وقبل أن نختتم هذا الفصل، لا معدى لنا عن أن نذكر أن للتاريخ، إلى مزاياه وآثاره في العلم والتعليم والتربية والحياة الإنسانية، خصوما في أوروبا ومصر، ذلك أن عندهم أن المفتريات والدعايات وألوان التزيد والغلو قد تدسست إلى المرويات التاريخية، وحسبهم من الشواهد على هذا أن يشيروا إلى أن مئات الحوادث قد تباينت فيها الوقائع، وأن ما يجري تحت أعيننا، ونحن نزعم أننا في عصر العلم والنور والحرية والمطبعة، لا يذكر ولا ينقل مشافهة أو كتابة على حقيقته، مع أنه سيكون الأساس الذي يقيم عليه المؤرخ المقبل تاريخ هذه الأيام. وعلى رأس خصوم التاريخ من المصريين، عبد العزيز فهمي باشا رئيس محكمة النقض الأسبق، فقد نشرت مجلة «المصور» في 13 نوفمبر 1942 لمعاليه الحديث التالي:
إنك مصدر من مصادر التاريخ المصري للحركة الوطنية الأخيرة، فهل تسمح بأن تتحدث عن هذا التاريخ ؟
لست من المؤمنين بالتاريخ بل إني من الكافرين بآلهة التاريخ؛ لأنه مملوء بالكذب. وإذا حدثتك عن يوم 13 نوفمبر فقد يكون ما أرويه لكم اختلاقا؛ لأنه رواية والرواية خبر من الأخبار، والخبر كما يقول علماء اللغة: يحتمل الصدق والكذب، أو كما يقول الشرعيون: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقد زادوا كلمة «لذاته»؛ لئلا يتناول الأنبياء وهم معصومون عن الكذب أما غيرهم فيجوز لهم الكذب، بل إن الكثيرين يكذبون في التاريخ وليس هناك حقيقة تاريخية تكون صدقا صرفا.
ولكن حادثة ذهابك أنت وسعد باشا وعلي باشا شعراوي إلى سيرونجت حقيقة صادقة صرفة؟
قد يكون أننا ذهبنا إلى سيرونجت بدار المعتمد البريطاني، ولكن هل يعلم أحد حقيقة ما حدث في اجتماعنا به؟ وإذا رويت أنا هذه الحادثة كما وقعت، فإن روايتي تحتمل الصدق والكذب، كما أن رواية كل من زميلي تحتمل ذلك، فأينا يكون الصادق؟
الفصل الثاني
قبل الحياة على الأرض
الكون والوجود والطبيعة والخليقة والعالم والدنيا ألفاظ تطلق - لغة واستعارة واصطلاحا في اللغة العربية واللغات الأخرى - على معان عامة ومدلولات شائعة.
والناس قد يذكرون أو يتعاورون اللفظ من هذه الألفاظ على أن معناه هو المعنى ذاته الذي تدل عليه الألفاظ الأخرى أو بعضها، وحسبنا أن نذكر هنا أنهم قد يتحدثون عن «العالم»، ومعناه لغة: الخلق كله أو صنف من صنوفه، وهم يريدون أن يعرضوا «للدنيا»، ومعناها هذه الحياة الدانية القريبة منا؛ أي التي نشهدها وتلابسنا.
ولا مرية في أن الإنسان القديم والجديد، جاهلا كان أم مثقفا صبيا كان أم شيخا، قد خطر بباله هذا «الكون» نشوءا وبقاء، وتمنى أن يقف على سره ومصيره.
نامعلوم صفحہ