وبينما يعتمد الساحر على قوة غير منظورة، فإن المشعوذ يعتمد على الخداع وخفة اليد.
والأرجح أن السحر وجد قبل الشعوذة وأنه تحول إليها بمرور الزمن، وأثر السحر ظاهر بين جميع الشعوب الهمجية خاصة قبل عصر التاريخ. فلا تجد قبيلة من القبائل المغرقة في الهمجية وإلا ولها ساحر تحترمه وتنقاد له. بل لقد كان الساحر أو العراف قديما زعيم القبيلة وسيدها المطلق، وهذا ما جعل زعماء القبائل يلجئون إلى الخداع والمخاتلة لضمان زعامتهم على قومهم، ومع قدم الزمن أدرك الناس أن مخالفة نواميس الطبيعة غير ممكنة، فالشمس لا بد أن تشرق في النهار، والنار لا بد أن تحرق ما يلقى فيها، والحديد لا بد أن يغرق في الماء، والسم لا بد أن يقتل من يتناوله. فإذا حدث ما يناقض جميع ذلك فهو شعوذة لا شك فيها.
ولإيضاح ذلك نقول على سبيل التمثيل: إنه لما ذهب كولمبوس إلى أمريكا في القرن الخامس عشر، توغل بعض رجاله بين قبائل الهنود الحمر، فهجم عليهم هؤلاء ليفتكوا بهم، وكان البعض يعلمون أن الشمس ستكسف ذلك اليوم، فتهددوا الهنود إن هم مسوهم بسوء بأن يطلبوا من «معبودهم» الشمس أن يغضب عليهم! ... وما هي إلا دقائق حتى بدأت الشمس تكسف، فذعر الهنود واستولى عليهم الهلع وخيل إليهم أن أولئك البيض آلهة، فأطلقوا سراحهم واستغفروهم وقدموا لهم هدايا وتحفا كثيرة. ولا يزال بعض هنود أمريكا إلى هذا اليوم يتناولون قصة الآلهة الذين زاروا بلادهم من أحقاب كثيرة وكسفوا الشمس!
فما أتاه أولئك البيض لم يكن سحرا إذ لم يكن فيه خروج على نواميس الطبيعة. ومع ذلك عده الهنود سحرا، ولعله أقرب إلى الشعوذة منه إلى أي شيء آخر؛ إذ ليس في الشعوذة ما هو مناقض لطبائع الأشياء. إلا أن المشعوذ يستغل معرفته لتلك الطبائع ويستعين بخفة يده ومهارته على خداع الناس.
ومما يدل على ما كان لساحر والمشعوذ كليهما من مقام عند الأقدمين (ولم يكن هؤلاء يفرقون بينهما) أن ملوكهم كانوا يحيطون أنفسهم بالسحرة والعرافين، ففي التوراة أنه لما صنع موسى معجزة أمام فرعون استدعى هذا سحرته وعرافيه، وطلب منهم أن يفعلوا مثل ما فعل موسى. وفي التاريخ أن الإسكندر ذا القرنين كان إذا أراد الخروج إلى الحرب استشار السحرة والعرافين. وكذلك كان يفعل الروم والرومان والفرس وغيرهم. ومن أمثلة هذا أن كهان معبد دلفي ببلاد الروم قديما كانوا يشيرون على الملوك وقادة الجيوش، الذين يستشيرونهم بأشياء لا يمكن أن يؤاخذوا عليها مهما جاءت به الحوادث. قيل إن أحد أقيال الروم استشارهم مرة في محاربة الفرس فقالوا له: «إنك ستخرب مملكة عظيمة»، فلما حاربهم انتصروا عليه. وكان تأويل نبوءة الكهان سهلا، فإنهم لم يعينوا الغالب والمغلوب، فكانت النبوءة تحتمل الوجهين.
وقد كان فراعنة مصر يقربون إليهم السحرة والمشعوذين؛ لينبئوهم بالغيب وليفسروا لهم الرؤى والأحلام وليقرءوا لهم الأفلاك ويطلعوهم على المستقبل. وكذلك كان يفعل ملوك بابل وآشور والفرس والروم والرومان. بل لقد بقيت تلك البدعة متمكنة من النفوس حتى الآن. وما عهدنا بشعوذة راسبوتين ببعيد فقد استطاع ذلك الدجال التغرير بعقل قيصرة روسيا وإيهامها أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء؛ لأن له صلة بالعالم غير المنظور. هذا ولا يزال في أوروبا كثيرون حتى من العلماء ممن ينخدعون بالدجل والشعوذة.
ومن أشد دواعي الأسف أن بعض الخبيرين بأسرار الاستهواء؛ أي التنويم المغناطيسي، يستغلون معرفتهم به للتغرير بالناس ولتمويه الحقائق بطلاء الباطل والشعوذة.
ولقد كانت الشعوذة ولا تزال مرتبطة بالتطبيب والتنجيم ارتباطا وثيقا. فكان الطبيب في أطوار الاجتماع الأول مشعوذا يستعين بقليل من الخبرة وبكثير من الدجل والخداع. فكان إذا دعي لعيادة مريض عمد إلى وصف بعض الأعشاب والمواد وإلى استطلاع النجوم والأفلاك وتنبأ بما سيكون من أمر العليل؛ ولهذا كان لشخص الطبيب عند الأقدمين حرمة كبيرة، وكان الناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى شخص مقدس يجب الخضوع له في كل شيء، وكان الطبيب أو المشعوذ يرث مهنته عن أبيه ويورثها له. ومن هنا نشأت طائفة الكهان أو العرافين الذين لم يكونوا في الحقيقة سوى دجالين مشعوذين، صحيح أنهم كانوا في أقدم عصور الاجتماع يؤمنون عن إخلاص بما لهم من قوى خارقة قد ورثوها عن غيرهم، ولكنهم أدركوا مع قدم الزمن أن دعواهم قائمة على الكذب والدجل، وأنهم مجردون من كل قوة خارقة للطبيعة. ويقول علماء النفس: إن أولئك المشعوذين كان لهم في عدة مواقف فضل على قومهم بما كانوا يوقدونه فيهم من نار الحماسة، وما ينفخونه من روح الشجاعة والإقدام. وتفصيل ذلك أن قادة الجيوش الأقدمين كانوا إذا خرجوا للحرب والقتال يستشيرون السحرة والكهان كما تقدم القول، ويذيعون ما يقوله هؤلاء بين الجنود؛ ليشجعوهم ويستثيروا حماستهم.
وفي التوراة أن شاول ملك اليهود استشار روح صموئيل النبي فيما سيئول إليه أمره من محاربة الفلسطينيين فأنبئ بأنه سينكسر وبأن جيشه سيهلك، ومع ذلك لم يعبأ فكانت آخرته وبالا عليه، وليس هذا مجال البحث في كيفية استشارة روح صموئيل، وإنما نقول إنها تمت على يد عرافة مشعوذة. وكان هو نفسه - أي شاول - قد قطع دابر العرافين والمشعوذين في مملكته. ولعله أول ملك في التاريخ حرم العرافة والسحر والشعوذة، فقد كانت هذه المهنة كثيرة الشيوع، بل كانت من مستلزمات الاجتماع في العصور الغابرة ، وكان النساء الرومانيات كثيرات الشغف بالالتجاء إلى المشعوذين لاستطلاع حظوظهن. ولسنا نعلم جيلا من الناس لم تلجأ نساؤه إلى الدجالين والمشعوذين لاستطلاع أنباء الغيب والكشف عن المستقبل، فإن مثل ذلك الاستطلاع في خلق المرأة منذ أقدم أزمنة التاريخ.
ولنرجع إلى الشعوذة المحضة منذ أقدم الأزمنة، فنرى أنها كانت شائعة عند قدماء المصريين وكانوا يخلطونها بالسحر. وفي سفر الخروج من التوراة أن سحرة مصر (ويراد بهم المشعوذون) تمكنوا من تقليد الآيات التي صنعها موسى أمام فرعون لحمله على إطلاق سراح الإسرائيليين. ومن ضروب الشعوذة التي كانوا يمارسونها أنهم كانوا يحرقون البخور في غرفة مظلمة، فتنعقد في الجو سحب كثيفة من الدخان تظهر عليها صور مختلفة فتدهش الناظرين، وكانت تلك الصور أو المرئيات تنعكس عن مرايا معدنية مقعرة مستورة عن الأنظار.
نامعلوم صفحہ