تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
اصناف
حين كف الجو الفكري للمرحلة التاريخية التي نشأ فيها النحو كف النحو عن متابعة صورته المعيارية ليناسب جوا فكريا آخر، سنعرفه ونحن نتابع تطور مفهوم النحو. أكتفي هنا بالقول: إن كل تطور في مفهوم النحو تلاءم مع الجو الفكري للمرحلة التاريخية، وإن هذا ما جعل النحو يستمر؛ ذلك أن علما ما إذا ما أراد أن يستمر فعليه أن يتطور. غير أن تطور مفهوم النحو لا يعني أنه لم يبق حول موضوعه الأول، بل بقي متصلا مع نشأته الأولى، لكن من دون انخراط كلي فيه.
الافتراض الضمني لنحو أبي الأسود الدؤلي
سأدرج هذا القول من مقدمة ابن منظور لمعجمه لسان العرب، وسيتضح فيما بعد السبب. يقول ابن منظور: «فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.» ما العلاقة بين لسان العرب وبين سفينة نوح؟ هناك فكرة وراء أحداث قصة نحو يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما وجد مجتمع مثالي، ثم حلت الكارثة بهذا المجتمع حيث تمادى الناس في المعصية، وتعاظمت منه الخطيئة، فحل الطوفان من أجل بناء مجتمع مثالي خال مما يشوبه. وسفينة نوح هي الأداة كما أنها هي النواة الأولى. أما الزوجان من كل شيء فهو فإشارة إلى بداية حياة جديدة، ونواة أولى لمجتمع صاف.
يمكن أن نسحب هذا التأويل على معجم لسان العرب؛ فالفكرة الرئيسة وراء عمل ابن منظور يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما كان هناك مجتمع صاف يتكلم اللغة العربية، ويحافظ عليها كما يحافظ على وجوده، وفيما بعد حلت به الكارثة؛ إذ شرع المجتمع يتفاصح ويتحدث بلغة أخرى غير لغته العربية؛ لذلك فالحاجة ماسة إلى إعادة ذلك الصفاء.
من هذه الزاوية هناك يوتوبيا؛ محاولة لاسترجاع حالة الصفاء اللغوي بدأها قبل ابن منظور أبو الأسود الدؤلي. وسواء أكانت ابنته أم من خاطب زيادا؛ فإن هناك من عكر صفاء اللغة. والحالة هنا ليست فردية، إنما هي حالة عامة. لقد كانت المهمة جسيمة، شحذت قوى أبي الأسود الدؤلي وقوى نحويين ولغويين آخرين، فانطبع تفكير أفضل علماء تلك المرحلة بطابع استرداد حالة النقاء.
عبر انشغال أبي الأسود الدؤلي عن فرضية هي أن اللغة العربية لم تعد لغة نقية وصافية كما كانت عليه في زمن مضى، وصادق على فكرة تنزع إلى هيمنة لغة وصفت بكونها مقدسة أنزل الله بها كتابه. وبالتالي فأبو الأسود الدؤلي لا يعبر عن رأي شخصي، إنما يستجيب ويدعم اختيارا وتحيزا لمستوى من اللغة تكرس في الغيب قبل أن يكون بين الناس.
أحد مفاتيح المستقبل موجود في النحو؛ ذلك أن فيه رؤية حياة جديدة نقية وصافية تكاد تعدل الحياة الجديدة النقية والصافية التي بدأتها سفينة نوح. قد يعالج النحو مشاكل اللحن في اللغة العربية كالمشاكل الصرفية والمعجمية والنحوية ... إلخ. وهذه الرؤية الشاملة قد نضعها في موازاة النظرة الشاملة لسفينة نوح من حيث هي وعد بعصر ذهبي، وبشرى للعالم.
حافز تصور أبي الأسود الدؤلي للنحو
لكي نفهم حافز أبي الأسود لا بد من أن نتذكر أنه هو من ضبط المصحف الشريف؛ فاهتمامه بضبط أواخر كلمات القرآن أبعدته عن أن يفكر في نظام اللغة العربية؛ أي إن نحو الدؤلي وسيلة تقنية للحصول على نتائج مباشرة. أما التفكير في التركيب النظري الذي يمنح هذه التقنية معناها فلم يفكر فيه؛ ربما لأن الظرف التاريخي وروح المرحلة الفكري لم يكونا مناسبين.
غير أن النظريات الإنسانية والمعرفية في علم النفس المعاصر ترى أن الظرف التاريخي وروح المرحلة الفكري لا يحددان وحدهما السلوك الإنساني، فهناك أيضا اتجاهات الإنسان وتوقعاته واعتقاداته؛
نامعلوم صفحہ