تاريخ مصر الحديث
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
اصناف
ثم كانت الحروب الصليبية إذ ذاك في أول نشأتها، نعني أيام التعصبات الدينية العمياء التي يخجل التاريخ من ذكرها. فكم أهرقت من الدماء، وكم أحرمت الناس من الراحة. إن ذلك التعصب ساق أهل أوروبا من بلادهم بالعدة والرجال لمحاربة سوريا وفلسطين ومصر، ولم تكن النتيجة إلا إهلاك العباد المقصود إنقاذهم. فمن نجا من السيف لم ينج من الاستعباد، وإننا لنمسك القلم عن الخوض في هذا الموضوع الذي يسود القلوب، ويشوه وجه الإنسانية.
فتأمل الحالة التي كانت البلاد الإسلامية فيها من الارتباك، وما كان في طريقها من العقبات كيف كانت منقسمة بينها. فقام أهل أوروبا جميعا، وجاهروا بمحاربتها، واحتشدوا في القسطنطينية بأمر الإمبراطور إلكس كمون الأول، والسلجوقيون يزحفون في آسيا يفتتحون البلد بعد الآخر حتى بلغوا الأناضول فأصبحوا يهددون المسلمين في مصر كما يهددون النصارى في القسطنطينية، وما زالوا سائرين نحو القسطنطينية حتى أدركوا شاطئ البوسفور الشرقي فلم يبق بينهم وبين القسطنطينية إلا ذلك البوغاز، وكان إذا ذكر اسم الله في معسكر المسلمين وقت الصلاة يسمعه المسيحيون في كنيسة أيا صوفيا على الجانب الآخر.
ثم قطعت جيوش النصارى البوسفور وعددهم عظيم. فقابلهم السلطان قليج أرسلان السلجوقي بن سليمان شاه مؤسس الدولة السلجوقية فحاربوه، وأرجعوه وجيشه إلى الوراء، واستولوا على نيقية ثم أنطاكية. فجاء المسلمين مدد من كتبوغا أمير الموصل، ودقاق أمير دمشق، وجناح الدولة أمير حمص، ومع كل منهم فرقة من الرجال فأحاطوا بالصليبيين، وضيقوا عليهم فتجمع هؤلاء، ودافعوا دفاع اليأس، ودفعوا قوات المسلمين وفرقوها فلم يبق ما يوقفهم عن التقدم. فاستولوا على المعرة بعد حرب، ودخلوا حمص بدون حرب، وانتشر جنودهم في جميع أنحاء سوريا الغربية وفلسطين كالأمواج المتلاطمة فلاقتها جيوش مصر هناك، وكانت بيت المقدس في حكم الخليفة المستعلي الفاطمي منذ استخلاصها من الأرتقيين فحاصرها الصليبيون أربعين يوما، ثم افتتحوها عنوة، ودخلوها يوم الأربعاء في 22 شعبان سنة 492ه/يوليو «تموز» سنة 1099 بعد مذبحة استمرت أسبوعا فأصبحت الجثث متراكمة في الأسواق، فجعلوا يجمعونها في الجامع الأقصى، وقيل: إنه قتل في تلك المعركة نحو من 70 ألف نفس، واغتنم الصليبيون غنائم كثيرة، وساروا لفتح مصر.
شكل 9-9: قتال بين الصليبيين والمسلمين في القرن الحادي عشر للميلاد. نقلا عن صورة مرسومة على زجاج نافذة بكنيسة القديس دنيس.
فاضطربت مصر لتلك الأخبار، وأصبحت تخشى أن يصيبها مثل ذلك، فحشد أمير الجيوش لمحاربة الصليبيين جندا وافرا تحت قيادة سعد الدولة. فساروا وما زالوا حتى التقوا بالجيوش الصليبية عند أسوار عسقلان فحاربوها فأرجوعها على أعقابها. فلما رأى الصليبيون أنفسهم خارج حدود مصر لم يعودوا يطمعون فيها، فوجهوا مطامعهم شرقا إلى ما بين النهرين. فالتقت فرقة منهم بكمشتكين أمير ملاطية وسيواس فكسرها، ولم يوقفهم عن مرادهم. فساروا من الجهة الواحدة نحو ديار بكر إلى سروج ومن الجهة الأخرى حتى استولوا على أرصوف وقيصرية.
ومرت سنتا 493 و494ه في مثل هذه المناوشات، وفي يوم الثلاثاء 17 صفر سنة 495ه توفي الخليفة المستعلي بالله في القاهرة بعد أن حكم 7 سنوات وشهرين، وله ولد اسمه المنصور لم يبلغ السادس من عمره فكان شاهين شاه وصيا عليه كما كان وصيا على أبيه قبله، وكان قد عهد إليه أن يلقبه عند مبايعته بالآمر بأحكام الله ففعل. (7) خلافة الآمر بن المستعلي (من 495-524ه/1101-1130م)
وكان الصليبيون في أثناء ذلك لا يزالون في فتوحهم بسوريا، وقد فازوا لانقسام الدول الإسلامية، وكان الواجب في مثل هذه الحال أن يتحدوا يدا واحدة؛ لمقاومة أعدائهم لكنهم جاءوا بالعكس؛ فانقسمت الآراء، وتشتت القوات فكانت تلك فرصة لجماعة الصليبيين لم يضيعوها؛ لأن الكونت سنجيل بعد أن استولى على طرسوس وحمص وجبيل وطرابلس الشام، تقدم نحو عكا سنة 497ه وحاصرها برا وبحرا، وكانت عكا في ذلك الحين تابعة لمصر، وحاكمها يدعى زاهر الدولة، ويلقب بالجيوشي؛ لأنه من أتباع أمير الجيوش، وطال أمد الحصار حتى مل الصليبيون الانتظار فهاجموا المدينة، ودخلوها عنوة، وفتكوا بمن فيها، وفر زاهر الدولة إلى الشام، ومنها إلى مصر.
ووصل إلى مصر في ذلك الحين أيضا الأمير خلف بن ملاعب الكلابي، وكان واليا على حمص، أخرجه منها تناش صاحب دمشق زورا سنة 485ه فأتى مصر، وعرض نفسه لخدمة الخلفاء الفاطميين، وكان قد طاف أنحاء المملكة الإسلامية؛ لاستطلاع أحوالها شأن المحب لمعرفة حقائق الأشياء. فوصل مصر والخليفة في احتياج إلى خدمته، وذلك أن أبامة في غربي سوريا كان قد تملكها السلطان رضوان فخر الدولة السلجوقي، وأقام عليها واليا من قبله. فكتب هذا الوالي لأمير الجيوش سرا أنه مستعد لتسليم المدينة لمن يرسله خليفة مصر. فتقدم الأمير خلف لهذه المهمة فقبل فسار إلى أبامة وتملكها، ولم ترسخ قدمه فيها حتى نبذ الطاعة، وأوقف دفع الجزية، فأراد الخليفة معاقبته فلم يستطع؛ لما كانت عليه سوريا من القلاقل والفتن. فأنف قاضي تلك المدينة وأعيانها من البقاء على تلك الحال. فبعثوا إلى والي حلب يطلبون حمايته فحماهم فسلموا له المدينة، وقتلوا خلفا، وبعض أهله. لكن الدهر لم يدم لهم؛ لأنهم ذهبوا غنيمة للصليبيين في سنة 499ه وأول من قتل منهم القاضي المتقدم ذكره.
وفي أثناء ذلك كان الكونت سنجيل محاصرا لطرابلس الشام، وقد شخص أميرها إلى بغداد يستمد الخليفة المقتدر العباسي، والسلطان ملك شاه السلجوقي فلم يمداه بشيء، فاستجار أهلها بخليفة مصر فأجارهم، وبعث الأفضل أحد أوليائه إلى طرابلس فتملكها باسم الخليفة الآمر، وأرسل إليها بعد ذلك عمارة بحرية تدفع الصليبيين عنها فتأخر وصولها؛ لمعاكسة الريح لها، وفي 11 ذي الحجة سنة 503ه/يوليو سنة 1110م فتح الصليبيون طرابلس الشام عنوة، وقتلوا بعض أهلها، واستعبدوا البعض فسببوا بدخولهم إليها من الخسائر ما لا يمكن أن تسببه الحروب.
ففي سبع سنين كلها حروب دموية استولى الصليبيون على سوريا وفلسطين، وجعلوا بيت المقدس قصبة ملكهم. أما مصر فكانت في جميع هذه الحوادث على الحياد إلا المدافعة عند الحاجة، وكانت تعد ذاتها سعيدة؛ لنجاتها من هجمات أولئك الصليبيين، وكل ذلك بتدبير الأفضل أمير الجيوش.
نامعلوم صفحہ