تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
اصناف
يشترك علماء النحو في المعاني والخبرة. فالعلاقة بين هؤلاء العلماء علاقة فكرية وعلمية كتبادل المعلومات والأفكار من خلال الإشارة أو العزو أو التهميش، وهي علاقة تسهم في بلورة قضايا النحو وتطوير مفاهيمه، وتساعدهم على التعرف على الجديد، وما إذا كان يحتاج إلى شرح أو تأويل. إنها علاقة من نوع خاص؛ تثري المعرفة عن نشوء الجماعات العلمية كما هي في طبقاتهم، يتوج هذا كله بمظاهر تمسك هؤلاء النحويين بمفاهيم النحو العلمية.
هناك وجه آخر يبرز العلاقة العلمية بين النحاة؛ ذلك أن أحدهم قد لا يكتفي بأن يدعي أن يكون الحق معه في تحليل قضية نحوية، أو أن تكون حججه وبراهينه أقوى، إنما يريد أن تكون حججه وبراهينه ضد عالم آخر يخالفه ولا يتفق معه. من وجهة النظر هذه، فتاريخ النحو العربي في جزء منه تاريخ صراع، وخلفيته العميقة التي صدر عنها هو الصراع الخفي الذي يكنه كل عالم لآخر. تليق وجهة النظر هذه بالنحاة الكبار، وتبرر محاولة تجاوز بعضهم بعضا. من هذا المنظور فالنحاة قلما يسعون إلى أن يكونوا محقين من أجل الحق ذاته، إنما أن يكونوا محقين تجاه نحاة آخرين. وحججهم العميقة إنما هي دليل على رغبتهم في أن يقولوا الحق من أحقاد دفينة، وضغائن خفية. بصياغة أخرى فبراهين وأدلة كل ليست بريئة كما يعتقد القراء، إنما هي براهين آثمة لأنها تجل لرغبة خفية في أن يفرض ما يعتقده كما حدث من ابن مضاء.
لا يجب أن نعتبر صراع النحاة وتنافسهم عيبا في تاريخ النحو العربي؛ إذ يبدو أنه السائد في المعرفة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في إحدى تبصراته النافذة: «لا يكتفي المرء أبدا بأن يكون الصواب إلى جانبه والحق معه، وأن تكون الحجة له لا عليه، بل إنك لتجده يتحرى دوما أن يكون محقا ضد شخص آخر يخالفه ويناقضه، وإنك قلما تجد المرء يسعى إلى أن يكون محقا تجاه القول الحق، بل إن مسعاه الدائم هو أن يكون محقا تجاه الغير. والحق أنه من دون ممارسة القناعة العقلية الممارسة الاجتماعية هذه، فإنه ليس يمتنع أن تكون أعمق الحجج العقلية، إن حقق أمرها وكشف شأنها، أقوى دليل على ما تحويه رغباتنا في قول الحق من أحقاد دفينة.»
المفاهيم المؤسسة للنحو العربي
يمكن لمؤرخ النحو كما نقترحه أن يتتبع في كتب بعض النحويين ما يمكن أن أسميه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي؛ أعني اتفاق النحاة على مجموعة من المفاهيم لا يقوم النحو العربي بدونها. وهنا أسوق ملاحظتين في سياق الإجابة عن معنى مفاهيم النحو العربي المؤسسة. الملاحظة الأولى: أن المفاهيم التي أسسها بعض النحاة هي مفاهيم مشتركة بين علماء النحو العربي، وهي مفاهيم لا توجد بالضرورة بين علماء آخرين كعلماء البلاغة أو التفسير أو الفقه أو الحديث، ولا توجد بين المؤرخين والبلاغيين. فهي مفاهيم خاصة بالنحو العربي من حيث هو علم. فالعامل مثلا مفهوم مشترك بين النحاة، وليس بين المؤرخين أو المفسرين أو علماء الحديث. والملاحظة الثانية: أن هذه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي هي مفاهيم مشتركة. وأكثر من ذلك هي مفاهيم مستلهمة، أو على الأقل مطمورة تحت ركام من التفصيلات وتفصيل التفصيلات في تاريخ النحو العربي. بأي معنى يوحي بعض النحاة بمفاهيم النحو العربي المؤسسة؟ في الواقع ليس الأمر بهذا الشكل من الوضوح في تاريخ النحو العربي؛ ذلك أن النحاة الكبار يمكن أن يشكلوا قائمة طويلة. غير أن وضع سيبويه وابن جني على سبيل المثال في مقابل رد ابن مضاء على النحاة يظهر إلى أي مدى كان سيبويه وابن جني من كبار مؤسسي مفاهيم النحو العربي الأساسية.
تبدأ قائمة كبار النحويين بسيبويه مؤلف الكتاب العمدة في النحو العربي. صحيح أن قبله نحاة كبارا، لكنهم في الغالب مشدودون إلى روح البنية الذهنية للقرن الأول الإسلامي؛ لذلك يمكن القول: إن سيبويه هو أول من جمع وحزم ووحد في مفاهيم نحوية ما أنجز قبله. وعلى حد ما أعرف فإن سيبويه لم يرحل إلى الصحراء، ولم يجمع اللغة من أفواه الأعراب، لكن وجوده ضروري للكم اللغوي المجموع من قبل العلماء الآخرين. وقد استخدم في ذلك عقله الخالص، وخياله الفذ لكي يصف اللغة العربية. وبحكم تلمذته على الخليل بن أحمد؛ فقد وجد سيبويه كمية اللغة التي جمعها الخليل طوال حياته، وما ينقصها هو عقل كعقل سيبويه. لقد أجاب سيبويه عن أول الأسئلة وأوضحها التي يطرحها أي دارس للنحو العربي، وهو: ما الذي يحدث الأثر في أواخر الكلمات العربية؟ ونحن الآن نعرف إجابة سيبويه من قوله: «وإنما ذكرت لك ثمانية مجار؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة كما يحدث فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه بغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب.»
8
ولتأكيد مفهوم العامل، وأنه علة العمل؛ أي إنه هو الذي يحدث الأثر في آخر الكلمة العربية ضمن سيبويه كتابه أبوابا تحمل مفهوم العامل وتنص عليه، سأدرج منها ما يشير إلى ذلك:
هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينصب، وهو حال وقع عليه الفعل وليس بمفعول.
هذا باب ما يعمل عمل الفعل، ولم يجر مجرى الفعل، ولم يتمكن تمكنه.
نامعلوم صفحہ