تاریخ مصر من الفتح العثمانی الی قبیل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
اصناف
وحذرت إنجلترا الباب العالي أيضا، وأظهرت له أنها لا تساعده إذا كان هو المعتدي، ولا تتحمل شيئا من نتائج هذه الحرب. أما إذا اعتدى محمد علي فإنها تأخذ بناصر الدولة؛ ولذلك خاف كل منهما أن يبتدئ بالعداء. إلا أن شدة بغض محمود الثاني لمحمد علي جعلته يهاجمه أولا؛ ولذلك عندما طلب محمد علي أن يكون لخلفه حق الوراثة لجميع الولايات التي تحت سلطته من بعده، أعلن السلطان أن محمد علي خائن للخليفة، وأرسل الجيش لإخضاعه.
تجمع الجيش التركي عند «سيواس» بقيادة حافظ باشا، ثم زحف إلى جهة الجنوب حتى وصل إلى نهر الفرات، عند بلدة صغيرة تسمى «بيرجك » على الضفة اليسرى منه، ثم وصلت الأوامر إلى حافظ باشا بأن يجتاز النهر، وينتقل إلى الشاطئ الأيمن.
فلما وصل هذا الخبر إلى إبراهيم باشا أرسل إلى والده يخبره بذلك، فأمده بالذخيرة وجيش بقيادة أحمد باشا «المنكلي» ناظر الحربية المصرية. وكان إبراهيم باشا في هذا الحين بمدينة حلب لقربها من الحدود الشمالية، ووفرة المئونة فيها، ثم سار من هذه البلدة قاصدا «نصيبين» - بلدة على نهر الفرات - وكان قد علم أن الجيش التركي عسكر فيها، وأنه حصلت بعض مناوشات بين الباش بزق السلطانية وبين فرسان العرب عند «تل باشر» جعلت سليمان باشا الفرنسي يهتدي أثناءها إلى التحصينات المهمة التي أقيمت أمام نصيبين، وتبين له أنه يتعذر مهاجمتها من هذه الجهة، ففكر إبراهيم باشا وسليمان باشا في الدوران حول نصيبين ليهاجموها من الجهة التي لم يحصنها الترك.
عند ذلك أشار القائد «ملتك» ومن معه من الضباط الألمان على حافظ باشا أن يهاجم المصريين أثناء سيرهم غير متأهبين للحرب، فلم يقبل حافظ باشا ذلك، فدار إبراهيم بجيشه وهاجم الجيش التركي. وبالرغم من محاولة بعض الفرق الشامية من جيش إبراهيم الانضمام إلى جيش الترك شتت الجيش المصري شمله في (11 ربيع الآخر سنة 1255ه/24 يونيو سنة 1839م). وكانت خسائر الترك فادحة جدا حتى أصبح السلطان في الحقيقة بلا جيش، ومن حسن حظ الخليفة محمود أنه مات قبل أن يصل خبر هذه الهزيمة إلى القسطنطينية بعدة أيام؛ وهكذا أصبحت الدولة العلية للمرة الثانية تحت رحمة محمد علي.
ولما تولى الخلافة السلطان «عبد المجيد» كان سنه إذ ذاك لا يتجاوز السابعة عشرة، فتسلم خسرو باشا منصب الصدارة العظمى، وكان قبل ذلك مغضوبا عليه. ولما علم بذلك أحمد باشا فوزي أمير البحر التركي - وكان خسرو باشا من أشد أعدائه - حزن حزنا شديدا، وصمم على تسليم العمارة البحرية إلى محمد علي، بدعوى أنه خائف على حياته من خسرو، وأنه ربما اغتاله كما اغتال السلطان محمودا الثاني - حسب اعتقاده - وأظهر أن لا بد من عزله لسلامة الدولة، وقد صرح برأيه هذا إلى القبودان «ووكر» الإنجليزي مساعده.
فأقلع بأسطوله من الدردنيل، وكانت مأموريته في هذا الحين أن يساعد حافظ باشا من جهة البحر، فالتقى في أثناء سيره بالأسطول الفرنسي، وأخبر قائده «لالند» بما أخبر به الأميرال «ووكر» من أن الحزب الروسي - أي حزب خسرو - سم السلطان، وأنه متوجه بالأسطول إلى إقريطش، فأخبره «لالند» أن إقريطش في يد محمد علي، وأن معنى الذهاب إليها تسليم العمارة البحرية له. وبعد ذلك بأيام قلائل وصل الأسطول التركي إلى المياه المصرية، وانضم إلى الأسطول المصري. فلما علم الضباط بنية أميرهم هموا بالتألب عليه، فاستمالهم محمد علي.
رسا الأسطول التركي في الميناء الغربي بالإسكندرية، على بعد ستة أميال من الشاطئ، وكان مؤلفا من 20 بارجة تحمل 21 ألف جندي بحري، ثم نزل الضباط وقابلوا محمد علي، إلا أن القائد «ووكر» لم يرجع ثانية إلى الأسطول، محتجا بأن الحكومة الإنجليزية لم تخول له الخدمة تحت إمرة محمد علي.
ولما علم سفراء الدول بهذا الحادث استولى عليهم الهلع، وأظهروا لمحمد علي استياءهم من خيانة أمير البحر، وأنهم لا يريدون أن يكون شريكا له في هذه الجريمة، ونصحوا له أن يرجع الأسطول التركي إلى الأستانة؛ فغضب لذلك محمد علي، وقال: إن الحرب تبيح لأحد الفريقين أن يقبل الفارين من الفريق الآخر. وكانت حالة الدولة في هذا الحين في منتهى التعس والاضمحلال، حتى إن خسرو باشا طلب من أمير البحر أن يرجع مع العفو التام من الخليفة، فأجابه هذا أنه ليس خارجا على الباب العالي، وإنما يخشى غدره وخيانته، وأنه لن يبرح المياه المصرية ما دام هو المحرك لسكان سياسة الدولة، والقابض على زمامها. (6-2) تدخل دول أوروبا
كان أول هم لدى الدول الكبرى منع الروسيا من إنفاذ شروط معاهدة «هنكار إسكله سي» والانتفاع بها؛ ولذلك كان من المحتم عليها أن تعمل جميعها للوصول إلى ذلك. إلا أن الباب العالي، لمنع زحف إبرهيم باشا على القسطنطينية، قرر إعطاء مصر لمحمد علي وذريته من بعده، وإعطاء الشام لإبراهيم إلى أن يخلف والده على مصر. وكان هذا الاتفاق على رغبة من الروسيا لأنه يخلصها من اتفاق هنكار إسكله سي، ولا يحط من سلطتها في القسطنطينية، فرأت الدول الكبرى أن الأمر أشد خطورة من أن يفصل فيه الباب العالي وحده؛ ولذلك كتبت إليه تعلمه ألا يفاوض محمد علي في شيء، ولا يتفق معه إلا بواسطة الدول. فلما فطنت الروسيا لغرضهم لم تعارض في الأمر؛ وبذلك ظهرت الدول الكبرى بمظهر المشجع للباب العالي على معارضته لمحمد علي ورفضه لمطالبه.
إلى هذا الحد كانت فرنسا وإنجلترا متفقتين؛ لأنهما اجتهدتا معا في إيقاف النفوذ الروسي في البلاد العثمانية، ورأتا أن أحسن حل للمشكل القائم بين محمد علي والدولة وضع الدولة تحت حماية الدول الكبرى جميعا. ثم ابتدأ الخلاف لأن «بالمرستون» وزير خارجية إنجلترا كان يعتقد أن الدولة العلية لا تصير في أمان إلا إذا كانت صحراء سيناء الحد الفاصل بينها وبين محمد علي. والرأي العام في فرنسا من جهة أخرى كان ميالا لمحمد علي؛ إذ كان يرى فيه حليفا يعتمد عليه في منازعة الدولة البريطانية في البحر الأبيض المتوسط.
نامعلوم صفحہ