تاریخ مصر من الفتح العثمانی الی قبیل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
اصناف
وأول ما عزم عليه في هذه الحرب استرجاع «آزاق»، فأخذ يستعد في (شتاء 1735-1736م)، وفي (ربيع 1148ه/1736م) انقض على «القرم» وناط حصار «آزاق» بالقائد «لاسي» الأرلندي، وفي شهر مايو وصلت أخبار الحملة الروسية إلى القسطنطينية؛ فأعلنت الدولة الحرب على الروسيا في 28 منه، وكان ميونخ وقواده قد توغلوا في شبه جزيرة القرم واحتلوا كثيرا منها، إلا أنهم تكبدوا في ذلك خسائر فادحة، واضطروا للجلاء عنها والتراجع إلى «أوكرين» في 25 أغسطس سنة 1736م بعد أن ارتكبوا في القرم من الفظائع والمنكرات ما لا يوصف.
ثم دخلت الحرب في طور جديد لتجديد تحالف الروسيا مع النمسا في (سنة 1149ه/9 يناير 1737م) تأكيدا لمعاهدة 1726م؛ فأثارت النمسا الحرب أيضا على الدولة العثمانية التي قابلتهما بمقاومة أدهشت أوروبا بأسرها؛ فاضطرت ميونخ إلى التقهقر عن أوكرين، وردت النمسويين مقهورين حتى إقليم «بنات»، فأحجموا عن الحرب وأخذوا يفاوضون الدولة سرا في عقد الصلح معهم على انفراد؛ فغاظ ذلك ميونخ غيظا شديدا، وكانت له آمال كبيرة في القضاء على الترك؛ من ذلك أنه عرض على قيصرة الروسيا في ذلك العهد أساس ذلك المشروع الخطير الذي يسمى «المشروع الشرقي» وفحواه أن الروسيا ترى أن لها الحق الطبيعي في الزعامة على المسيحيين من رعايا الدولة، فيجب عليها أن تعمل على نشر الدولة «البوزنطية» بالقسطنطينية؛ ولذلك كان جل أماني «ميونخ» مواصلة الحرب، وبالفعل أغار على «ملدافيا» - البغدان - وهزم جيوش الدولة في «شكزم» سنة (1152ه/18 أغسطس 1739م)، إلا أن توالي هزائم النمسويين وعقدهم وحدهم الصلح مع الدولة قضى على أمانيه، وخاصة بعد أن علم بعزم السويد على محاربة الروسيا وبقيام بعض الفتن في داخلية بلاده؛ ولذلك رضيت الروسيا بعقد الصلح وأبرمت مع الدولة معاهدة بلغراد الشهيرة في سبتمبر سنة 1739م؛ ففي المعاهدة التي عقدت مع النمسا على انفراد أخذت الدولة العلية بلغراد و«أرسوفا» وجيمع بلاد الصرب والبوسنة وبلاد الأفلاق والبغدان.
أما الروسيا فإنها لم تأخذ مما فتحته سوى آزاق بعد هدم قلاعها، واشترطت عليها الدولة ألا تدخل أساطيلها في البحر الأسود؛ بأن يكون بحيرة عثمانية بحتة.
وهذه هي آخر معاهدة رابحة عقدتها الترك مع الدول الأوروبية، وقد لقيت الدولة في إبرامها مساعدة عظمى من فرنسا؛ لأنها كانت تخشى اتساع سطوة الدولتين: الروسية والنمسوية.
بعد ذلك ساد السلام بين الروسيا والدولة مدة طويلة مات في أثنائها السلطان «محمود الأول» (1143-1168ه/1730-1754م)، وخلفه السلطان «عثمان الثالث» (1168-1171ه/1754-1757م)، ولم يحصل في عصره شيء جدير بالذكر. ثم تولى بعده السلطان «مصطفى الثالث» (1171-1187ه/1757-1773م)، وكان ولوعا بالحروب، فلما رأى أن ازدياد نفوذ الروس في بولندا يتعاظم بهمة قيصرتهم العظيمة «كترين الثانية» التي تولت الملك سنة (1176ه/1763م) خشي على بلاده، ورأت ذلك أيضا الحكومة الفرنسية بالنسبة لبلادها فوافقته على رأيه؛ ولذلك عزم الباب العالي على منازلة الروس، وقوى عنده هذا العزم أن الروس كانوا منذ (1179ه/1765م) يحرضون اليونان و«الجبليين» و«البوسنيين» على الخروج على الدولة. وفي سنة (1182ه/1768م) اشتد حنق الباب العالي؛ إذ دخلت الجنود الروسية أملاك الدولة أثناء مطاردتهم لبعض البولندية الفارين من وجوههم، وأحرقوا «بلطة» التابعة لخان القرم أحد ولاة الدولة؛ فأعلن الباب العالي الحرب على الروسيا في 6 أكتوبر سنة 1768 لذلك وبحجة الدفاع عن حرية البولنديين.
ابتدأت الحرب بين الدولتين، فلازم سوء الطالع الدولة من أول نشوبها؛ فلم تلبث أن انهزمت أمام الروس على نهر دنيستر واحتلت الروسيا «ملدافيا» - البغدان - وبلاد «الأفلاق» و«بساربيا» و«القرم». وفي خلال هذه المدة كان الأسطول الروسي ظافرا في البحر؛ فانتصر على أسطول الدولة عند ثغر «جشمة» - شزمي - في يوليو سنة 1770م، ولولا ما أبداه القبودان حسن باشا الجزائرلي من الشجاعة لأحدق الخطر بالقسطنطينية، وما زالت الجيوش الروسية تجد في فتح بلاد الدولة بقيادة القائدين العظيمين «رومانوف» و«سوفاروف» وغيرهما، حتى خشيت الدولة العلية العاقبة وطلبت الصلح في سنة 1774م، وكانت «كترين» مشغولة أيضا بحزب بولندا وبثورة داخلية أثارها قوزاق نهر الدون. وكانت إنجلترا أيضا قد استرجعت قوادها من الجيوش الروسية لما رأته من توالي هزائم الترك، فلم تر «كترين» بدا من إيقاف الحرب مع الدولة مع كثرة انتصاراتها فيها، وأبرمت معها معاهدة كجوق قينارجة - كتشك كينارجي - سنة (1188ه/1774م)، وهي أهم معاهدة عقدت بين الدولة والروسيا وأول طور جدي في المسألة الشرقية. على أن الروسيا لم تنل بهذه المعاهدة أملاكا شاسعة؛ إذ كان ما أخذته قاصرا على «كنبورن» و«كرتش» و«آزاق» والأقاليم المجاورة لها؛ مما ثبت قدمها على شمالي البحر الأسود، ولكنها نالت بها حقوقا سياسية كبيرة كان لها شأن عظيم في المستقبل؛ لأن الدولة قبلت في هذ المعاهدة أن تضمن للروسيا حكومة عادلة وحرية دينية للرعايا المسيحيين، وجعلت للروسيا الحق في المطالبة بحقوقهم كلما رأت حاجة إلى ذلك. وهذا حق كبير لا يستهان به؛ إذ أخذته الروسيا بعد ذريعة للتدخل في شئون الدولة كلما رأت ذلك من مصلحتها، وقد كان ذلك أكبر مكدر لصفو الدول الأوروبية على الدوام.
كترين الثانية.
سادت السكينة بعد ذلك فترة بين الدولة والروسيا، ولكن «كترين» كانت لا تزال متشبثة ب «المشروع الشرقي» وتمني نفسها بإنفاذه متى سنحت الفرصة. وفي عام (1197ه/1783م) نقضت العهد وضمت القرم إليها بالرغم من تهادنها مع الدولة؛ فخشيت فرنسا وإنجلترا من توغل كترين في الأملاك العثمانية ، ونصحت للباب العالي بالتنازل عن «القرم» و«كوبان»؛ فتم ذلك بمقتضى معاهدة القسطنطينية (سنة 1198ه /يناير سنة 1784م).
على أن الروسيا لم تقف عند هذا الحد، ودأبت على إنفاذ مشروعها الشرقي وتوسيع نطاق أملاكها من الأملاك العثمانية؛ فأخذت تعمل منذ عام (1200ه/1786م) على دس الدسائس في كل ولايات الدولة، فنجحت دسائسها فعلا في مصر (راجع ظهور علي بك الكبير في الفصل التالي)، وفي اليونان والبغدان؛ فشرعت الدولة تستعد للحرب إلى أن أرغمتها روسيا على خوض غمارها بتعدد إهاناتها.
وآخر ما حدث من ذلك أن «كترين» خرجت إلى القرم في موكب حافل، ولما وصلت في طريقها إلى «خرسون» كتبت على أحد أبوابها: «الطريق إلى بوزنطة» إشارة إلى أنها عما قريب ستفتح القسطنطينية؛ عند ذلك ثارت خواطر مسلمي الدولة، واضطر الباب العالي إلى إعلان الحرب على الروسيا سنة (1201ه/1787م)، فأسرع القائد حسن باشا إلى مهاجمة «كنبورن»، ولكنه رد عنها بعد أن تكبد خسائر فادحة لوقوف القائد العظيم «سوفاروف» في وجهه، وكانت الروسيا قد عقدت معاهدة جديدة مع النمسا على الدولة العثمانية، ولكن النمسا لم تقدر على القيام بمساعدة تذكر في هذه الحرب لاشتغالها بالاضطرابات القائمة في الأراضي الواطئة - وكانت من أملاكها - ثم اضطرت إلى إبرام معاهدة «سستوفا» مع الدولة (سنة 1206ه/أغسطس سنة1791م)؛ وبذا انسحبت من الحرب. أما الروسيا فإنها بقيت قادرة على مواصلة الحرب بفضل مهارة «سوفاروف»، فاستولى على جهتي «أوخاكوف» و«إسماعيل» سنة (1205ه/1790م)، وانضم إلى ذلك انتصارات الجيوش الروسية في «القوقاس» و«كوبان». وأخيرا انتبهت أوروبا إلى أطماع «كترين»، ورأت أن لا بد من وقوفها عند حد؛ فتدخلت إنجلترا وبروسيا وهولندا في الأمر، ولم تبد الروسيا معارضة؛ لأنها أخذت توجه أنظارها نحو فرنسا التي كانت نار الثورة تتأجج فيها وينتظر اشتباك النمسا وبروسيا معها في حرب؛ وبذلك يخلو الجو للروسيا في بولندا؛ لذلك رضيت كترين بمهانة الدولة وأبرمت معها معاهدة «ياسي» (سنة 1206ه/يناير سنة 1792م)، وأهم شروطها أن اعترف الباب العالي بكل مواد معاهدة «كينارجي» وترك للروسيا أيضا القرم وباقي الأراضي العثمانية إلى نهر الدنيستر؛ وبذا صارت الروسيا صاحبة السيادة المطلقة على شمالي البحر الأسود.
نامعلوم صفحہ