد وصف الموكب من ساعة الإدلاج إلى ساعة الإناخة الأخيرة كل يوم فأخبرنا كيف كان السلطان ورجاله يقضون ساعات النهار والليل في السير والسرى.
قلت: إن للموكب نظاما عسكريا في السير. وما سوى ذلك فلا دليل على الحرب فيما كان يحمل، ولا أثر للحرب فيما كان يسمع في صفوفه. إنما هو رهط من الناس خرجوا للسياحة، وفي سياحتهم رياضة مزدوجة بل مثلثة؛ أي رياضة روحية، وجسدية، وأدبية .
يسيح الأوروبيون فيحملون في حقائبهم الكتب يطالعونها في ساعات السفر. وها نحن في البادية - عرب في فيافي العرب - ومعنا من الكتب الدينية والأدبية والتاريخية للمطالعة في النهار وفي الليل. أجل ترانا نسمر ونحن في السرى. فإذا ما طال الليل ومل الحادي سمعنا صوت السلطان ينادي العجيري. وقد يكون راوية نجد معتزلا الركب كما هي عادته، فيكرر أحد الرجال كلمة السلطان: العجيري! يا عجيري تقدم. فيحث الراوية راحلته، وبعد أن يدنو من عبد العزيز يسلم ويشرع يقرأ. أجل، إنك إذا كنت لا تراه تظنه يقرأ في كتاب من كتب الأدب والشعر، ولكن العجيري لا يحمل كتابا، العجيري يحمل في رأسه «الأغاني» و«الكامل» و«البيان والتبيين» و«الكشكول» وبضعة دواوين من الشعر. له ذاكرة يقيلها إذا كبت خاطر سريع، وله أدب لا يقيده بحرف ما يروي ولا يبعده عن معناه، وله صوت ونطق وطريقة في الإلقاء تدهش أكبر الممثلين.
الملك عبد العزيز، يوسف ياسين، الطيب الهزازي، محمد نصيف. - ماذا يبغي الإمام؟ فصلا في مكارم الأخلاق، فصلا في الشجاعة والإقدام، فصلا في البر والتقوى، فصلا في نوادر الملوك؟
وإذا ما بدأ في الرواية كان كالساحر يتمشى في حدائق الأدب والشعر والتاريخ، فينقلها بأزهارها، وبطيب شذاها إلى البادية، فتنعش الركبان، وتطرد النعاس من الأجفان.
قال يوسف ياسين: «قد أقام لنا الدليل على أن ما روي عن أخبار الرواة الأولين، وما كانوا يحفظونه من الشعر والنثر، أمثال حماد والأصمعي لم يكن خيالا شعريا، وأن أمالي أبي علي القالي وأضرابه لم تكن إلا من قبيل ما كان يرويه لنا الشيخ العجيري في الطريق.»
وفي ساعة الإدلاج بعد أن تمشي الحملة وأمامها العلم وإلى جانبه راكب يحمل قنديلا منيرا، نسمع الصوت ينادي: العجيري. فيدنو الراوية من عظمة السلطان ويطفق يرتل طائفة من الذكر ترتيلا جميلا أنيقا «تكاد تعد منه حروفه»، ثم يؤذن المؤذن لصلاة الفجر.
وبعد الصلاة والقهوة يستأنف الموكب السير فينادي السلطان: ابن الشيخ، فيلبيه أحد العلماء ويشرع يتلو شيئا من القرآن، ثم بعد الضحى يدعوه ثانية، أو يدعو غيره من العلماء - قارئ الرحلة مثلا - فيسلم هذا قياد راحلته إلى خادم يقودها، ويتناول من حقيبته السيرة النبوية، أو صحيح مسلم، أو تاريخ ابن الأثير، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيطفق يقرأ ساعة أو ساعتين بصوت عال يسمعه المتقدمون في الموكب والمتأخرون.
ويظل الموكب سائرا بنظام لا يخرج في الصورة الإجمالية عنه، تتقدمه كوكبة الفرسان، وتكاد أحيانا تختفي عن الأنظار، فأحرى بها أن تدعى كوكبة الكشافة، ثم علم السلطان وورائه الحملة؛ أي حملة المؤن والأمتعة والمواعين، وهي تمشي قبل الموكب السلطاني بساعة أو ساعتين، فتختفي بعض الأحايين مثل كوكبة الفرسان، أما الموكب فتتقدمه الأعلام، أعلام الجيوش المنضمة إليه، وكلها تمشي في صف واحد، وبعدها الموكب، والسلطان حينا على رأسه وحينا في الوسط، فيسير أمامه أو وراءه الكبير والصغير بدون تمييز وبدون نظام.
وها هو ذا قد أناخ في مرات بلدة امرئ القيس، فجاءته الوفود من الوشم وسدير مسلمة عليه. وها هو ذا جالس في فسطاطه يسمع أحد الشعراء يتلو قصيدة في مديح الإمام وانتصار جيوش التوحيد في الحجاز. وها هو ذا في صراحته المعتادة يقول للشاعر: «أحب سماع الشعر ولكن نوعين منه لا أحبهما، الهجو والغلو في المديح.» ولا وقت لدينا لنقف نبكي من ذكرى الأحباء والمنازل، ولكننا نمر بسقط اللوى، والعجيري يتلو علينا شيئا من أخبارك يا ابن حجر الكندي.
توكلنا على الله! اركب يا ابن مطرف، اركب يا عبد الرحمن. وعبد الرحمن بن مطرف هو أول من يعلو راحلة في الموكب، هو راعي الراية، راية السلطان.
وها نحن بعد خروجنا من ديرة امرئ القيس نشرف على أماكن نشاطرها ولو في الكتب جلال القدم والذكرى. هذه الجبال والشعاب والمياه - وضح الحمى والنير والخفاف - قد طالما زانت في غابر الزمان قوافي الشعراء، وأفسدت عيش سادة العرب. ها هنا كانت تتطاحن القبائل، وها هنا كانت تندب الشعراء المنازل والأحباب. وهو ذا ريع الريان، ذاك الشعب الخصيب الذي نخرج إليه من الشعرة، محط رحال التجار والقوافل بين الحجاز والقصيم والعارض، وما دون الشعب الجبل الذي قال فيه جرير:
يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا
وهو الذي حن كذلك إلى أهله الشريف الرضي:
أيا جبل الريان إن تعر منهم
فإني سأكسوك الدموع الجواريا
ولا نزال مسندين - مصعدين - من الريان إلى وادي الرشا، بين جبال شهلان والخوار، فتبدو أعالي نجد في أبهى الحلل من الاخضرار، تلك البلاد التي يتغنى الشعراء بعرارها، وبطيب هوائها، وبفسيح أرجائها.
حنينا إلى أرض كأن ترابها،
إذا أمطرت، عود ومسك وعنبر
بلاد كأن الأقحوان بروضه
ونور الأقاحي وشي برد محبر
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي
خيام بنجد دونها الطرف يقصر
في وادي الرشا نعلو نحو ألف وأربعمائة قدم عن البحر ونستمر مسندين، فنصل إلى ماء يدعى المصلوم (بالصاد) وهناك يلتقي الركب بنجاب من مكة يحمل البريد إلى السلطان، وفي البريد كتاب من قناصل الدول بجدة إلى قواد الجيش النجدي بمكة يعلمونهم بموقف دولهم الحيادي في النزاع بين نجد والحجاز، فأرسل إليهم السلطان الجواب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلطنة النجدية وملحقاتها
في 24 ربيع الثاني 1343 /22 نوفمبر 1924، عدد 114
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرات الكرام قناصل الدول العظام في جدة، معتمد الدولة البهية البريطانية، وقنصل جنرال الدولة الإيطالية، ووكيل قنصل جنرال الجمهورية الفرنسية، ونائب قنصل ملكة هولندة، ووكيل قنصل شاه إيران المحترمين.
بعد إهداء ما يليق بجنابكم من الاحترام، نحيط علمكم بأننا أحطنا علما بكتابكم المؤرخ في 4 نوفمبر المرسل إلى أمراء جيشنا خالد بن منصور وسلطان بن بجاد بخصوص موقف حكوماتكم إزاء الحرب الواقعة بين نجد والحجاز. كنت أود من صميم قلبي أن تحقن الدماء، وتنفذ رغائب العالم الإسلامي الذي ذاق المتاعب في السنوات الثمانية الأخيرة، ولكن الشريف علي بن حسين بموقفه في جدة لم يجعل لنا مجالا للوصول إلى أغراضنا الشريفة؛ ولذلك فإني حبا بسلامة رعاياكم، ومحافظة على أرواحهم وأملاكهم وما قد يحدث لهم من الأضرار أحببنا أن نعرض عليكم ما يأتي: (1)
أن تخصصوا مكانا ملائما لرعاياكم في داخل جدة أو خارجها، وتخبرونا بذلك المكان لنرسل إليهم من رجالنا من يقوم بحفظهم ورعايتهم. (2)
إذا أحببتم أن ترسلوهم إلى مكة ليكونوا في جوار حرم الله بعيدين عن غوائل الحرب وأخطارها، فإننا نقبلهم على الرحب وننزلهم المنزلة اللائقة بهم. وإننا نرجوكم أن ترسلوا كتابنا طيه إلى أهل جدة حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وإننا لا نعد أنفسنا مسئولين عن شيء بعد بياننا هذا، وتقبلوا في الختام تحية خالصة مني.
الختم
وهذا نص الكتاب إلى أهل جدة:
من عبد العزيز آل فيصل آل سعود إلى أهالي جدة كافة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فلا بد أنه بلغكم أن أغلب العالم الإسلامي قد أبدى عدم رضاه عن حكم الحجاز بواسطة الحسين وأولاده، وأنا حبا بسيادة الإسلام، وحقن الدماء، نعرض عليكم أنكم في عهد الله وأمانه من أموالكم وأنفسكم إذا سلكتم مسلك أهل مكة. وبالنظر إلى وجود الأمير علي بين أظهركم وخروجه على الرأي الإسلامي، فإنا نعرض عليكم الخروج من البلد والإقامة في مكان معين، أو القدوم إلى مكة سلامة لأرواحكم وأموالكم، أو الضغط على الشريف علي وإخراجه من بلادكم. فإن فعلتم غير ذلك بمساعدة المذكور أو بولائه فنحن معذورون أمام العالم الإسلامي، وتبعة ما قد يقع من الحوادث تكون من المسبب، والسلام.
الختم
كأن الذين يسافرون في البادية، فينقلون بيوتهم كل يوم ينسون أن بيوت أهل الحضر من حجر وطين، وأن لمصالحهم وتجارتهم جذوعا متأصلة بين تلك الأحجار وتحت تلك البيوت، ومع ذلك فقد أرسل السلطان الكتابين إلى القناصل وإلى أهل جدة بواسطتهم، وأمر ثلاثة من حاشيته بأن يتقدموه إلى مكة فيطمئنون الناس، فراحوا يبشرون بقدومه.
سار الموكب - بعد أن اجتاز جبل النير - جنوبا بغرب إلى الدفينة، وهي في رأس الحرة التي تعلو نحو أربعة آلاف قدم عن البحر، وفيها بقية طريق معبدة، غير السكة السلطانية؛ أي سكة زبيدة القديمة، وفي هذه الحرة أعلام منصوبة تدل على الأرض الوعرة التي لا تسلك، بل تحذر القوافل من أخطارها. وهاك بعد أن نجتاز الحرة سالمين بيوتا متهدمة في وسط بساتين من الأثل ونخيل الدوم. هي مران التي وصفها ياقوت بقوله: إنها قرية غناء كبيرة، كثيرة العيون والآبار والنخيل، وقد كانت لبني هلال، ولكنها اليوم للاضمحلال:
مررنا على مران ليلا فلم نعج
على أهل آجام بها ونخيل
وفي اليوم الثالث والعشرين وصل الموكب إلى عشيرة التي تتناهى إليها طرق نجد كلها، والتي تعلو أربعة آلاف قدم عن البحر. فأقام السلطان فيها يوما يستقبل الوفود التي جاءت من جهات الحجاز للسلام، ثم أدلج الركب من عشيرة مصعدين إلى قرية السيل (4500 قدم) أعلى نقطة في هذه الرحلة، فأحرموا هناك وانحدروا في وادي السيل - بين جبال جرداء ملساء سحماء - فمروا بقرية الزيمة، وأناخوا في مكان يبعد ساعتين عن الأميال، ثم تقدموا بعد الظهر مكبرين ملبين:
لبيك اللهم لبيك!
لا شريك لك لبيك!
ملأت هذه الجموع البيضاء الشعاب، وتزاحمت بين الهضاب وتصاعدت أصوات الملبين، فتصادمت في الفضاء فرددت صداها الجبال والوهاد.
لبيك اللهم لبيك!
لا شريك لك لبيك!
الفصل الخامس والأربعون
إشاعات وحقائق
مرضنا ونحن في جدة ننتظر وصول السلطان عبد العزيز إلى مكة. مرضنا حقيقة ومعنى - مرضنا كلنا، الملك علي، والسيد طالب، والمستر فلبي، والمؤلف - بالمالاريا وغيرها من الأمراض السارية. وكنا في ذلك الأثناء نسمع من الأخبار - أخبار الإخوان - ما لا يزيل الكربة بل يزيد بها.
يا لهول الإخوان! ويا للفظاعة ويا للعار! قد عاهدوا «الجداعين» وأمنوهم على حياتهم وأموالهم، ثم ذبحوهم عن بكرة أبيهم. قد عاهدوا بني جابر وبعض الأشراف الذين «دينوا» وأمنوهم، ثم حملوا عليهم فذبحوهم كلهم الرجال منهم والنساء والأطفال. الإخوان يضربون أهل جاوة بمكة ويمنعونهم عن الصلاة، وعن التدريس في الحرم. الويل لمن يرى الإخوان سيكارة بيده، فإنهم يشبعونه شتما وضربا. الإخوان يحجزون البيوت بمكة ويبيعونها. الإخوان يهدمون بيت مولد النبي، وبيت السيدة فاطمة الزهراء، وضريح السيدة خديجة. الإخوان هدموا كل قبور الصحابة والأولياء وآل البيت في المعلا. وهدموا مسجد حمزة، ومسجد أبي قبيس. وهدموا ...
مرحبا بالإشاعات، فإنها مثل المصائب بعضها ينسي الناس البعض الآخر، وقد أنسانا الإخوان - إلى حين - الخبر بسقوط حائل. قالوا إنها سقطت بيد قبائل شمر، وقالوا إن سلطان الدويش قد استولى بمساعدة شمر على حائل.
ومرحبا بالمكذبين، لا صحة للإشاعة بأن مشايخ رابغ «دينوا» وأن رابغ أصبحت في حوزة الإخوان. كذلك كانت الأخبار تترامى إلينا، ونحن على فراش الحمى نتململ، ونقول: عجل الله قدومك يا عبد العزيز، ولكننا في تجوالنا أيام النقه سمعنا من مصادر شتى، وتحققنا بعدئذ ما يقرب من الحقيقة فيما تقدم من الإشاعات. سنعود إذن إليها فنمحصها للتاريخ.
عندما دخل الإخوان مكة جاء عربان الجدعان وبني جابر وبعض الأشراف إلى الأمير خالد بن لؤي موحدين طائعين، دخلوا في دين التوحيد «دينوا» فأعطاهم خالد الأمان على أرواحهم وأموالهم، وأذن لهم بالرجوع إلى منازلهم التي تبعد مرحلة ومرحلتين عن جدة إلى الشرق الجنوبي.
ولكنهم بعد أن عادوا من مكة جاءوا يقدمون الطاعة للملك علي، وشرع بعضهم يقطع الطريق بين جدة ومكة. فأرسلت القيادة النجدية سرية عليهم للتأديب ولجمع السلاح. أبى الجدعان أن يسلموا سلاحهم، فنشبت بينهم وبين الإخوان معركة دامية انتهت بهزيمة الجدعان وفرارهم في السنابيك إلى جدة. أما بنو جابر فمنهم من سلموا سلاحهم ومنهم من فروا هاربين، فركبوا البحر مثل الجدعان، وجاءوا جدة بحريمهم وعيالهم، فأنزلهم الملك علي خارج السور، وبذل في سبيلهم المستطاع.
اجتمعنا في قنصلية هولندة ببعض الجاويين العائدين من مكة، فسألناهم أن يصدقونا الخبر، فقال أحدهم: «أقمنا حفلة لنتلو المولد النبوي - كما هي عادتنا كل سنة - فنصبنا قبة للاجتماع. وعندما حضر عالمنا لتلاوة سيرة المصطفى، جاء الإخوان فطردونا وهدموا القبة. لا، لم يضربوا أحدا، ولكنهم كانوا يشتموننا ويدعوننا مشركين. نعم، التدخين ممنوع في الأسواق، ولكني ما رأيتهم يضربون أحدا يدخن. هم يشتمون من يدخن ويدفعونه جزاء ربعا مجيديا.»
التقينا ذات يوم عند السور باثنين عائدين من مكة، الواحد ضابط تركي كان في خدمة الحسين، والثاني عربي من البدو. فسألنا عن فظائع الإخوان فقال الضابط: «حجزوا البيوت ونهبوها وباعوها والله. وهدموا المقامات كلها ، حتى مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام.» فقاطعه الإعرابي قائلا: «لا والله، الذنب ذنبنا - نحن العرب - والخيانة منا. يجيء الواحد إلى خالد يقول: هذا بيت الشريف، وهذا بيت عم الشريف، وهذا بيت أحد عبيد الشريف، فيحجز الإخوان هذه البيوت، ويبيعونها بعد أن يخرجوا منها الأثاث، ما مسوا والله غير أملاك الشريف ودور الحكومة.»
أما هدمهم القبور والمقامات فما انجلت الحقيقة فيها إلا بعد أن زار وفد جمعية الخلافة مكة، فرأوا بأعينهم ما هدم منها وما لم يهدم، وقد قال السيد سليمان الندوي رئيس الوفد في تقريره: «إن القباب والبيبان التي كانت على القبور هدمت وكسرت، ولكن القبور موجودة سالمة كما شاهدنا. والقبة التي كانت على قبر حمزة هدمت والمسجد سالم.» أما مسجد أبي قبيس فقد هدم قسم منه، فأسف السلطان عبد العزيز لذلك، وأمر بترميمه.
الملك علي في «الورشة» بجدة أمام إحدى المصفحات.
لا ثأر للإخوان على المساجد، ولكن في القباب مصيبة الدين الكبرى. قال محمد بن عبد الوهاب: «المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.» وقد ذكر بالحديث: خير القبور الدوارس.
ولكن السخافة في الناس لا تتغير إلا في شكلها. إن هادمي القبور ومقدسيها لمن أمة واحدة، وإن غضبة للحجارة مثل غضبة عليها لا تصلح الأمم. كيف لا نستأنس إذن بالإشاعة التي تنسينا إشاعات القبور؟ كل من في جدة صدق الخبر بسقوط حائل إلا المستر فلبي والمؤلف، وأظن أن بعض الناس شاركونا الريب، واستمروا مع ذلك في نشر الإشاعة. فقد سمعنا جلالة الملك في مجلسه ذات ليلة يقول لقائد فرقة النصر تحسين باشا الفقير: «الخبر بسقوط حائل صحيح، جاءنا اليوم الإثبات من عمان.» أي من المصدر الأعلى فيما كان يروى عن نكبات نجد وابن سعود، ولكن عليا من الناس الذين لا يحسنون التمويه، فقد خانته اللهجة التي ظهر فيها أنه مشكك بما يقول.
وقد كان يشكك حتى بمن يقسمون اليمين المغلظة من البدو: والله بالله نحن رجالك يا علي ونفديك بدمنا! فهل يقال بعد هذا إن ابن مبيريك صاحب رابغ ومشايخه كلهم «دينوا»؟ وأن رابغ أصبحت في حوزة الإخوان؟
هاكهم في القصر يقدمون الطاعة للملك.
وهاكهم في مكة يبايعون ابن سعود!
إشاعات وحقائق، تتلو الواحدة الأخرى كأدوار من الحمى، وقد كنا، بين الحمى وبينها، نسترحم الله للعرب أجمعين.
الفصل السادس والأربعون
الكتاب والسنة - والسيف
أوضحت فيما تقدم خطة السلطان عبد العزيز السياسية والدينية، النجدية والحجازية. فقد أرسل من البادية، وهو في الطريق إلى مكة، يؤمن الأجانب في جدة ويعرض الأمان على أهلها إذا هم أخلدوا إلى السكينة، وكتب قبل أن غادر الرياض إلى أمراء الإسلام الحاكمين يدعوهم لعقد مؤتمر في أم القرى، ثم مهد سبل الحج وأمن الطرق إلى الحرمين، إلا أن هذا التطور في الحكم السعودي خلق لصاحبه مشاكل جديدة، فعالج بعضها علاجا عصريا، وحل بعضها حلا مرضيا وهو لا يزال في منتصف الطريق، وراءه ماض مجيد وأمامه مستقبل نصفه مكتوب وإن بدا غامضا، والنصف الآخر صفحة بيضاء.
على أن المؤرخ لا يسبق التاريخ، وليس من شأنه النظر في المستقبل قبل أن يدون في الأقل المهم من حوادث الماضي. نعود إذن إلى حيث تركنا الموكب السلطاني. فعندما وصل إلى الأبطح مساء اليوم السابع من جمادى الأولى سنة 1343 (4 ديسمبر 1924) أناخ السلطان عبد العزيز ذلوله وركب حصانا، ونزل تتبعه حاشيته إلى قلب المدينة، فترجلوا عندما قربوا من المسعى ومشوا إلى الحرم، فدخلوه من باب السلام وطافوا، وصلوا وسعوا تلك الليلة، ثم عادوا إلى المخيم في المعابدة.
وفي صباح اليوم التالي - الجمعة - استعرض السلطان الجيش من خيالة ومشاة، ثم جلس في السرادق الكبير الذي نصبته البلدية، وفرشته بالطنافس وحرقت فيه البخور، فاستقبل أولا الإخوان وكان بينهم كثيرون لا يعرفون الإمام فكانت المشاهدة الأولى، وقد تهافتوا عليه يصافحونه، ويقبلونه في خشمه وفي جبينه، وهم يبكون من شدة السرور، ثم جاء من أهل مكة بعض أعيانها وتجارها يسلمون، فبادروا إلى يده يريدون تقبيلها، فمنعهم قائلا: «المصافحة من عادات العرب، أما عادة التقبيل فقد جاءتنا من الأجانب ونحن لا نقبلها.» وقد خطب فيهم خطبة صغيرة، فأعاد ما قاله في خطبة الوداع لرؤساء نجد قبل سفره من الرياض.
بعد ذلك طلب إليه أمين مفتاح الكعبة الشيخ عبد القادر الشيبي أن يعين وقتا للاجتماع بعلماء مكة، فضرب لهم موعدا في اليوم التالي، وكان الاجتماع في الحميدية، حضره علماء البلد الحرام من أهله ومن المجاورين له، فخطب فيهم السلطان عبد العزيز خطبة دينية، اجتماعية، سياسية، خطبة طويلة بليغة نقتطف منها ما يلي:
إن أفضل البقاع هي البقاع التي يقام فيها شرع الله، وأفضل الناس من اتبع أمر الله. وإن لهذا البيت شرفه ومقامه، منذ رفع سمكه سيدنا إبراهيم عليه السلام. وقد عظم العرب أمره في جاهليتهم ... فتعالوا نتعاقد ونتحد.
إن الفضول تعاقدوا وتعاهدوا
ألا يقر ببطن مكة ظالم
والله وبالله وتالله ورب هذا البيت! لقد كان من أحب الأمور عندي أن يقيم الحسين بن علي شرع الله في هذا البيت المبارك، ولا يعمل لإبادتنا من الوجود، فأجيئه مع الوافدين أحب (أقبل) على يده وأساعده في جميع الأمور ... لا ينفعنا غير الإخلاص في كل شيء، الإخلاص في العبادة لله وحده، والإخلاص في الأعمال كلها، والذي أبغيه في هذه الديار أن يعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه في الأمور الأصلية، أما في الأمور الفرعية فاختلاف الأئمة فيها رحمة. إلى أن قال وفيه لب الإخلاص: والآن أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين نصيحة، وأنا منكم وأنتم مني، وهذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم. فإن كان فيه ما يخالف كتاب الله فردونا عنه، وسلونا عما يشكل عليكم فيها. والحكم بيننا وبينكم كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة ... إننا لم نطع ابن عبد الوهاب وغيره إلا فيما أيدوه بقول من كتاب الله وسنة رسوله. أما أحكامنا فهي طبق اجتهاد الإمام أحمد بن حنبل. إذا كان هذا مقبول عندكم تعالوا نتبايع على العمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
بعض الحضور :
كلنا نبايع.
السلطان :
قولوا لنا بصريح القول ما عندكم.
بعض الحضور :
ما عندنا غير هذا.
السلطان :
أعيذكم بالله من التقية، فلا تكتموا علينا شيئا.
أحد العلماء :
اجمعنا بعلماء نجد يا حضرة الإمام فنتباحث وإياهم في الأصول والفروع ونقرر ما نتفق عليه إن شاء الله.
السلطان :
زين. قريبا تجتمعون.
وبعد يومين، في 11 جمادى الأولى، اجتمع خمسة عشر من علماء مكة بسبعة من علماء نجد، فتباحثوا في الأصول والفروع، ثم أصدر علماء مكة بيانا جاء فيه:
قد حصل الاتفاق بيننا وبين علماء نجد في مسائل أصولية. منها: من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه، يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر، فهذا كافر يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل. ومنها: تحريم البناء على القبور وإسراجها وإقامة الصلاة عندها؛ لأن في ذلك بدعة محرمة في الشريعة. ومنها: من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حراما. في هذه المسائل تباحثنا واتفقنا فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم الشريف وبين إخواننا أهل نجد.
أي إنهم أقروا المسائل الجوهرية في المذهب الحنبلي الوهابي وقبلوها. وفي يوم اجتماع العلماء صدر البلاغ الآتي مطبوعا في مطبعة جريدة القبلة:
1
لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز الحضر منهم والبدو
لم نقدم من ديارنا إليكم إلا انتصارا لدين الله الذي انتهكت محارمه، ودفعا لشرور كان يكيدها لنا ولبلادنا من استبد بالأمر فيكم.
كل من كان من العلماء في هذه الديار من موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذا راتب معين، فهو له على ما كان عليه من قبل إن لم نزده، إلا رجلا أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه فهو ممنوع مما كان له من قبل. وكل من له حق ثابت في بيت مال المسلمين أعطيناه حقه ...
لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي إلا الظالم حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا أقبل فيها شفاعة.
في هذا البلاغ، وفي بيان العلماء حل للمشكل الديني مبني على القاعدة أن الجزاء من نفس العمل. ولا فرق أي من الاثنين، البيان أو البلاغ، صدر قبل الآخر، كأن أحد الفريقين قال: لا نمس حقوقكم التقليدية، فقال الثاني: إذن نقبل أركان مذهبكم ونعمل بها.
بعد هذه الاجتماعات الخاصة بين السلطان والعلماء عقد اجتماع عام حضره العلماء والأعيان والتجار، فخطب فيهم السلطان، فقال:
أريد رجالا يعملون بصدق وعلم وإخلاص، حتى إذا أشكل علي أمر من الأمور رجعت إليهم في حله وعملت بمشورتهم، فتكون ذمتي سالمة وتكون المسئولية عليهم، وأريد الصراحة في القول ثلاثة أكرههم ولا أقبلهم، رجل كذاب يكذب علي تعمدا، ورجل ذو هوى، ورجل متملق. هؤلاء أبغض الناس عندي.
بهذه الخطبة الوجيزة الصريحة افتتح عظمته الاجتماع لتأسيس مجلس أهلي شوري. فاجتمع الناس ثانية في دار البلدية، وانتخبوا من الأعيان والعلماء والتجار مجلسا مؤلفا من أربعة عشر عضوا برئاسة عبد القادر الشيبي.
على أن هناك مشاكل لا تحل بتأسيس مجلس الشورى ولا باتفاق العلماء، كالمشكل الاقتصادي مثلا، وقد حال خط الدفاع في جدة دون تموين مكة من ثغرها الأول أو الأقرب، ولم يقطع الملك علي الأقوات عن «جيران بيت الله الحرام» إلا عندما تم ذاك الخط؛ لأن بدو حرب، من الذين كانوا يجيئون صباحا كل يوم إلى القصر بجدة، أو من أولئك الذين «دينوا»، كانوا يقطعون الطريق إلى مكة وينهبون القوافل. هو بعض السبب في حمل الإخوان عليهم.
وقد كان السلطان عبد العزيز أصدر الأوامر، حتى قبل أن سافر من الرياض، إلى عماله وقواده بفتح طريق بل طريقين إلى البحر، وكانت القنفذة أول الثغور التي احتلتها جيوشه من عسير، ولكن القنفذة تبعد أكثر من مائتي ميل عن مكة، والليث أقرب منها؛
2
لذلك بادرت القيادة في الحجاز إلى احتلالها. على أن السرية التي مشت إلى ذاك الثغر لقيت من أشراف «ذو حسن» بعض المقاومة، فاشتبكت وإياهم في معركة دامت بضع ساعات، وكانت الغلبة فيها على «ذو حسن»، ففر منهم كثيرون وسلم الآخرون، وأصبحت الليث في حوزة ابن سعود.
أما عرب رابغ
3
فقد أشرنا في الفصل السابق إلى ما كان من سلوكهم سلوك الثعالب. والحقيقة أنهم عصوا حكومة جدة فأرسلت عليهم خمسين جنديا بقيادة حمدي بك. ركبوا باخرة الطويل التي كانت قد سلحت بثلاثة مدافع صغيرة، وأبحروا إلى رابغ، فنزلوا إلى البر ولم يلقوا من عربانها أو مشايخها شيئا من المقاومة، بل سلم المشايخ ومعهم ابن عم عامل رابغ ابن مبيريك وجاءوا مع الجنود إلى جدة، فأقسموا يمين الطاعة لعلي فعفا عنهم، وأذن لهم بالرجوع إلى بلدهم.
جدة، الحي الشمالي.
وفي ذلك الأثناء تصادم الإخوان وفريقا آخر من العربان، في الطريق بين مكة ورابغ، تصادما يستوجب البيان؛ في تهامة الحجاز يقطن بطون من حرب فتمتد ديارهم إلى المدينة المنورة. وقد كانت هذه القبائل في مواسم الحج تعتدي على الحجاج، وتنهب القوافل، وتتقاضى الحكومة، فوق ذلك، رواتب معلومة. فعندما دخل الجند النجدي مكة جاء بعضهم إلى الشريف خالد يطالبون بما ادعوا أنه حقهم الشرعي، فقال لهم خالد: «إذا «دينتم» كنتم وكافة المسلمين سواء، وإلا فعندنا الكتاب والسنة، وعندنا السيف.»
استمر هؤلاء في الحروب عاصين، فأرسل خالد عليهم سرية من الإخوان فالتقوا بجماعة منهم في عسفان
4
بين مكة ورابغ، على طريق المدينة، فضربوهم ضربة شديدة وأزالوهم من ذاك الطريق. وفي حملتهم هذه قرب الإخوان من رابغ، ففكر العامل إسماعيل بن مبيريك في أمره، وجاء مكة أولا وثانيا يعاهد الشريف خالدا ويوحد الله، فلبث ينتظر قدوم السلطان الذي عين له ولمشايخه رواتب على شرط أن يمنعوا التعدي على الحجاج، ويحموا الطريق من البحر إلى مكة، هذه هي قصة رابغ وعربانها الذين جاءوا جدة وراحوا إلى مكة، وأقسموا اليمينين، وفاوضوا وساوموا الفريقين ثم تبعوا الأقوى والأكرم.
وما كان ابن مبيريك فريدا في سلوكه، فقد تبع الأقوى والأكرم كثيرون غيره من العرب، ومنهم من الأشراف الحرث والفعور الذين تهافتوا على السلطان عبد العزيز عند وصوله إلى مكة، ولكنهم رغم تزلفهم منه عوملوا معاملة السوى. وقد أرضى السلطان الجميع في تأليفه مجلس الشورى الذي سيذكر فيما بعد. على أنهم جاءوه شاكين قلة الأقوات وغلائها، وما يعانيه الأهالي بسبب ذلك من الشدة والضيق. فقال لهم إنه قد اتخذ التدابير لمنع الاحتكار أولا، ولجلب الأقوات عن طريق الليث، وإنه ورجاله وجيوشه لا يكلفونهم من هذا القبيل شيئا؛ لأن الأقوات تجيئهم من نجد. «هي قليلة ولكننا أهل نجد نكتفي بالقليل ... عليكم بالصبر وقريبا ترد الأرزاق من الثغور التي بيدنا إن شاء الله.»
ثم استأذنوه بإرسال كتاب إلى الملك علي عله يسمع شكواهم فلا يمنع عنهم الأرزاق. فقال السلطان: «هذا لا يفيد، علي لا يسمع شكواكم وقد يظنها شكوانا ملبسة، ومع ذلك هاتوا كتابكم أرسله.»
وفي هذا الكتاب، المذيل بإمضاءات ستين من أهل مكة، لوم وتعنيف ورجاء بألا يمنع الأرزاق عنهم وهم جيران بيت الله الحرام الذين قال فيهم تعالى:
أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . «وما السبب في التضييق علينا؟ فإن كنا مجرمين من جهة الحكومة النجدية فلسنا المسئولين في دخولهم مكة ولا قوة لنا على إخراجهم ... إننا نسألكم واحدا من أمرين؛ إما أن تقدموا بجيوشكم وتخرجوا الحكومة النجدية حتى تفتح لمكة طريق رزقها، أو ترتئوا شيئا من الأسباب التي تمكننا من جلب معاشنا.»
فأجابهم الملك علي: «لم نمنع الأرزاق عنكم إلا مكرهين، فالقواعد الحربية تقتضي ذلك، ولا قصد لنا غير إحراج مركز العدو وعدم تموين جيوشه.»
وقد شكا الأهالي إلى السلطان عبد العزيز أمر الإخوان ، وتضييقهم على الناس وشتمهم وضربهم الناس في بعض الأحايين، فطيب السلطان بالهم، ولكنه سمع من الإخوان أيضا كلمة لا ترد: «هم يدخنون، يا عبد العزيز، ولا يصلون، لا يصلون!» فأمر السلطان بأن يغرم كل من يدخن غرامة مالية: الشتم ممنوع والضرب ممنوع. وأن ينبه ذوو الأمر إلى وجوب المواظبة على الصلاة. فأخرجت البلدية مناديا ينادي بوجوب إجابة داعي الله، «فإذا سمع الناس المؤذن يبادرون إلى الصلاة في الحرم الشريف، ومن كان بعيدا عن الحرم فليصل في أقرب مسجد منه. وقد جعلنا من رجال البلدية وغيرها من يناظر المتأخر عن الصلاة لتقرير الجزاء الشرعي عليه.»
ثم ولى عظمة السلطان الشريف خالدا، الذي كان يقيم في قصر الحسين، شئون الإخوان، وأمر الشريف هزاع من العبادلة على بدو الحجاز، وأقام بينه وبين أهالي مكة أحد مستشاريه يعاونه بعض السوريين، الذين اتخذوا سراي الحميدية مقرا لهم.
بمثل هذا نظم عظمته بعض الشئون الداخلية وحل بعض المشاكل الدينية والسياسية في مكة، أما شئونه الخارجية فأهمها يومذاك كان يتعلق بقناصل الدول بجدة، وقد جاءه منهم بعيد وصوله جواب الكتاب الذي أرسله إليهم من البادية، وهاكه بنصه:
من ممثلي الدول الموقعين أدناه إلى حضرة صاحب العظمة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود سلطان نجد الأكرم، بعد تقديم واجبات الاحترام، قد وصلنا كتابكم المؤرخ في 24 ربيع الثاني عدد 114 وما ذكرتموه صار معلوما لدينا. أما بخصوص الاقتراحات المتعلقة بحفظ رعايانا وتأمينهم من خطر الحرب نرى من اللازم أن نذكر عظمتكم بأن احترام رعايانا مبني على حقوق دولية متبعة في أيام الحرب. فبناء عليه ندعوكم باسم حكوماتنا جميعها إلى احترام أشخاص رعايانا مع أموالهم. وإلا تكونوا مسئولين بجميع ما يقع عليهم في أي وقت وفي أي مكان كان. أما بخصوص الكتاب المرسل باسم أهل جدة فنحن لا يمكننا تسليمه نظرا لقاعدة الحياد التي نتبعها والتي لا تسمح لنا بالتدخل في أي وجه كان. فعليه نعيده إليكم، وفي الختام تقبلوا فائق الاحترام.
القائم بشئون القنصلية الإفرنسية
وكيل قنصل جلالة شاه إيران
معتمد وقنصل بريطانية العظمى
قنصل جنرال ملك إيطالية
وكيل قنصل هولاندة
أما فحوى الكتاب إلى أهل جدة فقد كان حديث السوق يوم وصوله، وقد نشر بعدئذ رسميا في جريدة «أم القرى» فما هم السلطان أن القناصل أرجعوه.
ولكنه قطب وتضجر عندما فض الكتب التي جاءت مع كتاب القناصل: وهذا كتاب من المستر فلبي. وهذا كتاب من السيد طالب النقيب. وهذا كتاب من أمين الريحاني. ما الذي جاء بهم إلى جدة في هذه الأيام؟ وما الذي يبغونه غير السلام؟!
الفصل السابع والأربعون
المفاوضات
الحارس على الباب الشرقي لخط الدفاع يكلم بالهاتف القيادة في القشلة: «عاد النجاب من مكة ومعه كتب إلى القناصل وإلى السيد طالب والريحاني وفلبي.» القيادة بالهاتف إلى القصر: «عاد النجاب من مكة.» رئيس الديوان الهاشمي بالهاتف إلى رسل السلام: «عاد النجاب ...»
بادرنا إلى القصر، فأدخلنا الحاجب غرفة الملك علي الخاصة، فاستقبلنا فيها وزير الخارجية، ثم دخل جلالته متعمما بعمامته البيضاء ذات الذؤابة، لابسا جبة سوداء فوق أنباز من الحرير، وبيده كتب ثلاثة أعطانا إياها مختومة، فقال أحدنا: الملك اليوم موزع بريد، فضحك جلالته وأمر بالقهوة.
قرأ كل منا كتابه، وقدمه للملك فقرأه وأعاده دون أن يفوه بكلمة، ثم تبادلنا الكتب كذلك ساكتين، فاطلع كل منا على ما كتبه السلطان عبد العزيز إلى الآخر.
قال في كتابه إلى «الصديق العزيز المستر فلبي»:
إذا كنتم حضرتم لمقابلتنا ومباحثتنا في بعض الشئون الخاصة بنا فعلى الرحب والسعة، وسنسهل الطريق للاجتماع بكم خارج الحرم، أما إذا كنتم تنوون التدخل في مسائل الحجاز فلا أرى في البحث فائدة ... وإنه ليس من مصلحتي الخاصة ومصلحتك يا صديقنا جعلكم وسيطا في هذه المسألة الإسلامية المحضة.
وجاء في كتابه إلى «حضرة الأخ المحترم السيد طالب النقيب».
لقد ذكرتم أنكم تودون مقابلتنا فنحن نرحب بكم، ولكن يجب أن نعرف هل المقابلة شخصية ودية أم هي للوساطة في مسألة الحجاز؟ فإذا كان الغرض من الزيارة التوسط في هذه المسألة فإني لا أرى فائدة من ذلك ... وإذا كان الشريف علي يود حقيقة حقن الدماء فعليه أن يتخلى عن جدة، أما إذا قبله العالم الإسلامي وانتخبه حاكما للحجاز فمحله غير مجهول.
وقال في جوابه على كتاب المؤلف:
ذكرتم أنكم موفدون من قبل جماعة في سورية وأنكم تحملون كتابا منهم إلينا. أرحب في كل حال بصديقنا العزيز أمين الريحاني، ولكن أحب أن ألفت نظركم إلى أمر هام، وهو إذا كان البحث يتناول المسألة الحجازية فلا أرى فيه فائدة؛ لأن مشكل الحجاز يجب أن يحله المسلمون. وترك الأمر لهوى أنفسنا ليس مما تجيزه المصلحة الإسلامية ولا العربية ... وفي كل حال، إني أحب توضيح الأمر وجلاءه قبل المقابلة.
لا سبيل إذن للتوسط، ولكن طريقة السلطان في رد كل منا اختلفت باختلاف الصفات والأحوال؛ فالمستر فلبي تأكد أن عظمته لا يمانع إذا غادر جدة في أول باخرة: «إن المسألة إسلامية محضة وليس من مصلحته ولا من مصلحة ابن سعود أن يتدخل بها.» وكان للسيد طالب بصفته مسلما بقية من الأمل: «وكيف لا يسمح ابن سعود بزيارة في الأقل بمكة؟ ومتى تواجهنا تباحثنا، والمواجهة نصف الحجة في الإقناع.» أما المؤلف فالسلطان ترك له بابا مفتوحا؛ إذا قال: «إني أحب توضيح الأمر وجلاءه قبل المقابلة.»
عدنا الكرة على العظمة السعودية، فكتب المستر فلبي مودعا وكتب السيد طالب مستأذنا بزيارة «شخصية ودية» وملحا بالإسراع؛ لأنه مضطر أن يعود إلى مصر قريبا، وكتب المؤلف كتابا يستوجب بعض البيان.
قد أسر إلي أحد الأصحاب في القصر شيئا عن السيد طالب مستغربا مضحكا، وأكد لي أنه جاد فيما قال. أليس السيد خصم الملك فيصل أخا الملك علي؟ أوليس السيد صديق ابن سعود؟ فلا يستغرب إذا اتفق الاثنان على خصميهما مليكي العراق والحجاز. قلت لصديقي: إن تصوره وإن كان سياسيا تصور شاعر، ومع ذلك فقد وضعت ارتيابه موضع الجد، وبما أني ظننت أنه أسهل على السلطان أن يقابل طالبا بمكة من أن يخرج في تلك الأحوال إلى حداء مثلا ليقابل صديقه العربي المسيحي، صممت على إرسال رسول مسلم لأصل إليه برسالتي قبل السيد. وفي كل حال لم يكن في الإمكان أن أؤدي كتابة الرسالة كلها؛ لذلك كتبت إلى عظمته أقول:
إن لصديقي حسين العويني التاجر السوري
1
في جدة علاقات تجارية في مكة المكرمة، وهو يحضر للتجارة وللزيارة، فيتشرف بمقابلتكم إذا أذنتم ويحمل إلى عظمتكم بعض خبري. إني أثق بحسين أفندي كل الثقة. وفي اليسير الذي سينوب عني به ما يغني عن البيان. فإذا أذنتم بقدومه مروا من يلاقيه إلى منتصف الطريق ويصحبه محافظا إلى مقامكم العالي.
أرسلنا الكتب هذه في 12 جمادى الأولى وبتنا ننتظر الأجوبة، فمر الأسبوع ولم يعد النجاب. عندئذ أرسل الملك علي يدعونا للمفاوضة فحضرنا نحن الثلاثة، ولم يكن غيرنا في المجلس، ففتح جلالته الحديث قائلا: «دعوتكم لأبسط ما جد في الحالة وأستشيركم. قد جئتم أيها الأفاضل إلى جدة لخير الفريقين بل لخير العرب. ويسوءني والله أن تمس كرامتكم من أجل أحد منا. أنا والله مخجول. قد مر الأسبوع ولم يجئكم الجواب من ابن سعود. والرجل متحرك، فهو الآن يفسد القبائل علينا، ورجاله منعوا عرباننا من إرسال الفحم كالعادة إلى جدة. ونحن هنا ماسكون أنفسنا. خط الدفاع يزداد منعة كل يوم، وجنودنا مستعدون للحرب، والطيارات كلها أصبحت صالحة للعمل؛ لذلك قد قررنا أن نرسل غدا بلاغا إلى أهل مكة بالطيارة، ثم نرسل سرب الطيارات لرمي القنابل في الأبطح، عل ذلك يوصلنا إلى نتيجة فاصلة. وقد دعوتكم لأستشيركم في المسألة.»
تكلم السيد طالب أولا، فقال: «هل قنابلكم صالحة؟ هل أنتم متأكدون أنها تنفجر، فإذا كانت قديمة ولا تنفجر تعود بالضرر عليكم، فلا يخشى العدو بعدئذ الطيارات، يجب أن تجربوها قبل أن تقدموا على العمل، فإذا كانت صالحة فلا بأس.»
ثم تكلم المستر فلبي: «من رأيي يا جلالة الملك أن تنتظروا إلى أن يجيء الجواب، ومثل هذا العمل الحربي قبل ذلك في الأقل لا يأتي بفائدة.»
أما المؤلف فلم ير من الحكمة أن ترسل الطيارات إلى مكة بصفة حربية: «إنكم وإن أمرتم برمي القنابل في الأبطح فقط تضرون بمصلحتكم حتى وإن تقيد الطيارون بأمر القيادة العليا. نحن نعرف أن الأبطح ساحة خارجة مكة إلى الشمال الشرقي منها، ولكن العالم لا يعرف ذلك، وأول قنبلة تقع هناك يطير البرق خبرها، فتنشره الجرائد خصوصا المعادية لكم بالقلم العريض: الملك علي يمطر مكة نارا من الطيارات. طيارات الملك علي تطير فوق الكعبة، وترمي قنابلها في قلب المدينة! وهذا مضر باسم جلالتكم ومضر بالمصلحة العربية.»
قد وافق المستر فلبي على رأيي وأومأ الملك برأسه أنه مقتنع، ولكنه ظل متمسكا بنظريته أن الطيارات تخرج ابن سعود من مكة، وتحمله على الفصل في الأمر. فطلبنا تأجيل العمل ثلاثة أيام، فأجاب جلالته الطلب، ثم قال السيد طالب: «وأثناء ذلك جربوا القنابل.»
ولكن التجربة لم تكن ضمن خط الدفاع بل في الطريق إلى مكة فوق بحرة، وقبل أن تنتهي مدة الانتظار. فغضب المستر فلبي غضبة إنكليزية وقلنا على الصلح السلام. على أن النجاب عاد في صباح اليوم التالي، أي العاشر، يحمل الأجوبة من السلطان، وفيها لصديقه المستر فلبي الدعاء بالسفر الميمون: بأمان الله. وفيها للأخ المحترم السيد طالب أن مكة في حال من الاضطراب لا تجوز معها المخاطرة براحته، «وستصلكم وأنتم في مصر أخبارنا الطيبة إن شاء الله.»
وفيها في جوابه على كتابي:
قد سمحت لصديقكم حسين العويني بالقدوم إلينا، فزودوه بكل ما لديكم من الكتب والأفكار والآراء ... وإننا نرجو أن يحسن نقل أفكار صديقنا أمين الريحاني ... وإني أشكرك على تجشمك المشاق الجسيمة في خدمة العرب وفي سبيل قضيتهم.
قد جلا هذا الجواب جو القصر فبش الملك واستبشر الوزراء، كما أنه لطف بروح الجندية خارج السور، والجندية طبعا وصفة عدوة السلام.
بادرنا إلى الجواب والعمل، فكتبت إلى عظمة السلطان أقول: «إني مرسل مع العويني كتابا من وجهاء المسلمين في بيروت، ومذكرة ضمنتها آرائي في الحالة الحاضرة، وأشرت إلى نقاط يتوسع في شرحها العويني. فإذا كنت مصيبا فمولاي وصديقي عبد العزيز لا يتبع غير الصواب، وإن كنت مخطئا فحبي وإخلاصي يشفعان بما قد يعد نقصا في علمي . أما إذا كان فيما قدمت مزيج من الخطأ والصواب فأنا أول من يرغب في التمحيص. وإني أقبل الحقيقة من السوقة، فكيف لا أقبلها من الملوك. علموني، يا طويل العمر، إذا كنت مخطئا، واسمعوا لي إذا كنت مصيبا.»
لم يشأ العويني أن يسافر من جدة إلا محرما، فأشفقنا عليه من برد ديسمبر، خصوصا في الليل، ولكنه أصر على الإحرام، وهو يقول: «لوجه الله وللقضية العربية.»
ثم أعطاني ساعة الوداع غلافا مختوما، وقال: «إذا لم أرجع يا أمين، فهذا الغلاف لأمي في بيروت.» عندئذ أدركت حقيقة الخطر، خطر الطريق في الأقل، وأحسست بشيء ثقيل حل في قلبي، ولكني موهت ما بي وأنا أسر إليه الكلمة الأخيرة.
ودعناه أمام القصر، بعد أن ودع جلالة الملك، فركب البغلة التي كانت تحمل حقائبه وسار بعد الغروب بأمان الله يصحبه خادمه والنجاب ورفيق آخر، بأمان الله، ولكن الطريق لم تكن آمنة؛ فقد لقي صديقي ورفاقه في بحرة تلك الليلة في القهوة المهجورة المظلمة التي أووا إليها، ما يروع حتى البدو. دخلوا بعد نصف الليل ليناموا أو يستريحوا قليلا، فأحس العويني عندما ألقى بيده إلى الأرض أن هناك شيئا مائعا لزجا، فأشعل عودا من الكبريت فإذا به دم، وإذا بالدم لا يزال طريا، فأشعل عودا آخر فإذا بالجثة - جثة أعرابي - قريبة منه! ولكنه ورفاقه - بعد استراحة قصيرة في العراء - أدلجوا من ذلك المكان سالمين، فوصلوا في ظهر اليوم التالي إلى المخيم السلطاني بالشهداء.
2
وكان العويني رسولا مكرما وفي أحاديثه مع السلطان مقنعا، فلم يبطئ عظمته هذه المرة بالجواب. غاب العويني ثلاثة أيام فقط، فعاد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر. وصل إلى جدة مساء ذاك اليوم، فوقف في باب الردهة التي كنا ننتظره فيها، وهو يحمل حقيبته ويبتسم ابتسامة خفقت لها القلوب سرورا، وقد كان ساعتئذ مع الملك رئيس الحكومة الشيخ عبد الله سراج، ووزير الخارجية الشيخ فؤاد الخطيب، ورئيس الديوان الهاشمي السيد أحمد السقاف. سلم العويني وجلس على السجادة، فأخرج من حقيبته كتاب السلطان ودفعه إلي ، فقرأته وقدمته لجلالة الملك، فطالعه ونور الجذل يكسو محياه. - «قضي الأمر وما تبقى غير الجزئيات. بارك الله فيك يا حسين، بارك الله فيك يا أمين.» قال هذا وقبلنا نحن الاثنين، ثم نزع عن رأسه العقال والكوفية ونادى: «هاتوا شاي ... يشهد الله أني لا أحب أن تهرق نقطة واحدة من دم العرب.»
كان جلالته تلك الليلة في بهجة قلما شاهدناه في مثلها. ولا غرو فمن سجاياه الشريفة أنه رجل مسالم محب للسلم.
الفصل الثامن والأربعون
الطيارات
كان هناك أناس لا يرضون بالسلم، منهم في مكة الإخوان وبعض الأشراف، ومنهم في جدة الجندية وجماعة من وجهاء الأهالي المناوئين للبيت الهاشمي. وقد كان لكل فريق من هؤلاء، في مكة وفي جدة، غرض خاص في مقاومة المتوسطين وإفساد مساعيهم. على أن غرض الإخوان أطهرهم؛ لأنه ناشئ عن عقيدة راسخة في النفس، ومجرد عن المنافع الشخصية. أما الآخرون، أي الجندية والمناوئون للبيت الهاشمي في جدة، فقد كانوا ينشدون إما الشهرة، وإما الانتقام، وإما المنفعة. وسنسرد الحوادث تبيانا وبرهانا.
عندما جاء الإذن من السلطان عبد العزيز بإرسال رسولي العويني إليه، كرر الملك علي أوامره إلى القيادة العالية في أن تؤجل إرسال المنشور الحربي إلى أهالي مكة إلى أن يصدر أمر آخر بخصوصه، وأن تحتفظ بالنسخ فلا تأذن بنشر نسخة واحدة منه، وأن تشدد على الطيارين بألا يتجاوزوا في استكشافهم بحرة.
ولكن القيادة العالية تجاوزت الأمر الملكي؛ ففي 1 جمادى الثانية (27 ديسمبر) أي بعد يوم من سفر النجاب وهو يحمل إلى عظمة السلطان جوابي وفيه ألتمس أن يعين مكانا لاجتماع وفود السلم، بعد ظهر ذاك اليوم طارت طيارة إلى مكة، ورمت في الأبطح وفي المخيم السلطاني بالشهداء نسخا من منشور الملك علي، المنشور الحربي إلى الأهالي.
1
وكانت قد طارت منذ يومين، أي قبل انقضاء مدة التأجيل التي أمر بها الملك، فشاهدها العويني بعد خروجه ذاك اليوم من المخيم السلطاني وعند وصوله إلى الشميسة، سارعت إلى القصر أواجه الملك فأدهشني منه أنه جهل الأمر. وما كان الوزراء ولا رئيس الحكومة عالمين به. فقرع جلالته الجرس الصغير على المائدة الصغيرة أمامه، فجاء أحد كتبة الديوان فقال له: «ناد تحسين باشا ليحضر حالا.» جاء تحسين وأقر أن الطيارة تجاوزت بحرة، ولكنه أنكر أنها رمت نسخا من المنشور.
أما السبب في تجاوز الأوامر - كلام الباشا - هو أن خللا صغيرا في المحرك حمل السائق على الإسراع في السير ليقي الطيارة من السقوط إلى الأرض، فطارت بحكم الاستمرار في خط مستقيم طيرة طويلة، فلم يتمكن أثناء ذلك من ضبطها وردها، لم يفه جلالته بكلمة، إنما أومأ برأسه أنه مقتنع، فقلت وفي صدري غضب مكموم: «لا أظن يا باشا أن هذا السبب كاف لتبرير التجاوز. وأنت أدرى بنتيجة المخالفة للأوامر العالية في أيام الحرب.»
فقال تحسين: «ما هو بالأمر المهم.»
فقلت: «كل أمر ملكي مهم يا باشا.»
حسين العويني.
فتكلم إذ ذاك جلالته مخاطبا القائد بالتركية، فنهض مسلما وانصرف.
وفي اليوم التالي جاءتني تفاصيل الحادث، فأثبتت ظني أن تحسينا لم يصدق الملك الخبر، فبادرت إلى القصر وكلمت جلالته قائلا: «ماذا يقول السلطان بعد أن يقرأ كتابي ثم يشاهد طيارتكم ويقرأ منشوركم الحربي؟ لا شك أنه يقول إني إما مخدوع وإما مخادع. إن هناك مؤامرة يا مولاي لإفساد مساعينا السلمية، ونقطة الدائرة لتلك المؤامرة هي القشلة. نعم إن هناك زمرة من الضباط وغيرهم لا يريدون السلم. وأنا أسعى بكل ما عندي من القوة، ومن الحب والإخلاص لكم ولابن سعود، في سبيل السلم. فإذا كنتم حقا تبغون السلم فعليكم بالشدة في تنفيذ أوامركم. القيادة العليا لجلالتكم لا لتحسين الفقير وأركان حربه. ويجب أن توقفوهم عند حدودهم. يجب أن تتخذوا خطة العزم والشدة في تنفيذ أوامركم. وحقي أن أطلب ذلك ما زلت ساعيا في سبيل السلم وما زلتم أنتم راضين بسعيي.»
عند ذلك أخذ جلالته يدي بيده، وقال: «إني أميل إلى حسن الظن بالناس، ولا أسيء الظن إلا بعد التثبت والتحقيق. وقد تحققت أشياء - تحققتها يا أمين - وسيسافر فلان وفلان وفلان في الباخرة القادمة. وسأوبخ تحسين باشا، ولكني أفضل أن يكون ذلك في مجلس خاص له.»
خرجت والشيخ فؤاد إذا ذاك من المجلس وعرجنا على مكتب رئيس الديوان، ثم جاء تحسين امتثالا لأمر جلالته وخرج من المجلس الخاص متغيظا. وفي ذاك اليوم صدر أمر ملكي بنقل أعداد المنشور كلها من القشلة إلى القصر وبحبس ضابط المراقبة عشرة أيام.
اجتمعت بعدئذ بهذا الضابط، وهو عبد الفتاح اللاذقي فسألته أن يصدقني الخبر، فقال: «عملت والله بأوامري، نعم طرنا فوق الأبطح والشهداء ورمينا المناشير.»
أعود إلى مذكراتي في تلك الأيام:
3 جمادى الثانية (29 ديسمبر)
لم يعد النجاب. أخشى أن يكون المنشور قد أثار غضب السلطان فيعدل عن خطته السلمية.
وكأني أحسست وأنا في جدة بما هو جار في مكة. فقد عقد في 4 جمادى الثانية بالشهداء مجلس حربي ترأسه السلطان وحضره جمع من القواد والإخوان، فتكلم فيه أبو حميد ابن بجاد مخاطبا الإمام عبد العزيز:
إننا نعلم أن لا صلاح في أمر دين ودنيا للمسلمين عموما، ولهذا البيت وأهله خصوصا بوجود الحسين وأولاده في الحجاز. فإذا كان هذا ثابتا عندنا ونعتقده دينا فما المانع من الزحف عليهم وقتالهم؟ فإن كنت تخاف على أحد من رعايا الأجانب أو أحد من أهل جدة فلك منا العهد والميثاق أننا لا نمسهم بشر، إلا من برز منهم لقتالنا أو بلانا بنفسه، ونحن كما تعلم نتجنب ما تأمرنا بتجنبه ... والآن فلا بد لنا من أحد أمرين؛ الأول: أن تعلمنا الطريق الذي يجب أن نسير فيه ونحن نكفيك مئونة الأمر، الثاني: إذا كنت لا توافق في الزحف لما تراه من الأمور التي أنت أعلم بها منا، فلا يجوز أن نظل بعيدين عن أعداء الله هذا البعد، بل يجب أن نقترب منهم ونضيق عليهم الخناق حتى يحكم الله بيننا وبينهم. أما الأمر الأول فهو مرامنا، وأما الثاني فليس إلا مرضاة لخاطرك «يالإمام»؛ لأن الله أوجب علينا طاعتك.
ثم تكلم خالد بن لؤي فقال:
يا عبد العزيز، إني أقول كلمة وإن كانت تغيظك. كنا نتحدث فيما بيننا ونقول: قد بدل عبد العزيز الشجاعة بالجبانة، وكنا قبل قدومه نتمنى قدومه. أما اليوم فصرنا نقول: ليته ظل في بلده بعيدا عنا، فإن كان هناك دليل شرعي يؤخرنا عن القوم فبينه لنا حتى نتبعه. وما نحن إلا خدام الشرع، وإذا كان لا قصد لك غير الشح بأنفسنا عن الموت، فما من أحد يموت قبل يومه. وما نتمنى والله أن نموت إلا شهداء. فأي قتال تراه أفضل من قتال الحسين وأولاده؟ وأي عمل جاء فيه الضرر للإسلام والمسلمين أكثر من عمل الحسين وأولاده؟!
هذه من أخبار مكة الرسمية . أعود الآن إلى مذكراتي.
7 جمادى الثانية (2 يناير 1925)
غيمة سوداء في سماء السلم. كنت في مجلس الملك صباح اليوم عندما وصل رسول من مكة يحمل إلى جلالته كتابا سريا من أحد أنصاره هناك، فأخبر الرسول أن جنود خالد نقلت من الأبطح، ولا يدري أحد أين توجهت، وأن خالدا هو عند السلطان بالشهداء، وأن السلطان يتأهب لنقل المخيم إلى بحرة.
كان الملك قد قرأ الكتاب ووضعه وهو عابس مضطرب في جيبه، ثم أخرجه وأعاد قراءة شيء منه على مسمع رئيس الحكومة ووزير الخارجية ومسمعي. اجتمع ابن سعود بالأشراف، أشراف الحرث والفعور والعبادلة، وتباحثوا في انتخاب ملك الحجاز. وكان الاجتماع في قصر الملك حضره من المعروفين الشريف شرف عدنان والشريف باشا العبدلي والشريف هزاع بن فتن بن منصور.
هؤلاء أعداء السلم في الجهة الأخرى بمكة، فنراهم وقد ناصروا ابن سعود، يخافون على أنفسهم إذا عاد علي. وقد قالوا للسلطان عبد العزيز: «أتصالح من عاديناه من أجلك؟ أتتركنا في بلادنا ينكل بنا ونحن الآن من رجالك؟»
7 جمادى الثانية مساء الجمعة
وصل جماعة من أهل جاوة من مكة فأخبروا أن ابن سعود ومعه نحو ألف من جنوده وصلوا إلى حداء.
في مجلس الملك: دخل تحسين باشا الفقير وعارف باشا الأدلبي وزيرا الحربية والبحرية وعلى وجهيهما سيماء الغضب والاضطراب.
أحد الوزيرين : «علمنا أن الإخوان مشوا من بحرة، وقريبا يصلون إلى الرغامة.»
الوزير الآخر : «يجب أن نرسل عليهم الطيارات، لعنهم الله ولعن أجدادهم.»
الوزيران : «غدا صباحا نرسل الطيارات كلها عليهم فتمطرهم النار والرصاص وتفنيهم إن شاء الله.»
ثم احتدم الجدال، فقال وزير الحربية: «هذه المساعي السلمية تحول دون تنفيذ خطتنا العسكرية.»
وزير البحرية : «بل أفسدت علينا خطتنا وأضرت بمصلحة جلالتكم ومصالح البلاد.»
فقلت: «ومن أفسد المساعي السلمية يا باشا؟ والله لو كنتم مخلصين لمصلحة جلالة الملك ومصالح البلاد لتقيدتم بأوامره العالية.»
الملك : «قد تغيرت الوضعية يا أستاذ، ويجب أن نحتاط للأمر. يجب أن نباشر الآن الدفاع.»
الوزيران : «غدا صباحا تطير الطيارات.» - «قبل أن يعود النجاب؟» - «النجاب لا يعود.» - «قلتم هذا القول في المرة السابقة، ثم عاد النجاب وسركم الجواب.»
طلبت أن تؤجل الحركات العسكرية يومين آخرين - إلى الأحد - فأجيب طلبي على شرط أن أكتب في تلك الساعة إلى ابن سعود أستعجل جوابه. فكتبت أقول: «علمت هذا المساء أن رجال عظمتكم وصلوا إلى حداء في صورة حربية، فأخذني من ذلك العجب، وأرجو أن يكون الخبر مكذوبا. في كل حال ألتمس الجواب العاجل.» ثم كتبت الحاشية الآتية: «الطيارة التي أشرفت على مكة تجاوزت الأوامر فعوقب الطيار بالحبس.»
السبت في 8 جمادى الثانية
طار الطيار الروسي صباح اليوم إلى وادي فاطمة، فحلق فوق بحرة وحداء والشميسة، وعاد يقول إنه لم ير ابن سعود ولا جنوده ولا أحدا من البشر أو الحيوان في الطريق. أين الإخوان الزاحفون من بحرة؟
الأحد في 9 جمادى الثانية صباحا
نائب قنصل هولاندة على الهاتف: «وصل جماعة من مكة في هذه الساعة ولك أن تستخبرهم إذا شئت.» بادرت إلى القنصلية فعلمت أنهم عادوا من مكة يوم الجمعة بعد الصلاة في الحرم، ولم يكن هناك كثيرون من المصلين، وأنهم عند خروجهم من جرول رأوا قافلة من الجمال وفيها بين الأحمال ثلاثة مدافع، وأنهم عند وصولهم إلى حداء رأوا فيها خياما عديدة، نحو مائتي خيمة. هناك وقفت القافلة وهناك بات الجاويون. وفي صباح اليوم التالي السبت رأوا طيارة تطير فوق حداء وقد أطلق عليها الإخوان بنادقهم (هي الطيارة التي طارت إلى الشميسة كما ادعى الطيار والمراقب، وقالا إنهما لم يريا أحدا في الطريق).
جئت من القنصلية إلى القصر، فقال الملك بعد أن أخبرته عن الطيارة التي أطلق الإخوان عليها الرصاص: «قد تكون الغيوم حالت دون رؤيتهم.» وكيف أنها لم تحل دون الطيارة ونظر الإخوان؟
دخل إذ ذاك الحاجب يقول: الوكيل الإنكليزي، وكان الوكيل قد جاء يهنئ الملك بصحته، وبعد قليل دخل تحسين باشا فدق مهمازي جزمته دقة سريعة شديدة، وسلم ثم استأذن بكلمة خاصة، فقال الملك: مهمة؟ فأجابه: مهمة جدا، ومشى وراء جلالته إلى الغرفة المحاذية للمجلس. وما هي إلا دقيقة فعاد الاثنان يبتسمان والملك يقول: «جاءوا، نحو مائتين خيال منهم، رأتهم القيادة خارجين من بين الجبال.» وقال تحسين يخاطب الوكيل الإنكليزي: «أنا رأيتهم بعيني، صاروا في السهل.»
صدر الأمر بإطلاق المدافع عليهم، وبادر كل من في القصر، من الشريف محسن إلى أصغر العبيد، إلى البندقية وزنار الخرطوش، ووقف جلالته وبعض حاشيته في شرفة القصر يراقبون السهل بالنظارات.
دعاني الوكيل إلى دار الوكالة؛ لأن له منظرة تشرف على السهل كله، فخرجنا من القصر ونحن نلامس - رغم الاستعداد - الخوف والذعر. وقد ظن الناس أن الإخوان يهاجمون خط الدفاع في ذاك اليوم ويخترقونه فيدخلون المدينة؛ لذلك أقفلت المخازن ولجأ الأكثرون إلى بيوتهم.
وكانت المدافع تطلق الطلقة تلو الأخرى على الإخوان، وأين الإخوان؟ كنا نرى من منظرة دار الوكالة البريطانية غبارا هنا وهناك، في أطراف السهل، غبارا تثيره القنابل المتفجرة، ولا أحد في جوارها.
ثم خرجت الخيالة من بين الجبال، فعدت تجاه الخط إلى الجنوب. وظهرت فرقة أخرى في الشمال الشرقي من السهل، هي خيالة التوحيد! نحو ثلاثمائة منهم، جالوا في ذاك السهل في رابعة النهار جولات عدة، وقنابل المدافع تثير الغبار بينهم حينا وأحيانا وراءهم. وقد كان هناك قطيع من الغنم فساقوه أمامهم وهم يتراجعون. وكان قد خرج إليهم ثلاثون من خيالة الدروز في الجيش الحجازي، فجالوا مثلهم بضع جولات، ووصلوا إلى نزلة بني مالك التي ظنوها مكمنا لبعض الإخوان، فلم يجدوا أحدا هناك.
وفي ذاك اليوم - ساعة الظهر - وصل النجاب عائدا من مقر السلطان يحمل إلي جوابا هو، لما تقدم من الأسباب، عكس جوابه الأول.
الفصل التاسع والأربعون
علينا وعلى رسل الرحمة
عاد السيد طالب النقيب من جدة حانقا على ابن سعود، وعاد المستر فلبي مريضا فكان حنقه على جدة وكل من فيها، وسافرت أنا منها حاملا في حقيبتي قنبلة من قنابل المدفعية النجدية.
ولكني قبل أن ظفرت بها عرضت نفسي لقنابل الغضب السلطاني؛ ذلك لأني لم أقطع الأمل وأزمع الرحيل قبل أن استنفدت كل ما في الوسع، واغتنمت كل فرصة سنحت في سبيل ما جئت جدة من أجله.
نعم، كنت أعتقد وأتيقن أن الخير كل الخير في الصلح بين نجد والحجاز، وما همني أن تجرح كرامتي في هذا السبيل. لا والله، فما كرامة المرء إذا قيست بكرامة الأمة؟! وما ضر امرئ إذا صد في سبيل وطني شريف، بل ما ضره إذا استطاع ولو في تعريض نفسه للإهانة أن يحقن دماء المتحاربين من أهل وطنه؟! إن أصالة الرأي في مثل هذه الحال لفي التضحية الشخصية، والذي يحزن المجاهد المخلص هو إخفاق السعي لا امتهان الحرمة.
كتبت إلى عظمة السلطان عبد العزيز مظهرا دهشتي من الانقلاب السريع في خطته، كتبت إليه مكلوما، وكتبت إليه ملوما، فأجابني بلهجة فيها أثر للغيظ ولكنها لا تخلو من العطف، ولا تخلو حتى من أمل كنت أقرؤه بين السطور. فلم يقفل الباب على الثالث من رسل السلام إلا في كتابه الأخير. وقد كان يكرر قوله: «إن الشريف علي دعانا للمناجزة
1
فلبيناه ... لم نشأ أن نحمل الشريف علي مئونة القدوم إلى الحرم، فزحفنا إليه وأمرنا أن يكون قسم من جندنا على كثب منه. فليبر بوعده إذا كان من الصادقين.»
مقر الهلال الأحمر.
ومع ذلك ظللت مقيما على ظني أن الصلح ممكن حتى بعد المناوشات الأولى خصوصا؛ لأن في العشرة الأيام التي تلت الهجوم الأول لم تبد من الإخوان حركة ما، ولا ظهر شيء من طلائعهم في سهل جدة، وعندما حضر طبيب التكية المصرية بمكة وهو عائد بالإجازة إلى مصر، اجتمعت به في مخيم الهلال الأحمر فظهر لي من حديثه أنه عالم بشيء مما كتبته إلى عظمة السلطان، ونقل إلي بعض كلمات دلت على أنه من الذين يحضرون مجلس عظمته الخاص. ومما قاله: «السلطان يحترمكم وينوه دائما بذكركم، فاكتبوا إليه مرة أخرى ولكن لطفوا اللهجة.» ثم تطرق إلى ذكر الهلال الأحمر وسألني، بل ألح علي أن أسعى لدى الحكومة لتأذن بإرسال قسم من البعثة إلى مكة.
الهلال الأحمر المصري يستوجب كلمة في هذا التاريخ. فقد أرسلت الجمعية المركزية في القاهرة بعثة إلى الحجاز مؤلفة من ستة أطباء وصيدلي وثمانية ممرضين وأربع ممرضات وحكيمة واحدة، وكانت البعثة مزودة بكمية وافرة من الأدوية والعقاقير، وبمستشفى متنقل مؤلف من ستين سريرا بمعداتها اللازمة.
نصبت هذه البعثة خيامها في الطرف الجنوبي من جدة عند وصولها، ثم نقلت إلى الطرف الشمالي، إلى مكان أنظف وأفسح من الأول، على شاطئ البحر وراء القنصلية الإفرنسية، وأمام البيت الذي كنت مقيما فيه. فكنت ورئيسها الدكتور حسن حلمي كرارة نتزاور من حين إلى حين.
وعندما ظهرت طلائع الجيش النجدي في 4 يناير، وقطع الناس الأمل بمفاوضات الصلح، طلب الدكتور كرارة من الحكومة أن تأذن بإرسال قسم من البعثة إلى الجهة الأخرى لتتم وظيفتها، فرفضت الحكومة قائلة: إن الطريق غير آمن، وإنها لا تستطيع تأمينه. فجاء رئيس البعثة يسألني أن أعرض المسألة على الملك فوعدته بذلك. وفي ذاك الصباح، بعد خروج الدكتور، زارني رئيس الحكومة فكلمته في الموضوع وبينت له الخطأ في رفض الطلب؛ لأن المشروع خيري ولا دخل فيه للسياسة، إلى أن قلت: «هؤلاء رسل الرحمة فلا يجب أن يقال فيكم: إنكم صددتموهم عن العمل الذي انتدبوا له.»
وعدني عطوفة الرئيس خيرا، ولكنه بعد يومين عندما راجعته في الموضوع، قال معتذرا: «لا جمال عندنا لنقل البعثة وأحمالها.» ففهمت من لهجته أن هناك غير هذا العذر مما لا يجوز التصريح به.
ثم جاء طبيب التكية بمكة يجدد الطلب، فسألته: «وهل يرسل السلطان إلى منتصف الطريق جمالا تنقل أحمال البعثة؟» فأجاب: «نعم هو يرسل خمسين جملا»، فذهبت إذ ذاك إلى القصر وعرضت الأمر على الملك علي. سألته باسم الإنسانية أن يأذن بإرسال جزء من البعثة إلى ما دون الخط، وقلت إنها فرصة أغتنمها لأكتب إلى السلطان مرة أخرى في موضوع السلم، بل هي فرصة يجب أن يغتنمها جلالته ليظهر أن لا حقد في قلبه على المصريين. وإذا لم تأت بفائدة سياسية فلا أظن أنه يحول دون فائدتها الأصلية الشريفة. الهلال الأحمر خير محض، لا سياسة له، ورجاله رسل الرحمة.
فقال الملك وقد وضع يده بلطف على يدي: «هل هو محض خيري يا أستاذ؟» ثم أسر إلي السبب الحقيقي في رفض الطلب: «قد جاءتني كتب من مصر يحذرني أصحابها من هذه البعثة الخيرية. تأكد يا أستاذ أنها ليست محض خيرية. إن لها صبغة سياسية، وإن لم تظهر للعيان. وأنت تعلم موقف مصر السياسي تجاه الحجاز في السنين الأخيرة، فهل ألام، والبلاد في حرب إذا تحذرت؟ وهل كنت أنت تتساهل في الأمر لو كنت من المسئولين في الحكومة؟»
سمعت كلام الملك ولكني لم أقتنع. وحزنت لأني لم أستطع أن أقنع جلالته بما أعتقده في تجرد البعثة عن السياسة. وهب أن ما جاء الملك علي من المعلومات هو محقق كله أفما كان في وسعه وهو المعروف بكرم الأخلاق، المتصف بالشهامة، أن يحسن معاملة أعضاء البعثة فيستميلهم إليه؟ لم أر مرة في مجلسه أحدا من الأطباء المصريين. وما علمت أنه مرة دعا رئيسها للطعام مثلا في القصر.
نعم قد كان في إمكانه أن يكتسب ثقة رجالها ويستخدمهم - إذا فرضنا أن ذلك ممكن - لغرضه. قد كان في إمكانه أن يصلح من هذا القبيل ما أفسده والده، فيغتنم الفرصة التي سنحت البعثة بها ليعقد حبل الولاء بينه وبين مصر، وليفتح بابا جديدا للسلم بينه وبين ابن سعود.
عدت من القصر يائسا، ولكني مع ذلك كتبت إلى السلطان عبد العزيز كتابا آخر أقول فيه: إني لا أزال في جدة وعل في بقائي، نظرا لتطور الأمور ، فائدة لعظمته، فجاءني منه الجواب الذي فيه فصل الخطاب.
ثم ختمه في صباح اليوم التالي بقنبلة انفجرت في الشارع أمام البيت الذي كنت مقيما فيه، وتلتها قنبلة انفجرت خارج السور، في مخيم الهلال الأحمر! إن الحرب قائمة، وهي ذي قنابلها تنذر رسل السلام ورسل الرحمة معا.
الفصل الخمسون
المناجزات والمكالمات
قبل أن نسرد المهم من حوادث هذه السنة، سنة الحصار، أي بعد ظهور الإخوان للمرة الأولى في سهل جدة إلى يوم التسليم، يجب أن نحيط القارئ علما بقوات الفريقين وبخططهما الحربية.
عندما بويع الأمير علي بالملك - بعد تنازل الملك حسين - أرسلت الحكومة الهاشمية إلى الأمير عبد الله في عمان أربعين ألف ليرة ليبذلها في التجنيد، وفي شراء العدد الحربية من أوروبة، خصوصا الطيارات والسيارات المصفحة.
1343ه / 1924-1925م: باشر الأمير التجنيد بمساعدة بعض الزعماء بفلسطين، فجاءت فرقة المتطوعين الأولى في ربيع الأول من هذا العام، كما أسلفنا القول، وتلتها فرقات أخرى حتى بلغ الجند النظامي نحو ألف جندي يوم كنت هناك، ثم جاء في شهر رجب فرقة عددها مائتان وثلاثون، وفي رمضان فرقة أخرى عددها خمسمائة.
ولكن هذا الجيش كان معرضا لعاملين مستمرين في تنقيص عدده هما المالاريا والدزنتاريا، ثم الوفيات والإصابات في المناجزات. والذي يقال في النظام يصح في البدو، وعددهم في أعلى درجة لم يتجاوز الألف والخمسمائة مقاتل.
أما المال فلم يكن للحكومة - بعد أن نفدت خزينتها - غير مصدر واحد هو الحسين في العقبة؛ فقد جاءت «الرقمتين» في شهر رجب تحمل صندوقين فيهما خمسة عشر ألف ليرة، وجاءت في رمضان بخمسة آلاف أخرى، ثم في شوال أبحرت «رضوى» من العقبة وهي تحمل لمساعدة الجيش عشرين ألفا من الذهب. وفي هذه الأثناء فرضت الحكومة على التجار قرضا قيمته اثنا عشر ألف ليرة.
ثم نقل الحسين من العقبة - بعد عن جدة والبعد جفاء - فلم يرسل بعد ذلك غير دفعة واحدة صغيرة؛ أي خمسة آلاف ليرة. فأخذ العسر المالي منذ ذاك الحين يشتد يوما فيوما، حتى اضطر الملك علي في صيف هذا العام أن يرهن أطيانه الخاصة في مصر لقاء قرض قيمته خمسة عشر ألف جنيه.
ومع أن مجموع ما صرف في سنة واحدة من الحرب لا يتجاوز المائتي ألف ليرة، فلولا الإسراف - والاختلاس - في شراء العدد الحربية والذخيرة لكان العسر المالي أخف على الملك وحكومته. لا نذكر غير مثل واحد من الفحش في أرباح الوكلاء والسماسرة. فقد دفعت الحكومة سبعة آلاف ليرة إنكليزية ثمن ثلاث طيارات قديمة جاءتها من لندن، وهي لا تساوي بالأكثر غير ألف وخمسمائة ليرة. قبل أن جاءت هذه الطيارات كان عند الحكومة الهاشمية خمس إيطاليات لا يصلح منها للعمل غير واحدة، ثم جاءها من ألمانية في الصيف ست طيارات جديدة تحمل الواحدة من البنزين ما يكفيها لتطير ست ساعات، وهي مجهزة بالمدافع الرشاشة، ومعها قنابلها الخاصة بها.
أما الطيارون فقد كانوا في أول الحرب روسيين من الحزب القيصري، وكانوا في آخرها من الألمان، ولكن فترة تخللت مجيء هؤلاء وذهاب أولئك فتوقفت فيها حركة الطيران. وهناك أسباب أخرى لما كان في هذا السلاح الحربي من النقص وعدم الكفاءة. فالطيار الأجنبي حريص على حياته فلا يطير واطئا ليصيب إذا رمى، أو ليرى إذا طار مستكشفا. ولم يكن لدى القيادة العامة في بادئ الأمر قنابل خاصة، فاصطنعت من القذائف ما لا تأثير كبير لها، اللهم إذا انفجرت طبق الحساب، ولكن أكثرها كان ينفجر قبل أو بعد الوقت المعين. ناهيك بالبنزين فلم يكن لدى الحكومة دائما الكمية الكافية منه. وقصة المصفحات شبيهة بقصة الطيارات من وجهين؛ هما غلاء الثمن وقلة الفائدة، فالسيارات الخمس الأولى التي خاضت معارك الحرب العظمى، جاءت وصفائحها مفككة، فظل العمال في «الورشة» يشتغلون شهرا في تأليفها وتركيبها. وهي لا تسير غير ساعتين سيرا متواصلا فتحتاج إذ ذاك إلى الماء. أما الاثنتان اللتان جاءتا بعدئذ فجديدتان هما، ومجهزتان بالرشاشات. وقد كانت القيادة تبني عليهما آمالها العالية.
ولكن السيارات التي أفادت أكثر من سواها هي تلك النقالة من صنع «فرد» فكانت تنقل الذخيرة من المدينة إلى القشلة وإلى الخط، وتنقل الجنود المصابين بالمالاريا والدزنتاريا، وبعدئذ الجرحى من الخط إلى المستشفى في المدينة.
أما المدفعية فقد كان في الاستحكامات - يوم كنت في جدة - اثنا عشر مدفعا صغيرا وكبيرا، وعشرة رشاشات كلها صالحة للعمل، ثم جاء من ينبع ومن العقبة مدافع أخرى صحراوية وجبلية واثنا عشر رشاشا، وجاء من ألمانية مع المصفحتين عشرة رشاشات وألف وخمسمائة بندقية مع حرابها، فأصبح على الخط نحو عشرين مدفعا وأكثر من ثلاثين رشاشا.
وقد كان لدى الجيش الهاشمي القنابل الكشافة التي تنير المكان الذي تنفجر فيه، كما أنه استخدم الأنوار الكشافة لكشف حركات العدو في الليل. أضف إلى ذلك كله ما وضع عند أبواب خط الدفاع أمام الأسلاك الشائكة من الألغام، ثم الأسلاك نفسها.
وقد مدت هذه الأسلاك على عمد من خشب طولها متر واحد في خط مفرد من البحر شمالا إلى الكندرة شرقا بجنوب، ومنها جنوبا ثم غربا بجنوب إلى البحر، فبلغ طوله في هذا الشكل - شكل الهلال - نحو ستة أميال، ثم حفرت وراء الشريط الخنادق، وأقيمت الاستحكامات، وبين الخنادق ووراءها ربى ومكامن استخدمت للكشف والدفاع. وقد قسم هذا الخط إلى مراكز ستة، مرتبطة كلها بواسطة الهاتف بالقيادة العامة في القشلة. وهذه المراكز هي أبو بصيلة، والشرفية، والكندرة، والمشاط، والعقم، والطابية اليمانية. فالطابية هي جناح الجيش الأيمن وأبو بصيلة جناحه الأيسر.
وهناك خارج الخط النزلة اليمانية، وهي قرية مهجورة على مسافة ميلين من جدة إلى الشرق الجنوبي، وفيها حامية من البدو صغيرة، مائة نفر لا غير، ونزلة بني مالك على مسافة ميلين من جدة إلى الشمال الشرقي، وفيها حامية أخرى صغيرة من البدو، ثم الرويس وهي أقرب القرى إلى جدة من الشمال.
هذي هي قوات الجيش الهاشمي وعدده في الدفاع، أما عدد الجيش النجدي فقد كانت محصورة بالمدفعية والبنادق والرشاشات. إن في القصر بالرياض مدافع كثيرة من أنواع مختلفة، ولكن السلطان عبد العزيز لم يأمر بجلب شيء منها إلى الحجاز. أما المدافع التي استخدمها في هذه الحرب فقد غنم جيشه بعضها في الطائف والهدى، ووجد أكثرها في مكة، وكلها صالحة للعمل. وهي من المدافع الصحراوية والجبلية من عيار >6 و>7، وعددها لا يقل عن العشرين مدفعا، كانت تظهر تدريجا، أو بقدر ما يمكن الاستعمال منها في وقت واحد. وكان لدى الجيش النجدي رشاشات كثيرة وكمية وافرة من الذخيرة وجدوا أكثرها في قلعة جياد بمكة.
أما الجنود فقد كانت القوة في المعسكر يوم الزحف الأول أربعة آلاف، والقوة الزاحفة مثلها، وفيها من الإخوان الغطغط، وأهل ساجر، وأهل دخنة، وقحطان، والداهنة، وركبة، وغيرهم. وفيها من الحضر ألوية من أهل القصيم وأهل العارض.
ثم جاء في رمضان فيصل الدويش أمير الأرطاوية بجيش من مطير، وتلاه أهل سبيع والسهول، وبعد هؤلاء وصل الأمير فيصل عائدا من نجد بنجدة كبيرة فبلغ عدد الجيش في الجبهة ووراءها نحو عشرة آلاف. أضف إلى ذلك الجنود الذين كانوا محاصرين المدينة والسرايا التي كانت مرابطة حول ينبع والوجه والعلاء، فيدنو مجموع الجيوش النجدية في الحجاز من الاثني عشر ألف مقاتل.
وقد كان توزيع الجيوش في جبهة جدة على الشكل الآتي: عسكرت فرقة الغطغط في الجناح الأيمن (جناح الحجاز الأيسر)، وأهل دخنة في الجناح الأيسر (جناح الحجاز الأيمن)، وأهل ساجر في جبهة معاونة للجناح الأيسر، وعسكر في القلب لواء قحطان من الهياثيم، ووراء هؤلاء كلهم سرية من الخيالة، ثم التحق بهم الجيش الذي كان في اليمن من أهل الداهنة وركبة، فأصبح في الجبهة نحو أربعة آلاف مقاتل.
مشى هذا الجيش من مكة ومعه الأوامر بأن يحيط بجدة ويهاجم خط الدفاع فيناوش الجنود هناك. أما الهجوم بقصد اختراق الخط والدخول إلى المدينة فلم يكن ليقدم عليه بدون إذن من القيادة العليا. مشى بموجب أوامره، فاحتل في أواخر جمادى الثانية النزلة اليمانية، ونزلة بني مالك، والرويس، ولكن الإخوان الذين احتلوا النزلة اليمانية أخلوها مرتين بعد وقعات مع جنود الحجاز، ثم عادوا فاستولوا عليها. وبعد أن خربت - ضربها تحسين باشا بالمدافع وحرق الإخوان قسما منها - أخلاها الفريقان.
على أن الإخوان ظلوا مرابطين في الجبهة الجنوبية أمام الجناح الأيمن من خط الدفاع، وقد اصطدموا مرارا بمفرزات من الجيش الهاشمي كانت تخرج تارة للكشف وطورا لاحتلال آبار الماء في تلك الناحية.
وبعد أن استولى الإخوان على هذه المراكز خارج خط الدفاع تقدموا في العراء وباشروا حفر الخنادق، ثم أقاموا عندها استحكامات حصنوها بأكياس من الرمل، فصاروا يحاربون الجنود النظامية بالرشاشات والبنادق معا. هي أول مرة على ما نعلم حارب الإخوان بطريقة منظمة حرب الخنادق. وكانت قد بدأت في آخر جمادى الثانية حرب المدفعية أيضا، فلم يتفرد فريق من الفريقين بالمفاجآت.
رسم خط الدفاع وما دونه من مراكز الجيش النجدي، وقد نقل قسم من المدفعية بعدئذ إلى نزلة بني مالك والرويس.
ولكن الحكومة الهاشمية في هذا الشهر خسرت فيما سيرت للدهش والإرهاب خسارة تعد في البلاد العربية جسيمة. ففي أصيل اليوم الثالث والعشرين من جمادى الثانية طارت الطيارة التي كان يسوقها الطيار الروسي «تشاريكوف» وفيها المراقب الضابط اللاذقي، والكاتب عمر شاكر الذي دخل إلى المطار خلسة، كما قالت القيادة العامة، فحشر نفسه مع الضابط السوري في مجلس واحد. وقد نزا بشاكر قلبه إلى ضرب الإخوان من علي ولو بقنبلة واحدة، فعندما دنوا من المعسكر في الرغامة انفجرت القنبلة في الطيارة وهي تعلو نحو ألفين قدم عن الأرض فتحطمت في الجو، وقد شاهدناها من القشلة تطيح ومن فيها بين يدي الموت والفناء. ذهب هؤلاء الثلاثة ضحية الإهمال في تنفيذ الأوامر العسكرية. وكان تشاريكوف الطيار الروسي الثاني الذي مات هذه الميتة الفظيعة في الحجاز؛ أما الأول فهو الذي طار إلى الطائف عندما دخلها الإخوان، فسقطت طيارته بينهم، فكانت خاتمة الوجود له ولها محزنة مرعبة.
لنعد إلى حرب الإخوان، الذين كانوا يهجمون غالبا في الليالي المظلمة؛ وذلك لغرضين: ليلقوا في قلوب الأهالي الرعب والذعر فينهضون على الحكومة أو يهاجرون؛ وليحملوا الجنود على الإسراف بالذخيرة. وقد نجحوا في هذه الخطة بعض النجاح. على أنهم كانوا يهجمون غالبا هجمات هوجاء، مستبسلين مستشهدين، فلم تصرف عبثا في كل حال ذخيرة الجنود الهاشمية. وقد كانوا يقربون جدا من الخط، حتى إن رصاص بنادقهم وقع قرب قصر الملك، وحتى إنهم قطعوا بعض الشريط وأخذوه إلى المعسكر العام.
أما الأهالي فقد كان الرعب سميرهم، والذعر جليسهم في تلك الليالي؛ لأنهم جهلوا القصد الحقيقي من الإغارات، فظنوا أن الإخوان يحاولون اختراق الخط؛ لذلك كانوا يسمرون كل ليلة ليلاء على أنغام الرشاشات والبنادق وهم يقولون: الليلة يدخلون البلد.
على أنهم كانوا يشاهدون لأول مرة أشياء جديدة في هذه الحرب البدوية الفنية معا، خصوصا عندما كانت المدافع تطلق على العدو القنابل الكشافة فتنير في سهل جدة ظلمات تبدو هنيهة كالأقمار المكسرة. ناهيك بالأنوار الكشافة التي كانت ترسل في ذاك السهل أسهما بيضاء من أشعتها، فيهتدي بها الإخوان إلى طريقهم - إلى الأبواب في الأسلاك الشائكة، وإلى الألغام! - وإلى الواقفين في الخنادق. هناك كنت تسمعهم ينادون: «يا إخوانا يا أهل الشام، ويا شمر، ويا حرب، ويا عقيلات، اخرجوا من الخط وأنتم في وجه الله ووجه ابن سعود. لا تخافوا. والله ما نريد لكم غير الخير، تعالوا إلينا ونحن إخوانكم والله بالله!»
ولكن كثيرين من أولئك الجنود كانوا يحاربون عملا باعتقادهم أن النهضة العربية لا تقوم إلا بالبيت الهاشمي، أما الآخرون الذين اصطيدوا في عمان والعقبة، والذين جاءوا جدة مرتزقين فقد كانوا بين نارين، ولم يكن لهم يومئذ أن يختاروا أصغر الشرين.
وإلى القارئ، إتماما لصورة الحوادث في تلك الأيام والليالي، أمثلة نأخذها من التقارير الرسمية:
تعرضت قوة من البدو على جناحنا الأيسر في الساعة الخامسة (11 إفرنجية) من الليل فأصلتها مدافعنا ورشاشاتنا نارا شديدة، فانهزمت من حيث أتت تاركة عددا من القتلى.
بدأت مدافع العدو ساعة الفجر بالرمي المعتاد فقابلتها مدافعنا قدر ساعتين وأسكتتها.
طارت الطيارة الساعة 1 صباحا لضرب معسكرات العدو وموضع مدافعه، فألقت أربع قنابل وعادت.
وهاك أمثلة من تقارير القيادة النجدية:
في هذه الليلة سرت طائفة من جندنا إلى حدود العدو، فأطلقت عليه النار فظن أن الإخوان يهاجمون على طول الجبهة، فأخذ يوالي إطلاق المدافع والرشاشات والبنادق من جميع المراكز، واستمر كذلك ثلاث ساعات دون أن يصيب أحدا من المهاجمين.
أخرجت القيادة الهاشمية مفرزة لكشف مراكز الإخوان فخرجوا من مكامنهم إليها، وأعملوا فيها النار؛ فسقط منها سبعة قتلى وفر الباقون.
كذلك في شهري رجب وشعبان كانت تحيا الليالي المظلمة بين المتحاربين. أما في النهار فقد استعرت بينهما حرب المدفعية التي استغوت في بادئ أمرها أهل جدة، فكانوا يسارعون إلى خارج السور ليشاهدوا قنابلها تنفجر عند الأسلاك الشائكة، وفي أطراف السهل بظل الجبال.
هناك شرقي الكندرة وعلى طريق مكة نصبت المدافع السعودية في الأشهر الأولى من سنة الحصار . فكانت تصل قنابلها في البدء إلى ما بين مائة ومائتي متر من الأسلاك، ثم داخل الأسلاك وهي تنقل إلى الأمام بعد حفر الخنادق، ثم عند سور المدينة، ثم داخل السور، فحرم أهل جدة إذ ذاك مشاهدة نارها، ولكنهم لم يحرموا مفعولها. وقد كانت مسافة الرمي تتراوح بين الثلاثة والأربعة أميال.
حلقت القنابل فوق خط الدفاع فتساقطت في قلب البلد، وقد أصيب مرتين بيت الوكالة البريطانية، فاخترقت قنبلة جدار غرفة النوم وقنبلة دخلت مكتب الوكيل. وقد أصيب أيضا بيت وكالة السوفييت فتكسر العلم فوق السطح. واستمرت تتقدم في تقدم المدفعية حتى وصلت إلى الطرف الغربي من المدينة، أي إلى شاطئ البحر، فزارت القنصلية الإفرنسية وتفجرت في مخيم الهلال الأحمر!
عندما أصيبت الوكالة البريطانية والوكالة الروسية عقد القناصل مجلسا للبحث في المسألة، فقرروا أن يظلوا رغم هذه الحال على الحياد. وقد أبرق رئيس الهلال الأحمر إلى الجمعية المركزية في القاهرة يستأذن بالرحيل، فلم تأذن الجمعية بذلك.
كان الضرب يبدأ صباحا فيصلي الفريقان الفجر ويتبادلان بالقنابل السلام ساعتين أو ثلاث ساعات، ثم يستأنف العمل بعد الظهر فيستمر حتى غروب الشمس، فيوكل إذ ذاك كبير المخربين بالوداع: وهذه قنبلة من «الأوبوس» يا إخوان! وهذه من عيار >12 يا أيها الشوام!
عندما اشتدت هذه الحرب المدفعية في شهر رجب وشعبان، نصب النجديون مدفعا في الرويس، فصارت قنابلهم تقع في الجهة البحرية من المدينة وفي قلبها، فجرح وقتل عدد من الناس، واستولى الرعب على الأهالي فشد كثيرون منهم للرحيل. بدأت الهجرة إلى سواكن ومصوع وعدن في المراكب التجارية، ثم طفق الناس يرحلون في السنابيك إلى الليث، ومنها يرجعون إلى مكة، وكانت الحكومة راضية بهذه الهجرة لما فيها من التوفير بالماء والزاد للجنود.
على أن تلك الحرب المدفعية التي كان يتفرج أهل جدة عليها ثم صاروا يفرون منها، وتلك المناوشات في ظلمات الليالي، لم تكن غير مقدمات للوقعة الكبيرة التي يجب أن تدعى بوقعة المصفحات. وهي المرة الأولى والأخيرة التي برز فيها في رابعة النهار القسم الأكبر من الجيش الحجازي لمنازلة الإخوان.
في ضحى اليوم الثامن عشر من شعبان (14 مارس 1925) شرع الخط يطلق مدافعه الكبيرة والصغيرة على الرويس، وبعد نصف ساعة من هذا الضرب الشديد المتواصل خرجت خمس مصفحات من بوابة الكندرة فسارت ثلاث منها تجاه نزلة بني مالك واثنتان تجاه الرويس، ثم مشى من مركزي الكندرة وأبي بصيلة نحو ألف من جنود النظام والبدو مقسومين إلى ثلاثة أقسام، تتبعهم سرية من الخيالة.
أما الإخوان فقد كانت فرقة من أهل دخنة في الرويس، وفرقة أخرى في بني مالك، وكان أهل العارض والغطغط في الخط الثاني، كما أنه كان من الفريقين في الجبهة الأمامية أي في الخنادق، وعدد الجميع لم يتجاوز يومذاك الألفين. عندما خرجت المصفحات تقدمت القوة الاحتياطية النجدية نحو مراكز الجيش المرابط، ولكنهم لم يباشروا الرمي لا هم ولا المخندقون حتى خرجت العساكر الهاشمية كلها إلى السهل، وكادت المصفحات تصل إلى النزلة، فدارت عندئذ رحى الحرب في الناحيتين، تجاه الرويس وتجاه بني مالك، ودوت البنادق والرشاشات.
أما المصفحات فقد كان من مهمتها أن تمنع وصول المدد إلى الجبهة الأمامية، فسارت شرقا بشمال، تاركة النزلة إلى يسارها؛ لتصد أهل الغطغط والعارض عن الهجوم، فاشتبكت وإياهم في قتال عنيف، ولكنها لم تتمكن من صدهم، وقد رأى من شاهدوا المعركة من جدة كيف كان الإخوان يصارعون هذه المصفحات مستشهدين، فيدورون حولها وهم يطلقون البنادق عليها وعلى من فيها، وهي ترش الرصاص من رشاشاتها في كل جانب، حتى إن عبدا من العتاريس دنا من إحداها، بعد أن جال حولها كأنها فارس من الفرسان، فتمسك بها وصعد إلى سطحها وهو يطلق مسدسه، فأصيب وهو هناك برصاصة فهوى إلى الأرض.
ظل الإخوان يعاركون هذه المصفحات حتى أبطلت الرشاشات، فصار الجنود داخلها يطلقون الرصاص من مسدساتهم. وقد أصيب بعضهم برصاص العدو الذي كان يدخل من الكوى، وجرح جراحا بليغة اثنان من السواق الروس. تراجعت المصفحات وقد تمزقت وتكسرت جوانب بعضها، وسارع أهل الغطغط والعارض إلى نجدة إخوانهم، فخاضوا معركة دامت ساعتين في أشد حالاتها ، ثم ساعتين في قتال متقطع، حتى انتهت، الساعة الثالثة بعد الظهر، في رجوع الجنود الحجازية والمصفحات إلى داخل الأسلاك، ورجوع الإخوان إلى مراكزهم. أما من بقي في ساحة القتال، وهم القتلى، فلا يقل عددهم عن الثلاثمائة.
جاء في التقرير الحجازي الرسمي: «خسر العدو، بين قتيل وجريح، أكثر من مائتين، وخسر جيشنا خمسة عشر قتيلا وأصيب منه خمسون.»
وجاء في التقرير النجدي الرسمي: «قد تحقق أن خسارة العدو كانت في الأقل ثلاثمائة وعشرين قتيلا، بدليل بنادقهم التي غنمها رجال جيشنا وأحضروها إلى المعسكر العام. أما خسائرنا فقد كانت خمسة قتلى وخمسة جرحى فقط.»
ومما لا ريب فيه أن قد قتل في معركة المصفحات لا أقل من ثلاثمائة من العرب! ومن المحقق أيضا أن المصفحات لم تنجح في مهمتها الأولى، وهي قطع الطريق على المدد، ولا كانت في مهمتها الثانية أشد فعلا من الجيش المهاجم، فقد شغلها رجال الغطغط والعارض حتى نفد الماء والذخيرة فيها، فرجعت إذ ذاك أدراجها.
أخفقت القيادة الهاشمية في هذا الهجوم العام. فقد كانت خطتها أن تضرب الإخوان المرابطين أمام جناحها الأيسر فتقضي عليهم، ثم تعود شرقا بجنوب وقد أمنت مؤخرها، فتزحف إلى المعسكر في الرغامة فتستولي عليه، وتستمر في خطة الهجوم، فتمشي ظافرة إلى مكة. «سنعيد رمضان بمكة.» هي كلمة الجيش الهاشمي في تلك الأيام. وقد كتب أحد ضباطه إلى المؤلف، قبيل هذه الوقعة، يقول: «وغدا ندعوك لزيارتنا في الطائف.»
وإذا فرضنا أن الإخوان امتنعوا عن اختراق الخط ومهاجمة المدينة لعجز موهوه بالإغارات والمناوشات؛ فقد كان العجز أظهر في خطة الجيش الهاشمي بعد وقعة المصفحات.
وبعد هذه الوقعة خمدت في الجانبين نار الحرب. خف ضرب المدافع، وقل الهجوم في الليل، وكان في شهر رمضان شبه هدنة، تبعها في شوال مناوشات في الليالي المظلمة. ومع أنه كان قد شاع في جدة أن المعركة الفاصلة ستكون في شوال، فقد ولى شوال والتقارير الرسمية تقول: «سكون تام على الخط.»
على أن القتال استؤنف في الشمال، فالقيادة النجدية أرسلت حملة إلى ينبع لتأديب بعض عربان جهينة الذين اعتدوا على قوافل تحمل أرزاقا إلى مكة، وكان ابن رفادة الشيخ إبراهيم - كبير مشايخ جهينة - قد خرج على الملك علي وعاهد ابن سعود على الطاعة والتوحيد، فأرسلت حكومة جدة إلى قائمقام الوجه الشريف حامد ثلة من الجنود النظامية وبعض الرشاشات لتأديب ابن رفادة وجماعته، وكانت قد أرسلت الأمير شاكر إلى ينبع ليحمل على الإخوان في بدر ويستردها.
أما في المدينة المنورة فقد كان صالح بن عدل معسكرا في الحناكية، وقد التحق بجيشه لواء جاء من جهة حائل. وكان قسم من هذا الجيش، وأكثره من الحضر بقيادة إبراهيم النشمي وكيل ابن عدل، مرابطا حول المدينة، وهو مأمور بأن يحاصرها فقط، وألا يدخلها بدون أمر من القيادة العليا.
أما وقد علمت ذلك فسنطلعك على بعض البرقيات التي كانت ترد الحكومة الهاشمية في تلك الأيام:
المدينة 21 ذي القعدة
جلالة الملك المعظم، جهزنا عبدكم ولدنا مع عسكره وبعض من حرب على النشمي، فكسروه وأسروا أربعة أنفار من جماعته. أبشركم بذلك سيدي.
قائمقام المدينة: شحات
العلاء 27 ذي القعدة
جلالة الملك المعظم، صباح اليوم الجمعة هجمت على مداين صالح ثلاثة بيارق ودامت الحرب بينهم وبين العدو إلى العصر، والحمد لله انقلب خاسرا تاركا جرحاه وقتلاه، مولاي.
قائمقام العلاء
ينبع 26 ذي القعدة
جلالة الملك المعظم، احتللنا بدرا وغنمنا جميع ما فيها. انهزم أحمد سالم (صاحب بدر) ومعه أربعون بعيرا محملة.
الإمضاء: شاكر
ولكن السلطان عبد العزيز جهز في هذا الشهر حملة إلى الشمال بقيادة ابن عمه سعود بن عبد العزيز المعروف بسعود العرافة والأمير خالد بن لؤي. فالتقت هذه الحملة في طريقها من رابغ بأحمد بن سالم، فقص على القيادة قصته، فحوقل خالد وأمر سالما بالرجوع. فمشى مع الحملة التي استمرت في طريقها إلى بدر، وبعد أن ضربتها واشتبكت في وقعة مع المدافعين، رجال الأمير شاكر فيها، كتب لها النصر واستولت عليها، ثم أعادت أحمد بن سالم إلى مركزه، ومشت إلى ينبع النخل فعسكرت هناك تنتظر الأوامر الجديدة من القيادة العليا ، وكانت قد أرسلت تلك القيادة فيصل الدويش أيضا إلى الشمال فاحتل بجيشه العوالي، حول المدينة، بدون مقاومة.
المحمل المصري.
إذن قد كانت الحالة في الشمال في آخر هذا العام، عام 1343، حالة حصار يتخللها شيء من القتال. فكان الإخوان مرابطين حول الوجه وينبع، وكان جيش من الحضر محاصرا المدينة، وكان سعود العرافة وخالد بن لؤي معسكرين في ينبع النخل، وفيصل الدويش في العوالي، وصالح بن عدل في الحناكية، والغرض الأكبر من هذه التعبئة هو الضغط على أهل المدينة ليحملوا أولياء الأمر فيها على التسليم؛ ذلك لأن القيادة العليا فضلت الحصار على القتال، ولم تكن الجيوش هناك مسلحة بغير البنادق.
أما حكومة الملك علي فقد استبشرت بهذه الحال في الشمال، وعزت سكون الجنود النجدية إلى العجز. ومما أثبت ظنها وزادها أملا بالفوز، رغم ما كانت فيه من العسر، هو أن السلطان عبد العزيز أمر جنوده بالانسحاب من جبهة جدة ليتمكنوا من الحج. فلم يبق هناك غير قوة صغيرة من الخيالة والهجانة لتشرف على الرغامة.
كان اهتمام السلطان بالحج في هذين الشهرين أكثر من اهتمامه بالحرب، بل كان قد بدأ منذ ثلاثة أشهر يمهد للحج السبل، فأرسل في غرة شعبان نداء «إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها» يخبرهم بأن النظام قد ساد في البلدة المطهرة، واستتب الأمن فيها، وأنه يرحب بحجاج بيت الله الحرام من المسلمين كافة في موسم هذه السنة، ويتكفل بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم، وبتسهيل سفرهم إلى مكة المكرمة في أحد الموانئ الثلاثة؛ أي رابغ والليث والقنفذة. وقد كانت تجيء هذه الموانئ كل خمسة عشر يوما بواخر هندية وخديوية وإيطالية، تجيئها من عدن ومصوع والسويس، حاملات الأرزاق. لم تتمكن الحكومة الهاشمية التي ضربت في أول الحرب نطاقا بحريا من القنفذة إلى رابغ، وحاولت تنفيذه بواسطة الباخرة المسلحة «الطويل» أن تصادر إلا قليلا مما كان يصل من هذه الثغور إلى مكة. وما كانت دائما موفقة حتى بذاك القليل.
فقد صادرت «الطويل» مرة خمسة سنابيك إيطالية مشحونة من مصوع إلى الليث وجاءت بها إلى جدة، ولكن الحكومة الإيطالية احتجت بواسطة قنصلها السنيور فارس على هذا العمل، وأنذرت الحكومة الهاشمية بأنها تسحب قنصلها من جدة، وتتخذ الطرق القانونية لحفظ حقوقها، إذا كانت لا تعيد كل ما صادرته من السنابيك الرافعة العلم الإيطالي. فعقد الوزراء مجلسا للنظر في الأمر، وقرروا بعد البحث أن يجيبوا طلب الحكومة الإيطالية.
عد هذا الحادث نصرا سياسيا لابن سعود، كما أن مجيء ثلاثة آلاف من حجاج الهند، ورجوعهم بعد الحج سالمين عن طريق رابغ هو نصر سياسي آخر، وهناك حادث ثالث، حدث في هذا الصيف، لا يقل أهمية من الوجهة السياسية عن الحادثين الأولين، ألا هو نقل الملك الحسين من العقبة إلى قبرص. وقد يكون أهم الحوادث لما كان فيه من الفائدة لابن سعود؛ لأنه أقصى عن الملك علي ذاك المورد الذي كان يتكل كل الاتكال عليه. أجل، قد اشتدت الأزمة المالية في حكومة جدة بعد سفر الحسين إلى قبرص، وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلموا بضم العقبة ومعان إلى شرقي الأردن. وقد ضرب الأمير يومئذ على الوتر الحساس؛ إذ قال في إحدى مذكراته إلى جلالة أخيه ما معناه: سلموا بضم العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من الإنكليز ما يأتي؛ أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم، ومائتا ألف ليرة ثمن الأملاك الغير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف ليرة يعقد حالا ، ثم إبعاد ابن سعود عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهن إشارتكم في كل وقت.
أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل ببيع قطعة من أملاكها بهذا الثمن؟! وأي ملك في مركز الملك علي لا تغره تلك الأرقام؟! ولكنها أرقام في كتاب الأحلام.
لم تنحصر انتصارات ابن سعود في أواخر هذه السنة وطلائع سنة 1344 بالحوادث الثلاثة التي تقدم ذكرها. فقد فتح أبوابه للوفود، وبدت منه رغبة في المكالمات لغرض من الأغراض الحربية والسياسية التي يجهلها الناس أيام الحرب، ولا يقيمون لها وزنا بعدها. على أن عظمة السلطان كان المجيب لا الطالب. وأول من استأذن في رمضان بزيارة الحرم والحج بالعمرة، وطي القصد الديني قصد حسن آخر، هم القناصل المسلمون في جدة؛ أي عبد الكريم حكيمف معتمد حكومة السوفييت، ورادين براويرا نائب قنصل هولانده، وأحمد أفندي لاري وكيل قنصل إيران، فأذن السلطان ودعاهم بعد زيارتهم الحرم لزيارته في مقره بالوزيرية.
وبينما كانوا هناك يتكالمون بالصلح هجم الإخوان في الليل كالعادة على جناح خط الدفاع الأيسر، من البحر إلى الكندرة، هجمة هوجاء، واستمرت البنادق والرشاشات تدوي دويا متقطعا حتى الفجر. وما معنى زيارة القناصل؟ إن ابن سعود سر من أسرار السلم والحرب يعجز عن كشفه الإنس والجن!
القناصل : «إننا نتكلم مع عظمتكم في هذه المسألة بصفتنا الشخصية، لا بلسان حكوماتنا؛ لأننا شرقيون يهمنا الإصلاح والاتفاق بين الشرقيين.»
السلطان : «كأن القوم لم يدركوا حتى اليوم غايتنا ومرامنا، فما زال الشريف علي في جدة فلا سبيل إلى الصلح. أما إذا أخلاها وترك المسألة للعالم الإسلامي، فنحن نقبل بما يقرره بشأن الحجاز.»
ثم سئل عظمته إذا كان يأذن بقدوم وزير الخارجية الشيخ فؤاد الخطيب للبحث في المسألة، فأجاب أنه يرحب بمن أراد القدوم إليه سواء أكان الشيخ فؤاد أم غيره.
وعند رجوع القناصل المسلمون إلى جدة كتب وزير الخارجية إلى عظمة السلطان يقول: إن بعض الأصحاب أنبئوه «بما حقق الأمل المعقود»، ويطلب منه تعيين يوم للمقابلة، فأجاب عظمته بالإيجاب على شرط أن يكون سعادة الوزير مفوضا ليوافق على ما يملى عليه من الشروط «ثقلت وطأتها أم خفت». فرد الشيخ يقول: إن المأمول من قدومه «أولا: شرف التعرف إلى شخصكم الجليل المعظم، ثانيا: التمهيد لإيجاد جو صالح تسود فيه الطمأنينة المنشودة؛ ليكون محور الأعمال فيما يحسن التفاهم عليه.» فقال عظمته في كتابه الأخير: «أكون مسرورا بمواجهتكم.»
نظن أن الشيخ فؤاد شعر بمثل هذا السرور بالرغم عن عقم تلك المكالمة في المخيم السلطاني بالوزيرية، تلك المكالمة التي تحولت إلى استنطاق من قبل السلطان ضاقت فيه لدى الوزير الشاعر حيل السياسة كلها. - «ومن هو الضامن لهذه التعهدات؟» - «أنت الضامن.» - «وكيف يكون ذلك؟ أنت تقبل بالشروط وأنا أضمن التنفيذ؟»
الشيخ فؤاد : «اطلب الضامن الذي تريده ونحن نقدمه لك.»
السلطان : «لا أعلم ضامنا له سلطة وأثق به يتكفل بما أطلب. فالدول كلها على الحياد، ولا نقبل مداخلتها في الأماكن المقدسة كما ترى.»
تحول الحديث بعدئذ إلى مواضيع اجتماعية وأدبية، فكان الشيخ فؤاد فيها لامعا باهرا، ثم عاد من الوزيرية راكبا بغلته، حاملا مظلته، والقناصل والحكومة والجنود في جدة يتساءلون: ماذا عسى أن يكون تحت تلك المظلة من الآمال؟ لم يكن تحتها غير شاعر أبهر في أحاديثه الأدبية في المخيم السلطاني، وغلب في المكالمات السياسية.
عندما سافر القناصل المسلمون للحج بالعمرة قلق زملاؤهم المسيحيون، فأرسل الوكيل الإنكليزي كاتبه الهندي المسلم منشئ إحسان الله إلى مكة لأشغال تختص بالحجاج الهنود، فأقام هناك أسبوعا، وعرج في رجوعه على المقر العالي بالوزيرية، فنزل ضيفا على السلطان. أما المكالمة فقد كانت ولا تزال سرية.
بيد أنه كان معلوما أن الحكومة البريطانية كانت تفكر يومئذ في احتلال العقبة ومعان، وأن ابن سعود كان يفكر في إرسال حملة إلى تلك الناحية لإخراج الحسين منها. - نحن ننقل الحسين من العقبة ولا نكلفك مئونة الحملة عليه. - الحملة ماشية فعليكم أن تعجلوا.
وفي الحقيقة كانت الحملة قد مشت من حائل، فأمر عظمته قائدها بأن يتوقف في الزحف.
وقد تلت المكالمات بالوزيرية مكالمات أخرى في مكة، وكتب في لائحة المتوسطين الطويلة اسم كبير من حكام العرب. أجل، قد جاء من صنعاء اليمن، من حضرة الإمام يحيى بن حميد الدين المتوكل على الله، بواسطة قنصل إيطالية بجدة، برقيتان الواحدة إلى الملك علي والأخرى إلى السلطان عبد العزيز، يطلب منهما إيقاف القتال، واحترام الأراضي المقدسة، وقبوله حكما بينهما. فجاوب الملك علي بالإيجاب وأرسل السلطان جوابا مآله أننا دعونا المسلمين لمؤتمر يبحث في أمر الحجاز فنرجو أن يحضر مندوبكم معهم.
وفي الأشهر الثلاث الأولى من هذا العام جاء السلطان عبد العزيز ثلاثة وفود من المسلمين والمسيحيين (1344ه / 1925-1926م) مع الحجاج من الهند. أما الوفد الأول فقد جاء من مصر، من قبل الملك فؤاد، للتحقيق فيما قد شاع من أخبار المدينة والطائف، وللتوسط كما قيل في أمر الصلح. كان هذا الوفد مؤلفا من الشيخ محمد مصطفى المراغي قاضي قضاة القطر المصري ومحمد بك عبد الوهاب كاتب سر الملك الخاص، وكان ولا شك له غير ما ذكر من الأغراض. فإن الخلافة كانت تثقل يومئذ بال الملك فؤاد وقلبه، فأحب أن يستطلع في أمرها رأي ابن سعود.
أما الوفد الإيراني الذي كان مؤلفا من سفير مصر وقنصل سورية العام، فقد كان غرضه ظاهرا وباطنا التحقيق في مسائل الطائف والمدينة. وبعد أن زار الوفد مكة، وكالم السلطان عبد العزيز فيما انتدب له، عاد السفير إلى مصر وسافر القنصل حبيب الله خان عيد الملك إلى المدينة ليتم مهمته.
وقد جاء أيضا في هذا الشهر، أي في ربيع الثاني، الوفد الإنكليزي أو بالحري السر غلبرت كلايتن
1
وكاتب سره وترجمانه وتوفيق بك السويدي مستشاره العراقي، فاجتمع بهم السلطان في بحرة. وهناك كان المؤتمر الذي استمر خمسة وعشرين يوما؛ أي من 9 أكتوبر إلى 3 نوفمبر، فعقدت اتفاقيتان سميت الأولى اتفاقية بحرة وهي بين العراق ونجد، والثانية اتفاقية حداء، وهي بين نجد وشرقي الأردن.
2
وعندما كان السلطان عبد العزيز في بحرة جاءه من المدينة المنورة رسول اسمه مصطفى عبد العال، يحمل كتابا من أمير المدينة الشريف شحات يعرض فيه التسليم، على شرط أن يؤمن الأهلون والموظفون على أرواحهم وأموالهم، ثم يسأل السلطان أن يرسل أحد أفراد العائلة السعودية لهذه الغاية.
عاد عظمته إلى مكة فجهز نجله الصغير الأمير محمدا الذي مشى بفرقة من الجند إلى المدينة في 23 ربيع الثاني، وعندما دنا من أسوارها عرض على الحكومة والأهالي ما كان قادما من أجله، فأبت قيادة الحامية التسليم؛ لأنها كانت تنتظر المدد من جدة، وقد أبرقت في 5 جمادى الأولى إلى جلالة الملك تقول: «الذي يهمنا الأرزاق للجند. وعدتمونا بإرسال الدراهم المتيسرة بالطيارة. إلى الآن لم نر أثرا لها. دبروا وأرسلوا لنا دراهم ولو ببيع إحدى البواخر فترون منا ما يسركم.»
وكان الأمير الصغير محمد يشدد الحصار على المدينة بدون قتال؛ عملا بأوامر والده، فأبرقت القيادة في 13 من هذا الشهر إلى جلالة الملك بجدة تقول: «انقضى الأمر ولم يبق في اليد حيلة، الجنود ما عندهم أرزاق إلا لثلاثة أيام إذا لم تصل الطيارة غدا الظهر سنفاوض العدو. الإمضاءات: عزت، عبد الله عمير، عبد المجيد حمد.»
فجاء الجواب أنه يستحيل إرسال الطيارة قبل عشرة أيام لعدم وجود بنزين.
مرت الأيام الثلاث فنفدت مئونة الحامية. ومع ذلك فقد صبر الجنود ثلاثة أيام أخر، ثم في صباح الجمعة بعث القائد عزت ورئيس ديوان الإمارة عبد الله عمير كتابا إلى الأمير محمد بن عبد العزيز بن سعود يطلبان ملاقاته، فأرسل الأمير خيالة لاستقبالهما. وقد فاوضاه بالتسليم على شرط أن يعطي الجنود والضباط والأهالي الأمان، ويعلن العفو العام.
وفي صباح اليوم التالي؛ أي يوم السبت الواقع في 19 جمادى الأولى (5 ديسمبر 1925) سلمت المدينة بعد حصار دام عشرة أشهر.
الفصل الحادي والخمسون
الملك علي يرحل
قبل أن سقطت المدينة المنورة بشهرين كانت الحالة في جدة تزداد عسرا من كل الوجوه، فضربت الفوضى أطنابها في الجند، وعرا الحكومة الانحلال وعم الضنك والبؤس الأهالي. فلا مال، ولا ذخيرة، ولا زاد يكفي لحفظ شبه السيادة والقوة إن في الملكية أو في الجندية. ولا مال في السوق، ولا آمال تقوم مقامه. فقد كادت تنفد الأرزاق؛ لأن التجار في الخارج توقفوا عن التوريد؛ فخيمت المجاعة في أطراف المدينة بين مضارب البدو وعشش التكارنة، ومدت يدها إلى القلب، فأمست على الأهالي أشد ويلا من الحرب.
وبما أن السلطان عبد العزيز كان قد أعلن في ربيع الأول العفو العام: كل من كان في خدمة الحسين أو غيره هو في أمان الله إذا أراد أن يرجع إلى مكة، وبما أن الطريق انفتحت بين أم القرى وجدة بعد الحج، أخذ يزداد عدد الفارين عن طريق الليث ورابغ إلى أم القرى ، وعدد القادمين منها. فكان هذا الاتصال بين المدينتين خير واسطة لتعجيل العمل الذي فيه الفرج.
وإننا نعيد ما طالما قاله السلطان في مجالسه الحربية التي كان يحضرها أمراء الجيش والعلماء: ثلاثة أخرته عن الهجوم، وحملته على تفضيل الحصار على القتال، وهي الحرص على جنوده وسمعتهم، والمحافظة على الأجانب، والفرصة المنتظرة. أضف إلى ذلك ثقته بالنتيجة المرغوبة فيما أقدم عليه، ثقته بولاء الفرصة المنتظرة.
وها قد دنت تلك الفرصة ودنا يومها، كيف لا وفي منتصف جمادى الثانية بلغت الحالة في جدة أشدها، فنفد المال، ونفد الزاد، ونفر الجند، خصوصا الفرقة اليمانية، إلى التمرد والعصيان. وكان السلطان عبد العزيز شأنه في مثل هذه الأحوال، متتبعا حوادث التطور متنبها لما فيها مما يمكنه الانتفاع به، فنشر في هذا الوقت بلاغا عنوانه «لبراءة الذمة» عرض فيه الأمان على من في جدة من ضباط وجنود إذا هم أحبوا الخروج إلى معسكره، وعرض فوق ذلك المساعدة المالية على من أحب منهم السفر إلى وطنه. كان لهذا البلاغ التأثير السريع المطلوب، فسرحت القيادة الهاشمية عددا كبيرا من الجنود الفلسطينيين الذين سافروا في الباخرة «الطويل» إلى العقبة.
لا مال ولا زاد، و«فرقة النصر» تنقص يوما فيوما، وها قد عاد الإخوان إلى معسكرهم في الرغامة وفي سفح الجبال، عادوا بأمر السلطان عبد العزيز، يقودهم أخوه الأمير عبد الله وابنه الأمير فيصل.
هي الفرصة المنتظرة قد دنا يومها، وهل يجيء هذا اليوم بالسلم أم بالهجوم العام؟ لم يكن بوسع أحد أن يجيب على هذا السؤال غير واحد في القيادة العامة كلها، هو السلطان عبد العزيز. ومما بات في قيد اليقين أنه كان مصمما على الهجوم ليخلص جدة من المجاعة والفوضى والخراب التي كانت تنذر الحالة بها.
أما الملك علي فقد كانت حواسه في اضطراب دائم، وكانت أعصابه في هياج مستمر مما كان يسمعه ويشاهده في قصره، وفي حكومته وفي جنده وفي بلده، كل يوم، بل كل ساعة. فلم ير مهربا والحالة هذه من ذاك العمل الأخير الذي فيه راحة باله، في الأقل، وصون صحته وشرفه.
هي الفرصة المنتظرة قد دنا يومها، بل قد دنت ليلتها. فقد جاء الملك علي مساء الثلاثاء في 29 جمادى الأولى إلى دار الاعتماد البريطانية يعرض على المعتمد، حقنا للدماء ودفعا للعسر المستحوذ على البلد والأهالي ... ثم ذكر جلالته شروط التسليم، فأبرق المعتمد إلى حكومته في الحال يستأذنها بالتوسط.
وفي ظهر اليوم التالي الواقع في 30 جمادى الثانية (16 ديسمبر) ركب السلطان عبد العزيز سيارته وخرج من مكة، تتبعه الحاشية وفصيلة من الجند، يقصد إلى الرغامة، وقد بدت وهو في منتصف الطريق، نتيجة الزيارة الملكية إلى دار الاعتماد البريطانية الليلة البارحة، بدت في سيارة قادمة من جدة، التقى بها الموكب في بحرة، وهي تنشر العلم البريطاني وفيها رجل يلوح بالعلم الأبيض.
الملك عبد العزيز في المطار وأمامه المؤلف.
وقفت سيارة السلطان، ونزل الرجل من سيارته فإذا هو المنشئ إحسان الله - وقد كان في تلك الساعة إحسانا من الله - يحمل من المعتمد بجدة الكتاب الآتي:
جدة في 16 ديسمبر 1925
حضرة صاحب العظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود سلطان نجد.
بعد الاحترام، مراعاة للإنسانية ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية بالحجاز أكون مسرورا إذا تفضلتم عظمتكم بالموافقة على مقابلتي في الرغامة غدا يوم الخميس قبل الظهر أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن. هذا وتفضلوا بقبول وافر التحية وعظيم الاحترام
نائب معتمد وقنصل بريطانية العظمى
وكيل قنصل، جوردن
فأمر عظمته عند وصوله إلى الرغامة بكتابة الجواب الآتي:
الرغامة في 30 جمادى الأولى سنة 1344
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى سعادة المعتمد البريطاني المستر جوردن المفخم
تحية وسلاما، قد تناولت كتابكم المؤرخ في 16 ديسمبر سنة 1925 وفهمت ما تضمنه، وقد حضرنا لمقابلتكم في المحل الذي يخبركم به المنشئ إحسان الله، هذا وتقبلوا فائق احترامي.
عاد إحسان الله مسرعا إلى جدة، وفي الساعة العاشرة من صباح الخميس وصل المعتمد البريطاني إلى مقر السلطان، وقال بعد السلام: إن الحكومة البريطانية لا تزال مقيمة على الحياد في قضية الحجاز، ولكنه بالنظر لما تجسم من حالة جدة، وبالنظر لمعرفته أن عظمة السلطان يفضل السلم على الحرب، ويرغب في راحة المسلمين وحقن دمائهم ودماء الأجانب، يتقدم إلى عظمته بناء على طلب الملك علي وحكومته في التسليم، وأن توسطه في تقديم هذه الشروط إنما هو لغاية إنسانية صافية. فأجاب السلطان قائلا: «هذا أحب ما عندي على شرط أن تكون الشروط موافقة لنا.»
عرضت الشروط فقبلها السلطان مبدئيا بعد شيء من التعديل. وأهم ما فيها أن الملك علي يتنازل عن الملك ويبارح الحجاز، ولا يأخذ معه غير أمتعته الشخصية، ومنها سيارته وسجاجيده وخيوله، وأن كل ما في الحجاز من الأسلحة والعدد الحربية، والذخائر، والطيارات وغيرها تسلم إلى السلطان عبد العزيز، وأن البواخر التي هي ملك الحجاز تصير ملكا له.
ولقاء ذلك يضمن السلطان عبد العزيز لكل الموظفين الملكيين والعسكريين والأشراف والأهالي عموما سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم، ويعلن العفو العام، ويتعهد أن يرحل الضباط والعساكر الذين يرغبون في العود إلى أوطانهم، وأن يوزع بنسبة معتدلة على كل الضباط والعساكر الموجودين بجدة خمسة آلاف جنيه.
قد أمضى السلطان هذه الاتفاقية
1
في عصر ذاك اليوم، وأمضاها الملك علي في المساء، فاعتبرت نافذة من تلك الساعة.
هي الفرصة المنتظرة، وقد تلا يوم الاتفاقية ثلاثة أيام هادئة رائقة استعدت فيها جدة للتسليم. ومساء الأحد عاد المعتمد البريطاني إلى الرغامة ليخبر السلطان أن الأمير عليا قد أقام في البارجة البريطانية «كورن فلاور»، وأنه قرر السفر إلى عدن ومنها إلى العراق، ثم جاء صباح اليوم التالي ومعه رئيس الحكومة المؤقتة القائمقام عبد الله زينل، ورئيس العسكرية الضابط صادق بك، فخاطب السلطان قائلا: إن مهمته في التوسط قد انتهت، وإنه يقدم رئيس الملكية ورئيس العسكرية ليكونا مسئولين أمام عظمته.
عاد حضرة الوكيل إلى جدة محبورا مشكورا، وظل الرئيسان عند السلطان للمذاكرة في شئون الحكومة وتسليم ممتلكاتها، ثم في صباح اليوم التالي أرسل عظمته طليعة من حاشيته إلى جدة لمباشرة العمل فيما يختص بالمهمات العسكرية وأمور الجنود والضباط.
وفي ذاك الصباح أيضا، يوم الثلاثاء في 6 جمادى الثانية ، أبحرت البارجة «كورن فلاور» تقل الأمير عليا إلى المنفى الذي اختاره لنفسه.
أما السلطان عبد العزيز فلم ينقل من مخيمه في الرغامة حتى صباح اليوم التالي، فتقدمه فريق من جند المشاة ورهط من الخيالة بقيادة أخيه الأمير عبد الله إلى الكندرة لاستقباله فيها. وهناك أمام ذاك البيت القائم على طرف من خط الدفاع المحاذي للأسلاك الشائكة، أمام ذاك البيت الذي كان يجتمع فيه رسل السلام الثلاثة الأولون ليتباحثوا في خير الطرق التي تضمن للعرب السلام والفلاح، حيت البلاد السلطان عبد العزيز بمائة مدفع ومدفع.
وفي ذاك البيت جلس عظمته للوفود المسلمين المهنئين، فاستقبل معتمدي الدول والقناصل، ثم ضباط الجند، ثم أعيان المدينة. وقد تكلم قنصل إيطالية السنيور فارس باللغة العربية مهنئا السلطان، فقال: «نظرا لكوني كبير القناصل سنا، أتقدم بالنيابة عن نفسي وبالوكالة عن رفاقي بتقديم تهنئتنا لعظمتكم بدخولكم جدة في هذه الطريقة السلمية التي حقنت بها الدماء. ونتمنى لعظمتكم التوفيق الدائم والسعادة.» فأجابه السلطان قائلا: إنه لم يبطئ في الأعمال الحربية إلا لهذه النتائج السلمية، ثم شكر للمعتمد البريطاني مسعاه، وأعرب للقناصل عن سروره بما كان من موقفهم في الانقلاب الأخير فتم سلما كما تمناه.
وبعد أن أقام يومه في الكندرة دخل جدة في صباح الخميس، في 8 جمادى الثانية (24 ديسمبر)، بعد سنة واحدة من يوم أشرف عليها للمرة الأولى من الرغامة، ونزل في بيت الوجيه العالم الشيخ محمد نصيف، ثم باشر العمل في إعادة اليسر والطمأنينة إلى الحجاز.
الفصل الثاني والخمسون
عبد العزيز ملك الحجاز
قبل أن غادر السلطان عبد العزيز الرياض في ربيع الثاني سنة 1343 دعا العالم الإسلامي لعقد مؤتمر في مكة يقرر مصير الحجاز. وقد كرر هذه الدعوة بعد ذلك، ثم عززها في 10 ربيع الثاني سنة 1344 بكتاب خاص أرسله إلى الحكومات والشعوب الإسلامية، فكانت صرخة في واد لم يلبها غير فريق من مسلمي الهند وجمعية الخلافة هناك، ولكن أولئك المسلمين يريدون للحجاز ما لا يريده أهله. هم يرتئون في حكم البلاد المقدسة رأيا لا يوافقهم عليه أهل الحجاز، وقد قاوموه عندما جاء الوفد الإسلامي الهندي الأول إلى جدة، واستمروا في مقاومته حتى نهاية الحرب، الشريفيون والسعوديون على السواء، الحجاز للحجازيين، هي كلمة الجميع. ولا نظن أحدا في الحجاز يرغب في هيئة تحكمه مؤلفة من ممثلي الشعوب الإسلامية في العالم.
لذلك طلبوا من السلطان عبد العزيز، بعيد دخوله جدة، أن يكون لهم الحرية، تلك الحرية التي وعد بها العالم الإسلامي، والحجاز ركن منه؛ ليقرروا مصير البلاد بلادهم، فأجاب السلطان الطلب.
عندئذ تألف في جدة لجنة من أعيانها عددها عشرون، فسافروا إلى مكة واجتمعوا هناك بلجنة من أهلها عددها ثلاثون. وفي 22 جمادى الثانية عقد أعضاء اللجنتين مجلسا قرروا فيه بإجماع الرأي مبايعة السلطان عبد العزيز ملكا على الحجاز، واتفقوا على شروط البيعة ونصها، ثم قدموها إلى عظمة السلطان ليرى رأيه فيها، وطلبوا منه إذا حازت القبول أن يعين الوقت لعقد البيعة فأجاب الطلب.
وبعد صلاة الجمعة، في 25 جمادى الثانية سنة 1344 /10 يناير 1926، اجتمع الناس في المكان المعد للحفلة عند باب الصفا من المسجد الحرام، وجاء عظمة السلطان في موكبه في الساعة الواحدة بعد الظهر. كان المشهد عربيا صافيا؛ أي بسيطا ديمقراطيا. فلم يكن هناك غير سجادة وقف عليها السلطان وكرسي للخطيب الذي تقدمه المنادي قائلا: إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، ثم اعتلى الكرسي الخطيب، فحمد رب البيت المعظم، وشكر وسبح، وبعد ذلك قال:
أيها الإخوان: إن الله - سبحانه وتعالى - قد أنعم علينا بالأمن بعد الخوف، وبالرخاء بعد الشدة، فقد انقشعت غيمة الحروب، وقد توحدت الكلمة بحول الله تعالى وقوته، فتعطف علينا عظمة هذا السلطان المحبوب بقبول البيعة المشروعة الواجبة علينا، وإني أتلوها على مسامعكم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود على أن تكون ملكا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وما عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شئونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه تحت رعاية الله ثم رعايتكم.
وعندما كان الخطيب يتلو البيعة كانت قلاع مكة تطلق مدافعها، أطلقت مائة مدفع ومدفع، وكان الناس أثناء ذلك يتزاحمون حول تلك السجادة الواقف عليها السلطان ليتقبل البيعة. فتقدم أولا الأشراف ثم الوجهاء والأعيان، وتلاهم المجلس الأهلي، فالمحكمة الشرعية، فالأئمة والخطباء، فالمجلس البلدي، فأهل المدينة المنورة، فأهل جدة، فبقية خدم الحرم، فالمطوفون والزمازمة، فمشايخ جاوة، فأهل الحرف، فمشايخ الحارات وأهل المحلات.
1
وبعد الحفلة مشى جلالة الملك إلى البيت الحرام فطاف به سبعا وصلى في المقام، ثم جلس في سرادق دار الحكومة للمهنئين والخطباء. - «لا بد للبلاد من ملك مستقل يكون قادرا على صيانة الحجاز من الداخل والخارج، والذي يستطيع القيام بهذا الأمر هو عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.» - «وما أعطاك الله هذا العطاء، يا عبد العزيز، إلا لأنك سائر في مرضاته.»
وقال آخر بعد إطرائه الأمة العربية في زمن السلف الصالح: «علينا أن نتمسك بذلك الحبل المتين ليرجع للمسلمين ما كان لهم من السؤدد والعز.»
إن في هذه الكلمات الثلاث مثالا من عقلية القوم ونزعتهم السياسية والدينية، ثم خطب الملك السلطان فقال:
أسمع خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا وكذا. فاعلموا أن ما من رجل مهما بلغ من المنازل العالية يستطيع أن يكون له أثر وأن يقوم بعمل جيد، إذا كان لا يخشى الله. وإني أحذركم من اتباع الشهوات التي فيها خراب الدين والدنيا، وأحثكم على الصراحة والصدق في القول، وعلى ترك الرياء والملق في الحديث. لم يفسد الممالك إلا الملوك وأحفادهم، وخدامهم، والعلماء المملقين وأعوانهم. ومتى اتفق الأمراء والعلماء ليستر كل منهم على صاحبه، فيمنح الأمير المنح، والأمراء يدلسون، ضاعت حقوق الناس وفقدنا، والعياذ بالله، الآخرة والأولى. إلى أن قال خاتما كلمته: وإني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمن الأوطان، ولكم علي عهد الله وميثاقه أني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي.
فهتف الناس إذ ذاك قائلين: «جزاك الله خيرا، جزاك الله خيرا!»
وفي مساء ذاك اليوم دعا جلالته إلى بيته أعضاء المجلس الأهلي، والوفد الذي قدم من جدة، وبعض أهل الوجاهة في أم القرى، فخاطبهم بما معناه:
إننا الآن في وقت العمل وفي ساعة التأسيس. ولا يستقيم الأمر إلا بحسن التدبير وبالصدق والنزاهة. أنتم أرباب الرأي والفكر في بلادكم، فعليكم أن تقرروا شكل الحكومة، وتضعوا دستورا لها، وتحددوا العلاقات بين نجد والحجاز، وتبحثوا فيما ينبغي أن يكون موقف الحجاز تجاه الدول.
ثم أمر بأن يؤلف من مندوبي مكة وجدة مجلس تأسيسي، فينضم إليه مندوبون من بلدان الحجاز الأخرى؛ للنظر فيما ذكر من المسائل وتقريرها.
وبعد أن تألف هذا المجلس انتخب بالاقتراع السري لجنة لوضع القانون الأساسي، ثم عرض أسماءها على جلالة الملك، فأمر بأن يرأس اللجنة الشيخ عبد القادر الشيبي، حامل مفتاح بيت الله الحرام، وأن يضم إليها خمسة آخرون، انتخبهم جلالته من الأشراف والتجار.
كذلك في هذا الشرق الجديد يصلح التعيين الاقتراع، ويكمل الحاكم الفرد ما ينقص في حكم الشورى.
الفصل الثالث والخمسون
أهم الوقعات وتواريخها
وقعة الصريف في 26 ذي القعدة 1318 /16 فبراير 1901.
احتلال الرياض في 5 شوال 1319 /15 يناير 1902.
فتح عنيزة في 5 محرم 1322 /23 مارس 1904.
وقعة البكيرية في 1 ربيع الأول 1322 /16 مايو 1904.
وقعة الشنانة في 18 رجب 1322 /29 سبتمبر 1904.
وقعة روضة مهنا (ذبحة ابن الرشيد) في 18 صفر 1324 /14 أبريل 1906.
وقعة الطرفية في 5 شعبان 1325 /14 سبتمبر 1907.
احتلال بريدة وكسرة أبي الخيل في 20 ربيع الثاني 1326 /23 مايو 1908.
وقعة هدية في 1 جمادى الثانية 1328 /10 يونيو 1910.
فتح الحساء في 5 جمادى الأولى 1331 /13 أبريل 1913.
وقعة جراب في 7 ربيع الأول 1333 /24 يناير 1915.
وقعة تربة في 25 شعبان 1337 /25 مايو 1919.
الاستيلاء على عسير في شوال 1338 /يوليو 1920.
وقعة الجهرى في 26 محرم 1339 /11 أكتوبر 1920.
سقوط حائل في 29 صفر 1340 /2 نوفمبر 1921.
سقوط الطائف في 7 صفر 1343 /7 سبتمبر 1924.
احتلال مكة في 18 ربيع الأول 1343 /18 أكتوبر 1924.
وقعة المصفحات في 18 شعبان 1343 /14 مارس 1925.
تسليم المدينة (بعد حصار دام عشرة أشهر) في 19 جمادى الأولى 1344 /5 ديسمبر 1925.
تسليم جدة (بعد حصار استمر سنة كاملة) في 6 جمادى الثانية 1344 /22 ديسمبر 1925.
الملحق
فتوى علماء نجد في تعصب بعض الإخوان.
الأمر السلطاني المبني على فتوى العلماء.
اتفاقية بحرة.
اتفاقية حداء.
اتفاقية مكة المكرمة.
المعاهدة بين بريطانية العظمى والحجاز ونجد.
اتفاقية تسليم جدة.
لائحة الهجر.
النقود السعودية.
فتوى علماء نجد في تعصب بعض الإخوان
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف وحسن بن حسين وسعد بن حمد بن عتيق وعمر بن محمد بن سليم وعبد الله بن عبد العزيز العنقري وسليمان بن سحمان ومحمد بن عبد اللطيف وعبد الله بن بليهد وعبد الرحمن بن سالم إلى الإخوان كافة من أهل الهجر وغيرهم، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم من حزبه وأوليائه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ذلك، إنكم تفهمون ما من الله به علينا وعليكم من نعمة الإسلام وتجديد هذه الدعوة، والذي علينا وعليكم شكر الله واتباع أوامره، واجتناب نواهيه. ولا يخفى عليكم ما جرى من الاختلاف وكثرة الشبه، وهي على ثلاثة أمور:
الأول:
وهو الأكثر طلب الخير والاجتهاد ووقوع الناس في أمور تخل في دينهم ودنياهم؛ لأنهم يأتون ذلك محبة للدين بغير دليل.
الثاني:
لا بد أن في بعض الإخوان المتقدمين شدة وتعصبا بغير دليل، فلما تبين له الأمر وسأل طلبة العلم، وتحقق عنده أن تعصبه خطأ، استنكر منه إخوانه وصار بينه وبينهم اختلاف بغير سؤال ولا تبيين حقيقة ما عنده.
الثالث:
أتوا به أناس من الذين يدعون طلب العلم من الحضر، وهم جهال يدخلون على بعض الإخوان أمورا مشتبهة. يريد أحدهم الحق وهو مخطئه، وآخر يرغب في معرفة الأمور المخالفة.
فلما تحقق ذلك عند ولاة الأمر وعند العلماء أحبوا اجتماع المسلمين مع علمائهم وولاة الأمر منهم، فلما حضروا سمع الحاضر بنفسه، والغائب نبلغه بهذا الكتاب. فقد سألنا الإمام عبد العزيز بحضرتهم عن أمور هي:
الأول:
هل يطلق الكفر على بادية المسلمين الثابتين على دينهم القائمين بأوامر الله ونواهيه أم لا؟
الثاني:
هل من فرق بين لابس العقال ولابس العمامة إذا كان معتقدهما واحدا أم لا؟
الثالث:
هل في الحضر الأولين وفي المهاجرين الآخرين فرق أم لا؟
الرابع:
هل في ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين، ودربه دربهم، ومعتقده معتقدهم، وفي ذبيحة الحضر الأولين أو المهاجرين فرق حلال أو حرام أم لا؟
الخامس:
هل للمهاجرين أمر أو رخصة في اعتدائهم على الذين لم يهاجروا، فيضربونهم أو يؤدبونهم أو يهددونهم أو يلزمونهم بالهجرة أم لا؟ وهل لأحد أن يهجر أحدا بدويا كان أو حضريا بغير أمر واضح أو كفر صريح أو شيء من الأعمال التي يجب هجره عليها بغير إذن من ولي الأمر والحاكم الشرعي؟
فأجبناه بحضور الحاضر من المسلمين: أن كل هذه الأمور مخالفة للشرع، وما أمرت بها الشريعة. وأن الذي يفعلها ينهى عنها ويزجر، فإن تاب وأقر بخطئه فيعفى عنه. وإن استمر على أمره وعاند، فيجب عليه تأديب ظاهر بين المسلمين. وألا يعادى ولا يصادق إلا على ما أمرت به الولاية أو حكم به حاكم الشرع. والذي يفعل ما يخالف ذلك فطريقته غير طريقة المسلمين. وهذا الذي ندين به، ونشهد الله عليه، ونرجوه أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
سنة 1337
الإمضاءات والأختام
الأمر السلطاني المبني على فتوى العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز آل فيصل إلى الإخوان كافة، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات وترك المنكرات، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد ذلك تفهمون أن الله - سبحانه - أنعم علينا بنعمة الإسلام ومن علينا أن جعلنا من أهله. ولا يخفى عليكم ما مضى على أسلافكم من الأمور التي تغضب الله وتخالف الشريعة. وحيث إن الله من عليكم بهذا الأمر فيجب عليكم أن تذكروا ذلك بالشكر، وأعظم الشكر وأكبره هو أن تتقيدوا باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، ثم لا يخفى عليكم ما جرى من النزاع والاختلاف الذي يخشى علينا منهما إخفاق الأعمال والفتنة. وليس قصدنا غير تقويم الشريعة، ونجاة أنفسنا من عذاب النار. ولا يتم هذا إلا بالاقتصاد واتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وعلماء المسلمين أولهم وآخرهم.
وربما يلتبس عليكم الأمر في بعض أئمة المسلمين واعتقاداتهم، فأحببت لذلك أن أشرح لكم العقيدة التي ذكرها المشايخ في فتواهم. وهو أن معتقد المسلمين واحد حضرهم وبدويهم. وتعلمون أن أصل المعتقد كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم ، ثم السلف الصالح من بعدهم، وثم أئمة المسلمين الأربعة؛ الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام أبو حنيفة. فاعتقاد هؤلاء واحد في الأصل، وهو أنواع التوحيد الثلاثة؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات كما هو مقرر في كتب العلماء، التي يمكنكم مراجعتها والحمد لله في كل ساعة. فهم في هذا الأصل سواء، قد يكون بينهم اختلاف في الفروع وكلهم ومن حذا حذوهم على حق إن شاء الله إلى يوم القيامة.
ونحن يا أهل نجد كافة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفروع. وأما في الأصل فنحن والمذكورون أعلاه على ما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ، على أنه في آخر الأمر أظهر الله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ثم من بعدهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله ونفع بهم الإسلام والمسلمين، أرسلهم كلهم، وخصوصا محمد بن عبد الوهاب، عندما اندرست أعلام الإسلام وكثرت الشبهات والبدع.
فلما رأى أسلافنا موافقة أقوالهم وأفعالهم لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله قبلوا ذلك وقاموا بما أظهره الله على أيديهم. ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا على ذلك ويميتنا عليه . وقد عرفناكم بذلك لموجب ذكر المشايخ في الاعتقاد، والعمدة على ما ذكروه. فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وقصده في هجرته وانتسابه إلى الخير دورة ما عند الله، فليعتمد على ذلك قولا وفعلا، ولا يحيط فيه لبس، وليترك مخالفه. ومن أشكل عليه شيء من الأمور فليرده إلى طالب العلم المنصوب عندكم بأمر الولاية ورضا المشايخ. ونحن نعتقد أن ليس عندكم ما يخالف ذلك إن شاء الله، وأن قصدكم رضا الله. إنما من الشفقة عليكم أحببنا التبيين لكم بذلك؛ إنذارا للمخالف أو المتكلم بضده. وإن من خالف ذلك بقول أو بفعل فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ولا يأمن البطش بنفسه وبحلاله. هذا حقكم علينا. ومن أنذر فقد أعذر. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصار دينه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
سنة 1337
الختم
اتفاقية بحرة
نظرا للمعاهدة المعقودة بين حكومتي العراق ونجد ابتغاء تأمين الصلات الحسنة بينهما والمعروفة بمعاهدة المحمرة التي قد وقعت في اليوم السابع من شهر رمضان المبارك سنة 1340 الموافق 5 مايو سنة 1922.
ونظرا للبروتوقولين المعروفين بالبروتوقول رقيم (1) والبروتوقول رقيم (2)، اللذين أضيفا إلى معاهدة المحمرة المذكورة أعلاه، والموقع عليهما في العقير في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الثاني المبارك سنة 1341، الموافق 2 ديسمبر سنة 1922.
ونظرا لإبرام المعاهدة والبروتوقولين المذكورين آنفا طبقا للعادة من قبل حكومتي العراق ونجد، ونظرا لما تعهد به كل من حكومتي العراق ونجد في المادة الأولى من معاهدة المحمرة المذكورة بأن يمنع كل منهما عشائره عن التعدي على عشائر الحكومة الأخرى، وأن يعاقب كل من الحكومتين من يتعدى من العشائر التابعة للحكومة الأخرى، وأن تتذاكر الحكومتان إذا حالت الظروف دون قيام إحداهما بالتأديب اللائق في إمكان اتخاذ تدابير مشتركة طبقا للصلات الحسنة السائدة بينهما، ونظرا لاعتقاد حكومة صاحب الجلالة البريطانية والحكومتين المذكورتين بأنه يحسن لهاتين الحكومتين، حرصا على الصداقة وحسن الصلات بين العراق ونجد، وضع اتفاقية بخصوص بعض المسائل المعلقة بينهما.
نحن الموقعين أدناه سلطان نجد وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود والسير جلبرت كلايتون المندوب المفوض من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية والمخول بأن ينوب عن الحكومة العراقية في الاتفاق والتوقيع، قد اتفقنا على المواد الآتية:
المادة الأولى:
تعترف كل من دولتي العراق ونجد أن الغزو من قبل العشائر القاطنة في أراضيها على أراضي الدولة الأخرى اعتداء يستلزم عقاب مرتكبيه عقابا صارما من قبل الحكومة التابعة لها، وأن رئيس العشيرة المعتدية يعد مسئولا.
المادة الثانية: (أ) تؤلف محكمة خاصة، بالاتفاق بين حكومتي العراق ونجد، تلتئم من حين إلى آخر للنظر في تفاصيل أي تعد يقع من وراء حدود الدولتين ولإحصاء الأضرار والخسائر وتعيين المسئولية. ويكون تأليف هذه المحكمة من عدد متساو من ممثلي حكومتي العراق ونجد، وتعهد رئاستها إلى شخص آخر من غير الممثلين المذكورين، تتفق على اختياره الحكومتان، وتكون قرارات هذه المحكمة قطعية ونافذة. (ب) بعد تعيين المسئولية وتحقيق الأضرار والخسائر الناشئة عن الغزو، وإصدار المحكمة قرارها بذلك، تقوم الحكومة التابع لها المحكوم عليه بتنفيذ القرار المذكور وفقا لعادات العشائر، وبمعاقبة المحكوم عليه كما جاء في المادة الأولى من هذه الاتفاقية.
المادة الثالثة:
لا يجوز لعشائر إحدى الحكومتين اجتياز حدود الحكومة الأخرى إلا بعد الحصول على رخصة من حكومتهم، وبعد موافقة الحكومة الأخرى، مع العلم أنه لا يحق لإحدى الحكومتين أن تمتنع عن إعطاء الرخصة أو الموافقة إذا كان السبب في انتقال العشيرة لداعي المرعى عملا بمبدأ حرية الرعي.
المادة الرابعة:
تتعهد حكومتا نجد والعراق بأن تقفا بكل ما لديهما من الوسائل، غير الطرد واستعمال القوة، في سبيل انتقال كل عشيرة أو فخذ من إحدى القطرين إلى الآخر، إلا إذا جرى هذا الانتقال بمعرفة حكومتهم ورضاها، وتتعهد الحكومتان بأن تمتنعا عن تقديم الهدايا أيا كان نوعها للملتجئين من البلاد التابعة للحكومة الأخرى، وبأن تنظرا بعين السخط على كل شخص من رعاياهما يسعى لاستجلاب العشائر التابعة للحكومة الأخرى، أو تشجيعهم على الانتقال من بلادهم إلى البلاد الأخرى.
المادة الخامسة:
ليس لحكومتي العراق ونجد أن تتفاوضا مع رؤساء وشيوخ عشائر الدولة الأخرى في الأمور الرسمية أو السياسية.
المادة السادسة:
لا يجوز لقوات العراق ونجد أن تتجاوز حدود بعضها البعض بقصد تعقب المجرمين إلا برضا الحكومتين.
1
المادة السابعة:
لا يجوز لشيوخ العشائر الذين لهم صفة رسمية أو لهم رايات تدل على أنهم قواد لقوات مسلحة أن يظهروا راياتهم في أراضي الدولة الأخرى.
المادة الثامنة:
إذا طلبت إحدى الحكومتين من عشائرها النازلة في أراضي الدولة الأخرى تجريدات مسلحة، فالعشائر المذكورة أحرار في تلبية دعوة حكومتهم على أن يرحلوا بعائلاتهم وأموالهم بكل سكينة.
المادة التاسعة:
إذا انتقلت عشيرة من أراضي إحدى الحكومتين إلى الأراضي التابعة للحكومة الأخرى، وشنت الغارات بعد انتقالها على البلاد التي كانت تقطن فيها، يحق للحكومة التي تقيم العشيرة في أراضيها أن تأخذ منها ضمانات كافية، حتى إذا تكرر منها مثل ذلك الاعتداء تكون هذه الضمانات عرضة للمصادرة، وذلك عدا العقاب المنصوص عليه في المادة الأولى، وعدا ما قد تفرضه المحكمة المنصوص عليها في المادة الثانية من هذه الاتفاقية.
المادة العاشرة:
تتعهد حكومتا العراق ونجد بأن تقوما بمذكرات ودية، لعقد اتفاقية خاصة بشأن تسليم المجرمين، طبقا للعادات المرعية بين الدول المتحابة وذلك في مدة لا تتجاوز السنة اعتبارا من تاريخ التصديق على هذه المعاهدة من قبل حكومة العراق.
المادة الحادية عشرة:
النص العربي هو النص الرسمي الذي يرجع إليه في تفسير مواد هذه الاتفاقية.
المادة الثانية عشرة:
تعرف هذه الاتفاقية باتفاقية بحرة.
وقعت هذه الاتفاقية في مخيم بحرة في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني 1344، الموافق أول نوفمبر سنة 1925.
الإمضاءات
اتفاقية حداء
نظرا للعلاقات الودية السائدة بين الحكومة البريطانية السامية من جهة وسلطنة نجد وملحقاتها من جهة أخرى؛ ونظرا لرغبتهما في تعيين الحدود بين نجد وشرقي الأردن وتسوية بعض المسائل المتعلقة بذلك، اختارت الحكومة البريطانية السامية السر جلبرت كلايتون، كي، بي، إي. سي، بي، سي. أم، جي. وعينته مندوبا مفوضا عنها ليعقد اتفاقية في هذا الشأن مع السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود بالنيابة عن نجد. وبناء عليه قد اتفق السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود والسر جلبرت كلايتون وتعاهدا على المواد الآتية:
المادة الأولى:
يبتدئ الحد بين نجد وشرقي الأردن في الجهة الشمالية الشرقية من نقطة تقاطع دائرة الطول 39 (شرقي) ودائرة العرض32 (شمالي)، حيث تنتهي الحدود بين العراق ونجد ويمتد على خط مستقيم إلى نقطة تقاطع دائرة الطول 37 (شرقي) بدائرة العرض 30، 31 (شمالي) فيتبع دائرة الطول 37 (شرقي) إلى نقطة تقاطعها بدائرة العرض 25، 31 (شمالي) ثم يمتد من هذه النقطة على خط مستقيم إلى نقطة تقاطع دائرة الطول 38 (شرقي) بدائرة العرض 30 (شمالي) تاركا ما برز من أطراف وادي سرحان لنجد، ثم يتبع دائرة الطول 38 (شرقي) إلى نقطة تقاطعها بدائرة العرض 35، 29 (شمالي) أما الخارطة التي يرجع إليها في هذه الاتفاقية فهي الخارطة المعروفة بالدولية «آسيا مقياس واحد على مليون».
المادة الثانية:
تتعهد حكومة نجد بألا تقيم أي حصن في (كاف) وألا تستعملها والمنطقة في جوارها كنقطة عسكرية.
أما إذا رأت حاجة في حين من الأحيان إلى اتخاذ تدابير استثنائية بجوار الحدود للمحافظة على الأمن، أو لأي غرض آخر يستوجب حشد القوات العسكرية المسلحة، فتتعهد بأن تخبر حكومة صاحب الجلالة البريطانية بذلك في أقرب وقت، وعلاوة على ذلك تتعهد بأن تمنع قواتها من التعدي على أراضي شرقي الأردن بكل ما لديها من الوسائل.
المادة الثالثة:
منعا لسوء التفاهم الذي قد يحصل في الحوادث التي تقع قرب الحدود، وتوثيقا لعرى الثقة المتبادلة بين الطرفين والتعاون الكلي بين حكومة صاحب الجلالة البريطانية وحكومة نجد، يتفق الطرفان على القيام بمذاكرات متواصلة بين المعتمد البريطاني في شرقي الأردن أو مندوبه وبين حاكم وادي السرحان.
المادة الرابعة:
تتعهد حكومة نجد بصيانة جميع الحقوق التي تتمتع بها في وادي سرحان القبائل غير التابعة لنجد، سواء كانت حقوق الرعي أو السكن أو الملكية أو ما يشبه ذلك من الحقوق الثابتة بشرط أن تخضع تلك القبائل - ما دامت نازلة ضمن حدود نجد - للقوانين الداخلية التي لا تمس هذه الحقوق . وتعامل حكومة شرقي الأردن نفس المعاملة رعايا نجد المتمتعين بحقوق ثابتة في شرقي الأردن شبيهة بالحقوق المذكورة.
المادة الخامسة:
تعترف كل من نجد وشرقي الأردن أن الغزو من قبل العشائر القاطنة في أراضيهما على أراضي الحكومة الأخرى اعتداء يستلزم عقاب مرتكبيه عقابا صارما من قبل الحكومة التابعة لها، وأن رئيس العشيرة المتعدية يعد مسئولا.
المادة السادسة: (أ) تؤلف محكمة خاصة بالاتفاق بين حكومتي نجد وشرقي الأردن، تلتئم من حين إلى آخر للنظر في تفاصيل أي تعد يقع من وراء الحدود ولإحصاء الأضرار والخسائر وتعيين المسئولية، ويكون تأليف هذه المحكمة من عدد متساو من ممثلي حكومتي نجد وشرقي الأردن، وتعهد رئاستها إلى شخص آخر من غير الممثلين المذكورين تتفق على اختياره الحكومتان، وتكون قرارات هذه المحكمة قطعية ونافذة. (ب) بعد تعيين المسئولية وتحقيق الأضرار والخسائر الناشئة عن الغزو، وإصدار المحكمة قرارها بذلك، تقوم الحكومة التابع لها المحكوم عليه بتنفيذ القرار المذكور وفقا لعادات العشائر، وبمعاقبة المحكوم عليه كما جاء في المادة الخامسة من هذه الاتفاقية.
المادة السابعة:
لا يجوز لعشائر إحدى الحكومتين اجتياز حدود الأخرى إلا بعد الحصول على رخصة من حكومتهم، وبعد موافقة الحكومة الأخرى، مع العلم أنه لا يحق لإحدى الحكومتين أن تمتنع عن إعطاء الرخصة أو الموافقة إذا كان السبب في انتقال العشيرة لداعي المرعى، عملا بمبدأ حرية الرعي.
المادة الثامنة:
تتعهد حكومتا نجد وشرقي الأردن بأن تقفا بكل ما لديهما من الوسائل، غير الطرد واستعمال القوة، في سبيل انتقال كل عشيرة أو فخذ من أحد القطرين إلى الآخر، إلا إذا جرى هذا الانتقال بمعرفة حكومتهم ورضاها، وتتعهد الحكومتان بأن تمتنع عن تقديم الهدايا أيا كان نوعها للملتجئين من البلاد التابعة للحكومة الأخرى، وبأن تنظرا بعين السخط إلى كل شخص من رعاياهما يسعى لاستجلاب العشائر التابعين للحكومة الأخرى، أو تشجيعهم على الانتقال من بلادهم إلى البلاد الأخرى.
المادة التاسعة:
ليس لحكومتي نجد وشرقي الأردن أن تتفاوضا مع رؤساء وشيوخ عشائر الحكومة الأخرى في الأمور الرسمية أو السياسية.
المادة العاشرة:
لا يجوز لحكومتي نجد وشرقي الأردن أن تتجاوز حدود بعضها البعض بقصد تعقيب المجرمين إلا برضا الحكومتين.
المادة الحادية عشرة:
لا يجوز لشيوخ العشائر الذين لهم صفة رسمية أو لهم رايات تدل على أنهم قواد قوات مسلحة أن يظهروا راياتهم في أراضي الحكومة الأخرى.
المادة الثانية عشرة:
على كل من حكومتي نجد وشرقي الأردن أن تمنح حرية المرور لجميع المسافرين والحجاج، بشرط أن يخضع هؤلاء للقوانين الخاصة بالسفر والحج المرعية في نجد وشرقي الأردن، وعلى كل من هاتين الحكومتين أن تخبر الحكومة الأخرى بأي قانون قد تسنه في هذا الخصوص.
المادة الثالثة عشرة:
تتعهد حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن تضمن حرية المرور في كل حين للتجار من رعايا نجد لقضاء تجارتهم بين نجد وسورية ذهابا وإيابا، وأن تحصل على الإعفاء من الضرائب الجمركية وغيرها لجميع الأموال التي تجتاز منطقة الانتداب في مرورها من نجد إلى سورية أو من سورية إلى نجد، على أن يخضع التجار وقوافلهم لما قد يلزم من التفتيش الجمركي، وأن يكونوا حاملين وثيقة من حكومتهم تشهد أنهم تجار مشروعون. ويشترط أن تتبع القوافل التجارية ذات الأموال المحملة طرقا معروفة سيتفق عليها فيما بعد للدخول في منطقة الانتداب والخروج منها، مع العلم أن هذه القيود لا تسري على القوافل التجارية التي تقتصر تجارتها على الإبل والحيوانات، ولا على العشائر التي تنتقل بمقتضى المواد السابقة من هذه الاتفاقية، وتتعهد حكومة صاحب الجلالة البريطانية بأن تحصل على غير ذلك من التسهيلات الممكنة للتجار من رعايا نجد المارين بمنطقة انتدابها.
المادة الرابعة عشرة:
تبقى هذه الاتفاقية نافذة ما دامت حكومة صاحب الجلالة البريطانية مكلفة بالانتداب على شرقي الأردن.
المادة الخامسة عشرة:
قد دونت هذه الاتفاقية باللغة الإنكليزية واللغة العربية، ووقع كلا الطرفين المتعاقدين نسختين من النص العربي ونسختين من النص الإنكليزي، ويكون للنصين قيمة رسمية واحدة، ولكن إذا وقع اختلاف بين النصين في تفسير مادة من مواد هذه الاتفاقية فيرجع إلى النص الإنكليزي.
المادة السادسة عشرة:
تعرف هذه الاتفاقية باتفاقية حداء.
وقعت هذه الاتفاقية في حداء في الخامس عشر من شهر ربيع الثاني 1344، الموافق 2 نوفمبر سنة 1925.
الإمضاءات
معاهدة مكة المكرمة
الحمد لله وحده.
بين ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها وبين الإمام السيد الحسن بن علي الإدريسي.
رغبة في توحيد الكلمة، وحفظا لكيان البلاد العربية، وتقوية للروابط بين أمراء جزيرة العرب، قد اتفق صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود وصاحب السيادة إمام عسير السيد الحسن بن علي الإدريسي على عقد الاتفاقية الآتية:
المادة الأولى:
يعترف سيادة الإمام السيد الحسن بن علي الإدريسي بأن الحدود القديمة الموضحة في اتفاقية 10 صفر سنة 1339 المنعقدة بين سلطان نجد وبين الإمام السيد محمد علي الإدريسي، والتي كانت خاضعة للأدارسة في ذلك التاريخ، هي تحت سيادة جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بموجب هذه المعاهدة.
المادة الثانية:
لا يجوز لإمام عسير أن يدخل في مفاوضات سياسية مع أي حكومة، وكذلك لا يجوز أن يمنح أي امتياز اقتصادي، إلا بعد الموافقة على ذلك من صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها.
المادة الثالثة:
لا يجوز لإمام عسير إشهار الحرب أو إبرام الصلح إلا بموافقة صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها.
المادة الرابعة:
لا يجوز لإمام عسير التنازل عن أي جزء من أراضي عسير المبينة في المادة الأولى.
المادة الخامسة:
يعترف ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بحاكمية إمام عسير الحالي على الأراضي المبينة في المادة الأولى مدة حياته، ومن بعده لمن يتفق عليه الأدارسة وأهل العقد والحل التابعين لإمامته.
المادة السادسة:
يعترف ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بأن إدارة بلاد عسير الداخلية، والنظر في شئون عشائرها من نصب وعزل وغير ذلك من الشئون الداخلية من حقوق إمام عسير على أن تكون الأحكام على وفق الشرع والعدل كما هي في الحكومتين.
المادة السابعة:
يتعهد ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بدفع كل تعد داخلي أو خارجي يقع على أراضي عسير المبينة في المادة الأولى، وذلك بالاتفاق بين الطرفين حسب مقتضيات الأحوال ودواعي المصلحة.
المادة الثامنة:
يتعهد الطرفان بالمحافظة على هذه المعاهدة والقيام بواجبها.
المادة التاسعة:
تكون هذه المعاهدة معمولا بها بعد التصديق عليها من الطرفين الساميين.
المادة العاشرة:
دونت هذه المعاهدة باللغة العربية في صورتين تحفظ كل صورة لدى فريق من الحكومتين المتعاقدتين.
المادة الحادية عشرة:
تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة مكة المكرمة.
وقعت هذه المعاهدة في تاريخ 24ربيع الآخر سنة 1345 الموافق 21 أكتوبر سنة 1926.
ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
الختم الملكي
تم ذلك بحضور راقم هذه الأحرف خادم الإسلام
أحمد الشريف السنوسي
الختم إمام عسير
الحسن بن علي الإدريسي
الختم
المعاهدة بين بريطانية العظمى والحجاز ونجد
جلالة ملك بريطانية وأرلندة والممتلكات البريطانية من وراء البحار إمبراطور الهند من جهة، وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها من جهة أخرى.
رغبة في توطيد العلاقات الودية السائدة بينهما وتوثيقها، وتأمين مصالحهما وتقويتها، قد عزما على عقد معاهدة صداقة وحسن تفاهم؛ لذلك أوفد صاحب الجلالة البريطانية حضرة السر جلبرت فلكنجهام كلايتون مندوبا مفوضا عنه، وانتدب صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز نجله ونائبه في الحجاز مندوبا مفوضا عنه بناء على ما تقدم.
وبعد الاطلاع على مستندات اعتمادهما والتثبت من صحتها قد اتفقا، سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز وحضرة السر جلبرت كلايتون، على المواد الآتية:
المادة الأولى:
يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.
المادة الثانية:
يسود السلم والصداقة بين صاحب الجلالة البريطانية وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، ويتعهد كل من الفريقين المتعاقدين بأن يحافظ على حسن العلاقات مع الفريق الآخر، وبأن يسعى بكل ما لديه من الوسائل لمنع استعمال بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة ضد السلام والسكينة في بلاد الفريق الآخر.
المادة الثالثة:
يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسهيل أداء فريضة الحج لجميع الرعايا البريطانيين والأشخاص المتمتعين بالحماية البريطانية من المسلمين أسوة بسائر الحجاج، ويعلن جلالة الملك بأنهم يكونون آمنين على أموالهم وأنفسهم أثناء إقامتهم في الحجاز.
المادة الرابعة:
يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسليم مخلفات من يتوفى في البلاد التابعة لجلالته من الحجاج المذكورين آنفا، والذين ليس لهم في بلاد جلالته أوصياء شرعيون، إلى المعتمد البريطاني في جدة أو من ينتدبه لهذا الغرض؛ لإيصالها لورثة الحاج المتوفى المستحقين، بشرط ألا يكون تسليم تلك المخلفات إلى الممثل البريطاني إلا بعد أن تتم المعاملات بشأنها أمام المحاكم المختصة، وتستوفى عليها الرسوم المقررة في القوانين الحجازية أو النجدية .
المادة الخامسة:
يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالجنسية الحجازية والنجدية لجميع رعايا صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة البريطانية، أو البلاد المشمولة بحماية جلالته. وكذلك يعترف صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالجنسية البريطانية لجميع رعايا صاحب الجلالة البريطانية ولجميع الأشخاص المتمتعين بحماية جلالته عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، على أن تراعى قواعد القانون الدولي المرعي بين الحكومات المستقلة.
المادة السادسة:
يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالمحافظة على الصلات الودية والسلمية مع الكويت والبحرين ومشايخ قطر والساحل العماني، الذين لهم معاهدات خاصة مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية.
المادة السابعة:
يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن يتعاون بكل ما لديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على الاتجار بالرقيق.
المادة الثامنة:
على الفريقين المتعاقدين إبرام هذه المعاهدة وتبادل قرارات الإبرام بأقرب وقت.
وتصير المعاهدة نافذة اعتبارا من تاريخ تبادل قرارات الإبرام، ويعمل بها مدة سبع سنوات ابتداء من ذلك التاريخ. وإن لم يعلن أحد الفريقين المتعاقدين الفريق الآخر، قبل انتهاء السنوات السبع بستة أشهر، أنه يريد إبطال المعاهدة تبقى نافذة، ولا تعتبر باطلة إلا بعد مضي ستة أشهر من اليوم الذي يعلن فيه إبطالها من أحد الفريقين إلى الفريق الآخر.
المادة التاسعة:
تعتبر المعاهدة المعقودة بين صاحب الجلالة البريطانية وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها في 26 ت.أ سنة 1915 يوم كان جلالته حاكما لنجد، وما كان ملحقا بها إذ ذاك، ملغاة ابتداء من تاريخ إبرام هذه المعاهدة.
المادة العاشرة:
دونت هذه المعاهدة باللغتين العربية والإنكليزية، وللنصين قيمة واحدة. أما إذا وقع اختلاف في تفسير أي قسم منها فيرجع إلى النص الإنكليزي.
المادة الحادية عشرة:
تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة جدة.
وقعت هذه المعاهدة في جدة يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة 1345 هجرية الموافق عشرين أيار سنة 1927.
الإمضاءات
اتفاقية تسليم جدة
(1)
بالنظر لتنازل الملك علي، ومبارحته للحجاز، وتسليم بلدة جدة، يضمن السلطان عبد العزيز لكل الموظفين الملكيين والحربيين والأشراف وأهالي جدة عموما والعرب والسكان والقبائل سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم. (2)
يتعهد الملك علي أن يسلم في الحال جميع أسرى الحرب الموجودين بجدة إن وجد. (3)
يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يمنح العفو العام لكل من المذكورين أعلاه. (4)
يجب على جميع الضباط والعساكر أن يسلموا في الحال إلى السلطان عبد العزيز بجميع أسلحتهم من بنادق ورشاشات ومدافع وطيارات وخلافه وجميع المهمات الحربية. (5)
يتعهد الملك علي وجميع الضباط والعساكر بألا يخربوا أي شيء من الأسلحة والمهمات الحربية جميعها أو يتصرفوا بها. (6)
يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يرحل كافة الضباط والعساكر الذين يرغبون في العودة إلى أوطانهم، ويتعهد بإعطائهم المصاريف اللازمة لسفرهم. (7)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يوزع، بنسبة معتدلة، على كافة الضباط والعساكر الموجودين بجدة مبلغ خمسة آلاف جنيه. (8)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يبقي جميع موظفي الحكومة الملكيين، الذين يجد فيهم الكفاءة في تأدية واجباتهم بأمانة في مراكزهم. (9)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح الملك علي الحق في أن يأخذ معه الأمتعة الشخصية التي في حوزته بما في ذلك سيارته وسجاجيده وخيوله. (10)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح عائلة آل الحسين جميع ممتلكاتهم الشخصية في الحجاز بشرط أن تكون هذه الممتلكات من الموروثة فعلا، ولا تشتمل على الأملاك الثابتة المحولة من الأوقاف بمعرفة الحسين إلى شخصه، ولا على المباني التي يكون الحسين قد بناها في أثناء ملكه لما كان ملكا على الحجاز. (11)
يتعهد الملك علي أن يبارح الحجاز قبل يوم الثلاثاء المقبل مساء. (12)
جميع البواخر التي في ملك الحجاز وهي «الطويل ورشدي والرقمتين ورضوى» تصير ملكا للسلطان عبد العزيز، ولكن السلطان يسمح إن لزم الأمر للباخرة رقمتين أن تستعمل لنقل الأمتعة الشخصية التابعة للملك علي المتنازل ثم ترجع. (13)
يتعهد الملك علي ورجاله وسكان جدة بألا يبيعوا أو يخربوا أي شيء من أملاك الحكومة مثل اللنشات والسنابيك وخلافه. (14)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح جميع السكان والضباط والعساكر الموجودين بينبع الحقوق والامتيازات المذكورة سابقا إلا فيما يخص بتوزيع النقود . (15)
يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح العفو للأشخاص المذكورة أسماؤهم أدناه أيضا العفو العام، وهم عبد الوهاب ومحسن وبكري أبناء يحيى قزاز، وعبد الحي بن عابد قزاز، وأحمد وصالح أبناء عبد الرحمن قزاز، وإسماعيل بن يحيى قزاز، والشيخ محمد علي صالح بتاوي وإخوانه إبراهيم وعبد الرحمن بتاوي أبناء محمد علي صالح بتاوي وأبنائهم وأبناء عمهم حسن وزين بتاوي وأبناء محمد نور والشيخ يوسف خشيرم والشيخ عباس ولد يوسف خشيرم والشيخ ياسين بسيوني والسيد أحمد السقاف وعائلات وأموال جميع المذكورين آنفا. (16)
إن كان الملك علي أو رجاله في حال من الأحوال يخالفون أو يقصرون في تنفيذ أي مادة من المواد التي تقدم ذكرها، فإن السلطان عبد العزيز لا يعتبر نفسه في تلك الحالة مسئولا عن تأدية ما عليه من هذه الاتفاقية. (17)
يتعهد الطرفان السلطان عبد العزيز والملك علي أن يكفا عن أي حركة عدائية أثناء سير هذه المفاوضات.
الخميس في 1 جمادى الثانية سنة 1344 الموافق 17 ديسمبر 1925.
الإمضاءات
لائحة الهجر
كل عدد من الأعداد المذكورة أدناه، أي عدد من يلبون دعوة الجهاد من كل قرية، يضاف إليه ضعفاه، الضعف الأول وهم البدو أي الذين يرعون المواشي، والضعف الآخر المحترفون أي الذين يبقون في البلدة ليقوموا بصناعتها وتجارتها وزراعتها. والمجموع عدد سكان الذكور في كل هجرة.
بلاد نجد وضعا هي من القصيم إلى وادي حنيفة.
يلبي الجهاد من نجد فقط أربعة آلاف. وهؤلاء مسلحون متأهبون دائما، وهم بمثابة العسكر النظامي، يدفع لهم السلطان كل ثلاثة أشهر قيمة مرضية غير معينة من المال. وكذلك المجاهدون من هجر حرب.
يلبي الجهاد منها
عدد المجاهدين
هجر مطير
هجر قحطان
2000
الأرطاوية
0800
الهياثم
1000
مبايض
1000
الهياثم-بادية
1000
فريتان
0300
الجفير
0700
مليح
0800
الحصاة
0700
العمار
2000
الرين الأسفل
1000
الأثلة
2000
الرين الأعلى
0600
الأرطاوي
6900
0800
مسيكة
هجر الدواسر
0800
ضريه
1500
مشيرقة
1500
قرية العليا
0800
الوسيطة
1000
قرية السفلى
2300
11100
هجر حرب [حرب نجد]
هجر الروقة (من عتيبة)
2500
دخنة
2000
الداهنا
1000
الشبيكية
0300
الصوح
1000
الدوليمية
0800
ساجر
0700
القرين
2000
عرجا
0600
الساقية
0300
عسيلة
0300
حليفة
1500
نفي
0700
حنيظل
6900
1000
البرود
هجر برقة (من عتيبة)
2000
قبة (تلفظ أجبة)
1000
عروة
1000
الفوارة
1000
السنام
10800
0700
الروضة
2700
هجر العوازم
5000
الغطغط [من عتيبة]
1500
ثاج
1000
الحسي
هجر العجمان
1000
الحنات
2000
الصرار
0700
العتيق
1000
حنيذ
4200
0800
الصحاف
هجر بني مره
0700
العقير
1000
الشباك
1300
عريرة
1500
أبيرق
5800
1000
عين دار (بنو هاجر)
هجر شمر
3500
2000
الأجفر
1300
خريفط (هتيم)
1500
بنوان قبيلة هتيم
0700
المصاع
0600
الفطيم
0400
المرير (هتيم)
0900
القصير
13800
0900
الحفير
الهجر التي في الخرج
0500
البلازية
0800
الضبيعة
0800
الخبة
0800
البدع
1200
الغيضة
0600
المنيصف
1500
بيضة نتيل (عنزى)
0500
الأخضر
0600
التيم
0400
طيبسم
0500
أم القلبان
0400
الرويضة
0400
الشقيق
3500
مجموع المجاهدين من الهجر
11100
مطير
10800
حرب نجد
6900
قحطان
4200
العوازم
2300
الدواسر
3500
بنو مرة
6900
الروقة-عتيبة
13800
شمر
2700
برقة-عتيبة
3500
الخرج
5000
الغطغط-عتيبة
76500
5800
العجمان
نامعلوم صفحہ